ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْبَقَرَةِمَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةَ ٢٨١ فَنَزَلَتْ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ
[سورة البقرة (٢) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١)تفسير الم حروف الهجاء:
الم فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: - اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا أَسْمَاءٌ مُسَمَّيَاتُهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ، لِأَنَّ الضَّادَ مَثَلًا لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَالَّةٌ بِالتَّوَاطُؤِ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ مِنْ «ضَرَبَ» فَثَبَتَ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ وَلِأَنَّهَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصْغِيرِ وَالْوَصْفِ وَالْإِسْنَادِ وَالْإِضَافَةِ، فَكَانَتْ لَا مَحَالَةَ أَسْمَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ
قَدْ رَوَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، لَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» الْحَدِيثَ،
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا: سَمَّاهُ حَرْفًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ اسْمًا لِلْحَرْفِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِ المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.
معاني تسمية حروفها:
فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ رَاعَوْا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِمَعَانٍ لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ لَمَّا كَانَتْ أَلْفَاظًا كَأَسَامِيهَا وَهِيَ حُرُوفٌ مُفْرَدَةٌ وَالْأَسَامِي تَرْتَقِي عَدَدَ حُرُوفِهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ اتَّجَهَ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلَى أَنْ يَدُلُّوا فِي الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى، فَجَعَلُوا الْمُسَمَّى صَدْرَ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا إِلَّا الْأَلِفَ فَإِنَّهُمُ اسْتَعَارُوا الْهَمْزَةَ مَكَانَ مُسَمَّاهَا لِأَنَّهُ لَا يكون إلا ساكناً.
حكمها ما لم تلها العوامل:
الثَّانِي: حُكْمُهَا مَا لَمْ تَلِهَا الْعَوَامِلُ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ كَأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَيُقَالُ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ، كَمَا تَقُولُ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا وَلِيَتْهَا الْعَوَامِلُ أَدْرَكَهَا الْإِعْرَابُ كَقَوْلِكَ هَذِهِ أَلِفٌ وَكَتَبْتُ أَلِفًا وَنَظَرْتُ إِلَى أَلِفٍ، وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ عَمَدْتَ إِلَى تَأْدِيَةِ مُسَمَّاهُ فَحَسْبُ، لِأَنَّ جَوْهَرَ اللَّفْظِ مَوْضُوعٌ لِجَوْهَرِ الْمَعْنَى، وَحَرَكَاتُ اللَّفْظِ دَالَّةٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمَعْنَى، فَإِذَا أُرِيدَ إِفَادَةُ جَوْهَرِ الْمَعْنَى وَجَبَ إِخْلَاءُ اللَّفْظِ عَنِ الحركات.
الثَّالِثُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُعْرَبَةٌ وَإِنَّمَا سَكَنَتْ سُكُونَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ حَيْثُ لَا يَمَسُّهَا إِعْرَابٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُكُونَهَا وَقْفٌ لَا بِنَاءٌ أَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ لَحُذِيَ بِهَا حَذْوَ كَيْفَ وَأَيْنَ وَهَؤُلَاءِ وَلَمْ يُقَلْ صَادْ قَافْ نون مجموع فيها بين الساكنين.
معاني ألم:
المسألة الثانية: معاني ألم لِلنَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنَ الْفَوَاتِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ،
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْعِلْمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ فَأُجْرِيَ مِنْهُ وادٍ ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ الْوَادِي نَهْرٌ ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ النَّهْرِ جَدْوَلٌ، ثُمَّ أُجْرِيَ مِنَ الْجَدْوَلِ سَاقِيَةٌ، فَلَوْ أُجْرِيَ إِلَى الْجَدْوَلِ ذَلِكَ الْوَادِي لَغَرَّقَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَلَوْ سَالَ الْبَحْرُ إِلَى الْوَادِي لَأَفْسَدَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرَّعْدِ: ١٧] فَبُحُورُ الْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَعْطَى الرُّسُلَ مِنْهَا أَوْدِيَةً، ثُمَّ أَعْطَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ أَنْهَارًا إِلَى الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ أَعْطَتِ الْعُلَمَاءُ إِلَى الْعَامَّةِ جَدَاوِلَ صِغَارًا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، ثُمَّ أَجْرَتِ الْعَامَّةُ سَوَاقِيَ إِلَى أَهَالِيهِمْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا مَا
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ «لِلْعُلَمَاءِ سِرٌّ، وَلِلْخُلَفَاءِ سِرٌّ وَلِلْأَنْبِيَاءِ سِرٌّ، وَلِلْمَلَائِكَةِ سِرٌّ، وَلِلَّهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ كُلِّهِ سِرٌّ، فَلَوِ اطَّلَعَ الْجُهَّالُ عَلَى سِرِّ الْعُلَمَاءِ لَأَبَادُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى سِرِّ الْخُلَفَاءِ لَنَابَذُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْخُلَفَاءُ عَلَى سِرِّ الْأَنْبِيَاءِ لَخَالَفُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى سِرِّ الْمَلَائِكَةِ لَاتَّهَمُوهُمْ، وَلَوِ اطَّلَعَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى سِرِّ اللَّهِ تَعَالَى لَطَاحُوا حَائِرِينَ، وَبَادُوا بَائِرِينَ
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُولَ الضَّعِيفَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْأَسْرَارَ الْقَوِيَّةَ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ نُورَ الشَّمْسِ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ، فَلَمَّا زِيدَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي عُقُولِهِمْ قَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ أَسْرَارِ النُّبُوَّةِ، وَلَمَّا زِيدَتِ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُولِهِمْ قَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ أَسْرَارِ مَا عَجَزَتِ الْعَامَّةُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَاطِنِ، وَهُمُ الْحُكَمَاءُ زِيدَ فِي عُقُولِهِمْ فَقَدَرُوا عَلَى احْتِمَالِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ فَقَالَ: سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَطْلُبُوهُ، وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَجَزَتِ الْعُلَمَاءُ عَنْ إِدْرَاكِهَا، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَكُونُ مَفْهُومًا لِلْخَلْقِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَعْقُولِ.
حجج المتكلمين بالآيات:
أَمَّا الْآيَاتُ فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [مُحَمَّدٍ: ٢٤] أَمَرَهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومٍ فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ نَفْيِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ لِلْخَلْقِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٢- ١٩٥] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا بَطَلَ كَوْنُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
الاحتجاج بالأخبار:
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ:
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي»
فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بالهزل، من تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَجَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم.
الاحتجاج بالمعقول:
أَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ شَيْءٌ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ لَكَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ تَجْرِي مَجْرَى مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِاللُّغَةِ الزَّنْجِيَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَاكَ فَكَذَا هَذَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا لَكَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ عَبَثًا وَسَفَهًا، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْقُرْآنِ وَمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّحَدِّي بِهِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاحْتَجَّ مُخَالِفُوهُمْ بِالْآيَةِ، وَالْخَبَرِ، والمعقول.
احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات:
أَمَّا الْآيَةُ فَهُوَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ لَبَقِيَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ مُنْقَطِعًا عَنْهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَالٌ، / لِأَنَّا نَقُولُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَائِلًا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَهَذَا كُفْرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَجْهٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوهُ بِالدَّلَالَةِ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ بِهِ إِلَّا كَالْإِيمَانِ بِالْمُحْكَمِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَزِيدُ مَدْحٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَأْوِيلَهَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لَمَا كَانَ طَلَبُ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ ذَمًّا، لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَمًّا حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: ٧].
احتجاجهم بالخبر:
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ»
وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْفَوَاتِحَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ».
احتجاجهم بالمعقول:
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي كُلِّفْنَا بِهَا قِسْمَانِ. مِنْهَا مَا نَعْرِفُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ بِعُقُولِنَا:
كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَوَاضُعٌ مَحْضٌ وَتَضَرُّعٌ لِلْخَالِقِ، وَالزَّكَاةَ سَعْيٌ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّوْمَ سَعْيٌ فِي كَسْرِ الشَّهْوَةِ. وَمِنْهَا مَا لَا نَعْرِفُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ: كَأَفْعَالِ الْحَجِّ فَإِنَّنَا لَا نَعْرِفُ بِعُقُولِنَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالرَّمَلِ، وَالِاضْطِبَاعِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ كَمَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ فَكَذَا يَحْسُنُ الْأَمْرُ مِنْهُ بِالنَّوْعِ الثَّانِي، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لَمَّا عَرَفَ بِعَقْلِهِ مِنْ وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، أَمَّا الطَّاعَةُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِانْقِيَادِ وَنِهَايَةِ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ وَجْهَ مَصْلَحَةٍ الْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ إِتْيَانُهُ بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ؟ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً أَنْ نَتَكَلَّمَ بِمَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَتَارَةً بِمَا لَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ ظُهُورَ الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ، بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْمَعْنَى وَأَحَاطَ بِهِ سَقَطَ وَقْعُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَإِذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَقْصُودِ مَعَ قَطْعِهِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَإِنَّهُ يَبْقَى قَلْبُهُ ملتفتاً إِلَيْهِ أَبَدًا، وَمُتَفَكِّرًا فِيهِ أَبَدًا، وَلُبَابُ التَّكْلِيفِ إِشْغَالُ السِّرِّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّفَكُّرِ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي بَقَاءِ الْعَبْدِ مُلْتَفِتَ الذِّهْنِ مُشْتَغِلَ الْخَاطِرِ بِذَلِكَ أَبَدًا مَصْلَحَةً عَظِيمَةً لَهُ، فَيَتَعَبَّدُهُ بِذَلِكَ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الفريقين في هذا الباب.
هل المراد من الفواتح معلوم:
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَعْلُومٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَهُوَ قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال الْقَفَّالُ: وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ
جَبَلُ قَافٍ، وَسَمَّوُا الْحُوتَ نُونًا، الثاني: أنها أسماء لله تَعَالَى،
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يَا كهيعص، يَا حم عسق»
الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَبْعَاضُ/ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ (الر، حم، ن) مَجْمُوعُهَا هُوَ اسْمُ الرَّحْمَنِ، وَلَكِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِهَا فِي الْبَوَاقِي، الرَّابِعُ: أَنَّهَا أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَةٍ مِنْ صفاته، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي (الم) : الْأَلِفُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ، أَوَّلٌ، آخِرٌ، أَزَلِيٌّ، أَبَدِيٌّ، وَاللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَطِيفٌ، وَالْمِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَلِكٌ مَجِيدٌ مَنَّانٌ، وَقَالَ فِي: كهيعص إِنَّهُ ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، وَالْكَافُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَافِيًا، وَالْهَاءُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ هَادِيًا، وَالْعَيْنُ يَدُلُّ عَلَى الْعَالِمِ، وَالصَّادُ يَدُلُّ عَلَى الصَّادِقِ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْكَرِيمِ، وَالْيَاءَ عَلَى أَنَّهُ يُجِيرُ، وَالْعَيْنَ عَلَى الْعَزِيزِ وَالْعَدْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَاسِمٍ مُعَيَّنٍ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، السَّادِسُ: بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَسْمَاءِ الذَّاتِ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي المص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، وَفِي الر أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَهَذَا رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. السَّابِعُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، فَالْأَلِفُ آلَاؤُهُ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ مَجْدُهُ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا فِي ذِكْرِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ. الثَّامِنُ: بَعْضُهَا يَدُلُّ على أسماء لله تَعَالَى وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ، وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التَّاسِعُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَالْأَلِفُ مَعْنَاهُ أَلِفَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فَبَعَثَهُ نَبِيًّا، وَاللَّامُ أَيْ لَامَهُ الْجَاحِدُونَ، وَالْمِيمُ أَيْ مِيمَ الْكَافِرُونَ غِيظُوا وَكُبِتُوا بِظُهُورِ الْحَقِّ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْأَلِفُ مَعْنَاهُ أَنَا، وَاللَّامُ مَعْنَاهُ لِي، وَالْمِيمُ مَعْنَاهُ مِنِّي، الْعَاشِرُ: مَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا احْتِجَاجًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ، أَوْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَجَزُوا عَنْهُ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، وَعَارِفُونَ بِقَوَانِينِ الْفَصَاحَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَلَمَّا عَجَزْتُمْ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنَ الْبَشَرِ، الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا لِأَنَّ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اسْمَعُوهَا مُقَطَّعَةً حَتَّى إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْكُمْ مُؤَلَّفَةً كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الصِّبْيَانَ يَتَعَلَّمُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ أَوَّلًا مُفْرَدَةً ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْمُرَكَّبَاتِ، الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وتواصلوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمْ، الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ، وَآجَالِ/ آخَرِينَ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَتْلُو سُورَةَ البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ، [البقرة: ١، ٢] ثُمَّ أَتَى أَخُوهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فَسَأَلُوهُ عَنْ الم وَقَالُوا:
نَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَحَقٌّ أَنَّهَا أَتَتْكَ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ كَذَلِكَ نَزَلَتْ»، فَقَالَ حيي إن
فَقَالَ: نَعَمْ المص، فَقَالَ حُيَيٌّ: هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْأَوَّلِ هَذَا مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، فَهَلْ غَيْرُ هَذَا، قَالَ:
نَعَمْ الر، فَقَالَ حُيَيٌّ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا مَا مَلَكَتْ أُمَّتُكَ إِلَّا مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ المر، قَالَ حُيَيٌّ: فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّا مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا نَدْرِي بِأَيِّ أَقْوَالِكَ نَأْخُذُ. فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى أَنَّ أَنْبِيَاءَنَا قَدْ أَخْبَرُونَا عَنْ مُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّهَا كَمْ تَكُونُ، فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ إِنِّي لَأُرَاهُ يُسْتَجْمَعُ لَهُ هَذَا كُلُّهُ فَقَامَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ كُلُّهُ، فَلَا نَدْرِي أَبِالْقَلِيلِ نَأْخُذُ أَمْ بِالْكَثِيرِ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ.
[آلِ عِمْرَانَ: ٧]
الرَّابِعَ عَشَرَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ كَلَامٍ وَاسْتِئْنَافِ كَلَامٍ آخَرَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا اسْتَأْنَفَتْ كَلَامًا فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ غَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي يُرِيدُونَ اسْتِئْنَافَهُ، فَيَجْعَلُونَهُ تَنْبِيهًا لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى قَطْعِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَاسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ الْجَدِيدِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ثَنَاءٌ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، السَّادِسَ عَشَرَ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَلِأَنَّهَا مَبَانِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالْأَلْسِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَأُصُولُ كَلَامِ الْأُمَمِ، بِهَا يَتَعَارَفُونَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْبَعْضِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ، هُوَ الْكُلَّ، كَمَا تَقُولُ قَرَأْتُ الْحَمْدَ، وَتُرِيدُ السُّورَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِكُلِّ أَحَدٍ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهَا مُسَمَّاةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنِ اشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاسْتِفَادَةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعَلُّمٍ وَاسْتِفَادَةٍ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهَا لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يُسْمَعُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ. الثَّامِنَ عَشَرَ:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّبْرِيزِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَقُولُ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِيمًا. التَّاسِعَ عَشَرَ: قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ «الم» أَنَّهُ أَلَمَّ بِكُمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ. أَيْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ، وَالْإِلْمَامُ الزِّيَارَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِهِ نُزُولَ الزَّائِرِ الْعِشْرُونَ: الْأَلِفُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الشَّرِيعَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ/ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَاللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى الِانْحِنَاءِ الْحَاصِلِ عِنْدَ الْمُجَاهَدَاتِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الطَّرِيقَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩] وَالْمِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَحَبَّةِ، كَالدَّائِرَةِ الَّتِي يَكُونُ نِهَايَتُهَا عَيْنَ بِدَايَتِهَا وَبِدَايَتُهَا عَيْنَ نِهَايَتِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفَنَاءِ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مَقَامُ الْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَامِ: ٩١] الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْأَلِفُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ، وَاللَّامُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ، وَهُوَ وَسَطُ الْمَخَارِجِ، وَالْمِيمُ مِنَ الشَّفَةِ، وَهُوَ آخِرُ الْمَخَارِجِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ ذِكْرِ الْعَبْدِ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى مَا قَالَ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: ٥٠]
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مَفْهُومَةً، أَوْ تَكُونَ مَفْهُومَةً، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّكَلُّمُ مَعَ الْعَرَبِيِّ بِلُغَةِ الزَّنْجِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ أَجْمَعَ بِأَنَّهُ هُدًى وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا جَعْلَهَا أَسْمَاءَ الْأَلْقَابِ، أَوْ أَسْمَاءَ الْمَعَانِي، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُهَا عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى مَا لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا حَمَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكُلِّ، أَوْ لَا يُحْمَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ الْبَاقِي، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.
جعلها أسماء ألقاب أو معاني:
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، قَوْلُهُ: «لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّكَلُّمُ مَعَ الْعَرَبِيِّ بِلُغَةِ الزَّنْجِ» قُلْنَا: وَلِمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْمِشْكَاةِ وَهُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالسِّجِّيلُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فَارِسِيَّانِ، قَوْلُهُ: «وَصْفُ الْقُرْآنِ أَجْمَعَ بِأَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ» قُلْنَا: لَا نِزَاعَ فِي اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُجْمَلَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ هُدًى وَبَيَانًا فَكَذَا هاهنا، سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَفْهُومَةٌ، لَكِنَّ قَوْلَكَ:
«إِنِّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي» إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهَا مَوْضُوعَةً لِإِفَادَةِ أَمْرٍ مَا وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، مِثْلَ مَا قَالَ قُطْرُبٌ مِنْ أَنَّهُمْ لَمَّا تَوَاضَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنْ لَا يَلْتَفِتُوا إِلَى الْقُرْآنِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَتَعَجَّبُوا عِنْدَ سماعها فيسكتوا، فحينئذ يهجم القرآن على أسمائهم، سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِأَمْرٍ مَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي؟ قَوْلُهُ: «إِنَّهَا فِي اللُّغَةِ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِشَيْءٍ الْبَتَّةَ» قُلْنَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا وَحْدَهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِشَيْءٍ، وَلَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَخْصُوصَةِ تُفِيدُ مَعْنًى مُعَيَّنًا؟ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِهَا أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي أَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى حِسَابِ الْجُمَلِ عَادَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمَّا كَانَتْ أُصُولَ الْكَلَامِ كَانَتْ شَرِيفَةً عَزِيزَةً، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاكْتِفَاءَ مِنَ الِاسْمِ الْوَاحِدِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ حُرُوفِهِ عَادَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهًا عَلَى أَسْمَائِهِ تَعَالَى.
سَلَّمْنَا دَلِيلَكُمْ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا وَجَدْنَا السُّوَرَ الْكَثِيرَةَ اتفقت في الم وحم فَالِاشْتِبَاهُ حَاصِلٌ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنِ اسْمِ الْعَلَمِ إزالة الاشتباه.
مَجْمُوعُ قَوْلِنَا: «صَادٌ» اسْمٌ لِلْحَرْفِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَكَّبُ اسْمًا لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ مُفْرَدَاتِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ اسْمًا لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْمُفْرَدِ، وَالِاسْمُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْمُسَمَّى، فَلَوْ جَعَلْنَا الْمُرَكَّبَ اسْمًا لِلْمُفْرَدِ لَمْ يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذَلِكَ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٌ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمُفْرَدَ اسْمًا لِلْمُرَكَّبِ لَزِمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُفْرَدٌ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اسْمٌ كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا، / وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَسَادِسُهَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا تَخْلُوَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنِ اسْمٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ.
الْجَوَابُ: «قَوْلُهُ الْمِشْكَاةُ وَالسِّجِّيلُ لَيْسَتَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ» قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَرَبِيٌّ، لَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اللُّغَتَيْنِ: الثَّانِي: أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمْ يُوجَدْ أَوَّلًا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا عَرَفُوهُ عَرَفُوا مِنْهَا أَسْمَاءَهَا، فَتَكَلَّمُوا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ عَرَبِيَّةً أَيْضًا.
قَوْلُهُ: «وُجِدَ أَنَّ الْمُجْمَلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ بَيَانًا» قُلْنَا: كُلُّ مُجْمَلٍ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ وُجِدَ فِي الْعَقْلِ، أَوْ فِي الْكِتَابِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ بَيَانُهُ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، إِنَّمَا الْبَيَانُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: «لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِسْكَاتَهُمْ عَنِ الشَّغَبِ؟» قُلْنَا: لَوْ جَازَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلْيَجُزْ ذِكْرُ سَائِرِ الْهَذَيَانَاتِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَنَا: «الم» غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِإِفَادَةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، فَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِهَا أَوْلَى
أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ فِي تَسْمِيَةِ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِاسْمٍ وَاحِدٍ- ثُمَّ يُمَيَّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ بِعَلَامَةٍ أُخْرَى- حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ تَسْمِيَةَ السُّورَةِ بِلَفْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، فَجَازَ أَنْ لَا يَبْلُغَ فِي الشُّهْرَةِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ خُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا جُعِلَتِ اسْمًا وَاحِدًا عَلَى طَرِيقَةِ «حَضْرَمَوْتَ» فَأَمَّا غَيْرُ مَرَكَّبَةٍ بَلْ صُورَةُ نَثْرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَذَاكَ جَائِزٌ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَالْبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ، وَالتَّسْمِيَةِ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَسْمَاءِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدَ أَنْ يَصِيرَ اللَّقَبُ أَكْثَرَ شُهْرَةً من الاسم الأصلي فكذا هاهنا.
وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الِاسْمَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى زَمَانِهِ الْمُعَيَّنِ، وَلَفْظُ الِاسْمِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الِاسْمُ اسْمًا لِنَفْسِهِ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ الشَّيْءِ اسْمًا لَهُ.
وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ وَضْعَ الِاسْمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ، وَلَا يَبْعُدَ أَنْ تَقْتَضِيَ الْحِكْمَةُ/ وَضْعَ الِاسْمِ لِبَعْضِ السُّوَرِ دُونَ الْبَعْضِ. عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْحَقَّ: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي نُصْرَةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْدَ هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا قَوْلُ قُطْرُبٍ: مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: ٢٦] فَكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا فَهِمُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَالْإِنْسَانُ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ، فَكَانُوا يُصْغُونَ إِلَى الْقُرْآنِ وَيَتَفَكَّرُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ فِي مَقَاطِعِهِ وَمَطَالِعِهِ، رَجَاءَ أَنَّهُ رُبَّمَا جَاءَ كَلَامٌ يُفَسِّرُ ذَلِكَ الْمُبْهَمَ، وَيُوضِحُّ ذَلِكَ الْمُشْكِلَ. فَصَارَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى أَنْ يَصِيرُوا مُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ وَمُتَدَبِّرِينَ فِي مَطَالِعِهِ وَمَقَاطِعِهِ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مَا جَاءَتْ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ الْغَرَضَ مَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَمَّا عَلِمَ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ فَإِنَّهُ يَتَأَمَّلُ الْقُرْآنَ وَيَجْتِهِدُ فِي التَّفَكُّرِ فِيهِ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رَبَّمَا وَجَدَ شَيْئًا يُقَوِّي قَوْلَهُ وَيَنْصُرُ مَذْهَبَهُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِهِ عَلَى الْمُحْكَمَاتِ الْمُخَلِّصَةِ لَهُ عَنِ الضَّلَالَاتِ، فَإِذَا جَازَ إِنْزَالُ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي تُوهِمُ الضَّلَالَاتِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إِنْزَالُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا تُوهِمُ شَيْئًا مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ أَوْلَى. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالزَّنْجِيَّةِ مَعَ الْعَرَبِيِّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْهَذَيَانِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَأَيْضًا فَهَذَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَبَيَانًا، لَكِنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَكَلَّمَ بِالزَّنْجِيَّةِ مَعَ الْعَرَبِيِّ- وَكَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ- فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْإِفَادَةَ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهَا، قَوْلُهُ: «إِنَّهُ يَكُونُ هَذَيَانًا» قُلْنَا: إِنْ عَنَيْتَ بِالْهَذَيَانِ الْفِعْلَ الْخَالِيَ عَنِ الْمَصْلَحَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ الْأَلْفَاظَ الْخَالِيَةَ عَنِ الْإِفَادَةِ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْحِكْمَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا وُجُوهٌ
القول بأنها أسماء السور:
فُرُوعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْرَابُ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا «كَصَادْ، وَقَافْ، وَنُونْ» أَوْ أَسْمَاءً عِدَّةً مَجْمُوعُهَا عَلَى زِنَةِ مُفْرَدٍ كحم، وطس ويس، فَإِنِّهَا مُوَازِنَةٌ لِقَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَأَمَّا طسم فَهُوَ وَإِنْ كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو (كدر أبجرد)، وَهُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ، لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ فِيهَا وَهُمَا الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْرَابُ، نَحْوَ كهيعص، والمر، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْمُفْرَدَةُ فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادْ وَقَافْ وَنُونْ بِالْفَتْحِ، وَهَذِهِ الْحَرَكَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ نَحْوَ: اذْكُرْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصْحَبْهُ التَّنْوِينُ لِامْتِنَاعِ الصَّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَأَجَازَ/ سِيبَوَيْهِ مِثْلَهُ فِي حم وطس ويس لَوْ قُرِئَ بِهِ، وَحَكَى السِّيرَافِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ «يس» بِفَتْحِ النُّونِ، وَأَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ جَرًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدِّرَهَا مَجْرُورَةً بِإِضْمَارِ الْبَاءِ الْقَسَمِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُمْ: «اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ» غَيْرَ أَنَّهَا فُتِحَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَصْرُوفَةٍ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا رُوِّينَا عَنْ بَعْضِهِمْ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ»، وثانيتها: قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ صَادْ بِالْكَسْرِ. وَسَبَبُهُ التَّحْرِيكُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي- وَهُوَ مَا لَا يَتَأَتَّى الْإِعْرَابُ فِيهِ- فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُجَاءَ بِالْقَوْلِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَلَى اسْتِبْقَاءِ صُورَتِهِ الْأُولَى كَقَوْلِكَ: «دَعْنِي مِنْ تَمْرَتَانِ».
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ نِصْفَ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَوَاءً، وَهِيَ:
الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالصَّادُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ وَالطَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالنُّونُ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً.
الثَّالِثُ: هَذِهِ الْفَوَاتِحُ جَاءَتْ مُخْتَلِفَةَ الْأَعْدَادِ، فَوَرَدَتْ «ص ق ن» عَلَى حَرْفٍ، وَ «طه وطس ويس وحم» عَلَى حَرْفَيْنِ، وَ «الم والر وطسم» عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَالمص وَالمر على أربعة أحرف، و «كهيعص وحم عسق» عَلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَبْنِيَةَ كَلِمَاتِهِمْ عَلَى حَرْفٍ وَحَرْفَيْنِ إِلَى خَمْسَةِ أحرف فقط فكذا هاهنا.
الرَّابِعُ: هَلْ لِهَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: إِنْ جَعَلْنَاهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ فَنَعَمْ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا النَّصْبُ وَالْجَرُّ فَلِمَا مَرَّ مِنْ صِحَّةِ الْقَسَمِ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا أَسْمَاءً لِلسُّورِ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ عَلَى قَوْلِهِ، كَمَا لَا مَحَلَّ لِلْجُمَلِ المبتدأة وللمفردات المعدودة.
الإشارة في «ذلك الكتاب» :
[سورة البقرة (٢) : آية ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: المشار إليه هاهنا حَاضِرٌ، وَ «ذَلِكَ» اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ:
«ذلك» يشار بها للقريب والبعيد:
الْمَقَامُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ «ذَلِكَ» لَا يُشَارُ بِهَا إِلَّا إِلَى الْبَعِيدِ، بَيَانُهُ أَنَّ ذَلِكَ، وَهَذَا حَرْفَا إِشَارَةٍ، وَأَصْلُهُمَا «ذَا»، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لِلْإِشَارَةِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] وَمَعْنَى «هَا» تَنْبِيهٌ، فَإِذَا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إِلَيْهِ فَقِيلَ: هَذَا، أَيْ تَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْكَافُ عَلَى «ذَا» لِلْمُخَاطَبَةِ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فَقِيلَ: «ذَلِكَ» فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَالِغٌ فِي التَّنْبِيهِ لِتَأَخُّرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ ذَلِكَ لَا تُفِيدُ الْبُعْدَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَصَارَتْ كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ فِي الْعُرْفِ بِالْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُتَنَاوِلَةً لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: إنا نحمله هاهنا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْبُعْدَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٥- ٤٨] ثم قال: هذا ذِكْرُ [الأنبياء: ٢٤] وَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ [ص: ٥٢، ٥٣] وَقَالَ: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: ١٩] وَقَالَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: ٢٥، ٢٦] وَقَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
[الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٦] وَقَالَ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
[الْبَقَرَةِ: ٧٣] أَيْ هَكَذَا يُحْيِي اللَّهُ الموتى، وقال: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] أَيْ مَا هَذِهِ الَّتِي بِيَمِينِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَّرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ السُّورَةُ، / الْجَوَابُ:
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، لِأَنَّ الْمُؤَنَّثَ إِمَّا الْمُسَمَّى أَوِ الِاسْمُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، وَأَمَّا الِاسْمُ فَهُوَ (الم) وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ، نَعَمْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى لَهُ اسْمٌ آخَرُ- وَهُوَ السُّورَةُ- وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ السَّابِقَ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤَنَّثٍ وَهُوَ (الم)، لَا الَّذِي هُوَ مؤنث وهو السورة.
مدلول لفظ «كتاب» :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: الْكِتَابُ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَقِيلَ: فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ كَاللِّبَاسِ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ قَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [ص: ٢٩] وَالْكِتَابُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْفَرْضُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النِّسَاءِ: ١٠٣] وَثَانِيهَا:
الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
[الصَّافَّاتِ: ١٥٧] أَيْ بُرْهَانِكُمْ. وَثَالِثُهَا: الْأَجَلُ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحِجْرِ: ٤] أَيْ أَجَلٌ. وَرَابِعُهَا: بِمَعْنَى مُكَاتَبَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّورِ: ٣٣] وَهَذَا الْمَصْدَرُ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ كَالْجِدَالِ وَالْخِصَامِ وَالْقِتَالِ بِمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَاشْتِقَاقُ الكتاب مِنْ كَتَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتَهُ، وَسُمِّيَتِ الْكَتِيبَةُ لِاجْتِمَاعِهَا، فَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ كَالْكَتِيبَةِ عَلَى عَسَاكِرِ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمِيعُ الْعُلُومِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ فِيهِ التكاليف على الخلق.
اشتقاق لفظ «قرآن» :
وَثَانِيهَا: الْقُرْآنُ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الْإِسْرَاءِ: ٨٨] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزُّخْرُفِ: ٣] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: ٩] وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَةَ وَاحِدٌ، كَالْخُسْرَانِ وَالْخَسَارَةِ وَاحِدٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[الْقِيَامَةِ: ١٨] أَيْ تِلَاوَتَهُ، أَيْ إِذَا تَلَوْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ تِلَاوَتَهُ: الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتَهُ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّ الْحُرُوفَ جُمِعَتْ فَصَارَتْ كَلِمَاتٍ، وَالْكَلِمَاتُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ آيَاتٍ، وَالْآيَاتُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ سُوَرًا، وَالسُّوَرُ جُمِعَتْ فَصَارَتْ قُرْآنًا، ثُمَّ جُمِعَ فِيهِ عُلُومُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ الْقُرْآنِ إِمَّا مِنَ التِّلَاوَةِ أَوْ مِنَ الجمعية.
معنى الفرقان:
وَثَالِثُهَا: الْفُرْقَانُ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفُرْقَانِ: ١]. وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ
معنى تسميته بالذكر:
ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٠] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: ٩]. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٤] وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذَكَّرَ بِهِ عِبَادَهُ فَعَرَّفَهُمْ تَكَالِيفَهُ وَأَوَامِرَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرٌ وَشَرَفٌ وَفَخْرٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّهُ شَرَفٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ، وَأَمَّا التَّذْكِرَةُ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٨] وَأَمَّا الذِّكْرَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٥٥].
تسميته تنزيلًا وحديثاً:
وَخَامِسُهَا: التَّنْزِيلُ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٢- ١٩٣].
وَسَادِسُهَا: الْحَدِيثُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزُّمَرِ: ٢٣] سَمَّاهُ حَدِيثًا، لِأَنَّ وُصُولَهُ إِلَيْكَ حَدِيثٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُ بِمَا يُتَحَدَّثُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ بِهِ المكلفين.
وسابعها: الموعظة يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: ٥٧] وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْعِظَةٌ لِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْآخِذُ جِبْرِيلُ، وَالْمُسْتَمْلِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ لَا تَقَعُ بِهِ الموعظة.
تسميته بالحكم والحكمة:
وَثَامِنُهَا: الْحُكْمُ، وَالْحِكْمَةُ، وَالْحَكِيمُ، وَالْمُحْكَمُ، أَمَّا الْحُكْمُ فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرَّعْدِ: ٣٧] وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَوْلُهُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [الْقَمَرِ: ٥] وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَابِ: ٣٤] وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَقَوْلُهُ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ١، ٢] وَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَقَوْلُهُ:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١].
معنى الحكمة:
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ، فَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِلْزَامِ، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حِكْمَةِ اللِّجَامِ، لِأَنَّهَا تَضْبِطُ الدَّابَّةِ، وَالْحِكْمَةُ تَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ.
وَتَاسِعُهَا: الشِّفَاءُ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: ٨٢] وقوله: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ مَرَضِ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ تعالى
كونه هدى وهادياً:
وَعَاشِرُهَا: الْهُدَى، وَالْهَادِي: أَمَّا الْهُدَى فَلِقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢]. هُدىً لِلنَّاسِ [آل عمران: ٤، الأنعام: ٩١]. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: ٥٧] وَأَمَّا الْهَادِي إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: ٩] وَقَالَتِ الْجِنُّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنِّ: ١، ٢].
الْحَادِيَ عَشَرَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ.
وَالثَّانِيَ عَشَرَ: الْحَبْلُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣] فِي التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِهِ فِي أُمُورِ دِينِهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَنَكَالِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالْحَبْلِ يَنْجُو مِنَ الْغَرَقِ وَالْمَهَالِكِ، وَمِنْ ذَلِكَ
سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِصْمَةً فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ/ عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ»
لِأَنَّهُ يَعْصِمُ النَّاسَ مِنَ الْمَعَاصِي.
الثَّالِثَ عَشَرَ: الرَّحْمَةُ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: ٨٨] وَأَيُّ رَحْمَةٍ فَوْقَ التَّخْلِيصِ مِنَ الْجَهَالَاتِ والضلالات.
تسميته بالروح:
الرَّابِعَ عَشَرَ: الرُّوحُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢]. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ بِالرُّوحِ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مَرْيَمَ: ١٧] وَعِيسَى بِالرُّوحِ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النِّسَاءِ: ١٧١].
الْخَامِسَ عَشَرَ: الْقَصَصُ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: ٣] سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الْقَصَصِ: ١١] أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَتَتَبَّعُ قصص المتقدمين، ومنه قوله تعلى:
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آلِ عِمْرَانَ: ٦٢].
السَّادِسَ عَشَرَ: الْبَيَانُ، وَالتِّبْيَانُ، وَالْمُبِينُ: أَمَّا الْبَيَانُ فَقَوْلُهُ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٨] وَالتِّبْيَانُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٨٩] وَأَمَّا الْمُبِينُ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [يُوسُفَ: ١].
السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَصَائِرُ هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٣] أَيْ هِيَ أَدِلَّةٌ يُبْصَرُ بِهَا الْحَقُّ تَشْبِيهًا بِالْبَصَرِ الَّذِي يَرَى طَرِيقَ الْخَلَاصِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: الْفَصْلُ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ [الطَّارِقِ: ١٣، ١٤] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ قِيلَ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْدِي قَوْمًا إِلَى الْجَنَّةِ وَيَسُوقُ آخَرِينَ إِلَى النَّارِ، فَمَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ فِي الدُّنْيَا قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جعله وراءه ساقه إلى النار.
التَّاسِعَ عَشَرَ: النُّجُومُ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَةِ: ٧٥] وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: ١] لِأَنَّهُ نَزَلَ نَجْمًا نَجْمًا.
الْعِشْرُونَ: الْمَثَانِي: مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزُّمَرِ: ٢٣] قِيلَ لِأَنَّهُ ثني فيه القصص والأخبار.
تسميه القرآن نعمة وبرهانا:
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: النِّعْمَةُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: ١١] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْبُرْهَانُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاءِ: ١٧٤] وَكَيْفَ لَا يَكُونُ بُرْهَانًا وَقَدْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ، وَبِهَذَا الِاسْمِ وَقَعَتِ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الرسل: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء: ١٦٥، الأنعام: ٤٨] وَقَالَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الْفَتْحِ: ٨] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ فِي حم السَّجْدَةِ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ [فُصِّلَتْ: ٤] يَعْنِي مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ وَبِالنَّارِ مُنْذِرًا لِمَنْ عَصَى، ومن هاهنا نَذْكُرُ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ القرآن.
تسميته قيماً:
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْقَيِّمُ قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْفِ: ٢] وَالدِّينُ أَيْضًا قَيِّمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التَّوْبَةِ: ٣٦] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْقَيُّومُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: ٢٥٥، آل عمران: ٢] وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَيِّمًا لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفَادَةِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُهَيْمِنُ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: ٤٨] وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمِينِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ لِأَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقُرْآنِ أَمِنَ الضَّرَرَ فِي/ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّبُّ الْمُهَيْمِنُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْمُهَيْمِنَ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ لِأَجْلِ قَوْمٍ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ كَمَا قَالَ:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣].
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْهَادِي إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: ٩] وَقَالَ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنِّ: ٢] وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الخبر «النور الهادي».
تسميته نوراً:
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: النُّورُ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] وَفِي الْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] يَعْنِي الْقُرْآنَ وَسُمِّيَ الرَّسُولُ نُورًا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] يعني محمد وسمي دينه نوراً يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفِّ: ٨] وَسُمِّيَ بَيَانُهُ نُورًا
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الْحَقُّ: وَرَدَ فِي الْأَسْمَاءِ «الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ» وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الْحَاقَّةِ: ٥١] فَسَمَّاهُ اللَّهُ حَقًّا، لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَيُزِيلُ الْبَاطِلَ كَمَا قَالَ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٨] أَيْ ذَاهِبٌ زَائِلٌ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَزِيزُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاءِ: ٩] وَفِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فُصِّلَتْ: ٤١] وَالنَّبِيُّ عَزِيزٌ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ [التوبة: ١٢٨] وَالْأُمَّةُ عَزِيزَةٌ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: ٨] فَرُبَّ عَزِيزٍ أَنْزَلَ كِتَابًا عَزِيزًا عَلَى نَبِيٍّ عَزِيزٍ لِأُمَّةٍ عَزِيزَةٍ، وَلِلْعَزِيزِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَاهِرُ، وَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَهَرَ الْأَعْدَاءَ وَامْتَنَعَ عَلَى مَنْ أَرَادَ مُعَارَضَتَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لا يوجد مثله.
تسمية القرآن بالكريم:
الثَّلَاثُونَ: الْكَرِيمُ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: ٧٧] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى سَبْعَةَ أَشْيَاءَ بِالْكَرِيمِ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: ٦] إِذْ لَا جَوَادَ أَجْوَدُ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ بِالْكَرِيمِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ كِتَابٍ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعُلُومِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَسَمَّى مُوسَى كَرِيمًا وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدُّخَانِ: ١٧] وَسَمَّى ثَوَابَ الْأَعْمَالِ كَرِيمًا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١] وَسَمَّى عرشه كريماً اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النَّمْلِ: ٢٦] لِأَنَّهُ مَنْزِلُ الرَّحْمَةِ، وَسَمَّى جِبْرِيلَ كَرِيمًا إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩] وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَزِيزٌ، وَسَمَّى كِتَابَ سُلَيْمَانَ كَرِيمًا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْلِ: ٢٩] فَهُوَ كِتَابٌ كَرِيمٌ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ لِأَجْلِ أُمَّةٍ كَرِيمَةٍ، فَإِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ نَالُوا ثَوَابًا كَرِيمًا.
ومن أسمائه «العظيم» :
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْعَظِيمُ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] اعلم أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ عَظِيمًا فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَعَرْشَهُ عَظِيمًا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: ١٢٩] وَكِتَابَهُ عَظِيمًا وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: ٨٧] وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ عَظِيمًا لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٥، ٦] وَالزَّلْزَلَةَ عَظِيمَةً إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: ١] وَخُلُقَ الرَّسُولِ عَظِيمًا وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: ٤] وَالْعِلْمَ عَظِيمًا وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٣] وَكَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمًا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: ٢٨] وسحر سحرة/ فرعون عظيماً وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: ١١٦] وَسَمَّى نَفْسَ الثَّوَابِ عَظِيمًا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الْفَتْحِ: ٢٩] وَسَمَّى عِقَابَ الْمُنَافِقِينَ عظيماً وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ٧].
ومنها المبارك:
اتصال «ألم» بقوله «ذلك الكتاب» :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ: الم بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنْ جَعَلْتَ الم اسْمًا لِلسُّورَةِ فَفِي التَّأْلِيفِ وُجُوهٌ:
الأول: أن يكون الم مبتدأ وذلِكَ مبتدأ ثانياً والْكِتابُ خَبَرَهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي مِقَابَلَتِهِ نَاقِصٌ، وَإِنَّهُ الَّذِي يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا كَمَا تَقُولُ: هُوَ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ الْجَامِعُ لِمَا يَكُونُ فِي الرِّجَالِ مِنْ مُرْضِيَاتِ الْخِصَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ صِفَةً، وَمَعْنَاهُ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ، وَأَنْ يَكُونَ الم خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذِهِ الم وَيَكُونَ ذلِكَ الْكِتابُ خَبَرًا ثَانِيًا أَوْ بَدَلًا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ صِفَةٌ، وَمَعْنَاهُ هُوَ ذَلِكَ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الم جملة وذلِكَ الْكِتابُ جُمْلَةً أُخْرَى وَإِنْ جُعِلَتْ الم بِمَنْزِلَةِ الصَّوْتِ كَانَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْكِتابُ أَيْ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، أَوِ الْكِتَابُ صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهُ أَوْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ يَعْنِي الْمُؤَلَّفَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ [السَّجْدَةِ: ٢] وتأليف هذا ظاهر.
تفسير قوله تعالى: لَا رَيْبَ فِيهِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرَّيْبُ قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، كَأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ تَقُولُ رَابَنِي أَمْرُ فُلَانٍ إِذَا ظَنَنْتَ بِهِ سوء، وَمِنْهَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي قَوْلِهِمْ: «رَيْبُ الدَّهْرِ» وَ «رَيْبُ الزَّمَانِ» أَيْ حَوَادِثُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: ٣٠] وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَيْظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ | وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا |
الْمُرَادُ لَا رَيْبَ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى الْخُصُوصِ كَانَ أَقْرَبَ لِتَأْكِيدِ هَذَا التَّأْوِيلِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
[البقرة: ٢٣] وهاهنا سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فِيهِ فَقَالَ: إِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا فَنَحْنُ قَدْ نَشُكُّ فِيهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. الْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ لَا يَنْبَغِي لِمُرْتَابٍ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ مَعَ بُلُوغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى النِّهَايَةِ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ. السُّؤَالُ الثاني: لم قال هاهنا: لَا رَيْبَ فِيهِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٧] ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فالأهم، وهاهنا الْأَهَمُّ نَفْيُ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكِتَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: لَا فِيهِ رَيْبٌ لَأَوْهَمَ أَنَّ هُنَاكَ كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا خَمْرَةُ الدُّنْيَا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ تُوجِبُ ارْتِفَاعَ الرَّيْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ نَفْيٌ لِمَاهِيَّةِ الرَّيْبِ وَنَفْيُ الْمَاهِيَّةِ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ لَثَبَتَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ، وَلِهَذَا السِّرِّ كَانَ قَوْلُنَا: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» نَفْيًا لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُنَا: «لَا رَيْبُ فِيهِ» بِالرَّفْعِ فَهُوَ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: «رَيْبَ فِيهِ» وَهُوَ يُفِيدُ ثُبُوتَ فَرْدٍ وَاحِدٍ، فَذَلِكَ النَّفْيُ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِيَتَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ.
الْوَقْفُ عَلَى «فِيهِ» :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَقْفُ عَلَى فِيهِ هُوَ الْمَشُهُورُ، وَعَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَى لَا رَيْبَ وَلَا بُدَّ لِلْوَاقِفِ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ خَبَرًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قالُوا لَا ضَيْرَ [الشُّعَرَاءِ: ٥٠] وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَا بَأْسَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي لِسَانِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: «لَا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى». وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْكِتَابُ نَفْسُهُ هُدًى، وَفِي الثَّانِيَةِ لَا يَكُونُ الْكِتَابُ نَفْسُهُ هُدًى بَلْ يَكُونُ فِيهِ هُدًى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ وَهُدًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حقيقة الهدى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْهُدَى: الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْهُدَى هُوَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْهُدَى هُوَ الِاهْتِدَاءُ وَالْعِلْمُ. وَالَّذِي يَدُلُّ/ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَفَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الْبُغْيَةِ مُعْتَبَرًا فِي مُسَمَّى الْهُدَى لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْهُدَى عِنْدَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ حَالَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مُحَالٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: ١٧] أَثْبَتَ الْهُدَى مَعَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا:
وُقُوعُ الضَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْهُدَى، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَةِ: ١٦] وَقَالَ:
لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: ٢٤] وَثَانِيهَا: يَقُولُ مَهْدِيٌّ فِي مَوْضِعِ المدح كمهتدي، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
معنى المتقي:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَاهُ فَاتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ فَرْطُ الصِّيَانَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكر المتقي هاهنا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلْ بِأَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ آتِيًا بِالْعِبَادَاتِ مُحْتَرِزًا عَنِ الْمَحْظُورَاتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ اجْتِنَابُ الصَّغَائِرِ فِي التَّقْوَى؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ كَمَا يَدْخُلُ الصَّغَائِرُ فِي الْوَعِيدِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَدْخُلُ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ عَنِ الْكُلِّ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّ الصَّغَائِرَ هَلْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ؟
فَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ الْعُقُوبَةَ فِي تَرْكِ مَا يَمِيلُ الْهَوَى إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْخَشْيَةُ، قَالَ في أول النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النِّسَاءِ: ١] وَمِثْلُهُ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ، وَفِي الشُّعَرَاءِ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ [هُودٍ: ١٠٦] يَعْنِي أَلَا تَخْشَوْنَ اللَّهَ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ لِقَوْمِهِمْ، وَفِي الْعَنْكَبُوتِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [نُوحٍ: ٣] يَعْنِي اخْشَوْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٢] وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَاتَّقُوا يَوْماً/ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: ٤٨] وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِلَّا أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَالْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا الْإِيمَانُ تَارَةً، وَالتَّوْبَةُ أُخْرَى، وَالطَّاعَةُ ثَالِثَةً، وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ رَابِعًا: وَالْإِخْلَاصُ خَامِسًا: أَمَّا الْإِيمَانُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: ٢٦] أَيِ التَّوْحِيدَ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: ٣] وَفِي الشُّعَرَاءِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١١] أَيْ أَلَا يُؤْمِنُونَ وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْأَعْرَافِ: ٩٦] أَيْ تَابُوا، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَقَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: ٢] وَفِيهِ أَيْضًا: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [النَّحْلِ: ٥٢] وَفِي الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢] وَأَمَّا تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ فَقَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] أَيْ فَلَا تَعْصُوهُ، وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الْحَجِّ: ٣٢] أَيْ مِنْ إِخْلَاصِ الْقُلُوبِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدِهِ»
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: التَّقْوَى تَرْكُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِالطَّاعَةِ.
قَالَ الحسن: التقوى أن لا تختار عل اللَّهِ سِوَى اللَّهِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَجِدَ الْخَلْقُ فِي لِسَانِكَ عَيْبًا. وَلَا الْمَلَائِكَةُ فِي أَفْعَالِكَ عَيْبًا وَلَا مَلِكُ العرش في سرك عيباً وقال الوافدي: التَّقْوَى أَنْ تُزَيِّنَ سِرَّكَ لِلْحَقِّ كَمَا زَيَّنْتَ ظَاهِرَكَ لِلْخَلْقِ، وَيُقَالُ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَرَاكَ مَوْلَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَيُقَالُ: الْمُتَّقِي مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُصْطَفَى، وَنَبَذَ الدُّنْيَا وَرَاءَ الْقَفَا، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ الْإِخْلَاصَ وَالْوَفَا، وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ وَالْجَفَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَّقِي فَضِيلَةٌ إِلَّا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ كَفَاهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٥] ثم قال هاهنا فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ كُلُّ النَّاسِ، فَمَنْ لَا يَكُونُ مُتَّقِيًا كَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي السُّؤَالَاتِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الشَّيْءِ هُدًى وَدَلِيلًا لَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلِمَاذَا جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَطْ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، وَالْمُهْتَدِي لَا يَهْتَدِي ثَانِيًا وَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ كَمَا أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَدَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعَلَى دِينِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ، فَهُوَ أَيْضًا دَلَالَةٌ لِلْكَافِرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ مَدْحًا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَانْتَفَعُوا بِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] وَقَالَ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذِرًا لِكُلِّ النَّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ لِأَجْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإِنْذَارِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْهُدَى بِالدَّلَالَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ عَنْهُ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَقْصُودِ لَيْسَ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ هُدًى وَفِيهِ مُجْمَلٌ وَمُتَشَابِهٌ كَثِيرٌ، وَلَوْلَا دَلَالَةُ الْعَقْلِ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُحْكَمُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ، فَيَكُونُ الْهُدَى/ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا الْقُرْآنُ، وَمِنْ هَذَا
نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْخَوَارِجِ لَا تَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ خَصْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ،
وَلَوْ كَانَ هُدًى لَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَلِكَ فِيهِ، وَلِأَنَّا نَرَى جَمِيعَ فِرَقِ الْإِسْلَامِ يَحْتَجُّونَ بِهِ، وَنَرَى الْقُرْآنَ مَمْلُوءًا مِنْ آيَاتٍ بَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ وَبَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا إلا بالتعسف الشديد، فيكف يَكُونُ هُدًى؟.
الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُجْمَلَ لَمَّا لَمْ يَنْفَكَّ عَمَّا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ- وَهُوَ إِمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ أَوْ دَلَالَةُ السَّمْعِ- صَارَ كُلُّهُ هُدًى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهِ، فَإِذَنِ اسْتَحَالَ كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَفِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهَا فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى عَلَى الْإِطْلَاقِ؟.
الْجَوَابُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ هُدًى أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هُدًى فِي تَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ هُدًى فِي تَأْكِيدِ مَا فِي الْعُقُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، مع
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْهُدَى هُوَ الَّذِي بَلَغَ فِي الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرَهُ، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ مَا يَذْكُرُونَ آيَةً إِلَّا وَذَكَرُوا فِيهَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً مُتَعَارِضَةً، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُبَيِّنًا فِي نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُدًى؟ قُلْنَا: مَنْ تَكَلَّمَ فِي التَّفْسِيرِ بِحَيْثُ يُورِدُ الْأَقْوَالَ الْمُتَعَارِضَةَ، وَلَا يُرَجِّحُ وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْبَاقِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ هُوَ هَذَا السُّؤَالُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ رَجَّحْنَا وَاحِدًا عَلَى الْبَوَاقِي بِالدَّلِيلِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْنَا هَذَا السُّؤَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَحَلُّ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ خَبَرٌ مَعَ لَا رَيْبَ فِيهِ لِ ذلِكَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ إِذَا جُعِلَ الظَّرْفُ الْمُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْإِشَارَةُ، أَوِ الظَّرْفُ، وَالَّذِي هُوَ أَرْسَخُ عِرْقًا فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ يَضْرِبَ عَنْ هَذَا الْمَجَالِ صَفْحًا، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: الم جُمْلَةٌ بِرَأْسِهَا، أَوْ طَائِفَةٌ من حروف المعجم مستقلة بنفسها، وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية، ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ رَابِعَةٌ وَقَدْ أُصِيبَ بِتَرْتِيبِهَا مَفْصِلُ الْبَلَاغَةِ وَمُوجِبُ حُسْنِ النَّظْمِ، حَيْثُ جِيءَ بِهَا مُتَنَاسِقَةً هَكَذَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ نَسَقٍ، وَذَلِكَ لِمَجِيئِهَا مُتَآخِيَةً آخِذًا بَعْضُهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَالثَّانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالْأُولَى وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ.
بَيَانُهُ: أَنَّهُ نُبِّهَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ الْكَلَامُ الْمُتَحَدَّى بِهِ، ثُمَّ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَنْعُوتُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ/ فَكَانَ تَقْرِيرُ الْجِهَةِ التَّحَدِّي، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَّيْبِ، فَكَانَ شَهَادَةً بِكَمَالِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لَا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ، ثُمَّ لَمْ يَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنْ رُتِّبَتْ هَذَا التَّرْتِيبَ الْأَنِيقَ مِنْ نُكْتَةٍ، فَفِي الْأُولَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْغَرَضِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْحَذْفُ وَوَضْعُ الْمَصْدَرِ- الَّذِي هُوَ هُدًى- مَوْضِعَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ هادٍ، وإيراده منكراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِمَّا مَوْصُولٌ بِالْمُتَّقِينَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مَجْرُورَةٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ أَوْ مَدْحٌ مَرْفُوعٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا مُنْقَطِعٌ عَنِ الْمُتَّقِينَ مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب أُولئِكَ عَلى هُدىً فَإِذَا كَانَ مَوْصُولًا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُتَّقِينَ حَسَنًا غَيْرَ تَامٍّ، وَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ وَقْفًا تَامًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فَاعِلًا لِلْحَسَنَاتِ وَتَارِكًا لِلسَّيِّئَاتِ، أَمَّا الْفِعْلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْقَلْبِ- وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْجَوَارِحِ، وَأَسَاسُهُ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَدَنِيَّةً وَأَجَلُّهَا الصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيَّةً، وَأَجَلُّهَا الزَّكَاةُ، وَلِهَذَا
سَمَّى الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ، وَالزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ»
وَأَمَّا التَّرْكُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ
[الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] وَالْأَقْرَبُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَفْسِيرًا لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، فَالتَّرْكُ هُوَ التَّقْوَى، وَالْفِعْلُ إِمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، أَوْ فِعْلُ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، لِأَنَّ الْقَلْبَ كَاللَّوْحِ الْقَابِلِ لِنُقُوشِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَاللَّوْحُ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ أَوَّلًا عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى يُمْكِنَ إِثْبَاتُ النُّقُوشِ الْجَيِّدَةِ فِيهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَخْلَاقِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ التَّقْوَى وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ فِعْلَ مَا يَنْبَغِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْإِيمَانُ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَقَهُ، وَحَقِيقَتُهُ آمَنَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى «أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ» وَأَمَّا مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ: مَا آمَنْتُ أَنْ أَجِدَ صَحَابَةً أَيْ مَا وَثِقْتُ، فَحَقِيقَتُهُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ، أَيْ ذَا سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ فِي يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَوْ يَثِقُونَ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَيَجْمَعُهُمْ فِرَقٌ أَرْبَعُ.
الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَبِكُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَنَاوَلُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. فَقَالُوا مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَتَرْكُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ كُفْرٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّصْدِيقَ، إِذِ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ، فَلَا يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِكَذَا إِذَا صَلَّى وَصَامَ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ كَمَا يُقَالُ صَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ، فَالْإِيمَانُ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَمَّا إِذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَدًّى فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ- الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ- إِلَى مَعْنًى آخَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ كُلِّ الطَّاعَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، أَوْ مِنْ بَابِ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ دُونَ النَّوَافِلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ، فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ، وَالْمُؤْمِنُ عِنْدَنَا كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: شَرْطُ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كُلِّهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِيمَانٌ كَامِلٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ طَاعَةٍ إِيمَانٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إِيمَانًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْجُحُودَ وَإِنْكَارَ الْقَلْبِ كُفْرٌ، ثُمَّ كَلُّ مَعْصِيَةٍ بَعْدَهُ كُفْرٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ إِيمَانًا مَا لَمْ تُوجَدِ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا مَا لَمْ يُوجَدِ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ مَا هُوَ أَصْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ. الثَّانِي:
زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلطَّاعَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ إِيمَانٌ وَاحِدٌ وَجَعَلُوا الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ إِيمَانُهُ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَا يَنْتَقِصُ إِيمَانُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِلْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ.
أَحَدُهُمَا: اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ- سَوَاءٌ كَانَ اعْتِقَادًا تَقْلِيدِيًّا أَوْ كَانَ عِلْمًا صَادِرًا عَنِ الدَّلِيلِ- وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْعِلْمِ الصَّادِرِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَانِيهِمَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ عِلْمٌ بِمَاذَا؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ثُمَّ/ إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اخْتِلَافُ الْخَلْقِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا جَرَمَ أَقْدَمَ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ عَدَاهَا مِنَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْصَافِ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ عَالِمًا لِذَاتِهِ وَبِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا أَوْ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: الْإِيمَانُ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ.
الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْقَلْبِ فَقَطْ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسَانِهِ وَمَاتَ قبل أن يقربه فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ. أَمَّا مَعْرِفَةُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي حَدِّ الْإِيمَانِ. وَحَكَى الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مَعَ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ.
الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُمْ فَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ الْإِيمَانُ فَقَطْ، لَكِنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ إِيمَانًا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ، فَالْمَعْرِفَةُ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ إِيمَانًا، لَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيِّ وَالْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ وَإِنْ كَانَ الْكَعْبِيُّ قَدْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ قَوْلًا لِغَيْلَانَ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنُ الظَّاهِرِ كَافِرُ السَّرِيرَةِ فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحُكْمُ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا مَجْمُوعُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بالقلب ونفتقر هاهنا إِلَى شَرْحِ مَاهِيَّةِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ قَالَ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ فَلَيْسَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَوْنَ الْعَالَمِ مَوْصُوفًا بِالْحُدُوثِ، بَلْ مَدْلُولُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْقَائِلِ بِكَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ مُغَايِرٌ لِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ فَهَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ بِالثُّبُوتِ أَوْ بِالِانْتِفَاءِ أَمْرٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُلِّ لُغَةٍ بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَاخْتِلَافُ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ مَعَ كَوْنِ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ أَمْرًا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَالدَّالُّ غَيْرُ الْمَدْلُولِ، ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ غَيْرُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْكُمُ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ الذهني، بقي هاهنا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ فِي اللُّغَةِ هُوَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أَمِ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِكُلِّ مَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلتَّصْدِيقِ، فَلَوْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ لِغَيْرِ التَّصْدِيقِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مُتَكَلِّمًا بِغَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ يُنَافِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ صَارَ مَنْقُولًا إِلَى غَيْرِ مُسَمَّاهُ الْأَصْلِيِّ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَلَاشْتَهَرَ وَبَلَغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ. الثَّالِثُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُعَدَّى بِحَرْفِ الْبَاءِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُعَدَّى كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي الْقُرْآنِ أَضَافَهُ إِلَى الْقَلْبِ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤١] وَقَوْلُهُ: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: ١٠٦] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٤] الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْنَمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ قَرَنَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرَارًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا ذَكَرَ الْإِيمَانَ وَقَرَنَهُ بِالْمَعَاصِي، قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ٨٢] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ
[الْحُجُرَاتِ: ٩] وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ ثم إنه خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٠] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَالِ: ٧٢] هَذَا أَبْقَى اسْمَ الْإِيمَانِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَعَ عِظَمِ الْوَعِيدِ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ فِي قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الْأَنْفَالِ: ٧٢] وَمَعَ هَذَا جَعَلَهُمْ مؤمنين ويدل أيضاً عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] وقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: ٢٧] وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: ٨] وَالْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ لِمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مُحَالٌ وَقَوْلُهُ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النُّورِ: ٣١] لَا يُقَالُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُذْنِبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُنَا: هَبْ أَنَّهُ خَصَّ فِيمَا عَدَا الْمُذْنِبَ فَبَقِيَ فِيهِمْ حُجَّةٌ.
الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسَانِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: ٨] نَفَى كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ عِبَارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسَانِيِّ لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ.
الْقَيْدُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّصْدِيقِ لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا.
الْقَيْدُ الرَّابِعُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»
وَهَذَا قَلْبٌ طَافِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا؟ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَوَجَدَ مِنَ الْوَقْتِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قلتم ليس يؤمن فَهُوَ بَاطِلٌ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ»
وَلَا يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنَ الْقَلْبِ بِالسُّكُوتِ عَنِ النُّطْقِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ مَنَعَ مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَحَكَمَ بِكَوْنِهِمَا مُؤْمِنَيْنِ، وَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَعَاصِي الَّتِي يُؤْتَى بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قيل: بِالْغَيْبِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَالصَّوْمِ بِمَعْنَى الصَّائِمِ، وَالزَّوْرِ بِمَعْنَى الزَّائِرِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ- أَنَّ قَوْلَهُ:
بِالْغَيْبِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَالَ الْغَيْبِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَالَ الْحُضُورِ، لَا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: ٥٢] وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: نِعْمَ الصَّدِيقُ لَكَ فُلَانٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ ظَاهِرِهِمْ مُوَافِقًا لِبَاطِنِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْغَيْبَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَائِبًا عَنِ الْحَاسَّةِ ثُمَّ هَذَا الْغَيْبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحُ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِأَنْ يَتَفَكَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِالْآخِرَةِ وَالْعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَبِالشَّرَائِعِ فَإِنَّ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ بِالِاسْتِدْلَالِ مَشَقَّةً فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ. وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى قَوْلِهِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤] إِيمَانٌ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ نَفْسَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ: الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ يَلْزَمُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ/ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] أَمَّا لَوْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِمَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ هَذَا الْمَحْذُورُ الثَّالِثُ: لَفْظُ الْغَيْبِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَيْبِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ لَمَا دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْعَظِيمَ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى يَقْتَضِي خُرُوجَ الْأَصْلِ أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا الْمَحْذُورُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُ الشِّيعَةِ: الْمُرَادُ بِالْغَيْبِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النُّورِ: ٥٥] وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا»
وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ إِقَامَتَهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيلِ أَرْكَانِهَا وَحِفْظِهَا مِنْ أَنْ يَقَعَ خَلَلٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، مِنْ أَقَامَ الْعُودَ إِذَا قَوَّمَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الْمَعَارِجِ: ٣٤] وَقَالَ: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [الْمَعَارِجِ: ٢٣] مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ، وَإِقَامَتُهَا نَفَاقُهَا، لِأَنَّهَا إِذَا حُوفِظَ عَلَيْهَا كَانَتْ كَالشَّيْءِ النَّافِقِ الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرَّغَبَاتُ، وَإِذَا أُضِيعَتْ كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْكَاسِدِ الَّذِي لَا يُرْغَبُ فِيهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّجَرُّدِ لِأَدَائِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي مُؤَدِّيهَا فُتُورٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَ/ بِالْأَمْرِ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَفِي ضِدِّهِ: قَعَدَ عَنِ الْأَمْرِ، وَتَقَاعَدَ عَنْهُ إِذَا تَقَاعَسَ وَتَثَبَّطَ. وَرَابِعُهَا: إِقَامَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَدَائِهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْأَدَاءِ بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْقُنُوتِ وَبِالرُّكُوعِ وَبِالسُّجُودِ، وَقَالُوا: سَبَّحَ إِذَا صَلَّى، لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٣] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَحْصُلُ مَعَهُ مِنَ الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِقَامَةَ عَلَى إِدَامَةِ فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فِي أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْقَيِّمَ بِأَرْزَاقِ الْجُنْدِ إِنَّمَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قَيِّمًا إِذَا أَعْطَى الْحُقُوقَ مِنْ دُونِ بَخْسٍ وَنَقْصٍ، وَلِهَذَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَائِمٌ وَقَيُّومٌ، لِأَنَّهُ يَجِبُ دَوَامُ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّهُ يُدِيمُ إِدْرَارَ الرِّزْقِ عَلَى عِبَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهَا الدُّعَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ في دنها | وصلى على دنها وارتشم |
الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُفْضِي إِلَى طَعْنٍ عَظِيمٍ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مِنْ أَشَدِّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً وَأَكْثَرِهَا دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلَوَيْنِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ اشْتِهَارًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يُقَالَ: مُسَمَّى الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَفِيَ وَانْدَرَسَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْآحَادُ لَكَانَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ جَائِزًا، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا قَطَعْنَا بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا تَتَبَادَرُ أَفْهَامُنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي فِي زَمَانِنَا هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لِمَعَانٍ أُخَرَ، وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ خَفِيَتْ فِي زَمَانِنَا وَانْدَرَسَتْ كَمَا وَقَعَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ.
الثَّانِي: الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّحْلِيلِ، وَهَذَا الِاسْمُ يَقَعُ عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْفَرْضُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ الَّذِي يَقِفُ الْفَلَاحُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ لِلْأَعْرَابِيِّ صِفَةَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الرِّزْقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْحَظُّ قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٨٢] أَيْ حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْحَظُّ هُوَ نَصِيبُ الرَّجُلِ وَمَا هُوَ خَاصٌّ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ:
الرِّزْقُ كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ أَوْ يُسْتَعْمَلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نُنْفِقَ مِمَّا رَزَقَنَا فَقَالَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ [الرعد: ٢٢] فَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ هُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ لَمَا أَمْكَنَ إِنْفَاقُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الرِّزْقُ هُوَ مَا يُمْلَكُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي وَلَدًا صَالِحًا أَوْ زَوْجَةً صَالِحَةً وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ وَلَا الزَّوْجَةَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عَقْلًا أَعِيشُ بِهِ وَلَيْسَ الْعَقْلُ بِمَمْلُوكٍ، وَأَيْضًا الْبَهِيمَةُ يَكُونُ لَهَا رِزْقٌ وَلَا يَكُونُ لَهَا مِلْكٌ.
وَأَمَّا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الرِّزْقُ هُوَ تَمْكِينُ الْحَيَوَانِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالْحَظْرُ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: قَدْ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مَكَّنَنَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِذَا سَأَلْنَاهُ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا مَالًا فَإِنَّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَنَا بِالْمَالِ أَخَصَّ، وَإِذَا سَأَلْنَاهُ أَنْ يَرْزُقَ الْبَهِيمَةَ فَإِنَّا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَهَا بِهِ أَخَصَّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِهِ أَخَصَّ إِذَا مَكَّنَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا فَسَّرُوا الرِّزْقَ بِذَلِكَ لَا جَرَمَ قَالُوا: الْحَرَامُ لَا يَكُونُ رِزْقًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَرَامُ قَدْ يَكُونُ رِزْقًا، فَحُجَّةُ الْأَصْحَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّزْقَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَمَنِ انْتَفَعَ بِالْحَرَامِ فَذَلِكَ الْحَرَامُ صَارَ حَظًّا وَنَصِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رزقاً له
رَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ «الْغَرَرِ» بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ. كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ فَلَا أَرَانِي أُرْزَقُ إِلَّا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فَائْذَنْ لِي فِي الْغِنَاءِ مِنْ غَيْرِ فَاحِشَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا إِذْنَ لَكَ وَلَا كَرَامَةَ وَلَا نِعْمَةَ كَذَبْتَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ رِزْقًا طَيِّبًا فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ حَلَالِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ شَيْئًا ضَرَبْتُكَ ضَرْبًا وَجِيعًا»
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ الْمُكَلَّفَ مِنَ الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من مَنَعَ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ رَزَقَهُ إِيَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنَّ/ السُّلْطَانَ قَدْ رَزَقَ جُنْدَهُ مَالًا قَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ رَزَقَهُمْ مَا مَكَّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ وَلَا أَمَرَ بِمَنْعِهِمْ مِنْهُ، أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَاتِ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ:
يَا خَالِقَ الْمُحْدَثَاتِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ، وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: ٦] فَخَصَّ اسْمَ الْعِبَادِ بِالْمُتَّقِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَيْضًا مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ هاهنا خَصَّ اسْمَ الرِّزْقِ بِالْحَلَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ رِزْقًا أَيْضًا، وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ»
صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَأَجَابُوا عَنِ الْمَعْنَى بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَحْضُ اللُّغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ هَلْ يُسَمَّى رِزْقًا أَمْ لَا؟ وَلَا مَجَالَ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَصْلُ الْإِنْفَاقِ إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ، وَمِنْهُ نَفَقَ الْمَبِيعُ نَفَاقًا إِذَا كَثُرَ الْمُشْتَرُونَ لَهُ، وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا مَاتَتْ أَيْ خَرَجَ رُوحُهَا، وَنَافِقَاءُ الْفَأْرَةِ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْهُ النَّفَقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: ٣٥].
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَدْخَلَ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةَ صيانة لهم، وكفى عَنِ: الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: قَدَّمَ مَفْعُولَ الْفِعْلِ دَلَالَةً عَلَى كَوْنِهِ أَهَمَّ، كَأَنَّهُ قَالَ وَيَخُصُّونَ بَعْضَ الْمَالِ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ. وَثَالِثُهَا: يَدْخُلُ فِي الْإِنْفَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، وَالْإِنْفَاقُ الْمَنْدُوبُ، وَالْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الزَّكَاةُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْكَنْزِ: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٤].
وَثَانِيهَا: الْإِنْفَاقُ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَثَالِثُهَا: الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ. وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ الْمَنْدُوبُ فَهُوَ أَيْضًا إِنْفَاقٌ لِقَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَأَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
اعْلَمْ أَنَّ قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَوْ مَا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِمَا، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا دَخَلَ فِيهِ التَّخْصِيصُ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْخَاصِّ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، لِأَنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَالْخَاصَّ لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٢، ٣] فَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ مَزِيدَ تَشْرِيفٍ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] ثُمَّ تَخْصِيصُ/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ بِهَذَا التَّشْرِيفِ تَرْغِيبٌ لِأَمْثَالِهِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِّ، ثُمَّ نَقُولُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، فَإِذَا قُلْنَا فُلَانٌ آمَنَ بِكَذَا، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَدَّقَ بِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ صَامَ وَصَلَّى، فَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ ها هنا التَّصْدِيقُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ المعرفة لأن الإيمان ها هنا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالْمُصَدِّقُ مَعَ الشَّكِّ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَهُوَ إِلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِنْزَالِ الْوَحْيِ وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مُنْزَلًا، وَمُنَزَّلًا، وَمَنْزُولًا بِهِ، أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ فِي السَّمَاءِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: نَزَلَتْ رِسَالَةُ الْأَمِيرِ مِنَ الْقَصْرِ، وَالرِّسَالَةُ لَا تَنْزِلُ لَكِنَّ الْمُسْتَمِعَ يَسْمَعُ الرِّسَالَةَ من علو فينزل ويؤدي في سفل. وقوله الْأَمِيرِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَهُ، وَلَكِنَّ السَّامِعَ يَسْمَعُ فَيَنْزِلُ وَيُؤَدِّي بِلَفْظِ نَفْسِهِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِذَا سَمِعَ فِي مَوْضِعٍ وَأَدَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَمِعَ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُهُ لَيْسَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ سَمْعًا لِكَلَامِهِ ثُمَّ أَقْدَرَهُ عَلَى عِبَارَةٍ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كِتَابَةً بِهَذَا النَّظْمِ الْمَخْصُوصِ فَقَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَفِظَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً بِهَذَا النَّظْمِ الْمَخْصُوصِ فِي جِسْمٍ مَخْصُوصٍ فَيَتَلَقَّفَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّهُ هُوَ الْعِبَارَةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِمَعْنَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هَذَا الْإِيمَانُ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: ٥] فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْإِيمَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْلِحًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَجَبَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عِلْمًا وَعَمَلًا إِلَّا إِذَا عَلِمَهُ عَلَى سَبِيلِ التفصيل، ولأنه إِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، إِلَّا أَنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ النَّازِلَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآخِرَةُ صِفَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَقِيلَ لِلدُّنْيَا دُنْيَا لِأَنَّهَا أَدْنَى مِنَ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَاحِبُهُ شَاكًّا فِيهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَقُولُ الْقَائِلُ: تَيَقَّنْتُ وُجُودَ نَفْسِي، وَتَيَقَّنْتُ أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقِي لِمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ/ الْحَادِثِ بِالْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: تَيَقَّنْتُ مَا أَرَدْتُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مُرَادَهُ بِالِاضْطِرَارِ، وَيَقُولُ تَيَقَّنْتُ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَهُ بِالِاكْتِسَابِ، وَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ الْأَشْيَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَيَقِّنِينَ بِالْآخِرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْدَحُ الْمَرْءُ بِأَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ إِلَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْآخِرَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ وَإِدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرِينَ النَّارَ.
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ مِنَ الشَّاكِّ فِي اللَّهِ وَهُوَ يَرَى خَلْقَهُ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يَعْرِفُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ثُمَّ يُنْكِرُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَمُوتُ وَيَحْيَا
- يَعْنِي النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ-
وَعَجَبًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ ثُمَّ يَسْعَى لِدَارِ الْغُرُورِ، وَعَجَبًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِ الْفَخُورِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَوَّلَهُ نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة».
[سورة البقرة (٢) : آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ الِابْتِدَاءَ ب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] وذلك لأنه لما قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] فَخَصَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّ الْكِتَابَ هُدًى لَهُمْ كَانَ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: مَا السَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُتَّقِينَ بِذَلِكَ؟ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مشتغلًا بِالْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْفَوْزِ بِالْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَنْوِيَ الِابْتِدَاءَ بِهِ بَلْ يَجْعَلَهُ تَابِعًا لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ يَقَعُ الِابْتِدَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ سَبَبٍ فِي أَنْ صَارَ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُخْتَصِّينَ بِالْهُدَى؟ فَأُجِيبَ بأن أولئك الموصوفون غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَفُوزُوا دُونَ النَّاسِ بِالْهُدَى عَاجِلًا وَبِالْفَلَاحِ آجِلًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْعَلَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ صِفَةَ الْمُتَّقِينَ وَيُرْفَعَ الثَّانِي عَلَى الِابْتِدَاءِ وأُولئِكَ خَبَرُهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ جَعْلَ اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَلَاحِ وَالْهُدَى تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ ظَانُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَطَامِعُونَ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْفَلَاحَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً بَيَانٌ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَاسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ حَيْثُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَكْرِيرِ أُولئِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَمَا ثَبَتَ لَهُمُ الِاخْتِصَاصُ بِالْهُدَى ثَبَتَ لَهُمُ الِاخْتِصَاصُ بِالْفَلَاحِ أَيْضًا، فَقَدْ تَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِهَذَيْنِ الِاخْتِصَاصَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَاءَ مَعَ الْعَاطِفِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] قُلْنَا: قَدِ اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ هُنَا فَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَاطِفُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ ثَمَّتَ فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ لِأَنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَتَشْبِيهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُقَرِّرَةً لِمَا فِي الْأُولَى فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هُمُ فَصْلٌ وَلَهُ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ وَثَانِيَتُهُمَا:
حَصْرُ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ الْإِنْسَانُ ضَاحِكٌ فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الضَّاحِكِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْإِنْسَانِ، أَمَّا لَوْ قُلْتَ: الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّاحِكُ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الضَّاحِكِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْإِنْسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَى التَّعْرِيفِ فِي الْمُفْلِحُونَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ بَلَغَكَ أَنَّهُمْ يُفْلِحُونَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ إِنْسَانًا قَدْ تَابَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِكَ فَاسْتَخْبَرْتَ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ زَيْدٌ التَّائِبُ، أَيْ هُوَ الَّذِي أُخْبِرْتَ بِتَوْبَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِنْ حَصَلَتْ صِفَةُ الْمُفْلِحُونَ فَهُمْ هُمْ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: هَلْ عَرَفْتَ الْأَسَدَ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْطِ الْإِقْدَامِ؟ إِنَّ زَيْدًا هُوَ هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُفْلِحُ الظَّافِرُ بِالْمَطْلُوبِ كَأَنَّهُ الَّذِي انْفَتَحَتْ لَهُ وُجُوهُ الظَّفَرِ وَلَمْ تَسْتَغْلِقْ عَلَيْهِ، وَالْمُفْلِجُ بِالْجِيمِ مِثْلُهُ، وَالتَّرْكِيبُ دَالٌّ عَلَى مَعْنَى الشَّقِّ وَالْفَتْحِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الزَّرَّاعُ فَلَّاحًا، وَمَشْقُوقُ الشَّفَةِ السُّفْلَى أَفْلَحَ، وَفِي الْمَثَلِ «الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ» وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْقِيَامِ بِمَا يَلْزَمُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا بَيَّنَ نَتِيجَةَ ذَلِكَ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ مِنْ غَيْرِ شَوْبٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الثَّوَابُ الْمَطْلُوبُ لِلْعِبَادَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَاتُ يَتَمَسَّكُ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَا مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُرْجِئَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْوَعِيدِيَّةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَوَجَبَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْلِحًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَى وَعِيدِ تَارِكِ الصَّلَاةِ/ وَالزَّكَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْفَلَاحِ هِيَ فِعْلَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِلَّةُ الْفَلَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْفَلَاحُ. أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ
وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِجَاجَيْنِ مَعَارَضٌ بِالْآخَرِ فَيَتَسَاقَطَانِ، ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْوَعِيدِيَّةِ: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفَلَاحِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ غَيْرَ كَامِلٍ فِي الْفَلَاحِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ كَامِلًا فِي الْفَلَاحِ وَهُوَ غَيْرُ جَازِمٍ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَبَّبِ، فَعِنْدَنَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّقْوَى يَكْفِي فِي نَيْلِ الثَّوَابِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اتِّقَاءَ الْمَعَاصِي، وَاتِّقَاءَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ نَحْوِيَّةً، وَمَسَائِلَ أُصُولِيَّةً، وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ إِنَّ حَرْفٌ وَالْحَرْفُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْعَمَلِ، لَكِنَّ هَذَا الْحَرْفَ أَشْبَهَ الْفِعْلَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَتِلْكَ الْمُشَابَهَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهَا عَامِلَةً، وَفِيهِ مُقَدِّمَاتٌ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ الْمُشَابَهَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُشَابَهَةَ حَاصِلَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا فِي اللَّفْظِ فَلِأَنَّهَا تَرَكَّبَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَانْفَتَحَ آخِرُهَا وَلَزِمَتِ الْأَسْمَاءَ كَالْأَفْعَالِ، وَيَدْخُلُهَا نُونُ الْوِقَايَةِ نَحْوَ إِنَّنِي وَكَأَنَّنِي، كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ نَحْوَ: أَعْطَانِي وَأَكْرَمَنِي، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ وَهُوَ تَأَكُّدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالْخَبَرِ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، فَقَوْلُكَ قَامَ أَفَادَ حُصُولَ مَعْنًى فِي الِاسْمِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ الْأَفْعَالَ وَجَبَ أَنْ تُشْبِهَهَا فِي الْعَمَلِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى الدَّوَرَانِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَنَّهَا لِمَ نَصَبَتِ الِاسْمَ وَرَفَعَتِ الْخَبَرَ؟ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ عَامِلَةً فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ مَعًا، أَوْ تَنْصِبَهُمَا مَعًا، أَوْ تَرْفَعَ الْمُبْتَدَأَ وَتَنْصِبَ الْخَبَرَ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ كَانَا قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِمَا مَرْفُوعَيْنِ، فَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا لَمَا ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، وَلِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يرفع الاسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ، / لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمَّا يَرْفَعُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ فِي الْفَاعِلِ أَوَّلًا بِالرَّفْعِ ثُمَّ فِي الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ، فَلَوْ جُعِلَ الحرف هاهنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَلَمَّا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهَا تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَخِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لَا أَصْلِيَّةٌ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي بَابِ الْفِعْلِ عُدُولٌ عَنِ الْأَصْلِ فذلك يدل هاهنا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ عَارِضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْحَرْفُ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ بَلْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِمَا كَانَ مُرْتَفِعًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُشْبِهُ الْفِعْلَ مُشَابَهَةً تَامَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْفِعْلُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَهَذِهِ الْحُرُوفُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وَحَجَّةُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ
قولنا: الخبرية هاهنا مُقْتَضِيَةٌ لِلرَّفْعِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرِيَّةَ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِ «إِنَّ» مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ وَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْحَرْفِ هُنَاكَ جُزْءًا مِنَ الْمُقْتَضَى لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ الْعِلَّةِ، فَبَعْدَ دُخُولِ هَذِهِ الْحُرُوفِ كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ مُقْتَضِيَةً لِلرَّفْعِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى بِتَمَامِهِ لَوْ حَصَلَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ لَكَانَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُنَا: الْخَبَرِيَّةُ أَوْلَى بِالِاقْتِضَاءِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهُ خَبَرًا وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَذَلِكَ الْحَرْفُ أَجْنَبِيٌّ مُبَايِنٌ عَنْهُ وَكَمَا أَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ فَغَيْرُ مُجَاوِرٍ لَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَخَلَّلُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ يُشَابِهُ الْفِعْلَ مُشَابَهَةً حَقِيقِيَّةً مَعْنَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْنَدًا إِلَى الْغَيْرِ، أَمَّا الْحَرْفُ فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُ الْفِعْلَ فِي وَصْفٍ حَقِيقِيٍّ مَعْنَوِيٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْنَادٌ، فَكَانَتْ مُشَابَهَةُ الْخَبَرِ لِلْفِعْلِ أَقْوَى مِنْ مُشَابَهَةِ هَذَا الْحَرْفِ لِلْفِعْلِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ بِاقْتِضَاءِ الرَّفْعِ لِأَجْلِ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ الْحَرْفِ بِسَبَبِ مُشَابَهَتِهِ لِلْفِعْلِ وَرَابِعُهَا: لَمَّا كَانَتِ الْخَبَرِيَّةُ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الرَّفْعِ اسْتَحَالَ كَوْنُ هَذَا الْحَرْفِ رَافِعًا، لِأَنَّ الْخَبَرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْحَرْفِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْحُكْمُ بالخبرية قبل حصول هذا الحرف، فيعد وُجُودِ هَذَا الْحَرْفِ لَوْ أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَرْفَ غَيْرُ أَصْلٍ فِي الْعَمَلِ فَيَكُونُ إِعْمَالُهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِعْمَالِهَا فِي الِاسْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْمِلَهَا فِي الخبر.
المسألة الثالثة: [في إشكال الكندي المتفلسف في وجود الحشو في كلام العرب] رَوَى الْأَنْبَارِيُّ أَنَّ الْكِنْدِيَّ الْمُتَفَلْسِفَ رَكِبَ إِلَى الْمُبَرِّدِ وَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ/ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَشْوًا، أَجِدُ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَائِمٌ، ثُمَّ تَقُولُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقَائِمٌ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: بَلِ الْمَعَانِي مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ إِخْبَارٌ عَنْ قِيَامِهِ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَائِمٌ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَقَائِمٌ جَوَابٌ عَنْ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ لِقِيَامِهِ، وَاحْتَجَّ عَبْدُ الْقَاهِرِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تُذْكَرُ جَوَابًا لِسُؤَالِ السَّائِلِ بِأَنْ قَالَ إِنَّا رَأَيْنَاهُمْ قَدْ أَلْزَمُوهَا الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ إِذَا كَانَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ نَحْوَ وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَيَدُلُّ عليه من التنزيل قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْفِ: ٨٣] وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الْكَهْفِ: ١٣] وَقَوْلُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٦] وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: ٥٦] وَقَوْلُهُ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: ٨٩] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ بِهِ الْكُفَّارَ فِي بَعْضِ مَا جَادَلُوا ونظروا فيه، وعليه قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاءِ: ١٦] وقوله: وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٠٤] وَفِي قِصَّةِ السَّحَرَةِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٢٥] إِذْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ جَوَابُ فِرْعَوْنَ عَنْ قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: ٧١ الشعراء: ٤٩] وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ لَيْسَ لِلْمُخَاطَبِ ظَنٌّ فِي خِلَافِهِ لَمْ يُحْتَجْ هُنَاكَ إِلَى «إِنَّ» وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ السَّامِعُ ظَنَّ الْخِلَافَ، وَلِذَلِكَ تَرَاهَا تَزْدَادُ حُسْنًا
عليك بِالْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ | إِنَّ غِنَى نَفْسِكَ فِي الْيَاسِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ ذِكْرُ حَدِّ الْكُفْرِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ صِحَّةُ ذَلِكَ النَّقْلِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ فَمَنْ صَدَّقَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِمَّا بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ، فَإِذَنِ الْكُفْرُ عَدَمُ تَصْدِيقِ/ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ، أَوْ كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا مُخْتَارًا أَوْ كَوْنَهُ وَاحِدًا أَوْ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، أو أنكر محمد ﷺ أن صِحَّةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ أَنْكَرَ الشَّرَائِعَ الَّتِي عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ كَوْنَهَا مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَحُرْمَةِ الرِّبَا وَالْخَمْرِ، فَذَلِكَ يَكُونُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ تَرَكَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنه من دينه. فأما الذي يعرف بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِ مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ أَوْ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ أَعْمَالَ الْعِبَادِ أَمْ لَا فَلَمْ يُنْقَلْ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ لِعُذْرِ مَجِيئِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الثَّانِي، بَلْ إِنَّمَا يُعْلَمُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَبُطْلَانُ الثَّانِي بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ، وَلَا الْإِقْرَارُ بِهِ دَاخِلًا فِي مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِإِيمَانِ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاشْتُهِرَ قَوْلُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَنُقِلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَقَّفَ الْإِيمَانَ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا إِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا نُكَفِّرُ أَرْبَابَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِرِوَايَةِ الْآحَادِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عَلَيْهِ. فَهَذَا قَوْلُنَا فِي حَقِيقَةِ الْكُفْرِ. فَإِنْ قِيلَ يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَكْسِ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهُ كَفَرَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تَرْكِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، قُلْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ كُفْرًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ وَعَدَمَهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا اطِّلَاعَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَبْنِي الْحُكْمَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاطِّلَاعِ، بَلْ يَجْعَلُ لَهَا مُعَرِّفَاتٍ وَعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةً وَيَجْعَلُ تِلْكَ الْمَظَانَّ الظَّاهِرَةَ مَدَارًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ الْغِيَارُ وَشَدُّ الزُّنَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِخْبَارٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ الْإِخْبَارِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ شَيْءٍ مَاضٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩]، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١]، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: ١] عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ سَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتِ أَوْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ. قَالُوا لِأَنَّ الْخَبَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ صِدْقًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْخَبَرِ عَنْهُ، وَالْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ/ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَلَمَّا أَوْجَدَهُ انْقَلَبَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِلْمًا بِأَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ كَانَ خَبَرًا بِأَنَّهُمْ سَيَكْفُرُونَ فَلَمَّا وُجِدَ كُفْرُهُمْ صَارَ ذَلِكَ الْخَبَرُ خَبَرًا عَنْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا وَلَمْ يَلْزَمْ حُدُوثُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الْفَتْحِ: ٢٧] فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَلِبَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ؟ أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ أَوَّلًا عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ الْعِلْمُ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْمَعْلُومَاتِ، وَكَيْفَ لَا وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَالَمَ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ لَوْ بَقِيَ حَالَ وُجُودِ الْعَالَمِ لَكَانَ ذَلِكَ جَهْلًا لَا عِلْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَغَيُّرُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامَهُ أَصْوَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَعْدَ صُدُورِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ لَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ مَتَى قِيلَ ذَلِكَ كَانَ اعْتِرَافًا بِأَنَّ تَكَلُّمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقِدَمِ بِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَعْلُومِ لَكُنَّا إِمَّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ أَوْ مَا كَانَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِالْجَهْلِ. وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ حَاصِلًا فَزَوَالُهُ يَقْتَضِي زَوَالَ الْقَدِيمِ، وَذَلِكَ سَدُّ بَابِ إِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صِيغَةٌ لِلْجَمْعِ مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِظَاهِرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا هَذَا الظَّاهِرَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمُوا فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَامِّ وَيَكُونُ مُرَادُهُ الْخَاصَّ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ ذَلِكَ الْخُصُوصُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّلْبِيسِ وَظُهُورِ الْمَقْصُودِ، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْبَلَدِ جَمْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا قَالَ «إِنَّ النَّاسَ يُؤْذُونَنِي» فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ مَقْرُونًا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ
لَا يُؤْمِنُونَ أَيْضًا صِيغَةُ جَمْعٍ وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي المراد هاهنا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ الْمُعَانِدُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَأَنْكَرُوا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: ٤، ٥] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ قَوْمُهُ جَمِيعًا حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْفِ: ٦] وَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: ٩٩] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْهُمْ وَلَا يَتَأَذَّى بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَأْسَ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وُصِفَ بِهِ كَمَا يوصف بالمصادر ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ٦٤] فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: ١٠] بِمَعْنَى مُسْتَوِيَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ارْتِفَاعِ سَوَاءٌ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ارتفاعه على أنه خبر لأن وأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا مُخْتَصِمٌ أَخُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ وَسَوَاءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا بِمَعْنَى سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَوْلَى، لِأَنَّ «سَوَاءٌ» اسْمٌ، وَتَنْزِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ الْإِنْذَارِ وَعَدَمُ الْإِنْذَارِ بِالِاسْتِوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُقَدَّمًا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أن
[الْجَاثِيَةِ: ٢١] وَرَوَى سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ: «تَمِيمِيٌّ أَنَا» / «وَمَشْنُوءٌ مَنْ يَشْنَؤُكَ» أَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْمُبْتَدَأُ ذَاتٌ، وَالْخَبَرُ صِفَةٌ، وَالذَّاتُ قَبْلَ الصِّفَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا فِي اللَّفْظِ قِيَاسًا عَلَى تَوَابِعِ الْإِعْرَابِ وَالْجَامِعُ التَّبَعِيَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَضَمَّنَ الضَّمِيرَ، فَلَوْ قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَوُجِدَ الضَّمِيرُ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ، فَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ امْتَنَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ قَبْلَ الذِّكْرِ مُحَالًا، أَجَابَ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ الْمُبْتَدَأِ أَوْلَى، لَا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ قَبْلَ الذِّكْرِ وَاقِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِمْ: «فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ» قَالَ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: ٦٧] وَقَالَ زُهَيْرٌ:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا | يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلُقًا |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: خَرَجَ ضَرَبَ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِكَلَامٍ مُنْتَظِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِعْلٌ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يُوسُفَ: ٣٥] فَاعِلُ «بَدَا» هُوَ «لَيَسْجُنُنَّهُ» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِعْلًا، فَالْفِعْلُ قَدْ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ فَإِنْ قِيلَ:
الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ هُوَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ اسْمٌ قُلْنَا فَعَلَى هَذَا: الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا بَلِ اسْمًا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا، لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَكُونُ فِعْلًا، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا فَقَدْ صَارَ الْفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ وَثَالِثُهَا:
أَنَّا إِذَا قُلْنَا: الْفِعْلُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْبَرْنَا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَوْ كَانَ اسْمًا لَزِمَ أَنَّا قَدْ أَخْبَرْنَا عَنِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا صَارَ الْفِعْلُ مُخْبَرًا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ:
لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ. أَمَّا جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ زَائِدَةٍ إِمَّا فِي الْمَعْنَى أَوْ فِي اللَّفْظِ فَمَا تِلْكَ الْفَائِدَةُ هاهنا؟ قُلْنَا قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِصْرَارِ وَاللَّجَاجِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ إِلَى حَالَةٍ مَا بَقِيَ فِيهِمُ الْبَتَّةَ رَجَاءُ الْقَبُولِ بِوَجْهٍ. وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُ إِنْذَارِكَ لَمَا أَفَادَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا حَصَلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَمَّا قَالَ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أَفَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَكَانَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُصُولَ الْيَأْسِ وَقَطْعَ الرَّجَاءِ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«الْهَمْزَةُ» وَ «أَمْ» مُجَرَّدَتَانِ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُمَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ رَأْسًا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: جَرَى هَذَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا جَرَى عَلَى حَرْفِ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ سِتُّ قِرَاءَاتٍ: إِمَّا بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، أَوْ لَا أَلِفَ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ الْأُولَى قَوِيَّةً وَالثَّانِيَةُ بَيْنَ بَيْنَ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، أَوْ لَا أَلِفَ بَيْنَهُمَا وَبِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِحَذْفِهِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهُ كَمَا قُرِئَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقْلِبُ الثَّانِيَةَ أَلِفًا؟ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ لَاحِنٌ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ بِالزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْإِنْذَارُ دُونَ الْبِشَارَةِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِنْذَارِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّ اشْتِغَالَ الْإِنْسَانِ بِدَفْعِ الضَّرَرِ أَشَدُّ مِنَ اشْتِغَالِهِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْمُبَالَغَةِ وَكَانَ ذِكْرُ الْإِنْذَارِ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا أَوْ خَبَرًا «لِإِنَّ» وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهَا اعْتِرَاضٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَكُلِّ مَا أشبهها [على تكليف ما لا يطاق] مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] وَقَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إِلَى قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [الْمُدَّثِّرِ: ١١- ١٧] وَقَوْلِهِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: ١] عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَطُّ، فَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ الْإِيمَانُ لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّدْقِ كَذِبًا، وَالْكَذِبُ عِنْدَ الْخَصْمِ قَبِيحٌ وَفِعْلُ الْقَبِيحِ يَسْتَلْزِمُ إِمَّا الْجَهْلَ وَإِمَّا الْحَاجَةَ، وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَصُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ مُحَالٌ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَقَدْ يُذْكَرُ هَذَا فِي صُورَةِ الْعِلْمِ، هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَهْلًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ. فَالْأَمْرُ وَاقِعٌ بِالْمُحَالِ. وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ: وَهُوَ أَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا لَوْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَوْ حَصَلَ عَدَمُ الْإِيمَانِ، فَلَوْ وُجِدَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ لَزِمَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْإِيمَانِ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، بَلْ أَمْرٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ رَابِعٍ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ أَلْبَتَّةَ، وَالْإِيمَانُ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَمِمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، فَقَدْ صَارُوا مُكَلَّفِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ/ وَالْإِثْبَاتِ، وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى وَجْهٍ خَامِسٍ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَابَ الْكُفَّارَ عَلَى أَنَّهُمْ حَاوَلُوا فِعْلَ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْحِ: ١٥] فَثَبَتَ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى تَكْوِينِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ تَكْوِينِهِ قَصْدٌ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ منهي عنه. ثم هاهنا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ فَمُحَاوَلَةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ تَكُونُ قَصْدًا إِلَى تَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَتَرْكُ مُحَاوَلَةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَيْضًا مُخَالَفَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الذَّمُّ حَاصِلًا عَلَى التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،
: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. [الْمُدَّثِّرِ: ٤٩] وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: ١٦٥] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَبْقَى لَهُمْ عُذْرًا إِلَّا وَقَدْ أَزَالَهُ عَنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِكُفْرِهِمْ وَخَبَرُهُ عَنْ كُفْرِهِمْ مَانِعًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْذَارِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ الدَّافِعَةِ لِلْعِقَابِ عَنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ «حم السَّجْدَةِ» أَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَانِعًا لَكَانُوا صَادِقِينَ/ فِي ذَلِكَ فَلِمَ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ قَوْلَهُ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ ذَمًّا لَهُمْ وَزَجْرًا عَنِ الْكُفْرِ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الْإِيمَانِ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ الْأَعْمَى مَعْذُورًا فِي أَنْ لَا يَمْشِيَ. وَخَامِسُهَا:
الْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْخَبَرُ مَانِعًا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا عَلِمْتَ الْكُفْرَ وَأُخْبِرْتَ عَنْهُ كَانَ تَرْكُ الْكُفْرِ مُحَالًا مِنَّا، فَلِمَ تَطْلُبُ الْمُحَالَ مِنَّا وَلَمْ تَأْمُرْنَا بِالْمُحَالِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ عَنْهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ يَمْنَعُ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: ٤٠] وَلَوْ كَانَ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ كُلِّفَ بِهِ لَمَا كَانَ نِعْمَ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ بِئْسَ الْمَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ مَانِعٌ أَلْبَتَّةَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَخَبَرَهُ عَنْ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنِ الْإِيمَانِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْإِيمَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ
لِمَ لَا تَطِيرُ إِلَى فَوْقٍ؟ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعُقُولِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِالْمُحَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوُجُودِ، وَثَامِنُهَا: لَوْ جَازَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ لَجَازَ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْجَمَادَاتِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ عَلَيْهَا، وَإِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ لِتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ إِلَيْهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سُخْرِيَةٌ وَتَلَاعُبٌ بِالدِّينِ.
وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لَوِ اقْتَضَى وُجُوبَهُ لَأَغْنَى الْعِلْمُ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِالْمُوجِبِ. وَعَاشِرُهَا: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَمْ يُوجَدْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: ٧٨] وَقَالَ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ
كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِوُجُودِ الْإِيمَانِ أَوْ بِعَدَمِهِ لَكُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَاصِلًا، وَهُوَ الْآنَ
يَا أَبَا عُثْمَانَ سَمِعْتُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ بِالْكُفْرِ، فَقَالَ: لَا تُعَجِّلُ بِالْكُفْرِ، وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ هَاشِمًا الْأَوْقَصَ يَقُولُ: إِنَّ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: ١] وَقَوْلَهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [الْمُدَّثِّرِ: ١١] إِلَى قَوْلِهِ:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٢٦] إِنَّ هَذَا/ لَيْسَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: ١، ٢] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: ٤] فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا يَا أَبَا عُثْمَانَ، فَسَكَتَ عَمْرٌو هُنَيْهَةً ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ، وَلَا عَلَى الْوَلِيدِ مِنْ لَوْمٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ ذَلِكَ قَالَ أَتَقُولُ يَا أَبَا عُثْمَانَ ذَلِكَ، هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَالَ مُعَاذٌ فَدَخَلَ بِالْإِسْلَامِ وَخَرَجَ بِالْكُفْرِ. وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَقَرَأَ عِنْدَهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: ٢٢] فَقَالَ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ تَبَّتْ أَكَانَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: لَيْسَ هَكَذَا كَانَتْ، بَلْ كَانَتْ: تَبَّتْ يَدَا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ مَا عَمِلَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ: فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِشَيْطَانٍ، إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تَدُلُّ عَلَى شَكِّ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: رَوَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ طَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَقْوَامًا يَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَقُولُونَ كَانَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَمْ نَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، قَدْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا فلم يحملهم على اللَّهِ عَلَى فِعْلِهَا.
حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخطاب أنه سمع رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَثَلُ عِلْمِ اللَّهِ فِيكُمْ كَمَثَلِ السَّمَاءِ الَّتِي أَظَلَّتْكُمْ، وَالْأَرْضِ الَّتِي أَقَلَّتْكُمْ، فَكَمَا لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا لَا تَحْمِلُكُمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى الذُّنُوبِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْمِلُكُمْ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ كَثْرَةٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَفَاسِدٌ، أَمَّا الْمُتَنَاقِضُ فَلِأَنَّ
قَوْلَهُ: «وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ»
صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ وَمَا قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ فَاسِدٌ، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَوُجُودَ الْإِيمَانِ مُتَنَافِيَانِ، فَالتَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَإِنَّهُمَا لَا يُنَافِيَانِ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ تَشْبِيهَ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ، وَجُلُّ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ. وَثَالِثُهَا: الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مَا
رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو الصادق المصدق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وشقي أم سعيد، فو الله الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»
وَحَكَى
فَهُوَ مُنَاظَرَةُ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ،
فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِآدَمَ: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟
فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ لِرِسَالَاتِهِ وَلِكَلَامِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ فَهَلْ تَجِدُ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيَّ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى،
وَالْمُعْتَزِلَةُ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ ذَمَّ آدَمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَلَدَ كَيْفَ يُشَافِهُ وَالِدَهُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ شَقَاءَ الْخَلْقِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ آدَمَ، بَلِ اللَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَرَابِعُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْحُجَّةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوَّبَ آدَمَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْيَهُودِ لَا أَنَّهُ حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ نَفْسِهِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ إِلَّا أَنَّ الرَّاوِيَ حِينَ دَخَلَ مَا سَمِعَ إِلَّا هَذَا الْكَلَامَ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنِ الْيَهُودِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مَنْصُوبًا أَيْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام غلبه وجعله محجوباً وَأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ آدَمُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا بِعُذْرٍ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ الذَّمَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا الِاعْتِذَارَ مِنْهُ بِعِلْمِ اللَّهِ بَلْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى تِلْكَ الزَّلَّةِ حَتَّى خَرَجَ بِسَبَبِهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: إِنَّ خُرُوجِي مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ وَأَكُونَ خَلِيفَةً فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ حُجَّةُ آدَمَ قَوِيَّةً وَصَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ كَالْمَغْلُوبِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوِيلٌ جِدًّا وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ وَسَنَسْتَقْصِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وفيما ذكرنا هاهنا كفاية.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهُوَ الْخَتْمُ، وَالْكَلَامُ هاهنا يَقَعُ فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخَتْمُ وَالْكَتْمُ أَخَوَانِ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ بِضَرْبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ كَتْمًا لَهُ وَتَغْطِيَةً، لِئَلَّا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَوْ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَالْغِشَاوَةُ الْغِطَاءُ فِعَالَةٌ مَنْ غَشَّاهُ إِذَا غَطَّاهُ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الشَّيْءِ كَالْعِصَابَةِ وَالْعِمَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْخَتْمِ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ ظَاهِرٌ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخَتْمُ هُوَ خَلْقُ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الَّتِي إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْقُدْرَةِ صَارَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَهَا سَبَبًا مُوجِبًا لِوُقُوعِ الْكُفْرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَادِرَ
فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مَصْدَرًا لِلْمَقْدُورِ الْمُعَيَّنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مُرَجَّحٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَنَقُولُ: إِذَا انْضَمَّ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ إِلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ فِي ذَلِكَ الْأَثَرِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا أَوْ مُمْتَنِعًا، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَحْصُلَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحِ تَارَةً مَعَ ذَلِكَ الْأَثَرِ، وَأُخْرَى مُنْفَكًّا عَنْهُ، فَلْنَفْرِضْ وُقُوعَ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ جَائِزًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَذَاكَ الْمَجْمُوعُ تَارَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، وَأُخْرَى لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ الْأَثَرُ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ قَرِينَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ كَانَ الْمُؤَثِّرُ هُوَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مَعَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الزَّائِدَةِ، لَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، وَكُنَّا قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ خَلْفَ هَذَا، وَأَيْضًا فَيَعُودُ التَّقْسِيمُ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ الثَّانِي، فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى قَيْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ تَارَةً بِحَيْثُ يَكُونُ مَصْدَرًا لِلْأَثَرِ، وَأُخْرَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَصْدَرًا لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ عَنِ الْآخَرِ بِأَمْرٍ مَا أَلْبَتَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا قَوْلًا بِتَرَجُّحِ الْمُمْكِنِ لَا عَنْ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ ذَلِكَ الْأَثَرِ جَائِزًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا لَكَانَ مُرَجِّحُ الْوُجُودِ مُرَجِّحًا لِلْعَدَمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ مُرَجِّحِ الْوُجُودِ يَكُونُ الْأَثَرُ وَاجِبَ الْوُجُودِ عَنِ/ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْقَوْلُ بِالْجَبْرِ لَازِمًا: لِأَنَّ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ كَانَ صُدُورُ الْفِعْلِ مُمْتَنِعًا وَبَعْدَ حُصُولِهِ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِذْ عَرَفْتَ هَذَا كَانَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ خَتْمًا عَلَى الْقَلْبِ وَمَنْعًا لَهُ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَضَافَ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْهُمْ في الآية الأولى وزادوا هاهنا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَذَّبَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ قالوا إن على قلوبهم كنان وَغِطَاءً يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ... بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: ١٥٥] وَقَالَ: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ: ٤، ٥] وَهَذَا كُلُّهُ عَيْبٌ وَذَمٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالُوا: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَعْرَضُوا وَتَرَكُوا الِاهْتِدَاءَ بِدَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَالْإِلْفِ وَالطَّبِيعَةِ لَهُمْ أَشْبَهَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ مَنَعَ عَنِ الشَّيْءِ وَصَدَّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي عُيُونِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مَسْدُودَةٌ لَا تُبْصِرُ شَيْئًا وَكَأَنَّ بِآذَانِهِمْ وَقْرًا حَتَّى لَا يَخْلُصَ إِلَيْهَا الذِّكْرُ،
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَبْطُلَ التَّكْلِيفُ فَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ بِالْخَتْمِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي وَصْفِ لَجَاجِهِمْ فِي الْغَيِّ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكَايَةً لِمَا كَانَ الْكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ تَهَكُّمًا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَنَظِيرُهُ فِي الْحِكَايَةِ وَالتَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: ١] وَسَادِسُهَا: الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وعلى قلوبهم بأنهم لَا تَعِي الذِّكْرَ وَلَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تُصْغِي إِلَى الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ أُرِيدُ أَنْ تَخْتِمَ عَلَى/ مَا يَقُولُهُ فُلَانٌ، أَيْ تُصَدِّقُهُ وَتَشْهَدُ بِأَنَّهُ حَقٌّ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ.
وَسَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنَ الْكُفَّارِ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ هَذَا الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٥] وَقَالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٦] وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِعِبَادِهِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا بِذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَفْهَمُوا سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ كَسُقُوطِهِ عَمَّنْ مُسِخَ، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يَعْقِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ كَمَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مَانِعًا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفَهْمِ وَالِاعْتِبَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُمْ كَمَا قَدْ يَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ وَيُعْمِي أَبْصَارَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَكُونُونَ فِي هَذَا الْحَالِ مُكَلَّفِينَ. وَثَامِنُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَتْمَ وَعَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كَالْبَلَادَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ وَالْقَذَى فِي عَيْنَيْهِ وَالطَّنِينِ فِي أُذُنِهِ، فَيَفْعَلُ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِهِمْ لِيُضَيِّقَ صُدُورَهُمْ وَيُورِثَهُمُ الْكَرْبَ وَالْغَمَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً مَانِعَةً مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا قَدْ فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَاهُوا ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةً لَهُ كَالرِّجْزِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَتَّى اسْتَغَاثُوا مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَتَاسِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْخَتْمَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُعْمِيهِمْ قَالَ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: ٩٧] وَقَالَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: ١٠٢] وَقَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: ٦٥] وَقَالَ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ الْقَرِيبَةُ مِنْ مَعْنَى الْخَتْمِ هِيَ: الطَّبْعُ، وَالْكِنَانُ، وَالرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْوَقْرُ فِي الْآذَانِ، وَالْغِشَاوَةُ فِي الْبَصَرِ ثُمَّ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَرَدَتْ دَلَالَةٌ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٤] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: ٢٥] وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَةِ: ٨٧] بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النِّسَاءِ:
١٥٥] فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فُصِّلَتْ: ٤] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النمل: ٨٠] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْلِ: ٢١] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَةِ: ١٠] وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَرَدَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ الْبَتَّةَ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: ٧٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧١] وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَصَارَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا مُتَمَسَّكًا لِطَائِفَةٍ، فَصَارَتِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ لِكَوْنِهَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ. أَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَكْثَرِهَا شَعَبًا وَأَشَدِّهَا شَغَبًا، وَيُحْكَى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيَّ سُئِلَ عَنْ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَا، لِأَنَّهُمْ نَزَّهُوهُ، فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ لَا، لِأَنَّهُمْ عَظَّمُوهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَا طَلَبَ إِلَّا إِثْبَاتَ جَلَالِ اللَّهِ وَعُلُوِّ كِبْرِيَائِهِ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْعَظَمَةِ فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوجِدَ وَلَا مُوجِدَ سِوَاهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْحِكْمَةِ فَقَالُوا لَا يَلِيقُ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: اللَّفْظُ يحتمل أن تكون الأسماء دَاخِلَةً فِي حُكْمِ الْخَتْمِ، وَفِي حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى دُخُولُهَا فِي حُكْمِ الْخَتْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] وَلِوَقْفِهِمْ عَلَى سَمْعِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ الْجَارِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى سَمْعِهِمْ أَنَّهَا لَمَّا أُعِيدَتْ لِلْأَسْمَاعِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْقُلُوبَ وَالْأَبْصَارَ وَوَحَّدَ السَّمْعَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَحَّدَ السَّمْعَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَمْعًا وَاحِدًا، كَمَا يُقَالُ: أَتَانِي بِرَأْسِ الْكَبْشَيْنِ، يَعْنِي رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا وَحَّدَ الْبَطْنَ فِي قَوْلِهِ: «كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِيشُوا» يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا أَمِنُوا اللَّبْسَ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَنْ كقولك. فرشهم وَثَوْبُهُمْ وَأَنْتَ تُرِيدُ الْجَمْعَ رَفَضُوهُ. الثَّانِي: أَنَّ السَّمْعَ مَصْدَرٌ فِي أَصْلِهِ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُجْمَعُ يُقَالُ: رَجُلَانِ صَوْمٌ، وَرِجَالُ صَوْمٌ، فَرُوعِيَ الْأَصْلُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمْعُ الْأُذُنِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: ٥] الثَّالِثُ: أَنْ نُقَدِّرَ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ وَعَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ وَحَّدَ لَفْظَ السَّمْعِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: ٢٥٧] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ [الْمَعَارِجِ: ٣٧] قَالَ الرَّاعِي:
بها جيف الحيدى فَأَمَّا عِظَامُهَا | فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ |
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: السَّمْعُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُمَا قَدَّمَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ، وَالتَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْضِيلِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رَسُولًا أَصَمَّ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُبْتَلًى بِالْعَمَى، وَلِأَنَّ بِالسَّمْعِ تَصِلُ نَتَائِجُ عُقُولِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، فَالسَّمْعُ كَأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمَالِ الْعَقْلِ بِالْمَعَارِفِ، وَالْبَصَرُ لَا يُوقِفُكَ إِلَّا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مُتَصَرِّفٌ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ بِخِلَافِ الْبَصَرِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مَتَّى بَطَلَ بَطَلَ النُّطْقُ، وَالْبَصَرُ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَبْطُلِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ. وَاسْتَقْصَيْنَا بَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْبَصَرُ نُورُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يُبْصِرُ بِهِ الرَّائِي وَيُدْرِكُ الْمَرْئِيَّاتِ، كَمَا أَنَّ الْبَصِيرَةَ نُورُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا يستبصر به ويتأمل، فكأنما جَوْهَرَانِ لَطِيفَانِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا آلَتَيْنِ لِلْأَبْصَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ، أَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَامِ: وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْإِبْصَارِ يَسْتَدْعِي أَبْحَاثًا غَامِضَةً لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قُرِئَ غِشاوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالنَّصْبِ، وَغُشَاوَةٌ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ، وَغَشَاوَةً بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ، وَغِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَغَشْوَةٌ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، وَالْغِشَاوَةُ هِيَ الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ الْغَاشِيَةُ، وَمِنْهُ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا زَالَ عَقْلُهُ وَالْغَشَيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْعَذَابُ مِثْلُ النَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، لِأَنَّكَ تَقُولُ أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ نَكَلَ عَنْهُ، ومنه العذاب، لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ بِخِلَافِ الْمِلْحُ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ نُقَاخًا، لِأَنَّهُ يَنْقَخُ الْعَطَشَ أَيْ يَكْسِرُهُ، وَفُرَاتًا لِأَنَّهُ يَرْفُتُهُ عَنِ الْقَلْبِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَسُمِّيَ كُلُّ أَلَمٍ فَادِحٍ عَذَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَكَالًا أَيْ عِقَابًا يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَانِي عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، والفرق بين العظيم والكبير: أَنَّ الْعَظِيمَ نَقِيضُ الْحَقِيرِ، وَالْكَبِيرَ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، فَكَأَنَّ الْعَظِيمَ فَوْقَ الْكَبِيرِ، كَمَا أَنَّ الْحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجُثَثِ وَالْأَحْدَاثِ جَمِيعًا، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ تُرِيدُ جُثَّتَهُ أَوْ خَطَرَهُ، وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ نَوْعًا مِنَ الْأَغْطِيَةِ غَيْرَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَهُوَ غِطَاءُ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْآلَامِ الْعِظَامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَحْسُنُ وفسروا قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لَكِنَّ كَرَمَهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ العفو، ولنذكر هاهنا دَلَائِلَ الْفَرِيقَيْنِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ فَلَا شَكَّ، وَأَمَّا أَنَّهُ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ مِنَّا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّ عَبْدَهُ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ أَدَّبَهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِذَلِكَ التَّأْدِيبِ لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الِانْتِقَامِ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَدَّبَهُ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّا يَضُرُّهُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمُعَذَّبِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ أَمَّا إِلَى الْمُعَذَّبِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْإِضْرَارَ لَا يَكُونُ عَيْنَ الِانْتِفَاعِ وَأَمَّا إِلَى غَيْرِهِ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ، فَإِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى شَخْصٍ لِغَرَضِ إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ تَرْجِيحٌ لِلْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَلَا مَنْفَعَةَ يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى إِيصَالَهَا إِلَى أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّصَالِ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيطِ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، / فَيَكُونُ تَوْسِيطُ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ قُبْحُهُ أَجْلَى فِي الْعُقُولِ مِنْ قُبْحِ الْكَذِبِ الَّذِي
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِلدَّوَاعِي الَّتِي تُوجِبُ الْمَعَاصِيَ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُلْجِئَ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الْخَالِقُ لِتِلْكَ الدَّوَاعِي، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنْ مَقْدِرَةٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْجَبْرَ، وَتَعْذِيبُ الْمَجْبُورِ قَبِيحٌ فِي الْعُقُولِ، وَرُبَّمَا قَرَّرُوا هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةُ قَدْ جَاءَتْ إِلَى شَخْصَيْنِ مِنَ النَّاسِ فَقَبِلَهَا أَحَدُهُمَا وَخَالَفَهَا الْآخَرُ فَأُثِيبَ أَحَدُهُمَا وَعُوقِبَ الْآخَرُ، فَإِذَا قيل لم قيل هَذَا وَخَالَفَ الْآخَرُ؟ فَيُقَالُ لِأَنَّ الْقَابِلَ أَحَبَّ الثَّوَابَ وَحَذِرَ الْعِقَابَ فَأَطَاعَ، وَالْآخَرُ لَمْ يُحِبَّ وَلَمْ يَحْذَرْ فَعَصَى، أَوْ أَنَّ هَذَا أَصْغَى إِلَى مَنْ وَعَظَهُ وَفَهِمَ عَنْهُ مَقَالَتَهُ فَأَطَاعَ، وَهَذَا لَمْ يُصْغِ وَلَمْ يَفْهَمْ فَعَصَى، فَيُقَالُ: وَلِمَ أَصْغَى هَذَا وَفَهِمَ وَلَمْ يُصْغِ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْهَمْ؟ فَنَقُولُ:
لِأَنَّ هَذَا لَبِيبٌ حَازِمٌ فَطِنٌ، وَذَلِكَ أَخْرَقُ جَاهِلٌ غَبِيٌّ فَيُقَالُ وَلِمَ اخْتُصَّ هَذَا بِالْحَزْمِ وَالْفِطْنَةِ دُونَ ذَاكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِطْنَةَ وَالْبَلَادَةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْغَرِيزِيَّةِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْغَبَاوَةَ وَالْخَرَقَ وَلَا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فَإِذَا تَنَاهَتِ/ التَّعْلِيلَاتُ إِلَى أُمُورٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى اضْطِرَارًا عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ يُمْكِنُكَ أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ أَطَاعَ أَحَدُهُمَا وَعَصَى الْآخَرُ فِي كُلِّ حَالٍ أَعْنِي فِي الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ، وَالْفَطَانَةِ وَالْغَبَاوَةِ، وَالْحَزْمِ وَالْخَرَقِ، وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْبَاعِثِينَ وَالزَّاجِرِينَ، وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ إِنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَمَا اسْتَوَيَا فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَنْ سَبَبُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَشْخَاصِ أُمُورٌ وَقَعَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ، وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ: أَيْنَ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ أَنْ يُخْلَقَ الْعَاصِي عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَظَاظَةِ وَالْجَسَارَةِ، وَالْغَبَاوَةِ وَالْقَسَاوَةِ، وَالطَّيْشِ وَالْخَرَقِ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، وَهَلَّا خَلَقَهُ مِثْلَ مَا خَلَقَ الطَّائِعَ لَبِيبًا حَازِمًا عَارِفًا عَالِمًا، وَأَيْنَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُسَخِّنَ قَلْبَهُ وَيُقَوِّيَ غَضَبَهُ وَيُلْهِبَ دِمَاغَهُ وَيُكْثِرَ طَيْشَهُ وَلَا يَرْزُقَهُ مَا رَزَقَ غَيْرَهُ مِنْ مُؤَدِّبٍ أَدِيبٍ وَمُعَلِّمٍ عَالِمٍ وَوَاعِظٍ مُبَلِّغٍ، بَلْ يُقَيِّضُ لَهُ أَضْدَادَ هَؤُلَاءِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ ثُمَّ يؤاخذه
الْعُذْرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالْمَظْنُونُ لَا يُعَارِضُ الْمَقْطُوعَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ كُلُّهَا ظَنِّيَّةٌ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الظَّنِّيِّ ظَنِّيٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ ظَنِّيَّةٍ، لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَنَقْلِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَرُوَاةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُعْلَمُ بُلُوغُهُمْ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ مَظْنُونَةً، وَأَيْضًا فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وَأَيْضًا فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِصِدْقِهِمَا وَلَا بِكَذِبِهِمَا مَعًا، وَلَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ النَّقْلِ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ، وَالطَّعْنُ فِي الْعَقْلِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَعًا، لَكِنَّ عَدَمَ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ مَظْنُونٌ، هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَكَيْفَ وَقَدْ وَجَدْنَا هاهنا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ ظَنِّيَّةٌ، وَأَمَّا أَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينِيَّ فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ
وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ | لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي |
[سورة البقرة (٢) : آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: وَصَفَ اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ صَحَّتْ سَرَائِرُهُمْ وَسَلِمَتْ ضَمَائِرُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمُ الْإِقَامَةُ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، ثُمَّ وَصَفَ حَالَ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ وَضَمِيرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ الْعِرْفَانُ الْقَلْبِيُّ وَالْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ/ فَهَذَا الْإِنْكَارُ إِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْلِمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: ١٠٦] وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا كَانَ كَافِرًا مُعَانِدًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْصُلَ الْعِرْفَانُ الْقَلْبِيُّ وَيَكُونُ اللِّسَانُ خَالِيًا عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَهَذَا السُّكُوتُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اضْطِرَارِيًّا أَوِ اخْتِيَارِيًّا، فَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَذَلِكَ إِذَا خَافَ ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا مُسْلِمٌ حَقًّا أَوْ كَمَا إِذَا عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ ثُمَّ لَمَّا تَمَّمَ النَّظَرَ مَاتَ فَجْأَةً، فَهَذَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا، لِأَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَمْ يَجِدْ زَمَانَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ كَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْإِقْرَارِ، فَهَذَا مَحَلُّ الْبَحْثِ، وَمَيْلُ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ»
وَهَذَا الرَّجُلُ قَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ، فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ، أَوِ الْإِنْكَارُ أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهَذَا هُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ أَنَّ الْمُقَلِّدَ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَهَذَا يُفَرَّعُ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى، فَإِنْ حَكَمْنَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِالْكُفْرِ، فهاهنا لَا كَلَامَ، وَإِنْ حَكَمْنَا هُنَاكَ بِالْإِيمَانِ وَجَبَ أن يحكم هاهنا بِالنِّفَاقِ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ كَانَ القلب عرفاً لَكَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُنَافِقًا، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا عِنْدَ التَّقْلِيدِ كَانَ أَوْلَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ مَعَ الْإِنْكَارِ اللِّسَانِيِّ، ثُمَّ هَذَا الْإِنْكَارُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَلَا شَكَّ فِي الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا وَحَكَمْنَا بِإِيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بِالْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الِاعْتِقَادُ التَّقْلِيدِيُّ مَعَ السُّكُوتِ اضْطِرَارِيًّا كَانَ أَوِ اخْتِيَارِيًّا، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ إِذَا حَكَمْنَا بِإِيمَانِ الْمُقَلِّدِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ اللِّسَانِيُّ، أَوِ الْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ، أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ اللِّسَانِيُّ، فَذَلِكَ الْإِقْرَارُ إِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا فَهُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِنَاءً عَلَى شُبْهَةٍ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ ثُمَّ بِالِاخْتِيَارِ أَقَرَّ بِاللِّسَانِ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ يُنْكِرَ بِاللِّسَانِ وَهُوَ كُفْرُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ؟ فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا مِنَ النِّفَاقِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ وَيُوجَدَ الْإِنْكَارُ اللِّسَانِيُّ فَهَذَا كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ، لِأَنَّهُ مَا أَظْهَرَ شَيْئًا بِخِلَافِ بَاطِنِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ الْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ مَعَ السُّكُوتِ اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أَظْهَرَ شَيْئًا. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْقَلْبُ الْخَالِي عَنْ جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ فَهَذَا إِمَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ أَوِ الْإِنْكَارُ أَوِ السُّكُوتُ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا وُجِدَ الْإِقْرَارُ فَهَذَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَقْبَحُ أَمْ كُفْرَ الْمُنَافِقِ؟ قَالَ قَوْمٌ كُفْرُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَقْبَحُ، لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالْقَلْبِ كَاذِبٌ بِاللِّسَانِ، وَالْمُنَافِقُ جَاهِلٌ بِالْقَلْبِ صَادِقٌ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُنَافِقُ أَيْضًا كَاذِبٌ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِهِ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٤] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: ١] ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقَ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ أُمُورٍ مُنْكَرَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ التَّلْبِيسَ وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ مَا قَصَدَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَافِرَ عَلَى طَبْعِ الرِّجَالِ، وَالْمُنَافِقَ عَلَى طَبْعِ الْخُنُوثَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَافِرَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْكَذِبِ بَلِ اسْتَنْكَفَ مِنْهُ وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَالْمُنَافِقُ رَضِيَ بِذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُنَافِقَ ضَمَّ إِلَى كُفْرِهِ الِاسْتِهْزَاءَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَجْلِ غِلَظِ كُفْرِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥]. وَخَامِسُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْكُفَّارِ فِي آيَتَيْنِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقَ أَعْظَمُ جُرْمًا. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الِاقْتِصَاصِ بِخَبَرِهِمْ لَا تُوجِبُ كَوْنَ جُرْمِهِمْ أَعْظَمَ، فَإِنْ عُظِّمَ فَلِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَمُّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وُجُوهًا مِنَ الْمَعَاصِي كَالْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَطَلَبِ الْغَوَائِلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَثْرَةَ الِاقْتِصَاصِ بِخَبَرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِدَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنَ الْكُفَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَقَرَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا الثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَارِفًا لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَوْ كَانُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَقَدْ أَقَرُّوا بِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ إِيمَانًا، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَقَرَّ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَارِفِ لَوْ كَانَ مَعْذُورًا لَمَا ذَمَّ اللَّهُ هَؤُلَاءِ عَلَى عَدَمِ الْعِرْفَانِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَكُونُ مَعْذُورًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ/ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ. سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسِي.
يا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ | وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِفْضَالًا عَلَى النَّاسِ |
نَسِيتُ عَهْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ | فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ |
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وجد ابن قَيْسٍ، كَانُوا إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَالتَّصْدِيقَ وَيَقُولُونَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَفْظَةُ «مَنْ» لَفْظَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ، وَالْوَاحِدِ. أَمَّا فِي الْوَاحِدِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَامِ: ٢٥] وَفِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يُونُسَ: ٤٢] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى، فَعِنْدَ التَّوْحِيدِ يُرْجَعُ إِلَى اللَّفْظِ. وَعِنْدَ الْجَمْعِ يُرْجَعُ إِلَى الْمَعْنَى، وَحَصَلَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَقُولُ لَفْظُ الواحد وآمَنَّا لَفْظُ الْجَمْعِ وَبَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِمَ كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مُنَافِقِي الْمُشْرِكِينَ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِاللَّهِ وَمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْيَهُودُ- فَإِنَّمَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ إِيمَانَ الْيَهُودِ بِاللَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ جِسْمًا، وَقَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، فَلَمَّا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ كَانَ خُبْثُهُمْ فِيهِ مُضَاعَفًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِقُلُوبِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْبَاطِلِ، وَبِاللِّسَانِ يُوهِمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِنَّا آمَنَّا لِلَّهِ مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، فَلِهَذَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَالْأَوَّلُ فِي ذِكْرِ شَأْنِ الْفِعْلِ لَا الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي فِي ذِكْرِ شَأْنِ الْفَاعِلِ لَا الْفِعْلِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ قَالَ فُلَانٌ نَاظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَلَوْ قُلْتَ إِنَّهُ لَمْ يُنَاظِرْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كُنْتَ قَدْ كَذَّبْتَهُ، أَمَّا لَوْ قُلْتَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاظِرِينَ كُنْتَ قَدْ بَالَغْتَ فِي تَكْذِيبِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ به ذلك؟ فكذا هاهنا لما قالوا آنا بِاللَّهِ فَلَوْ قَالَ اللَّهُ مَا آمَنُوا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لَهُمْ أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَمَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ/ الْوَقْتُ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَهُوَ الْأَبَدُ الدَّائِمُ، الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ لَهُ أَمَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَمَا بَعْدَهُ فَلَا حَدَّ له.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩ الى ١٠]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)اعلم أن الله تعالى مِنْ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا: مَا الْمُخَادَعَةُ، ثُمَّ ثَانِيًا: مَا الْمُرَادُ، بِمُخَادَعَةِ اللَّهِ؟ وَثَالِثًا: أَنَّهُمْ لِمَاذَا كَانُوا يُخَادِعُونَ اللَّهَ؟ وَرَابِعًا: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم؟.
[في بيان قوله تعالى يخادعون الله والذين آمنوا] [فيه مسائل] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْخَدِيعَةَ مَذْمُومَةٌ، وَالْمَذْمُومُ يَجِبُ أَنْ يُمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ لِكَيْ لَا يُفْعَلَ، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْإِخْفَاءُ، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ الْمِخْدَعَ، وَالْأَخْدَعَانِ عِرْقَانِ فِي الْعُنُقِ لِأَنَّهُمَا خَفِيَّانِ.
وَقَالُوا: خَدَعَ الضَّبُّ خَدْعًا إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا قَلِيلًا، وَطَرِيقٌ خَيْدَعٌ وَخَدَّاعٌ، إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَقْصِدِ بِحَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ. وَأَمَّا حَدُّهَا فَهُوَ إِظْهَارُ مَا يُوهِمُ السَّلَامَةَ وَالسَّدَادَ، وَإِبْطَانُ مَا يَقْتَضِي الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ وَالتَّخَلُّصَ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّفَاقِ فِي الْكُفْرِ وَالرِّيَاءِ فِي الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ، لِأَنَّ الدِّينَ يُوجِبُ الِاسْتِقَامَةَ وَالْعُدُولَ عَنِ الْغُرُورِ وَالْإِسَاءَةِ، كَمَا يُوجِبُ الْمُخَالَصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَصْفُهُمُ الْمُرَائِيَ بِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ إِذَا أَظْهَرَ خِلَافَ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ أُخِذَ التَّدْلِيسُ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُوهِمُ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِذَا أَعْلَنَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُدَلِّسٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ كَيْفَ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى؟ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الضَّمَائِرَ وَالسَّرَائِرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَادَعَ، لِأَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَوْ أَظْهَرُوا أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِدَاعًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْبَوَاطِنُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُخَادَعَ. الثَّانِي:
أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ بِهِ رَسُولَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَفْخِيمِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ. قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠] وَقَالَ فِي عَكْسِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَالِ: ٤١] أَضَافَ السَّهْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الرَّسُولُ إِلَى نَفْسِهِ فَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا خَادَعُوا/ الرَّسُولَ قِيلَ إِنَّهُمْ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ صُورَةُ حَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ حَيْثُ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهُمْ كَافِرُونَ صُورَةُ مَنْ يُخَادِعُ، وَصُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ أَمَرَ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ فِي عِدَادِ الْكَفَرَةِ صُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ فَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ الْخِدَاعِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُجْرُونَهُمْ فِي التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ مَجْرَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَظْهَرُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَسَرُّوا خِلَافَهُ فَمَقْصُودُهُمْ مِنَ الْخِدَاعِ هَذَا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِفْشَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَهُ، وَإِفْشَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْرَارَهُمْ فَيَنْقُلُونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ مِثْلَ الْقَتْلِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هَتْكًا لِسِتْرِهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْصَالِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَبْقَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر «وَمَا يُخَادِعُونَ» وَالْبَاقُونَ «يَخْدَعُونَ» وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ:
مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ مُخَادِعًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ خَادِعِينَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَدْفَعُ ضَرَرَ خِدَاعِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَصْرِفُهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء: ١٤٢] وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤، ١٥] أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: ١٣] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [النمل: ٥٠] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطَّارِقِ: ١٥، ١٦] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: قُرِئَ «وَمَا يخادعون» مِنْ أَخْدَعَ وَ «يَخَدِّعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَخْتَدِعُونَ «وَيُخْدَعُونَ» وَ «يُخَادَعُونَ» عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَثَانِيهَا: النَّفْسُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] وَالْمُرَادُ بِمُخَادَعَتِهِمْ ذَوَاتِهِمْ أَنَّ الْخِدَاعَ/ لَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشُّعُورَ عِلْمُ الشَّيْءِ إِذَا حَصَلَ بِالْحِسِّ، وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ بِهِمْ كَالْمَحْسُوسِ، لَكِنَّهُمْ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ كَالَّذِي لَا يَحُسُّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرَضَ صِفَةٌ تُوجِبُ وُقُوعَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَوْضِعِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَثَرُ الْخَاصُّ بِالْقَلْبِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا صَارَ مَانِعًا مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ أَمْرَاضًا لِلْقَلْبِ. فَإِنْ قِيلَ: الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مَحْمُولًا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلْكُفْرِ وَالْجَهْلِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ فِعْلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا فَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ فِينَا، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ؟ وَثَانِيهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكُفْرِ لَجَازَ مِنْهُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَذَّابِ، فَكَانَ لَا يَبْقَى كَوْنُ الْقُرْآنِ حُجَّةً فَكَيْفَ نَتَشَاغَلُ بِمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَلَقَهُ فِيهِمْ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ كَمَا خَلَقَ لَوْنَهُمْ وَطُولَهُمْ، فَأَيُّ ذَنْبٍ لَهُمْ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ؟ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بِما كانُوا
وَعَلَى هَذَا وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ الْمَرَضُ عَلَى الْغَمِّ، لِأَنَّهُ يُقَالُ مَرِضَ قَلْبِي مِنْ أَمْرِ كَذَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَرِضَتْ قُلُوبُهُمْ لَمَّا رأوا ثبت أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِعْلَاءَ شَأْنِهِ يَوْمًا فَيَوْمًا. وَذَلِكَ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي زوال رئاستهم، كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِعَبْدِ الله بن أبي بن سَلُولَ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لَهُ نَحِّ حِمَارَكَ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ آذَتْنِي رِيحُهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ اعْذِرْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ كُنَّا عَزَمْنَا عَلَى أَنْ نُتَوِّجَهُ الرِّيَاسَةَ قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْنَا:
فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْغَمُّ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَقَالَ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً أَيْ زَادَهُمُ اللَّهُ غَمًّا عَلَى غَمِّهِمْ بِمَا يَزِيدُ فِي إِعْلَاءِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَرَضَهُمْ وَكُفْرَهُمْ كَانَ يَزْدَادُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ التَّكَالِيفِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] وَالسُّورَةُ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا ازْدَادُوا رِجْسًا عِنْدَ نُزُولِهَا لَمَّا كَفَرُوا بِهَا قِيلَ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٥، ٦] وَالدُّعَاءُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّهُمُ ازْدَادُوا فِرَارًا عِنْدَهُ، وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَةِ: ٤٩] وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَفْتِنْهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَفْتَتِنُ عِنْدَ خُرُوجِهِ فَنُسِبَتِ الْفِتْنَةُ إِلَيْهِ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَةِ: ٦٤] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: ٤٢] وَقَوْلُكَ لِمَنْ وَعَظْتَهُ فَلَمْ يَتَّعِظْ وَتَمَادَى فِي فَسَادِهِ: مَا زَادَتْكَ مَوْعِظَتِي إِلَّا/ شَرًّا، وَمَا زَادَتْكَ إِلَّا فَسَادًا فَكَذَا هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لَمَّا كَانُوا كَافِرِينَ ثُمَّ دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى شَرَائِعِ دِينِهِ فَكَفَرُوا بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ وَازْدَادُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ كُفْرًا لَا جَرَمَ أُضِيفَتْ زِيَادَةُ كُفْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً الْمَنْعُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، فَيَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَنْعِ خَاذِلًا لَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [الْمُنَافِقُونَ: ٤] الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ تَصِفُ فُتُورَ الطَّرْفِ بِالْمَرَضِ، فَيَقُولُونَ: جَارِيَةٌ مريضة الطرف. قال جرير:
إن الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا مَرَضٌ | قَتَلْنَنَا ثُمَّ لم يحيين قتلانا |
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الْحَشْرِ: ٢] الْخَامِسُ: أَنْ يُحْمَلَ الْمَرَضُ عَلَى أَلَمِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مُبْتَلًى بِالْحَسَدِ وَالنِّفَاقِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَكْرُوهِ، فَإِذَا دَامَ بِهِ ذَلِكَ فَرُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَيْرِ مِزَاجِ الْقَلْبِ وَتَأَلُّمِهِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمْلٌ لَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَلِمَ فَهُوَ أَلِيمٌ، كَوَجِعَ فَهُوَ وَجِيعٌ، وَوُصِفَ الْعَذَابُ بِهِ فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: جَدَّ جِدُّهُ، وَالْأَلَمُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُؤْلِمِ كَمَا أَنَّ الْجِدَّ لِلْجَادِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْجَاحِظُ لَا يُسَمِّيهِ كَذِبًا إِلَّا إِذَا عَلِمَ الْمُخْبِرُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْخَبَرِ، وهذا الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ صَرِيحٌ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَكْذِبُونَ وَالْمُرَادُ بِكَذِبِهِمْ قوله: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالثَّانِيَةُ:
«يُكَذِّبُونَ» مِنْ كَذَّبَهُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ صَدَّقَهُ، وَمِنْ كَذَّبَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَذَبَ، كَمَا بُولِغَ فِي صَدَقَ فَقِيلَ صَدَّقَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَنِ الْقَائِلُ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ؟ وَثَانِيهَا: مَا الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ؟ وَثَالِثُهَا: مَنِ الْقَائِلُ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ؟
وَرَابِعُهَا: مَا الصَّلَاحُ؟.
أَمَّا المسألة الأولى: [أي من القائل لا تفسدوا في الأرض] فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَخْتَصُّ بِالدِّينِ وَالنَّصِيحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُمْ ذَلِكَ مَنْ شَافَهَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَهُ عَنْهُمُ النِّفَاقُ وَلَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ فَنَصَحَهُمْ فَأَجَابُوا بِمَا يُحَقِّقُ إِيمَانَهُمْ وَأَنَّهُمْ فِي الصَّلَاحِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِ الْفَسَادَ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ مِنْهُمْ وَكَانَ يَنْقَلِبُ وَاعِظًا لَهُمْ قَائِلًا لَهُمْ:
لَا تُفْسِدُوا فَإِنْ قِيلَ: أَفَمَا كَانُوا يُخْبِرُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا عُوتِبُوا عَادُوا إِلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَالنَّدَمِ وَكَذَّبُوا النَّاقِلِينَ عَنْهُمْ وَحَلَفُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: ٧٤] وَقَالَ: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التَّوْبَةِ: ٩٦].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَسَادُ خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَنَقِيضُهُ الصَّلَاحُ فَأَمَّا كَوْنُهُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَمْرًا زَائِدًا، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِظْهَارُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ إِظْهَارَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ سُنَنٌ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا تَمَسَّكَ الْخَلْقُ بِهَا زَالَ الْعُدْوَانُ وَلَزِمَ كُلُّ أَحَدٍ شَأْنَهُ، فَحُقِنَتِ الدِّمَاءُ وَسَكَنَتِ الْفِتَنُ، وَكَانَ فِيهِ صَلَاحُ الْأَرْضِ وَصَلَاحُ أَهْلِهَا، أَمَّا إِذَا تَرَكُوا التَّمَسُّكَ بِالشَّرَائِعِ وَأَقْدَمَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَهْوَاهُ لَزِمَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَالِاضْطِرَابُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَعْرَضُوا عَنِ الطَّاعَةِ لَمْ يَحْصُلُوا إِلَّا عَلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِهِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ الْفَسَادُ هُوَ مُدَارَاةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْكَافِرِينَ وَمُخَالَطَتُهُمْ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَالُوا إِلَى الْكُفْرِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ أَوْهَمَ ذَلِكَ ضَعْفَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعْفَ أَنْصَارِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ يُجَرِّئُ الْكَفَرَةَ عَلَى إِظْهَارِ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَنَصْبِ الْحَرْبِ لَهُ وَطَمَعِهِمْ فِي الْغَلَبَةِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ فِي الْأَرْضِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الأصم:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْأَقْرَبُ فِي مُرَادِهِمْ أَنْ يَكُونَ نَقِيضًا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كَالْمُقَابِلِ لَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِي دِينِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَكَانَ سَعْيُهُمْ لِأَجْلِ تَقْوِيَةِ ذَلِكَ الدِّينِ، لَا جَرَمَ قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، لِأَنَّهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ مَا سَعَوْا إِلَّا لِتَطْهِيرِ وَجْهِ الْأَرْضِ عَنِ الْفَسَادِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا لَا تُفْسِدُوا بِمُدَارَاةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْكُفَّارِ/ فَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يَعْنِي بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَارَاةَ سَعْيٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً [النِّسَاءِ: ٦٢] فَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ نَحْنُ نُصْلِحُ أُمُورَ أَنْفُسِنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَجَبَ إِجْرَاءُ حُكْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ، وَتَجْوِيزُ خِلَافِهِ لَا يَطْعَنُ فِيهِ، وَتَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ مَقْبُولَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فَخَارِجٌ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ لِأَنَّ الْكُفْرَ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، إِذْ فِيهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَإِقْدَامُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَهْوَاهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُودَ الْإِلَهِ وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا تَهَارَجَ النَّاسُ، وَمِنْ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّفَاقَ فَسَادٌ، وَلِهَذَا قَالَ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ على ما تقدم تقريره.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَاهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ قَوْلُهُ: آمِنُوا وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أَيْ إِيمَانًا مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ بَعِيدًا عَنِ النِّفَاقِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ إِيمَانٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِيمَانًا لَمَا تَحَقَّقَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْإِخْلَاصُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: آمِنُوا كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَكَانَ ذِكْرُ قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ لَغْوًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ الْإِخْلَاصُ، أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِقْرَارِ الظَّاهِرِ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرَ فِيهِ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِقَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي النَّاسُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْعَهْدِ أَيْ كَمَا آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُمْ نَاسٌ مَعْهُودُونَ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَشْيَاعُهُ. لِأَنَّهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ والثاني: أنها للجنس ثم ها هنا أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا، مِنْهُمْ وَكَانُوا قَلِيلِينَ، وَلَفْظُ الْعُمُومِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ/ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَعْطَوُا الْإِنْسَانِيَّةَ حَقَّهَا لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِالْعَقْلِ الْمُرْشِدِ والفكر الهادي.
المسألة الثالثة: القائل: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إِمَّا الرَّسُولُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ كَانَ بَعْضُهُمْ يقول لبعض:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: السَّفَهُ الْخِفَّةُ يُقَالُ: سَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّيْءَ إِذَا حركته، قال ذو الرمة:
جرين كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ | أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ الرواسم |
سفيه الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إِذَا مَا | بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الْحَلِيمِ |
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: ٥] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «شَارِبُ الْخَمْرِ سَفِيهٌ» لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَإِنَّمَا سَمَّى الْمُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخَطَرِ وَالرِّيَاسَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فَقُرَاءَ، وَكَانَ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا السَّفِيهُ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَسَبُوهُمْ إِلَى السَّفَاهَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَلَبَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبَ- وَقَوْلُهُ الْحَقُّ- لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدَّلِيلِ ثُمَّ نَسَبَ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ إِلَى السَّفَاهَةِ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ عَادَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَذَلِكَ هُوَ السَّفِيهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَعْلَمُونَ وَفِيمَا قَبْلَهَا: لَا يَشْعُرُونَ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا أَنَّ النِّفَاقَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَغْيِ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَضَرُورِيٌّ جَارٍ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ السَّفَهَ وَهُوَ جَهْلٌ، فَكَانَ ذِكْرُ العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ وَلَاقَيْتُهُ إِذَا اسْتَقْبَلْتَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: «وَإِذَا لَاقَوْا» أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا فَالْمُرَادُ أَخْلَصْنَا بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُمْ فَمَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهِ، إِنَّمَا الْمَشْكُوكُ فِيهِ هُوَ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ «آمَنَّا» يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَقِيضِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ لِشَيَاطِينِهِمْ، وَإِذَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِالْقَلْبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ فِيمَا ذَكَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فَقَالَ صاحب «الكشاف» : يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انْفَرَدْتَ مَعَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ «خَلَا» بِمَعْنَى مَضَى، وَمِنْهُ الْقُرُونُ الْخَالِيَةُ، وَمِنْ «خَلَوْتُ بِهِ» إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِكَ: «خَلَا فُلَانٌ بِعِرْضِ فُلَانٍ» أَيْ: يَعْبَثُ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَنْهَوُا السُّخْرِيَةَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ وَحَدَّثُوهُمْ بِهَا كَمَا تَقُولُ:
أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا وَأَذُمُّهُ إِلَيْكَ. وَأَمَّا شَيَاطِينُهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ مَاثَلُوا الشَّيَاطِينَ فِي تَمَرُّدِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ الْجَوَابُ: هُوَ تَوْكِيدٌ لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ عَلَى الكفر وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ رَدٌّ لِلْإِسْلَامِ، وَرَدُّ نَقِيضِ الشَّيْءِ تَأْكِيدٌ لِثَبَاتِهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ حَقَّرَ الْإِسْلَامَ فَقَدْ عَظَّمَ الْكُفْرَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِأَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وفيه أسئلة. الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْجَهْلِ، لِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ سَمَّاهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ يُسَمَّى بِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا هَجَانِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَاهْجُهُ، اللَّهُمَّ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي»
أَيِ اجْزِهِ جَزَاءَ هِجَائِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَكَلَّفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»
وَثَانِيهَا: أَنَّ ضَرَرَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ ضَارٍّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ اللَّهَ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ الِاسْتِهْزَاءِ حُصُولُ الْهَوَانِ وَالْحَقَارَةِ فَذَكَرَ الِاسْتِهْزَاءَ، وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْهَوَانِ لَهُمْ تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِهْزَاءَ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ خِلَافُهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ فِي السِّرِّ خِلَافُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩- ٣٤] فَهَذَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِي غَايَةِ الْجَزَالَةِ والخفامة. وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْتَهْزِئُ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمُ انْتِقَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُحْوِجُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُمْ بِاسْتِهْزَاءٍ مِثْلِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الْجَوَابُ.
لِأَنَّ «يَسْتَهْزِئُ» يُفِيدُ حُدُوثَ الِاسْتِهْزَاءِ وَتَجَدُّدَهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهَذَا كَانَتْ نِكَايَاتُ اللَّهِ فِيهِمْ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التَّوْبَةِ: ١٢٦] وَأَيْضًا فَمَا كَانُوا يَخْلُونَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ مِنْ تَهَتُّكِ أَسْتَارٍ وَتَكَشُّفِ أَسْرَارٍ وَاسْتِشْعَارِ حَذَرٍ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ يَحْذَرُ/ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: ٦٤] الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٥] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنْ مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ، وَكَذَلِكَ مَدَّ الدَّوَاةَ وَأَمَدَّهَا زَادَهَا مَا يُصْلِحُهَا، وَمَدَدْتُ السِّرَاجَ وَالْأَرْضَ إِذَا أَصْلَحْتَهُمَا بِالزَّيْتِ وَالسَّمَادِ، وَمَدَّهُ الشَّيْطَانُ فِي الْغَيِّ، وَأَمَدَّهُ إِذَا وَاصَلَهُ بِالْوَسْوَاسِ، وَمَدَّ وَأَمَدَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَدَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَأَمَدَّ فِي الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنين: ٥٥] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَدِّ فِي الْعُمْرِ وَالْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ (وَنَمُدُّهُمْ) وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَدَدِ دُونَ الْمَدِّ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي بِمَعْنَى أَمْهَلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَدَّ لَهُ، كَأَمْلَى لَهُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أَضَافَ ذَلِكَ الْغَيَّ إِلَى إِخْوَانِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الطُّغْيَانِ فَلَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَيْهِ.
وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَتِ النُّبُوَّةُ وَبَطَلَ الْقُرْآنُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِتَفْسِيرِهِ عَبَثًا.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «فِي طُغْيَانِهِمْ» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لَمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ خَالِقٍ لِذَلِكَ، وَمِصْدَاقُهُ أَنَّهُ حِينَ أَسْنَدَ الْمَدَّ إِلَى الشَّيَاطِينِ أَطْلَقَ الْغَيَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٢] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ:
التَّأْوِيلُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَنَحَهُمْ أَلْطَافَهُ الَّتِي يَمْنَحُهَا الْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ مُظْلِمَةً بِتَزَايُدِ الظُّلْمَةِ فِيهَا وَتَزَايُدِ النور
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اخْتِيَارُهَا عَلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَمَا كَانُوا عَلَى هُدًى قُلْنَا جُعِلُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِذَا تَرَكُوهُ وَمَالُوا إِلَى الضَّلَالَةِ فَقَدِ اسْتَبْدَلُوهَا بِهِ، وَالضَّلَالَةُ الْجَوْرُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْقَصْدِ وَفَقْدُ الِاهْتِدَاءِ، فَاسْتُعِيرَ لِلذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ فِي الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أُسْنِدَ الْخُسْرَانُ إِلَى التِّجَارَةِ وَهُوَ لِأَصْحَابِهَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى شَيْءٍ يَتَلَبَّسُ بِالَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ كَمَا تَلَبَّسَتِ التِّجَارَةُ بِالْمُشْتَرِي. السُّؤَالُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ شِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَقَعَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا كَانَ ثَمَّ مُبَايَعَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْجَوَابُ: هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَمْرَ الْمَجَازِ وَيُحَسِّنُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ | وَعَشَّشَ فِي وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي |
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَقَّبَهَا بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ.
أَحَدُهُمَا: هَذَا الْمَثَلُ وَفِيهِ إِشْكَالَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ بِمَنْ أُعْطِيَ نُورًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ لَهُ نُورٌ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ قَلِيلًا فَقَدِ انْتَفَعَ بِهَا وَبِنُورِهَا ثُمَّ حُرِمَ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَلَا انْتِفَاعَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ بِالْإِيمَانِ فَمَا وَجْهُ التَّمْثِيلِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ قَدِ اكْتَسَبَ لِنَفْسِهِ النُّورَ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَهَبَ بِنُورِهِ وَتَرَكَهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُنَافِقُ لَمْ يَكْتَسِبْ خَيْرًا وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْحَيْرَةِ فَقَدْ أَتَى فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَ وُصُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ ثم إنهم نافقوا، والتشبيه هاهنا فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَوَّلًا اكْتَسَبُوا نُورًا ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذَلِكَ النُّورَ وَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ حَيْرَةِ الدِّينِ لِأَنَّ الْمُتَحَيِّرَ فِي طَرِيقِهِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ لَا يَخْسَرُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُتَحَيِّرُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يَخْسَرُ نَفْسَهُ فِي الْآخِرَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ. وَثَانِيهَا: إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ بَلْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَبَدًا مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ فَهَهُنَا تَأْوِيلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَقَدْ ظَفِرُوا بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَسَلَامَةِ أَمْوَالِهِمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَأَوْلَادِهِمْ عَنِ السَّبْيِ وَظَفِرُوا بِغَنَائِمِ الْجِهَادِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ ذَلِكَ نُورًا مِنْ أَنْوَارِ الْإِيمَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ قَلِيلًا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتقع بِضَوْئِهَا قَلِيلًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ فَدَامَتْ حَيْرَتُهُ وَحَسْرَتُهُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي أَعْقَابِ النُّورِ، فَكَانَ يَسِيرُ انْتِفَاعُهُمْ فِي الدُّنْيَا يُشْبِهُ النُّورَ وَعَظِيمُ ضَرَرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ لَيْسَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ لِلْمُنَافِقِ نُورًا، بَلْ وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِهَذَا الْمُسْتَوْقِدِ أَنَّهُ لَمَّا زَالَ النُّورُ عَنْهُ تَحَيَّرَ، وَالتَّحَيُّرُ فِيمَنْ كَانَ فِي نُورٍ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ تَحَيُّرِ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي ظُلْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النُّورَ فِي مُسْتَوْقِدِ النَّارِ لِكَيْ يَصِحَّ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ، لَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ مَجْمَعُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِي أَظْهَرُوهُ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النُّورِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَذَهَابُ النُّورِ هُوَ مَا يُظْهِرُهُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ إِنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فَالنَّارُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ: «آمَنَّا» وَذَهَابُهُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ لِلْكُفَّارِ: «إِنَّا مَعَكُمْ» فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ صَارَ مَا يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ مَثَلًا بِالنُّورِ وَهُوَ حِينَ تَكَلَّمَ
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُدَاهُمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالنَّارِ الْمُضِيئَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الَّتِي اشْتَرَوْهَا وَطُبِعَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ بِذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ. وَسَابِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْقِدُ هاهنا مُسْتَوْقِدَ نَارٍ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ تَشْبِيهُ الْفِتْنَةِ الَّتِي حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ إِثَارَتَهَا بِهَذِهِ النَّارِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانُوا يُثِيرُونَهَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: ٦٤] وَثَامِنُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَانْتِظَارِهِمْ لِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ فَكَانَ انْتِظَارُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِيقَادِ النَّارِ، وَكُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَزَوَالِ ذَلِكَ النُّورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالنُّورِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ النُّورَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي كَوْنِهِ هَادِيًا إِلَى الْمَحَجَّةِ وَإِلَى طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَهَذَا حَالُ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَشَبَّهَ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَوِجْدَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي بَابِ الدِّينِ بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَابِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ، لِأَنَّ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَاجِ إِلَى سُلُوكِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ وَالتَّحَيُّرِ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَلَا شَيْءَ كَذَلِكَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ، فَشَبَّهَ تَعَالَى أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هذه الآية، بقيت هاهنا أَسْئِلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَاصِيلِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ مَثَلِهِمْ بِمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، فَمَا مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ وَمَثَلُ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ؟ وَالْجَوَابُ: اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْقِصَّةِ أَوْ لِلصِّفَةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ قِصَّتُهُمُ الْعَجِيبَةُ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: ٣٥] أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: ٦٠] أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الْفَتْحِ: ٢٩] أَيْ وَصْفُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا: فُلَانٌ مَثَلُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَاشْتَقُّوا/ مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مُثِّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ «الَّذِي» مَوْضِعَ «الَّذِينَ» كَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: ٦٩] وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ «الَّذِي» لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ مُسْتَطَالًا بِصِلَتِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ أَعَلُّوهُ بِالْحَذْفِ فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى اللَّامِ وَحْدَهَا فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْمُسْتَوْقِدِينَ أَوْ أُرِيدَ الْجَمْعُ أَوِ الْفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَذَوَاتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذَاتِ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا شُبِّهَتْ قِصَّتُهُمْ بِقِصَّةِ الْمُسْتَوْقِدِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ [الْجُمُعَةِ: ٥] وَقَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ
[مُحَمَّدٍ: ٢٠] وَرَابِعُهَا: الْمَعْنَى وَمَثَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: ٦٧] أَيْ يُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْوُقُودُ؟ وَمَا النَّارُ؟ وَمَا الْإِضَاءَةُ؟ وَمَا النُّورُ؟
مَا الظُّلْمَةُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا وُقُودُ النَّارِ فَهُوَ سُطُوعُهَا وَارْتِفَاعُ لَهَبِهَا، وَأَمَّا النَّارُ فَهُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ، حَارٌّ مُحْرِقٌ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ نَارَ يَنُورُ إِذَا نَفَرَ، لِأَنَّ فِيهَا حَرَكَةً وَاضْطِرَابًا، وَالنُّورُ مُشْتَقٌّ مِنْهَا وَهُوَ ضَوْؤُهَا، وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ، وَالْمَنَارَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ أَيْضًا لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ السِّرَاجُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ النُّورَةُ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَالْإِضَاءَةُ فَرْطُ الْإِنَارَةِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: ٥] وَ «أَضَاءَ» يَرِدُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. تَقُولُ: أَضَاءَ الْقَمَرُ الظُّلْمَةَ، وَأَضَاءَ الْقَمَرُ بِمَعْنَى اسْتَضَاءَ قَالَ الشَّاعِرُ: -
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ | دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهُ |
لَا يُبْصِرُونَ السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ وَالْجَوَابُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَذْهَبَ وَذَهَبَ بِهِ أَنَّ مَعْنَى أَذْهَبَهُ أَزَالَهُ وَجَعَلَهُ ذَاهِبًا، وَيُقَالُ ذَهَبَ بِهِ إِذَا اسْتَصْحَبَهُ، وَمَعْنَى بِهِ مَعَهُ، وَذَهَبَ السُّلْطَانُ بِمَالِهِ أَخَذَهُ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يُوسُفَ: ١٥] إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] وَالْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ نُورَهُمْ وَأَمْسَكَهُ وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ [فَاطِرٍ: ٢] فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِذْهَابِ وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ «أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ». السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا مَعْنَى (وَتَرَكَهُمْ) ؟ وَالْجَوَابُ: تَرَكَ إِذَا عُلِّقَ بِوَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى طَرَحَ وَإِذَا عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَجْرِي مَجْرَى أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ أَصْلُهُ هُمْ فِي ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لِمَ حُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ لَا يُبْصِرُونَ؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَتْرُوكِ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِخْطَارِهِ بِالْبَالِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقَدَّرِ الْمَنْوِيِّ، كَأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ متعد أصلًا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الثَّانِي لِلْمُنَافِقِينَ وَكَيْفِيَّةُ الْمُشَابَهَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ السَّحَابُ الَّذِي فِيهِ الظُّلُمَاتُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ وَاجْتَمَعَ مَعَ ظُلْمَةِ السَّحَابِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْمَطَرِ عِنْدَ وُرُودِ الصَّوَاعِقِ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَأَنَّ الْبَرْقَ يَكَادُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذَا ذَهَبَ بَقُوا فِي ظُلْمَةٍ عَظِيمَةٍ فَوَقَفُوا مُتَحَيِّرِينَ لِأَنَّ مَنْ أصحابه الْبَرْقُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهُ تَشْتَدُّ حَيْرَتُهُ. وَتَعْظُمُ الظُّلْمَةُ فِي عَيْنِهِ، وَتَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي الظُّلْمَةِ، فَشَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيْرَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِالدِّينِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ طَرِيقًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَطَرَ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الضَّارَّةِ صَارَ النَّفْعُ بِهِ زَائِلًا، فَكَذَا إِظْهَارُ الْإِيمَانِ نَافِعٌ لِلْمُنَافِقِ لَوْ وَافَقَهُ الْبَاطِنُ: فَإِذَا فُقِدَ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ وَحَصَلَ مَعَهُ النِّفَاقُ صَارَ ضَرَرًا فِي الدِّينِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَ الصَّوَاعِقِ ظَنَّ الْمَخْلَصَ مِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُنَجِّيهِ مِمَّا يُرِيدُهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَلَاكٍ وَمَوْتٍ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْعَادَاتِ شَبَّهَ تَعَالَى حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ إِظْهَارَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَظْهَرُوهُ يَنْفَعُهُمْ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ عَادَةَ الْمُنَافِقِينَ كَانَتْ هِيَ التَّأَخُّرَ عَنِ الْجِهَادِ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، فَشَبَّهَ اللَّهُ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِهِ وَأَرَادَ دَفْعَهَا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَإِنْ تَخَلَّصُوا عَنِ الْمَوْتِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَإِنَّ الْمَوْتَ وَالْهَلَاكَ مِنْ وَرَائِهِمْ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَنَّ الَّذِي يَخُوضُونَ فِيهِ لَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الْحَيْرَةِ لِاجْتِمَاعِ أَنْوَاعِ الظُّلُمَاتِ وَحُصُولِ أَنْوَاعِ الْمَخَافَةِ، وَحَصَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ نِهَايَةُ الْحَيْرَةِ فِي بَابِ الدِّينِ وَنِهَايَةُ الْخَوْفِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يَتَصَوَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى بَاطِنِهِ لَقُتِلَ، فَلَا يَكَادُ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ يَزُولُ عَنْ قَلْبِهِ مَعَ النِّفَاقِ. وَسَابِعُهَا:
الْمُرَادُ مِنَ الصَّيِّبِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ، وَالظُّلُمَاتُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ هُوَ الْأَشْيَاءُ الشَّاقَّةُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهِيَ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الرِّيَاسَاتِ/ وَالْجِهَادِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَتَرْكِ الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ،
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ | لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا |
كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيئًا»
أَيْ مَطَرًا جُودًا وَأَيْضًا يُقَالُ لِلسَّحَابِ صَيِّبٌ قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الْوَعْدِ صَيِّبِ
وَتَنْكِيرُ صَيِّبٍ لِأَنَّهُ أُرِيدَ نَوْعٌ مِنَ الْمَطَرِ شَدِيدٌ هَائِلٌ، كَمَا تَنَكَّرَتِ النَّارُ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، وَقُرِئَ «أَوْ كَصَائِبٍ» وَصَيِّبٌ أَبْلَغُ: وَالسَّمَاءُ هَذِهِ الْمِظَلَّةُ. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ مِنَ السَّمَاءِ. مَا الْفَائِدَةُ فِيهِ وَالصَّيِّبُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَوْ قَالَ. أَوْ كَصَيِّبٍ فِيهِ ظُلُمَاتٌ. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّيِّبُ نَازِلًا مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ السَّمَاءِ دُونَ بَعْضٍ، أَمَّا لَمَّا قَالَ مِنَ السَّمَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مُطْبِقٌ آخِذٌ بِآفَاقِ السَّمَاءِ فَكَمَا حَصَلَ فِي لَفْظِ الصَّيِّبِ مُبَالَغَاتٌ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِيبِ وَالتَّنْكِيرِ أَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ جَعَلَهُ مُطْبِقًا، الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمَطَرُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ ارْتِفَاعِ أَبْخِرَةٍ رَطْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْهَوَاءِ فَتَنْعَقِدُ هُنَاكَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِ الْهَوَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَذَاكَ هُوَ الْمَطَرُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبطل ذلك المذهب هاهنا بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّيِّبَ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، كَذَا قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: ٤٨] وَقَوْلُهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: ٤٣] السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ؟ الْجَوَابُ: الرَّعْدُ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ كَأَنَّ أَجْرَامَ السَّحَابِ تَضْطَرِبُ وَتَنْتَقِضُ وَتَرْتَعِدُ إِذَا أَخَذَتْهَا الرِّيحُ فَصَوَّتَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ الِارْتِعَادِ وَالْبَرْقُ الَّذِي يَلْمَعُ مِنَ السَّحَابِ مِنْ بَرَقَ الشَّيْءُ بَرِيقًا إِذَا لَمَعَ. السُّؤَالُ السَّابِعُ: الصَّيِّبُ هُوَ الْمَطَرُ وَالسَّحَابُ فَأَيُّهُمَا أُرِيدَ فَمَا ظُلُمَاتُهُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا ظُلُمَاتُ السَّحَابِ فَإِذَا كَانَ أَسْحَمَ مُطْبِقًا فَظُلْمَتُهُ سُحْمَتُهُ وَتَطْبِيقُهُ مَضْمُومَةٌ إِلَيْهِمَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَأَمَّا ظُلْمَةُ الْمَطَرِ فَظُلْمَتُهُ تَكَاثُفُهُ وَانْسِجَامُهُ بِتَتَابُعِ الْقَطْرِ وَظُلْمَتُهُ إِظْلَالُ الْغَمَامَةِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. السُّؤَالُ الثَّامِنُ: كَيْفَ يَكُونُ الْمَطَرُ مَكَانًا لِلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَإِنَّمَا مَكَانُهُمَا السَّحَابُ. الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ بَيْنَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ شَدِيدًا جَازَ إِجْرَاءُ أَحَدِهِمَا مَجْرَى الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ. السُّؤَالُ التَّاسِعُ: هَلَّا قِيلَ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ كَمَا قِيلَ ظُلُمَاتٌ؟ الْجَوَابُ: الْفَرْقُ أَنَّهُ حَصَلَتْ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَاحْتِيجَ إِلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، أَمَّا الرَّعْدُ فَإِنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْبَرْقُ وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَنْوَاعِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ فِي السَّحَابِ الْوَاحِدِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الْجَمْعِ. السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: لِمَ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُنَكَّرَاتٍ. الْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ فِيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ وَرَعْدٌ قَاصِفٌ/ وَبَرْقٌ خَاطِفٌ. السُّؤَالُ الْحَادِي عَشَرَ: إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي «يَجْعَلُونَ».
الْجَوَابُ: إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ باقٍ فِي الْمَعْنَى وَلَا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ لِكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ عَلَى مَا يُؤْذِنُ بِالشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مِثْلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ فَقِيلَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَرْقِ فَقَالَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ
[البقرة: ٢٠] السُّؤَالُ الثَّانِي عَشَرَ: رُءُوسُ الْأَصَابِعِ هِيَ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْآذَانِ فَهَلَّا قِيلَ أَنَامِلُهُمْ؟
الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأُصْبُعَ لَكِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: ٣٨] الْمُرَادُ بَعْضُهُمَا. السُّؤَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَا الصَّاعِقَةُ؟ الْجَوَابُ: إِنَّهَا قَصْفُ رَعْدٍ يَنْقَضُّ مِنْهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ وَهِيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهَا مَعَ قُوَّتِهَا سَرِيعَةُ الْخُمُودِ. السُّؤَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا إِحَاطَةُ اللَّهِ بِالْكَافِرِينَ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ مَجَازٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطُ بِهِ الْمُحِيطَ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطَّلَاقِ: ١٢] وَثَانِيهَا: قُدْرَتُهُ مُسْتَوْلِيَةٌ
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٠] فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ يَقُولُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ فِي حَالَتَيْ ظُهُورِ الْبَرْقِ وَخَفَائِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَمْثِيلُ شِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً مَعَ خَوْفِ أَنْ يَخْطَفَ أَبْصَارَهُمُ انْتَهَزُوا تِلْكَ الْخَفْقَةَ فُرْصَةً فَخَطَوْا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً، فَإِذَا خَفِيَ وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ بَقُوا وَاقِفِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَزَادَ فِي قَصْفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ، وَفِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ. وَأَضَاءَ إِمَّا مُتَعَدٍّ بِمَعْنَى كُلَّمَا نَوَّرَ لَهُمْ مَسْلَكًا أَخَذُوهُ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِمَعْنَى كُلَّمَا لَمَعَ لَهُمْ مَشَوْا فِي مَطْرَحِ نُورِهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «كُلَّمَا ضَاءَ» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ مَعَ الْإِضَاءَةِ كُلَّمَا، وَمَعَ الْإِظْلَامِ إِذَا: قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء، فَكُلَّمَا صَادَفُوا مِنْهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ، وَالْأَقْرَبُ فِي أَظْلَمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَعْنَى قَامُوا وَقَفُوا وَثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ، وَمِنْهُ قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَ الْمَاءُ جَمَدَ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وهاهنا مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ «لَوْ» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: ٢٣] فَلَوْ أَفَادَتْ كَلِمَةُ لَوِ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لَا انْتِفَاءَ غَيْرِهِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ/ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ وَقَوْلُهُ:
وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَا تَوَلَّوْا وَلَكِنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا، وَمَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»
فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَنَّهُ خَافَ اللَّهَ وَعَصَاهُ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» لَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْمَوْجُودُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمَوْجُودِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ مَعْدُومٌ وَهُوَ شَيْءٌ فَالْمَعْدُومُ شَيْءٌ.
وَالْجَوَابُ: لَوْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ لَزِمَ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ شَيْئًا، فَالْمَوْجُودُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرِ اللَّهُ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ جَهْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَقْدُورٍ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] قَالَ لَوْ كَانَ هُوَ تَعَالَى شَيْئًا لَكَانَ تَعَالَى مِثْلَ نَفْسِهِ فَكَانَ يُكَذِّبُ قَوْلَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْئًا حَتَّى لَا تَتَنَاقَضَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي الِاسْمِ، لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ
[الْأَنْعَامِ: ١٩] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصُ: ٨٨] وَالْمُسْتَثْنَى دَاخِلٌ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَقْدُورَ الْعَبْدِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مَقْدُورَ الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ حَالَ حُدُوثِهِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ مُحَالٌ، فَالشَّيْءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَقْدُورًا قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَبَيَانُ اسْتِدْلَالِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُحْدَثَ حَالَ وُجُودِهِ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْبَاقِي مَقْدُورًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّهُ حَالَ الْبَقَاءِ مَقْدُورُهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهِ، أَمَّا حَالَ الْحُدُوثِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَى إِعْدَامِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَصِيرَ مَعْدُومًا فِي أَوَّلِ زَمَانِ وُجُودِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَيْضًا تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَائِزٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٨٤] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ خُصَّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلْكُلِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي الْكُلِّ كَانَ هَذَا كَذِبًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ، قُلْنَا:
لَفْظُ الْكُلِّ كَمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَجْمُوعِ. فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْأَكْثَرِ، / وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فيه كذباً والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
[القول في إقامة الدلالة على التوحيد]
الْقَوْلُ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ والمعاد أما التوحيد فقوله:
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ أَحْكَامَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَفِيهِ فَوَائِدُ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهِ مَزِيدَ هَزٍّ وَتَحْرِيكٍ مِنَ السَّامِعِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ حَاكِيًا عَنْ ثَالِثٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنْ قِصَّتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ تُخَاطِبُ ذَلِكَ الثَّالِثَ فَقُلْتَ: يَا فُلَانُ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَسْلُكَ الطَّرِيقَةَ الْحَمِيدَةَ فِي مَجَارِي أُمُورِكَ، فَهَذَا الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ يُوجِبُ مَزِيدَ تَحْرِيكٍ لِذَلِكَ الثَّالِثِ. وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ:
جَعَلْتُ الرَّسُولَ وَاسِطَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَوَّلًا ثُمَّ الْآنَ أَزِيدُ فِي إِكْرَامِكَ وَتَقْرِيبِكَ، فَأُخَاطِبُكَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، لِيَحْصُلَ لَكَ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، شَرَفُ الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُكَالَمَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّهُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ في القرآن: يا أَيُّهَا النَّاسُ فإنه مكي، وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَبِالْمَدِينَةِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى النَّقْلِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ حُصُولَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ دُونَ مَكَّةَ/ فَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ مَرَّةً بِصِفَتِهِمْ، وَمَرَّةً بِاسْمِ جِنْسِهِمْ، وَقَدْ يُؤْمَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا، فَالْخِطَابُ فِي الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي الْأَغْلَبِ عِبَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ هِيَ: إِمَّا الْأَلْفَاظُ أَوْ غَيْرُهَا، أَمَّا الْأَلْفَاظُ فَهِيَ: كَالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ يَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، هُوَ فِي نَفْسِهِ لَفْظٌ مَخْصُوصٌ، وَغَيْرُ الْأَلْفَاظِ: فَكَالْحَجَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظُ النِّدَاءِ لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَامِلٌ لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَنَا: «يَا زَيْدُ» بِأُنَادِي زَيْدًا، أَوْ أُخَاطِبُ زَيْدًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا. أُنَادِي زَيْدًا، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَقَوْلُنَا يَا زَيْدُ، لَا يَحْتَمِلُهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ، يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُنَادًى فِي الْحَالِ، وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا، لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يُخْبِرُ إِنْسَانًا آخَرَ بِأَنِّي أُنَادِي زَيْدًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا، إِخْبَارٌ عَنِ النِّدَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ النِّدَاءِ غَيْرُ النِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ هُوَ قَوْلُنَا: يَا زَيْدُ، فَإِذَنْ قَوْلُنَا: أُنَادِي زَيْدًا، غَيْرُ قَوْلِنَا يَا زَيْدُ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوجوه فساد هذا القول. ثم هاهنا نُكْتَةٌ نَذْكُرُهَا وَهِيَ: أَنَّ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ الِاسْمُ، وَأَضْعَفَهَا الْحَرْفُ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَأْتَلِفُ الِاسْمُ بِالْحَرْفِ، وَكَذَا أَعْظَمُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَضْعَفُهَا الْبَشَرُ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: ٢٨] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَقِيلَ قَدْ يَأْتَلِفُ الِاسْمُ مَعَ الْحَرْفِ فِي حَالِ النِّدَاءِ، فَكَذَا الْبَشَرُ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ حَالَ النِّدَاءِ وَالتَّضَرُّعِ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠].
المسألة الرابعة: «ياء» حَرْفٌ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ لَكِنْ لِسَبَبِ أَمْرٍ مُهِمٍّ جِدًّا، وَأَمَّا نِدَاءُ الْقَرِيبِ فَلَهُ: أَيْ وَالْهَمْزَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي نِدَاءِ مَنْ سَهَا وَغَفَلَ وَإِنَ قَرُبَ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يَقُولُ الدَّاعِي يَا رَبِّ يَا أَللَّهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قُلْنَا هُوَ اسْتِبْعَادٌ لِنَفْسِهِ مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى وَمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِقْرَارًا عَلَيْهَا بِالتَّنْقِيصِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْإِجَابَةَ بِمُقْتَضَى
قَوْلِهِ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي»
أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ لِلدَّاعِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «أَيْ» وَصْلَةٌ إِلَى نِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا أَنَّ «ذُو» وَ «الَّذِي» وَصْلَتَانِ إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَوَصْفِ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَفْتَقِرُ إِلَى مَا يُزِيلُ إِبْهَامَهُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُرْدِفَهُ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَتَّصِفُ بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَالَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ النِّدَاءِ هُوَ أَيْ والاسم
وُقُوعُهَا عِوَضًا/ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنَّمَا كَثُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى النِّدَاءُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِهَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ وَالْمُبَالَغَاتِ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَادَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَاقْتِصَاصِ أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأُمُورٍ عِظَامٍ، وَأَشْيَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَتَيَقَّظُوا لَهَا مَعَ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا، فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يُنَادَوْا بِالْأَبْلَغِ الآكد.
المسألة السادسة: اعلم أن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ كُلَّ النَّاسِ بِالْعِبَادَةِ فَلَوْ خَرَجَ الْبَعْضُ عَنْ هَذَا الْخِطَابِ لَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ. وهاهنا أَبْحَاثٌ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي هَاشِمٍ، لَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: ١٥] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِهِ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ تَأْكِيدًا بَلْ بَيَانًا وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ عَنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْبَحْثُ الثاني: لما ثبت أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَهَلْ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يتناولهم، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَخِطَابُ الْمُشَافَهَةِ مَعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ إِنْسَانًا وَمَا لَا يَكُونُ إِنْسَانًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنْ قِيلَ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا. قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ لَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا عَرَفْنَا بِالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تِلْكَ الْخِطَابَاتِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَلِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْمُنْفَصِلَةِ حَكَمْنَا بالعموم. البحث الثالث: قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أَمْرٌ لِلْكُلِّ بِالْعِبَادَةِ فَهَلْ يُفِيدُ أَمْرُ الْكُلِّ بِكُلِّ عِبَادَةٍ؟ الْحَقُّ لَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْبُدُوا مَعْنَاهُ ادْخُلُوا هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ فِي الْوُجُودِ، فَإِذَا أَتَوْا بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ أَدْخَلُوا الْمَاهِيَّةَ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْفَرْدَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِبَادَةِ مَعَ قَيْدِ كَوْنِهَا هَذِهِ وَمَتَى وُجِدَ الْمُرَكَّبَ فَقَدْ وُجِدَ قَيْدَاهُ، فَالْآتِي بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِبَادَةِ آتٍ بِالْعِبَادَةِ، وَالْآتِي بِالْعِبَادَةِ آتٍ بِتَمَامِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: اعْبُدُوا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَجْعَلَهُ دَالًّا عَلَى الْعُمُومِ نَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا عِبَادَةً لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ الْوَصْفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مناسباً للحكم، وهاهنا كَوْنُ الْعِبَادَةِ عِبَادَةً يُنَاسِبُ الْأَمْرَ بِهَا، لِمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ لَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ فِي الْعُقُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ عِبَادَةً عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِهَا وَجَبَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، لِأَنَّهُ أَيْنَمَا حَصَلَتِ الْعِلَّةُ وَجَبَ حُصُولُ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لقائل أن يقول: قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا لَا يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُمْكِنُ أَنْ/ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَارِفٍ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَالَ كَوْنِهِ عَارِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا إِنْ تَنَاوَلَهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَارِفٍ بِاللَّهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِلْمَ
مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ مِلْكِ النِّصَابِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً فَقَالَ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ حَاصِلٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا لَمْ تَصِحَّ إِلَّا بِإِحْضَارِ الْمَاءِ كَانَ إِحْضَارُ الْمَاءِ وَاجِبًا، وَالدَّهْرِيُّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ إِلَّا بِتَقْدِيمِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَتْ، وَالْمُحْدِثُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَتْ، وَالْمُودِعُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْوَدِيعَةِ إِلَّا بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا، فَكَانَ السعي واجباً، فكذا هاهنا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُخَاطَبًا بِالْعِبَادَةِ وَشَرْطُ الْإِتْيَانِ بِهَا الْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. بَقِيَ لَهُمْ: الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ مُحَالٌ، قُلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةٌ فِي الأصول والذي نقول هاهنا إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ تَمَّ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ يَكُونُ اللَّهُ آمِرًا عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. فَلِمَ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ؟
سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أن يقال هذا الأمر يتناول الْمُؤْمِنِينَ؟ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا لَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَنَحْمِلُهُ إِمَّا عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ عَلَى الْأَمْرِ بِالِازْدِيَادِ مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ، فَصَحَّ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: «اعْبُدُوا» بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَةِ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَالَ مُنْكِرُو التَّكْلِيفِ: لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّكْلِيفِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ اسْتِوَاءِ دَوَاعِيهِ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ فِي حَالِ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ التَّرْجِيحِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُنَاقِضُ التَّرْجِيحَ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ وَالتَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِيِينَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالرَّاجِحُ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ حَالَ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلرَّاجِحِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَإِلَّا فَقَدْ/ وَقَعَ الْمُمْكِنُ لَا عَنْ مُرَجِّحٍ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ فَبِأَنْ يَصِيرَ حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ كَانَ الرَّاجِحُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالتَّكْلِيفُ إِنْ وَقَعَ بِالرَّاجِحِ كَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا بِإِيجَادِ مَا يَجِبُ وُقُوعُهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِالْمَرْجُوحِ كَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا بِمَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، وَكِلَاهُمَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ التَّكْلِيفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ وُقُوعَهُ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ فَلَا فَائِدَةَ فِي وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، وَإِنْ عُلِمَ لَا وُقُوعُهُ كَانَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَاجِبَ الْعَدَمِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِهِ أَمْرًا بِإِيقَاعِ الْمُمْتَنِعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْجَهْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الطَّاعَةِ فَائِدَةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ بِالتَّكَالِيفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ فَهِيَ إِمَّا عَائِدَةٌ إِلَى
والجواب: عن الشبه الثلاثة الأول مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الشُّبَهِ أَوْجَبُوا بِمَا ذَكَرُوهُ اعْتِقَادَ عَدَمِ التَّكَالِيفِ فَهَذَا تَكْلِيفٌ يَنْفِي التَّكْلِيفَ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ. الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَنَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ مَالِكٌ، وَالْمَالِكُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ:
قَالُوا: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ النَّاسِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَفْهَمُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي، وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣].
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ طَاعَةَ مَوَالِيهِمْ، وَاشْتِغَالُهُمْ بِطَاعَةِ الْمَوَالِي يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْأَمْرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْمَوْلَى/ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُودِ الْعِبَادَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ خَلْقِهِ لَنَا وَالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلْقُهُ إِيَّانَا وَإِنْعَامُهُ عَلَيْنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اشْتِغَالُنَا بِالْعِبَادَةِ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَحِقُّ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ شَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ عَلَى الْعِبَادَةِ ثَوَابًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا قَوْلُهُ: رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ خَلْقُ الْمُكَلَّفِينَ وَخَلْقُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَعَنَ قَوْمٌ مِنَ الْحَشْوِيَّةِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَالُوا الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْعِلْمِ بِدْعَةٌ وَلَنَا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وهاهنا ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ فَمَهْمَا كَانَ الْمَعْلُومُ أَشْرَفَ كَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِهِ أَشْرَفَ فَلَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا أَوْ غَيْرَ دِينِيٍّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِ الدِّينِيِّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الدِّينِيُّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عِلْمَ الْأُصُولِ، أَوْ مَا عَدَاهُ، أَمَّا مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ إِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى وُجُودِ
أولها: ما ذكر هاهنا مِنَ الدَّلَائِلِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ خَلْقُ الْمُكَلَّفِينَ وَخَلْقُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَخَلْقُ السَّمَاءِ وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَخَلْقُ الثَّمَرَاتِ مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَجَائِبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ. أَمَّا الْعِلْمُ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥، ٦] وَهَذَا هُوَ عَيْنُ دَلِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَإِتْقَانِهَا عَلَى عِلْمِ الصانع، وهاهنا اسْتَدَلَّ الصَّانِعُ سُبْحَانَهُ بِتَصْوِيرِ الصُّوَرِ فِي الْأَرْحَامِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ، وَقَالَ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْمُلْكِ: ١٤] وَهُوَ عَيْنُ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَقَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُخْبِرٌ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فَتَقَعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، فَلَوْلَا كَوْنُهُ
مَعَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِتَغَيُّرِهَا عَلَى حُدُوثِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَامِ: ٨٣] وَثَانِيهَا: حَالُهُ مع أبيه وهو قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَثَالِثُهَا: حَالُهُ مَعَ قَوْمِهِ تَارَةً بِالْقَوْلِ وَأُخْرَى بِالْفِعْلِ، أَمَّا بِالْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٢] وَأَمَّا بِالْفِعْلِ فَقَوْلُهُ:
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٨]. وَرَابِعُهَا: حَالُهُ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ فِي قَوْلِهِ:
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] إِلَى آخِرِهِ وَكُلُّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ عَلِمَ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ لَيْسَ إِلَّا تَقْرِيرَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَدَفْعَ الْأَسْئِلَةِ وَالْمُعَارَضَاتِ عَنْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ بَحْثُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا بَحْثُهُ فِي الْمَعَادِ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: ٢٦] إِلَى آخِرِهِ وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَانْظُرْ إِلَى مُنَاظَرَتِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، أَمَّا التَّوْحِيدُ فَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يُعَوِّلُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى في سوطه طه: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طَه: ٤٩، ٥٠] وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
[الشُّعَرَاءِ: ٢٦] وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ وَطَالَبَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ قَالَ مُوسَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشُّعَرَاءِ: ٢٨] وهذا هو الذي قال إبراهيم عليه السلام فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: ٢٥٨] فَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ حِرْفَةُ هَؤُلَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَنَّهُمْ كَمَا اسْتَفَادُوهَا مِنْ عُقُولِهِمْ فَقَدْ تَوَارَثُوهَا مِنْ أَسْلَافِهِمُ الطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مُوسَى عَلَى النُّبُوَّةِ/ بِالْمُعْجِزَةِ فَفِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء: ٣٠] وَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاشْتِغَالُهُ بِالدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى التَّطْوِيلِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْهُ وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْتَلًى بِجَمِيعِ فِرَقِ الْكُفَّارِ فَالْأَوَّلُ: الدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: ٢٤] وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِأَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِحُدُوثِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَأَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ. وَالثَّالِثُ: الَّذِينَ أَثْبَتُوا شَرِيكًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الشَّرِيكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُلْوِيًّا أَوْ سُفْلِيًّا، أَمَّا الشَّرِيكُ الْعُلْوِيُّ فَمِثْلُ مَنْ جَعَلَ الْكَوَاكِبَ مُؤَثِّرَةً فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَهُ بِدَلِيلِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَمَّا الشَّرِيكُ السُّفْلِيُّ فَالنَّصَارَى قَالُوا بِإِلَاهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَالُوا: بِإِلَاهِيَّةِ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ. الرَّابِعُ: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي النُّبُوَّةِ وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَهُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤]. وَالثَّانِي: الَّذِينَ سَلَّمُوا أَصْلَ النُّبُوَّةِ وَطَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ طَعْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ تَارَةً بِالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَجَابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً [الْبَقَرَةِ: ٢٦] وَتَارَةً بِالْتِمَاسِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ كَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] وَتَارَةً بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ نَجْمًا نَجْمًا وَذَلِكَ يُوجِبُ تَطَرُّقَ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: ٣٢].
الْخَامِسُ: الَّذِينَ نَازَعُوا فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَعَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. السَّادِسُ: الَّذِينَ طَعَنُوا فِي التَّكْلِيفِ تَارَةً بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] وَتَارَةً بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْجَبْرُ، وَأَنَّهُ يُنَافِي صِحَّةَ التَّكْلِيفِ، وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهَذِهِ الْإِشَارَاتِ الْمُخْتَصَرَةِ لِأَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِيهَا مَذْكُورٌ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْحِرْفَةَ هِيَ حِرْفَةُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلِمْنَا أَنَّ الطَّاعِنَ فِيهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ جَاهِلًا. الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ. أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الْبَاقِي، فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ تَقْلِيدُ الْكُلِّ فَيَلْزَمُنَا تَقْلِيدُ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَنْ يُوجَبَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ مُكَلَّفًا بِتَقْلِيدِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى أَنَّهُ لِمَ قَلَّدَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجُوزَ التَّقْلِيدُ أَصْلًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةُ النَّظَرِيَّةُ. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ أَمَّا الْآيَاتُ. فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِالْحِكْمَةِ أَيْ بِالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، فَكَانَتِ الدَّعْوَةُ/ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَأْمُورًا بِهَا، وَقَوْلُهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُجَادَلَةَ فِي فُرُوعِ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَلِقَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: ٢١] فَوَجَبَ كَوْنُنَا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الْجِدَالِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَجِّ: ٣، ٨ لُقْمَانَ: ٢٠] ذَمُّ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُجَادِلَ بِالْعِلْمِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا بَلْ يَكُونُ مَمْدُوحًا وَأَيْضًا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نُوحٍ فِي قوله: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: ٣٢] وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالنَّظَرِ فَقَالَ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النِّسَاءِ: ٨٢]، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةِ: ١٧]، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: ٥٣]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْدِ: ٤١]، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: ١٠١]، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّفَكُّرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ فَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزُّمَرِ: ٢١]، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣]، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: ٥٤، ١٢٨] وأٌضاً ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُفَ: ١٠٥]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] وَخَامِسُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ، فَقَالَ حِكَايَةً عن الكفار إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: ٢٣] وَقَالَ: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَانَ: ٢١] وَقَالَ: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٤] وَقَالَ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفُرْقَانِ: ٤٢] وَقَالَ عَنْ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَمِّ التَّقْلِيدِ فَمَنْ دَعَا إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَانَ عَلَى وَفْقِ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ دَعَا إِلَى التَّقْلِيدِ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ وَعَلَى وِفَاقِ دِينِ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَفِيهَا كَثْرَةٌ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: مَا
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي وَضَعَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ، فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ»
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْإِلْزَامِ وَالْقِيَاسِ. وَثَانِيهَا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي. أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ خَلْقِهِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ»
فَانْظُرْ كَيْفَ احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي احْتَجَّ بِالْأَحَدِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْوَالِدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا:
رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ/ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَذَاكَ كَرَاهَتُنَا لِقَاءَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:» لَا وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهَ لِقَاءَهُ، وَالْكَافِرَ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ
وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَالْفِكْرَ فِي الدَّلَائِلِ مَأْمُورٌ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْخَصْمِ مَقَامَاتٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ النَّظَرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّظَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ غَيْرُ مَقْدُورٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ مَا أَمَرَ بِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ بِدْعَةٌ.
أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّظَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَنَا فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تحصيل
أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَيَّزَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ عَنْ غَيْرِهِ وَالْعِلْمُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ دُونَ الْجَهْلِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ لَوْ عُلِمَ الْمَعْلُومُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِيجَادِ الْعَلَمِ وَلَا مِنْ طَلَبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّظَرِ، إِمَّا ضَرُورَةُ الْعَقْلِ، أَوِ النَّظَرِ أَوِ السَّمْعِ. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَقْلُ فِيهِ، وَوُجُوبُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَسْتَقْبِحُونَهُ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ فِي الْأَكْثَرِ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَهْلِ، فَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَالثَّانِي:
أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ يَكُونُ نَظَرِيًّا، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ النَّظَرِ قَبْلَ النَّظَرِ، فَتَكْلِيفُهُ بِذَلِكَ يَكُونُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا بَعْدَ النَّظَرِ فَلَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَبْلَ النَّظَرِ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ وُجُوبِ النَّظَرِ، وَبَعْدَ النَّظَرِ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَابُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْأَقْسَامُ ثَبَتَ نَفْيُ الْوُجُوبِ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ النَّظَرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ وَمَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، لَكِنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمُكَلَّفَ بِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّظَرَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَهْلِ فَالْمُقْدِمُ عَلَيْهِ مُقْدِمٌ عَلَى أَمْرٍ يُفْضِي بِهِ غَالِبًا إِلَى الْجَهْلِ. وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ قَبِيحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِكْرُ قَبِيحًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْقَبِيحِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ وَضَعْفِ الْخَاطِرِ وَمَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَعَارِضَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَلَمَّا رَأَيْنَا أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَعَ خَصْمِهِ ثُمَّ إِذَا تَرَكُوا التَّعَصُّبَ وَاللَّجَاجَ وَأَنْصَفُوا، وَجَدُوا الْكَلِمَاتِ مُتَعَارِضَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ إِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَدَارَ الدِّينِ لَوْ كان
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ قَبِيحٍ، وَلَكِنَّا نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَا أَمَرَا بِذَلِكَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ لَا تَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِدَلَائِلِهَا عِلْمًا ضَرُورِيًّا غَنِيًّا عَنِ التَّعَلُّمِ وَالِاسْتِفَادَةِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهَا إِلَى/ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِفَادَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ لِكُلِّ النَّاسِ وَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَلِأَنَّا نُجَرِّبُ أَذْكَى النَّاسِ فِي هَذَا الْعِلْمِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ فِي السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بَعْدَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأُسْتَاذِ وَالتَّصَانِيفِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ لِلْإِنْسَانِ، إِلَّا بَعْدَ الْمُمَارَسَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ الْكَثِيرَةِ، فَلَوْ كَانَ الدِّينُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ الرَّسُولُ بِصِحَّةِ إِسْلَامِ الرَّجُلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَيُجَرِّبَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَلَوْ فَعَلَ الرَّسُولُ ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ وَلَمَّا لَمْ يُشْتَهَرْ بَلِ الْمَشْهُورُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِإِسْلَامِ مَنْ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الدِّينِ، فَإِنْ قِيلَ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الدَّلَائِلِ حَاصِلَةٌ لِأَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّدْقِيقِ دَفْعُ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الدِّينِ، قُلْنَا هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُقَدَّمَاتٍ عَشْرَةٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ جَازِمًا بِصِحَّةِ تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ كَانَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ مَعْرِفَةً لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، لأن الزيادة عل تِلْكَ الْعَشْرَةِ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بَطَلَ قَوْلُنَا إِنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مركب من العشرة فقط، وإلا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِزِيَادَةِ شَيْءٍ فِي الدَّلِيلِ، بَلْ يَكُونُ عِلْمًا مُنْفَصِلًا. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا يَقْبَلُ النُّقْصَانَ أَيْضًا، لِأَنَّ تِسْعَةً مِنْهَا لَوْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً وَكَانَتِ الْمُقَدَّمَةُ الْعَاشِرَةُ ظَنِّيَّةً اسْتَحَالَ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ يَقِينِيًّا لَأَنَّ الْمَبْنِيَّ عَلَى الظَّنِّيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ مِثَالُهُ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ حُدُوثَ مَطَرٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْهَوَاءُ صَافِيًا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ اللَّهَ بِدَلِيلِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ إِذَا عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ ثُمَّ يَعْرِفُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ لَوْ عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إِسْنَادُ هَذَا الْحُدُوثِ إِلَى الْفَلَكِ وَالنُّجُومِ، وَالطَّبِيعَةِ وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ. فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ لَكَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَتَكُونُ الْمُقَدَّمَةُ تَقْلِيدِيَّةً وَيَكُونُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا تَقْلِيدًا لَا يَقِينًا فَثَبَتَ بِهَذَا فَسَادُ مَا قُلْتُمُوهُ. الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنْ نَقُولَ الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ بِدْعَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ السَّلَفِ وَالْحُكْمُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: ٥٨] ذَمَّ الْجَدَلَ وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٦٨] قَالُوا: فَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ»
وَقَوْلُهُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدْرُ فَأَمْسِكُوا»
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ لَمْ
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٦٨] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْخَوْضَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرُ، بَلِ الْخَوْضُ فِي الشَّيْءِ هُوَ اللَّجَاجُ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا في الخالق»
فَذَاكَ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِيُسْتَفَادَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ»
فَلَيْسَ الْمُرَادُ، إِلَّا تَفْوِيضَ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا قُلْنَا وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدْرُ فَأَمْسِكُوا»
فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ الْجُزْئِيَّ لَا يُفِيدُ النَّهْيَ الْكُلِّيَّ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَلْفَاظَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ في الكلام، كما أنهم لم يستعلموا أَلْفَاظَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي الْفِقْهِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ بِالدَّلِيلِ، فَبِئْسَ مَا قُلْتُمْ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ السَّلَفِ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَقِيهُ. وَلِأَنَّ مَبْنَى الْوَصَايَا عَلَى الْعُرْفِ فَهَذَا إِتْمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ فَذَكَرْنَاهَا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَمَّا الْخَلْقُ فَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِالْآيَةِ وَالشِّعْرِ وَالِاسْتِشْهَادِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [الْعَنْكَبُوتِ: ١٧] أَيْ/ تُقَدِّرُونَ كَذِبًا وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [الْمَائِدَةِ: ١١٠] أَيْ تُقَدِّرُ. وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ زهير:
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَا يَئِطُّ بِأَيْدِي الْخَالِقِينَ وَلَا... أَيْدِي الْخَوَالِقِ إِلَّا جَيِّدُ الْأَدَمِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ ضَرُورِيًّا بَلِ استدلالياً لا جرم أورد هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّنَا بَيَّنَّا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا الْإِمْكَانُ، وَإِمَّا الْحُدُوثُ. وَإِمَّا مَجْمُوعُهُمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِمَّا فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ فِي الْأَعْرَاضِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سِتَّةً لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا. أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِإِمْكَانِ الذَّوَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّدٍ: ٣٨] وَبِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٧] وَبِقَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ٤٢] وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩١]، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٠]، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: ٢٨] وَثَانِيهَا:
الِاسْتِدْلَالُ بِإِمْكَانِ الصِّفَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: ٣] وَبِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] وَرَابِعُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى أَفْهَامِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مَحْصُورٌ فِي أَمْرَيْنِ: دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ، وَدَلَائِلُ الْآفَاقِ، «وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ» فِي الْأَكْثَرِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هاهنا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا دَلَائِلُ الْأَنْفُسِ، فَهِيَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ/ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ صَارَ الْآنَ مَوْجُودًا وَأَنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَذَلِكَ الْمُوجِدُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ وَلَا الْأَبَوَانِ وَلَا سَائِرُ النَّاسِ، لِأَنَّ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُوجِدٍ يُخَالِفُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْخَاصِ إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هاهنا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ طَبَائِعَ الْفُصُولِ وَالْأَفْلَاكِ وَالنُّجُومِ؟ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مُحْتَمَلًا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْمُحْدِثِ وَالْمُوجِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا كُلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَاخْتِلَافِ الْفُصُولِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ الْفَلَكِيَّةَ وَالْأَجْسَامَ الْعُنْصُرِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ الصِّفَاتِ مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَحْيَازِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِسْمِيَّةِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهَا. وَإِلَّا وَجَبَ
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُجَادَلَةَ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهَا تَحْصِيلُ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ فِي الْقُلُوبِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّلَائِلِ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الطُّرُقِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الدَّلَائِلِ كَمَا يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الْخَالِقِ عَلَيْنَا، فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْحَيَاةَ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْنَا، وَتَذْكِيرُ النِّعَمِ مِمَّا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ وَحُصُولَ الِانْقِيَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ذِكْرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّلَفِ طُرُقًا لَطِيفَةً فِي هَذَا الْبَابِ، أَحَدُهَا:
يُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ أَنْكَرَ الصَّانِعَ عِنْدَ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: هَلْ رَكِبْتَ الْبَحْرَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ رَأَيْتَ أَهْوَالَهُ؟ قَالَ بَلَى، هَاجَتْ يَوْمًا رِيَاحٌ هَائِلَةٌ فَكَسَّرَتِ السُّفُنَ وَغَرَّقَتِ الْمَلَّاحِينَ، فَتَعَلَّقْتُ أَنَا بِبَعْضِ أَلْوَاحِهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي ذَلِكَ اللَّوْحُ فَإِذَا أَنَا مَدْفُوعٌ فِي تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ حَتَّى دُفِعْتُ إِلَى السَّاحِلِ، فَقَالَ جَعْفَرٌ قَدْ كَانَ اعْتِمَادُكَ مِنْ قَبْلُ عَلَى السَّفِينَةِ وَالْمَلَّاحِ ثُمَّ عَلَى اللَّوْحِ حَتَّى تُنْجِيَكَ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَنْكَ هَلْ أَسْلَمْتَ/ نَفْسَكَ لِلْهَلَاكِ أَمْ كُنْتَ تَرْجُو السَّلَامَةَ بَعْدُ؟ قَالَ بَلْ رَجَوْتُ السَّلَامَةَ، قَالَ مِمَّنْ كُنْتَ تَرْجُوهَا فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ الصَّانِعَ هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَرْجُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْجَاكَ مِنَ الْغَرَقِ فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ.
وَثَانِيهَا: جَاءَ
فِي «كِتَابِ دِيَانَاتِ الْعَرَبِ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «كَمْ لَكَ مِنْ إِلَهٍ» قَالَ عَشْرَةٌ، قَالَ فَمَنْ لِغَمِّكَ وَكَرْبِكَ وَدَفْعِ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِذَا نَزَلَ بِكَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؟ قَالَ اللَّهُ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مالك مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ»،
وَثَالِثُهَا: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَيْفًا عَلَى الدَّهْرِيَّةِ، وَكَانُوا يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِيَقْتُلُوهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي مَسْجِدِهِ قَاعِدٌ إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِسُيُوفٍ مَسْلُولَةٍ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَجِيبُونِي عَنْ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَالُوا لَهُ هَاتِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ يَقُولُ لكم إني رأيت سفينة تَجْرِي مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا مَلَّاحٌ يُجْرِيهَا وَلَا مُتَعَهِّدٌ يَدْفَعُهَا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ؟ قَالُوا: لَا، هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي الْعَقْلِ سَفِينَةٌ تَجْرِي فِي البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فَكَيْفَ يَجُوزُ قِيَامُ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَغَيُّرِ أَعْمَالِهَا وَسِعَةِ أَطْرَافِهَا وَتَبَايُنِ أَكْنَافِهَا مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ وَحَافِظٍ؟ فَبَكَوْا جَمِيعًا وَقَالُوا: صَدَقْتَ وَأَغْمَدُوا سُيُوفَهُمْ وَتَابُوا. وَرَابِعُهَا: سَأَلُوا الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؟ فَقَالَ: وَرَقَةُ الْفِرْصَادِ طَعْمُهَا وَلَوْنُهَا وَرِيحُهَا وَطَبْعُهَا وَاحِدٌ عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:
فَتَأْكُلُهَا دُودَةُ الْقَزِّ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْإِبْرَيسَمُ، وَالنَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْعَسَلُ. وَالشَّاةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْبَعْرُ، وَيَأْكُلُهَا الظِّبَاءُ فَيَنْعَقِدُ فِي نَوَافِجِهَا الْمِسْكُ فَمَنِ الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الطَّبْعَ وَاحِدٌ؟ فَاسْتَحْسَنُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ وَكَانَ عَدَدُهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ. وَخَامِسُهَا: سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّةً أُخْرَى فَتَمَسَّكَ بِأَنَّ الْوَالِدَ يُرِيدُ
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ | إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ |
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٍ | وَأَزْهَارٌ كَمَا الذَّهَبُ السَّبِيكُ |
عَلَى قُضُبُ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٍ | بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ |
وَعَاشِرُهَا: قِيلَ لِطَبِيبٍ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ بِإِهْلِيلِجٍ مُجَفَّفٍ أُطْلِقُ، وَلُعَابٍ مُلَيِّنٍ أُمْسِكُ! وَقَالَ آخَرُ: عَرَفْتُهُ بِنَحْلَةٍ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا تَعْسِلُ، وَالْآخَرِ تَلْسَعُ! والعسل مقلوب اللسع. وحادي عشرها: حكم البديهية فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: ٨٧]، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غَافِرٍ: ٨٧].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَلْزَمَ عِبَادَهُ بِالْعِبَادَةِ بَيَّنَ ماله وَلِأَجْلِهِ تَلْزَمُ الْعِبَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَخَلْقُ اللَّهِ مَنْ قَبْلَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِمْ، قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَاحِدَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ، وَخَلْقُ الْأُصُولِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْفُرُوعِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا تَظُنَّ أَنِّي إِنَّمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ حِينَ وُجِدْتَ بَلْ كُنْتُ مُنْعِمًا عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ وُجِدْتَ بِأُلُوفِ سِنِينَ بِسَبَبِ أَنِّي كُنْتُ خَالِقًا لِأُصُولِكَ وَآبَائِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بَحْثَانِ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقِ، تَقُولُ لَعَلَّ زَيْدًا يُكْرِمُنِي وَقَالَ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طَهَ: ٤٤]، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشُّورَى: ١٨] وَالتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقُ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى «لَعَلَّ» رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أَيِ اذْهَبَا أَنْتُمَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا فِي إِيمَانِهِ، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي مَوَاعِيدِهِمُ الَّتِي يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِنْجَازِهَا عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَعَلَّ وَعَسَى وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ لِلظَّفَرِ مِنْهُمْ بِالرَّمْزَةِ، أَوِ الِابْتِسَامَةِ أَوِ النَّظْرَةِ الْحُلْوَةِ فَإِذَا عُثِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلطَّالِبِ شَكٌّ فِي الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَرَدَ لَفْظُ لَعَلَّ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: مَا قِيلَ أَنَّ لَعَلَّ بِمَعْنَى كي، قال صاحب «الكشاف» : ولعل لَا يَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ لَعَلَّ لِلْإِطْمَاعِ، وَالْكَرِيمُ الرَّحِيمُ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَى مَا يُطْمَعُ فِيهِ لَا مَحَالَةَ تَجْرِي أَطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ الْمَحْتُومِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قِيلَ لَعَلَّ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَيْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَاقْتَضَى رَجَاءَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهُ
خَامِسُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: لَعَلَّ مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَرُّرِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِمْ عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، وَاللَّامُ فِيهَا هِيَ لَامُ التَّأْكِيدِ كَاللَّامِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي لَقَدْ، فَأَصْلُ لَعَلَّ عَلَّ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ/ لَعَلَّكَ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ التَّكْرِيرَ وَالتَّأْكِيدَ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: افْعَلْ كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افْعَلْهُ فَإِنَّ فِعْلَكَ لَهُ يُؤَكِّدُ طَلَبَكَ لَهُ وَيُقَوِّيكَ عَلَيْهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقْوًى فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْبُدُونَ. أَوِ اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسُ التَّقْوَى، بَلِ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّقْوَى، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَضَارِّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَنَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَضَارِّ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لِتَحْتَرِزُوا بِهِ عَنْ عِقَابِهِ، وَإِذَا قِيلَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ إِنَّهُ اتِّقَاءٌ فَذَلِكَ مَجَازٌ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ غَيْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّقَاءُ، لَكِنْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أُجْرِيَ اسْمُهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْمُكَلَّفِينَ لِكَيْ يَتَّقُوا وَيُطِيعُوا عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَهُمْ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَائِقٌ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: خَلَقكُّمْ بِالْإِدْغَامِ وَقَرَأَ أَبُو السَّمَيْفَعِ: وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
وَالَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ. قَالَ صاحب «الكشاف» : الوجه فيه أنه أفحم الْمَوْصُولَ الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا كَمَا أَقْحَمَ جَرِيرٌ فِي قَوْلِهِ:
يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لَا أَبًا لَكُمُوا | تَيْمًا الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ |
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ «الَّذِي» وَهُوَ مَوْصُولٌ مَعَ صِلَتِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَصْفًا لِلَّذِي خَلَقَكُمْ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ مَا فِي النَّصْبِ مِنَ الْمَدْحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «الَّذِي» كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُفْرَدٍ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقَضِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، كَقَوْلِكَ ذَهَبَ الرَّجُلُ الَّذِي أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ، فَأَبُوهُ مُنْطَلِقٌ قَضِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا حَاوَلْتَ تَعْرِيفَ الرَّجُلِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ الَّذِي، وَهُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِمْ. إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِوَصْفِ الْمَعَارِفِ بالجملة، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِوُجُودِ شَيْءٍ جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥، الزمر: ٣٨].
المسألة الثالثة: أن الله تعالى ذكر هاهنا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْآفَاقِ، فَبَدَأَ أَوَّلًا: بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ وَثَانِيًا: بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وثالثاً: بكون الأرض فراشاً، ورابعاً: يكون السَّمَاءِ بِنَاءً، وَخَامِسًا: بِالْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَجْمُوعِ السَّمَاءِ/ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَلِهَذَا التَّرْتِيبِ أَسْبَابٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ، وَعِلْمُ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الغرض من الاستدلال إفادة
الثَّانِي: هُوَ أَنَّ خَلْقَ الْمُكَلَّفِينَ أَحْيَاءَ قَادِرِينَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْمَاءِ فَذَاكَ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِشَرْطِ حُصُولِ الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ، فَلَا جَرَمَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِنْ دَلَائِلِ الصَّانِعِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِمَا؟ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالشَّهْوَةُ وَالْعَقْلُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَتْ وُجُوهُ الدَّلَائِلِ لَهُ هاهنا أَتَمَّ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّا كَمَا ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر هاهنا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النَّمْلِ: ٦١] وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [الزُّخْرُفِ: ١٠] وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ فِرَاشًا مَشْرُوطٌ بِأُمُورٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا سَاكِنَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ حَرَكَتُهَا إِمَّا بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ بِالِاسْتِدَارَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالِاسْتِقَامَةِ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَنْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَاوِيَةٌ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هَاوٍ، وَالْأَرْضُ أَثْقَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا وَالْأَبْطَأُ لَا يَلْحَقُ الْأَسْرَعَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هَاوِيَةً لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا بِالِاسْتِدَارَةِ لَمْ يَكْمُلِ انْتِفَاعُنَا بِهَا، لَأَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ مَثَلًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ أَسْرَعُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَكَانِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مُتَحَرِّكَةٍ لَا بِالِاسْتِدَارَةِ وَلَا بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ السُّكُونِ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنْ جَانِبِ السُّفْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْبِطٌ فَلَا تَنْزِلُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ تَنَاهِي الْأَجْسَامِ. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ سَلَّمُوا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بَلْ هِيَ كَنِصْفِ كُرَةٍ وَحَدَبَتُهَا فَوْقُ وَسَطْحُهَا أَسْفَلُ وَذَلِكَ السَّطْحُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الثَّقِيلِ إِذَا انْبَسَطَ أَنْ يَنْدَغِمَ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِثْلَ/ الرَّصَاصَةِ فَإِنَّهَا إِذَا انْبَسَطَتْ طَفَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَإِنْ جُمِعَتْ رَسَبَتْ وهذا باطل الوجهين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَالْبَحْثِ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: لِمَ صَارَ ذَلِكَ الْجَانِبُ مِنَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْمَاءِ وَصَارَ هَذَا الْجَانِبُ مُتَحَدِّبًا؟. وَثَالِثُهَا: الَّذِينَ قَالُوا سَبَبُ سُكُونِ الْأَرْضِ جَذْبُ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ فَلَمْ يَكُنِ انْجِذَابُهَا إِلَى بَعْضِ الْجَوَانِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَبَقِيَتْ فِي الْوَسَطِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْغَرَ أَسْرَعُ انْجِذَابًا مِنَ الْأَكْبَرِ، فَمَا بَالُ الذَّرَّةِ لَا تَنْجَذِبُ إِلَى الْفَلَكِ.
الثَّانِي: الْأَقْرَبُ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ فَالذَّرَّةُ الْمَقْذُوفَةُ إِلَى فَوْقٍ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَعُودَ. وَرَابِعُهَا:
قَوْلُ مَنْ جَعَلَ سَبَبَ سُكُونِهَا دَفْعَ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، كَمَا إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ فِي قِنِّينَةٍ ثُمَّ أُدِيرَتِ الْقِنِّينَةُ عَلَى قُطْبِهَا إِدَارَةً سَرِيعَةً، فَإِنَّهُ يَقِفُ التُّرَابُ فِي وَسَطِ الْقِنِّينَةِ لِتَسَاوِي الدَّفْعِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَهَذَا أَيْضًا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَائِرِ مَنَافِعَ الْأَرْضِ وَصِفَاتِهَا. فَالْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: الْأَشْيَاءُ الْمُتَوَلِّدَةُ فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَخَمَّرَ الرَّطْبُ بِهَا فَيَحْصُلُ التَّمَاسُكُ فِي أَبْدَانِ الْمُرَكَّبَاتِ. الثَّالِثَةُ: اخْتِلَافُ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَمِنْهَا أَرْضٌ رَخْوَةٌ، وَصُلْبَةٌ، وَرَمَلَةٌ، وَسَبِخَةٌ، وَحَرَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْدِ: ٤] وَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الْأَعْرَافِ: ٥٨] الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا فَأَحْمَرُ، وَأَبْيَضُ، وَأَسْوَدُ، وَرَمَادِيُّ اللَّوْنِ، وَأَغْبَرُ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: ٢٧].
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْأَرْضَ سَاتِرَةً لِقَبَائِحِكَ بَعْدَ مَمَاتِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٥، ٢٦]. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: ٥٥] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: ١٣]. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْجَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَفِي صِغَارِهَا مَا يَصْلُحُ لِلزِّينَةِ فَتُجْعَلُ فُصُوصُهَا لِلْخَوَاتِمِ وَفِي كِبَارِهَا مَا يُتَّخَذُ لِلْأَبْنِيَةِ، فَانْظُرْ إِلَى الحجر الذي تستخرج النَّارُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَتِهِ، وَانْظُرْ إِلَى الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ مَعَ عِزَّتِهِ. ثُمَّ انْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ النَّفْعِ بِذَلِكَ الْحَقِيرِ، وَقِلَّةِ النَّفْعِ بِهَذَا الشَّرِيفِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الشَّرِيفَةِ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ الْبَشَرَ اسْتَخْرَجُوا الْحِرَفَ الدَّقِيقَةَ وَالصَّنَائِعَ الْجَلِيلَةَ وَاسْتَخْرَجُوا السَّمَكَةَ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَاسْتَنْزَلُوا الطَّيْرَ مِنْ أَوْجِ الْهَوَاءِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ إِيجَادِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في وجودهما إلا الثمينة، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْعِزَّةِ فَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِهِمَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ دُونَهُمَا بَابًا مَسْدُودًا، إِظْهَارًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَإِبْقَاءً لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَا لَا مَضَرَّةَ عَلَى الْخَلْقِ فِيهِ مَكَّنَهُمْ مِنْهُ فَصَارُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ اتِّخَاذِ الشَّبَهِ مِنَ النُّحَاسِ، وَالزُّجَاجِ مِنَ الرَّمْلِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ وَالْعَجَائِبِ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: كَثْرَةُ مَا يُوجَدُ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرَاضِي مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْبِنَاءِ، وَالسُّقُفِ، ثُمَّ الْحَطَبِ.
وَمَا أَشَدَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ قَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَلَائِلِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا بِأَلْفَاظٍ لَا يَبْلُغُهَا الْبُلَغَاءُ وَيَعْجَزُ عَنْهَا الْفُصَحَاءُ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْدِ: ٣] وَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَمِنْهَا الْعَظِيمَةُ كَالنِّيلِ، وَسَيْحُونَ، وَجَيْحُونَ، وَالْفُرَاتِ، وَمِنْهَا الصِّغَارُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا تَحْمِلُ مِيَاهًا عَذْبَةً لِلسَّقْيِ وَالزِّرَاعَةِ وَسَائِرِ الْفَوَائِدِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّ السَّمَاءَ أَفْضَلُ أَمِ الْأَرْضَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّمَاءُ أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا فِيهَا بُقْعَةٌ عَصَى اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ. وَثَانِيهَا: لَمَّا أَتَى آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ قِيلَ لَهُ اهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْكُنُ فِي جِوَارِي مَنْ عَصَانِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [المؤمنون: ٣٢] وَقَوْلُهُ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: ٦١] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَرْضِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ وَرَدَ ذِكْرُ السَّمَاءِ مُقَدَّمًا/ عَلَى الْأَرْضِ فِي الذِّكْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلِ الْأَرْضُ أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ «أ» أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ بِقَاعًا مِنَ الْأَرْضِ بِالْبَرَكَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦] «ب» فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [الْقَصَصِ: ٣٠] «ج» إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: ١] «د» وَصَفَ أَرْضَ الشَّامِ بِالْبَرَكَةِ فَقَالَ: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣٧] وَخَامِسُهَا: وَصَفَ جُمْلَةَ الْأَرْضِ بالبركة فقال: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ [فُصِّلَتْ: ٩] إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: ١٠] فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ بَرَكَةٍ فِي الْفَلَوَاتِ الْخَالِيَةِ وَالْمَفَاوِزِ الْمُهْلِكَةِ؟ قُلْنَا إِنَّهَا مَسَاكِنُ لِلْوُحُوشِ وَمَرْعَاهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مَسَاكِنُ لِلنَّاسِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهَا، فَلِهَذِهِ الْبَرَكَاتِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: ٢٠] وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً لِغَيْرِ الْمُوقِنِينَ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا إِلَّا الْمُوقِنُونَ جَعَلَهَا آيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ كَمَا قَالَ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُكَرَّمِينَ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: ٥٥] ولم يخلق من السموات شَيْئًا لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٢]. وَسَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَ نَبِيَّهُ بِهَا فَجَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسَاجِدَ لَهُ وَجَعَلَ ترابها طهوراً. أما قوله: السَّماءَ بِناءً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَمْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِكْثَارَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِمَا، وَعَلَى أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمَا أَسْرَارًا عَظِيمَةً، وَحِكَمًا بَالِغَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا أَفْهَامُ الْخَلْقِ وَلَا عُقُولُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي فَضَائِلِ السَّمَاءِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَهَا بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ بِالْمَصَابِيحِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْمُلْكِ: ٥] وَبِالْقَمَرِ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: ١٦] وَبِالشَّمْسِ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نُوحٍ: ١٦] وَبِالْعَرْشِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوْبَةِ: ١٢٩] وَبِالْكُرْسِيِّ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَبِاللَّوْحِ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: ٢٢] وَبِالْقَلَمِ ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَمِ: ١] فَهَذِهِ سَبْعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا ظَاهِرَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ خَفِيَّةٌ: ثَبَتَتْ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ الآيات والأخبار. الثاني: أنه تعالى سمى السموات بِأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهَا: سَمَاءً، وَسَقْفًا مَحْفُوظًا، وَسَبْعًا طِبَاقًا، وَسَبْعًا شِدَادًا. ثُمَّ ذَكَرَ عاقبة
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ فَضَائِلِ السَّمَاءِ وَبَيَانِ فَضَائِلِ مَا فِيهَا، وَهِيَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ أَمَّا الشَّمْسُ فَتَفَكَّرْ فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَ أَمْرُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَكَيْفَ كَانَ النَّاسُ يَسْعَوْنَ فِي مَعَايِشِهِمْ، ثُمَّ الْمَنْفَعَةُ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ تَأَمَّلِ النَّفْعَ فِي غُرُوبِهَا فَلَوْلَا غُرُوبُهَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ هُدُوٌّ وَلَا قَرَارٌ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْهُدُوِّ وَالْقَرَارِ لِتَحْصِيلِ الرَّاحَةِ وَانْبِعَاثِ الْقُوَّةِ الْهَاضِمَةِ وَتَنْفِيذِ الْغِذَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يُونُسَ: ٦٧] وَأَيْضًا فَلَوْلَا الْغُرُوبُ لَكَانَ الْحِرْصُ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى مَا قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: ١٠، ١١] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْلَا الْغُرُوبُ لَكَانَتِ الْأَرْضُ تَحْمَى بِشُرُوقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا حَتَّى يَحْتَرِقَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْ حَيَوَانٍ، وَيَهْلَكَ مَا عَلَيْهَا مِنْ نَبَاتٍ عَلَى مَا قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [الْفُرْقَانِ: ٤٥] فَصَارَتِ الشَّمْسُ بِحِكْمَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَطْلُعُ فِي وَقْتٍ وَتَغِيبُ فِي وَقْتٍ، بِمَنْزِلَةِ سِرَاجٍ يُدْفَعُ لِأَهْلِ بَيْتٍ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ يُرْفَعُ عَنْهُمْ لِيَسْتَقِرُّوا وَيَسْتَرِيحُوا فَصَارَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ عَلَى تَضَادِّهِمَا مُتَعَاوِنَيْنِ مُتَظَاهِرَيْنِ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ هَذَا كُلُّهُ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. أَمَّا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ وَانْحِطَاطُهَا فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِإِقَامَةِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي الشِّتَاءِ تَغُورُ الْحَرَارَةُ فِي الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَوَادُّ الثِّمَارِ وَيَلْطُفُ الْهَوَاءُ وَيَكْثُرُ السَّحَابُ وَالْمَطَرُ، وَيَقْوَى أَبْدَانُ الْحَيَوَانَاتِ بِسَبَبِ احْتِقَانِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْبَوَاطِنِ، وَفِي الرَّبِيعِ تَتَحَرَّكُ الطَّبَائِعُ وَتَظْهَرُ الْمَوَادُّ الْمُتَوَلِّدَةُ فِي الشِّتَاءِ فَيَطْلُعُ النَّبَاتُ وَيُنَوِّرُ الشَّجَرُ وَيَهِيجُ الْحَيَوَانُ لِلسِّفَادِ، وَفِي الصَّيْفِ يَحْتَدِمُ الْهَوَاءُ فَتَنْضُجُ
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ | تُخْبِرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ |
مَاذَا أَقُولُ وَقَوْلِي فِيكَ ذُو قِصَرٍ | وَقَدْ كَفَيْتَنِي التَّفْصِيلَ وَالْجُمَلَا |
إِنْ قُلْتُ لَا زِلْتَ مَرْفُوعًا فَأَنْتَ كَذَا | أَوْ قَلْتُ زَانَكَ رَبِّي فَهُوَ قَدْ فَعَلَا |
وَيَهْتِكُ الْعَاشِقَ، وَيُبْلِي الْكَتَّانَ، وَيُهْرِمُ الشُّبَّانَ، وَيُنْسِي ذِكْرَ الْأَحْبَابِ، وَيُقَرِّبُ الدَّيْنَ، وَيُدْنِي الْحَيْنَ. وَكَانَ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ يُفَضِّلُ الْقَمَرَ عَلَى الشَّمْسِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَمَرَ مُذَكَّرٌ. وَالشَّمْسَ مُؤَنَّثٌ لَكِنَّ الْمُتَنَبِّيَ طَعَنَ فِيهِ بِقَوْلِهِ:
فَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ | وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ |
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: ٢٠] وَقَالَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: ٢] وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: ٦] وَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ [فَاطِرٍ: ٣٢] الْآيَةَ. أَمَّا النُّجُومُ: فَفِيهَا مَنَافِعُ.
الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَالثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِهَا، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسَافِرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: ٩٧] ثُمَّ النُّجُومُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: غَارِبَةٌ لَا تَطْلُعُ كَالْكَوَاكِبِ الْجَنُوبِيَّةِ، وَطَالِعَةٌ لَا تَغْرُبُ كَالشَّمَالِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَغْرُبُ تَارَةً وَيَطْلُعُ أُخْرَى، وَأَيْضًا مِنْهَا ثَوَابِتُ، وَمِنْهَا سَيَّارَاتٌ، وَمِنْهَا شَرْقِيَّةٌ، وَمِنْهَا غَرْبِيَّةٌ وَالْكَلَامُ فِيهَا طَوِيلٌ. أَمَّا الَّذِي تَدَّعِيهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ.
فَدَعْ عَنْكَ بَحْرًا ضَلَّ فِيهِ السَّوَابِحُ قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنِّ: ٢٦، ٢٧] وَقَالَ:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [هُودٍ: ٣١] وَقَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الْكَهْفِ: ٥١] فَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْهُمْ، وَالْعَرَبُ مَعَ بُعْدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ عَرَفُوا ذَلِكَ، قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَأَعْرِفُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ | وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا في غد عمي |
فو الله مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى | وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَكَانَتْ كَالصَّدَفِ وَالدُّرَّةِ الْمُودَعَةِ فِيهِ آدَمُ وَأَوْلَادُهُ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ أَصْنَافَ حَاجَاتِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا آدَمُ لَا أُحْوِجُكَ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ لَكَ كَالْأُمِّ فَقَالَ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ/ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عَبَسَ: ٢٥، ٢٦] فَانْظُرْ يَا عَبْدِي أَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَلَوْ أَنِّي خَلَقْتُ الْأَرْضَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هَلْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ، ثُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا سِجْنٌ، فَكَيْفَ
الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِأَهْلِ الِاسْتِبْصَارِ عِبَرٌ فِي ذَلِكَ وَأَفْكَارٌ صَائِبَةٌ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
أَنَّ الْمُحَرِّكَ لِإِثَارَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الرَّطْبَةِ مِنْ عمق الأرض الأجزاء الرطبة أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّحَابِ، وَمِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى مِنْ فِي قَوْلِهِ:
مِنَ الثَّمَراتِ الْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّبْعِيضُ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَيْنِ أَعْنِي مَاءً وَرِزْقًا يَكْتَنِفَانِهِ وَقَدْ قُصِدَ بِتَنْكِيرِهِمَا مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ الْمَاءِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ لِيَكُونَ بَعْضَ رِزْقِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ أَنْفَقْتُ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِنْفَاقًا، فَإِنْ قِيلَ فَبِمَ انْتَصَبَ رِزْقًا؟ قُلْنَا إِنْ كَانَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ انْتِصَابُهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ مُبَيِّنَةً كَانَ مَفْعُولًا لأخرج. السُّؤَالُ الْخَامِسُ: الثَّمَرُ الْمُخْرَجُ بِمَاءِ السَّمَاءِ كَثِيرٌ، فَلِمَ قِيلَ الثَّمَرَاتِ دُونَ الثَّمَرِ أَوِ الثِّمَارِ؟ الْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى قِلَّةِ ثِمَارِ الدُّنْيَا وَإِشْعَارًا بِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَاللَّهِ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ:
فَلا تَجْعَلُوا الْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ، أَيِ اعْبُدُوا فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا فَإِنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَأَسَاسَهَا التَّوْحِيدُ. وثانيها: بلعل، والمعنى خلقكم لكي تنقوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ فَلَا تُثْبِتُوا لَهُ نِدًّا فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: بِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْبَاهِرَةَ فَلَا تَتَّخِذُوا لَهُ شُرَكَاءَ السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا النِّدُّ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُنَازِعُ وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ نَافَرْتُهُ مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّدَّيْنِ يُنَادُّ صَاحِبَهُ أَيْ يُنَافِرُهُ وَيُعَانِدُهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْأَصْنَامَ/ تُنَازِعُ اللَّهَ. قُلْنَا لَمَّا عَبَدُوهَا وَسَمَّوْهَا آلِهَةً أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا آلِهَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى مُنَازَعَتِهِ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَكَمَا تَهَكَّمَ بِلَفْظِ النِّدِّ شَنَّعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْدَادًا كَثِيرَةً لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ قَطُّ، وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ لِكَمَالِ عُقُولِكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَصِحُّ جَعْلُهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ مِمَّنْ علم قبحه يكون أقبح وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ لِلَّهِ شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ إِلَى الْآنِ لَكِنَّ الثَّنَوِيَّةَ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَلِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالثَّانِي: سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَى ذَلِكَ كَثْرَةٌ، الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: عَبْدَةُ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الصَّابِئَةُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ الْكَوَاكِبَ، وَالْكَوَاكِبُ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ إِلَيْنَا تَارِيخُهُمْ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نُوحٍ: ٢٣] فَعَلِمْنَا أَنَّ
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يَقُولُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ، وَهَكَذَا حَالُ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا فِي صُوَرِهِمُ الْحَسَنَةِ: وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدِ احْتَجَبُوا عَنَّا بِالسَّمَاءِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصُوغُوا تَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّوَاءِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا مِنْ صُوَرِ الْإِلَهِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ طَلَبَ الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ الشَّبَهِ. وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْأَحْوَالُ الْمُتَبَايِنَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَصَدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ فِي الدُّنْيَا بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا أَشْيَاءٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَهِيَ الَّتِي خَلَقَتْ هَذِهِ الْعَوَالِمَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ لَكِنَّهَا خَالِقَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَالْأَوَّلُونَ/ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا هِيَ الْإِلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهَا هِيَ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَالْخُضُوعِ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا رَأَوُا الْكَوَاكِبَ مُسْتَتِرَةً فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَنِ الْأَبْصَارِ اتَّخَذُوا لَهَا أَصْنَامًا وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْعَالِيَةَ، وَمُتَقَرِّبِينَ إِلَى أَشْبَاحِهَا الْغَائِبَةِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَلْغَوْا ذِكْرَ الْكَوَاكِبِ وَتَجَرَّدُوا لِعِبَادَةِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَحْكَامِ كَانُوا يُعَيِّنُونَ أَوْقَاتًا فِي السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ نَحْوَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ طَلْسَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ نَحْوَ السَّعَادَةِ وَالْخِصْبِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ وَكَانُوا إِذَا اتَّخَذُوا ذَلِكَ الطَّلْسَمَ عَظَّمُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَلَمَّا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ التَّعْظِيمِ صَارَ ذَلِكَ كَالْعِبَادَةِ وَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ نَسَوْا مَبْدَأَ الْأَمْرِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا عَلَى الْجَهَالَةِ بِأَصْلِ الْأَمْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ وَمَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اتَّخَذُوا صَنَمًا عَلَى صُورَتِهِ يَعْبُدُونَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٨] وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُمُ اتَّخَذُوهَا مَحَارِيبَ لِصَلَوَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ وَيَسْجُدُونَ إِلَيْهَا لَا لَهَا كَمَا أَنَّا نَسْجُدُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا لِلْقِبْلَةِ وَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ ظَنَّ الْجُهَّالُ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّهُ يَجِبُ عِبَادَتُهَا. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُجَسِّمَةِ فَاعْتَقَدُوا جَوَازَ حُلُولِ الرَّبِّ فِيهَا فَعَبَدُوهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى لَيَصِيرَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا رَجَعَ حَاصِلُ مَذْهَبِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ خَالِقِ الْعَالَمِ أَنْ لَا يَجُوزَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ؟ الْجَوَابُ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى كون الأرض
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِسْكَنْدَرِ عَمَدُوا إِلَى بِنَاءِ هَيَاكِلَ لَهُمْ مَعْرُوفَةٍ بِأَسْمَاءِ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ وَاتَّخَذُوهَا مَعْبُودًا لَهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ كَانَ هَيْكَلُ الْعِلَّةِ الْأُولَى- وَهِيَ عِنْدُهُمُ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ- وَهَيْكَلُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَهَيْكَلُ السِّيَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَيْكَلُ النَّفْسِ وَالصُّورَةِ مُدَوَّرَاتٍ كُلَّهَا، وَكَانَ هَيْكَلُ زُحَلَ مُسَدَّسًا. وَهَيْكَلُ الْمُشْتَرِي مُثَلَّثًا. وَهَيْكَلُ الْمِرِّيخِ مُسْتَطِيلًا، وَهَيْكَلُ الشَّمْسِ مُرَبَّعًا، وَكَانَ هَيْكَلُ الزُّهْرَةِ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُرَبَّعٌ وَهَيْكَلُ عُطَارِدَ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُسْتَطِيلٌ، وَهَيْكَلُ الْقَمَرِ مُثَمَّنًا فَزَعَمَ أَصْحَابُ التَّارِيخِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لَمَّا سَادَ قَوْمَهُ وَتَرَأَّسَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَوَلِيَ أَمْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ اتَّفَقَتْ لَهُ سَفْرَةٌ إِلَى الْبَلْقَاءِ فَرَأَى قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَسَأَلَهُمْ عَنْهَا فَقَالُوا هَذِهِ أَرْبَابٌ نَسْتَنْصِرُ بِهَا فَنُنْصَرُ، وَنَسْتَسْقِي بِهَا فَنُسْقَى. فَالْتَمَسَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُكْرِمُوهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَأَعْطَوْهُ الصَّنَمَ الْمَعْرُوفَ بِهُبَلَ فَسَارَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَوَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ مُلْكِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ الْمَشْهُورَةِ «غَمْدَانَ» الَّذِي بناء الضَّحَّاكُ عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ بِمَدِينَةِ صَنْعَاءَ وَخَرَّبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمِنْهَا «نُوبَهَارُ بَلْخَ» الَّذِي بَنَاهُ مُنُوشَهَرْ الْمَلِكُ عَلَى اسْمِ الْقَمَرِ ثُمَّ كَانَ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَوْثَانٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلَ «وُدٍّ» بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ لِكَلْبٍ وَ «سُوَاعٍ» لِبَنِي هُذَيْلٍ وَ «يَغُوثَ» لِبَنِي مَذْحِجٍ وَ «يَعُوقَ» لِهَمْدَانَ وَ «نَسْرٍ» بِأَرْضِ حِمْيَرٍ لِذِي الْكُلَاعِ وَ «اللَّاتِ» بِالطَّائِفِ لِثَقِيفٍ وَ «مَنَاةَ» بِيَثْرِبَ لِلْخَزْرَجِ وَ «الْعُزَّى» لِكِنَانَةَ بنواحي مكة و «أساف» و «نائلة» عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ قُصَيٌّ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَتِهَا وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ | أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ |
تَرَكْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا | كذلك يفعل الرجل البصير |
وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ | وَاسْتَعْمَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتْ |
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا قِيلَ طَاهِرَةٌ؟ الْجَوَابُ: فِي الْمُطَهَّرَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُطَهِّرًا طَهَّرَهُنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُفِيدُ فَخَامَةَ أَمْرِ أَهْلِ الثَّوَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَهُنَّ/ لِأَهْلِ الثَّوَابِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْخُلْدَ هاهنا هُوَ الثَّبَاتُ اللَّازِمُ وَالْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالشِّعْرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٤] فَنَفَى الْخُلْدَ عَنِ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى بَعْضَهُمُ الْعُمُرَ الطَّوِيلَ، وَالْمَنْفِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ، فَالْخُلْدُ هُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَهَلْ يَعِمَنُ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ | قَلِيلُ هُمُومٍ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
المسألة الأولى: [في طعن اليهود في مثال الله عز وجل ببيت العنكبوت] عن ابن عباس أنه لما نزل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الْحَجِّ: ٧٣] فَطَعَنَ فِي أَصْنَامِهِمْ ثُمَّ شَبَّهَ عِبَادَتَهَا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ قَالَتِ الْيَهُودُ أَيُّ قَدْرٍ لِلذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ حَتَّى يَضْرِبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ طَعَنُوا فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالنَّارِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [الْبَقَرَةِ: ١٧] وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال القفال: الكل محتمل هاهنا، أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُ قِيلَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَهَذَا صِفَةُ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْوَفَاءِ وَبِالْعَهْدِ فِيمَا بَعْدُ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] الْآيَةَ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَحْتَمِلُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَقَدْ جُمِعَ الفريقان هاهنا: إذا ثبت هذا فنقول: احتمال الكل هاهنا قَائِمٌ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا مُتَوَافِقِينَ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ذِكْرُ الْيَهُودِ، وَذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ. وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي نَفْسِهِ مُفِيدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ يُقَالُ حَيِيَ الرجل كما يقول نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ إِذَا اعْتَلَّتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ. جَعَلَ الْحَيِيَّ لِمَا يَعْتَرِيهِ الِانْكِسَارُ وَالتَّغَيُّرُ مُنْكَسِرَ الْقُوَّةِ مُنَغَّصَ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهَلَاكَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا اسْتَحَالَ الْحَيَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ يَلْحَقُ الْبَدَنَ، وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْجِسْمِ، وَلَكِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْأَحَادِيثِ.
رَوَى سَلْمَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَانُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ فَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى بِدَايَاتِ الْأَعْرَاضِ مِثَالُهُ أَنَّ الْحَيَاءَ حَالَةٌ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ لَكِنَّ لَهَا مَبْدَأً وَمُنْتَهًى، أَمَّا الْمَبْدَأُ فَهُوَ التَّغَيُّرُ الْجُسْمَانِيُّ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْقَبِيحِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَإِذَا وَرَدَ الْحَيَاءُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْحَيَاءِ وَمُقَدَّمَتُهُ، بَلْ تَرْكُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ لَهُ، عَلَامَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ وَهِيَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَشَهْوَةُ الِانْتِقَامِ وَلَهُ غَايَةٌ وَهُوَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَصَفْنَا اللَّهَ تَعَالَى/ بِالْغَضَبِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْمَبْدَأَ أَعْنِي شَهْوَةَ الِانْتِقَامِ وَغَلَيَانَ دَمِ الْقَلْبِ، بَلِ الْمُرَادُ تِلْكَ النِّهَايَةُ وَهُوَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ، فَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ الْكُلِّيُّ فِي هَذَا الْبَابِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي كَلَامِ الْكَفَرَةِ فَقَالُوا أَمَّا
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: ٣] فَهُوَ بِصُورَةِ النَّفْيِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون: ٩١] وكذلك قولك: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَلَيْسَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُهُ جَائِزًا أَنْ يُطْلَقَ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ انْتِفَائِهَا صِدْقًا فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ انْتِفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَيْهِ فَنَقُولُ: هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ هَذَا النَّفْيِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ غَيْرِهِ بَلْ لَوْ قُرِنَ بِاللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ وَلَيْسَ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ أَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبِيحًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِي الْعُقُولِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا:
إِطْبَاقُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى ذَلِكَ أَمَّا الْعَرَبُ فَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَمَثَّلُوا بِأَحْقَرِ الْأَشْيَاءِ، فَقَالُوا فِي التَّمْثِيلِ بِالذَّرَّةِ: أَجْمَعُ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَضْبَطُ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَخْفَى مِنَ الذَّرَّةِ وَفِي التَّمْثِيلِ بِالذُّبَابِ: أَجْرَأُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَخْطَأُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَطْيَشُ مِنَ الذُّبَابِ، وَأَشْبَهُ مِنَ الذُّبَابِ بِالذُّبَابِ، وَأَلَحُّ مِنَ الذُّبَابِ. وَفِي التَّمْثِيلِ بِالْقُرَادِ، أَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَصْغَرُ مِنْ قُرَادٍ. وَأَعْلَقُ مِنْ قُرَادٍ. وَأَغَمُّ مِنْ قُرَادٍ، وَأَدَبُّ مِنْ قُرَادٍ، وَقَالُوا فِي الْجَرَادِ: أَطْيَرُ مِنْ جَرَادَةٍ، وَأَحْطَمُ مِنْ جَرَادَةٍ، وَأَفْسَدُ مِنْ جَرَادَةٍ. وَأَصْفَى مِنْ لُعَابِ الْجَرَادِ، وَفِي الْفَرَاشَةِ: أَضْعَفُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَطْيَشَ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَجْهَلُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَفِي الْبَعُوضَةِ. أَضْعَفُ مِنْ بَعُوضَةٍ، وَأَعَزُّ مِنْ مُخِّ الْبَعُوضَةِ، وَكَلَّفَنِي مُخَّ الْبَعُوضَةِ، فِي مِثْلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ: وَأَمَّا الْعَجَمُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ «كِتَابُ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ» وَأَمْثَالُهُ، وَفِي بَعْضِهَا: قَالَتِ الْبَعُوضَةُ، وَقَدْ وَقَعَتْ عَلَى نَخْلَةٍ عَالِيَةٍ وَأَرَادَتْ أَنْ تَطِيرَ عَنْهَا، يَا هَذِهِ اسْتَمْسِكِي فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَطِيرَ، فَقَالَتِ النَّخْلَةُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِوُقُوعِكِ فَكَيْفَ أَشْعُرُ بِطَيَرَانِكِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِي إِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْقَرَةِ، قَالَ: مَثَلُ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ زَرَعَ فِي قَرْيَتِهِ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً، فَلَمَّا نَامَ النَّاسُ جَاءَ عَدُوُّهُ فَزَرَعَ الزُّوَانَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ وَأَثْمَرَ العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع، يَا سَيِّدَنَا أَلَيْسَ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً زَرَعْتَ فِي قَرْيَتِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ هَذَا الزُّوَانُ؟ قَالَ: لَعَلَّكُمْ إِنْ ذَهَبْتُمْ أَنْ تَقْلَعُوا الزُّوَانَ فَتَقْلَعُوا مَعَهُ الْحِنْطَةَ فَدَعُوهُمَا يَتَرَبَّيَانِ/ جَمِيعًا حَتَّى الْحَصَادِ فَأَمَرَ الْحَصَّادِينَ أَنْ يَلْتَقِطُوا الزُّوَانَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَأَنْ يَرْبُطُوهُ حُزَمًا ثُمَّ يَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ وَيَجْمَعُوا الْحِنْطَةَ إِلَى الْخَزَائِنِ. وَأُفَسِّرُ لَكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي زَرَعَ الْحِنْطَةَ الْجَيِّدَةَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، وَالْقَرْيَةُ هِيَ الْعَالَمُ، وَالْحِنْطَةُ الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يَعْمَلُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَ الزُّوَانَ هُوَ إِبْلِيسُ، وَالزُّوَانُ هُوَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَزْرَعُهَا إِبْلِيسُ وَأَصْحَابُهُ، وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْرُكُونَ الناس حتى تدنوا آجَالُهُمْ فَيَحْصُدُونَ أَهْلَ الْخَيْرِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَأَهْلَ الشَّرِّ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَكَمَا أَنَّ الزُّوَانَ يُلْتَقَطُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ كَذَلِكَ رُسُلُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتُهُ يَلْتَقِطُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ الْمُتَكَاسِلِينَ، وَجَمِيعَ عُمَّالِ الْإِثْمِ فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك الْبُكَاءُ، وَصَرِيفُ الْأَسْنَانِ، وَيَكُونُ الْأَبْرَارُ هُنَالِكَ فِي ملكوت
وَالْعَنْكَبُوتَ يَضْرِبُ الْمَثَلَ بِهِمَا لَا بِالْفِيلِ وَالْجَمَلِ، فَإِذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُقَبِّحَ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَعُدُولَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ صَلُحَ أَنْ يضرب المثل/ بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت الْعَنْكَبُوتِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ عِبَادَتَهَا أَوْهَنُ وَأَضْعَفُ مِنْ ذلك وفي مثل ذلك كل ما كَانَ الْمَضْرُوبُ بِهِ الْمَثَلُ أَضْعَفَ كَانَ الْمَثَلُ أَقْوَى وَأَوْضَحَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَصَمُّ: «مَا» فِي قَوْلِهِ مَثَلًا مَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ زِيَادَةٌ وَلَغْوٌ وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَبَيَانًا وَكَوْنُهُ لَغْوًا يُنَافِي ذَلِكَ، وَفِي بَعُوضَةً قِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: النَّصْبُ وَفِي لَفْظَةِ مَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي إِذَا قُرِنَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ أَبْهَمَتْهُ إِبْهَامًا وَزَادَتْهُ شُيُوعًا وَبُعْدًا عَنِ الْخُصُوصِيَّةِ. بَيَانُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَعْطِنِي كِتَابًا أَنْظُرْ فِيهِ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ الْكُتُبِ صَحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ كِتَابًا آخَرَ وَلَمْ أُرِدْ هَذَا وَلَوْ قَالَهُ مَعَ مَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَعْطِنِي كِتَابًا أَيَّ كِتَابٍ كَانَ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَكِرَةٌ قَامَ تَفْسِيرُهَا بِاسْمِ الْجِنْسِ مَقَامَ الصِّفَةِ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا الْجُمْلَةُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ بَعُوضَةٌ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ كَمَا حُذِفَ فِي تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الْأَنْعَامِ: ١٥٤].
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا حَتَّى يَضْرِبَ الْمَثَلَ بِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُمَثِّلَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا يُبَالِي بِمَا وَهَبَ، مَا دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، أَيْ يَهَبُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : ضَرْبُ الْمَثَلِ اعْتِمَادُهُ وَتَكْوِينُهُ مِنْ ضَرْبِ اللَّبِنِ وَضَرْبِ الْخَاتَمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اشْتِقَاقُ الْبَعُوضِ مِنَ الْبَعْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ كَالْبَضْعِ وَالْعَضْبِ يُقَالُ بَعَضَهُ الْبَعُوضُ وَمِنْهُ بَعْضُ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْهُ وَالْبَعُوضُ فِي أَصْلِهِ صِفَةٌ عَلَى فَعُولٍ كَالْقَطُوعِ فَغَلَبَتِ اسْمِيَّتُهُ، وَعَنْ بَعْضِهِمِ اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَعْضِ الشَّيْءِ سُمِّيَ بِهِ لِقِلَّةِ جُرْمِهِ وَصِغَرِهِ وَلِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى كُلِّهِ، وَالْوَجْهُ الْقَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَ وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ صَغِيرٌ جِدًّا وَخُرْطُومُهُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُجَوَّفٌ ثُمَّ ذَلِكَ الْخُرْطُومُ مَعَ فَرْطِ صِغَرِهِ وَكَوْنِهِ جَوْفًا يَغُوصُ فِي جِلْدِ الْفِيلِ وَالْجَامُوسِ عَلَى ثَخَانَتِهِ كَمَا يَضْرِبُ الرَّجُلُ إِصْبَعَهُ فِي الْخَبِيصِ، / وَذَلِكَ لِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي رَأْسِ خُرْطُومِهِ مِنَ السُّمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَما فَوْقَها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الْجُثَّةِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ أَنْكَرُوا تَمْثِيلَ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالثَّانِي: أَرَادَ بِمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ أَيْ بِمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَالْمُحَقِّقُونَ مَالُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الْأَوْثَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ حُصُولًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الغرض هاهنا بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْتَنِعُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا أَشَدَّ حَقَارَةً مِنَ الْأَوَّلِ يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا يَتَحَمَّلُ الذُّلَّ فِي اكْتِسَابِ الدِّينَارِ، وَفِي اكْتِسَابِ مَا فَوْقَهُ، يَعْنِي فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الذُّلِّ فِي اكْتِسَابِ أَقَلَّ مِنَ الدِّينَارِ أَشَدُّ مِنْ تَحَمُّلِهِ فِي اكْتِسَابِ الدِّينَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَصْغَرَ كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِهِ أَصْعَبَ، فَإِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إِلَّا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْكَبِيرِ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِأَنَّ لَفْظَ «فَوْقَ» يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ، فَإِذَا قِيلَ هَذَا فَوْقَ ذَاكَ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ
وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا مَدَحَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرَّجُلُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَفَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ،
أَرَادَ بِهَذَا أَعْلَى مِمَّا فِي نَفْسِكَ. الثَّانِي:
كَيْفَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا دُونَ الْبَعُوضَةِ وَهِيَ النِّهَايَةُ فِي الصِّغَرِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ ثُبُوتُ صِفَةٍ فِيهِ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ الْأَقْوَى فَوْقَ الْأَضْعَفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا فَوْقَ فُلَانٍ فِي اللُّؤْمِ وَالدَّنَاءَةِ. أَيْ هُوَ أَكْثَرُ لُؤْمًا وَدَنَاءَةً مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا قِيلَ هَذَا فَوْقَ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ صِغَرًا مِنْهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ جَنَاحَ الْبَعُوضَةِ أَقَلُّ مِنْهَا وَقَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: «أَمَّا» حَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ يُجَابُ بِالْفَاءِ وَهَذَا يُفِيدُ التَّأْكِيدُ تَقُولُ زَيْدٌ ذَاهِبٌ فَإِذَا قَصَدْتَ تَوْكِيدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ قُلْتَ أَمَّا زَيْدٌ فَذَاهِبٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِيرَادُ الْجُمْلَتَيْنِ مُصَدَّرَتَيْنِ بِهِ إِحْمَادٌ عَظِيمٌ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاعْتِدَادٌ بِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَذَمٌّ عَظِيمٌ لِلْكَافِرِينَ عَلَى مَا قَالُوهُ وَذَكَرُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: «الْحَقُّ» الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ يُقَالُ حَقَّ الْأَمْرُ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ وَحَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، وَثَوْبٌ مُحَقَّقٌ مُحْكَمُ النسج.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْإِرَادَةُ مَاهِيَّةٌ يَجِدُهَا الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَلَمِهِ وَلَذَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُ مَاهِيَّتِهَا مُحْتَاجًا إِلَى التَّعْرِيفِ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ إِنَّهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْجَائِزِ عَلَى الْآخَرِ لَا فِي الْوُقُوعِ بَلْ فِي الْإِيقَاعِ، وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّجَّارِيَّةُ إِنَّهُ مَعْنًى سَلْبِيٌّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْجَاحِظُ وَالْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: مَعْنَاهُ عِلْمُهُ تعالى باشتماله الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذَا الْعِلْمَ بِالدَّاعِي أَوِ الصَّارِفِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُمَا إِنَّهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعِلْمِ ثُمَّ الْقِسْمَةُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتِيَّةً وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلنَّجَّارِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً، وَذَلِكَ الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ مُحْدَثًا وَذَلِكَ الْمُحْدَثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، أَوْ قَائِمًا بِجِسْمٍ آخَرَ وَهَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ يَكُونَ مَوْجُودًا لَا فِي مَحَلٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الضَّمِيرُ فِي «أَنَّهُ الحق» للمثل أو لأن يَضْرِبَ، وَفِي قَوْلِهِمْ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا اسْتِحْقَارٌ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: «مَثَلًا» نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ أجاب بجواب غث ماذا أراد بِهَذَا جَوَابًا؟
وَلِمَنْ حَمَلَ سِلَاحًا رَدِيئًا كَيْفَ تَنْتَفِعُ بِهَذَا سِلَاحًا؟ أَوْ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَافِ: ٧٣].
الْمَسْأَلَةُ الخامسة عشرة: [بحث في الهداية والإضلال وما المراد من إضلال الله وهداية الله تعالى] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ كُفْرَهُمْ وَاسْتِحْقَارَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ:
مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَنُرِيدُ أن نتكلم هاهنا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ لِيَكُونَ هَذَا الْمَوْضِعُ كَالْأَصْلِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ فَنَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي الْإِضْلَالِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْهَمْزَةَ تَارَةً تَجِيءُ لِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ خَرَجَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا قُلْتَ أَخْرَجَ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مُتَعَدِّيًا وَقَدْ تَجِيءُ لِنَقْلِ الْفِعْلِ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ، وَقَدْ تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الْوُجْدَانِ. حُكِيَ عن عمرو بن معديكرب أنه قال لنبي سُلَيْمٍ: قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ، وَهَاجَيْنَاكُمْ فَمَا أَفْحَمْنَاكُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ. أَيْ فَمَا وَجَدْنَاكُمْ جُبَنَاءَ وَلَا مُفْحَمِينَ وَلَا بُخَلَاءَ. وَيُقَالُ أَتَيْتُ أَرْضَ فُلَانٍ فَأَعْمَرْتُهَا أَيْ وَجَدْتُهَا عَامِرَةً قَالَ الْمُخَبَّلُ:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ خُزَاعَةَ | فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا |
وَمَا أَثَّرَ هِجَاؤُنَا لَكُمْ فِي صَيْرُورَتِكُمْ مُفْحَمِينَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى دَفْعًا
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النِّسَاءِ: ١١٩] وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا [فصلت: ٢٩] وقال: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
[النَّمْلِ: ٢٤، العنكبوت: ٣٨]، وقال الشيطان إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَأَيْضًا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِضْلَالَ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طَهَ: ٧٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا دَعَا إِلَى الْكُفْرِ وَمَا رَغَّبَ فِيهِ بَلْ نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِلْإِضْلَالِ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ ثَبَتَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَعِنْدَ هَذَا افْتَقَرَ أَهْلُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ إِلَى التَّأْوِيلِ أَمَّا أَهْلُ الْجَبْرِ فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ فِيهِمْ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَرُبَّمَا قَالُوا هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْإِضْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ ضَالًّا كَمَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَالْإِدْخَالَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ خَارِجًا وَدَاخِلًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جَائِزٍ لَا بِحَسَبِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، أَمَّا الْأَوْضَاعُ اللُّغَوِيَّةُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وَجَبْرًا أَنَّهُ أَضَلَّهُ بَلْ يُقَالُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَصَرَفَهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ أَضَلَّهُ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ مِنَ الشُّبْهَةِ مَا يُلَبِّسُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَلَا يَهْتَدِي لَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِمَا مُضَلِّلَيْنِ، مَعَ أن فرعون وإبليس ما كان خَالِقَيْنِ لِلضَّلَالِ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عِنْدُ الْجَبْرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيجَادِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِيجَادِ، فَلَمَّا حَصَلَ اسْمُ الْمُضِلِّ حَقِيقَةً مَعَ نَفْيِ الْخَالِقِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْمَ الْمُضِلِّ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي اللُّغَةِ لِخَالِقِ الضَّلَالِ: وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ فَكَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَدَيْتُهُ فَمَا اهْتَدَى وَجَبَ صِحَّةُ أَنْ يُقَالَ أَضْلَلْتُهُ فَمَا ضَلَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ حَمْلُ الْإِضْلَالِ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ/ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الضَّلَالَ فِي الْعَبْدِ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ لَكَانَ قَدْ كَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ سَفَهٌ وَظُلْمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: ٤٦] وَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: ٧٨] وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ تَعَالَى خَالِقًا لِلْجَهْلِ وَمُلَبِّسًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَمَا كَانَ مُبَيِّنًا لِمَا كُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِيهِمُ الضَّلَالَ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَائِدَةٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ عَبَثًا وَسَفَهًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَى مُضَادَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْآيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: ٢٠] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٩]، وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا لِأَجْلِ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَاطِلَةً.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ وَحِزْبَهُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي إِضْلَالِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ وَصَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَرَ عِبَادَهُ وَرَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنين: ٩٧]، فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: ٩٨] فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ عِبَادَهُ عَنِ الدِّينِ كَمَا تُضِلُّ الشَّيَاطِينُ لَاسْتَحَقَّ مِنَ الْمَذَمَّةِ مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوهُ وَلَوَجَبَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ كَمَا وَجَبَ مِنْهُمْ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مِنْ حَيْثُ أَضَلَّ أَكْثَرَ خَلْقِهِ كَمَا وَجَبَ اتِّخَاذُ إِبْلِيسَ عَدُوًّا لِأَجْلِ ذَلِكَ، قَالُوا بَلْ خِصِّيصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِذْ تَضْلِيلُ إِبْلِيسَ سَوَاءٌ وَجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ الضَّلَالِ بِخِلَافِ تَضْلِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الضَّلَالِ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْزِيهُ إِبْلِيسَ عَنْ جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَإِحَالَتُهَا كُلِّهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الذَّمُّ مُنْقَطِعًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ إِبْلِيسَ وَعَائِدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَمَّهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طَهَ: ٧٩]، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طَهَ: ٨٥]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١١٦]، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [ص: ٢٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النِّسَاءِ: ١١٩] فَهَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ أَوْ حَصَلَ الْإِضْلَالُ بِاللَّهِ وَبِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ دُونَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَدْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ رَمَاهُمْ بِدَأْبِهِ وَعَابَهُمْ بِمَا فِيهِ وَذَمَّهُمْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَاللَّهُ متعالٍ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى فِعْلٍ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَمُسَاوٍ لَهُمْ فِيهِ وَإِذَا فَسَدَ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنْ لَا يُضَافَ خَلْقُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ/ تَعَالَى. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الضَّلَالِ مَنْسُوبًا إِلَى الْعُصَاةِ عَلَى مَا قال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: ٢٦]. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: ٦٧]، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ [غافر: ٣٤]، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ [غَافِرٍ: ٢٨] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُوَ مَا هُمْ فِيهِ كَانَ كَذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلثَّابِتِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى إِلَهِيَّةَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ قَالَ: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يُونُسَ: ٣٥] فَنَفَى رُبُوبِيَّةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا تَهْدِي وَأَوْجَبَ رُبُوبِيَّةَ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَهْدِي فَلَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُضِلُّ عَنِ الْحَقِّ لَكَانَ قَدْ سَاوَاهُمْ فِي الضَّلَالِ وَفِيمَا لِأَجْلِهِ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، بَلْ كَانَ قَدْ أَرْبَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْأَوْثَانَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَهْدِي فَهِيَ لَا تُضِلُّ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى مَعَ أَنَّهُ إِلَهٌ يَهْدِي فَهُوَ يُضِلُّ. وَتَاسِعُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ هَذَا الضَّلَالَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون، وعليه مقبولون، وَبِهِ مُلْتَذُّونَ وَمُغْتَبِطُونَ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَتِ الْعُقُوبَةُ بِالزِّنَا عَلَى الزِّنَا وَبِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [البقرة: ٢٦، ٢٧] صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ
وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نُوحٍ: ٢٣، ٢٤] أَيْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَقَالَ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَةِ: ٦٤] وَقَالَ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦] أَيْ لَمْ يَزْدَادُوا بِدُعَائِي لَهُمْ إِلَّا فِرَارًا وَقَالَ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] وَهُمْ لَمْ يُنْسُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ كَانُوا يُذَكِّرُونَهُمُ اللَّهَ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أُضِيفَ الْإِنْسَاءُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ فِي بَرَاءَةٍ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٤، ١٢٥] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ يُعَرِّفُ أَحْوَالَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُحُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا إِيمَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا كُفْرًا، فَإِذَنْ أُضِيفَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْكُفْرِ إِلَى السُّورَةِ، إِذْ كَانُوا إِنَّمَا صَلُحُوا عِنْدَ نُزُولِهَا وَفَسَدُوا كَذَلِكَ أَيْضًا، فَكَذَا أُضِيفَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ إِحْدَاثُهُمَا عِنْدَ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْأَمْثَالَ لَهُمْ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذِكْرَهُ لِعِدَّةِ خَزَنَةِ النَّارِ امْتِحَانٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرْتَابِ فَآلَتِ الْعَاقِبَةُ إِلَى أَنْ صَلُحَ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ وَفَسَدَ الْكَافِرُونَ وَأَضَافَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَضِدَّهَا إِلَى الْمُمْتَحَنِينَ فَقَالَ لِيَزْدَادَ وَلِيَقُولَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ إِضْلَالَهُمْ وَهُدَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَضَافَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِضْلَالَ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الِامْتِحَانِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ أَيْضًا. أَمْرَضَنِي الْحُبُّ أَيْ مَرِضْتُ بِهِ: وَيُقَالُ قَدْ أَفْسَدَتْ فُلَانَةٌ فُلَانًا وَهِيَ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ، وَقَالَ الشاعر:
أَيْ يُغْرِي الْمَلُومَ بِاللَّوْمِ، وَالْإِضْلَالُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَافِرِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِامْتِحَانَاتِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: مَا الْحَاجَةُ إِلَى الْأَمْثَالِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الِامْتِحَانُ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِضْلَالَ هُوَ التَّسْمِيَةُ بِالضَّلَالِ فَيُقَالُ أَضَلَّهُ أَيْ سَمَّاهُ ضَالًّا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ وَأَكْفَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا سَمَّاهُ كَافِرًا وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْكُمَيْتِ:
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ | وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ |
وَمَا زَالَ شُرْبِي الرَّاحَ حَتَّى أَضَلَّنِي | صَدِيقِي وَحَتَّى سَاءَنِي بَعْضُ ذَلِكَا |
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا | لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرِ |
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ١] قِيلَ أَبْطَلَهَا وَأَهْلَكَهَا وَمِنْ مَجَازِهِ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَيُقَالُ أَضْلَلْتُهُ أَنَا إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ فَأَهْلَكْتَهُ وَصَيَّرْتَهُ كَالْمَعْدُومِ وَمِنْهُ يُقَالُ أَضَلَّ الْقَوْمُ مَيِّتَهُمْ إِذَا وَارَوْهُ فِي قَبْرِهِ فَأَخْفَوْهُ حَتَّى صَارَ لَا يُرَى، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ | وَغُودِرَ بِالْجُولَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ |
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الْحَجِّ: ٤] أَيْ يُضِلُّهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَثَوَابِهَا. هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْهَمْزَةَ فِي الْإِضْلَالِ عَلَى التَّعْدِيَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنْ نَحْمِلَ الْهَمْزَةَ لَا عَلَى التَّعْدِيَةِ بَلْ عَلَى الْوُجْدَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُهُ فَيُقَالُ أَضَلَّ فُلَانٌ بَعِيرَهُ أَيْ ضَلَّ عَنْهُ فَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَجَدَهُمْ ضَالِّينَ. وَثَامِنُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِيهِ ثُمَّ قَالُوا: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَذَكَرُوهُ عَلَى/ سَبِيلِ التَّهَكُّمِ فَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أَيْ مَا أَضَلَّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقَ. هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ لَقَدْ سَمِعْنَا كَلَامَكُمْ وَاعْتَرَفْنَا لَكُمْ بِجَوْدَةِ الْإِيرَادِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ وَقُوَّةِ الْكَلَامِ وَلَكِنْ مَاذَا نَعْمَلُ وَلَكُمْ أَعْدَاءٌ ثَلَاثَةٌ يُشَوِّشُونَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْحَسَنَةَ؟ وَالدَّلَائِلَ اللَّطِيفَةَ:
أَحَدُهَا: مَسْأَلَةُ الدَّاعِي وَهِيَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْإِهْدَاءِ وَالْإِضْلَالِ لِمَ فَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ؟
وَثَانِيهَا: مَسْأَلَةُ الْعِلْمِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٧] وَمَا رَأَيْنَا لَكُمْ فِي دَفْعِ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا مُحِيلًا قَوِيًّا وَنَحْنُ لَا شَكَّ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ مَعَ مَا مَعَكُمْ مِنَ الذَّكَاءِ الضَّعْفَ عَنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا فكما أنصفنا واعترافنا لَكُمْ بِحُسْنِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَأَنْصِفُوا أَيْضًا وَاعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَكُمْ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ التَّعَامِيَ وَالتَّغَافُلَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَوْ كَانَ بِإِيجَادِهِ لَمَا حَصَلَ إِلَّا الَّذِي قَصَدَ إِيجَادَهُ لَكِنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَيَحْتَرِزُ كُلَّ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَهْلُ وَالْإِضْلَالُ لِلْعَبْدِ مَعَ أَنَّهُ مَا قَصَدَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمُ بِالْجَهْلِ فَظَنَّ فِي الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ فَقَصَدَ إِيقَاعَهُ فَلِذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الْجَهْلُ قُلْنَا ظَنُّهُ فِي الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ ظَنُّ خَطَأٍ فَإِنْ كَانَ اخْتَارَهُ أَوَّلًا فَقَدِ اخْتَارَ الْجَهْلَ وَالْخَطَأَ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ ظَنٍّ آخَرَ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ كُلِّ ظَنٍّ ظَنٌّ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَالتَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَالتَّصْدِيقَاتِ بِأَسْرِهَا غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ فَهَذِهِ مُقَدَّمَاتٌ ثَلَاثَةٌ.
الْمُقَدَّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُحَاوِلُ اكْتِسَابَهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَهَا أَوْ لَا يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَهَا فَإِنْ كَانَ مُتَصَوِّرًا لَهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَطْلُبَ تَحْصِيلَ تَصَوُّرِهَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوِّرًا لَهَا كَانَ ذِهْنُهُ غَافِلًا عَنْهَا وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبَهُ.
الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ الْبَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ لِأَنَّ حُصُولَ طَرَفَيِ التَّصْدِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِيًا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِذَلِكَ التَّصْدِيقِ أَوْ لَا يَكُونَ كَافِيًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ دَائِرًا مَعَ ذَيْنَكِ التَّصَوُّرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ التَّصْدِيقُ بَدِيهِيًّا بَلْ مُتَوَقَّفًا فِيهِ.
الْمُقَدَّمَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ بِأَسْرِهَا غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ كَانَتْ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتُ أَيْضًا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إلى قوله: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ ضَلُّوا عَنَّا أَيْ بَطَلُوا فَلَمْ ينتفع بِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي كُنَّا نَرْجُو شَفَاعَتَهُمْ فِيهِ ثُمَّ قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَيْ يُحْبِطُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ كَذَلِكَ يَخْذُلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَلَا يُوَفِّقُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ إِذْ أَلِفُوا الْبَاطِلَ وَأَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ، فَإِذَا خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجُونَ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا/ التَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْإِهْلَاكُ فَغَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ الْإِضْلَالِ عَلَى الْإِهْلَاكِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُضِلُّ بِهِ أَيْ يُضِلُّ بِسَبَبِ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْإِضْلَالُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِسَبَبِ اسْتِمَاعِ هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَبَائِحِ فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ السَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُضِلَّهُ
أَمَّا الْهُدَى فَقَدْ جَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ وَالْبَيَانُ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا [السَّجْدَةِ: ٢٦] وَقَالَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الْبَقَرَةِ: ٣٨] وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْهُدَى عِبَارَةً عَنِ الْبَيَانِ وَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النَّجْمِ: ٢٣] وَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: ٣] أَيْ سَوَاءٌ شَكَرَ أَوْ كَفَرَ فَالْهِدَايَةُ قَدْ جَاءَتْهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فُصِّلَتْ: ١٧] وَقَالَ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَامِ: ١٥٤] وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِ وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خُصُومِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص: ٢٢] أَيْ أَرْشِدْنَا وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٥] وَقَالَ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الزُّمَرِ: ٥٦] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزُّمَرِ: ٥٧] إِلَى قَوْلِهِ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ [الزُّمَرِ: ٥٩] أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ هَدَى الْكَافِرَ مِمَّا جَاءَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَامِ: ١٥٧] وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ لِلْكَافِرِينَ.
وَثَانِيهَا: قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى: ٥٢] أَيْ لَتَدْعُو وَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرَّعْدِ: ٧] أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى ضَلَالٍ أَوْ هُدًى. وَثَالِثُهَا: التَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ بِالْأَلْطَافِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْإِيمَانِ يُؤْتِيهَا الْمُؤْمِنِينَ جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَمَعُونَةً عَلَيْهِ وَعَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ طَاعَتِهِ، فَهَذَا ثَوَابٌ لَهُمْ وَبِإِزَائِهِ ضِدُّهُ لِلْكَافِرِينَ وَهُوَ أَنْ يَسْلُبَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ يَكُونُ قَدْ أَضَلَّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَمَ: ٧٦]، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: ٨٦]، يُثَبِّتُ اللَّهُ/ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧]، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٨٦] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَهَذَا الْهُدَى غَيْرُ الْبَيَانِ لَا مَحَالَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التَّغَابُنِ: ١١] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢]. وَرَابِعُهَا: الْهُدَى إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النِّسَاءِ: ١٧٥] وَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَةِ: ١٥، ١٦] وَقَالَ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ
[مُحَمَّدٍ: ٤- ٦] وَالْهِدَايَةُ بَعْدَ الْقَتْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يُونُسَ: ٩٠] وَهَذَا تَأْوِيلُ الْجُبَّائِيِّ، وَخَامِسُهَا: الْهُدَى بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ يُقَالُ هَدَى فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ قَدَّمَهُ أَمَامَهُ، وَأَصْلُ هَدَى مِنْ هِدَايَةِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَقَدَّمُ الْمَدْلُولَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَقْبَلَتْ هَوَادِي الْخَيْلِ. أَيْ مُتَقَدِّمَاتُهَا وَيُقَالُ لِلْعُنُقِ هَادِي وَهَوَادِي الْخَيْلِ أَعْنَاقُهَا لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُهَا، وَسَادِسُهَا: يَهْدِي أَيْ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُهْتَدٍ وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِ هَدَاهُ جَعَلَهُ مُهْتَدِيًا، وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣] أَيْ مَا حَكَمَ وَلَا شَرَعَ، وَقَالَ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٣] مَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى مَا حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ هُدًى وَقَالَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: ٩٧] أَيْ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُسَمَّى مُهْتَدِيًا فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِيمَا تقدم في باب الإضلال. قالت الجبرية:
وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهُدَى بِمَعْنَى خَلْقِ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: ٢٥] قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ حَمَلَ غَيْرَهُ عَلَى سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وَجَبْرًا أَنَّهُ هَدَاهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ رَدَّهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ هَدَاهُ إِلَيْهِ فَلَا، وَثَانِيهَا: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ قُلْنَا هَذَا الْكَسْبُ مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْحَرَكَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَا يَكُونَ بِتَخْلِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ بِتَخْلِيقِهِ، فَمَتَى خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ يَخْلُقْهُ اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ الْإِتْيَانُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ تَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ مِنَ الْعَبْدِ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالِاعْتِزَالِ، الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَخْلُقُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ أَوْ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا ثُمَّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى. أَوْ يَقَعُ الْأَمْرَانِ مَعًا، فَإِنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا عَلَى اكْتِسَابِهِ فَيَعُودُ الْإِلْزَامُ وَإِنِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا فَاللَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى/ خَلْقِهِ، وَإِنْ وَقَعَا مَعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا لَكِنَّ هَذَا الِاتِّفَاقَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الِاتِّفَاقُ، وَأَيْضًا فَهَذَا الِاتِّفَاقُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ إِلَّا بِاتِّفَاقٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ وَفِعْلِهِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَهُوَ مُحَالٌ هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَتِ الجبرية: إنا قد دللنا بدلائل الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، وَالتَّأْوِيلَ عَلَى أَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْوُجُوهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا وُجُوهٌ نَقْلِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلِاحْتِمَالِ وَالْقَاطِعُ لَا يُعَارِضُهُ الْمُحْتَمَلُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ وُصِفَ الْمَهْدِيُّونَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةُ صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: ١٣] وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: ٢٤]
وَلِحَدِيثِ «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»
وَحَدِيثِ «النَّاسُ أخبر قلة»،
وَالْجَوَابُ: أَهْلُ الْهُدَى كَثِيرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ وَحَيْثُ يُوصَفُونَ بِالْقِلَّةِ إِنَّمَا يُوصَفُونَ بِهَا بِالْقِيَاسِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَلُّوا فِي الصُّورَةِ فَسُمُّوا بِالْكَثِيرِ ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَاسِقُ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، فَكَأَنَّ الْفَاسِقَ هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَتُسَمَّى الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةٌ لِخُرُوجِهَا لِأَجْلِ الْمَضَرَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي أَنَّهُ هَلْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ حُجَجُهُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّالَّةُ لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِيثَاقًا وَعَهْدًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ إِذَا كَانَ يَلْزَمُ بِهَذِهِ الْحُجَجِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠]، وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: ٤٢] فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَصَفَهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ، والتأويل الأول يمكن فيه العموم فيه كُلِّ مَنْ ضَلَّ وَكَفَرَ، وَالثَّانِي: لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِيمَنِ اخْتَصَّ بِهَذَا الْقَسَمِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ، الثَّانِي: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدًا أَبْرَمَهُ اللَّهُ وَأَحْكَمَهُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي كَرَّرَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَأَوْضَحَهَا وَأَزَالَ التَّلْبِيسَ عَنْهَا، وَلِمَا أَوْدَعَ فِي الْعُقُولِ مِنْ دَلَائِلِهَا وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ مُؤَكِّدًا لَهَا: وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي/ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شَيْئًا هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْتَزَمُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَمْرَهُ وَأَمْرَ أُمَّتِهِ فَنَقَضُوا ذَلِكَ وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. ورابعاً: قَالَ بَعْضُهُمْ، إِنَّهُ عَنَى بِهِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ عَلَى صُورَةِ الذَّرِّ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَجُّ عَلَى الْعِبَادِ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ كَمَا لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا ذَهَبَ عِلْمُهُ عَنْ قَلْبِهِمْ بِالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيبَهُمْ بِذَلِكَ؟ وَخَامِسُهَا: عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ ثَلَاثَةُ عُهُودٍ. الْعَهْدُ الْأَوَّلُ: الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُبَلِّغُوا الرِّسَالَةَ وَيُقِيمُوا الدِّينَ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا وَثَّقُوا بِهِ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ قَبُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَوْثِيقِهِ كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوِلَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ مِنْ آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَحُقُوقَ الْقَرَابَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ قَطَعُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَصِلُوا حبلهم بحبل
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَسَادُ الَّذِي يَتَعَدَّى دُونَ مَا يَقِفُ عَلَيْهِمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّدُّ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّلَاحِ فِي الْأَرْضِ بِالطَّاعَةِ لِأَنَّ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ كُلَّ مَا لَزِمَهُ، وَيَتْرُكُ التَّعَدِّيَ إِلَى الْغَيْرِ، وَمِنْهُ زَوَالُ التَّظَالُمِ وَفِي زَوَالِهِ الْعَدْلُ الذي قامت به السموات وَالْأَرْضُ، قَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: ٢٦] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ خَاسِرٌ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَفِي هَذَا الْخُسْرَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ خَسِرُوا نَعِيمَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ أَهْلٌ وَمَنْزِلٌ، فَإِنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَجَدَهُ، وَإِنْ عَصَاهُ وَرِثَهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠- ١١] وَقَالَ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الشُّورَى: ٤٥] وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَسِرُوا حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا لِأَنَّهُمْ أَحْبَطُوهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَمْ يَصِلْ لَهُمْ مِنْهَا خَيْرٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَعْمَلُهُ الْمُخْلِصُونَ فَحَبِطَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَفُوتَهُمُ اللَّذَّاتُ الْعَاجِلَةُ، ثُمَّ إنها تفوتهم إما عند ما يَصِيرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْذُونًا فِي الْجِهَادِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ الْخَاسِرَ اسْمٌ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يُجْزَى عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ خَاسِرٌ، كَالرَّجُلِ الَّذِي إِذَا تَعَنَّى وَتَصَرَّفَ فِي أَمْرٍ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ عَلَى نَفْعٍ قِيلَ لَهُ خَابَ وَخَسِرَ لِأَنَّهُ كَمَنْ أَعْطَى شَيْئًا وَلَمْ يَأْخُذْ بِإِزَائِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَسَمَّى الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِي اللَّهِ خَاسِرِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: ٢، ٣] وَقَالَ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ١٠٣، ١٠٤] والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَمِنْ هذه الموضع إلى قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] فِي شَرْحِ النِّعَمِ الَّتِي عَمَّتْ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: نِعْمَةُ الْإِحْيَاءِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الِاسْتِخْبَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّبْكِيتُ وَالتَّعْنِيفُ، لِأَنَّ عِظَمَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي عِظَمَ مَعْصِيَةِ الْمُنْعِمِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَ كُلَّمَا عَظُمَتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْوَلَدِ بِأَنْ رَبَّاهُ وَعَلَّمَهُ وَخَرَّجَهُ وَمَوَّلَهُ وَعَرَّضَهُ لِلْأُمُورِ الْحِسَانِ، كَانَتْ مَعْصِيَتُهُ لِأَبِيهِ أَعْظَمَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ عِظَمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِمْ لِيَزْجُرَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْتَمَسُّكِ بِالْكُفْرِ وَيَبْعَثَهُمْ عَلَى اكْتِسَابِ الْإِيمَانِ، فَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كَانَ الْعَطْفُ الْأَوَّلُ بِالْفَاءِ وَالْبَوَاقِي بِثُمَّ؟ قلنا لأن الإحياء الأول قد يعقب الْمَوْتُ بِغَيْرِ تَرَاخٍ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَقَدْ تَرَاخَى عَنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي كَذَلِكَ مُتَرَاخٍ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ فِيهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ/ مُوَبِّخًا لَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ تَسْوَدُّونَ وَتَبْيَضُّونَ وَتَصِحُّونَ وَتَسْقَمُونَ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَجْمَعَ مِنْ خَلْقِهِ فِيهِمْ. وَثَانِيهَا: إِذَا كَانَ خَلَقَهُمْ أَوَّلًا لِلشَّقَاءِ وَالنَّارِ وَمَا أَرَادَ بِخَلْقِهِمْ إِلَّا الْكُفْرَ وَإِرَادَةَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يقال مُوَبِّخًا لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ؟. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَيْفَ تعقل مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ حَالَ مَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِيهِمْ وَيَقُولُ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] حَالَ مَا مَنَعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَقُولُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: ٢٠]، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٩] وَهُوَ يَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِعْرَاضَ وَيَقُولُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ... فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَيَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِفْكَ وَالصَّرْفَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ السُّخْرِيَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِي بَابِ إِلْزَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعِبَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ لِلْعَبِيدِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَهَلْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَوْجِيهًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ وَطَلَبًا لِلْجَوَابِ مِنْهُ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ عَبَثًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ لِتَوْجِيهِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ حَصَلَ فِي حَقِّي أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْكُفْرِ. فَالْأَوَّلُ: أَنَّكَ عَلِمْتَ بِالْكُفْرِ مِنِّي وَالْعِلْمُ بِالْكُفْرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ أَرَدْتَ الْكُفْرَ مِنِّي وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُوجِبَةٌ لَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ الْكُفْرَ فِيَّ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ فِعْلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ قُدْرَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. فِيَّ إِرَادَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ قُدْرَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالْخَامِسُ أَنَّكَ خَلَقْتَ فِيَّ إِرَادَةً مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ. وَالسَّادِسُ أَنَّكَ خَلَقْتَ مُوجِبَةً لِلْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ السِّتَّةُ فِي حُصُولِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ يُوقَفُ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ فِي طَرَفِ الْإِيمَانِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا كَانَتْ مَفْقُودَةً، فَقَدْ حَصَلَ لِعَدَمِ الْإِيمَانِ اثْنَا عَشَرَ سَبَبًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بِالْمَنْعِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَعَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ؟
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَعْنِي نِعْمَةَ الْحَيَاةِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ لَا نِعْمَةَ لَهُ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَافِرِ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَسْتَدْرِجَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَيَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ تَكُونُ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدَّمَ إِلَى غَيْرِهِ صَحْفَةَ فَالُوذَجَ مَسْمُومٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ لَذِيذًا وَيُعَدُّ نِعْمَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَاطِنُهُ مُهْلِكًا فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَعُدُّهُ نِعْمَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَذَابَ الدَّائِمَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ عِنْدَ الْبَحْثِ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نُقَابِلُهَا بِالْكَلَامِ الْمُعْتَمَدِ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَلَوْ وُجِدَ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَوُقُوعُهُ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وَأَيْضًا فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ امْتَنَعَ كَوْنُهَا مَصْدَرًا لِلْإِيمَانِ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ عَادَ السُّؤَالُ، إن/ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَمَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ مِنَ اللَّهِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْكُفْرِ، وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ وَجَبَ، وَعَلَى هَذَا كَيْفَ لَا يُعْقَلُ قَوْلُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ إِذَا طَوَّلَ كَلَامَهُ وَفَرَّعَ وُجُوهَهُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَعَلَيْكَ بِمُقَابَلَتِهَا بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فإنهما يهدمان
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً الْمُرَادُ بِهِ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَنُطَفًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ وَخُلِقَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ إِلَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النُّطَفِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الْمَوَاتَ بِالْمَيِّتِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِسَبِيلٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَا يَحِلُّ بِهِ الْمَوْتُ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ اللَّحْمِيَّةُ وَالرُّطُوبَةُ وَقَالَ الْأَوَّلُونَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَالْمَوْتُ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْحَيَاةِ هُوَ كَوْنُهُ مَوَاتًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَيِّتِ عَلَى الْمَوَاتِ ثَابِتٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْجَمَادِ إِنَّهُ مَوَاتٌ وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: ١] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ لَا شَيْءَ يُذْكَرُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ حَيًّا وَجَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا وَمَجَازُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ مَيِّتُ الذِّكْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ، وَهَذِهِ سِلْعَةٌ مَيِّتَةٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا طَالِبٌ وَلَا ذَاكِرٌ قَالَ الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
وَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي وَمَا خَامِلًا | وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يُحْيِيهِمْ مَرَّةً فِي الدُّنْيَا وَأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةَ الْقَبْرِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٥، ١٦] وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةً فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، قَالُوا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: ١١] لِأَنَّهُ قَوْلُ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا حَيَاةَ الذَّرِّ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ وَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَصَلَ حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ حَيَاةٍ فِي الْقَبْرِ، فَالْجَوَابُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا تَكُونَ حَاصِلَةً، وَأَيْضًا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَيَاةَ الْقَبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لم صَحَّ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلٌ عَقِبَ الْحَيَاةِ/ الدَّائِمَةِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الْآيَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلًا عَلَى حَيَاةِ الْقَبْرِ كَانَ قَرِيبًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يَعْنِي بِهِ الْعَامَّةَ، وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ فَقَدْ أَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ نَحْوَ مَا حَكَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الْبَقَرَةِ: ٢٥٩] إِلَى قَوْلِهِ: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَكَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٣] وَكَقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٥، ٥٦] وَكَقَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
[الْبَقَرَةِ: ٧٣] وَكَقَوْلِهِ:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها [الْكَهْفِ: ٢١] وَكَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ أيوب
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَمَسَّكَ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِلَى حُكْمِهِ يُرْجَعُونَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَيَجْمَعُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ وَذَلِكَ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا وُصِفَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى حَيْثُ لَا يَتَوَلَّى الْحُكْمَ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِمْ رَجَعَ أَمْرُهُ إِلَى الْأَمِيرِ، أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا يَحْكُمُ غَيْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ أَهْلِ الطَّبَائِعِ مِنْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَرْكَانِ وَالْمِزَاجَاتِ كَمَا حكى عن قوم في قوله: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: ٢٤] الثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَحْيَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْلِيفِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، الْخَامِسُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ عَلَى هَذَا الْمَوْتِ. بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وتعالى أنه بعد ما كَانَ نُطْفَةً فَإِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَصَوَّرَهُ أَحْسَنَ صُورَةٍ وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا وَأَكْمَلَ عَقْلَهُ وَصَيَّرَهُ بَصِيرًا بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَمَلَّكَهُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالدُّورَ وَالْقُصُورَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَنْ يُمِيتَهُ وَيُصَيِّرَهُ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ وَيَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً فِي اللُّحُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] يُنَادَى فَلَا يُجِيبُ وَيُسْتَنْطَقُ فَلَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ لَا يَزُورُهُ الْأَقْرَبُونَ، بَلْ يَنْسَاهُ الْأَهْلُ وَالْبَنُونَ. كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ:
يَمُرُّ أَقَارِبِي بِحِذَاءِ قَبْرِي | كَأَنَّ أَقَارِبِي لَمْ يَعْرِفُونِي |
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عَمَّتِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَسْرِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ مَا رَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا التَّرْتِيبَ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْحَيَاةِ فَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَ الْحَيَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّا قَوْلُهُ: خَلَقَ فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١] وَأَمَّا قَوْلُهُ:
لَكُمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ قَوْلِهِ خَلَقَ لِأَجْلِ انْتِفَاعِنَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِيُصْلِحَ أَبْدَانَنَا وَلِنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلِلِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا وَجَمَعَ بِقَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً جَمِيعَ الْمَنَافِعِ، فَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْجِبَالِ وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِضُرُوبِ الْحِرَفِ وَالْأُمُورِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُقَلَاءُ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا خَلَقَهَا كَيْ يُنْتَفَعَ بِهَا كَمَا قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: ١٣] فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وقد خلق لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أَوْ يُقَالُ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِعَادَةِ وَقَدْ أَحْيَاكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَلِأَنَّهُ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ/ جَمِيعًا فَكَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَفَاصِيلَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ فِي سُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا قَالَ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عَبَسَ: ٢٥] وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [النَّحْلِ: ٥] إِلَى آخره وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَفْعَلُ فِعْلًا لِغَرَضٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَكْمَلًا بِذَلِكَ الْغَرَضِ وَالْمُسْتَكْمَلُ بِغَيْرِهِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَإِنْ قِيلَ: فِعْلُهُ تَعَالَى مُعَلَّلٌ بِغَرَضٍ غَيْرِ عَائِدٍ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى غَيْرِهِ، قُلْنَا: عَوْدُ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ هَلْ هُوَ أَوْلَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ عَوْدِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَيْهِ أَوْ لَيْسَ أَوْلَى؟ فَإِنْ كَانَ أَوْلَى فَهُوَ تَعَالَى قَدِ انْتَفَعَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ غَرَضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْعَجْزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا كَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ لِغَرَضٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ يَفْعَلُ لِغَرَضٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ هُوَ رِعَايَةُ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَوْ تَوَقَّفَتْ فَاعِلِيَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ لَمَا فَعَلَ مَا كَانَ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ كَلَّفَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَجْلِ الْغَرَضِ لَا جَرَمَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَفْظَ الْغَرَضِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ اخْتِصَاصٌ بِشَيْءٍ أَصْلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْكُلَّ بِالْكُلِّ، فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، وَالتَّعْيِينُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَالْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْحَاجَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِنَفْسِهِ أَيْضًا لَا لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِانْتِصَابِ وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِوَاءِ الْعُلُوَّ/ بِالْمَكَانِ لَكَانَ ذَلِكَ الْعُلُوُّ حَاصِلًا أَوَّلًا وَلَوْ كَانَ حَاصِلًا أَوَّلًا لَمَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ التَّأْوِيلُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ اسْتَوَى الْعُودُ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَلَ ثُمَّ قِيلَ اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أَيْ خَلَقَ بَعْدَ الْأَرْضِ السَّمَاءَ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا آخَرَ بَعْدَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [في تَقْدِيرِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ فِي يومين آخرين] قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مفسر بقوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: ٩، ١٠] بِمَعْنَى تَقْدِيرِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ عِشْرُونَ يَوْمًا، وَإِلَى مَكَّةَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَلَى مَا قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قبل خلق السماء وكذا قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: ٩- ١١] وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: ٢٧- ٣٠] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضَ بَعْدَ السَّمَاءِ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَا دَحَاهَا حَتَّى خَلَقَ السَّمَاءَ لِأَنَّ التَّدْحِيَةَ هِيَ الْبَسْطُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَمْرٌ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ فَامْتَنَعَ انْفِكَاكُ خَلْقِهَا عَنِ التَّدْحِيَةِ وَإِذَا كَانَتِ التَّدْحِيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ كَانَ خَلْقُهَا أَيْضًا لَا مَحَالَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاءِ. الثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ وَخَلْقَ كُلِّ مَا فِيهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ لَكِنَّ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَدْحُوَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي تَقَدُّمَ كَوْنِهَا مَدْحُوَّةً قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: ٣٠] يَقْتَضِي تَقْدِيمَ خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ تَسْوِيَةُ السَّمَاءِ مُقَدَّمَةً عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها
[النازعات: ٢٧، ٢٨] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم عَلَى تَدْحِيَةِ الْأَرْضِ وَلَكِنَّ تَدْحِيَةَ الْأَرْضِ مُلَازِمَةٌ لِخَلْقِ ذَاتِ الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَاتَ السَّمَاءِ وَتَسْوِيَتَهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤَالُ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: «ثُمَّ» ليس للترتيب هاهنا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ، مِثَالُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: / أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ ثُمَّ رَفَعْتُ قَدْرَكَ ثُمَّ دَفَعْتُ الْخُصُومَ عَنْكَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَا أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ قد تقدم فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم، وسبع سموات تَفْسِيرٌ لَهُ كَقَوْلِهِ رَبَّهُ رَجُلًا وَفَائِدَتُهُ أَنَّ الْمُبْهَمَ إِذَا تَبَيَّنَ كَانَ أَفْخَمَ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ إِذَا أُبْهِمَ تَشَوَّفَتِ النُّفُوسُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَفِي الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ شِفَاءٌ لَهَا بَعْدَ التَّشَوُّفِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ وَقِيلَ جَمْعُ سِمَاءَةٍ، وَالْوَجْهُ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَمَعْنَى تَسْوِيَتِهِنَّ تَعْدِيلُ خَلْقِهِنَّ وَإِخْلَاؤُهُ مِنَ الْعِوَجِ وَالْفُطُورِ وَإِتْمَامُ خَلْقِهِنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ القرآن هاهنا قد دل على وجود سبع سموات، وَقَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ. ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، قَالُوا وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: السِّتْرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَوْكَبَ الْأَسْفَلَ إِذَا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يَصِيرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَمَيَّزُ السَّاتِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِكَوْنِهِ الْغَالِبَ كَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَصُفْرَةِ عُطَارِدَ، وَبَيَاضِ الزُّهْرَةِ، وَزُرْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَكُدُورَةِ زُحَلَ كَمَا أَنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ. وَكَوْكَبَ عُطَارِدَ يَكْسِفُ الزُّهْرَةَ، وَالزُّهْرَةَ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْقَمَرِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ فَوْقَهَا لِأَنَّهَا لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالٍ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ عِنْدَ طُلُوعِهَا فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الزُّهْرَةَ كَشَامَةٍ فِي صَحِيفَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي وَجْهِ الشَّمْسِ شامة كما أن حَصَلَ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ الْمَحْوُ، الثَّانِي: اخْتِلَافُ المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير مَحْسُوسٍ لِلْمِرِّيخِ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا أَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ قَالَ فِي «تلخيصه لفصول الفرغاني» : إن اختلاف المنظر لا يُحَسُّ إِلَّا فِي الْقَمَرِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ وَبَقِيَ مَوْضِعُ الشَّمْسِ مَشْكُوكًا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ وَأَرْبَابَ الْهَيْئَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تِسْعَةٌ، فَالسَّبْعَةُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْفَلَكُ الثَّامِنُ هُوَ الَّذِي حَصَلَتْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ الثَّابِتَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَلَكُ التَّاسِعُ فَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ يتحرك في كل يوم وليلة دورة واجدة بِالتَّقْرِيبِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ بِأَنَّا وَجَدْنَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ حَرَكَاتٍ بَطِيئَةً وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ فَلَكِهَا وَالْأَفْلَاكُ الْحَامِلَةُ لِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ سَرِيعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ آخَرَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً وَيَكُونُ هُوَ الْحَامِلَ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ ضَعِيفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ بِأَنْفُسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي جِسْمٍ آخَرَ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَفْسُدُ إِلَّا بِإِفْسَادِ الْمُخْتَارِ/ وَدُونَهُ خَرْطُ الْقَتَادِ. وَثَانِيهَا:
سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي مُمَثِّلَاتِ السَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ مَرْكُوزَةٌ فِي حَوَامِلِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَلَكُ تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ فَيَكُونُ تَحْتَ كُرَاتِ السَّيَّارَاتِ لَا فَوْقَهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّا نَرَى هَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَكْسِفُ هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَالْكَاسِفُ تَحْتَ
فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِسِّ وَاحِدَةً وَلَكِنْ لَعَلَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدَةً، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَالْآخَرُ يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِنُقْصَانِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا وَزَّعَنَا ذَلِكَ النُّقْصَانَ عَلَى هَذِهِ السِّنِينَ كَانَ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ جُزْءٍ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ بَلِ الْعَشْرُ سِنِينَ وَالْمِائَةُ وَالْأَلْفُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا سَقَطَ الْقَطْعُ الْبَتَّةَ عَنِ اسْتِوَاءِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِأَسْرِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ فِي مُمَثِّلَاتِ أَكْثَرِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّهَا في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا هاهنا.
وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِفَلَكِ الثَّوَابِتِ فَلَعَلَّ الْجِرْمَ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ لَيْسَ جِرْمًا وَاحِدًا بَلْ أَجْرَامًا كَثِيرَةً إِمَّا مُخْتَلِفَةَ الْحَرَكَاتِ لَكِنْ بِتَفَاوُتٍ قَلِيلٍ لَا تَفِي بِإِدْرَاكِهَا أَعْمَارُنَا وَأَرْصَادُنَا وَإِمَّا مُتَسَاوِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّ تَسَاوِيَهَا لَا يُوجِبُ وِحْدَتَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ مَنْ قَطَعَ بِإِثْبَاتِ أَفْلَاكٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ التِّسْعَةِ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ وَجَدَ مِقْدَارَ الْمَيْلِ أَعْظَمَ فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ «لَحَّ يَا» «١» ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ «كَحَّ لَهُ» ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ/ الْمَأْمُونِ قَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَنْطِقَتَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيِ كُرَةِ الْكُلِّ وَتَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة الْبُرُوجِ، وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى إِلَى الجنوب عند ما يَرْتَفِعُ قُطْبُ فَلَكِ الثَّوَابِتِ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَارَةً إِلَى الشَّمَالِ. كَمَا هُوَ الْآنَ. الثَّانِي: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ سَيْرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي «كُتُبِ النُّجُومِ» حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرَخِيسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعَوْدَةَ تَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِ: إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، وفي بعضها: إنها متساوية في إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَةِ الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج
إن السبب فيه انتقال فَلَكِ الْبُرُوجِ وَارْتِفَاعُ قُطْبِهِ وَانْحِطَاطُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبْرَخِيسَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ وَذَكَرَ بَارِيَاءُ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ أَنَّ أَصْحَابَ الطَّلْسَمَاتِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَأَنَّ نُقْطَةَ فَلَكِ الْبُرُوجِ تَتَقَدَّمُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَتَتَأَخَّرُ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَقَالُوا إِنَّ ابْتِدَاءَ الحركة من «كب» درجة من الحوت إلى أَوَّلِ الْحَمَلِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبْطَ مِمَّا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ فَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فهل يدل التنصيص على سبع سموات عَلَى نَفْيِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ؟
قُلْنَا الْحَقُّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزائد.
المسألة السادسة: [في خلق الله تعالى الأرض والسماء متفرع على علمه واحاطته بجزئياتها وكلياتها] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا مُحِيطًا بِجُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: فَسَادُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَصِحَّةُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَاعِلٌ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَكُلُّ فَاعِلٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فإن لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَهُ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ بِعَيْنِهَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنَهُ عَالِمًا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا المذهب وفي هذا المذهب وفي هذ الِاسْتِدْلَالِ مُطَابِقٌ لِلْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: فَسَادُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْخَالِقَ لِلشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ وَبِتَفَاصِيلِهِ لِأَنَّ خَالِقَهُ قَدْ خَصَّهُ بِقَدْرٍ دُونَ قَدْرٍ وَالتَّخْصِيصُ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةٍ وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ الرُّجْحَانُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَالْإِرَادَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ/ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا بِهَا وَبِتَفَاصِيلِهَا فِي الْعَدَدِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعِلْمُ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِدٍ نَفْسَهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ، وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: ٧٦] عَامٌّ وَقَوْلُهُ:
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاءِ: ١٦٦] خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مقدم على العام. والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى كَيْفِيَّةِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِنْعَامًا عَامًّا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ النِّعْمَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِذْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ يَعْتَادُونَ التَّكَلُّمَ بِهَا وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. الثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ وَهُوَ نُصِبَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْ لَهُمْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ فَأَضْمَرَ هَذَا الأمرين: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الْأَحْقَافِ: ٢١] وَقَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَلَكُ أَصْلُهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، يُقَالُ أَلَكَنِي إِلَيْهِ أَيْ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ وَالْمَأْلُكَةُ وَالْأَلُوكَةُ الرِّسَالَةُ وَأَصْلُهُ الْهَمْزَةُ مِنْ «مَلْأَكَةٍ» حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَلَائِكُ جَمْعُ مَلْأَكٍ عَلَى الْأَصْلِ كالشمائل فِي جَمْعِ شَمْأَلٍ وَإِلْحَاقُ التَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْكَلَامُ فِي الْمَلَائِكَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [المؤمنون: ٢٨٥]
وَلَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»
الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالشَّرِيعَةِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّسُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:
الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، فَكَانَ الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّاتِ أَصْلًا لِلْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِي النُّبُوَّاتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمَلَكُ قَبْلَ النَّبِيِّ بِالشَّرَفِ وَالْعِلْيَةِ وَبَعْدَهُ فِي عُقُولِنَا وَأَذْهَانِنَا بِحَسَبِ وُصُولِنَا إِلَيْهَا بِأَفْكَارِنَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ هُوَ وُجُودُ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ كَمَا أَنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ هُوَ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَحَقِيقَتِهِمْ وَطَرِيقُ ضَبْطِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ لا بد وأن تكون ذوات قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الذَّوَاتِ إِمَّا أن تكون متحيزة أولا تَكُونَ، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ ذوات مُتَحَيِّزَةً فَهُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ هَوَائِيَّةٌ تَقْدِرُ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مَسْكَنُهَا السموات، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ. وَثَانِيًا: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْحَقِيقَةُ فِي هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْإِسْعَادِ وَالْإِنْحَاسِ فَإِنَّهَا بِزَعْمِهِمْ أَحْيَاءٌ نَاطِقَةٌ، وَأَنَّ الْمُسْعِدَاتِ مِنْهَا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْمُنْحِسَاتِ مِنْهَا مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مُعْظَمِ الْمَجُوسِ وَالثَّنَوِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَزَلِيَّيْنِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوْهَرَانِ شَفَّافَانِ مُخْتَارَانِ قَادِرَانِ مُتَضَادَّا النَّفْسِ وَالصُّورَةِ مُخْتَلِفَا الْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ، فَجَوْهَرُ النُّورِ فَاضِلٌ خَيِّرٌ نَقِيٌّ طَيِّبُ الرِّيحِ كَرِيمُ النَّفْسِ يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ وَلَا يَمْنَعُ، وَيُحْيِي وَلَا يُبْلِي وَجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ جَوْهَرَ النُّورِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الْأَوْلِيَاءَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَاكُحِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ تَوَلُّدِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْحَكِيمِ وَالضَّوْءِ مِنَ الْمُضِيءِ. وَجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الْأَعْدَاءَ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سَبِيلِ تَوَلُّدِ السَّفَهِ مِنَ السَّفِيهِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَاكُحِ فَهَذِهِ أَقْوَالُ مَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَشْيَاءَ مُتَحَيِّزَةً جُسْمَانِيَّةً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَلَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ وَلَا بِأَجْسَامٍ فَهَهُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
قَوْلُ طَوَائِفَ مِنَ النَّصَارَى وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْأَنْفُسُ النَّاطِقَةُ الْمُفَارِقَةُ لِأَبْدَانِهَا عَلَى نَعْتِ الصَّفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ إِنْ كَانَتْ صَافِيَةً خَالِصَةً فَهِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً كَدِرَةً فَهِيَ الشَّيَاطِينُ. وَثَانِيهِمَا: قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ: وَهِيَ أنها جواهر قائمة بأنفسها وليس بِمُتَحَيِّزَةٍ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهَا بِالْمَاهِيَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَنْوَاعِ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَنَّهَا أَكْمَلُ قُوَّةً مِنْهَا وَأَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهَا، وَأَنَّهَا لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَضْوَاءِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهَا مَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ كَثْرَتِهِمْ:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ رَاكِعٌ»
وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي آدَمَ عُشْرُ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ وَبَنُو آدَمَ عُشْرُ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ الطُّيُورِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عُشْرُ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ثُمَّ الْكُلُّ فِي مُقَابَلَةِ مَلَائِكَةِ الْكُرْسِيِّ نَزْرٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلَاءِ عُشْرُ مَلَائِكَةِ السُّرَادِقِ الْوَاحِدِ مِنْ سُرَادِقَاتِ/ الْعَرْشِ الَّتِي عَدَدُهَا سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، طُولُ كُلِّ سُرَادِقٍ وَعَرْضُهُ وَسُمْكُهُ إِذَا قوبلت به السموات وَالْأَرَضُونَ وَمَا فِيهَا وَمَا بَيْنَهَا فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَكُونُ شَيْئًا يَسِيرًا وَقَدْرًا صَغِيرًا، وَمَا مِنْ مِقْدَارِ مَوْضِعِ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ قَائِمٌ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ الْعَرْشِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ مَعَ هَؤُلَاءِ مَلَائِكَةُ اللَّوْحِ الَّذِينَ هُمْ أَشْيَاعُ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ جُنُودُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُمْ كُلُّهُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ لَا يَفْتُرُونَ مُشْتَغِلُونَ بِعِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. رِطَابُ الْأَلْسُنِ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ يَتَسَابَقُونَ فِي ذَلِكَ مُذْ خَلَقَهُمْ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَهَذَا تَحْقِيقُ حَقِيقَةِ مَلَكُوتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى مَا قَالَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] وَأَقُولُ رَأَيْتُ
فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّذْكِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ عُرِجَ بِهِ رَأَى مَلَائِكَةً فِي مَوْضِعٍ بِمَنْزِلَةِ سُوقٍ بَعْضُهُمْ يَمْشِي تُجَاهَ بَعْضٍ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهُمْ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. لَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي أَرَاهُمْ مُذْ خُلِقْتُ وَلَا أَرَى وَاحِدًا مِنْهُمْ قَدْ رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَأَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقِيلَ لَهُ مُذْ كَمْ خُلِقْتَ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ كَوْكَبًا فِي كُلِّ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ فَخَلَقَ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ مُنْذُ خَلَقَنِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ مَا أَعْظَمَ قُدْرَتَهُ وَمَا أَجَلَّ كَمَالَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَصْنَافَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، أَمَّا الْأَصْنَافُ. فَأَحَدُهَا: حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧]، وَثَانِيهَا: الْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: ٧٥] وَثَالِثُهَا: أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ فَمِنْهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمُورٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَاحِبُ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ قَبْلَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْآنِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الْبَقَرَةِ: ٩٧] وَلِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَمِيكَائِيلَ صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْغِذَاءُ الرُّوحَانِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْرَفَ مِنْ مِيكَائِيلَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ ثَانِيَ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التَّحْرِيمِ: ٤]. الرَّابِعُ: سَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ قَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَةِ: ١١٠] الْخَامِسُ: يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيَقْهَرُ أَعْدَاءَهُ مَعَ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَسُوِّمِينَ، السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ بِصِفَاتٍ سِتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩- ٢٠] فَرِسَالَتُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أُمَّتُهُ وَكَرَمُهُ عَلَى رَبِّهِ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْرَفِ عِبَادِهِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقُوَّتُهُ أَنَّهُ رَفَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ إِلَى السَّمَاءِ وَقَلَبَهَا، وَمَكَانَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ/ جَعَلَهُ ثَانِيَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَوْنُهُ مُطَاعًا أَنَّهُ إِمَامُ الْمَلَائِكَةِ وَمُقْتَدَاهُمْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَمِينًا فَهُوَ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣] وَمِنْ جُمْلَةِ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ إِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ ثَبَتَ وُجُودُهُمَا بِالْأَخْبَارِ وَثَبَتَ بِالْخَبَرِ أَنَّ عِزْرَائِيلَ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَةِ: ١١] وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: ٦١] فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَلَائِكَةٍ مُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكُ الْمَوْتِ رَئِيسَ جَمَاعَةٍ وُكِّلُوا عَلَى قَبْضِ الْأَرْوَاحِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٥٠]. وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُ الصُّورِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: ٦٨]. وَرَابِعُهَا: مَلَائِكَةُ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤]. وَخَامِسُهَا: مَلَائِكَةُ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] وَرَئِيسُهُمْ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً [النَّازِعَاتِ: ١]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ حَرِجَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ. وَأَمَّا أَوْصَافُ الْمَلَائِكَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [الْحَجِّ: ٧٥] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الرُّسُلُ فَقَطْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ. وَثَانِيهَا: قُرْبُهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقُرْبُ هُوَ الْقُرْبُ بِالشَّرَفِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] وَقَوْلِهِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦] وَقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: ٢٠] وَثَالِثُهَا: وَصْفُ طَاعَاتِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٦٦] وَاللَّهُ تَعَالَى مَا كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِهَا مُوَاظَبَتُهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ. الثَّانِي: مُبَادَرَتُهُمْ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: ٣٠]. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إِلَّا بِوَحْيِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧]. وَرَابِعُهَا: وَصْفُ قُدْرَتِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ ثُمَّ إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ من العرش أعظم من جملة السموات السَّبْعِ لِقَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] فَانْظُرْ إِلَى نِهَايَةِ قُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ عُلُوَّ الْعَرْشِ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَهْمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الْمَعَارِجِ: ٤] ثُمَّ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ قُدْرَتِهِمْ يَنْزِلُونَ مِنْهُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَصَاحِبُ الصُّورِ يَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ أَنَّ بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ يُصْعَقُ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، وَبِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُ يَعُودُونَ أَحْيَاءً. فَاعْرِفْ مِنْهُ عِظَمَ هَذِهِ الْقُوَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَ فِي قُوَّتِهِ إِلَى أَنْ قَلَعَ جِبَالَ آلِ لُوطٍ وَبِلَادَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَخَامِسُهَا: وَصْفُ خَوْفِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَاتِهِمْ وَعَدَمِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الزَّلَّاتِ الْبَتَّةَ يَكُونُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ حَتَّى كَأَنَّ عِبَادَتَهُمْ مَعَاصِي قَالَ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَقَالَ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨]. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سَبَأٍ: ٢٣]
رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سمعه أهل السموات مِثْلَ صَوْتِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَفَزِعُوا فَإِذَا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ،
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاحِيَةٍ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ إِذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ يَتَضَاءَلُ وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَيَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فَأَشَارَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ فَقُلْتُ عَبْدًا نَبِيًّا فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا فَرَأَيْتُ مِنْ حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا إِسْرَافِيلُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ نُورًا مَا مِنْهَا نُورٌ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا احْتَرَقَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ بِقُرْبِ جَبِينِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ بِهِ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ قَالَ عَلَى الرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءِ مِيكَائِيلُ قَالَ عَلَى النَّبَاتِ.
قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ هَبَطَ إِلَّا لِقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا ذَاكَ الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ كَلَامٌ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
قَالَ فِي بَعْضِ خطبه: ثم فتق ما بين السموات العلى فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَارًا مِنْ مَلَائِكَةٍ فَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ/ وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَلَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَالْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةً دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَلَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَلَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مُحَارِبِينَ مَعَ إِبْلِيسَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَسْكَنَ الْجِنَّ الْأَرْضَ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَعَثَ اللَّهُ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ بِعَسْكَرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ فَقَالَ تَعَالَى لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ خِلَافَ الْأَصْلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جَاعِلٌ مِنْ جَعَلَ الَّذِي لَهُ مَفْعُولَانِ دَخَلَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهُمَا قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَكَانَا مَفْعُولَيْنِ وَمَعْنَاهُ مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِي الْآيَةِ جَمِيعُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْخَلِيفَةُ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ [يُونُسَ: ١٤]. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الْأَعْرَافِ: ٦٩] فَأَمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ مَنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيفَةً لِأَنَّهُ يَخْلُفُ اللَّهَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَهَذَا الرَّأْيُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: ٢٦] أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ فَقَالُوا: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ خَلِيفَةً لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ/ قَوْلُ الْحَسَنِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَالْخَلِيفَةُ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَمَا يَصْلُحُ للذكر والأنثى وقرئ خليفة بِالْقَافِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مَعَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَشُورَةِ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ إِذَا اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ السِّرِّ أَوْرَدُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤَالَ فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي إِحَاطَتَهُمْ بِذَلِكَ الْجَوَابِ فَعَرَّفَهُمْ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِكَيْ يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤَالَ وَيَسْمَعُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ عِبَادَهُ الْمُشَاوَرَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ اتَّفَقُوا عَلَى عِصْمَةِ كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَمِنَ الْحَشْوِيَّةِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَلَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: ٦] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَلَائِكَةِ النَّارِ فَإِذَا أَرَدْنَا الدَّلَالَةَ الْعَامَّةَ تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: ٥٠] فَقَوْلُهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ الشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يُفِيدُ الْعُمُومَ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِلَّا وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦- ٢٧] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَرَاءَتِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي وَكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالْوَحْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي الْبَشَرِ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْعُصَاةِ لَمَا حَسُنَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الطَّعْنُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَهَذَا يَقْتَضِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا. هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ وَذَلِكَ غِيبَةٌ وَالْغِيبَةُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ مَدَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٦٥، ١٦٦] وَهَذَا لِلْحَصْرِ فَكَأَنَّهُمْ نَفَوْا كَوْنَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ الْعُجْبَ وَالْغِيبَةَ وَهُوَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَذَكَرَ فِيهَا إِعْجَابَ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ). وَقَالَ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النَّجْمِ: ٣٢]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا يُشْبِهُ الِاعْتِذَارَ فَلَوْلَا تَقَدُّمُ الذَّنْبِ وَإِلَّا لَمَا اشْتَغَلُوا بِالْعُذْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣١] يَدُلُّ عَلَى أنهم
وَرُوِيَ عَنِ الْجِنِّ وَقَتَادَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ هَمَسَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣١] فِي أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا وَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ فَفَزِعَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى التَّوْبَةِ وقالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
وَأَنَّهُمَا لَمَّا نَظَرَا إِلَى مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَاصِي أَنْكَرَا ذَلِكَ وَأَكْبَرَاهُ وَدَعَوَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا إِنِّي لَوِ ابْتَلَيْتُكُمَا بِمَا ابْتَلَيْتُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِنَ الشَّهَوَاتِ لَعَصَيْتُمَانِي فَقَالَا يَا رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنَا لَمْ نَفْعَلْ فَجَرِّبْنَا فَأَهْبَطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ وَابْتَلَاهُمَا اللَّهُ بِشَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ فَمَكَثَا فِي الْأَرْضِ وَأَمَرَ اللَّهُ الْكَوْكَبَ الْمُسَمَّى بِالزُّهَرَةِ وَالْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فهبطا إلى الأرض فجعل الزهرة في صورة امرأة صُورَةِ امْرَأَةٍ وَالْمَلَكُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ ثُمَّ إِنَّ الزُّهَرَةَ اتَّخَذَتْ مَنْزِلًا وَزَيَّنَتْ نَفْسَهَا وَدَعَتْهُمَا إلى نفسها ونصف الْمَلَكُ نَفْسَهُ فِي مَنْزِلِهَا فِي مِثَالِ صَنَمٍ فَأَقْبَلَا إِلَى مَنْزِلِهَا وَدَعَوَاهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَشْرَبَا خَمْرًا فَقَالَا لَا نَشْرَبُ الْخَمْرَ ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَشَرِبَا ثُمَّ دَعَوَاهَا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَتْ بَقِيَتْ خَصْلَةٌ لَسْتُ أُمْكِنُكُمَا مِنْ نَفْسِي حَتَّى تَفْعَلَاهَا قَالَا وما هي؟ قالت: تسجدان لهم الصَّنَمِ، فَقَالَا: لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ ثُمَّ نَسْتَغْفِرُ فَسَجَدَا لِلصَّنَمِ فَارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَمَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ فَعَرَفَا حِينَئِذٍ أَنَّهُ إِنَّمَا أَصَابَهُمَا ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعْيِيرِ بَنِي آدَمَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الزُّهَرَةَ كَانَتْ فَاجِرَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا وَاقَعَاهَا بَعْدَ أَنْ شَرِبَا الْخَمْرَ وَقَتَلَا النَّفْسَ وَسَجَدَا لِلصَّنَمِ وَعَلَّمَاهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَيَّرَهَا هَذَا الْكَوْكَبَ الْمُسَمَّى بِالزُّهَرَةِ ثُمَّ إن الله تعالى عرفت هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَبِيحَ مَا فِيهِ وَقَعَا ثُمَّ خَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ آجِلًا وَبَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا عَاجِلًا فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهُمَا بِبَابِلَ مَنْكُوسَيْنِ فِي بِئْرٍ إِلَى/ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ خَاصَّةً وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَةِ: ١٠٢]
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَكَفَرَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] قَالُوا:
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُعَذَّبُونَ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِيهَا كَمَا قَالَ: أُولئِكَ أَصْحابُ
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى أَنْ نَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ فَنَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ تَنْبِيهُ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا الْإِنْكَارُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فِعْلٍ فَعَلَهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ قَاطِعًا بِحِكْمَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَفْعَلُ فِعْلًا لَا يَقِفُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُ أَتَفْعَلُ هَذَا! كَأَنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ كَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَيَقُولُ إِعْطَاءُ هَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْ يُفْسِدُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ فِيهَا إِلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فَإِذَا كُنْتَ تَفْعَلُهَا وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُهَا إِلَّا لِوَجْهٍ دَقِيقٍ وَسِرٍّ غَامِضٍ أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فَمَا أَعْظَمَ حِكْمَتَكَ وَأَجَلَّ عِلْمَكَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها كَأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْ كَمَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحَاطَةِ حِكْمَتِهِ بِمَا خَفِيَ عَلَى كُلِّ الْعُقَلَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِيرَادَ الْإِشْكَالِ طَلَبًا لِلْجَوَابِ غَيْرُ مَحْذُورٍ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِلَهَنَا أَنْتَ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَفْعَلُ السَّفَهَ الْبَتَّةَ وَنَحْنُ نَرَى فِي الْعُرْفِ أَنَّ تَمْكِينَ السَّفِيهِ مِنَ السَّفَهِ سَفَهٌ فَإِذَا خَلَقْتَ قَوْمًا يُفْسِدُونَ وَيَقْتُلُونَ وَأَنْتَ مَعَ عِلْمِكَ أَنَّ حَالَهُمْ كَذَلِكَ خَلَقْتَهُمْ وَمَكَّنْتَهُمْ وَمَا مَنَعْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَهَذَا يُوهِمُ السَّفَهَ وَأَنْتَ الْحَكِيمُ الْمُطْلَقُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْرَدُوا هَذَا السُّؤَالَ طَلَبًا لِلْجَوَابِ، وَهَذَا جَوَابُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُجَوِّزُوا صُدُورَ الْقَبِيحِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعَدْلِ قَالُوا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْجَوَابَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَضَافُوا الْفَسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَى الْخَالِقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهُ ذَاتِهِ عَنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ وَالتَّقْدِيسَ تَنْزِيهُ أَفْعَالِهِ عَنْ صِفَةِ الذَّمِّ وَنَعْتِ السَّفَهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشُّرُورَ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي تَرْكِيبِ هَذَا الْعَالِمِ السُّفْلِيِّ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْخَيْرَاتِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ وَخَيْرَاتُهَا غَالِبَةٌ عَلَى شُرُورِهَا وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا تِلْكَ الشُّرُورَ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ الْخَيْرَاتِ الْحَاصِلَةَ مِنْ أَجْلِ تَرَاكِيبِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ أَكْثَرُ مِنَ الشُّرُورِ الْحَاصِلَةِ فِيهَا وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَ مَا هَذَا شَأْنُهُ لَا تَرْكَهُ وَهَذَا جَوَابُ الْحُكَمَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْظَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُخْلِصَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِمَوْلَاهُ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ يَعْصِيهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها مَسْأَلَةٌ مِنْهُمْ/ أَنْ يَجْعَلَ الْأَرْضَ أَوْ بَعْضَهَا لَهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ صَلَاحًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا:
يَا إِلَهَنَا اجْعَلِ الْأَرْضَ لَنَا لَا لَهُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَالْمَعْنَى لَا تُهْلِكْنَا فَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ صَلَاحِكُمْ وَصَلَاحِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أجعلهم في الأرض فبين ذلك أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُمُ السَّمَاءَ خَاصَّةً وَلِهَؤُلَاءِ الْأَرْضَ خَاصَّةً لِعِلْمِهِ بِصَلَاحِ ذَلِكَ فِي أَدْيَانِهِمْ لِيَرْضَى كل فريق بما اختاره الله له. وسادسها: أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُمْ مَعَ هَذَا الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ، وَسَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا، أَيْ سَتَفْعَلُ ذَلِكَ فَهُوَ إِيجَابٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ جَرِيرٌ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا | وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ |
١١] وَأَيْضًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ لَيْسَ الْمُرَادُ مَدْحَ النَّفْسِ، بَلِ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا أَوْرَدْنَاهُ لِنَقْدَحَ بِهِ فِي حِكْمَتِكَ يَا رَبِّ فَإِنَّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنَعْتَرِفُ لَكَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَكَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ مَا أَوْرَدُوا السُّؤَالَ لِلطَّعْنِ فِي الْحِكْمَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ. بَلْ لِطَلَبِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا يُشْبِهُ الِاعْتِذَارَ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ الذَّنْبِ، قُلْنَا نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ لَا يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤَالَ، فَلَمَّا تَرَكُوا هَذَا الْأَوْلَى كَانَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارُ اعْتِذَارًا مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] فَهَذَا السُّؤَالُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانُوا مَأْذُونِينَ فِي هَذَا السُّؤَالِ فَكَيْفَ اعْتَذَرُوا عَنْهُ؟ قُلْنَا الْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ. أَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ إِخْبَارَ الْمَلَائِكَةِ عَنِ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَصَلَ عَنِ الْوَحْيِ أَوْ قَالُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَظَنًّا، قُلْنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ ظَنًّا ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّهُمْ قَاسُوهُ/ عَلَى حَالِ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ عَرَفُوا خِلْقَتَهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَرَكَّبَ فِيهِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ فَيَتَوَلَّدَ الْفَسَادُ عَنِ الشَّهْوَةِ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ عَنِ الْغَضَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ؟
قَالَ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: رَبَّنَا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ عَظِيمٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ خَافَتِ الْمَلَائِكَةُ خَوْفًا شَدِيدًا فَقَالُوا:
رَبَّنَا لِمَنْ خَلَقْتَ هَذِهِ النَّارَ؟ قَالَ لِمَنْ عَصَانِي مِنْ خَلْقِي وَلَمْ يَكُنِ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ الْبَتَّةَ فَلَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً عَرَفُوا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَظْهَرُ مِنْهُمْ. وَرَابِعُهَا: لَمَّا كَتَبَ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ طَالَعُوا اللَّوْحَ فَعَرَفُوا ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْخَلِيفَةِ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَالِاحْتِجَاجُ إِلَى الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ إِخْبَارًا عَنْ وُقُوعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ عَنْ مُجَرَّدِ الظَّنِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي الْغَيْرِ بِمَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعِصْمَةَ وَالطَّهَارَةَ. أَمَّا الْوَجْهُ السَّادِسُ: هُوَ الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَهِيَ مِنْ بَابِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تُعَارِضُ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
أَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ:
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَسَنَتَكَلَّمُ فِي بَيَانِ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ فِي النَّارِ وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: ٣٩] لَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِالنَّارِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ إِنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يُرِيدُ بِهِ خَزَنَةَ النَّارِ وَالْمُتَصَرِّفِينَ فِيهَا وَالْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَبْرِ: إِنَّهُمْ خَيْرَاتٌ مَحْضٌ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ عَلَى الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً أَوْ تَرْكَ الْأَوْلَى وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٩] وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مَزْجُورِينَ مَمْنُوعِينَ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٦] وَالْمَدْحُ بِتَرْكِ الِاسْتِكْبَارِ إِنَّمَا يَجُوزُ له كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ الِاسْتِكْبَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرَاتِ لَمَا كَانُوا مَمْدُوحِينَ بِفِعْلِهَا لِأَنَّ الْمَلْجَأَ إِلَى الشَّيْءِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مَمْدُوحًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِوَضَ وَاجِبَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَلَزِمَ مِنْ تَرْكِهِ إِمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا الْحَاجَةُ وَهُمَا مُحَالَانِ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ مُحَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُحَالًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلثَّوَابِ وَالْعِوَضُ وَاجِبٌ وَتَرْكُهُ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مَمْدُوحٌ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّرْكِ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمَدْحِ فَانْقَطَعَ وَمَا قَدَرَ عَلَى الْجَوَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَاوُ فِي وَنَحْنُ لِلْحَالِ كَمَا تَقُولُ أَتُحْسِنُ إِلَى فُلَانٍ وَأَنَا أَحَقُّ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ وَكَذَا التَّقْدِيسُ، مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّبْعِيدَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ فَهُوَ التَّسْبِيحُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ اللَّعْنُ، فَنَقُولُ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ فَإِنَّ مَنْعَ
التَّسْبِيحُ جَاءَ تَارَةً فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى/ التَّنْزِيهِ وَأُخْرَى بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: «أ» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّظِيرِ وَالشَّرِيكِ، هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ «ب» أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات وَالْأَرْضِ «ج» أَنَا الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ «د» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (هـ) أَنَا الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْكُلِّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ «و» أَنَا السُّلْطَانُ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ سِوَائِي فَهُوَ تَحْتَ قَهْرِي وَتَسْخِيرِي فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «ز» أَنَا الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ «ح» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ سُبْحَانَهُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ «ط» أَنَا الْمُنَزَّهُ عَنْ وَصْفِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، عَمَّا يَقُولُونَ، عَمَّا يَصِفُونَ، أَمَّا التَّعَجُّبُ فَكَذَلِكَ «أ» أَنَا الَّذِي سَخَّرْتُ الْبَهَائِمَ الْقَوِيَّةَ لِلْبَشَرِ الضَّعِيفِ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا «ب» أَنَا الَّذِي خَلَقْتُ الْعَالَمَ وَكُنْتُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا «ج» أَنَا الَّذِي أَعْلَمُ لَا بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِينَ وَلَا بِإِرْشَادِ الْمُرْشِدِينَ، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا «د» أَنَا الَّذِي أُزِيلُ مَعْصِيَةَ سَبْعِينَ سَنَةً بِتَوْبَةِ سَاعَةٍ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنْ أَرَدْتَ رِضْوَانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَإِنْ أَرَدْتَ الْفَرَجَ مِنَ الْبَلَاءِ فَسَبِّحْ لَا إِلَهَ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ أَرَدْتَ رِضَا الْحَقِّ فَسَبِّحْ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى، وَإِنْ أَرَدْتَ الْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ فَسَبِّحْ، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أَيُّهَا الْعَبْدُ وَاظِبْ عَلَى تَسْبِيحِي فَسُبْحَانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ وَسَبِّحُوهُ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ تَسْبِيحِي فَالضَّرَرُ عَائِدٌ إِلَيْكَ، لِأَنَّ لِي مَنْ يُسَبِّحُنِي، وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فُصِّلَتْ: ٣٨] وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا [سَبَأٍ: ٤١] وَمِنْهُمْ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا [الْفُرْقَانِ: ١٨] وَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَقَالَ مُوسَى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ فِي قَوْلِهِ:
سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَالْكُلُّ يُسَبِّحُونَ وَمِنْهُمُ الْحَشَرَاتُ وَالدَّوَابُّ وَالذَّرَّاتُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَكَذَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ وَالرِّمَالُ وَالْجِبَالُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالظُّلُمَاتُ وَالْأَنْوَارُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْعَنَاصِرُ وَالْأَرْكَانُ وَالْأَرْوَاحُ وَالْأَجْسَامُ عَلَى مَا قَالَ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ [الْحَدِيدِ: ١] ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهَا الْعَبْدُ: أَنَا الْغَنِيُّ عَنْ تَسْبِيحِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَلَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى ثَوَابِ هَذَا التَّسْبِيحِ فَقَدْ صَارَ ثَوَابُ هَذِهِ التَّسْبِيحَاتِ ضَائِعًا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِي وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] لَكِنِّي أُوصِلُ ثَوَابَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ لِيَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مَنِ اجْتَهَدَ فِي خِدْمَتِي أَجْعَلُ كُلَّ الْعَالَمِ فِي خِدْمَتِهِ. وَالنُّكْتَةُ الْأُخْرَى اذْكُرْنِي بِالْعُبُودِيَّةِ لِتَنْتَفِعَ بِهِ لَا أَنَا سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ [الصَّافَّاتِ: ١٨٠] فَإِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَنِي بِالتَّسْبِيحِ طَهَّرْتُكَ عَنِ الْمَعَاصِي وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَابِ: ٤٢] أَقْرِضْنِي وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْحَدِيدِ: ١٨] وَإِنْ كُنْتُ أَنَا الْغَنِيُّ حَتَّى أَرُدَّ الْوَاحِدَ عَلَيْكَ عَشَرَةً مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [البقرة: ٢٤٥] كُنْ مُعِينًا لِي وَإِنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْ إِعَانَتِكَ/ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
[الْفَتْحِ: ٤] وَأَيْضًا فَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى الْعَسْكَرِ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّدٍ: ٤] لَكِنَّكَ إِذَا نَصَرْتَنِي نَصَرْتُكَ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٧] كُنْ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِي وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٣] وَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى ذِكْرِكَ لِأَنَّ الْكُلَّ يَذْكُرُونِي وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] لَكِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَنِي ذَكَرْتُكَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢] اخدمني:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لَا لِأَنِّي أَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِكَ فَإِنِّي أَنَا الْمَلِكُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٩]. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرَّعْدِ: ١٥] وَلَكِنِ انْصَرِفْ إِلَى خِدْمَتِي هَذِهِ الْأَيَّامَ الْقَلِيلَةَ لِتَنَالَ الرَّاحَاتِ الْكَثِيرَةَ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩١].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِحَمْدِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِحَمْدِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ نُسَبِّحُ لَكَ حَامِدِينَ لَكَ وَمُتَلَبِّسِينَ بِحَمْدِكَ، وَأَمَّا الْمَعْنَى ففيه وجهان: الأول: أنا إذا سبحانك فَنَحْمَدُكَ سُبْحَانَكَ يَعْنِي لَيْسَ تَسْبِيحُنَا تَسْبِيحًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ بَلْ تَسْتَحِقُّ بِحَمْدِكَ وَجَلَالِكَ هَذَا التَّسْبِيحَ الثَّانِي: أَنَّا نُسَبِّحُكَ بِحَمْدِكَ فَإِنَّهُ لَوْلَا إِنْعَامُكَ عَلَيْنَا بِالتَّوْفِيقِ لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا
قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إِلَّا بِنِعْمَتِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: «الْآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي حَيْثُ عَرَفْتَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنِّي»
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا التَّسْبِيحِ
فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ دَخَلَ بِالْغَدَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ لَا تُصَلِّي فَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى عَمَلِكَ إِنْ كَانَ لَكَ عَمَلٌ، فَقَالَ مَا أَظُنُّ إِلَّا سَيَمُرُّ بِكَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْكَ فَمَرَّ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ يَا فُلَانُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِي ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ صِلَاتِهِ قَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَرَرْتُ آنِفًا عَلَى فُلَانٍ وَأَنْتَ تُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ فَقُلْتُ لَهُ: نَبِيُّ اللَّهِ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَقَالَ لِي مُرَّ إِلَى عَمَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، فَقَامَ عُمَرُ مُسْرِعًا لِيَلْحَقَهُ فَيَقْتُلَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ ارْجِعْ فَإِنَّ غَضَبَكَ عِزٌّ وَرِضَاكَ حُكْمٌ إِنَّ لِلَّهِ في السموات مَلَائِكَةً لَهُ غِنًى بِصَلَاتِهِمْ عَنْ صَلَاةِ فُلَانٍ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا صَلَاتُهُمْ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلَاةِ أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ بِأَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ:
سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَهَذَا هُوَ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ».
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نُسَبِّحُ أَيْ نُصَلِّي وَالتَّسْبِيحُ هُوَ الصَّلَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: نُطَهِّرُكَ أَيْ نَصِفُكَ بِمَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعِزَّةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ مُجَاهِدٍ نُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا وَخَطَايَانَا ابْتِغَاءً لِمَرْضَاتِكَ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ نُطَهِّرُ أَفْعَالَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا حَتَّى تَكُونَ خَالِصَةً لَكَ. وَرَابِعُهَا: نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِكَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أحدها:
وَسَادِسُهَا: لَوْ كَانَ الْفَسَادُ وَالْقَتْلُ، مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَلْوَانِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَكَمَا لَا يَصِحُّ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَذَا مِنَ الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمُعَارَضَةِ بِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَالْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ قُلْنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّؤَالَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِلتَّعَجُّبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ جَوَابًا لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ تَعَالَى لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يُفْسِدُ وَيَقْتُلُ فَإِنِّي أَعْلَمُ مَعَ هَذَا بِأَنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لِلْغَمِّ فَيَكُونُ الْجَوَابُ لَا تَغْتَمُّوا بِسَبَبِ وُجُودِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَمَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَيَّ لَأَبَرَّهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ طَلَبُ الْحِكْمَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ أَنْ تَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ. بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ مَفْسَدَةً لَكُمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْتِمَاسٌ لِأَنْ يَتْرُكَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَوَابُهُ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي السَّمَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ، وَفِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُوَ أَنَّ مَعَكُمْ إِبْلِيسَ وَأَنَّ فِي قَلْبِهِ حَسَدًا وَكِبْرًا وَنِفَاقًا. وَوَجْهٌ سَادِسٌ: وَهُوَ أَنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَذِهِ الْمَدَائِحِ فَقَدِ اسْتَعْظَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فَكَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي تَسْبِيحِ أَنْفُسِكُمْ لَا فِي تَسْبِيحِي وَلَكِنِ اصْبِرُوا حَتَّى يَظْهَرَ الْبَشَرُ فَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٤٤] وَبِقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] وَبِقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: ١٩].
[سورة البقرة (٢) : آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
أَعْلَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِسْكَانِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَهُمْ بَيَانًا وَأَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُجْمَلَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ كَمَالَ فَضْلِهِ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ فَيَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِهَذَا الْجَوَابِ التفصيلي وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَالْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ: اللُّغَاتُ كُلُّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ. بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق علماً
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وَالْكَلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالًا وَجَوَابًا ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ لُغَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْوَضْعُ مَسْبُوقًا بِالِاصْطِلَاحِ بِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَاقِلِ أَوْ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَاقِلِ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لَصَارَتْ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ ذَاتَهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ الْعَجِيبَةِ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوْقِيفِ فَاسِدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَقَدُّمَ لُغَةٍ عَلَى ذَلِكَ التَّكَلُّمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّعْلِيمِ إِلَى الْأَسْمَاءِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ أَسْمَاءً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ اللُّغَاتُ حَاصِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَحَدَّى الْمَلَائِكَةَ بِعِلْمِ الْأَسْمَاءِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَضْعُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ النَّاسُ؟ وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ أَنْ تَصِيرَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ حَالَ كَوْنِ الذَّاتِ مَعْلُومَةً بِالدَّلِيلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى/ مَا خَلَقَ هَذَا الْعِلْمَ فِي الْعَاقِلِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الِاسْتِعْبَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُسْتَبْعَدٌ. وَعَنِ الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ بِطَرِيقٍ آخَرَ بِالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا. وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَضْعَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِتِلْكَ الْمَعَانِي سَابِقَةٌ عَلَى التَّعْلِيمِ فَكَفَى ذَلِكَ فِي إِضَافَةِ التَّعْلِيمِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، وَعَنِ الرَّابِعِ: مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أَيْ عَلَّمَهُ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ وَنُعُوتَهَا وَخَوَاصَّهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ اشْتِقَاقُهُ إِمَّا مِنَ السِّمَةِ أَوْ مِنَ السُّمُوِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ السِّمَةِ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْعَلَامَةَ وَصِفَاتُ الْأَشْيَاءِ وَنُعُوتُهَا وَخَوَاصُّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَاهِيَّاتِهَا، فصح أن يكون المراد من السماء: الصِّفَاتُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّمُوِّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ دَلِيلَ الشَّيْءِ كَالْمُرْتَفِعِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالدَّلِيلِ حَاصِلٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ أَسْمَى فِي الْحَقِيقَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ الصِّفَةُ، بَقِيَ أَنَّ أَهْلَ النَّحْوِ خَصَّصُوا لَفْظَ الِاسْمِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عُرْفٌ حَادِثٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مُمْكِنٌ بِحَسْبَ اللُّغَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ لَا غَيْرُهُ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ أَكْثَرُ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهَا، وَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ لِإِظْهَارِ الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضِيلَةِ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ وَيَحْسُنُ بِمَا يَتَمَكَّنُ السَّامِعُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي: ائْتِ بِكَلَامٍ مِثْلِ كَلَامِي فِي الْفَصَاحَةِ، أَمَّا الْعَرَبِيُّ فَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِلزَّنْجِيِّ فِي مَعْرِضِ التَّحَدِّي: تَكَلَّمْ بِلُغَتِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ الْبَتَّةَ: بَلْ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ، فَإِنْ حَصَلَ التَّعْلِيمُ، حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ وَقَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ أَنْبِئُونِي بِهَؤُلَاءِ وَأَنْبَأَهُمْ بِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ جَمِيعِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَكَانَ فِي الْمُسَمَّيَاتِ مَا لَا يَكُونُ عَاقِلًا، فَلِمَ قَالَ عَرَضَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ عَرَضَهَا؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا/ كَانَ فِي جُمْلَتِهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ، فَغُلِّبَ الْأَكْمَلُ، لِأَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَغْلِيبِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ كُلَّمَا غَلَّبُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَنْبَأَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِعَجْزِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ التَّحَدِّي إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ كَبِعْثَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَهُ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تَعَالَى وَعَدَمَ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ عَلِمُوا كَوْنَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَوْضُوعَةً لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَدَرُوا عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْمُعَارَضَةُ وَلَا تَظْهَرُ الْمَزِيَّةُ وَالْفَضِيلَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ عَرَفُوا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَابَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ اسْمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: رُبَّمَا كَانَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ لُغَةٌ مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَكَانَ كُلُّ صِنْفٍ جَاهِلًا بِلُغَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ حَضَرُوا وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ تِلْكَ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ خَاصَّةً فَعَرَفُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ صِدْقَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا. الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَهُمْ قَبْلَ أَنْ سمعوا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى صِدْقِ آدَمَ فَلَمَّا سَمِعُوا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَرَفُوا صِدْقَهُ فِيهَا فَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، سَلَّمْنَا أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ من باب الإرهاص وهما عندنا جائزاً وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعًا عَلَى الْكَلَامِ فِيهِمَا وَاحْتَجَّ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الأعراف: ١٩] شَافَهَهُمَا بِهَذَا التَّكْلِيفِ وَمَا جَعَلَ آدَمَ وَاسِطَةً وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ أَحَدٌ مِنَ الْجِنِّ وَلَا جَائِزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إِلَى أَحَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَعْلِهِ رَسُولَا التَّبْلِيغُ فَحَيْثُ لَا مُبَلَّغَ لَمْ يَكُنْ فِي جَعْلِهِ رَسُولًا فَائِدَةٌ وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ [طَهَ: ١٢٢] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اجْتَبَاهُ بَعْدَ الزَّلَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ قَبْلَ الزَّلَّةِ مَا كَانَ مُجْتَبًى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ مُجْتَبًى وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رَسُولًا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ وَالِاجْتِبَاءَ مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا التَّخْصِيصُ بِأَنْوَاعِ التَّشْرِيفَاتِ وَكُلُّ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ رَسُولًا فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ أَعْلِمُونِي أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْإِعْلَامِ. وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ أَخْبِرُونِي وَلَا تَقُولُوا إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّوْكِيدَ لِمَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقُصُورِ وَالْعَجْزِ، لِأَنَّهُ مَتَى تَمَكَّنَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَخْبَرُوا لَمْ يَكُونُوا صَادِقِينَ وَلَا لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ به الخلق إلا وأنتم تصلحون وَتَقُومُونَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَابِعُهَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ أَنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَظْهَرَ كَمَالَ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا بِأَنْ أَظْهَرَ عِلْمَهُ فَلَوْ كان في الإمكان وجود شيء من العلم أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ إِظْهَارُ فَضْلِهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. لَا بِالْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَنْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَوُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ أَمْرَ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْعِلْمِ، بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ بِالْحِكْمَةِ مَا يُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا:
مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣١] يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وَفِي النِّسَاءِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
[النِّسَاءِ: ١١٣] يَعْنِي الْمَوَاعِظَ وَمِثْلُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ. وَثَانِيهَا:
الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: ١٢] وَفِي لُقْمَانَ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَفِي الْأَنْعَامِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ [الأنعام: ٨٩]
٢٠] وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَفِي [الْبَقَرَةِ: ٢٥١] وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَرَابِعُهَا: الْقُرْآنُ فِي النَّحْلِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَفِي الْبَقَرَةِ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ ثُمَّ تَفَكَّرْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَعْطَى مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلَ قَالَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَسَمَّى الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلًا قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: ٧٧] فَمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُدْرِكَ كَمِّيَّتَهُ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سَمَّاهُ كَثِيرًا. ثُمَّ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عَلَى قِلَّةِ الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الدُّنْيَا مُتَنَاهِي الْقَدْرِ مُتَنَاهِي الْعَدَدِ مُتَنَاهِي الْمُدَّةِ. وَالْعِلْمُ لَا نِهَايَةَ لِقَدْرِهِ، وَعَدَدِهِ وَمُدَّتِهِ وَلَا لِلسِّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ سَبْعِ نَفَرٍ فِي كِتَابِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ فَقَالَ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَةِ: ١٠٠] يَعْنِي الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [الأنعام: ٥٠] وَفَرَّقَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فَقَالَ: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرَّعْدِ: ١٦] وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ كُلَّ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ٥٩] وَالْمُرَادُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الْعُلَمَاءُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ الْمُلُوكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَنْعَكِسُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْعَالِمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨]، وَقَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى زَادَ فِي الْإِكْرَامِ فَجَعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي آيَتَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] وَقَالَ:
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: ٤٣] الرَّابِعُ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [الْمُجَادَلَةِ: ١١] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الدَّرَجَاتِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ. أَوَّلُهَا: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٢] إِلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٤] وَالثَّانِيَةُ: لِلْمُجَاهِدِينَ قَالَ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ [النِّسَاءِ: ٩٥].
وَالثَّالِثَةُ: لِلصَّالِحِينَ قَالَ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طَهَ: ٧٥].
الرَّابِعَةُ: لِلْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ فَضَّلَ أَهْلَ بَدْرٍ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَرَجَاتٍ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ بِدَرَجَاتٍ وَفَضَّلَ الصَّالِحِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِدَرَجَاتٍ ثُمَّ فَضَّلَ الْعُلَمَاءَ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ بِدَرَجَاتٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُلَمَاءُ أَفْضَلَ النَّاسِ. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْعُلَمَاءَ فِي كِتَابِهِ بِخَمْسِ مَنَاقِبَ، أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] وَثَانِيهَا: التَّوْحِيدُ والشهادة شَهِدَ اللَّهُ إلى قوله: وَأُولُوا الْعِلْمِ
[آلِ عِمْرَانَ: ١٨] وَثَالِثُهَا: / الْبُكَاءُ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٩]. وَرَابِعُهَا: الْخُشُوعُ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٧] الْآيَةَ. وَخَامِسُهَا: الْخَشْيَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أَمَّا الْأَخْبَارُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا:
رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنَ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُتَعَلِّمِينَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ مُتَعَلِّمٍ يَخْتَلِفُ إِلَى بَابِ عَالِمٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ وَبَنَى لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ وَيَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ وَيُمْسِي وَيُصْبِحُ مَغْفُورًا لَهُ وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عُتَقَاءُ
وَثَانِيهَا:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَيَكُونَ لِلَّهِ وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ فَهُوَ كَالصَّائِمِ نَهَارَهُ وَكَالْقَائِمِ لَيْلَهُ وَإِنَّ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وَثَالِثُهَا:
عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا «مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ»
وَرَابِعُهَا:
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مَرْفُوعًا «يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ نُورِي فِيكُمْ إِلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
وَخَامِسُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ إِذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ طَيْرُ السَّمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَحِيتَانُ الْبُحُورِ».
وَسَادِسُهَا:
أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ».
وَسَابِعُهَا:
ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا «فُضِّلَ الْعَالِمُ عَلَى الْعَابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَةٍ عَدْوُ الْفَرَسِ سَبْعِينَ عَامًا وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ الْبِدْعَةَ لِلنَّاسِ فَيُبْصِرُهَا الْعَالِمُ فَيُزِيلُهَا وَالْعَابِدُ يُقْبِلُ عَلَى عِبَادَتِهِ لَا يَتَوَجَّهُ وَلَا يَتَعَرَّفُ لَهَا».
وَثَامِنُهَا:
الْحَسَنُ مَرْفُوعًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى خُلَفَائِي فَقِيلَ مَنْ خُلَفَاؤُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ»
وَتَاسِعُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ خَرَجَ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ لِيَرُدَّ بِهِ بَاطِلًا إِلَى حَقٍّ أَوْ ضَلَالًا إِلَى هُدًى كَانَ عَمَلُهُ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»،
وَعَاشِرُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ»
الْحَادِيَ عَشَرَ:
ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَعْطَاهُ أَجْرَ سَبْعِينَ نَبِيًّا».
الثَّانِي عَشَرَ:
عَامِرٌ الْجُهَنِيُّ مَرْفُوعًا «يُؤْتَى بِمِدَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ وَدَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ فَيُرَجَّحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ:
أبو وافد اللَّيْثِيُّ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّهُ رَجَعَ وَفَرَّ فَلَمَّا فَرَغَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَاسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ،
وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ «أ» الْعَالِمُ أَرْأَفُ بِالتِّلْمِيذِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا وَالْعُلَمَاءُ يَحْفَظُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ وَشَدَائِدِهَا «ب» قِيلَ/ لِابْنِ مَسْعُودٍ بِمَ وَجَدْتَ هَذَا الْعِلْمَ: قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ «ج» قَالَ بَعْضُهُمْ سَلْ مَسْأَلَةَ الْحَمْقَى، وَاحْفَظْ حِفْظَ الْأَكْيَاسِ «د» مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَعَلَّمِ الْعِلْمَ فَإِنْ كَانَ لَكَ مَالٌ كَانَ الْعِلْمُ لَكَ جَمَالًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ كَانَ الْعِلْمُ لَكَ مَالًا «هـ-»
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْعِلْمِ كَمَا لَا خَيْرَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْجَهْلِ
«و» قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ بِاللَّهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِاللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ عَبْدٌ قَدِ اسْتَوْلَتِ الْمَعْرِفَةُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى قَلْبِهِ فَصَارَ مُسْتَغْرِقًا بِمُشَاهَدَةِ نُورِ الْجَلَالِ وَصَفَحَاتِ الْكِبْرِيَاءِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِتَعَلُّمِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ. الثَّانِي: هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَغَيْرَ عَالِمٍ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي عَرَفَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَحَقَائِقَ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَ جَلَالِ اللَّهِ. أَمَّا الْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَحْكَامِ اللَّهِ فَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْحَدِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ وَعَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ تَارَةً مَعَ اللَّهِ بِالْحُبِّ لَهُ، وَتَارَةً مَعَ الْخَلْقِ بِالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا رَجَعَ مِنْ رَبِّهِ إِلَى الْخَلْقِ صَارَ مَعَهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَإِذَا خَلَا بِرَبِّهِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِهِ وَخِدْمَتِهِ فَكَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْخَلْقَ فَهَذَا سَبِيلُ الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سَائِلِ الْعُلَمَاءَ وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ وَجَالِسِ الْكُبَرَاءَ»
فَالْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَائِلِ الْعُلَمَاءَ
أَيِ الْعُلَمَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرَ الْعَالِمِينَ بِاللَّهِ فَأَمَرَ
وَالرَّابِعُ: اطْلُبِ الرَّاحَةَ فِي الْقِلَّةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ. وَالْخَامِسُ: اطْلُبْ مَنْفَعَةَ الْعِلْمِ فِي الْعَمَلِ لَا فِي كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ «يه» قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَا جَاءَ فَسَادُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْخَوَاصِّ وَهُمْ خَمْسَةٌ: الْعُلَمَاءُ، وَالْغُزَاةُ، وَالزُّهَّادُ وَالتُّجَّارُ، وَالْوُلَاةُ. أَمَّا الْعُلَمَاءُ فَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الزُّهَّادُ فَعِمَادُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْغُزَاةُ فَجُنْدُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا التُّجَّارُ فَأُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَأَمَّا الْوُلَاةُ فَهُمُ الرُّعَاةُ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ لِلدِّينِ وَاضِعًا وَلِلْمَالِ رَافِعًا فَبِمَنْ يَقْتَدِي الْجَاهِلُ، وَإِذَا كَانَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فَبِمَنْ يَقْتَدِي التَّائِبُ، وَإِذَا كَانَ الْغَازِي طَامِعًا مُرَائِيًا فَكَيْفَ يَظْفَرُ بِالْعَدُوِّ.
وَإِذَا كَانَ التَّاجِرُ خَائِنًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الْأَمَانَةُ، وَإِذَا كَانَ الرَّاعِي ذِئْبًا فَكَيْفَ تَحْصُلُ الرِّعَايَةُ «يو»
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ/ الْمَالِ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: الْعِلْمُ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَالُ مِيرَاثُ الْفَرَاعِنَةِ. الثَّانِي: الْعِلْمُ لَا يَنْقُصُ بِالنَّفَقَةِ وَالْمَالُ يَنْقُصُ، وَالثَّالِثُ: يَحْتَاجُ الْمَالُ إِلَى الْحَافِظِ وَالْعِلْمُ يَحْفَظُ صَاحِبَهُ. وَالرَّابِعُ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ يَبْقَى مَالُهُ وَالْعِلْمُ يَدْخُلُ مَعَ صَاحِبِهِ قَبْرَهُ. وَالْخَامِسُ: الْمَالُ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، وَالسَّادِسُ: جَمِيعُ النَّاسِ يَحْتَاجُونَ إِلَى صَاحِبِ الْعِلْمِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى صَاحِبِ الْمَالِ. السَّابِعُ: الْعِلْمُ يُقَوِّي الرَّجُلَ عَلَى الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَالْمَالُ يَمْنَعُهُ
«يز» قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ مَنْ يَجْلِسُ عِنْدَ الْعَالِمِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ شَيْئًا فَلَهُ سَبْعُ كَرَامَاتٍ: أَوَّلُهَا: يَنَالُ فَضْلَ الْمُتَعَلِّمِينَ. وَالثَّانِي: مَا دَامَ جَالِسًا عِنْدَهُ كَانَ مَحْبُوسًا عَنِ الذُّنُوبِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: إِذَا جَلَسَ فِي حَلْقَةِ الْعِلْمِ فَإِذَا نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ.
وَالْخَامِسُ: مَا دَامَ يَكُونُ فِي الِاسْتِمَاعِ، تُكْتَبُ لَهُ طَاعَةٌ. وَالسَّادِسُ: إِذَا اسْتَمَعَ وَلَمْ يَفْهَمْ ضَاقَ قَلْبُهُ لِحِرْمَانِهِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعِلْمِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَمُّ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي»
وَالسَّابِعُ: يَرَى إِعْزَازَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَالِمِ وَإِذْلَالَهُمْ لِلْفُسَّاقِ فَيُرَدُّ قَلْبُهُ عَنِ الْفِسْقِ وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الْعِلْمِ فَلِهَذَا أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ «يح» قِيلَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَضِنُّ بِعِلْمِهِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَ غَيْرِهِ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكُونُ فِي عِلْمِهِ بِمَنْزِلَةِ السُّلْطَانِ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ غَضِبَ، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّانِي مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَجْعَلُ حَدِيثَهُ وَغَرَائِبَ عِلْمِهِ لِأَهْلِ الشَّرَفِ وَالْيَسَارِ وَلَا يَرَى الْفُقَرَاءَ لَهُ أَهْلًا، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّالِثِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ كَانَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ إِنْ وَعَظَ عَنَّفَ وَإِنَّ وُعِظَ أَنِفَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَنْصِبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيَا فَيُفْتِي خَطَأً فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْخَامِسِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَتَعَلَّمُ كَلَامَ الْمُبْطِلِينَ فَيَمْزُجُهُ بِالدِّينِ فَهُوَ فِي الدَّرْكِ السَّادِسِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِوُجُوهِ النَّاسِ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّابِعِ مِنَ النَّارِ «يط» قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: مَنْ جَلَسَ مَعَ ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ زَادَهُ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ. مَنْ جَلَسَ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ زَادَهُ اللَّهُ حُبَّ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِيهَا وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْفُقَرَاءِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الشُّكْرَ وَالرِّضَا بِقِسْمَةِ اللَّهِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ السُّلْطَانِ زَادَهُ اللَّهُ الْقَسْوَةَ وَالْكِبْرَ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ النِّسَاءِ زَادَهُ اللَّهُ الْجَهْلَ وَالشَّهْوَةَ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصِّبْيَانِ ازْدَادَ مِنَ اللَّهْوِ وَالْمِزَاحِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْفُسَّاقِ ازْدَادَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى الذُّنُوبِ وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصَّالِحِينَ ازْدَادَ رَغْبَةً فِي الطَّاعَاتِ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الْعُلَمَاءِ ازْدَادَ الْعِلْمَ وَالْوَرَعَ «يي» إِنَّ اللَّهَ عَلَّمَ سَبْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ «أ» عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «ب» عَلَّمَ الْخَضِرَ الْفِرَاسَةَ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: ٦٥] «ج» وَعَلَّمَ يُوسُفَ عِلْمَ التَّعْبِيرِ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: ١٠١] «د» عَلَّمَ دَاوُدَ صَنْعَةَ الدِّرْعِ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ
[الْأَنْبِيَاءِ: ٨٠] «هـ» عَلَّمَ سُلَيْمَانَ مَنْطِقَ الطير يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْلِ: ١٦] «و» عَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمَ التَّوْرَاةِ/ وَالْإِنْجِيلِ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٨] «ز» وَعَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرْعَ وَالتَّوْحِيدَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاءِ: ١١٣]، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٩]، الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ١] فَعِلْمُ آدَمَ كَانَ سَبَبًا لَهُ فِي حُصُولِ السَّجْدَةِ وَالتَّحِيَّةِ، وَعِلْمُ الْخَضِرِ كَانَ سَبَبًا لِأَنْ وَجَدَ تِلْمِيذًا مِثْلَ مُوسَى وَيُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَعِلْمُ يُوسُفَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ الْأَهْلِ وَالْمَمْلَكَةِ، وَعِلْمُ دَاوُدَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ الرِّيَاسَةِ وَالدَّرَجَةِ، وَعِلْمُ سُلَيْمَانَ كَانَ سَبَبًا لِوِجْدَانِ بِلْقِيسَ وَالْغَلَبَةِ، وَعِلْمُ عِيسَى كَانَ سَبَبًا لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْ أُمِّهِ وَعِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَبَبًا لِوُجُودِ الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ نَقُولُ مَنْ عَلِمَ أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَدَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ عَلِمَ ذَاتَ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ أَمَا يَجِدُ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ؟ بَلْ يَجِدُ تَحِيَّةَ الرَّبِّ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] وَالْخَضِرُ وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فيما أُمَّةَ الْحَبِيبِ بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ كَيْفَ لَا تَجِدُونَ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النِّسَاءِ: ٦٩] وَيُوسُفُ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا نَجَا مِنْ حَبْسِ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا بِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ كَيْفَ لَا يَنْجُو مِنْ حَبْسِ الشَّهَوَاتِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ: ٢٥] وَأَيْضًا فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يُوسُفَ: ١٠١]. فَأَنْتَ يَا عَالِمُ أَمَا تَذْكُرُ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِكَ حَيْثُ عَلَّمَكَ تَفْسِيرَ كِتَابِهِ فَأَيُّ نِعْمَةٍ أَجَلُّ مِمَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَكَ مُفَسِّرًا لِكَلَامِهِ وَسَمِيًّا لِنَفْسِهِ وَوَارِثًا لِنَبِيِّهِ وَدَاعِيًا لِخَلْقِهِ وَوَاعِظًا لِعِبَادِهِ وَسِرَاجًا لِأَهْلِ بِلَادِهِ وَقَائِدًا لِلْخَلْقِ إِلَى جَنَّتِهِ وَثَوَابِهِ وَزَاجِرًا لَهُمْ عَنْ نَارِهِ وَعِقَابِهِ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: الْعُلَمَاءُ سَادَةٌ وَالْفُقَهَاءُ قَادَةٌ وَمُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ
«كا» الْمُؤْمِنُ لَا يَرْغَبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى يَرَى سِتَّ خِصَالٍ مِنْ نَفْسِهِ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ نَهَانِي عَنِ الْمَعَاصِي وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى اجْتِنَابِهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيَّ شُكْرَ نِعَمِهِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالرَّابِعَةُ: أَمَرَنِي بِإِنْصَافِ الْخَلْقِ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أُنْصِفَهُمْ إِلَّا بِالْعِلْمِ.
وَالْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالسَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِالْعَدَاوَةِ مَعَ الشَّيْطَانِ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ «كب» طَرِيقُ الْجَنَّةِ فِي أَيْدِي أَرْبَعَةٍ: الْعَالِمِ وَالزَّاهِدِ وَالْعَابِدِ وَالْمُجَاهِدِ، فَالزَّاهِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْأَمْنَ، وَالْعَابِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْخَوْفَ، وَالْمُجَاهِدُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الثَّنَاءَ وَالْحَمْدَ، وَالْعَالِمُ إِذَا كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ «كج» اطْلُبْ أَرْبَعَةً مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ الْمَوْضِعِ السَّلَامَةَ، وَمِنَ الصَّاحِبِ الْكَرَامَةَ، وَمِنَ الْمَالِ الْفَرَاغَةَ «١»، وَمِنَ الْعِلْمِ الْمَنْفَعَةَ، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْمَوْضِعِ السَّلَامَةَ فَالسِّجْنُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ صَاحِبِكَ الْكَرَامَةَ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ مَالِكَ الْفَرَاغَةَ فَالْمَدَرُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْعِلْمِ الْمَنْفَعَةَ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْهُ «كد» لَا تَتِمُّ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: لَا يَتِمُّ الدِّينُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَا يَتِمُّ الْقَوْلُ إِلَّا بِالْفِعْلِ، وَلَا تَتِمُّ/ الْمُرُوءَةُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، وَلَا يَتِمُّ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْعَمَلِ، فَالدِّينُ بِلَا تَقْوَى عَلَى الْخَطَرِ، وَالْقَوْلُ بِلَا فِعْلٍ كَالْهَدْرِ، وَالْمُرُوءَةُ بِلَا تَوَاضُعٍ كَشَجَرٍ بِلَا ثَمَرٍ، والعلم
ولكني لم أسمع الفراغة. وذلك يجعلني أميل إلى أنها محرفة عن القناعة، وفي الحق أن المرء إذا لم يقنع ويكتف بما عنده من مال لم يقنعه شيء، وهذا معناه حديث «لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له ثانٍ وثالث ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب» (عبد الله الصاوي).
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ: قِوَامُ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ بِعَالِمٍ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ تَعَلُّمِهِ، وَغَنِيٍّ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ، وَفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْعَالِمُ بِعِلْمِهِ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ مِنْ تَعَلُّمِهِ وَإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَالْوَيْلُ لَهُمْ وَالثُّبُورُ سَبْعِينَ مَرَّةً
«كو» قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهُوَ عَالِمٌ فَاتَّبِعُوهُ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقِظُوهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهُوَ مُسْتَرْشِدٌ فَأَرْشِدُوهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهُوَ شَيْطَانٌ فَاجْتَنِبُوهُ «كز» أَرْبَعَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلشَّرِيفِ أَنْ يَأْنَفَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ أَمِيرًا:
قِيَامُهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِأَبِيهِ، وَخِدْمَتُهُ لِضَيْفِهِ، وَخِدْمَتُهُ لِلْعَالِمِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَالسُّؤَالُ عَمًّا لَا يَعْلَمُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ «كح» إِذَا اشْتَغَلَ الْعُلَمَاءُ بِجَمْعِ الْحَلَالِ صَارَ الْعَوَامُّ آكِلِينَ لِلشُّبُهَاتِ، وَإِذَا صَارَ الْعَالِمُ آكِلًا لِلشُّبَهَاتِ صَارَ الْعَامِّيُّ آكِلًا لِلْحَرَامِ، وَإِذَا صَارَ الْعَالِمُ آكِلًا لِلْحَرَامِ صَارَ الْعَامِّيُّ كَافِرًا يَعْنِي إِذَا اسْتَحَلُّوا. أَمَّا الْوُجُوهُ الْعَقْلِيَّةُ فَأُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمُورَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَلَا تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ. وَقِسْمٌ تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ وَلَا يَرْضَاهُ الْعَقْلُ، وَقِسْمٌ يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ مَعًا، وَقِسْمٌ لَا يَرْضَاهُ الْعَقْلُ وَلَا تَرْضَاهُ الشَّهْوَةُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْأَمْرَاضُ وَالْمَكَارِهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْمَعَاصِي أَجْمَعُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْعِلْمُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ الْجَهْلُ فَيَنْزِلُ الْعِلْمُ مِنَ الْجَهْلِ مَنْزِلَةَ الْجَنَّةِ مِنَ النَّارِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ لَا يَرْضَيَانِ بِالنَّارِ فَكَذَلِكَ لَا يَرْضَيَانِ بِالْجَهْلِ وَكَمَا أَنَّهُمَا يَرْضَيَانِ بِالْجَنَّةِ فَكَذَا يَرْضَيَانِ بِالْعِلْمِ فَمَنْ رَضِيَ بِالْجَهْلِ فَقَدْ رَضِيَ بِنَارٍ حَاضِرَةٍ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ خَاضَ فِي جَنَّةٍ حَاضِرَةٍ، فَكُلُّ مَنِ اخْتَارَ الْعِلْمَ يُقَالُ لَهُ تَعَوَّدْتَ الْمُقَامَ فِي الْجَنَّةِ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْجَهْلِ يُقَالُ لَهُ تَعَوَّدْتَ النَّارَ فَادْخُلِ النَّارَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ جَنَّةٌ وَالْجَهْلَ نَارٌ أَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ فِي إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالَ الْأَلَمِ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْمَحْبُوبِ، وَالْجِرَاحَةُ إِنَّمَا تُؤْلِمُ لِأَنَّهَا تُبْعِدُ جُزْءًا مِنَ الْبَدَنِ عَنْ جُزْءٍ مَحْبُوبٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ فَلَمَّا اقْتَضَتِ الْجِرَاحَةُ إِزَالَةَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ فَقَدِ اقْتَضَتْ إِزَالَةَ الْمَحْبُوبِ وَبُعْدَهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مُؤْلِمًا وَالْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إِنَّمَا كَانَ أَشَدَّ إِيلَامًا مِنَ الْجُرْحِ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَبْعِيدَ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ عَنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، أَمَّا النَّارُ فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَاقْتَضَتْ تَبْعِيدَ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّفْرِيقَاتُ فِي الْإِحْرَاقِ أَشَدَّ كَانَ الْأَلَمُ هُنَاكَ أَصْعَبَ، أَمَّا اللَّذَّةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، فَلَذَّةُ الْأَكْلِ عِبَارَةٌ عن إدراك تلك الطعوم الموافقة لِلْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ النَّظَرِ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ مُشْتَاقَةٌ إِلَى إِدْرَاكِ الْمَرْئِيَّاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ لَذَّةً لَهَا فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ اللَّذَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، وَالْأَلَمَ عِبَارَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَكْرُوهِ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: / كُلَّمَا كَانَ الْإِدْرَاكُ أَغْوَصَ وَأَشَدَّ وَالْمُدْرِكُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ، وَالْمُدْرَكُ أَنْقَى وَأَبْقَى. وَجَبَ أَنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ أَشْرَفَ وَأَكْمَلَ. وَلَا شك أن محل الْعِلْمِ هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَدَنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَغَوْصَ وَأَشْرَفَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] وَأَمَّا الْمَعْلُومُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَفُ لِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَجَمِيعُ أَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَتَكَالِيفِهِ وَأَيُّ مَعْلُومٍ أَشْرَفُ مِنْ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا كَمَالَ وَلَا لَذَّةَ فَوْقَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَلَذَّاتِهِ وَلَا شَقَاوَةَ وَلَا نُقْصَانَ فَوْقَ شَقَاوَةِ الْجَهْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ الْوَاحِدُ مِنَّا عَنْ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنْ عَلِمَهَا وَقَدِرَ عَلَى الْجَوَابِ وَالصَّوَابِ فِيهَا فَرِحَ بِذَلِكَ وَابْتَهَجَ بِهِ، وَإِنْ جَهِلَهَا نَكَّسَ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ بِالْعِلْمِ أَكْمَلُ اللَّذَّاتِ، وَالشَّقَاءَ الْحَاصِلَ بِالْجَهْلِ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ، واعلم أن هاهنا وُجُوهًا أُخَرَ مِنَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ نَسِينَا إِيرَادَهَا قَبْلَ ذَلِكَ
الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَبَيَانُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَبَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَيِّنَةِ: ٨] إِلَى قَوْلِهِ تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ فَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُقَدِّمَتَيْ هَذِهِ/ الدَّلَالَةِ بِالْعَقْلِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَخْشَاهُ، فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالشَّيْءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالذَّاتِ لَا يَكْفِي فِي الْخَوْفِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. مِنْهَا: الْعِلْمُ بِالْقُدْرَةِ، لِأَنَّ الْمَلِكَ عَالِمٌ بِاطِّلَاعِ رَعِيَّتِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَخَافُهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا. وَمِنْهَا: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، لأن السارق من مال السلطان يعلم بقدرته، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِسَرِقَتِهِ فَلَا يَخَافُهُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا.
فَإِنَّ الْمُسَخَّرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ عَالِمٌ بِكَوْنِ السُّلْطَانِ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ عَالِمًا بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَلَا يَحْصُلُ الْخَوْفُ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ اطِّلَاعَ السُّلْطَانِ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَعَلِمَ قُدْرَتَهُ عَلَى مَنْعِهِ وَعَلِمَ أنه حكيم لا يرضى بسفاهته، صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ مُوجِبَةً لِحُصُولِ الْخَوْفِ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَوْفَ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، غَيْرَ رَاضٍ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْخَوْفَ سَبَبُ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا سَنَحَ لِلْعَبْدِ لَذَّةٌ عَاجِلَةٌ وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ، فَصَرِيحُ الْعَقْلِ حَاكِمٌ بِتَرْجِيحِ الْجَانِبِ الرَّاجِحِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَرْجُوحِ، فَإِذَا عَلِمَ بِنُورِ الْإِيمَانِ أَنَّ اللَّذَّةَ الْعَاجِلَةَ حَقِيرَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلَمِ الْآجِلِ، صَارَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِفِرَارِهِ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَشْيَةُ، وَإِذَا صَارَ تَارِكًا لِلْمَحْظُورِ فَاعِلًا لِلْوَاجِبِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّوَاهِدِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ أَنَّ
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوِ اكْتَفَى أَحَدٌ مِنَ الْعِلْمِ لَاكْتَفَى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَقُلْ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الْكَهْفِ: ٦٦]. الْخَامِسُ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا مَا كَانَ حَتَّى إِنَّهُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥] ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْتَخِرْ بِالْمَمْلَكَةِ وَافْتَخَرَ بالعلم حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ١٦] فَافْتَخَرَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِمَنْطِقِ الطَّيْرِ فَإِذَا حَسُنَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ فَلَأَنْ يَحْسُنَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَنَ وَلِأَنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ على قوله: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَمَالَ حَالِهِمْ قَدَّمَ الْعِلْمَ أَوَّلًا وَقَالَ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٨] إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٩] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ. السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْهُدْهُدُ مَعَ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْقِفِ الْمُعَاتَبَةُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النَّمْلِ: ٢٢] فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ يُرَى الرَّجُلُ السَّاقِطُ إِذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ صَارَ نَافِذَ الْقَوْلِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، السَّابِعُ:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً»
وَفِي التَّفْضِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّفَكُّرَ يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ تُوصِلُكَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يُوصِلُكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفَكُّرَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالطَّاعَةَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَالْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَوَارِحِ فَكَانَ عَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] جَعَلَ الصَّلَاةَ وَسِيلَةً إِلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَالْمَقْصُودُ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّامِنُ: قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٣] فَسَمَّى الْعِلْمَ عَظِيمًا وَسَمَّى الْحِكْمَةَ خَيْرًا كَثِيرًا فَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ وَقَالَ أَيْضًا: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ١] فَجَعَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ سَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ نَاطِقَةٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا التَّوْرَاةُ
فَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «عَظِّمِ الْحِكْمَةَ فَإِنِّي لَا أَجْعَلُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ إِلَّا وَأَرَدْتُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ فَتَعَلَّمْهَا ثُمَّ اعْمَلْ بِهَا ثُمَّ ابْذُلْهَا كَيْ تَنَالَ بِهَا كَرَامَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
وَأَمَّا الزَّبُورُ
فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «يَا دَاوُدُ قُلْ لِأَحْبَارِ بَنِي
وَأَقُولُ إِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى التُّقَى عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ التُّقَى لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْعِلْمِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَوْصُوفُ بِالْأَمْرَيْنِ أَشْرَفُ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا السِّرُّ أَيْضًا قَدَّمَ الْعَالِمَ عَلَى الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، أَمَّا الْعَاقِلُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عَالِمًا فَالْعَقْلُ كَالْبَذْرِ وَالْعِلْمُ كَالشَّجَرَةِ وَالتَّقْوَى كَالثَّمَرِ. وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ
قَالَ اللَّهُ تعالى في السورة السابعة عشر مِنْهُ «وَيْلٌ لِمَنْ سَمِعَ بِالْعِلْمِ فَلَمْ يَطْلُبْهُ كَيْفَ يُحْشَرُ مَعَ الْجُهَّالِ إِلَى النَّارِ اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوهُ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِنْ لَمْ يُسْعِدْكُمْ لَمْ يُشْقِكُمْ/ وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْكُمْ لَمْ يَضَعْكُمْ وَإِنْ لَمْ يُغْنِكُمْ لَمْ يُفْقِرْكُمْ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ وَلَا تَقُولُوا نَخَافُ أَنْ نَعْلَمَ فَلَا نَعْمَلُ وَلَكِنْ قُولُوا نَرْجُو أَنْ نَعْلَمَ فَنَعْمَلَ»
وَالْعِلْمُ شَفِيعٌ لِصَاحِبِهِ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُخْزِيَهُ،
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ مَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ؟
يَقُولُونَ. ظَنُّنَا أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَغْفِرَ لَنَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ فَعَلْتُ، إِنِّي قَدِ اسْتَوْدَعْتُكُمْ حِكْمَتِي لَا لِشَرٍّ أَرَدْتُهُ بِكُمْ، بَلْ لِخَيْرٍ أَرَدْتُهُ بِكُمْ، فَادْخُلُوا فِي صَالِحِ عِبَادِي إِلَى جَنَّتِي بِرَحْمَتِي»
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ. أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال لعيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: يَا عِيسَى عَظِّمِ الْعُلَمَاءَ وَاعْرِفْ فَضْلَهُمْ لِأَنِّي فَضَّلْتُهُمْ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوَاكِبِ، وَكَفَضْلِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَكَفَضْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،
أَمَّا الْأَخْبَارُ: «أ»
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ «إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ»
«ب»
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَلِيغَةً قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهِيَ آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَتَوَاضَعَ فِي الْعِلْمِ وَعَلَّمَهَ عِبَادَ اللَّهِ يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. لَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلُ ثَوَابًا مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةٌ وَلَا دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ نَفِيسَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهَا أَوْفَرُ النَّصِيبِ وَأَشْرَفُ الْمَنَازِلِ».
«ج»
ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفَّتْ مَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهَا قِبَابٌ مِنْ فِضَّةٍ مُنَضَّدَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ جِلَالُهَا السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادِي الرَّحْمَنِ: أَيْنَ مَنْ حَمَلَ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ: اجْلِسُوا عَلَى هَذِهِ الْمَنَابِرِ فَلَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
«د»
عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْفِقْهِ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنَ اللَّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَرْضَى اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
«هـ»
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ مَلَكَاهُ وَإِنْ مَاتَ فِي طَلَبِهِ مَاتَ شَهِيدًا، وَكَانَ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُنَوَّرُ عَلَى جِيرَانِهِ أَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَمِينِهِ. وَأَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَسَارِهِ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ خَلْفِهِ، وَأَرْبَعِينَ أَمَامَهُ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ، وَنَفْسُهُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِنْ عَيْنَيْهِ تُطْفِئُ بَحْرًا مِنْ جَهَنَّمَ فَمَنْ أَهَانَ الْعَالِمَ فقد أَهَانَ اللَّهَ أَهَانَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
«و»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَجْوَدِ الْأَجْوَادِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَجْوَدُ الْأَجْوَادِ وَأَنَا أَجْوَدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَجْوَدُهُمْ مِنْ بَعْدِي رَجُلٌ عَالِمٌ يَنْشُرُ عِلْمَهُ فَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ وَرَجُلٌ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ».
«ز»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ/ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، والله تعالى في عون العبد، مادام الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلى الجنة
«ح»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ».
قَالَ الرَّاوِي: فَأَعْظَمُ مَرْتَبَةٍ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ «ط»
مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ
لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَنَارُ سُبُلِ الْجَنَّةِ وَالْأَنِيسُ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْوَحْدَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً هُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ يُقْتَفَى بِآثَارِهِمْ وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى آرَائِهِمْ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلْقَتِهِمْ وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ وَفِي صَلَاتِهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ وَالسَّمَاءُ وَنُجُومُهَا. لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمَةِ وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ يَبْلُغُ بِالْبَعِيدِ مَنَازِلَ الْأَحْرَارِ وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ والدرجات العلى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يُعْدَلُ بِالصِّيَامِ وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ بِهِ يُطَاعُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ» «ي»
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِالْخَيْرِ»
«يَا»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِذَا سَأَلْتُمُ الْحَوَائِجَ فَاسْأَلُوهَا النَّاسَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنِ النَّاسُ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ قِيلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ قِيلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ الصِّبَاحُ الْوُجُوهِ»
قَالَ الرَّاوِي وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ مَنْ يَحْفَظُ مَعَانِيَهُ «يب»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَخَلِيفَةُ كِتَابِهِ وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ وَالدُّنْيَا سُمُّ اللَّهِ الْقَتَّالُ لِعِبَادِهِ فَخُذُوا مِنْهَا بِقَدْرِ السُّمِّ فِي الْأَدْوِيَةِ لَعَلَّكُمْ تَنْجُونَ»
قَالَ الرَّاوِي وَالْعُلَمَاءُ دَاخِلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا حَرَامٌ فَاجْتَنِبُوهُ وَهَذَا حَلَالٌ فَخُذُوهُ «يج»
فِي الْخَبَرِ: الْعَالِمُ نَبِيٌّ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ
«يد»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُنْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُسْتَمِعًا، أَوْ مُحِبًّا، وَلَا تَكُنِ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ»
قَالَ الرَّاوِي:
وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النَّاسُ رَجُلَانِ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ»
إِنَّ الْمُسْتَمِعَ وَالْمُحِبَّ بمنزلة المتعلم وما أحسن قوله بَعْضِ الْأَعْرَابِ لِوَلَدِهِ: كُنْ سَبُعًا خَالِسًا أَوْ ذِئْبًا خَانِسًا أَوْ كَلْبًا حَارِسًا، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تَكُونَ إِنْسَانًا نَاقِصًا، «يه»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اتَّكَأَ عَلَى يَدِهِ عَالِمٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَمَنْ قَبَّلَ رَأْسَ عَالِمٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً»
«يو»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ برواية أبي هريرة «بكت السموات/ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ لِعَزِيزٍ ذَلَّ وَغَنِيٍّ افْتَقَرَ وَعَالِمٍ يَلْعَبُ بِهِ الْجُهَّالُ»
«يز»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالشُّهَدَاءُ قُوَّادُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ سَادَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
«يح»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ وَخُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ»
قَالَ الرَّاوِي الْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مِفْتَاحًا إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِفْتَاحَ الْجِنَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ بِيَدِهِ مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى عِلْمًا فِي الدِّينِ. «يط»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَحْمَةٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْغَافِلِينَ وَالْبَالِغِينَ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ، فَتِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً لِلْعُلَمَاءِ وَطَالِبِي الْعِلْمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالرَّحْمَةُ الْوَاحِدَةُ لِسَائِرِ النَّاسِ».
«كَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِأُمَّتِي؟ قَالَ: الْعِلْمُ، قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى الْعَالِمِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: زِيَارَةُ الْعَالِمِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَسَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ وَأَرَادَ بِهِ صَلَاحَ نَفْسِهِ وَصَلَاحَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَأَنَا
«كا»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَشَرَةٌ تُسْتَجَابُ لَهُمُ الدَّعْوَةُ الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ وَصَاحِبُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْمَرِيضُ وَالْيَتِيمُ وَالْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالنَّاصِحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَلَدُ الْمُطِيعُ لِأَبَوَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُطِيعَةُ لِزَوْجِهَا»
«كب»
«سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْعِلْمُ؟ فَقَالَ: دَلِيلُ الْعَمَلِ قِيلَ: فَمَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: قَائِدُ الْخَيْرِ، قِيلَ: فَمَا الْهَوَى؟ قَالَ: مَرْكَبُ الْمَعَاصِي، قِيلَ: فَمَا الْمَالُ؟ قَالَ: رِدَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ، قِيلَ: فَمَا الدُّنْيَا؟ قَالَ: سُوقُ الْآخِرَةِ».
«كج»
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُحَدِّثُ إِنْسَانًا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي تُحَدِّثُهُ إِلَّا سَاعَةٌ، وَكَانَ هَذَا وَقْتَ الْعَصْرِ، فَأَخْبَرَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فَاضْطَرَبَ الرَّجُلُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى أَوْفَقِ عَمَلٍ لِي فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، قَالَ اشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ فَاشْتَغَلَ بِالتَّعَلُّمِ، وَقُبِضَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ،
قَالَ الرَّاوِي: فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعِلْمِ، لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. «كد»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إِلَّا الْعَالِمُونَ»
وَالْخَبَرُ مَشْهُورٌ «كه»
عَنْ أَنَسٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سَبْعَةٌ لِلْعَبْدِ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ أَجْرَى نَهْرًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرِّثَ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ بِالْخَيْرِ أَوْ صَدَقَةً تَجْرِي لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ»
فَقَدَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّعْلِيمَ عَلَى جَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ لِأَنَّهُ رُوحَانِيٌّ وَالرُّوحَانِيُّ أَبْقَى مِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ «كو»
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُجَالِسُوا الْعُلَمَاءَ إِلَّا إِذَا دَعَوْكُمْ مِنْ خَمْسٍ إِلَى خَمْسٍ: مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ وَمِنَ الْكِبَرِ إِلَى التَّوَاضُعِ وَمِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى النَّصِيحَةِ وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَمِنَ الرَّغْبَةِ إِلَى الزُّهْدِ»
«كز»
أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا عَلِيُّ احْفَظِ التَّوْحِيدَ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِي وَالْزَمِ الْعَمَلَ فَإِنَّهُ حِرْفَتِي، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ فَإِنَّهَا قُرَّةُ عَيْنِي، وَاذْكُرِ الرَّبَّ فَإِنَّهُ بَصِيرَةُ فُؤَادِي، وَاسْتَعْمِلِ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ مِيرَاثِي
«كح»
أَبُو كَبْشَةَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ ضَرَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الدُّنْيَا مَثَلَ أَرْبَعَةِ رَهْطٍ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَآتَاهُ مَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَيَقُولُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ فُلَانٌ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا/ وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَقِّ وَيُنْفِقُهُ في الباطل، ورجل لم يؤته اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ لَفَعَلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ فُلَانٌ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ.
الْآثَارُ «أ»
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانَةِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، يَا كُمَيْلُ العلم خير من المال، والعلم يحسرك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ، يَا كُمَيْلُ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ زَيْنٌ يُزَانُ بِهِ يَكْتَسِبُ بِهِ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ
«ب» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ مِثْلُ جَبَلِ تِهَامَةَ فَإِذَا سَمِعَ الْعِلْمَ وَخَافَ وَاسْتَرْجَعَ عَلَى ذُنُوبِهِ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ فَلَا تُفَارِقُوا مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ تُرْبَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَكْرَمَ مِنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ «ج» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خُيَّرَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْعِلْمَ وَالْمُلْكَ مَعًا «د» سُلَيْمَانُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْهُدْهُدِ إِلَّا لِعِلْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بن الأرزق قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ اخْتَارَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ لِطَلَبِ الْمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَالزُّجَاجَةِ يُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا فَقَالَ نَافِعٌ فكيف
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ | وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ |
وَإِنَّ امرأ لم يحيى بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ | وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ |
إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَارَ مَلِكًا احْتَاجَ إلى زير فَسَأَلَ رَبَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ لَا تَخْتَرْ إِلَّا فُلَانًا فَرَآهُ يُوسُفُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ لِجِبْرِيلَ إِنَّهُ كَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْعَمَلِ مَعَ سُوءِ حَالِهِ فَقَالَ جِبْرِيلُ إِنَّ رَبَّكَ عَيَّنَهُ لِذَلِكَ لأنه كان ذب عنك حيث قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: ٢٧]
وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الَّذِي ذَبَّ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَحَقَّ الشَّرِكَةَ فِي مَمْلَكَتِهِ فَمَنْ ذَبَّ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ بِالْبُرْهَانِ الْمُسْتَقِيمِ كَيْفَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ اللَّهِ الْإِحْسَانَ وَالتَّحْسِينَ «ج» أَرَادَ وَاحِدٌ خِدْمَةَ مَلِكٍ فَقَالَ الْمَلِكُ اذْهَبْ وَتَعَلَّمْ حَتَّى تَصْلُحَ لِخِدْمَتِي فَلَمَّا شَرَعَ فِي التَّعَلُّمِ وَذَاقَ لَذَّةَ الْعِلْمِ بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ وَقَالَ اتْرُكِ التَّعَلُّمَ فَقَدْ صِرْتَ أَهْلًا لِخِدْمَتِي فَقَالَ كُنْتُ أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ حِينَ لَمْ تَرَنِي أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ وَحِينَ رَأَيْتَنِي أَهْلًا لِخِدْمَتِكَ رَأَيْتُ نَفْسِي أَهْلًا لِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْبَابَ بَابُكَ لِجَهْلِي وَالْآنَ عَلِمْتُ أَنَّ الْبَابَ بَابُ الرَّبِّ «د» تَحْصِيلُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ لِفَرْطِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاكَ سَوَادَ الْعَيْنِ وَسُوَيْدَاءَ الْقَلْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّوَادَ أَكْبَرُ مِنَ السُّوَيْدَاءِ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ السُّوَيْدَاءَ تَصْغِيرُ السَّوَادِ ثُمَّ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى سَوَادِ عَيْنِكَ جُزْءًا مِنَ الدُّنْيَا لَا تَرَى شَيْئًا فَكَيْفَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى السُّوَيْدَاءِ كُلَّ الدُّنْيَا كَيْفَ تَرَى بِقَلْبِكَ شَيْئًا «هـ» قَالَ حَكِيمٌ: الْقَلْبُ ميت وحياته بالعالم وَالْعِلْمُ مَيِّتٌ وَحَيَاتُهُ
أَمَّا الْحِكَايَاتُ: «أ» حُكِيَ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ مَعَهُ فُقَهَاءُ وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو يُوسُفَ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ بَيْتِهِ مَالًا بِاللَّيْلِ فَأَقَرَّ الْآخِذُ بِذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، قَالُوا لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالسَّرِقَةِ فَصَدَّقَهُ الْكُلُّ فِي قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالُوا لِلْآخِذِ أَسَرَقْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَطْعَ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ لَكِنْ بَعْدَ مَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُسْمَعُ إِقْرَارُهُ فَتَعَجَّبَ الْكُلُّ مِنْ ذَلِكَ «ب» عَنِ الشَّعْبِيِّ كُنْتُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَأُتِيَ بِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فَقِيهِ خُرَاسَانَ مَعَ بَلْخٍ مُكَبَّلًا بِالْحَدِيدِ فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ أَنْتَ زَعَمْتَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: الْحَجَّاجُ لَتَأْتِيَنِّي بِهَا وَاضِحَةً بَيِّنَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَأُقَطِّعَنَّكَ عُضْوًا عُضْوًا فَقَالَ آتِيكَ بِهَا وَاضِحَةً بَيِّنَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَا حَجَّاجُ قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ جُرْأَتِهِ بِقَوْلِهِ يَا حَجَّاجُ فَقَالَ لَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِهَذِهِ الْآيَةِ نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ٦١] فَقَالَ: آتِيكَ بِهَا وَاضِحَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الْأَنْعَامِ: ٨٤] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى فمن كان أبو عِيسَى وَقَدْ أُلْحِقَ بِذُرِّيَّةِ نُوحٍ؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حُلُّوا وَثَاقَهُ وَأَعْطُوهُ مِنَ الْمَالِ كَذَا «ج» يُحْكَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَاءُوا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِيُنَاظِرُوهُ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَيُبَكِّتُوهُ وَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: لَا يُمْكِنُنِي مُنَاظَرَةُ الْجَمِيعِ فَفَوِّضُوا أَمْرَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى أَعْلَمِكُمْ لِأُنَاظِرَهُ فَأَشَارُوا إِلَى وَاحِدٍ فَقَالَ: هَذَا أَعْلَمُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَالْمُنَاظَرَةُ مَعَهُ كَالْمُنَاظَرَةِ مَعَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ كَالْإِلْزَامِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَإِنْ نَاظَرْتُهُ وَأَلْزَمْتُهُ الْحُجَّةَ فَقَدْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ؟ قَالُوا: لِأَنَّا رَضِينَا بِهِ إِمَامًا فَكَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا لَنَا قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ فَنَحْنُ لَمَّا اخْتَرْنَا الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَنَا وَهُوَ يَنُوبُ عَنَّا فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْإِلْزَامِ
لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ | كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ |
لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ | كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ |
لَقَدْ ضَاءَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ | كَمَا ضَاءَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَةْ |
وَمِنَّا سُوَيْدٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبُ | وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ |
أَعِيدُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ السُّؤَالَ، فَأَعَادُوا وَأَعَادَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَتْوَى، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ؟ قَالَ: لَمَّا شَافَهَتْهُ بِالْيَمِينِ بعد ما حَلَفَ كَانَتْ مُكَلِّمَةً فَسَقَطَتْ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَلَّمَهَا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ عَنْهُمَا. قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُ لَيُكْشَفُ لَكَ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ شَيْءٍ كُلُّنَا عَنْهُ غَافِلٌ. «يا» دَخَلَ اللُّصُوصُ عَلَى رَجُلٍ فَأَخَذُوا مَتَاعَهُ وَاسْتَحْلَفُوهُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُعْلِمَ أَحَدًا، فَأَصْبَحَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَرَى اللُّصُوصَ يَبِيعُونَ مَتَاعَهُ وَلَيْسَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ أَجْلِ يَمِينِهِ، فَجَاءَ الرَّجُلُ يُشَاوِرُ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَحْضِرْ لِي إِمَامَ مَسْجِدِكَ وَأَهْلَ مَحَلَّتِكَ فَأَحْضَرَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ. هَلْ تُحِبُّونَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَى هَذَا مَتَاعَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْمَعُوا كُلًّا مِنْهُمْ وَأَدْخِلُوهُمْ فِي دَارٍ ثُمَّ أَخْرِجُوهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَقُولُوا أَهَذَا لِصُّكَ؟ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِلِصِّهِ قَالَ: لَا، وَإِنْ كَانَ لِصَّهُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِذَا سَكَتَ فَاقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا سُرِقَ مِنْهُ «يب» كَانَ فِي جِوَارِ أَبِي حَنِيفَةَ فَتًى يَغْشَى مَجْلِسَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ يَوْمًا لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ابْنَةَ فُلَانٍ وَقَدْ خَطَبْتُهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنِّي مِنَ الْمَهْرِ فَوْقَ طَاقَتِي، فَقَالَ: احْتَلْ وَاقْتَرِضْ وَادْخُلْ عَلَيْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَهِّلُ الْأَمْرَ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ الْقَدْرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: بَعْدَ الدُّخُولِ أَظْهِرْ أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَأَنَّكَ تُسَافِرُ بِأَهْلِكَ مَعَكَ: فَأَظْهَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْمَرْأَةِ وَجَاءُوا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ يَشْكُونَهُ وَيَسْتَفْتُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
الطَّرِيقُ أَنْ تُرْضُوهُ بِأَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ مَا أَخَذْتُمُوهُ مِنْهُ، فَأَجَابُوهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: فَأَنَا أُرِيدُ مِنْهُمْ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ وَإِلَّا أَقَرَّتْ لِرَجُلٍ بَدَيْنٍ فَلَا تَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِهَا حَتَّى تَقْضِيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ فَقَالَ الرَّجُلُ اللَّهَ اللَّهَ لَا يَسْمَعُوا بِهَذَا فَلَا آخُذُ مِنْهُمْ شَيْئًا وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَحَصَلَ بِبَرَكَةِ عِلْمِ أَبِي حَنِيفَةَ فَرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ «يج» عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، لِي ابْنٌ لَيْسَ بِمَحْمُودِ السِّيرَةِ أَشْتَرِي لَهُ الْجَارِيَةَ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيُعْتِقُهَا وَأُزَوِّجُهُ الْمَرْأَةَ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيُطَلِّقُهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: اذْهَبْ بِهِ مَعَكَ إِلَى سُوقِ النَّخَّاسِينَ فَإِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى جَارِيَةٍ فَابْتَعْهَا لِنَفْسِكَ ثُمَّ زَوِّجْهَا إِيَّاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا عَادَتْ إِلَيْكَ مَمْلُوكَةً وَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ إياها، قال الليث: فو الله مَا أَعْجَبَنِي جَوَابُهُ كَمَا أَعْجَبَنِي سُرْعَةُ جَوَابِهِ «يد» سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْرَبَنَّ امْرَأَتَهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ وَجْهَ الْجَوَابِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَافِرُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَطَؤُهَا نَهَارًا/ فِي رَمَضَانَ «١» «يه» جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ:
سُرِقَتْ لِي أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَنْ تَتَّهِمُ؟ فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ أَحَدًا قَالَ: لَعَلَّكَ أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ أَهْلِكَ؟
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ امْرَأَتِي خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْحَجَّاجُ لِعَطَّارِهِ اعْمَلْ لِي طِيبًا ذَكِيًّا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فَعَمِلَ لَهُ الطِّيبَ ثُمَّ دَعَا الشَّيْخَ فَقَالَ: ادَّهِنْ مِنْ هَذِهِ الْقَارُورَةِ وَلَا تُدْهِنْ مِنْهَا غَيْرَكَ ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ لِحَرَسِهِ: اقْعُدُوا عَلَى أَبْوَابِ
كُنْتُ نَائِمًا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِالْبَابِ يُدَقُّ وَيُقْرَعُ فَقُلْتُ: انْظُرُوا مَنْ ذَاكَ؟ فَقَالُوا: رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَدْعُوكَ فَخِفْتُ عَلَى رُوحِي فَقُمْتُ وَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: دَعَوْتُكَ فِي مَسْأَلَةٍ: إِنَّ أُمَّ مُحَمَّدٍ يَعْنِي زبية قُلْتُ لَهَا أَنَا الْإِمَامُ الْعَدْلُ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَتْ لِي إِنَّكَ ظَالِمٌ عَاصٍ فَقَدْ شَهِدْتَ لِنَفْسِكَ بِالْجَنَّةِ فَكَفَرْتَ بِكَذِبِكَ عَلَى اللَّهِ وَحَرُمْتُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا وَقَعْتَ فِي مَعْصِيَةٍ هَلْ تَخَافُ اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا:
فَقَالَ إِي وَاللَّهِ أَخَافُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَقُلْتُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ لَكَ جَنَّتَيْنِ، لَا جَنَّةً وَاحِدَةً قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] فلا أفني وَأَمَرَنِي بِالِانْصِرَافِ فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى دَارِي رَأَيْتُ الْبِدَرُ مُتَبَادِرَةٌ إِلَيَّ «يح» يُحْكَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَتَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَسُولُ الرَّشِيدِ يَسْتَعْجِلُهُ، فَخَافَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَبِسَ إِزَارَهُ وَمَشَى خَائِفًا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ وَأَدْنَاهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ هَدَأَ رَوْعُهُ، قَالَ الرَّشِيدُ إِنَّ حُلِيًّا لَنَا فُقِدَ مِنَ الدَّارِ فَاتَّهَمْتُ فِيهِ جَارِيَةً مِنْ جَوَارِي الدَّارِ الْخَاصَّةِ، فَحَلَفْتُ لَتَصْدُقِينِي أَوْ لَأَقْتُلَنَّكِ وَقَدْ نَدِمْتُ فَاطْلُبْ لِي وَجْهًا، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَأْذَنْ لِي فِي الدُّخُولِ عَلَيْهَا فَأَذِنَ لَهُ فَرَأَى جَارِيَةً كَأَنَّهَا فِلْقَةُ قَمَرٍ، فَأَخْلَى الْمَجْلِسَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَمَعَكِ الْحُلِيُّ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: لَهَا احْفَظِي مَا أَقُولُ لَكِ وَلَا تَزِيدِي عَلَيْهِ وَلَا تَنْقُصِي عَنْهُ إِذَا دَعَاكِ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ لَكِ أَسَرَقْتِ الْحُلِيَّ فَقُولِي نَعَمْ، فَإِذَا قَالَ لَكِ فَهَاتِهَا فَقُولِي مَا سَرَقْتُهَا، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى مَجْلِسِ الرَّشِيدِ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْجَارِيَةِ فَحَضَرَتْ، فَقَالَ لِلْخَلِيفَةِ: سَلْهَا عَنِ الْحُلِيِّ، فَقَالَ لَهَا الْخَلِيفَةُ:
أَسَرَقْتِ الْحُلِيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا: فَهَاتِهَا، قَالَتْ: لَمْ أَسْرِقْهَا وَاللَّهِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَدْ صَدَقَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِقْرَارِ أَوِ الْإِنْكَارِ وَخَرَجْتَ مِنَ الْيَمِينِ، فَسَكَنَ غَضَبُ الرَّشِيدِ وَأَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى دَارِ أَبِي يُوسُفَ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخُزَّانَ غُيَّبٌ فَلَوْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ إِلَى الْغَدِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ أَعْتَقَنَا اللَّيْلَةَ/ فَلَا نُؤَخِّرُ صِلَتَهُ إِلَى الْغَدِ، فَأَمَرَ حَتَّى حُمِلَ عَشْرُ بِدَرٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ إِلَى مَنْزِلِهِ. «يط» قَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ لِلشَّافِعِيِّ: كَيْفَ تَدَّعِي انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ وُجُودِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَلْ تَعْرِفُ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافَةِ هَذَا الْجَالِسِ؟ فَأَقَرَّ بِهِ خَوْفًا وَانْقَطَعَ، «ك»
أَعْرَابِيٌّ قَصَدَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ حَاجَةً وَقَالَ: سَمِعْتُ جَدَّكَ يَقُولُ: إِذَا سَأَلْتُمْ حَاجَةً فَاسْأَلُوهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةٍ: إِمَّا عَرَبِيٌّ شَرِيفٌ، أَوْ مَوْلًى كَرِيمٌ، أَوْ حَامِلُ الْقُرْآنِ، أَوْ صَاحِبُ وَجْهٍ صَبِيحٍ فَأَمَّا الْعَرَبُ فَشَرُفَتْ بِجَدِّكَ، وَأَمَّا الْكَرَمُ فَدَأْبِكُمْ وَسِيرَتِكُمْ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَفِي بُيُوتِكُمْ نَزَلَ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الصَّبِيحُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَيَّ فَانْظُرُوا إِلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَقَالَ الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فَقَالَ الْحُسَيْنُ سَمِعْتُ أَبِي عَلِيًّا يَقُولُ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ.
وَسَمِعْتُ جَدِّي يَقُولُ: الْمَعْرُوفُ بِقَدْرِ الْمَعْرِفَةِ فَأَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ إِنْ أَحْسَنْتَ فِي جَوَابِ وَاحِدَةٍ فَلَكَ ثُلُثُ مَا عِنْدِي وَإِنْ أَجَبْتَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَلَكَ ثُلُثَا مَا عِنْدِي وَإِنْ أَجَبْتَ عَنِ الثَّلَاثِ فَلَكَ كُلُّ مَا عِنْدِي وَقَدْ حُمِلَ إِلَيَّ صُرَّةٌ مَخْتُومَةٌ مِنَ الْعِرَاقِ فَقَالَ: سَلْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ.
أَمَّا الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ صِفَةَ شَرَفٍ وَكَمَالٍ وَكَوْنَ الْجَهْلِ صِفَةَ نُقْصَانٍ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ بِالضَّرُورَةِ وَلِذَلِكَ لَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ يَا جَاهِلُ فَإِنَّهُ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْجَاهِلِ يَا عَالِمُ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ شَرِيفٌ لِذَاتِهِ وَمَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَالْجَهْلَ نُقْصَانٌ لِذَاتِهِ وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ أَيْنَمَا وُجِدَ كَانَ صَاحِبُهُ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا حَتَّى إِنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانَ احْتَشَمَهُ بَعْضَ الِاحْتِشَامِ وَانْزَجَرَ بِهِ بَعْضَ الِانْزِجَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الرُّعَاةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ جِنْسِهِمْ مَنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا مِنْهُمْ وَأَغْزَرَ فَضْلًا فِيمَا هُمْ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ انْقَادُوا لَهُ طَوْعًا فَالْعُلَمَاءُ إِذَا لَمْ يُعَانَدُوا كَانُوا رُؤَسَاءَ بِالطَّبْعِ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانُوا يُعَانِدُونَ النبي ﷺ فصدوه لِيَقْتُلُوهُ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ رَوْعَةً وَهَيْبَةً فَهَابُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ | كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ عَنْ خَبَرِ |
[البقرة: ٣٠] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فَلَمْ يَجْعَلْ سَائِرَ صِفَاتِ الْجَلَالِ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْوُجُودِ، وَالْقِدَمِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ جَوَابًا لَهُمْ وَمُوجِبًا لِسُكُوتِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلَ صِفَةَ الْعِلْمِ جَوَابًا لَهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَإِنْ كَانَتْ بِأَسْرِهَا فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَظْهَرَ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا على الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَظْهَرَ عِلْمَهُ جَعَلَهُ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَخَلِيفَةَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَنْقَبَةَ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعِلْمِ ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ افْتَخَرَتْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالِافْتِخَارُ بِهِمَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ كَانَا مَقْرُونَيْنِ بِالْعِلْمِ فَإِنَّهُمَا إِنْ حَصَلَا بِدُونِ الْعِلْمِ كَانَ ذَلِكَ نِفَاقًا وَالنِّفَاقُ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥] أَوْ تَقْلِيدًا وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ وَتَقْدِيسَهُمْ إِنَّمَا صَارَ مُوجِبًا لِلِافْتِخَارِ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ. ثم إن آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ/ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا الْخَطَأِ الْقَلِيلِ وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ الْخَطَرُ فِيهِ أَكْثَرَ كَانَ أَشْرَفَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَلَالَةِ الْعِلْمِ. ثُمَّ إِنَّهُ بِبَرَكَةِ جَلَالَةِ الْعِلْمِ لَمَّا تَابَ وَأَنَابَ وَتَرَكَ الْإِصْرَارَ وَالِاسْتِكْبَارَ وَجَدَ خُلْعَةَ الِاجْتِبَاءِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ اشْتَغَلَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [الْأَنْعَامِ: ٧٦] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِلَى الْقَمَرِ وَمِنَ الْقَمَرِ إِلَى الشَّمْسِ وَلَمْ يَزَلْ يَنْتَقِلُ بِفِكْرِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ بِالدَّلِيلِ الزَّاهِرِ وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَأَعْرَضَ عَنِ الشِّرْكِ فَقَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ٧٩] فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَدَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَشْرَفِ الْمَدَائِحِ وَعَظَّمَهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ فَقَالَ تَارَةً: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ
: ٧٥] وَقَالَ أُخْرَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: ٨٣] ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ اشْتَغَلَ بِمَعْرِفَةِ الْمَعَادِ فَقَالَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّعَلُّمِ اشْتَغَلَ بِالتَّعْلِيمِ وَالْمُحَاجَّةِ تَارَةً مَعَ أَبِيهِ عَلَى مَا قَالَ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَتَارَةً مَعَ قَوْمِهِ فَقَالَ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٢] وَأُخْرَى مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] وَانْظُرْ إِلَى صَالِحٍ وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ كَيْفَ كَانَ اشْتِغَالُهُمْ فِي أَوَائِلِ أُمُورِهِمْ وَأَوَاخِرِهَا بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الدَّلَائِلِ وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ وَوُجُوهُ دَلَائِلِهِ مَعَهُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى حَالِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: ٧- ٨] فَقَدَّمَ الِامْتِنَانَ بِالْعِلْمِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِالْمَالِ وَقَالَ أَيْضًا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَقَالَ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هُودٍ: ٤٩] ثُمَّ إِنَّهُ أَوَّلُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقِ: ١] ثُمَّ قَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاءِ: ١١٣]
وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَبَدًا يَقُولُ: أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ.
فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْإِنْسَانِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ شَرَفُ الْعِلْمِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْعِلْمَ فِي كِتَابِهِ بِالْأَسْمَاءِ الشَّرِيفَةِ. فَمِنْهَا: الْحَيَاةُ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢]. وَثَانِيهَا: الرُّوحُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢]، وَثَالِثُهَا: النُّورُ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥]
وَقَالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: ٥٥] وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي حَسِيبٌ نَسِيبٌ فَصِيحٌ مَلِيحٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ
فِي الْخَبَرِ «الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ»
إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
/ لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ | فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ |
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَيْنُ الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُوِّ، وَلَامُهُ مِنَ اللُّطْفِ، وَمِيمُهُ مِنَ الْمُرُوءَةِ»
وَأَيْضًا قِيلَ الْعُلُومُ عَشْرَةٌ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ لِلْأَدْيَانِ، وَعِلْمُ السِّرِّ لِرَدِّ الشَّيْطَانِ، وَعِلْمُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْإِخْوَانِ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ لِلْأَرْكَانِ، وَعِلْمُ النُّجُومِ لِلْأَزْمَانِ، وَعِلْمُ الْمُبَارَزَةِ لِلْفُرْسَانِ، وَعِلْمُ السِّيَاسَةِ لِلسُّلْطَانِ، وَعِلْمُ الرُّؤْيَا لِلْبَيَانِ، وَعِلْمُ الْفِرَاسَةِ لِلْبُرْهَانِ، وَعِلْمُ الطِّبِّ لِلْأَبْدَانِ، وَعِلْمُ الْحَقِيقَةِ لِلرَّحْمَنِ، وَأَيْضًا قِيلَ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً [البقرة: ٢٢] وَالْمِيَاهُ أَرْبَعَةٌ: مَاءُ الْمَطَرِ، وَمَاءُ السَّيْلِ، وَمَاءُ الْقَنَاةِ، وَمَاءُ الْعَيْنِ فَكَذَا الْعُلُومُ أَرْبَعَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ كَمَاءِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ تَحْرِيكُهُ لِئَلَّا يَتَكَدَّرَ، وَكَذَا لَا يَنْبَغِي طَلَبُ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَحْصُلَ الْكُفْرُ. وَعِلْمُ الْفِقْهِ يَزْدَادُ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَمَاءِ الْقَنَاةِ يَزْدَادُ بِالْحَفْرِ، وَعِلْمُ الزُّهْدِ كَمَاءِ الْمَطَرِ يَنْزِلُ صَافِيًا وَيَتَكَدَّرُ بِغُبَارِ الْهَوَاءِ كَذَلِكَ عِلْمُ الزُّهْدِ صَافٍ وَيَتَكَدَّرُ بِالطَّمَعِ وَعِلْمُ الْبِدَعِ كَمَاءِ السَّيْلِ يُمِيتُ الْأَحْيَاءَ وَيُهْلِكُ الْخَلْقَ فَكَذَا الْبِدَعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَقْوَالِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْعِلْمِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ وَرُبَّمَا قَالَ مَا يَصِيرُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمًا وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَالِمَ وَالْمَعْلُومَ لَا يُعْرَفَانِ إِلَّا بِالْعِلْمِ فَتَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِهِمَا دَوْرٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عِلْمَ الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ فَكَانَ عِلْمُهُ بِكَوْنِ الْعِلْمِ عِلْمًا علم ضروري فَكَانَ الدَّوْرُ سَاقِطًا وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ إِذَا ذَكَرْنَا مَا نَخْتَارُهُ نَحْنُ فِي هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ فَيَعُودُ الدَّوْرُ أَيْضًا فَالْمَعْرِفَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا وَفْقَ الْمَعْلُومِ فَقَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ حَشْوًا، أَمَّا قَوْلُهُ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْخَلَلِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ فَتَعْرِيفُهُ بِهَا تَعْرِيفٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بَعْدَ الِالْتِبَاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ فُلَانًا وَالْآنَ فَقَدْ عَرَفْتُهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ: الْعِلْمُ تَبْيِينُ الْمَعْلُومِ وَرُبَّمَا قَالَ إِنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْحَقَائِقِ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى التَّبْيِينِ فَقَالَ الْعِلْمُ هُوَ التَّبْيِينُ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ أَمَّا قَوْلُ الْعِلْمِ هُوَ التَّبْيِينُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَخْفَى مِنْهُ وَلِأَنَّ التَّبْيِينَ وَالِاسْتِبَانَةَ يُشْعِرَانِ بِظُهُورِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْخَفَاءِ وذلك
الْمَعْلُومِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا الْجَبَلَ وَالْبَحْرَ فَإِنْ حَصَلَا فِي الذِّهْنِ فَفِي الذِّهْنِ جَبَلٌ وَبَحْرٌ وَهَذَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلَا فِي الذِّهْنِ وَلَكِنَّ الْحَاصِلَ فِي الذِّهْنِ صُورَتَاهُمَا فَقَطْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَعْلُومُ هُوَ الصُّورَةَ فَالشَّيْءُ الَّذِي تِلْكَ الصُّورَةُ صُورَتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِيرَ مَعْلُومًا وَإِنْ قِيلَ حَصَلَتِ الصُّورَةُ وَمَحَلُّهَا فِي الذِّهْنِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَحْصُلُ الْجَبَلُ وَالْبَحْرُ فِي الذِّهْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مُطَابِقَةٌ لِلْمَعْلُومِ يَقْتَضِي الدَّوْرَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِنْدَهُمُ الْمَعْلُومَاتِ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ وَقَدْ لَا تَكُونُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ وَالصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ وَالْمَعْقُولَاتُ الثَّانِيَةُ وَالْمُطَابِقَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَرَابِعُهَا: / أَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْمَعْدُومَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الصُّورَةُ الْعَقْلِيَّةُ مُطَابِقَةٌ لِلْمَعْدُومِ لِأَنَّ الْمُطَابَقَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمُتَطَابِقَيْنِ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا وَالْمَعْدُومُ نَفْيٌ مَحْضٌ يَسْتَحِيلُ تَحَقُّقُ الْمُطَابَقَةِ فِيهِ وَلَقَدْ حَاوَلَ الْغَزَالِيُّ إِيضَاحَ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ فَقَالَ إِدْرَاكُ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ نَفْهَمُهُ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْبَصَرِ الظَّاهِرِ إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كَمَا نَتَوَهَّمُ انْطِبَاعَ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ مَثَلًا فَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ يَأْخُذُ صُورَةَ الْمُبْصَرَاتِ أَيْ يَنْطَبِعُ فِيهِ مِثَالُهَا الْمُطَابِقُ لَهَا لَا عَيْنُهَا فَإِنَّ عَيْنَ النَّارِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْعَيْنِ بَلْ مِثَالٌ مُطَابِقٌ صُورَتَهَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ أَلْفَاظٍ يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِلْعِلْمِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ: أَحَدُهَا: / الْإِدْرَاكُ وَهُوَ اللِّقَاءُ وَالْوُصُولُ يُقَالُ أَدْرَكَ الْغُلَامُ وَأَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٦١] فَالْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى مَاهِيَّةِ الْمَعْقُولِ وَحَصَّلَتْهَا كَانَ ذَلِكَ إِدْرَاكًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَثَانِيهَا:
الشُّعُورُ وَهُوَ إِدْرَاكٌ بِغَيْرِ اسْتِثْبَاتٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ وُصُولِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ وَكَأَنَّهُ إِدْرَاكٌ مُتَزَلْزِلٌ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ يَشْعُرُ بِكَذَا كَمَا يُقَالُ إِنَّهُ يَعْلَمُ كَذَا، وَثَالِثُهَا: التَّصَوُّرُ إِذَا حَصَلَ وُقُوفُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمَعْنَى وَأَدْرَكَهُ بِتَمَامِهِ فَذَلِكَ هُوَ التَّصَوُّرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّصَوُّرَ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّورَةِ وَلَفْظُ الصُّورَةِ حَيْثُ وُضِعَ فَإِنَّمَا وُضِعَ لِلْهَيْئَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْجِسْمِ الْمُتَشَكِّلِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَخَيَّلُوا أَنَّ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ تَصِيرُ حَالَةً فِي الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ كَمَا أَنَّ الشَّكْلَ وَالْهَيْئَةَ يَحُلَّانِ فِي الْمَادَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَطْلَقُوا لَفْظَ التَّصَوُّرِ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ.
وَرَابِعُهَا: الْحِفْظُ فَإِذَا حَصَلَتِ الصُّورَةُ فِي الْعَقْلِ وَتَأَكَّدَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ زَالَتْ لَتَمَكَّنَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهَا وَاسْتِعَادَتِهَا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ حِفْظًا وَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ مُشْعِرًا بِالتَّأَكُّدِ بَعْدَ الضَّعْفِ لَا جَرَمَ لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ حِفْظًا وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِفْظِ مَا يَجُوزُ زَوَالُهُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالًا
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَذْكُرُهُ | وَكَيْفَ أَذْكُرُهُ إِذْ لَسْتُ أَنْسَاهُ |
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَكَيْفَ يَتَذَكَّرُ فَنَقُولُ لَا نَعْرِفُ كَيْفَ يَتَذَكَّرُ لَكِنَّ عِلْمَكَ بِتَمَكُّنِكَ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ يَكْفِيكَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْمُجَاهِدَةِ وَعَجْزِكَ عَنْ إِدْرَاكِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ يَكْفِيكَ مِنَ التَّذَكُّرِ ذاك ليس منك بل هاهنا سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّكَ لَمَّا عَجَزْتَ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ التَّذَكُّرِ وَالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ صِفَتُكَ فَأَنَّى يُمْكِنُكَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ مُنَاسَبَةً مِنْكَ فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ أَخْفَاهَا لِيَتَوَصَّلَ الْعَبْدُ بِهِ إِلَى كُنْهِ عَجْزِهِ وَنِهَايَةِ قُصُورِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِعُ شَيْئًا مِنْ مَبَادِئِ مَقَادِيرِ أَسْرَارِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بَاطِنًا. وَسَابِعُهَا: الْمَعْرِفَةُ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْرِفَةُ إِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْعِلْمُ إِدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ وَآخَرُونَ قَالُوا الْمَعْرِفَةُ التَّصَوُّرُ وَالْعِلْمُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْعِرْفَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْعِلْمِ قَالُوا لِأَنَّ تَصْدِيقَنَا بِاسْتِنَادِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَأَمَّا تَصَوُّرُ حَقِيقَتِهِ فَأَمْرٌ فَوْقَ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ فَلَا تُطْلَبُ مَاهِيَّتُهُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ كُلُّ عَارِفٍ عَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عَالِمٍ عَارِفًا وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى بِالْعَارِفِ إِلَّا إِذَا تَوَغَّلَ فِي مَيَادِينِ الْعِلْمِ وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غايتها بِحَسْبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُنْهِ هُوِيَّتِهِ وَسِرِّ أُلُوهِيَّتِهِ مُحَالٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا وَانْحَفَظَ أَثَرُهُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ثَانِيًا وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا الْمُدْرَكَ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثَانِيًا هو الذي
الْيَقِينِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ وَحَقُّ الْيَقِينِ قَالُوا إِنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ إِذَا كَانَ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مُوجِبٌ هُوَ إِمَّا بَدِيهِيَّةُ الْفِطْرَةِ وَإِمَّا نَظَرُ الْعَقْلِ، الرَّابِعَ عَشَرَ: الذِّهْنُ وَهُوَ قُوَّةُ النَّفْسِ عَلَى اكْتِسَابِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الرُّوحَ خَالِيًا عَنْ تَحْقِيقِ الْأَشْيَاءِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: ٧٨] لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلطَّاعَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَالطَّاعَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالطَّاعَةِ لِغَرَضِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ النَّفْسُ مُتَمَكِّنَةً مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَأَعْطَاهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْحَوَاسِّ مَا أَعَانَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ فَقَالَ فِي السَّمْعِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: ١٠] وَقَالَ فِي الْبَصَرِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: ٥٣] وَقَالَ فِي الْفِكْرِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٢١] فَإِذَا تَطَابَقَتْ هَذِهِ
الْوَهْمُ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لِأَشْخَاصٍ جُزْئِيَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ كَحُكْمِ السَّخْلَةِ بِصَدَاقَةِ الْأُمِّ وَعَدَاوَةِ الْمُؤْذِي. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الظَّنُّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ وَلَمَّا كَانَ قَبُولُ الِاعْتِقَادِ لِلْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فَكَذَا مَرَاتِبُ الظَّنِّ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُعْتَقَدِ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْآخَرِ مَعَ تَجْوِيزِ الطَّرَفِ الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ الظَّنَّ الْمُتَنَاهِيَ فِي الْقُوَّةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعِلْمِ فَلَا جَرَمَ قَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْعِلْمِ اسْمُ الظَّنِّ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] قَالُوا: إِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الظَّنِّ على العلم هاهنا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِهِ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا [الْحُجُرَاتِ: ١٥] وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّنَّ إِنْ كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ قُبِلَ وَمُدِحَ وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ أَحْوَالِ هَذَا الْعِلْمِ.
وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ ضَعِيفَةٍ ذُمَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النَّجْمِ: ٢٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٢] الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْخَيَالُ. وَهُوَ عِبَارَةٌ مِنَ الصُّورَةِ الْبَاقِيَةِ عَنِ الْمَحْسُوسِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ. وَمِنْهُ الطَّيْفُ الْوَارِدُ مِنْ صُورَةِ الْمَحْبُوبِ خَيَالًا وَالْخَيَالُ قَدْ يُقَالُ لِتِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْمَنَامِ وَفِي الْيَقَظَةِ، وَالطَّيْفُ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا كَانَ فِي حَالِ النَّوْمِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْبَدِيهَةُ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ ابْتِدَاءً فِي النَّفْسِ لَا بِسَبَبِ الْفِكْرِ كَعِلْمِكَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْأَوَّلِيَّاتُ وَهِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ بِعَيْنِهَا وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الذِّهْنَ يُلْحِقُ مَحْمُولَ الْقَضِيَّةِ بِمَوْضُوعِهَا أَوَّلًا لَا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ. فَذَاكَ الْمُتَوَسِّطُ هُوَ الْمَحْمُولُ أَوَّلًا/ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّوِيَّةُ، وَهِيَ مَا كَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ فِكْرٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ مِنْ رَوَى، السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْكِيَاسَةُ. وَهِيَ تَمَكُّنُ النَّفْسِ مِنِ اسْتِنْبَاطِ مَا هُوَ أَنْفَعُ. وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ».
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا خَيْرَ يَصِلُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ أَفْضَلُ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّدٍ: ٣٠] وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسَ السَّبُعُ الشَّاةَ، فَكَأَنَّ الْفِرَاسَةَ اخْتِلَاسُ الْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عَنْ خَاطِرِهِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْهَامِ بَلْ ضَرْبٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِيَّاهُ عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ»
وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَيْضًا النَّفْثَ فِي الرَّوْعِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْفِرَاسَةِ مَا يَكُونُ بِصِنَاعَةٍ مُتَعَلَّمَةٍ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ وَقَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هُودٍ: ١٧] إِنَّ الْبَيِّنَةَ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَاءِ جَوْهَرِ الرُّوحِ وَالشَّاهِدُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَشْكَالِ عَلَى الْأَحْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وَقَوْلُهُ: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وقوله:
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُعَلِّمٌ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعَارُفٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ يَحْتَرِفُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلْمُدَرِّسِ مُعَلِّمٌ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْمُتَعَلِّمِينَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُدَرِّسُ فَكَذَا لَا يُقَالُ لِلَّهِ إِنَّهُ مُعَلِّمٌ إِلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ وَلَوْلَا هَذَا التَّعَارُفُ لَحَسُنَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِيهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي غَيْرِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا اللَّهَ تعالى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَتَوْا بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قَالُوا: إِنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا خَطَأَهُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ رَجَعُوا وَتَابُوا وَاعْتَذَرُوا عَنْ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا مَعْصِيَتَهُمْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا سُئِلُوا عَنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فَإِذَا لَمْ تُعَلِّمْنَا ذَلِكَ فَكَيْفَ نَعْلَمُهُ، الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّكَ أَعْلَمْتَنَا أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَقُلْنَا لَكَ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها. وهاهنا مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِعِلْمِ النُّجُومِ وَالْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنِّ: ٢٦، ٢٧] وَلِلْمُنَجِّمِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْتَزِلِيِّ إِذَا فَسَّرْتَ التَّعْلِيمَ بِوَضْعِ الدَّلَائِلِ فَعِنْدِي حَرَكَاتُ النُّجُومِ دَلَائِلُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِذَا اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى هَذِهِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ فَلَأَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ أَحَدُنَا كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَلِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُبَالَغَةُ التَّامَّةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَيْسَ الْعَلِيمُ الْمُطْلَقُ إِلَّا هُوَ، فَلِذَلِكَ قَالَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَكِيمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْعَلِيمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي الْأَزَلِ. الْآخَرُ: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ فَاعِلًا لِمَا لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَلَا نَقُولُ إِنَّهُ حَكِيمٌ في الأزل والأقرب هاهنا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَكَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: أَنْتَ الْعَالِمُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَأَمْكَنَكَ تَعْلِيمُ آدَمَ، وَأَنْتَ الْحَكِيمُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمُصِيبُ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُرَادَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْحَكِيمِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِهَا فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَإِنْ قِيلَ الْإِيمَانُ هُوَ العلم، فقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَيْفَ قال هاهنا: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا لِي وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَايَ فَهُمْ خَالُونَ عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَقَوْلَهُ: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَرَادَ بِهِ مَا أسر
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفًا عَظِيمًا وَفَرَحًا عَظِيمًا أَمَّا الْخَوْفُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الضَّمَائِرِ فَيَجِبُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي تَصْفِيَةِ بَاطِنِهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ/ بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ لِاطِّلَاعِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا عِنْدَ اطِّلَاعِ الْخَالِقِ عَلَيْهَا وَالْأَخْبَارُ مُؤَكِّدَةٌ لِذَلِكَ. أَحَدُهَا:
رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يُؤْتَى بِنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا فَيَرْجِعُونَ عَنْهَا بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِهَا وَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا: فَنُودُوا ذَاكَ أَرَدْتُ لَكُمْ كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ مُخْبِتِينَ تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا تُضْمِرُونَ عَلَيْهِ فِي قُلُوبِكُمْ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي تَرَكْتُمُ الْمَعَاصِيَ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوهَا لِأَجْلِي كُنْتُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ عَلَيْكُمْ فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ النَّعِيمِ
وَثَانِيهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ لِحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: عِظْنِي فَقَالَ إِنْ كُنْتَ إِذَا عَصَيْتَ اللَّهَ خَالِيًا ظَنَنْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ فَلَقَدْ كَفَرْتَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: طَهِّرْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِذَا كُنْتَ عَامِلًا بِالْجَوَارِحِ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَإِذَا كُنْتَ قَائِلًا فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا كُنْتَ سَاكِتًا عَامِلًا بِالضَّمِيرِ فاذكر على اللَّهِ بِكَ إِذْ هُوَ يَقُولُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦]. وَرَابِعُهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى أَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَلَائِكَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ فَاسْتَحْقَرُوا الْبَشَرَ. وَوَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى طَاعَةِ إِبْلِيسَ فَاسْتَعْظَمُوهُ، أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنه وَإِنْ أَتَوْا بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ لَكِنَّهُمْ سَيَأْتُونَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَإِنْ أَتَى بِالطَّاعَاتِ لَكِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَقْلِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَأَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ معناه أن الَّذِي أَعْرِفُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْوَاقِعَ وَالْمُتَوَقَّعَ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا تَرَوْنَهُ عَابِدًا مُطِيعًا سَيَكْفُرُ وَيَبْعُدُ عَنْ حَضْرَتِي، وَمَنْ تَرَوْنَهُ فَاسِقًا بَعِيدًا سَيَقْرُبُ مِنْ خِدْمَتِي، فَالْخَلْقُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ حِجَابِ الْجَهْلِ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَخْرِقُوا أَسْتَارَ الْعَجْزِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّقَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَعَجْزِ الْمَلَائِكَةِ أَنْ أَظْهَرَ مِنَ البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّعَمِ الْعَامَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ أَبَانَا مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَخْصِيصَ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَخْصِيصَهُ بِالْعِلْمِ الْكَثِيرِ ثَانِيًا ثُمَّ بُلُوغَهُ فِي الْعِلْمِ إِلَى أَنْ صَارَتِ الْمَلَائِكَةُ عَاجِزِينَ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَذَكَرَ الْآنَ كَوْنَهُ مسجوداً للملائكة، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ تَعَالَى خِلْقَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: ٧١، ٧٢] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَارَ حَيًّا صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَعُوا لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ تَعْلِيمُ الْأَسْمَاءِ وَمُنَاظَرَتُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ حَصَلَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ لِأَنَّ سُجُودَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَالْأَمْرُ لَا يَرِدُ بِالْكُفْرِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَالْقِبْلَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ بَلْ يُقَالُ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَلَوْ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِبْلَةً لِذَلِكَ السُّجُودِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ اسْجُدُوا إِلَى آدَمَ فَلَمَّا لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ هَكَذَا بَلْ قِيلَ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلِمْنَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قِبْلَةً. الثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أَيْ أَنَّ كَوْنَهُ مَسْجُودًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ السَّاجِدِ وَلَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ لَا لِلدُّلُوكِ.
فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْقِبْلَةِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ حَسَّانَ:
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ | عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ |
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ | وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ |
وَعَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ مَا هَذَا قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَسْجُدُ لِعُظَمَائِهَا/ وَعُلَمَائِهَا وَرَأَيْتُ النَّصَارَى تسجد لقسسها
وَعَنِ الثوري عن سماك بن هاني قَالَ: دَخَلَ الْجَاثَلِيقُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ اسْجُدْ لِلَّهِ وَلَا تَسْجُدْ لِي.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّجُودَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أَيْ تِلْكَ الْجِبَالُ الصِّغَارُ كَانَتْ مُذَلَّلَةً لِحَوَافِرِ الْخَيْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: ٦] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَرْحُ تَعْظِيمِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعْلُهُ مُجَرَّدَ الْقِبْلَةِ لَا يُفِيدُ تَعْظِيمَ حَالِهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ السُّجُودَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ فَإِنْ قِيلَ السُّجُودُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَجُوزُ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَيَانُهُ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَصِيرُ بِالْمُوَاضَعَةِ مُفِيدًا كَالْقَوْلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ أَحَدِنَا لِلْغَيْرِ يُفِيدُ مِنَ الْإِعْظَامِ ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ سُقُوطُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِلْصَاقُهُ الْجَبِينَ بِهَا مُفِيدًا ضَرْبًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِبَادَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ إِظْهَارًا لِرِفْعَتِهِ وَكَرَامَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: وَلَا سِيَّمَا الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْفِ: ٥٠] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْجِنَّ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِلْمَلَكِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْجِنَّ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ السَّتْرُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ وَمِنْهُ الْجُنَّةُ لِكَوْنِهَا سَاتِرَةً وَالْجَنَّةُ لِكَوْنِهَا مُسْتَتِرَةً بِالْأَغْصَانِ وَمِنْهُ الْجُنُونُ لِاسْتِتَارِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَالْمَلَائِكَةُ مَسْتُورُونَ عَنِ الْعُيُونِ وَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجِنِّ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَنَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: ٤٠، ٤١] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْمَلَكِ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانَ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَيْ كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ الْجِنِّ أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ صَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: ١٥٨] وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فهذه الآية تدل على أن الملك يمسي جِنًّا؟
وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ يُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ تَرْكِ السُّجُودِ بِكَوْنِهِ خَازِنًا لِلْجَنَّةِ فَيُبْطِلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ أَثْبَتَ ذَلِكَ النَّسَبَ فِي الْجِنِّ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَلَكَ يُسَمَّى جِنًّا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّ لَفْظَ الْجِنِّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِغَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَدِبُّ لَكِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِبَعْضِ مَا يَدِبُّ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ الْحَادِثِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذَرِّيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الْكَهْفِ: ٥٠] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الذُّرِّيَّةِ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمَلَائِكَةُ لَا أُنْثَى فِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ [الزُّخْرُفِ: ١٩] أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأُنُوثَةِ فَإِذَا انْتَفَتِ الْأُنُوثَةُ انْتَفَى التَّوَالُدُ لَا مَحَالَةَ فَانْتَفَتِ الذُّرِّيَّةُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَإِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا كَذَلِكَ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ مِنَ الْجِنِّ وَالْجِنُّ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: ٢٧] وَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَنِ: ١٤، ١٥] وَأَمَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنَ النَّارِ بَلْ مِنَ النُّورِ، فَلِمَا
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ،
ولأن من المشهور الذي لا يَدْفَعُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الرِّيحِ أَوِ الرَّوْحِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] وَرُسُلُ اللَّهِ مَعْصُومُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ أَوْ لَصَحَّ دُخُولُهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ كون مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُقَالُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزُّخْرُفِ: ٢٦، ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها/ لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: ٢٥، ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ [النِّسَاءِ: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: ٩٢] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ كَانَ جِنِّيًّا وَاحِدًا بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَغَلَبُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدُوا ثُمَّ اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُمُ اسْتِثْنَاءَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالدَّلَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُمُومَاتِ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَزِمَ تَخْصِيصُ مَا عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَزِمَنَا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَكَانَ قَوْلُنَا أولى. وأيضاً فَالِاسْتِثْنَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الثَّنْيِ وَالصَّرْفِ وَمَعْنَى الصَّرْفِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَيْثُ لَوْلَا الصَّرْفُ لَدَخَلَ وَالشَّيْءُ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ جِنِّيٌّ وَاحِدٌ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فَنَقُولُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِجْرَاءُ حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إِذَا كَانَ مُعْظَمُ
الْمَسْأَلَةُ الرابعة: [الكلام على أن آدم أفضل من الملائكة أو العكس] اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ بِسُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ آدَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَرَأَيْنَا أن نذكر هاهنا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلِ الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الشِّيعَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ مِنْ/ فُقَهَائِنَا وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُحَصِّلَ الْكَلَامِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ وَالشَّرَفِ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالشَّرَفِ حَاصِلٌ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنْهُ سُبْحَانَهُ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي»
وَهَذَا أَكْثَرُ إِشْعَارًا بِالتَّعْظِيمِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعَبْدِ أَدْخَلُ فِي التَّعْظِيمِ، مِنْ كَوْنِ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ بعد اسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرُوا وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ لَمَا تَمَّ هَذَا الِاحْتِجَاجُ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لَهُ بقول: الْمُلُوكُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَنْ هَؤُلَاءِ المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي أو بالجملة فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَشَدُّ قُوَّةً وَقُدْرَةً مِنَ الْبَشَرِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى أَجْرَامِ السموات وَالْأَرْضِ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْهَرَمِ وَالْمَرَضِ وَطُولِ أَعْمَارِهِمْ، لَا يَتْرُكُونَ الْعُبُودِيَّةَ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَالْبَشَرُ مَعَ نِهَايَةِ ضَعْفِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي أَسْرَعِ
إِنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى التَّمَرُّدِ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَاتِ، الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ طَلَبِ الْحَاجَاتِ، يَكُونُ أَمْيَلَ إِلَى النِّعَمِ وَالِالْتِذَاذِ مِنَ الْمَغْمُورِ فِي الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُضْطَرِبِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥] ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وَهِيَ جَنَّاتٌ وَبَسَاتِينُ وَمَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالرَّاحَةِ وَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ اسْتِكْمَالِ أَسْبَابِ التَّنَعُّمِ لَهُمْ أَبَدًا مُذْ خُلِقُوا مُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ خَاشِعُونَ وَجِلُونَ مُشْفِقُونَ كَأَنَّهُمْ مَسْجُونُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى نَعِيمِ الْجِنَانِ/ وَاللَّذَّاتِ بَلْ هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَالْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَكَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَيُؤَكِّدُهُ قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ في جَمِيعَ مَوَاضِعِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [الْبَقَرَةِ: ٣٥] ثُمَّ مُنِعَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ مِنْ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْمُكَلَّفِ مِنْ نَوْعِ عِبَادَةٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ كَالِانْتِقَالِ مِنْ بُسْتَانٍ إِلَى بُسْتَانٍ، أَمَّا الْإِقَامَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا تُورِثُ الْمَشَقَّةَ وَالْمَلَالَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَتِ التَّصَانِيفُ مَقْسُومَةً بِالْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ، وَجُعِلَ كِتَابُ اللَّهِ مَقْسُومًا بِالسُّوَرِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَعْشَارِ وَالْأَخْمَاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَاظِبٌ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٠] وَقَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٦٥، ١٦٦] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُمْ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا،
وَقَوْلُهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إِنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»
وَالْقِيَاسُ أَيْضًا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ تَحَمُّلُهُ الْمَشَاقَّ لِأَجْلِ رِضَا مَوْلَاهُ أَكْثَرَ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّقْدِيمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: هَبْ أَنَّ مَشَقَّتَهُمْ أَكْثَرُ فَلِمَ قُلْتُمْ يَجِبُ أن يكون ثوابهم أكثر؟ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا يَتَحَمَّلُونَ فِي طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَحَمَّلُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ، بَلْ يُحْكَى عَنْ عُبَّادِ الْهِنْدِ وَزُهَّادِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ مِنَ الْمَتَاعِبِ فِي التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحْكَ مِثْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِكُفْرِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ فِي الْعِبَادَةِ لَا تَقْتَضِي زِيَادَةَ الثَّوَابِ. وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِنَاءً عَلَى الدَّوَاعِي وَالْقُصُودِ، فَلَعَلَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يَأْتِي بِهِ مُكَلَّفَانِ عَلَى السَّوَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَيَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَالْآخَرُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إلا ثَوَابًا قَلِيلًا، لِمَا أَنَّ إِخْلَاصَ أَحَدِهِمَا أَشَدُّ وَأَكْثَرُ مِنْ إِخْلَاصِ الثَّانِي، فَإِذَنْ كَثْرَةُ الْعِبَادَاتِ وَمَشَقَّتُهَا لَا تَقْتَضِي التَّفَاوُتَ فِي الْفَضْلِ ثُمَّ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَشَقُّ. أما قوله في الوجه الأول: السموات كَالْبَسَاتِينِ النَّزِهَةِ قُلْنَا مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ أَشَقُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الرَّدِيئَةِ؟ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يهيأ له أسباب التنعيم فَامْتِنَاعُهُ عَنْهَا مَعَ
وَقَالَ: «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ»
وَهُوَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا. وَثَالِثُهَا: قَالُوا: عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ أَدْوَمُ فَكَانَتْ أَفْضَلَ بَيَانُ أَنَّهَا أَدْوَمُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٠] وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مُسَاوِيَةً لِأَعْمَارِ الْبَشَرِ لَكَانَتْ طَاعَاتُهُمْ أَدْوَمَ وَأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لَعُمْرِ كُلِّ الْبَشَرِ إِلَى عُمَرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: رُوِيَ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ:
قُلْتُ لِكَعْبٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ ثُمَّ قَالَ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] أَفَلَا تَكُونُ الرِّسَالَةُ مَانِعَةً لَهُمْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ؟ وَأَيْضًا قَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٦١] فَكَيْفَ يَكُونُونَ مُشْتَغِلِينَ بِاللَّعْنِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ؟ أَجَابَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: التَّسْبِيحُ لَهُمْ كَالتَّنَفُّسِ لَنَا فَكَمَا أَنَّ اشْتِغَالَنَا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشْتِغَالُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَأَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّنَفُّسِ إِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ آلَةَ التَّنَفُّسِ غَيْرُ آلَةِ الْكَلَامِ أَمَّا اللَّعْنُ وَالتَّسْبِيحُ فَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ:
أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لهم ألسنة كَثِيرَةً يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَعْضِهَا وَيَلْعَنُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَعْضِ الْآخَرِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: اللَّعْنُ هُوَ الطَّرْدُ وَالتَّبْعِيدُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ الْخَوْضُ فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ تَبْعِيدَ مَنِ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ مَا لَا يَنْبَغِي فَكَانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ مِنْ لوازمه. والجواب الثالث: قوله: لا يَفْتُرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهِ فِي أَوْقَاتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ كَمَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا مُوَاظِبٌ عَلَى الْجَمَاعَاتِ لَا يَفْتُرُ عَنْهَا لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَبَدًا مُشْتَغِلٌ بِهَا بَلْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَزْمِ أَبَدًا عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَإِذَا ثبت أن عباداتهم أَدَوْمُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْأَدْوَمَ أَشَقُّ فَيَكُونُ أَفْضَلَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَا ثَانِيًا:
فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَفْضَلُ الْعِبَادِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»
وَالْمَلَائِكَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَطْوَلُ الْعِبَادِ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُهُمْ أَعْمَالًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ الْعِبَادِ
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ»
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا فِي الْبَشَرِ كَالنَّبِيِّ فِي الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ فَضْلَهُمْ عَلَى الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَا لُقْمَانُ وَكَذَا الْخَضِرُ كَانُوا أَطْوَلَ عُمْرًا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ وَقَدْ نَجِدُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَطْوَلُ عُمْرًا وَأَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْهُ أَبْعَدُ فِي الدَّرَجَةِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الدَّوَاعِي وَالْقُصُودِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ الْقَلِيلَةُ تَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا ثَوَابًا كَثِيرًا وَالطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةَ تَقَعُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا/ إِلَّا ثَوَابًا قَلِيلًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ أَسْبَقُ السَّابِقِينَ فِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ، لَا خَصْلَةَ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ إِلَّا وَهُمْ أَئِمَّةٌ مُقَدَّمُونَ فِيهَا بَلْ هُمُ الْمُنْشِئُونَ الْعَامِرُونَ لِطُرُقِ الدِّينِ وَالسَّبْقُ فِي العبادة
فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَهَذَا يَقْتَضِي أن يكون قد حصل الملائكة مِنَ الثَّوَابِ كُلُّ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مَعَ زِيَادَةِ الثَّوَابِ الَّتِي اسْتَحَقُّوهَا بِأَفْعَالِهِمُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا قَبْلَ خَلْقِ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ دَعْوَةَ الْكُفَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ بِطَلَ مَا ذَكَرُوهُ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ تَكُونُ بِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى النِّيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْمُتَأَخِّرِ أَصْفَى فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الثَّوَابِ أَكْثَرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَقَدِّمُ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنَ الْأُمَّةِ فَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. أَمَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: ٥] وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَأَمَّا أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْأُمَّةِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ أُمَمِهِمْ فكذا هاهنا. فَإِنْ قِيلَ: الْعُرْفُ أَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا إِلَى جَمْعٍ عَظِيمٍ لِيَكُونَ حَاكِمًا فِيهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ فَذَلِكَ الرَّسُولُ يَكُونُ أَشْرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ، أَمَّا إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا إِلَى وَاحِدٍ فَقَدْ لَا يَكُونُ الرَّسُولُ أَشْرَفَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ كَمَا إِذَا أَرْسَلَ وَاحِدًا مِنْ عَبِيدِهِ إِلَى وَزِيرِهِ فِي مُهِمٍّ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدُ أَشْرَفَ مِنَ الْوَزِيرِ. قُلْنَا، لَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ فَلَزِمَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] ثُمَّ لَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ رَسُولًا إِلَى مَلَكٍ آخَرَ أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْبَشَرِ وعلى التقديرين فَالْمَلَكُ رَسُولٌ وَأُمَّتُهُ رُسُلٌ وَأَمَّا الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ فَهُوَ رَسُولٌ لَكِنَّ أُمَّتَهُ لَيْسُوا بِرُسُلٍ وَالرَّسُولُ الَّذِي كُلُّ أُمَّتِهِ رُسُلٌ أَفْضَلُ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ فَضْلُ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عسكره وكان أفضل منهم فكذا هاهنا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الرَّسُولَ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ وَمُتَصَرِّفًا فِي أَحْوَالِهِمْ وَقَدْ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ يَبْعَثُهُ إِلَيْهِمْ لِيُخْبِرَهُمْ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ وَمُتَوَلِّيًا لِأُمُورِهِمْ فَالرَّسُولُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَالْأَنْبِيَاءُ الْمَبْعُوثُونَ إِلَى أُمَمِهِمْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا جَرَمَ كَانُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأُمَمِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ بِعْثَةَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ/ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَتْقَى مِنَ الْبَشَرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ أَمَّا إِنَّهُمْ أَتْقَى فلأنهم مبرؤون عَنِ الزَّلَّاتِ وَعَنِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا لِأَنَّ خَوْفَهُمْ دَائِمٌ وَإِشْفَاقَهُمْ دَائِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَقَوْلِهِ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] وَالْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ يُنَافِيَانِ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْبَشَرِ مَا خَلَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَوْعِ زَلَّةٍ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا عَصَى أو هم بمعصية غير يحيى بن ذكريا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
فَثَبَتَ أَنَّ تَقْوَى الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٣] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَأَيْضًا فَالتَّقْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِقَايَةِ وَلَا شَهْوَةَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَيَسْتَحِيلُ
[النِّسَاءِ: ١٧٢] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
خَرَجَ مَخْرَجَ التَّأْكِيدِ لِلْأَوَّلِ وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ الْأَفْضَلِ يُقَالُ هَذِهِ الْخَشَبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا الْعَشَرَةُ وَلَا الْمِائَةُ وَلَا يُقَالُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا الْعَشَرَةُ وَلَا الْوَاحِدُ وَيُقَالُ هَذَا الْعَالِمُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْمَلِكُ وَلَا يُقَالُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْبَوَّابُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ إن دَلَّتْ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْمَسِيحِ/ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَضْلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام وبالجملة فلو ثبت لهم أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مَقْصُودُهُمْ حَاصِلًا فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَطَعَ بِفَضْلِ الْمَسِيحِ عَلَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ثُمَّ نَقُولُ قَوْلُهُ: «وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» لَيْسَ فِيهِ إِلَّا وَاوُ الْعَطْفِ وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَا يَسْتَنْكِفُ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ فَلَا، وَأَمَّا الْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَنَقُولُ الْمِثَالُ لَا يَكْفِي فِي إثبات الدعوى الكلية ثم إن ذلك الْمِثَالَ مُعَارَضٌ بِأَمْثِلَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أَعَانَنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو فَهَذَا لَا يُفِيدُ كَوْنَ عَمْرٍو أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: ٢] وَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْأَمْثِلَةُ امْتَنَعَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ هَذِهِ الْخَشَبَةُ لَا يَقْدِرُ على حملها الواحد ولا العشرة فنحن نعلم بِعُقُولِنَا أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْوَى مِنَ الْوَاحِدِ فَلَا جَرَمَ عَرَفْنَا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ الثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا عَرَفْنَاهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ فَهَهُنَا فِي الْآيَةِ إِنَّمَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
بَيَانُ الْمُبَالِغَةِ لَوْ عَرَفْنَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ وَحِينَئِذٍ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ هَذَا الدَّلِيلِ وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ
الْمَطْلُوبِ
إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ فِي بَابِ الثَّوَابِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي بَابِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي بَابِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَفِي بَابِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ التَّرْكِيبَاتِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ الْأَنْوَارِ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ فَلَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّهُ رَغِبَ فِي أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا فَكَانَ التَّغْرِيرُ حَاصِلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا أَنْ تَنْقَلِبَا مَلَكَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ وَيُحْتَمَلُ/ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْخَالِدِينَ دُونَكُمَا، هَذَا كَمَا يَقُولُ أَحَدُنَا لِغَيْرِهِ مَا نَهَيْتَ أَنْتَ عَنْ كَذَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ فُلَانًا وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ فُلَانٌ دُونَكَ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَصِيرَ فُلَانًا، وَلَمَّا كَانَ غَرَضُ إِبْلِيسَ إِيقَاعَ الشُّبْهَةِ بِهِمَا فَمِنْ أَوْكَدِ الشُّبْهَةِ إِيهَامُ أَنَّهُمَا لَمْ يُنْهَيَا وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ غَيْرُهُمَا، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ فَلِمَ قُلْتُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَفْضُولِ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْأَفْضَلِ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٥٠]. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فِي كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَشِدَّةِ الْقُدْرَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَالَبُوهُ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ نَحْوَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَنَقْلِ الْجِبَالِ وَإِحْضَارِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِالْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ وَالْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَقَوْلَهُ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَمَا لَا أَدَّعِي الْقُدْرَةَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَالْعِلْمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَكَذَلِكَ لَا أَدَّعِي قُدْرَةً مِثْلَ قُدْرَةِ الْمَلَكِ وَلَا عِلْمًا مِثْلَ عُلُومِهِمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْغَرَضَ وَإِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ وَهَذَا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَلَا تَكُونُ صِفَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِصِفَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ التَّفَاوُتِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ فَإِنَّ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ، وَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: ٣١]. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وُقُوعَ التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ.
قُلْنَا: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا فِي السِّيرَةِ لَا فِي الصُّورَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فَشَبَّهَهُ بِالْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَالْمَلَكُ إِنَّمَا يَكُونُ كَرِيمًا بِسِيرَتِهِ الْمُرْضِيَةِ لَا بِمُجَرَّدِ صُورَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِالْمَلَكِ فِي نَفْيِ دَوَاعِي الْبَشَرِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْمُشْتَهَى وَإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهِيَ حَالَةُ الْمَلَكِ وَهِيَ غَضُّ البصر وقمع النفس عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِدَرَجَةٍ فَائِقَةٍ عَلَى دَرَجَاتِ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ المرأة فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: ٣٢] كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ مُرَادَ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِنَّ: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ تَعْظِيمُ حَالِ يُوسُفَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ لَا فِي السِّيرَةِ، لِأَنَّ ظُهُورَ عُذْرِهَا فِي شِدَّةِ عِشْقِهَا، إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ فَرْطِ يُوسُفَ فِي الْجَمَالِ لَا بِسَبَبِ فَرْطِ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ شِدَّةَ عِشْقِهَا لَهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَلَكِ في الإعراض عن المشتهيات، فلم قلت يَجِبْ أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ أَقَلَّ ثواباً من الملائكة؟ وذلك لأنه
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] وَقَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْحِ: ٢] أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ من البشر يدل عليه تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غَافِرٍ: ٧] وَقَالَ: وَيَسْتَغْفِرُونَ/ لِلَّذِينَ آمَنُوا لو كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَبَدَءُوا فِي ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْوَجْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الزلة ألبتة وأن البشر قد صردت الزَّلَّاتُ عَنْهُمْ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الْفَضِيلَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لِلْبَشَرِ كَالْعُذْرِ عَمَّنْ طَعَنُوا فِيهِمْ بِقَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
/ عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا | كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا |
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فهو عند الله حَسَنٌ»
فَثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ إِنْ كَانَ عَلَى الْوَاوِ، فَالْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ يَنْتَقِضُ بِتَقْدِيمِ سُورَةِ تَبَّتْ عَلَى سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فَجَعَلَ صَلَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ كَالتَّشْرِيفِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ أَشْرَفَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَا فِي الْمَلَائِكَةِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقُولُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩- ٢٢] وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسِتٍّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، أَحَدُهَا: كَوْنُهُ رَسُولًا لِلَّهِ.
وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ كَرِيمًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ ذَا قُوَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَقُوَّتُهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قُوَّتَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ بِحَيْثُ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا غَيْرُهُ. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُ مَكِينًا عِنْدَ اللَّهِ. وَخَامِسُهَا: كَوْنُهُ مطاعاً في عالم السموات.
وسادسها: كونه أميناً في كل الطاعات مبرءاً عَنْ أَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُسَاوِيًا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَاتِ الْفَضْلِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ لَكَانَ وَصْفُ مُحَمَّدٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ وَصْفِ جِبْرِيلَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ نَقْصًا مِنْ مَنْصِبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ وَإِبْطَالًا لِحَقِّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ إِلَّا مِقْدَارُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صِفَةً لِمُحَمَّدٍ لَا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. قُلْنَا لأن قوله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يُبْطِلُ ذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّا تَوَافَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَائِلُ أُخْرَى سِوَى كَوْنِهِ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْفَضَائِلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَنْ عَدَمُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ الْفَضَائِلَ هاهنا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهَا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَائِلَ/ سِوَى الأمور المذكورة هاهنا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ الَّتِي هِيَ غير مذكورة هاهنا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام هاهنا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ السِّتِّ وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِصِفَاتٍ سِتٍّ «١» وَهِيَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَابِ: ٤٥، ٤٦] فَالْوَصْفُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ نَبِيًّا وَالثَّانِي: كَوْنُهُ رَسُولًا وَالثَّالِثُ: كَوْنُهُ شَاهِدًا وَالرَّابِعُ: كَوْنُهُ مُبَشِّرًا وَالْخَامِسُ: كَوْنُهُ نَذِيرًا وَالسَّادِسُ: كَوْنُهُ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ وَالسَّابِعُ: كَوْنُهُ سِرَاجًا وَالثَّامِنُ: كَوْنُهُ مُنِيرًا وَبِالْجُمْلَةِ فَإِفْرَادُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ بِالْوَصْفِ لَا يَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى انْتِفَاءِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَنِ الثَّانِي. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْمَلَكُ أَعْلَمُ مِنَ الْبَشَرِ وَالْأَعْلَمُ أَفْضَلُ فَالْمَلَكُ أَفْضَلُ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمَلَكَ أَعْلَمُ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: ٥] وَالْمُعَلِّمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ، وَأَيْضًا فَالْعُلُومُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعُلُومُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالْعُقُولِ كَالْعِلْمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهَا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَهُوَ قَادِحٌ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وطباق السموات وَأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَغَاوِرِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَا شَكَّ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُ بِهَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْوَلُ عُمْرًا وَأَكْثَرُ مُشَاهَدَةً لَهَا فَكَانَ عِلْمُهُ بِهَا أَكْثَرَ وَأَتَمَّ. وَثَانِيهَا: الْعُلُومُ الَّتِي لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ لَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا من جهة جبريل عليه السلام
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «وَإِذَا ذَكَرَنِي عَبْدِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ من ملائه»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَشْرَفُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا خَيْرٌ وَاحِدٌ وَأَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلَأَ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَلَأِ الْبَشَرِ وَمَلَأُ الْبَشَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَوَامِّ لَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ أَفْضَلَ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْوَاحِ النَّاطِقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَاعْتَمَدُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى وُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ نَحْنُ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَالُوا الْمَلَائِكَةُ ذَوَاتُهَا بَسِيطَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَالْبَشَرُ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْقُوَى الْكَثِيرَةِ وَالْبَدَنُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيرَةِ وَالْبَسِيطُ خَيْرٌ مِنَ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَمِ لِلْمُرَكَّبِ أَكْثَرُ مِنْهَا لِلْبَسِيطِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ فَرْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ. الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَسِيطَ أَشْرَفُ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَانِبَ الرُّوحَانِيِّ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَجَانِبَ الْجُسْمَانِيِّ أَمْرَانِ رُوحُهُ وَجِسْمُهُ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرُّوحِ مِنْ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْأَنْوَارِ وَمِنْ حَيْثُ الْجَسَدِ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ فَهُوَ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا لِلرُّوحَانِيِّ وَالْجُسْمَانِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الرُّوحَانِيِّ الصِّرْفِ وَالْجُسْمَانِيِّ الصِّرْفِ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنْ جَعَلَ الْبَشَرَ الْأَوَّلَ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْمَلَكِيَّةَ مُجَرَّدَاتٌ مُفَارِقَةٌ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَكَأَنَّ اسْتِغْرَاقَهَا فِي مَقَامَاتِهَا النُّورَانِيَّةِ عَاقَهَا عَنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ أَمَّا النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَإِنَّهَا قَوِيَتْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ فَلَا دَوَامَ تَرَقِّيهَا فِي مَعَارِجِ الْمَعَارِفِ وَعَوَالِمِ الْقُدْسِ يَعُوقُهَا عَنْ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَلَا الْتِفَاتُهَا إِلَى مَنَاظِمِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ يَمْنَعُهَا عَنِ الِاسْتِكْمَالِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ فَكَانَتْ قُوَّتُهَا وَافِيَةً بِتَدْبِيرِ الْعَالَمَيْنِ مُحِيطَةً بِضَبْطِ الْجِنْسَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْجَوَاهِرُ الرُّوحَانِيَّةُ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ مَقْرُونَةٌ بِهَا وَالْخَالِي عَنْ مَنْبَعِ الشَّرِّ أَشْرَفُ مِنَ الْمُبْتَلَى بِهِ.
أَكْمَلُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ حِينَ قَالَتْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ الِانْكِسَارِ الْحَاصِلِ مِنَ الزَّلَّةِ وَهَذَا فِي الْبَشَرِ أَكْمَلُ وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى: «لَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ»
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
الرُّوحَانِيَّاتُ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَهَا بِحَسَبِ أَنْوَاعِهَا الَّتِي فِي أَشْخَاصِهَا فَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْفِعْلِ وَالْأَنْبِيَاءُ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ»
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ أَشْرَفُ مِمَّا بِالْقُوَّةِ. الِاعْتِرَاضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا بِالْفِعْلِ التَّامِّ فَلَعَلَّهَا بِالْقُوَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ تَحْرِيكَاتِهَا لِلْأَفْلَاكِ لِأَجْلِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ وَهَذِهِ التَّحْرِيكَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالتَّحْرِيكَاتِ الْعَارِضَةِ لِلْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لِقُوَى الْفِكْرِ وَالتَّخَيُّلِ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ اسْتِخْرَاجِ التَّعَقُّلَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ أَبَدِيَّةُ الْوُجُودِ مُبَرَّأَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ التَّغَيُّرِ وَالْقُوَّةُ وَالنُّفُوسُ النَّاطِقَةُ الْبَشَرِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
الِاعْتِرَاضُ: الْمُقَدِّمَتَانِ مَمْنُوعَتَانِ أَلَيْسَ أَنَّ الرُّوحَانِيَّاتِ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِمَادَّتِهَا فَهِيَ مُحْدَثَةٌ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ حَادِثَةٌ، بَلْ هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَزَلِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ كَانَتْ سَرْمَدِيَّةً مَوْجُودَةً كَالْأَظْلَالِ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إِلَّا أَنَّ الْمُبْدِئَ الْأَوَّلَ أَمَرَهَا حَتَّى نَزَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَسَكَنَاتِ الْمَوَادِّ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ عَشِقَتْهَا. وَاسْتَحْكَمَ إِلْفُهَا بِهَا فَبَعَثَ مِنْ تِلْكَ الْأَظْلَالِ أَكْمَلَهَا وَأَشْرَفَهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ لِيَحْتَالَ فِي تَخْلِيصِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ عَنْ تِلْكَ السَّكَنَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ بَابِ الْحَمَامَةِ الْمُطَوَّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «كِتَابِ كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ». الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ نُورَانِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، وَالْجُسْمَانِيَّاتُ ظُلْمَانِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ كَثِيفَةٌ وَبِدَائِيَّةُ الْعُقُولِ تَشْهَدُ بِأَنَّ النُّورَ أَشْرَفُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَالْعُلْوِيَّ خَيْرٌ مِنَ السُّفْلِيِّ، وَاللَّطِيفَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَثِيفِ. الِاعْتِرَاضُ: هَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَادَّةِ وَعِنْدَنَا سَبَبُ الشَّرَفِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا قَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَادِّعَاءُ الشَّرَفِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْمَادَّةِ هُوَ حُجَّةُ اللَّعِينِ الْأَوَّلِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانية بِقُوَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. أَمَّا الْعِلْمُ فَلِاتِّفَاقِ الْحُكَمَاءِ عَلَى إِحَاطَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَاطِّلَاعِهَا عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْأُمُورِ، وَأَيْضًا فَعُلُومُهُمْ فِعْلِيَّةٌ فِطْرِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ دَائِمَةٌ. وَعُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى الضِّدِّ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَلِأَنَّهُمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى الْخِدْمَةِ دَائِمًا يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ لَا يَلْحَقُهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا غَفْلَةُ الْأَبْدَانِ طَعَامُهُمُ التَّسْبِيحُ وَشَرَابُهُمُ التَّقْدِيسُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَتَنَفُّسُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَفَرْحَتُهُمْ بِخِدْمَةِ اللَّهِ مُتَجَرِّدُونَ مِنَ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ/ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ فَأَيْنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْآخَرِ: الِاعْتِرَاضُ: لَا نِزَاعَ فِي كُلِّ ما ذكرتموه إلا أن هاهنا دَقِيقَةً وَهِيَ أَنَّ الْمُوَاظِبَ عَلَى تَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ اللَّطِيفَةِ لَا يَلْتَذُّ بِهَا كَمَا يَلْتَذُّ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَالْمَلَائِكَةُ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لَا يَجِدُونَ مِنَ اللَّذَّةِ مِثْلَ مَا يَجِدُ الْبَشَرُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مَحْجُوبِينَ بِالْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ فَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنَ اللَّذَّةِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا البشر
وَالْمُخْتَارُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَجْبُورِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ مَا دَامَ يَبْقَى اسْتَحَالَ/ صُدُورُ الْفِعْلِ وَإِذَا حَصَلَ التَّرْجِيحُ الْتَحَقَ بِالْمُوجِبِ فَكَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَيْرَاتٌ بِالْقُوَّةِ وَبِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ تَصِيرُ خَيْرَاتٍ بِالْفِعْلِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمْ خَيْرَاتٌ بِالْفِعْلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: الرُّوحَانِيَّاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْهَيَاكِلِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ السَّبْعَةُ وَسَائِرُ الثَّوَابِتِ وَالْأَفْلَاكُ كَالْأَبْدَانِ وَالْكَوَاكِبُ كَالْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ كَالْأَرْوَاحِ فَنِسْبَةُ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَرْوَاحِ كَنِسْبَةِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْأَبْدَانِ ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَاتِ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ مَبَادِئُ لِحُصُولِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ اتِّصَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ التَّسْدِيسِ وَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُقَارَبَةِ وَكَذَا مَنَاطِقُ الْأَفْلَاكِ تَارَةً تَصِيرُ مُنْطَبِقَةً بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ وَذَلِكَ هُوَ الرَّتْقُ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عِمَارَةُ الْعَالَمِ وَأُخْرَى يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنِ الْبَعْضِ فَتَنْتَقِلُ الْعِمَارَةُ مِنْ جَانِبٍ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُسْتَوْلِيَةً عَلَى هَيَاكِلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فَكَذَا أَرْوَاحُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّتِ الْمَبَاحِثُ الْحِكْمِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْفَلْسَفِيَّةُ عَلَى أن أرواح هذا العالم معلومات لِأَرْوَاحِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَكِمَالَاتِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ مَعْلُولَاتٌ لِكِمَالَاتِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْوَاحِ كَالشُّعْلَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ وَكَالْقَطْرَةِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ فَهَذِهِ هِيَ الْآثَارُ وَهُنَاكَ الْمَبْدَأُ وَالْمَعَادُ فَكَيْفَ يَلِيقُ الْقَوْلُ بِادِّعَاءِ الْمُسَاوَاةِ فَضْلًا عَنِ الزِّيَادَةِ. الِاعْتِرَاضُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنَازَعٌ فِيهِ لَكِنْ بتقدير تسليمه
هَذِهِ الْكَلِمَاتُ بَنَيْتُمُوهَا عَلَى نَفْيِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَدُونَهُمَا خَرْطُ الْقَتَادِ. الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ إِلَّا بَعْدَ الْوَحْيِ فَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ عُلُومَهُمْ مُسْتَفَادَةٌ مِنْهُمْ أَلَيْسَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَمَا فِي قَلْعِ مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ وَهُمُ الَّذِينَ يَهْدُونَهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ فِي نَجْرِ السَّفِينَةِ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ أَنْ فَضَّلْتُمُوهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ فَافْتِقَارُهُمْ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّقْسِيمُ الْعَقْلِيُّ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيِّرَةً مَحْضَةً أَوْ شِرِّيرَةً مَحْضَةً أَوْ تَكُونَ خَيِّرَةً مِنْ وَجْهِ شِرِّيرَةً مِنْ/ وَجْهٍ فَالْخَيْرُ الْمَحْضُ هُوَ النَّوْعُ الْمَلَكِيُّ وَالشِّرِّيرُ الْمَحْضُ هُوَ النَّوْعُ الشَّيْطَانِيُّ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ النَّوْعُ الْبَشَرِيُّ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ النَّاطِقُ الْمَائِتُ وَعَلَى جَانِبَيْهِ قِسْمَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: النَّاطِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مِائَتَا وَهُوَ الْمَلَكُ: وَالْآخَرُ الْمَائِتُ الَّذِي لَا يَكُونُ نَاطِقًا وَهُمُ الْبَهَائِمُ فَقِسْمَةُ الْعَقْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ الْبَشَرِ فِي الدَّرَجَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْمَلَكُ يَكُونُ فِي الطَّرَفِ الْأَقْصَى مِنَ الْكَمَالِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ قَلْبٌ لِلْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَمُنَازَعَةٌ فِي تَرْتِيبِ الْوُجُودِ. الِاعْتِرَاضُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَضْلِ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَلَكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا فَهَذَا مُحَصِّلُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِفَضْلِ الأنبياء على الملائكة بأمور: أحدهما: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ كَالْقِبْلَةِ بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آدَمُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ لِأَنَّ السُّجُودَ نِهَايَةُ التَّوَاضُعِ وَتَكْلِيفُ الْأَشْرَفِ بِنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلْأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ أَنْ يُؤْمَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ يَخْدِمَ أَقَلَّ النَّاسِ بِضَاعَةً فِي الْفِقْهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَثَانِيهَا:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةً لَهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ خِلَافَةُ الولاية لقوله تعالى: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: ٢٦] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْلَى النَّاسِ مَنْصِبًا عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الْوِلَايَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَكَانَ خَلِيفَةً لَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشْرَفَ الْخَلَائِقِ وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ:
وسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [الحج: ٦٥] ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا التَّعْمِيمَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٩] فَبَلَغَ آدَمُ فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَالدُّنْيَا خُلِقَتْ مُتْعَةً لِبَقَائِهِ وَالْآخِرَةُ مَمْلَكَةٌ لِجَزَائِهِ وَصَارَتِ الشَّيَاطِينُ مُلْعُونِينَ بِسَبَبِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ وَالْجِنُّ رَعِيَّتُهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي طَاعَتِهِ وَسُجُودِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ ثُمَّ صَارَ بَعْضُهُمْ حَافِظِينَ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ وَبَعْضُهُمْ مُنْزِلِينَ لِرِزْقِهِ وَبَعْضُهُمْ مُسْتَغْفِرِينَ لِزَلَّاتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ مَعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٣٥] فَإِذَنْ لَا غَايَةَ لِهَذَا الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ وَالْأَعْلَمُ أَفْضَلُ، أَمَّا إِنَّهُ أَعْلَمُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ عِلْمَ الْأَسْمَاءِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا
[الْبَقَرَةِ: ٣٢] فعند ذلك قال الله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِمَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْلَمَ أَفْضَلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣] وَالْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْعَالَمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِلْمِ فَكُلُّ مَا كَانَ عَلَمًا عَلَى اللَّهِ وَدَالًّا عَلَيْهِ فَهُوَ عَالَمٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ عَالَمٌ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ منعاه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَاهُمْ عَلَى كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ/ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ هَذَا بقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هاهنا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢] وَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهَا أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا هاهنا قُلْنَا، الْإِشْكَالُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خِطَابٌ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَحِينَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكُونُ مِنَ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وهاهنا فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٧] وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ فَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ الْبَشَرِ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا أَشَقُّ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ شَهْوَةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الشَّهْوَةُ وَالْفِعْلُ مَعَ الْمُعَارِضِ الْقَوِيِّ أَشَدُّ مِنْهُ بِدُونِ الْمُعَارِضِ فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ شَهْوَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ قُلْنَا هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْبَشَرَ لَهُمْ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِثْلُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ إِلَّا شَهْوَةً وَاحِدَةً وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ وَالْمُبْتَلَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ تَكُونُ الطَّاعَةُ عَلَيْهِ أَشَقَّ مِنَ الْمُبْتَلَى بِشَهْوَةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: ٣٢] وَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] وَالْبَشَرُ لَهُمْ قُوَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ قَالَ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] وَقَالَ مُعَاذٌ اجْتَهَدْتُ بِرَأْيِي فَصَوَّبَهُ رسول الله ﷺ في ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِنْبَاطِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الثَّالِثُ: أَنَّ الشُّبُهَاتِ لِلْبَشَرِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الشُّبُهَاتِ الْقَوِيَّةِ كَوْنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ السَّيَّارَةِ أَسْبَابًا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ فَالْبَشَرُ احْتَاجُوا إِلَى دَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَحْتَاجُونَ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي عَالَمِ السموات فَيُشَاهِدُونَ كَيْفِيَّةَ افْتِقَارِهَا إِلَى الْمُدَبِّرِ الصَّانِعِ، الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى وَسْوَسَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْبَشَرِ فِي الْوَسْوَسَةِ وَذَلِكَ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ ثَوَابًا بِالنَّصِّ
فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّا نَعْلَمُ
مَا
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِرِكَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقَامَاتِ تَخَلَّفَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ»
وَعَاشِرُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: «إن لي وزيرين في السماء وزيرين فِي الْأَرْضِ، أَمَّا اللَّذَانِ فِي السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»
فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَالْمَلِكِ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَانَا كَالْوَزِيرَيْنِ لَهُ وَالْمَلِكُ أَفْضَلُ مِنَ الوزير فلزم أن يكون محمداً أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي دَلَائِلِ مَنْ فَضَّلَ الْبَشَرَ عَلَى الْمَلَكِ. أَجَابَ القائلون بتفضيل الملك [أما] عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى: فَقَالُوا قَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ هُوَ التَّوَاضُعُ لَا وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَكِنَّهُ قَالَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةُ السُّجُودِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا إِشْكَالَ أَمَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنَ الْأَشْرَفِ فِي حَقِّ الشَّرِيفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ حُبِّ الْأَشْرَفِ وَإِظْهَارِ النِّهَايَةِ فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُجْلِسَ أَقَلَّ عَبِيدِهِ فِي الصَّدْرِ وَأَنْ يَأْمُرَ الْأَكَابِرَ بِخِدْمَتِهِ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارَ كَوْنِهِمْ مُطِيعِينَ لَهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُنْقَادِينَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأمر هاهنا كَذَلِكَ وَأَيْضًا أَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ فِي الْإِنْسَانِ ثُمَّ فِي تَعْذِيبِهِ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي أَنْ يَأْمُرَ الْأَعْلَى بِالسُّجُودِ لِلْأَدْنَى وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جُعِلَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ كُلِّ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَجْعَلْ وَاحِدًا مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ قُلْنَا لِوُجُوهٍ/ مِنْهَا أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: ٩] وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ اللُّغَاتِ وَهُمْ مَا عَلِمُوهَا لكن لعلهم كونوا عَالِمِينَ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِهَا وَالَّذِي يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ عَالِمًا بِهَذِهِ اللُّغَاتِ بِأَسْرِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ قُرْبَ الشَّجَرَةِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجَ آدَمَ عَنِ الْجَنَّةِ وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَوْنُ إِبْلِيسَ أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْهُدْهُدُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْهُدْهُدُ أَفْضَلَ مِنْ سُلَيْمَانَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ: فَهُمَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَهُمَا مُعَارَضَانِ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا آخِرُ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ السُّجُودِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الْقُدْرَةِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ أَبَى لِأَنَّ الْإِبَاءَ هُوَ الِامْتِنَاعُ مَعَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ أَبَى ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ الْكِبْرُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِبَاءَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْبَارِ بِقَوْلِهِ وَاسْتَكْبَرَ ثُمَّ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ وَالِاسْتِكْبَارُ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَفَرَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةَ/ عَلَى الْفِعْلِ مُنْتَفِيَةٌ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَبَاهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ بِأَنْ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ اسْتَكْبَرَ عَنِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالِاسْتِكْبَارِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ كَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَأَمْكَنَهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُ وَامْتِنَاعَهُ خَلْقٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا قَالَ وَمَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا يُقِيمُ الْعُذْرَ لِإِبْلِيسَ فَهُوَ خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ لَا يَزَالُ يُطْنِبُ فِي تَكْثِيرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَنَقُولُ لَهُ نَحْنُ أَيْضًا: صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ إِبْلِيسَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ أَوْ لَا عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ؟ أَوَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ؟ فَإِنْ وَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ كَيْفَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ وَإِنْ وَقَعَ عَنِ الْعَبْدِ فَوُقُوعِ ذَلِكَ الْقَصْدِ عَنْهُ إِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَ لَا عَنْ قَصْدٍ فَقَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَا عَنْ قَصْدٍ وَسَنُبْطِلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ كُلُّ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، أَمَّا إِنْ قُلْتَ وَقَعَ ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ فَيَا أَيُّهَا الْقَاضِي مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَكْثِيرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مَعَ أن مثل هذا البرهان القاطع ويقلع خلفك، ويستأصل
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِلْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ كَانَ مُنَافِقًا كَافِرًا وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» عَنْ مَارِي شَارِحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى شَكْلِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ قَالَ إِبْلِيسُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي أُسَلِّمُ أَنَّ لِي إِلَهًا هُوَ خَالِقِي، وَمُوجِدِي، وَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، لَكِنْ لِي عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أسئلة سبعة، الأولى: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ خَلْقِهِ الْآلَامَ؟ الثَّانِي: ثُمَّ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ مِنْهُ ضَرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَكُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ؟ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ كَلَّفَنِي بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَلِمَاذَا كَلَّفَنِي السُّجُودَ لِآدَمَ؟ الرَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا عَصَيْتُهُ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ فَلِمَ لَعَنَنِي وَأَوْجَبَ عِقَابِي مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَلِي فِيهِ أَعْظَمُ الضَّرَرِ؟ الْخَامِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ فَلِمَ مَكَّنَنِي مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسْتُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ السَّادِسُ: ثُمَّ لَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ/ فَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَمَكَّنَنِي مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ؟ السَّابِعُ: ثُمَّ لَمَّا اسْتَمْهَلْتُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي ذَلِكَ، فَلِمَ أَمْهَلَنِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَالَمَ لَوْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الشَّرِّ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا؟ قَالَ شَارِحُ الْأَنَاجِيلِ: فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ: يَا إِبْلِيسُ إِنَّكَ مَا عَرَفْتَنِي، وَلَوْ عَرَفْتَنِي لَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاعتراض عليَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِي فَإِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَحَكَمُوا بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ لَمْ يَجِدُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مَخْلَصًا وَكَانَ الْكُلُّ لَازِمًا، أَمَا إِذَا أَجَبْنَا بِذَلِكَ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَالَتِ الشُّبُهَاتُ وَانْدَفَعَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ وَكَيْفَ لَا وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي صِفَاتِهِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ فِي فَاعِلِيَّتِهِ عَنِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْمُرَجِّحَاتِ إِذْ لَوِ افْتَقَرَ لَكَانَ فَقِيرًا لَا غَنِيًّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ وَمُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ وَمِنْ عِنْدِهِ نَيْلُ الطَّلَبَاتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَتَطَرَّقِ اللِّمِّيَّةُ إِلَى أَفْعَالِهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى خَالِقِيَّتِهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ فَهَذَا الْقَائِلُ أَجْرَى قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا مُنْذُ كَانَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَبَدًا قَوْلُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَالْعِقَابِ الدَّائِمِ مُحَالٌ فَإِذَا صَدَرَ الْإِيمَانُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ صَدَرَ عَنْهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُفْرٌ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقَانِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَوْ يَكُونَ الطَّارِئُ مُزِيلًا لِلسَّابِقِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْفَرْضَ مُحَالٌ وَشَرْطُ حُصُولِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ الْكُفْرُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ قَطُّ فَإِذَا كَانَتِ الْخَاتِمَةُ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ أَوَّلًا مَا كَانَ إِيمَانًا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ خَتْمُ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُؤْمِنًا قَطُّ، الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ سَيَكْفُرُ فَصِيغَةُ كَانَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِلْمِ لَا بِالْمَعْلُومِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَفَرَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْدَ مُضِيِّ كُفْرِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَتَى
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَقَالُوا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فَبَعَثَ/ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا»
وَقَالَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ صَارَ مِنَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ فِي مِثَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٦٧] فَأَضَافَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدين فكذا هاهنا لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ ظَاهِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ صَحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِضَافَةٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَصِحَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الذِّهْنِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَوَاحِدٌ مِنْ آحَادِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَنَا، لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْكُفْرِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَارِجِ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ كُفْرٌ، وَهُمْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّرَ إِبْلِيسَ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرٌ، الْجَوَابُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَافِرٌ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَنَقُولُ إِنَّهُ إِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَقْرُونَةً بِأَكْمَلِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: ٣٠]. الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنْهُمْ وَاسْتِثْنَاءُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَأْمُورُونَ بِهَذَا السُّجُودِ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ وَاسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَالُوا يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْوَاحُ السَّمَاوِيَّةُ مُنْقَادَةً لِلنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُطِيعَةُ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هذه المسألة مذكور في العقليات.
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى:
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
[تتمة سورة البقرة]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ اسْكُنْ أَمْرُ تَكْلِيفٍ أَوْ إِبَاحَةٍ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى آدَمَ بِإِسْكَانِ الْجَنَّةِ كَمَا ابْتَلَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شَاءَ وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فَمَا زَالَتْ بِهِ الْبَلَايَا حتى وقع فيم نُهِيَ عَنْهُ فَبَدَتْ سَوْأَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ مَوْضِعًا يَحْصُلُ فِيهِ مَا يَكُونُ مُشْتَهًى لَهُ مَعَ أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ مِنْ أَشَدِّ التَّكَالِيفِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
إِنَّ ذَلِكَ إِبَاحَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ النَّزِهَةِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ فِيهَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ كَمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [الأعراف: ١٦] أَمْرًا وَتَكْلِيفًا بَلْ إِبَاحَةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِسْكَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا فِي الِانْتِفَاعِ بِجَمِيعِ نِعَمِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَانَ حَاضِرًا وَهُوَ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ تَنَاوُلِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ أَسْكَنْتُكَ دَارِي لَا تَصِيرُ الدَّارُ مِلْكًا لَهُ، فَهَهُنَا لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى:
وَهَبْتُ مِنْكَ الْجَنَّةَ بَلْ قَالَ أَسْكَنْتُكَ الْجَنَّةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِخِلَافَةِ الْأَرْضِ فَكَانَ إِسْكَانُ الْجَنَّةِ كَالتَّقْدِمَةِ عَلَى ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْكُلَّ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبَى إِبْلِيسُ السُّجُودَ صَيَّرَهُ اللَّهُ مَلْعُونًا ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ بِأَنْ يَسْكُنَهَا مَعَ زَوْجَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ فِيهِ، فَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَسْكَنَ آدَمَ الجنة فبقي فيها وجده وَمَا كَانَ مَعَهُ مَنْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ النَّوْمَ ثُمَّ أَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ مِنْ شَقِّهِ الْأَيْسَرِ وَوَضَعَ مَكَانَهُ لَحْمًا وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ وَجَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةً قَاعِدَةً فَسَأَلَهَا مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ. قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إليّ، فقالت الملائكة: / ما اسمها؟ قالوا: حواء، وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ، قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَمَلُوا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ كَمَا تُحْمَلُ الْمُلُوكُ وَلِبَاسُهُمَا النُّورُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَعَلَى آدَمَ مِنْطَقَةٌ مُكَلَّلَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى أُدْخِلَا الْجَنَّةَ. فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ إِدْخَالِ آدَمَ الْجَنَّةَ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْجَنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجَةِ حَوَّاءُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: ١] وَفِي الْأَعْرَافِ: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: ١٨٩]،
وَرَوَى
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَهَلْ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ أَوْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَوْ جَنَّةٌ أُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: هَذِهِ الْجَنَّةُ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَحَمَلَا الْإِهْبَاطَ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٦١] وَاحْتَجَّا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ دَارَ الثَّوَابِ لَكَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ وَلَوْ كَانَ آدَمُ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠]، وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠]. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الْحِجْرِ: ٤٨]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ لُعِنَ فَمَا كَانَ يَقْدِرُ مَعَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ: ٣٥] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها إِلَى أَنْ قَالَ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: ١٠٨] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي دَخَلَهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَا فَنِيَتْ، لَكِنَّهَا تَفْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] وَلَمَا خَرَجَ مِنْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الرَّاحَاتُ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ يَبْتَدِئَ الْخَلْقَ فِي جَنَّةٍ يُخَلِّدُهُمْ فِيهَا وَلَا تَكْلِيفَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْطِي جَزَاءَ الْعَامِلِينَ مَنْ لَيْسَ بِعَامِلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُهْمِلُ عِبَادَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَسَادِسُهَا: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى قَدْ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ جَنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ «١». الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالدَّلِيلُ/ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِنْها [الْبَقَرَةِ: ٣٨]، ثُمَّ إِنَّ الْإِهْبَاطَ الْأَوَّلَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْإِهْبَاطَ الثَّانِيَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْجَنَّةِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْهُودَةُ الْمَعْلُومَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهَا، وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكُلَّ مُمْكِنٌ وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ ضَعِيفَةٌ وَمُتَعَارِضَةٌ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَتَرْكُ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللُّبْثِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَ «أَنْتَ» تَأْكِيدٌ لِلْمُسْتَكِنَّ فِي «اسْكُنْ» لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَ «رَغَدًا» وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا رَافِهًا وَ «حَيْثُ» لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ أَيْ أَيَّ مَكَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ شِئْتُمَا، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ إِطْلَاقُ الْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّوْسِعَةِ الْبَالِغَةِ حَيْثُ لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا بَعْضَ الْأَكْلِ وَلَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمَا عُذْرٌ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ بَيْنِ أشجارها الكثيرة.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ فيه خلاف، فقال قائلون: هذه الصيغة النهي/ التَّنْزِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَرَدَتْ تَارَةً فِي التَّنْزِيهِ وَأُخْرَى فِي التَّحْرِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهِ كَانَ ثَابِتًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، فَإِذَا ضَمَمْنَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ صَارَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى التَّنْزِيهِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ حَاصِلُ مَعْصِيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ كَانَ أَفْضَى إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الْأَنْعَامِ: ١٥٢] فَكَمَا أَنَّ هَذَا لِلتَّحْرِيمِ فَكَذَا الْأَوَّلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣٥] مَعْنَاهُ إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْهَا فَقَدْ ظَلَمْتُمَا أَنْفُسَكُمَا أَلَا تَرَاهُمَا لَمَّا أَكَلَا قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لَوْ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمَا اسْتَحَقَّ آدَمُ بِفِعْلِهِ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَمَا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّهْيَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّنْزِيهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِدَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ فَتَظْلِمَا أَنْفُسَكُمَا بِفِعْلِ مَا الْأَوْلَى بِكُمَا تَرْكُهُ لِأَنَّكُمَا إِذَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ أُخْرِجْتُمَا مِنَ الجنة التي لا تظمئان فِيهَا وَلَا تَجُوعَانِ وَلَا تَضْحَيَانِ وَلَا تَعْرَيَانِ إِلَى مَوْضِعٍ لَيْسَ لَكُمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ لِهَذَا السَّبَبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الشَّجَرَةِ مَا هِيَ، فَرَوَى مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أَنَّهَا الْبُرُّ وَالسُّنْبُلَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّجَرَةِ فَقَالَ: هِيَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ السُّنْبُلَةُ.
وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا الْكَرْمُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا التِّينُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى بَيَانِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُعَرِّفَنَا عَيْنَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَمَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي/ الْكَلَامِ، لَا يَجِبُ عَلَى الْحَكِيمِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ بَيَانُهُ عَبَثًا لِأَنَّ أَحَدَنَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْعُذْرَ لِغَيْرِهِ فِي التَّأَخُّرِ فَقَالَ: شُغِلْتُ بِضَرْبِ غِلْمَانِي لِإِسَاءَتِهِمُ الْأَدَبَ لَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ أَحْسَنَ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ عَيْنَ هَذَا الْغُلَامِ وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ وَقَعَ هاهنا تَقْصِيرٌ فِي الْبَيَانِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمُ الْأَقْرَبُ فِي لَفْظِ الشَّجَرَةِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا لَهُ سَاقٌ وَأَغْصَانٌ، وَقِيلَ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصَّافَّاتِ: ١٤٦] مَعَ أَنَّهَا كَالزَّرْعِ وَالْبِطِّيخِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَهَابُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَجَرًا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَأَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ مَا تَفَرَّعَتْ لَهُ أَغْصَانٌ وَعِيدَانٌ فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ شَجَرًا فِي وَقْتِ تَشَعُّبِهِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ كُلُّ مَا شَجَرَ أَيْ أَخَذَ يُمْنَةً وَيُسْرَةً يُقَالُ: رأيت فلاناً في شَجَرَتُهُ الرِّمَاحُ. وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: ٦٥] وَتَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي أَمْرِ كَذَا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ هُوَ أَنَّكُمَا إِنْ أَكَلْتُمَا فَقَدْ ظَلَمْتُمَا أَنْفُسَكُمَا لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمُ الْغَيْرِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا بِأَنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وَبِأَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَظُلْمُ النفس أعم وأعظم. ثم اختلف الناس هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الْكَبِيرَةِ فَلَا جَرَمَ كان فعله ظلماً، الثاني: قوله الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ أَلْزَمَهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي، وَثَانِيهِمَا: قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ أَحْبَطَ بَعْضَ ثَوَابِهِ الْحَاصِلِ فَصَارَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ، الثَّالِثُ:
قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ صُدُورَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ مُطْلَقًا وَحَمَلَ هَذَا الظُّلْمَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا الْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. وَمِثَالُهُ إِنْسَانٌ طَلَبَ الْوِزَارَةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَرَكَهَا وَاشْتَغَلَ بِالْحِيَاكَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَا ظَالِمَ نَفْسِهِ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَوْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ الذم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها تَحْقِيقُهُ، فَأَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنْهَا وَلَفْظَةُ «عَنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْفِ: ٨٢] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنَ الزَّلَلِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ثَابِتَ الْقَدَمِ عَلَى الشَّيْءِ، فَيَزِلُّ عَنْهُ وَيَصِيرُ مُتَحَوِّلًا عَنْ ذَلِكَ الموضع، ومن قرأ فأزالهما فَهُوَ مِنَ الزَّوَالِ عَنِ الْمَكَانِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ أَزَلْتُكَ عَنْ كَذَا/ حَتَّى زِلْتَ عَنْهُ وَأَزْلَلْتُكَ حَتَّى زَلَلْتَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: حَوَّلْتُكَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ زَلَّ فِي دِينِهِ إِذَا أَخْطَأَ وَأَزَلَّهُ غَيْرُهُ إِذَا سَبَّبَ لَهُ مَا يَزِلُّ مِنْ أَجْلِهِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَثَانِيهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ، وَثَالِثُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالْفُتْيَا، وَرَابِعُهَا: مَا يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ. أَمَّا اعْتِقَادُهُمُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ. وَقَالَتِ الْفَضِيلِيَّةُ مِنَ الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ قَدْ وَقَعَتْ مِنْهُمُ الذُّنُوبُ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ وَشِرْكٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا بِوُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَتِ الْإِمَامِيَّةُ عَلَيْهِمْ إِظْهَارَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَعْصُومِينَ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ بِالْأَدَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ عَمْدًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُتْيَا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خَطَؤُهُمْ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَاهُ آخَرُونَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَشَوِيَّةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ إِلَّا مَا يُنَفِّرُ كَالْكَذِبِ وَالتَّطْفِيفِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا بِصَغِيرَةٍ وَلَا بِكَبِيرَةٍ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ولكنهم مأخوذون بِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ أَقْوَى وَدَلَائِلَهُمْ أَكْثَرُ، وَأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ مِنَ التَّحَفُّظِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ وَالْخَطَأِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّافِضَةِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مَنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَقْتَ عِصْمَتِهِمْ وَقْتُ بُلُوغِهِمْ وَلَمْ يُجَوِّزُوا مِنْهُمُ ارْتِكَابَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقْتَ النُّبُوَّةِ، أَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ/ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الذَّنْبُ حَالَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا
وَقَالَ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هُودٍ: ٨٨]، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠]، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ.
وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٧]، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الاستثناء فيقال: فلاناً مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ إِلَّا فِي الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَخْيَارًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. وَقَالَ:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: ٧٥]، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ/ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣]. وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَةِ: ١٣٠]. وَقَالَ فِي مُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٤]. وَقَالَ: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٥- ٤٧]. فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. عَاشِرُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ قَوْلَهُ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
[ص: ٨٢- ٨٣]، فَاسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُغْوِيهِمُ الْمُخْلَصِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: ٤٦] وَقَالَ فِي يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يُوسُفَ: ٢٤]، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ:
٢٠]، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ مَا اتَّبَعُوهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَقَدْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ أَنَّهُمْ مَا أَذْنَبُوا فَذَلِكَ الْفَرِيقُ إِمَّا الْأَنْبِياءُ أَوْ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَنْبِيَاءَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي النَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يُذْنِبُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَيَكُونُ غَيْرُ النَّبِيِّ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الذَّنْبَ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ١٩] وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْآخَرِ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ، وَالَّذِي يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَعْصِيَةُ، فَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الرَّسُولِ لَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَلَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَصَدَقَ عَلَى زُهَّادِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ مِنَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣]، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِتَرْكِ الذَّنْبِ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧]. وَقَالَ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: ٦]، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنِ الرَّسُولِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
الرَّابِعَ عَشَرَ:
رُوِيَ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ شَهِدْتَ لِي» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصَدِّقُكَ عَلَى الْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْكَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ أَفَلَا أُصَدِّقُكَ فِي هَذَا الْقَدْرِ؟ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ وَسَمَّاهُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ
وَلَوْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ جَائِزَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَا جَازَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: قَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالْإِمَامُ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فَلَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ إِمَّا عَهْدُ النُّبُوَّةِ أَوْ عَهْدُ الْإِمَامَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ النُّبُوَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ الإمامة وجب أن لا نثبت الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَإِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ. وَالْآيَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ مذنباً، أما
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: ٦، ٨] فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النِّسْيَانِ فِي الْوَحْيِ، الْجَوَابُ: لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَاكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوُسْعِ بَلْ عَنِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢]، / وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الْجِنِّ: ٢٦- ٢٨]. قَالُوا: فَلَوْلَا الْخَوْفُ مِنْ وُقُوعِ التَّخْلِيطِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالرَّصَدِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ فَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الرَّصْدُ الشَّيَاطِينَ عَنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْفُتْيَا فَثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٨]، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ فَادَاهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَالِ: ٦٧]، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَّا لَمَا عُوتِبَ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣]، وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْأَفْعَالِ فَكَثِيرَةٌ، أَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمَسَّكُوا بِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا وَالْعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
هَبْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْكَبِيرَةِ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ/ لَكِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الشَّيْءِ. وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ عَنِ الْوُجُوهِ السَّبْعَةِ عِنْدَنَا أَنْ نَقُولَ: كَلَامُكُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ أَتَيْتُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَالَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إن آدم عليه السلام حالما صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الزَّلَّةُ مَا كَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من هذه الآيات.
ولنذكر هاهنا كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الزَّلَّةِ لِيَظْهَرَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى من قوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة: ٣٦] فَنَقُولُ لِنَفْرِضْ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا أَوْ حَالَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وَمَثَّلُوهُ بِالصَّائِمِ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ يَسْتَغْرِقُهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ سَاهِيًا عَنِ الصَّوْمِ وَيَأْكُلُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ السَّهْوِ [لَا] عَنْ قَصْدٍ، لَا يُقَالُ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ، وَقَوْلَهُ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠- ٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا نَسِيَ النَّهْيَ حَالَ الْإِقْدَامِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَمَّدَ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا خَرَجَ آدَمُ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجنة، فحسسته فَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَفِرَارًا مِنِّي، فَقَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا كَانَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنِّي وَعِزَّتِكَ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ مِنْهَا ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لَمَا عُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ».
وَقَالَ أَيْضًا: «إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوَعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ»،
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ»، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ. فَهَذَا فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ حَوَّاءَ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّكْرِ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ سِوَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا الشَّجَرَةَ عَلَى الْبُرِّ، كَانَ مَأْذُونًا فِي تَنَاوُلِ الْخَمْرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يُسْكِرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ خَمْرِ الْجَنَّةِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٧]. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَامِدًا فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا القول وعلته.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نبياً، وقد عرفت فساد هذا الْقَوْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَمْدًا، لَكِنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَجَلِ وَالْفَزَعِ وَالْإِشْفَاقِ مَا صَيَّرَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَمْدًا وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَمْدِيَّةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِسَبَبِ اجْتِهَادٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، بَيَانُ الِاجْتِهَادِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَفْظُ هذِهِ قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى الشَّخْصِ، وَقَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى النَّوْعِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ حَرِيرًا وَذَهَبًا بِيَدِهِ وَقَالَ: «هَذَانِ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهِمْ»،
وَأَرَادَ بِهِ نَوْعَهُمَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة
وَأَرَادَ نَوْعَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: ٣٥] [الأعراف: ١٩] ظَنَّ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ، فَتَرَكَهَا وَتَنَاوَلَ مِنْ شَجَرَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلِمَةِ هذِهِ كَانَ النَّوْعَ لَا الشَّخْصَ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ خَطَأً لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ وَاللَّعْنِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَغِيرَةً مَغْفُورَةً كَمَا فِي شَرْعِنَا، فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ. وَالشَّيْءُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ إِلَّا شَيْئًا مُعَيَّنًا، فَكَلِمَةُ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ/ الْمُعَيَّنِ فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى النَّوْعِ، فَذَاكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَكَانَ مَا عَدَاهُ خَارِجًا عَنِ النَّهْيِ لَا مَحَالَةَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُجْتَهِدُ مُكَلَّفٌ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَ لَفْظَ هَذَا عَلَى الْمُعَيَّنِ كَانَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُهُ عَلَى النَّوْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَأَيَّدٌ بِأَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قوله: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: ٣٥] أَفَادَ الْإِذْنَ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حِلَّ الِانْتِفَاعِ بِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِسَبَبِ هَذَا عِتَابًا وَأَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يُوجِبُ أَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا لَا مُخْطِئًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. هَبْ أَنَّ لَفْظَ هَذَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشَّخْصِ وَالنَّوْعِ، وَلَكِنْ هَلْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّوْعُ دُونَ الشَّخْصِ أَوْ مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْبَيَانِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالذَّنْبِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي مَعْرِفَتِهِ بَلْ عَرَفَهُ فَقَدْ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَكُونُ إِقْدَامًا عَلَى الذَّنْبِ قَصْدًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِقْدَامٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعْصِيَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ كَانَ الْخَطَأُ فِيهَا كَبِيرًا وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الظَّنِّيَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِيهَا أَصْلًا، وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا مَعْذُورٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْخَطَأِ سَبَبًا لِأَنْ نُزِعَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَاسُهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّخْصِ لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ قَدْ قَرَنَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي:
هُوَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَلَّهُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، أو يقال: إنه عرف ذلك لا دليل فِي وَقْتِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَيْنِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ غَفَلَ عَنْهُ لِأَنَّ
فِي الْخَبَرِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ فِي الْجَنَّةِ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ ثُمَّ أُخْرِجَ.
والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة هاهنا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَرَفَهَا/ لَكِنَّهُ
كَانَتِ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَسِيَهَا صَارَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي أَنْ لَا يَصِيرَ الذَّنْبُ كَبِيرًا أَوْ يُقَالَ: كَانَتْ ظَنِّيَّةً إِلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى خَطَأِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ التَّشْدِيدَاتِ وَالتَّخْفِيفَاتِ بِمَا لَا يَثْبُتُ في حق الأمة، فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَنَهَاهُمَا مَعًا فَظَنَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَنْ يَقْرَبَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبا نَهْيٌ لَهُمَا عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، فَلَعَلَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ تَمَكَّنَ إِبْلِيسُ مِنْ وَسْوَسَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ خَارِجَ الْجَنَّةِ وَآدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْقُصَّاصِ وَهُوَ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَأَنَّهَا الْبُخْتِيَّةُ، وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ بعد ما عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا قَبِلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فَابْتَلَعَتْهُ الْحَيَّةُ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ خُفْيَةً مِنَ الْخَزَنَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَيَّةُ الْجَنَّةَ خَرَجَ إِبْلِيسُ مِنْ فَمِهَا وَاشْتَغَلَ بِالْوَسْوَسَةِ. فَلَا جَرَمَ لُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَسَقَطَتْ قَوَائِمُهَا وَصَارَتْ تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجُعِلَ رِزْقُهَا فِي التُّرَابِ، وَصَارَتْ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الدُّخُولِ فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّةً ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْحَيَّةِ فَلِمَ عُوقِبَتِ الْحَيَّةُ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ وَلَا مُكَلَّفَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقَلُّ فَسَادًا مِنَ الْأَوَّلِ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَعَلَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَإِبْلِيسَ كان بقرب الباب ويوسوس إليهما، ورابعها: وهو قَوْلُ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَلَامٌ خَفِيٌّ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ بَاشَرَ خِطَابَهُمَا أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ أَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَافِ: ٢٢]. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا يَعْرِفَانِهِ وَيَعْرِفَانِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، فَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْبَلَا قَوْلَهُ وَأَنْ يَلْتَفِتَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ للوسوسة من بعض أتباع إبليس. بقي هاهنا سُؤَالَانِ، السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: / أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ هَذَا الْإِزْلَالَ إِلَى إِبْلِيسَ فَلِمَ عَاتَبَهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ؟ قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا أَنَّهُمَا عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ أَتَيَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦]. فَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢]، هَذَا مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمَعَ التَّسَاوِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرًا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ أو
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنْ قَالَ إِنَّ جَنَّةَ آدَمَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَسَّرَ الْهُبُوطَ بِالنُّزُولِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ فَسَّرَهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٦١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مُخَاطَبَيْنِ بِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالُوا لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أَيْ فَأَزَلَّهُمَا وَقُلْنَا لَهُمُ اهْبِطُوا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَهَذَا تَعْرِيفٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا كَمَا عَرَّفَهُمَا ذَلِكَ قَبْلَ الأكل من الشجرة فقال: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧]، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَبَى مِنَ السُّجُودِ صَارَ كَافِرًا/ وأخرج من الجنة وقيل لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣]، وَقَالَ أَيْضًا: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص: ٧٧، الْحِجْرِ: ٣٤]، وَإِنَّمَا أُهْبِطَ مِنْهَا لِأَجْلِ تَكَبُّرِهِ، فَزَلَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهُبُوطِ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ هُبُوطُ إِبْلِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا، مُتَنَاوِلًا لَهُ؟
قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَعَلَّهُ عَادَ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى لِأَجْلِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَحِينَ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ فِي الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: اهْبِطا [طه: ١٢٣]، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ وَاجْتَمَعَ إِبْلِيسُ مَعَهُمَا خَارِجَ الْجَنَّةِ أَمَرَ الْكُلَّ فَقَالَ: اهْبِطُوا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ قَالَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فِي وَقْتٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذَا الْإِجْمَاعَ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: ٤١]، وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْلِ: ٢١]. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْإِنْسِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْإِنْسُ كُلُّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
... اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [البقرة: ٣٦، ٣٨]، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٨، ٣٩]. وَهَذَا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَعْنَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُهُمُ الْخِطَابُ؟ أَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ عَلَى قَوْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرٌ أَوْ إِبَاحَةٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِأَنَّ مُفَارَقَةَ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ الْمَعِيشَةُ فِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ وَالْكَدِّ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَا يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَظِيمِ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْحُدُودِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ إِنَّهَا عُقُوبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ، قُلْنَا: أَمَّا الْحُدُودُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ بِالْمَحْدُودِ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِقَابًا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُصِرًّا، وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَعَ الْمَأْثَمِ. فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً مَعَ كَوْنِهَا تَعْرِيضَاتٍ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ فَلَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، أَمْرٌ بِالْهُبُوطِ وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ وَاخْتِدَاعَهُ إِيَّاهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ وَعَدَاوَتَهُ لِذُرِّيَّتِهِمَا بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا عَدَاوَةُ آدَمَ لِإِبْلِيسَ/ فَإِنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦] وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٧] إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُسْتَقَرُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
[الْقِيَامَةِ: ١٢]، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَكَانِ الَّذِي يُسْتَقَرُّ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الْفُرْقَانِ: ٢٤]، وَقَالَ تَعَالَى: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الْأَنْعَامِ: ٩٨] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [الْبَقَرَةِ: ٣٦] [الْأَعْرَافِ: ٢٤]، عَلَى الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُسْتَقَرُّكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ هُوَ الْقَبْرُ، أَيْ قُبُورُكُمْ تَكُونُونَ فِيهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَتَاعَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحَالِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِهْبَاطِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَ الْحَيَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الْأَعْرَافِ: ٢٤، ٢٥]، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحِينِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُمْتَدُّ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ حِينٍ إِذَا بَعُدَتْ مُشَاهَدَتُهُ لَهُ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ مَعَ قُرْبِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَارُ النَّاسِ طَوِيلَةً وَآجَالُهُمْ عَنْ أَوَائِلِ حُدُوثِهِمْ مُتَبَاعِدَةً جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ | وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ |
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي | دَرْكَ الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ |
أَنْسِيتَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَا | مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ |
أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤]، قَالَ حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ ثُمَّ أَلْقَى الْحِرْصَ فِي قَلْبِ آدَمَ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ثُمَّ أَلْقَى الْحَسَدَ فِي قَلْبِ قَابِيلَ حَتَّى قَتَلَ هَابِيلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ بَيْنَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الحذر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ التَّلَقِّي هُوَ التَّعَرُّضُ لِلِقَاءٍ ثُمَّ يُوضَعُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِقْبَالِ لِلشَّيْءِ الْجَائِي ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النَّمْلِ: ٦]، أَيْ تُلَقَّنَهُ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْنَا الْحُجَّاجَ أَيِ اسْتَقْبَلْنَاهُمْ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَخَذْتُهَا مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَ الْكَلِمَةِ وَكَانَ مَنْ تَلَقَّى رَجُلًا فَتَلَاقَيَا لَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ فَأُضِيفَ الِاجْتِمَاعُ إِلَيْهِمَا مَعًا صَلُحَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوَصْفِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: كُلُّ مَا تَلَقَّيْتَهُ فَقَدْ تَلَقَّاكَ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَقَّى آدَمُ كَلِمَاتٍ أَيْ أَخَذَهَا وَوَعَاهَا وَاسْتَقْبَلَهَا بِالْقَبُولِ، وَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَّقَى كَلِمَاتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى جَاءَتْهُ عَنِ اللَّهِ كَلِمَاتٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (الظَّالِمُونَ).
المسألة الثانية: اعلم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْرِفَ مَاهِيَّةَ التَّوْبَةِ وَيَتَمَكَّنَ بِفِعْلِهَا مِنْ تَدَارُكِ الذُّنُوبِ وَيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا فَضْلًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ يجب حمله على أحد أمور. أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَهُ وُجُوبَ التَّوْبَةِ وَكَوْنَهَا مَقْبُولَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنِّي أَتُوبُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، أَيْ أَخَذَهَا وَقَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ إِلَى التَّوْبَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ كَلَامًا لَوْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مَعَهُ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمَالِ حَالِ التَّوْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مَا هِيَ؟
فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى.
وَثَانِيهَا: قَالَ النَّخَعِيُّ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ. قَالَ: عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَمْرَ الْحَجِّ فَحَجَّا وَهِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُقَالُ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْحَجِّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا بِأَنِّي قَبِلْتُ تَوْبَتَكُمَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا هِيَ قَوْلُهُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٣]. وَرَابِعُهَا:
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهَا قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ/ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وَخَامِسُهَا: قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَى آدَمَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي وَتَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَ لِي وَأَرْضَى بِمَا قَسَمْتَ لِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى آدَمَ: يَا آدَمُ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ذَنْبَكَ وَلَنْ يَأْتِيَنِي أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَدْعُوَنِي بِهَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَوْتَنِي بِهِ إِلَّا غَفَرْتُ ذَنْبَهُ وَكَشَفْتُ هُمُومَهُ وَغُمُومَهُ وَنَزَعْتُ الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ وَجَاءَتْهُ الدُّنْيَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّوْبَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٍ، علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثان وَالْعَمَلُ ثَالِثٌ، وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا فِي الذَّنْبِ مِنَ الضَّرَرِ وَكَوْنِهِ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَحْمَةِ الرَّبِّ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ تَأَلَّمَ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُهُ يُفْعَلُ مِنْ جِهَتِهِ تَأَسَّفَ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِذَلِكَ الْفَوَاتِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّأَسُّفُ نَدَمًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ إِذَا تَأَكَّدَ حَصَلَتْ مِنْهُ إِرَادَةٌ جَازِمَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَبِالْمُسْتَقْبَلِ وَبِالْمَاضِي، أَمَّا تَعَلُّقُهَا بِالْحَالِ فَبِتَرْكِ الذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا لَهُ وَأَمَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ فَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ. وَأَمَّا بِالْمَاضِي فَبِتَلَافِي مَا فَاتَ بِالْجَبْرِ وَالْقَضَاءِ إِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْجَبْرِ، فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَطْلَعُ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ وَأَعْنِي بِهِ الْيَقِينَ التَّامَّ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ، فَهَذَا الْيَقِينُ نُورٌ وَهَذَا النُّورُ يُوجِبُ نَارَ النَّدَمِ فَيَتَأَلَّمُ بِهِ الْقَلْبُ حَيْثُ أَبْصَرَ بِإِشْرَاقِ نُورِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ صَارَ مَحْجُوبًا عَنْ مَحْبُوبِهِ كَمَنْ يُشْرِقُ عَلَيْهِ نُورُ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَيَطْلُعُ النُّورُ عَلَيْهِ بِانْقِشَاعِ السَّحَابِ، فَرَأَى مَحْبُوبَهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَتَشْتَعِلُ نِيرَانُ الْحُبِّ فِي قَلْبِهِ فَتَنْبَعِثُ مِنْ تِلْكَ النِّيرَانِ إِرَادَتُهُ لِلِانْتِهَاضِ لِلتَّدَارُكِ، فَالْعِلْمُ وَالنَّدَمُ وَالْقَصْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِالتَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالتَّلَافِي لِلْمَاضِي ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَرَتِّبَةٌ فِي الْحُصُولِ [عَلَى التَّوْبَةِ]. وَيُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ وَيُجْعَلُ الْعِلْمُ السَّابِقُ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّرْكُ كَالثَّمَرَةِ وَالتَّابِعِ الْمُتَأَخِّرِ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»،
إِذْ لَا يَنْفَكُّ النَّدَمُ عَنْ عِلْمٍ أَوْجَبَهُ وَعَنْ عَزْمٍ يَتْبَعُهُ فَيَكُونُ النَّدَمُ مَحْفُوفًا بِطَرَفَيْهِ، أَعْنِي مُثْمِرَهُ وَثَمَرَتَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَخَّصَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ فِي حَقِيقَةِ التوبة وهو
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا»،
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْيَنُ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ ضَرَرًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ يُوجِبُ تَأَلُّمَ الْقَلْبِ وَذَلِكَ التَّأَلُّمُ يُوجِبُ إِرَادَةَ التَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَإِرَادَةَ تَلَافِي مَا حَصَلَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَإِذَا كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى الْبَعْضِ تَرَتُّبًا ضَرُورِيًّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْوُسْعِ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ لِلِاخْتِيَارِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَحْصِيلُ الْعِلْمِ لَيْسَ أَيْضًا فِي الْوُسْعِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَجْهُولَاتِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْلُومَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، فَتِلْكَ الْعُلُومُ الْحَاضِرَةُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى اكْتِسَابِ ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَجْهُولِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ تَرَتُّبُ الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ بِهِ ضَرُورِيًّا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ اسْتِنْتَاجُ الْمَطْلُوبِ الْمَجْهُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الْحَاضِرَةِ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْقَرِيبَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَالٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فِي الذِّهْنِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مُنْتِجَةً لِتِلْكَ النَّتِيجَةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي الذِّهْنِ إِلَّا أَنَّ كَيْفِيَّةَ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ غَيْرُ حَاضِرَةٍ فِي الذِّهْنِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمُ بِتِلْكَ النَّتِيجَةِ لَا مَحَالَةَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ كَانَ الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى التَّسَلْسُلِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يُفْضِيَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْ لَوَازِمِهِ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: سَأَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً فَكَيْفَ تَلْزَمُ التَّوْبَةُ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّهَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَصَى لَمْ يُحَدَّ «١» فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ مُخْتَارٌ «٢» وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَادِمًا أَوْ مُصِرًّا لَكِنَّ الْإِصْرَارَ قَبِيحٌ فَلَا تَتِمُّ مُفَارَقَتُهُ لِهَذَا الْقَبِيحِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، فَهِيَ إِذَنْ لَازِمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً وَسَوَاءٌ ذَكَرَهَا وَقَدْ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ أَوْ لَمْ يَتُبْ. أَمَّا أَبُو هَاشِمٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يَخْلُوَ الْعَاصِي مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِصْرَارِ وَيَقُولُ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِإِحْدَى خِلَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ لِأَنَّ بِالصَّغِيرَةِ قَدْ نَقَصَ ثَوَابُهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّوْبَةَ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ، فَإِذَا كَانَ التَّرْكُ وَاجِبًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ التوبة مع عدم الإمكان، وربما قال:
(٢) معنى العبارة على ما في الأصل غير مفهوم ولعل الصواب «إلا هو مختار».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: أصل التوبة الرجوع كالأبوة. يُقَالُ: تَوَبَ كَمَا يُقَالُ أَوَبَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قابِلِ التَّوْبِ [غَافِرٍ: ٣] فَقَوْلُهُمْ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً وَمَتَابًا فَهُوَ تَائِبٌ وَتَوَّابٌ كَقَوْلِهِمْ آب يؤوب أوباً وأوبة فهو آئب وَأَوَّابٌ، وَالتَّوْبَةُ لَفْظَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرَّبُّ وَالْعَبْدُ، فَإِذَا وُصِفَ بِهَا الْعَبْدُ فَالْمَعْنَى رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْهَارِبِ مِنْ رَبِّهِ فَإِذَا تَابَ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَرَبِهِ إِلَى رَبِّهِ فَيُقَالُ: تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَالرَّبُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمُعْرِضِ عَنْ عَبْدِهِ وَإِذَا وُصِفَ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى فَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَجَعَ عَلَى عَبْدِهِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الصِّلَةِ، فَقِيلَ فِي الْعَبْدِ: تَابَ إِلَى رَبِّهِ. وَفِي الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ وَقَدْ يُفَارِقُ الرَّجُلُ خِدْمَةَ رَئِيسٍ فَيَقْطَعُ الرئيس معروفه عنه، ثُمَّ يُرَاجِعُ خِدْمَتَهُ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ عَادَ إِلَى الْأَمِيرِ وَالْأَمِيرُ عَادَ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ وَمَعْرُوفِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهَا الثَّوَابَ الْعَظِيمَ كَمَا أَنَّ قَبُولَ الطَّاعَةِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوَّابِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ:
أَنَّ وَاحِدًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا مَتَى جَنَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الِاعْتِذَارَ، ثُمَّ إِذَا عَادَ إِلَى الْجِنَايَةِ وَإِلَى الِاعْتِذَارِ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ طَبْعَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ قَبُولِ الْعُذْرِ، أَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى رِقَّةِ طَبْعٍ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ إِنَّمَا يَقْبَلُهَا لِمَحْضِ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ.
فَلَوْ عَصَى الْمُكَلَّفُ كُلَّ سَاعَةٍ ثُمَّ تَابَ وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْعُمْرَ الطَّوِيلَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَصَارَ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ فَوُصِفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى تَوَّابٌ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ فَإِذَا قَبِلَ تَوْبَةَ الْجَمِيعِ اسْتَحَقَّ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ مَعَ إِزَالَةِ الْعِقَابِ يَقْتَضِي حُصُولَ الثَّوَابِ وَكَانَ الثَّوَابُ مِنْ جِهَتِهِ نِعْمَةً وَرَحْمَةً وَصَفَ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهِ تَوَّابًا بِأَنَّهُ رَحِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: في هذه الآية فوائد: إحداها: أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِالتَّوْبَةِ فِي كُلٍّ حِينٍ وَأَوَانٍ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ (أ)
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الرَّجُلِ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: يَسْتَغْفِرُ أَبَدًا حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْخَاسِرَ فَيَقُولُ لَا طَاقَةَ لِي مَعَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: كُلَّمَا قَدَرْتَ أَنْ تَطْرَحَهُ فِي وَرْطَةٍ وَتَتَخَلَّصَ مِنْهَا فَافْعَلْ.
(ب)
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ/ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً.
(ج)
وعن ابن عمر قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ.
(د)
وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٤] «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
(هـ)
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَرْفَعَ مِنَ الْأُولَى، فَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ لِذَلِكَ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْغَيْمَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكْرِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُهُ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ حَتَّى يَصِيرَ فَانِيًا عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الصَّحْوِ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذَلِكَ الصَّحْوِ وَهُوَ تَأْوِيلُ أَرْبَابِ الْحَقِيقَةِ، وَرَابِعُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْخَطَرَاتِ وَالْخَوَاطِرِ وَالشَّهَوَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَيْلِ وَالْإِرَادَاتِ فَكَانَ يَسْتَعِينُ بِالرَّبِّ تَعَالَى فِي دَفْعِ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ (و) أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيمِ: ٨] إِنَّهُ هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَعُودَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَهْجُرَ الذَّنْبَ وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا. (ز)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِالْحَسَنَةِ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَإِذَا هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَعَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(ح)
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا كَرِيمَ الْعَفْوِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَوَ تَدْرِي مَا كَرِيمُ الْعَفْوِ؟
فَقَالَ: لَا يَا جِبْرِيلُ. قَالَ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ السَّيِّئَةِ وَيَكْتُبَهَا حَسَنَةً.
(ط)
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نَهَارِهِ بِالْخَيْرِ وَخَتَمَهُ بِالْخَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ لَا تَكْتُبُوا عَلَى عَبْدِي مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ».
(ي)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لِلْقَاتِلِ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ الْمِائَةَ. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا نَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاعْبُدْهُ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نِصْفَ الطَّرِيقِ فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ/ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ وَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضِينَ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ بِشِبْرٍ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(يَا)
ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ خَلَقْتَ آدَمَ وَجَعَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (جَعَلْتُ صُدُورَهُمْ مَسَاكِنَ لَكَ)، فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي، فَقَالَ: لَا يُولَدُ وَلَدٌ لِآدَمَ إِلَّا وُلِدَ لَكَ عَشْرَةٌ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي، قَالَ: تَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسرا: ٦٤]، قَالَ: فَعِنْدَهَا شَكَا آدَمُ إِبْلِيسَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ خَلَقْتَ إِبْلِيسَ وَجَعَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَبَغْضَاءَ وَسَلَّطْتَهُ عَلَيَّ وَعَلَى ذُرِّيَّتِي وَأَنَا لَا أُطِيقُهُ إِلَّا بِكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ إِلَّا وَكَّلْتُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ:
الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي. قَالَ: لَا أَحْجُبُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِكَ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».
(يب)
أَبُو
(يج)
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، فَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطَّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إِلَّا غَفَرَ لَهُ». ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٣٥].
(يد)
أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ خَرَجَ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَكُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجُلُ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَيْسَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ، قَالَ: وَشَهِدْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(يه)
عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مَاءً دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَهَا أَنَا ذَا فَاقْضِ فيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: ١١٤]. فَقَالَ وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً، قَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(يو)
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: إِنَّ عَبْدِي عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ». أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
(يز)
أَبُو بَكْرٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً».
(يح)
أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ فَتَسْتَغْفِرُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(يط)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بَغَيْضَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ أُمُّهُنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ جَمِيعًا فِي كِسَائِي فَهُنَّ مَعِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ضَعْهُنَّ عَنْكَ فَوَضَعْتُهُنَّ فَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا لُزُومَهُنَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَعْجَبُونَ لِرَحْمَةٍ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: والذي نفس محمد بيده أو قال فو الذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَلَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ فَرَجَعَ بِهِنَّ».
(ك)
عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ
قَالَ وَكَانَ أَبُو إِدْرِيسَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ إِعْظَامًا لَهُ: وَأَمَّا الْآثَارُ فَسُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ التَّوْبَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعَانٍ سِتَّةٍ. أَوَّلُهُنَّ: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثُ: أَدَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ ضَيَّعْتَهَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْمَظَالِمِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. الْخَامِسُ: إِذَابَةُ كُلِّ لحم ودم نبت من الحرم. السَّادِسُ: إِذَاقَةُ الْبَدَنِ أَلَمَ الطَّاعَاتِ كَمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَارِسٍ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَلَمْ يَأْنَ لَكَ أَنْ تَتُوبَ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ إِنَّ الذَّنْبَ فِي الدِّيوَانِ مَكْتُوبٌ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَنْتَ بِهَا فِي الْقَبْرِ مَكْرُوبٌ، يَا صَاحِبَ الذُّنُوبِ أَنْتَ غَدًا بِالذُّنُوبِ مَطْلُوبٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنِ التَّوْبَةِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهِ فَالْوَاحِدُ مِنَّا أَوْلَى بِذَلِكَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى زَلَّتِهِ تَنْبِيهٌ لَنَا أَيْضًا لِأَنَّا أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ لَكَانَ بُكَاءُ دَاوُدَ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَبُكَاءُ دَاوُدَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَبُكَاءُ دَاوُدَ وَبُكَاءُ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ أَكْثَرَ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّمَا اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ تَوْبَةِ آدَمَ دُونَ تَوْبَةِ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَبَعًا لَهُ كَمَا طُوِيَ ذِكْرُ النِّسَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: ٢٣].
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ تَكْرِيرِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ غَيْرُ الثَّانِي فَالْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ قَالَ فِي الْهُبُوطِ الْأَوَّلِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ فَلَوْ كَانَ الِاسْتِقْرَارُ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْهُبُوطِ الثَّانِي لكان ذلك قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ [الْبَقَرَةِ: ٣٦] عَقِيبَ الْهُبُوطِ الثَّانِي أَوْلَى. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْهُبُوطِ الثَّانِي: اهْبِطُوا مِنْها وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهَا) عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْهُبُوطِ الثَّانِي مِنَ الْجَنَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّكْرِيرَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَقْوَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَتَيَا بِالزَّلَّةِ أُمِرَا بِالْهُبُوطِ فَتَابَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ فَبَعْدَ التَّوْبَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ فَأَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ مَرَّةً ثَانِيَةً لِيَعْلَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ مَا كَانَ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الزَّلَّةِ حَتَّى يَزُولَ بِزَوَالِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ بَاقٍ بَعْدِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ كَانَ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ الْمُتَقَدَّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَإِنْ قِيلَ/ مَا جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا:
الشَّرْطُ الثَّانِي مَعَ جَوَابِهِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي فَإِنْ قَدَرْتُ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ.
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُهْبِطَ بِالْهِنْدِ وَحَوَّاءَ بِجُدَّةَ وَإِبْلِيسَ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ وَالْحَيَّةَ بِأَصْفَهَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي «الْهُدَى» وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ دَلَالَةٍ وَبَيَانٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَكُلُّ كَلَامٍ يَنْزِلُ عَلَى نَبِيٍّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ أَهْبَطْتُّكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِمَا يُؤَدِّيكُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ الدَّوَامِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَا آدَمُ أَرْبَعُ خِصَالٍ فِيهَا كُلُّ الْأَمْرِ لَكَ وَلِوَلَدِكَ. وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، أَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، وَأَمَّا الَّتِي لَكَ فَإِذَا عَمِلْتَ نِلْتَ أُجْرَتَكَ، وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَعَلَيْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ، وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ فَأَنْ تَصْحَبَهُمْ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوكَ بِهِ.
وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهُدَى الْأَنْبِيَاءُ وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً غَيْرَ آدَمَ وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا التَّأْوِيلُ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمُخَاطَبِينَ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ وَتَخْصِيصَ الْهُدَى بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ بِحَقِّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَلْزَمُ وَالِاحْجَامِ عَمَّا يَحْرُمُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَالٍ لَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا حُزْنَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ اخْتِصَارِهَا تَجْمَعُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: ٣٨] [طه: ١٢٣] دَخَلَ فِيهِ الْإِنْعَامُ بِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَزِيَادَاتِ الْبَيَانِ وَجَمِيعِ مَا لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلا به من العقل ووجوه التمكن، وجميع قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة: ٣٨] تَأَمُّلَ الْأَدِلَّةِ بِحَقِّهَا وَالنَّظَرَ فِيهَا وَاسْتِنْتَاجَ الْمَعَارِفِ مِنْهَا وَالْعَمَلَ بِهَا وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّ التَّكَالِيفِ وَجَمَعَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٣٨] جَمِيعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ لِأَنَّ زَوَالَ الْخَوْفِ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَزَوَالَ الْحُزْنِ يَقْتَضِي الْوُصُولَ إِلَى كُلِّ اللَّذَّاتِ وَالْمُرَادَاتِ وَقَدَّمَ عَدَمَ الْخَوْفِ عَلَى عَدَمِ الْحُزْنِ لِأَنَّ زَوَالَ مَا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى طَلَبِ مَا يَنْبَغِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ الَّذِي أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ خَوْفٌ فِي الْقَبْرِ وَلَا عِنْدَ الْبَعْثِ وَلَا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْقِفِ وَلَا عِنْدَ تَطَايُرِ الْكُتُبِ وَلَا عِنْدَ نَصْبِ الْمَوَازِينِ وَلَا عِنْدَ الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٣] وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَصِلُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ تَصِلُ أَيْضًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
[الْحَجِّ: ٢] وَأَيْضًا فَإِذَا انْكَشَفَتْ تِلْكَ الْأَهْوَالُ وَصَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ صَارَ مَا تَقَدَّمَ كَأَنْ لم يمكن، بَلْ رُبَّمَا كَانَ زَائِدًا فِي الِالْتِذَاذِ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ/ النَّعِيمِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُمْ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ فِي صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. ثُمَّ سَلَاهُمْ عَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ مُطْلَقًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرَ مِنْ حُصُولِهِمَا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ»،
وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ أَنَّهُ أَتَى بِالْعِبَادَاتِ كَمَا يَنْبَغِي فَخَوْفُ التَّقْصِيرِ حَاصِلٌ وَأَيْضًا فَخَوْفُ سُوءِ الْعَاقِبَةِ حَاصِلٌ، قُلْنَا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْهُدَى قَدْ يَثْبُتُ وَلَا اهْتِدَاءَ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى تُسْتَحَقُّ الْجَنَّةَ، وَرَابِعُهَا: إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ المقلد لا يكون متبعاً للهدى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ مُتَّبِعَ الْهُدَى بِالْأَمْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحُزْنِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ أَعَدَّ لَهُ الْعَذَابَ الدَّائِمَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ أَوْ مِنَ الْجِنِّ فَهُمْ أَصْحَابُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْعَذَابَ هَلْ يَحْسُنُ أَمْ لَا وَبِتَقْدِيرِ حُسْنِهِ فَهَلْ يَحْسُنُ دَائِمًا أَمْ لَا؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ٧] وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ النِّعَمَ أُمُورٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَعَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْهَا مُوَافِقًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا تَلْمَذَةٍ لِأَحَدٍ وَعَلَى الْمَعَادِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى خَلْقِهَا إِعَادَةً وبالله التوفيق.
الْقَوْلُ فِي النِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَوَّلًا ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْبَشَرِ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَسْلَافِ الْيَهُودِ كَسْرًا لِعِنَادِهِمْ وَلَجَاجِهِمْ بِتَذْكِيرِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَاسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِمْ بِسَبَبِهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى ما يدل على نوبة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فقال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠] وَفَرَّعَ عَلَى تَذْكِيرِهَا الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤١] ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْأُمُورِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثَانِيًا بقوله مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ أَرْدَفَ هَذَا التَّذْكِيرَ بِالتَّرْغِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧] مَقْرُونًا بِالتَّرْهِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: ٤٨] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَعْدِيدِ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي حُسْنِ التَّرْتِيبِ لِمَنْ يُرِيدُ الدَّعْوَةَ وَتَحْصِيلَ الِاعْتِقَادِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَمِعِ. وَإِذْ قَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِي التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٠]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَيَقُولُونَ إِنَّ مَعْنَى إِسْرَائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَنَّ «إِسْرَا» فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْعَبْدُ وَ «إِيلُ» هُوَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَمِيكَائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ.
قَالَ الْقَفَّالُ: قِيلَ إِنْ «إِسْرَا» بِالْعِبْرَانِيَّةِ فِي مَعْنَى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ خِطَابٌ مَعَ جَمَاعَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيَّامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَدُّ النِّعْمَةِ أَنَّهَا الْمَنْفَعَةُ الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الْغَيْرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا زِدْنَا هَذَا لِأَنَّ النِّعْمَةَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّكْرُ وَإِذَا كَانَتْ قَبِيحَةً لَمْ يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه/ يجوز أن يستحق الشكر بِالْإِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا لِأَنَّ جِهَةَ اسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ غَيْرُ جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ، فَأَيُّ امْتِنَاعٍ فِي اجْتِمَاعِهِمَا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ بِإِنْعَامِهِ وَالذَّمَّ بِمَعْصِيَتِهِ فَلِمَ لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ ولنرجع إلى تفسي الْحَدِّ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُنَا: الْمَنْفَعَةُ فَلِأَنَّ الْمَضَرَّةَ الْمَحْضَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِعْمَةً، وَقَوْلُنَا: الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْعًا وَقَصَدَ الْفَاعِلُ نَفْعَ نَفْسِهِ لَا نَفْعَ الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى جَارِيَتِهِ لِيَرْبَحَ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَهُ إِلَى ضَرَرٍ وَاخْتِدَاعِهِ كَمَنْ أَطْعَمَ خَبِيصًا مَسْمُومًا لِيُهْلِكَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، نِعْمَةً فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَفْعُولَةً عَلَى قَصْدِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ كَانَتْ نِعْمَةً. إِذَا عَرَفْتَ حَدَّ النِّعْمَةِ فَلْنُفَرِّعْ عَلَيْهِ فُرُوعًا: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَيْنَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: ٥٣]، ثُمَّ إِنَّ النِّعْمَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نِعْمَةٌ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِهَا نَحْوَ أَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ، وَثَانِيهَا: نِعْمَةٌ وَصَلَتْ إِلَيْنَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ خَلَقَهَا وَخَلَقَ الْمُنْعِمَ وَمَكَّنَهُ مِنَ الْإِنْعَامِ وَخَلَقَ فِيهِ قُدْرَةَ الْإِنْعَامِ وَدَاعِيَتَهُ وَوَفَّقَهُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجْرَاهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَشْكُورًا، وَلَكِنَّ الْمَشْكُورَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لُقْمَانَ: ١٤] فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ».
وَثَالِثُهَا: نِعْمَةٌ وَصَلَتْ إِلَيْنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ طَاعَاتِنَا وَهِيَ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَّقَنَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَعَانَنَا عَلَيْهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا وَأَزَاحَ الْأَعْذَارَ وَإِلَّا لَمَا وَصَلْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبِيدِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَدُّهَا وَحَصْرُهَا عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النَّحْلِ: ١٨] وَإِنَّمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أُودِعَ فِينَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ الَّتِي نَنْتَفِعُ بِهَا وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي نَسْتَعْمِلُهَا فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ مِمَّا يُلْتَذُّ بِهِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَمَا وُجِدَ فِي الْعَالَمِ مِمَّا يَحْصُلُ الِانْزِجَارُ بِرُؤْيَتِهِ عَنِ الْمَعَاصِي مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَنَافِعُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ اللَّذَّةُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّذَّةِ وَجَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ نِعْمَةٌ وَكُلُّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَالَّذِي لَا يَكُونُ جَالِبًا لِلنَّفْعِ الْحَاضِرِ وَلَا دَافِعًا لِلضَّرَرِ الْحَاضِرِ فَهُوَ صَالِحٌ لِأَنْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَيَقَعُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهُمَا وَسِيلَتَانِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْأَبَدِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يُونُسَ: ٣٥]. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبِيدِهِ هُوَ أَنْ خَلَقَهُمْ أَحْيَاءً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٨، ٢٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّعَمِ الْحَيَاةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلَ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَيَاةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهَا سَائِرَ النِّعَمِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَيَاةِ الدُّنْيَا حَيَاةُ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابُ. وَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ قِسْمَانِ مُنْتَفِعٌ وَمُنْتَفَعٌ بِهِ، هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا خَلَقَ الْمَنَافِعَ خَلَقَ الْمَضَارَّ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّى نَفْسَهُ «النَّافِعَ الضَّارَّ» وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَةِ الدِّينِ، وَسَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَمَّا فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ وَالَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقُدْرَةِ إِذْ لَوْ قَدَرَ عَلَى لُطْفٍ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْمُكَلَّفِ لَبَقِيَ عُذْرُ الْمُكَلَّفِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ خَاصَّةً لِأَنَّ عِنْدَهُمْ يَجِبُ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجِبُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إن الله تعالى خلق الكافر للنار والعذاب الْآخِرَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ النِّعَمُ الْقَلِيلَةُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا كَانَتْ مُؤَدِّيَةً إِلَى الضَّرَرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِعْمَةً عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ السُّمَّ فِي الْحَلْوَى لَمْ يَعُدَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى نِعْمَةً لَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٨] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى الْكَافِرِ بِنِعْمَةِ الدِّينِ فَلَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ وَيَدُلُّ عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: ٢١، ٢٢] فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ طَاعَتُهُ لِمَكَانِ هَذِهِ النِّعَمِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ. ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: ٢٨] إِلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَشَرْحِ النِّعَمِ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ لَمَا صَحَّ ذلك. وثالثها: قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِ إِذِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ/ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إلى قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٥٣]. وَكُلُّ ذَلِكَ
قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُسَ: ٢٢- ٢٣]. الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفُرْقَانِ: ٤٧]. وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يُونُسَ: ٦٧]. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٨- ٢٩]. الرَّابِعَ عَشَرَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٢]. الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ النِّعْمَةِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَارَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْنِي الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَأَنْوَاعَ الرِّزْقِ وَالْمَنَافِعِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَنَافِعِ إِذَا حَصَلَ عَقِيبَهَا تِلْكَ الْمَضَارُّ الْأَبَدِيَّةُ هَلْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا اسْمُ النِّعْمَةِ أَمْ لَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مُجَرَّدِ عِبَارَةٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَلْتَذُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ فَأُمُورٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيبين تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلِأَجْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النَّحْلِ: ٢- ٤] فَبَيَّنَ أَنَّ حُدُوثَ الْعَبْدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ مَنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ انْقِلَابُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنْ أَخَسِّ أَحْوَالِهِ/ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً إِلَى أَشْرَفِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ خَصِيمًا مُبِينًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُوهَ إِنْعَامِهِ فَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: ٥- ١٠] بَيَّنَ بِذَلِكَ الرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَأَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ وَاحِدٌ وَالتُّرَابَ وَاحِدٌ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ، ثُمَّ قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [النَّحْلِ: ١٢] بَيَّنَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ وَأَصْحَابِ الْأَفْلَاكِ حَيْثُ اسْتُدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَبِكَوْنِهَا مُسَخَّرَةً عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى حُدُوثِهَا فَأَثْبَتَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي النِّعَمِ الْمَخْصُوصَةِ يبني إِسْرَائِيلَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَهُمْ بِالْمُنْعِمِ فَقَالَ:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ (أ) اسْتَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَبْدَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَصِ: ٥، ٦]. (ب) جَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَبِيدًا لِلْقِبْطِ فَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَمَا قَالَ: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: ٥٩] (ج) أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي مَا أَنْزَلَهَا عَلَى أُمَّةٍ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٠]. (د) رَوَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ نَجَّاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فِي التِّيهِ وَأَعْطَاهُمُ الْحَجَرَ الذي/ كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا مِنَ الْمَاءِ مَتَى أَرَادُوا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ رَفَعُوهُ فَاحْتَبَسَ الْمَاءُ عَنْهُمْ وَأَعْطَاهُمْ عَمُودًا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ مَا يَشْهَدُ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عِظَمَ الْمَعْصِيَةِ فَذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ لِكَيْ يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ يُوجِبُ الْحَيَاءَ عَنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُنْعِمَ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ بِهَا وَمَنْ خَصَّ أَحَدًا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُمْ لِمَا قِيلَ: إِتْمَامُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنَ ابْتِدَائِهِ فَكَأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْآتِيَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ مَانِعٌ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ النِّعَمُ مَا
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ يُضَافُ إِلَى الْمُعَاهِدِ وَالْمُعَاهَدِ جَمِيعًا وذكروا في هذا العهد قولين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ دُونَ بَعْضٍ ثُمَّ فِيهِ رِوَايَاتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَعْرِيفَهُ إِيَّاهُمْ نِعَمَهُ عَهْدًا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ يَلْزَمُهُمُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا كَمَا يَلْزَمُهُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَقَوْلُهُ: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرَادَ بِهِ الثَّوَابَ وَالْمَغْفِرَةَ. فَجَعَلَ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ شَبِيهًا بِالْعَهْدِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ. ثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: ١٢] فَمَنْ وَفَّى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَفَّى اللَّهُ لَهُ بِعَهْدِهِ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَوْفُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ، أَيْ أَرْضَى عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَحْقِيقُهُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التَّوْبَةِ: ١١١].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ مَا أَثْبَتَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي/ إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: ١٢] وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
[الْأَعْرَافِ: ١٥٦- ١٥٧] وَأَمَّا عَهْدُ اللَّهِ مَعَهُمْ فَهُوَ أَنْ يُنْجِزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ وَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٨١] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: ٦]. وَقَالَ ابْنُ عباس: إن الله تعالى كان عَهِدَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا أُمِّيًّا فَمَنْ تَبِعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ- أَيْ بِالْقُرْآنِ- غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ، أَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَجَاءَتْ بِهِ سَائِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَتَصْدِيقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [الْقَصَصِ: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [الْقَصَصِ: ٥٤] وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى يَقُولُ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي قوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَدَّبَ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ سَيِّدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ»
بَقِيَ هاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ جَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِكُتُبِهِمْ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ فَجَازَ مِنْهُمْ كِتْمَانُهُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كَانَ نَصًّا خَفِيًّا لَا جَلِيًّا فَجَازَ وُقُوعُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الشَّخْصُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَمَكَانُ خُرُوجِهِ وَسَائِرُ التَّفَاصِيلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ نَصًّا جَلِيًّا وَارِدًا فِي كُتُبٍ مَنْقُولَةٍ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ فَكَانَ يَمْتَنِعُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ النَّصُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْمُبَشَّرَ بِهِ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْيَهُودِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اخْتَارُوهُ لِقُوَّةِ هَذَا السُّؤَالِ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصُرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ فَإِنَّهُ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ نَصًّا جَلِيًّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كَانَ مَنْصُوصًا/ عَلَيْهِ نَصًّا خَفِيًّا فَلَا جَرَمَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْأَوَّلُ: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا غَضِبَتْ عَلَيْهَا سَارَّةُ تَرَاءَى لَهَا مَلَكٌ [مِنْ قِبَلِ] اللَّهِ فَقَالَ لَهَا يَا هَاجَرُ أَيْنَ تُرِيدِينَ وَمِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ:
أَهْرُبُ مِنْ سَيِّدَتِي سَارَّةَ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى سَيِّدَتِكِ وَاخْفِضِي لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُكْثِرُ زَرْعَكِ وَذُرِّيَّتَكِ وَسَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ سَمِعَ تَبَتُّلَكِ وَخُشُوعَكِ وَهُوَ يَكُونُ عَيْنَ النَّاسِ وَتَكُونُ يَدُهُ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَيَدُ الْجَمِيعِ مَبْسُوطَةٌ إِلَيْهِ بِالْخُضُوعِ وَهُوَ يَشْكُرُ عَلَى رَغْمِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبِشَارَةِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمَلَكُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَبِأَمْرٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَدَهُ لَمْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْكُلِّ أَعْنِي فِي مُعْظَمِ الدُّنْيَا وَمُعْظَمِ الْأُمَمِ وَلَا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَحْصُورِينَ فِي الْبَادِيَةِ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي أَوَائِلِ الْعِرَاقِ وَأَوَائِلِ الشَّامِ إِلَّا عَلَى أَتَمِّ خَوْفٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ اسْتَوْلَوْا عَلَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ بِالْإِسْلَامِ وَمَازَجُوا الْأُمَمَ وَوَطِئُوا بِلَادَهُمْ وَمَازَجَتْهُمُ الْأُمَمُ وَحَجُّوا بَيْتَهُمْ وَدَخَلُوا بَادِيَتَهُمْ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ الْكَعْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةُ مِنْهُمْ لِلْأُمَمِ وَمِنَ الْأُمَمِ لَهُمْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجًا عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُبَشِّرَ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ.
وَالثَّانِي: جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ: «إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ بَيْنِكُمْ وَمِنْ إِخْوَانِكُمْ»، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: «إِنِّي مُقِيمٌ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِمْ وَأَيُّمَا رَجُلٍ لَمْ يَسْمَعْ كَلِمَاتِي الَّتِي يُؤَدِّيهَا عَنِّي ذَلِكَ الرَّجُلُ بِاسْمِي أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ». وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُقِيمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِبَنِي هَاشِمٍ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ إِخْوَانِكُمْ إِمَامٌ، عَقَلَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ
وَالثَّالِثُ: قَالَ فِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا السِّفْرِ: «إِنَّ/ الرَّبَّ تَعَالَى جَاءَ فِي طُورِ سَيْنَاءَ وَطَلَعَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ وَصَفَّ عَنْ يَمِينِهِ عُنْوَانَ الْقِدِّيسِينَ فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ وَحَبَّبَهُمْ إِلَى الشُّعُوبِ وَدَعَا لِجَمِيعِ قِدِّيسِيهِ بِالْبَرَكَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ جَبَلَ فَارَانَ هُوَ بِالْحِجَازِ لِأَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَنَ بِمَكَّةَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ سُكْنَى إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَاكَ عِزٌّ وَلَا اجْتَمَعَ هُنَاكَ رَبَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَتِ الْيَهُودُ: الْمُرَادُ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ نَارٌ أَيْضًا وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ أَيْضًا فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قُلْنَا هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابَعَ ذَلِكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ عُقُوبَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَعِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ ظُهُورَ النَّارِ وَحْيٌ وَلَا كَلَامٌ إِلَّا مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُقَالَ ظَهَرَ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُهُ كَمَا لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْغَمَامِ إِذَا ظَهَرَ فِي الْغَمَامِ احْتِرَاقٌ وَنِيرَانٌ كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ، وَأَيْضًا فَفِي كِتَابِ حَبْقُوقَ بَيَانُ مَا قُلْنَا وَهُوَ جَاءَ اللَّهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَالْقُدْسِ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَانْكَشَفَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ مِنْ حَمْدِهِ. يَكُونُ شُعَاعُ مَنْظَرِهِ مِثْلَ النُّورِ يَحْفَظُ بَلَدَهُ بِعِزِّهِ تَسِيرُ الْمَنَايَا أَمَامَهُ وَيَصْحَبُ سِبَاعُ الطَّيْرِ أَجْنَادَهُ قَامَ فَمَسَحَ الْأَرْضَ وَتَأَمَّلَ الْأُمَمَ وَبَحَثَ عَنْهَا فَتَضَعْضَعَتِ الْجِبَالُ الْقَدِيمَةُ وَاتَّضَعَتِ الرَّوَابِي وَالدَّهْرِيَّةُ، وَتَزَعْزَعَتْ سُتُورُ أَهْلِ مدين ركبت الْخُيُولَ، وَعَلَوْتَ مَرَاكِبَ الِانْقِيَادِ وَالْغَوْثِ وَسَتَنْزِعُ فِي قِسِيِّكَ إِغْرَاقًا وَنَزْعًا وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ يَا مُحَمَّدُ ارْتِوَاءً وَتَخُورُ الْأَرْضُ بِالْأَنْهَارِ، وَلَقَدْ رَأَتْكَ الْجِبَالُ فَارْتَاعَتْ وَانْحَرَفَ عَنْكَ شُؤْبُوبُ السَّيْلِ وَنَفَرَتِ الْمَهَارِي نَفِيرًا وَرُعْبًا وَرَفَعَتْ أَيْدِيَهَا وَجَلًا وَفَرَقًا وَتَوَقَّفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ عَنْ مَجْرَاهُمَا وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فِي بَرْقِ سِهَامِكَ وَلَمَعَانِ بَيَانِكَ تُدَوِّخُ الْأَرْضَ غَضَبًا وَتَدُوسُ الْأُمَمَ زَجْرًا لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ تُرَابِ آبَائِكَ». هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رَزِينٍ الطَّبَرِيِّ. أَمَّا النَّصَارَى فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ قَدْ رَأَيْتُ فِي نُقُولِهِمْ: «وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ لَقَدْ تَقَطَّعَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ الْمَحْمُودِ لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ»، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ: «ظَهَرَ الرَّبُّ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ» لَيْسَ مَعْنَاهُ ظُهُورُ النَّارِ مِنْهُ بَلْ مَعْنَاهُ ظُهُورُ شَخْصٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ مَجِيءُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: «وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ» قُلْنَا لَا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَرْكَبُ الْخُيُولَ وَبِأَنَّ شُعَاعَ مَنْظَرِهِ مِثْلُ النُّورِ وَبِأَنَّهُ جَازَ الْمَشَاعِرَ الْقَدِيمَةَ، أَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكِ) فَإِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْقَذَ الْمَسِيحَ مِنْ كَذِبِ الْيَهُودِ
«وَأُحْدِثُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا» مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُلَبِّي قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَتَقُولُ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، ثُمَّ صَارَ فِي الْإِسْلَامِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، فَهَذَا هُوَ الْحَمْدُ الَّذِي جَدَّدَهُ اللَّهُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ: بِذَلِكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَسَيَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ:
«قَدْ دَنَا وَقْتُكِ» مَعَ أَنَّهُ مَا دَنَا بَلِ الَّذِي دَنَا أَمْرٌ لَا يُوَافِقُ رِضَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُحَذِّرُ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ كِتَابَ أَشْعِيَاءَ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ الْبَادِيَةِ وَصِفَتِهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. وَالْخَامِسُ: رَوَى السَّمَّانُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «قَدْ أَجَبْتُ دُعَاكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ فَكَبَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ جِدًّا جِدًّا وَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وَأَجْعَلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ غَيْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِسْمَاعِيلَ فَكَانَ لِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَةِ: ١٢٩] وَلِهَذَا
كَانَ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى»
وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: ٦] فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْدِ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْحَمْدِ لَيْسَ إِلَّا لِنَبِيِّنَا فَإِنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَمَحْمُودٌ. قِيلَ إِنَّ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ وَمَسْكَنَهُ بِطِيبَةَ وَمُلْكَهُ بِالشَّامِ وَأُمَّتَهُ الْحَمَّادُونَ. وَالسَّادِسُ: قَالَ الْمَسِيحُ لِلْحَوَارِيِّينَ: «أَنَا أَذْهَبُ وَسَيَأْتِيكُمُ الْفَارْقَلِيطْ رَوُحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَقُولُ كَمَا يُقَالُ لَهُ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: ٥٠] وَقَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: ١٥] أَمَّا «الْفَارْقَلِيطْ» فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَهَذَا أَيْضًا صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ النَّصَارَى: الْفَارْقَلِيطْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ فَارُوقٌ كَمَا يُقَالُ رَاوُوقٌ لِلَّذِي يُرَوَّقُ بِهِ وَأَمَّا «لِيطْ» فَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ شَيْبٌ أَشْيَبُ ذُو شَيْبٍ وَهَذَا أَيْضًا صِفَةُ شَرْعِنَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَالسَّابِعُ: قَالَ دَانْيَالُ لِبُخْتَنَصَّرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ قَصَّهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَنْظَرًا هَائِلًا رَأْسُهُ مِنَ الذَّهَبِ الْأَبْرِيزِ وَسَاعِدُهُ مِنَ الْفِضَّةِ وَبَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ وَسَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ وَبَعْضُهَا/ مِنْ خَزَفٍ وَرَأَيْتَ حَجَرًا يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ وَصَكَّ رِجْلَ ذَلِكَ الصَّنَمَ وَدَقَّهَا دَقًّا شَدِيدًا فَتَفَتَّتَ الصَّنَمُ كُلُّهُ حَدِيدُهُ وَنُحَاسُهُ وَفِضَّتُهُ وَذَهَبُهُ وَصَارَتْ رُفَاتًا وَعَصَفَتْ بِهَا الرِّيَاحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا أَثَرٌ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَجَرُ الَّذِي صَكَّ ذَلِكَ الرِّجْلَ مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ جَبَلًا عَالِيًا امْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهَذَا رُؤْيَاكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَأَنْتَ الرَّأْسُ الَّذِي رَأَيْتَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَيَقُومُ بَعْدَكَ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى دُونَكَ وَالْمَمْلَكَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى الْمُطِيعِ وَصَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ بِالْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ مِنَ الْعَهْدِ بِالْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّعَمِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ السَّالِفَةَ تُوجِبُ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَاءُ الْعِبَادَاتِ أَدَاءً لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوَاجِبٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَدَاءَ التَّكَالِيفِ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بَلِ التَّفْسِيرُ الْحَقُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِالثَّوَابِ وَكُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يُوجَدَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ لَانْقَلَبَ خَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ آكَدَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْعَهْدُ هُوَ الْأَمْرُ وَالْعَبْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّهْبَةَ هِيَ الْخَوْفُ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْخَوْفُ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمُكَلَّفِ إِنَّهُ خَائِفٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ مَعَ الظَّنِّ، أَمَّا الْعِلْمُ فَإِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّ خَوْفَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَعَلَى هَذَا نَصِفُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ. قَالَ تَعَالَى:
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَأَمَّا الظَّنُّ فَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَوْفُهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ كَانَ أَمْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ وَبِالْعَكْسِ.
رُوِيَ: «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَمْنَيْنِ مَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ/ الْقِيَامَةِ»
وَقَالَ الْعَارِفُونَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ خَوْفُ الْعِقَابِ وَخَوْفُ الْجَلَالِ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَالْأَوَّلُ: يَزُولُ، وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُعَظِّمُ الْمَعْصِيَةَ، وَدَلَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْعَهْدُ يُعَظِّمُ الْمُخَالَفَةَ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْعَرَبِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخَافَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَكَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْخَوْفِ فَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ كَمَا يُخَافُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْهَبَ إِلَّا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخَافَ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَخَافَ
[سورة البقرة (٢) : آية ٤١]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: وَآمِنُوا هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: بِما أَنْزَلْتُ فَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَقْوَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَعَلَيْهِ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣]. وَالثَّانِي: وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَذَلِكَ هو القرآن. وقال قتادة: المراد آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فَفِيهِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى حَقٌّ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ حَقٌّ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ مُؤَكِّدًا لِلْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَآمِنُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُؤَكِّدُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ فِي التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً لِلتَّوْرَاةِ/ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخْبِرًا عَنْ كَوْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَقًّا لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِ: أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يَلْزَمُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ إِذَا اشْتَمَلَا عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا فَالْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ صَادِقًا لَا مَحَالَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ شَهَادَةَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا تَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ كُتُبِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْوَحْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ أَوَّلَ فَرِيقٍ أَوْ فَوْجٍ كَافِرٍ بِهِ أَوْ وَلَا يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ. ثُمَّ فِيهِ سؤالان: الْأَوَّلُ: كَيْفَ جُعِلُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ؟ والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرُونَ بِزَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْعَكْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. [الْبَقَرَةِ: ٨٩]. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ يَعْنِي مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ. وَثَالِثُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ كَانَتْ قُرَيْشٌ كَفَرُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، يَعْنِي بِكِتَابِكُمْ يَقُولُ ذَلِكَ لِعُلَمَائِهِمْ: أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ أَحَدٍ مِنْ أمتكم كذب كِتَابُكُمْ لِأَنَّ تَكْذِيبَكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوجب
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سن سيئة سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»
فَلَمَّا كَانَ كَفْرُهُمْ عَظِيمًا وَكُفْرُ مَنْ كَانَ سَابِقًا فِي الْكُفْرِ عَظِيمًا فَقَدِ اشْتَرَكَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَسَادِسُهَا: الْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ مَعَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ لَا مَعَ الْمَعْرِفَةِ. وَسَابِعُهَا: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبِهَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فَكَفَرُوا بِهِ ثُمَّ تَتَابَعَتْ سَائِرُ الْيَهُودِ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧، ١٢٢] أَيْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. وَثَامِنُهَا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ بِذِكْرِهِ بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ، وَتَاسِعُهَا: أَنَّ لَفْظَ: «أَوَّلَ» صِلَةٌ وَالْمَعْنَى وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، السُّؤَالُ/ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمِ الْكُفْرُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَوَّلًا، وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ تِلْكَ الشَّيْءِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي قَوْلِهِ:
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ أَوَّلًا وَآخِرًا مَحْظُورٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْدِ: ٢] لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ عَمَدٍ لَا يَرَوْنَهَا. وَقَوْلَهُ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النِّسَاءِ: ١٥٥] لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِحَقٍّ. وَقَوْلُهُ: عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ بالثمن الكثير، فكذا هاهنا، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَةِ اسْتِعْظَامُ وُقُوعِ الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ مِمَّنْ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ نَعْتَ رسول الله ﷺ صفته. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا الْكَلَامُ خِطَابٌ لِقَوْمٍ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَكُمُ الْكُفَّارُ فَلَا تَكُونُوا أَنْتُمْ أَوَّلَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِمَزِيدِ الْإِثْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَبَقُوا إِلَى الْكُفْرِ فَإِمَّا أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِنِ اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ كَانَ لَهُمْ وِزْرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَوِزْرُ كُلِّ مَنْ كَفَرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ غَيْرُهُمُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: السَّبْقُ إِلَى الْكُفْرِ، وَالثَّانِي: التَّفَرُّدُ بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَنْقَصَةٌ عَظِيمَةٌ، فَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَةِ: ١٦]، أَنَّ الِاشْتِرَاءَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الِاسْتِبْدَالِ فَكَذَا الثَّمَنُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْبَدَلِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْعِوَضِ عَنْهُ، فَإِذَا اخْتِيرَ عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ثَمَنًا عِنْدَ فَاعِلِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
إِنَّ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَمْثَالَهُمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْيَهُودِ الْهَدَايَا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوِ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا لَانْقَطَعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْهَدَايَا، فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُحَقَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ قَلِيلَةٌ جِدًّا فَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ نِسْبَةُ الْمُتَنَاهِي إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، ثُمَّ تِلْكَ الْهَدَايَا كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا، فَالْقَلِيلُ جِدًّا مِنَ الْقَلِيلِ جِدًّا أَيُّ نِسْبَةٍ لَهُ إِلَى الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى؟
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِمْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرُّشَا عَلَى كِتْمَانِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ كَانَ الْكَلَامُ أَبْيَنَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ فَيَقْرُبُ مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٢]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ أَمْرٌ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقَوْلَهُ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ أَمْرٌ بِتَرْكِ الْإِغْرَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِضْلَالَ الْغَيْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِطَرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ دَلَائِلَ الْحَقِّ فَإِضْلَالُهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَشْوِيشِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَا سَمِعَهَا فَإِضْلَالُهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ بِإِخْفَاءِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَنْهُ وَمَنْعِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا. فَقَوْلُهُ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَشْوِيشُ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَنْعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الدَّلَائِلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: بِالْباطِلِ أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَالْمَعْنَى وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غَافِرٍ: ٥]. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ تَعْلَمُونَ مَا فِي إِضْلَالِ الْخَلْقِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّلْبِيسَ صَارَ صَارِفًا لِلْخَلْقِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَدَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَوْقِعَهُ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ لِسَائِرِ الْخَلْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مِثْلِهِ فَصَارَ الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ عام في المعنى، ثم هاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ جَزْمٌ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ النَّهْيِ بِمَعْنَى وَلَا تَكْتُمُوا أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكِتْمَانِ وَإِنْ تَقَيَّدَ بِالْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِمَا حَالَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُ الشَّيْءِ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَالْكِتْمَانَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، وَمَا لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ الضَّارِّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا، فَلَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي التَّلْبِيسِ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ أَقْبَحَ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كتمانه والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ثَانِيًا، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانَ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِعِ مَا كَانَ كَالْمُقَدَّمِ/ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَالُوا إِنَّمَا جَاءَ الْخِطَابُ فِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الصَّلَاةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهَا أَمْرٌ حَدَثَ فِي الشَّرْعِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ قَدْ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاعْتَصِمِي | عَيْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعَا |
وَقَابَلَهَا الريح في دنها | وصلى على دنها وارتسم |
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّهُ | وَإِنِّي بَحْرَهَا الْيَوْمَ صَالِي |
وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: ١٤] أَيْ تَطَهَّرَ وَقَالَ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النُّورِ: ٢١] وَقَالَ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: ١٨] أَيْ تَطَهَّرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ إِخْرَاجَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا سُمِّيَ بِالزَّكَاةِ تَشْبِيهًا بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ ذَلِكَ الْقَدْرِ تَنْمِيَةً لِلْبَقِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْبَرَكَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ بِسَبَبِ تَزْكِيَةِ/ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ فَصَارَ ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ نَمَاءً فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا فِي الصُّورَةِ، وَلِهَذَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ فِيهَا سِتَّ خِصَالٍ، ثَلَاثَةً فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثَةً فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَتَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَتُكْثِرُ الْمَالَ وَتُعَمِّرُ الدِّيَارَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ فَتَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَصِيرُ ظِلًّا فَوْقَ الرأس وتكون ستراً من النَّارِ».
وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الزَّكَاةُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُطَهِّرُ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: ١٠٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ خِطَابٌ مَعَ الْيَهُودِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا... وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ [النِّسَاءِ: ١٦١] فَأَظْهَرَ اللَّهُ تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوباً لِيَحْذَرُوا أَنْ يَفْضَحَهُمْ فِي سَائِرِ أَسْرَارِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فَيَصِيرُ هَذَا كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ لِلتَّقْرِيرِ مَعَ التَّقْرِيعِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَأَمَّا الْبِرُّ فَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ طَاعَتُهُمَا، وَمِنْهُ عَمَلٌ مَبْرُورٌ، أَيْ قَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّدْقِ كَمَا يُقَالُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ أَيْ صَدَقَ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَيُقَالُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْبِرَّ جَامِعٌ لِلتَّقْوَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ/ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى مَا خَصَّهُمْ بِهِ من النعم ورغبهم في ذلك بناء عَلَى مَأْخَذٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَافُلَ عَنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَعَ حَثِّ النَّاسِ عَلَيْهَا مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِذَلِكَ إِمَّا النَّصِيحَةُ أَوِ الشَّفَقَةُ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ يُشْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ أَنْ يَنْصَحَ غَيْرَهُ وَيُهْمِلَ نَفْسَهُ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَرَّعَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبَرِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الطَّاعَةَ وَيُقْدِمُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَهُمَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ فِي الْخُفْيَةِ لِاسْتِعْلَامِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: هُوَ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُ وَأَمْرُهُ حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلاة الَّتِي كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّ رَسُولًا سَيَظْهَرُ مِنْكُمْ وَيَدْعُو إِلَى الحق وكانوا يرغبونهم باتباعه فلما بعث الله محمداً حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ تَرَكُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ دِينِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وخامسها: وهو قول الزجاج أنهم كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِبَذْلِ الصَّدَقَةِ، وَكَانُوا يَشِحُّونَ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِقَسَاوَةِ الْقُلُوبِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَالسُّحْتِ، وَسَادِسُهَا: لَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ وَجَاهِلٌ متنسك.
وبقي هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَقَالَ أَيْضًا: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: ٢- ٣]. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِمَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ الزِّنَا عَلَى كَشْفِهَا عَنْ وَجْهِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: مَنْعُ الْغَيْرِ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِخْلَالُ بِأَحَدِ التَّكْلِيفَيْنِ لَا يَقْتَضِي الْإِخْلَالَ بِالْآخَرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيَ عَنْ نِسْيَانِ النَّفْسِ مُطْلَقًا. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيَ عَنْ تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الْبَرِّ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِلنَّفْسِ وَعِنْدَنَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ قَوْلُ هَذَا الْخَصْمِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَيَلْزَمُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ إِنَّمَا يَصِحُّ وَيَحْسُنُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَخْلُوقًا فِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَسْوَدِ: لِمَ لَا تَبْيَضَّ؟ لَمَّا كَانَ السَّوَادُ مخلوقاً فيه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (أ)
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أسري بي على قوم تقرض شفاههم بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ فَقُلْتُ: يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ».
(ب)
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ فِي النَّارِ رَجُلًا يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَقِيلَ مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ».
(ج)
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ/ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ».
(د) وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: يَطَّلِعُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْمٍ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُونَ: لِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ وَنَحْنُ إِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِفَضْلِ تَعْلِيمِكُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا نَفْعَلُهُ. كَمَا قِيلَ: مَنْ وَعَظَ بِقَوْلِهِ ضَاعَ كَلَامُهُ، وَمَنْ وَعَظَ بِفِعْلِهِ نَفَذَتْ سِهَامُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
[يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ | هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ |
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنَا | كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ |
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا | فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ |
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى | بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ |
رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ مَاتَ وَكَانَ وَاعِظًا زَاهِدًا فَرُؤِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَوَّلُ مَا سَأَلَنِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَقَالَا: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْتُ: أَمَا تَسْتَحِيَانِ مِنْ شَيْخٍ دَعَا الناس إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا سَنَةً فَتَقُولَانِ له من ربك؟ وقيل للشبلي عن النَّزْعِ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ:
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ | غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السرج |
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فَقَالَ قَوْمٌ:
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ. قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُ الصَّلَاةَ أَصْلًا وَالصَّبْرَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ يُوجِبُ تَفْكِيكَ النَّظْمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُمَا؟
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُمْ مُنْكِرِينَ لَهُمَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ حَسَنٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ تَوَاضُعٌ لِلْخَالِقِ وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَلِّي عن محن الدنيا وآفاتها، إنما الاختلاف في
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ وَاسْتَعِينُوا عَلَى تَرْكِ مَا تُحِبُّونَ مِنَ الدُّنْيَا وَالدُّخُولِ فِيمَا تَسْتَثْقِلُهُ طِبَاعُكُمْ مِنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بالصبر أي يحبس النَّفْسِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كَلَّفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ذَلِكَ مُرِّنَتْ عَلَيْهِ وَخَفَّ عَلَيْهَا ثُمَّ إِذَا ضَمَمْتُمُ الصَّلَاةَ إِلَى ذَلِكَ تَمَّ الْأَمْرُ، لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذِكْرِ جَلَالِهِ وَقَهْرِهِ وَذِكْرِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ رَحْمَتَهُ صَارَ مَائِلًا إِلَى طَاعَتِهِ وَإِذَا تَذَكَّرَ عِقَابَهُ تَرَكَ مَعْصِيَتَهُ فَيَسْهُلُ عِنْدَ ذَلِكَ اشْتِغَالُهُ بِالطَّاعَةِ وَتَرْكُهُ للمعصية، وثانيها: المراد من الصبر هاهنا هُوَ الصَّوْمُ لِأَنَّ الصَّائِمَ صَابِرٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ زَالَتْ عَنْهُ كُدُورَاتُ حُبِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا قَدَّمَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّوْمِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ،
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ».
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَمْنَعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَتُخَشِّعُ الْقَلْبَ وَيَحْصُلُ بِسَبَبِهَا تِلَاوَةُ الْكِتَابِ وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ الْجَمِيلَةِ، وَذِكْرِ مَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ رَغْبَةً فِي الْآخِرَةِ وَنُفْرَةً عَنِ الدُّنْيَا فَيَهُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ تَرْكُ الرِّيَاسَةِ، وَمَقْطَعَةً عَنِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى قِبْلَةِ خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٥٣]. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها فَفِي هَذَا الضَّمِيرِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ أَيْ صَلَاةٌ ثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ. وَثَانِيهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَعِينُوا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٤٠، ٤٧، ١٢٢] إِلَى قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا وَالْعَرَبُ قَدْ تُضْمِرُ الشَّيْءَ اخْتِصَارًا أَوْ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الْإِيمَاءِ إِذَا وَثِقَتْ بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مَا عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ يَعْنِي الْأَرْضَ. وَيَقُولُونَ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ يَعْنُونَ الْمَدِينَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النَّحْلِ: ٦١]، وَلَا ذِكْرَ لِلْأَرْضِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَكَبِيرَةٌ أَيْ لَشَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ سَهْلَةٌ عَلَى الْخَاشِعِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُمْ أَكْثَرَ وَثَوَابُ الْخَاشِعِ أَقَلَّ، وَذَلِكَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ، قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ مِنَ التَّعَبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْحَقُ الْخَاشِعَ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَاشِعُ يَسْتَعْمِلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ جَوَارِحَهُ وَقَلْبَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَدَبُّرِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الذكر والتذلل والخشوع، وإذ تَذَكَّرَ الْوَعِيدَ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَسْرَةٍ وَغَمٍّ، وَإِذَا ذَكَرَ الْوَعْدَ فَكَمِثْلِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْخَاشِعِ فَالثِّقَلُ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا ثَقِيلَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَعْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْتَقِدُ فِي فِعْلِهَا ثَوَابًا وَلَا فِي تَرْكِهَا عِقَابًا، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُلْحِدَ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ فِي فِعْلِهَا مَنْفَعَةً ثَقُلَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ يَثْقُلُ/ عَلَى الطَّبْعِ، أَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمَّا اعْتَقَدَ فِي فِعْلِهَا أَعْظَمَ الْمَنَافِعِ وَفِي تَرْكِهَا أَعْظَمَ الْمَضَارِّ لَمْ يَثْقُلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِمَا يَعْتَقِدُ فِي فِعْلِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».
وَصَفَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٦]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
أما قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فللمفسرين فيه قولان: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الظَّنَّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُقَارِنُهُ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ غَيْرَ جَازِمٍ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَالْمَدْحُ عَلَى الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزٍ، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا الْعِلْمَ، وَسَبَبُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِقَادًا رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ النَّقِيضِ وَالظَّنَّ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حجر:
فأرسلته مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ | مُخَالِطُ مَا بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ خائف |
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظاهره وهو الظن الحقيقي، ثم هاهنا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تُجْعَلَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ مَجَازًا عَنِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الرَّبِّ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَوْتِ فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ إنه لقي ربه. إذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ فَهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ خَوْفَ الموت مما يقوي دواعي التوبة ولأنه مَعَ خُشُوعِهِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْمَنَ تَقْصِيرًا جَرَى مِنْهُ فَيُلْزِمَهُ التَّلَافِيَ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا كان ذلك داعياً إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، الثَّانِي: أَنْ تُفَسَّرَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ بِمُلَاقَاةِ ثَوَابِ الرَّبِّ وَذَلِكَ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ فَإِنَّ الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَا يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِثَوَابِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى كَمَالِ الخشوع. الثالث: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا رَبِّهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْخَاشِعَ قَدْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ وَبِأَعْمَالِهِ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. بَقِيَ هُنَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بقوله: مُلاقُوا رَبِّهِمْ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى/ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ اللِّقَاءِ لَا يُفِيدُ الرُّؤْيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْعُرْفُ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة: ٧٧] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ، وَقَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: ٦٨] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٣] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ مَاتَ: لَقِيَ اللَّهَ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَيْضًا فَاللِّقَاءُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ مِمَّنْ يَلْقَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ الْحِجَابُ بَيْنَهُمَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا حُجِبَ عَنِ الْأَمِيرِ: مَا لَقِيتُهُ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، وَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَقِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا، وَيُقَالُ: لَقِيَ فُلَانٌ جَهْدًا شَدِيدًا وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ الدَّاهِيَةَ. وَلَاقَى فُلَانٌ حِمَامَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: ١٢]. وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْجِسْمِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَصْحَابُ: اللِّقَاءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ وُصُولِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يُمَاسُّهُ بِمُسَطَّحَةٍ يُقَالُ: لَقِيَ هَذَا ذَاكَ إِذَا مَاسَّهُ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُدْرِكَيْنِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْإِدْرَاكِ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ الْمَجَازِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ لَفْظَ اللِّقَاءِ عَلَى الْإِدْرَاكِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ فِي الْبَوَاقِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ زَالَتِ السُّؤَالَاتُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التَّوْبَةِ: ٧٧] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ. قُلْنَا: فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْمُرَادُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ حِسَابَهُ وَحُكْمَهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَأَمَّا فِي قوله تعالى: أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَا فِي إِضْمَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَعْلِيقُ اللِّقَاءِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا بِحُكْمِ اللَّهِ، فَإِنِ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تعالى الرجوع إلى حيث لا يَكُونُ لَهُمْ مَالِكٌ سِوَاهُ وَأَنْ لَا يَمْلِكَ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا غَيْرَهُ، كَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ فَجَعَلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا رُجُوعًا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا فِي سَائِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَيَمْلِكُ أَنْ يَضُرَّهُمْ وَيَنْفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ مِنَ الْمُبْطِلِينَ. الْأَوَّلُ: الْمُجَسِّمَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِ الْجِسْمِ مُحَالٌ فَلَمَّا ثَبَتَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَجَبَ كَوْنُ اللَّهِ جِسْمًا. الثَّانِي: التَّنَاسُخِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ مَسْبُوقٌ/ بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْأَرْوَاحِ قَدِيمَةً وَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْجَوَابُ عَنْهَا قد حصل بناء على ما تقدم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٧]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ مَرَّةً أُخْرَى تَوْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرًا مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَرَنَهُ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً [الْبَقَرَةِ: ٤٨، ١٢٣] كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تُطِيعُونِي لِأَجْلِ سَوَالِفِ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَأَطِيعُونِي لِلْخَوْفِ مِنْ عِقَابِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ:
أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثِيرُ لَا الْكُلُّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ، فَكُلُّ مَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ عَالَمًا، فَكَانَ مِنَ الْعَالَمِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ، وَعَلَى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣] عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الملائكة. بقي هاهنا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ به المؤمنين مِنْهُمْ لِأَنَّ عُصَاتَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ عَلَى/ مَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [الْمَائِدَةِ: ٦٠] وَقَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَةِ: ٧٨].
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْبِيهٌ لِلْعَرَبِ لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ بِالنَّبِيِّ قَدْ لَحِقَتْهُمْ، وَجَمِيعُ أَقَاصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: ١٨]، وَقَالَ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزُّمَرِ: ٥٥]. وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: ١١١]. وَلِذَلِكَ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: قَدْ مَضَى وَاللَّهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَا يُغْنِي مَا تَسْمَعُونَ عَنْ غَيْرِكُمْ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: «النِّعْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ الْمِنَّةُ وَمَا يُنْعِمُ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ تَعَالَى:
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الشُّعَرَاءِ: ٢٢] وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ فَهُوَ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ فِي الْعَيْشِ، قَالَ تَعَالَى:
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [الدُّخَانِ: ٢٧].
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ لَا تَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ نِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَذَلِكَ التَّفْضِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ مِنَّةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى وَاجِبًا فَلَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الْبَعْضَ بِذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا خَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَخُصَّهُمْ أَيْضًا بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قِيلَ: إِتْمَامُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ مِنِ ابْتِدَائِهِ، فَلِمَ أَرْدَفَ ذَلِكَ التَّخْوِيفَ الشَّدِيدَ فِي قَوْلِهِ:
وَاتَّقُوا يَوْماً وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَعَ عِظَمِ النِّعْمَةِ تَكُونُ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ فَلِهَذَا حَذَّرَهُمْ عَنْهَا.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي بَيَانِ أَنَّ أَيَّ فِرَقِ الْعَالَمِ أَفْضَلُ يَعْنِي أَنَّ أَيَّهُمْ أَكْثَرُ اسْتِجْمَاعًا لِخِصَالِ الْخَيْرِ؟ اعْلَمْ أَنَّ
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
اعْلَمْ أَنَّ اتِّقَاءَ الْيَوْمِ اتِّقَاءٌ لِمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعِقَابِ وَالشَّدَائِدِ لِأَنَّ نَفْسَ الْيَوْمِ لَا يُتَّقَى وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرِدَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَمِيعًا. فَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَوْمَ/ بِأَشَدِّ الصِّفَاتِ وَأَعْظَمِهَا تَهْوِيلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا دُفِعَ أَحَدُهُمْ إِلَى كَرِيهَةٍ وَحَاوَلَتْ أَعْوَانُهُ دِفَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ بَذَلَتْ مَا فِي نُفُوسِهَا الْأَبِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْحَمِيَّةِ فَذَبَّتْ عَنْهُ كَمَا يَذُبُّ الْوَالِدُ عَنْ وَلَدِهِ بِغَايَةِ قُوَّتِهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ لا طاقة له بمانعته عَادَ بِوُجُوهِ الضَّرَاعَةِ وَصُنُوفِ الشَّفَاعَةِ فَحَاوَلَ بِالْمُلَايَنَةِ مَا قَصَّرَ عَنْهُ بِالْمُخَاشَنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ الْحَالَتَانِ مِنَ الْخُشُونَةِ وَاللِّيَانِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا فِدَاءُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ. إِمَّا مَالٌ أَوْ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَعَلَّلَ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ نَصْرِ الْأَخِلَّاءِ وَالْإِخْوَانِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ. بَقِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً هِيَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ غَيْرُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا النُّصْرَةُ فَهِيَ أَنْ يُحَاوِلَ تَخْلِيصَهُ عَنْ حُكْمِ الْمُعَاقَبِ وَسَنَذْكُرُ فَرْقًا آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ الشَّفَاعَةِ عَلَى أَخْذِ الْفِدْيَةِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ وَقَدَّمَ قَبُولَ الْفِدْيَةِ عَلَى ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى حُبِّ الْمَالِ أَشَدَّ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى عُلُوِّ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمَسُّكَ بِالشَّافِعِينَ عَلَى إِعْطَاءِ الْفِدْيَةِ وَمَنْ كَانَ بِالْعَكْسِ يُقَدِّمُ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَفَائِدَةُ تَغْيِيرِ التَّرْتِيبِ، الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ: وَلْنَذْكُرِ الْآنَ تَفْسِيرَ الْأَلْفَاظِ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فَقَالَ الْقَفَّالُ: الْأَصْلُ فِي جَزَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَضَى وَمِنْهُ الْحَدِيثُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ يَسَارٍ: «تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ»،
هَكَذَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: «تَجْزِيكَ» بِفَتْحِ التَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ أَيْ تَقْضِي عَنْ أُضْحِيَّتِكَ وَتَنُوبُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنُوبُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا تَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهَا، بَلْ يَفِرُّ الْمَرْءُ فِيهِ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَمَعْنَى هَذِهِ النِّيَابَةِ أَنَّ طَاعَةَ الْمُطِيعِ لَا تَقْضِي عَلَى الْعَاصِي مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَعُ هَذِهِ النِّيَابَةُ فِي الدُّنْيَا كَالرَّجُلِ يَقْضِي عَنْ قَرِيبِهِ وَصَدِيقِهِ دَيْنَهُ وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ، فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ.
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَلَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ».
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَ (شَيْئًا) مَفْعُولٌ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٍ أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مَرْيَمَ: ٦٠]. وَمَنْ قَرَأَ: «لَا يُجْزِي» مِنْ أَجْزَأَ عَنْهُ إِذَا أَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَكُونُ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا بِمَعْنَى شَيْئًا من
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: ١] وَنَظِيرُهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣٦] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩١] وَقَالَ:
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَامِ: ٧٠].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّنَاصُرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْمُخَالَطَةِ وَالْقَرَابَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَأَنَّهُ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَرْءُ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَقَرَابَتِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالنَّصْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَعُونَةُ
كَقَوْلِهِ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»،
وَمِنْهُ مَعْنَى الْإِغَاثَةِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ، وَالْغَيْثُ يَنْصُرُ الْبِلَادَ إِذَا أَنْبَتَهَا فَكَأَنَّهُ أَغَاثَ أَهْلَهَا وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ [الْحَجِّ: ١٥] أَيْ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا يَرْزُقُ الْغَيْثَ الْبِلَادَ، وَيُسَمَّى الِانْتِقَامُ نُصْرَةً وَانْتِصَارًا، قَالَ تَعَالَى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٧] قَالُوا مَعْنَاهُ: فَانْتَقَمْنَا لَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوُجُوهَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُغَاثُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَنْتَقِمُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ كَأَنَّ النَّصْرَ هُوَ دَفْعُ الشَّدَائِدِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ هُنَاكَ مِنْ عَذَابِهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي الْآيَةِ أَعْظَمَ تَحْذِيرٍ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَقْوَى تَرْغِيبٍ فِي تَلَافِي الْإِنْسَانِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ اسْتِدْرَاكٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَلَا نُصْرَةٌ وَلَا فِدْيَةٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ كُلَّ سَاعَةٍ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَنْ فَوَّتَ التَّوْبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَقِينَ لَهُ فِي الْبَقَاءِ صَارَ حَذِرًا خَائِفًا فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهِيَ فِي الْمَعْنَى مُخَاطَبَةٌ لِلْكُلِّ لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا وَصْفٌ لِلْيَوْمِ وَذَلِكَ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً فِي الْآخِرَةِ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ شَفَاعَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ تَكُونُ أَتَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ/ لِلثَّوَابِ، أَمْ تَكُونُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ؟ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ وَتَأْثِيرُ الشَّفَاعَةِ فِي أَنْ تَحْصُلَ زِيَادَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَحَقُّوهُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، إما بأن
قَالُوا إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَوْ أَثَّرَتِ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ لَكَانَ قَدْ أَجْزَتْ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ، وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ شَفِيعًا لِأَحَدٍ مِنَ الْعُصَاةِ لَكَانَ نَاصِرًا لَهُ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ. لَا يُقَالُ الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ آبَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَأُيِّسُوا مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَخُصُّهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، لِأَنَّا نُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ فِيهِ شَفَاعَةٌ، وَلَيْسَ يَحْصُلُ التَّحْذِيرُ إِذَا رَجَعَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ إِلَى تَحْصِيلِ زِيَادَةِ النَّفْعِ لِأَنَّ عَدَمَ حُصُولِ زِيَادَةِ النَّفْعِ لَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ وَلَا ضَرَرٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: اتَّقُوا يَوْمًا لَا أَزِيدُ فِيهِ مَنَافِعَ الْمُسْتَحِقِّ لِلثَّوَابِ بِشَفَاعَةِ أَحَدٍ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ زَجْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَوْ قَالَ: اتَّقُوا يَوْمًا لَا أُسْقِطُ فِيهِ عِقَابَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِقَابِ بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ كَانَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْمَعَاصِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ نَفْيُ تَأْثِيرِ الشَّفَاعَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ لَا نَفْيُ تَأْثِيرِهَا فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: ١٨] وَالظَّالِمُ هُوَ الْآتِي بِالظُّلْمِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَغَيْرَهُ، لَا يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لِلظَّالِمِينَ شَفِيعٌ يُطَاعُ وَلَمْ يَنْفِ شَفِيعًا يُجَابُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ شَفِيعٌ يُطَاعُ، لِأَنَّ الْمُطَاعَ يَكُونُ فَوْقَ الْمُطِيعِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ تَعَالَى أَحَدٌ يُطِيعُهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْتُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ تَعَالَى أَحَدٌ يُطِيعُهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. أَمَّا مَنْ أَثْبَتَهُ سُبْحَانَهُ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يُطِيعُ أَحَدًا، وَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَمَعَ الْقَوْلِ بِالنَّفْيِ اسْتَحَالَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ كَوْنَهُ مُطِيعًا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَعْنًى لَا يُفِيدُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى شَفِيعًا يُطَاعُ، وَالشَّفِيعُ لَا يَكُونُ إِلَّا دُونَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ فَوْقَهُ يَكُونُ آمِرًا لَهُ وَحَاكِمًا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يُسَمَّى شَفِيعًا فَأَفَادَ قَوْلُهُ: «شَفِيعٍ» كَوْنَهُ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يمكن حمل قوله:
يُطاعُ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ/ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ شَفِيعٌ يُجَابُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤] ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الشَّفَاعَاتِ بِأَسْرِهَا. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٠] وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ يَشْفَعُ لِلْفَاسِقِ مِنْ أُمَّتِهِ لَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّهُ إِذَا تَخَلَّصَ بِسَبَبِ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ عَنِ الْعَذَابِ فَقَدْ بَلَغَ الرَّسُولُ النِّهَايَةَ فِي نُصْرَتِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَرْتَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ تَشْفَعِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ فَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: ٣] فنفي الشَّفَاعَةِ عَمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي شَفَاعَتِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [سَبَأٍ: ٣٨] وَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ لَوْ عُرِفَ لَعُرِفَ إِمَّا بِالْعَقْلِ أَوْ بِالنَّقْلِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ، وَأَمَّا النَّقْلُ/ فَإِمَّا بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالْآحَادِ، وَالْآحَادُ لَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْآحَادِ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ وَالتَّمَسُّكُ فِي الْمَطَالِبِ الْعِلْمِيَّةِ بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا بِالتَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَنْكَرُوا هَذِهِ الشَّفَاعَةَ. فَحَيْثُ أَطْبَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْإِذْنُ. وَعَاشِرُهَا: قوله تعالى: [في سورة غافر الذين يحملون العرش... ] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: ٧] وَلَوْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ حَاصِلَةً لِلْفَاسِقِ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهَا بِالتَّوْبَةِ وَمُتَابَعَةِ السَّبِيلِ مَعْنًى.
الْحَادِيَ عَشَرَ: الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: مَا
رَوَى الْعَلَاءُ بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ.
قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ فَهَلْ لَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَفِيعًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا، لَأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُمْ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَهُوَ يَمْنَعُهُمْ شَرْبَةَ مَاءٍ. الثَّانِي:
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابَاطٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ إِنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عليَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عليَّ الْحَوْضَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ».
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ وَلَا النَّبِيُّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَشْفَعُ لَهُ، وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ: «لَمْ يَرِدْ عليَّ الْحَوْضَ»
دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لِأَنَّهُ إِذَا مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ فَبِأَنْ يَمْتَنِعَ الرَّسُولُ مِنْ خَلَاصِهِ مِنَ الْعِقَابِ أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ
قَوْلَهُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ»
صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ.
الثَّالِثُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُكَ».
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ نَصِيبٌ. الرَّابِعُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصِيمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصِيمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ/ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أُجْرَتَهُ».
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ خَصِيمًا لِهَؤُلَاءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُمْ، فَهَذَا مَجْمُوعُ وُجُوهِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، [الْمَائِدَةِ: ١١٨] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُطِيعِ أَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ أَوِ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوِ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يَلِيقُ بِالْكُفَّارِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُطِيعَ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّوْبَةِ تَعْذِيبُهُ عَقْلًا عِنْدَ الْخَصْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لَائِقًا بِهِمْ وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَإِذَا صَحَّ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحَّ الْقَوْلُ بِهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦] فَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا حَمْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ غُفْرَانَهُ لَهُمْ وَاجِبٌ عَقْلًا عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الْآيَةَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَمَ: ٨٥- ٨٧]، فَنَقُولُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ كَمَا يَجُوزُ وَيَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ يَجُوزُ وَيَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَوْلَى، لِأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجْرِي مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِمْ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا اتَّخَذُوا عِنْدَ/ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، فَكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَهُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: وَالْيَهُودِيُّ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ فَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَهُ لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّهِ لِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَكُلُّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ هَذَا الْوَصْفِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُرْتَضَى عِنْدَ اللَّهِ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِنَا:
مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، وَمَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ صَدَقَ الْمُفْرَدُ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُرْتَضًى عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى نَفْيُ الشَّفَاعَةِ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُرْتَضًى وَالِاسْتِثْنَاءُ عَنِ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضَى أَهْلًا لِشَفَاعَتِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ دَاخِلٌ فِي شَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَجَبَ دُخُولُهُ فِي شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُرْتَضًى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا قُلْنَا:
إِنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِحَسَبِ فِسْقِهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَضًى وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِشَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُرْتَضَى، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ غَيْرَ مُرْتَضًى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي النَّفْيِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللَّهُ مِنْهُ شَفَاعَتَهُ فَحِينَئِذٍ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ارْتَضَى شَفَاعَةَ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَنَّ الْمُهْمَلَتَيْنِ لَا يَتَنَاقَضَانِ، فَقَوْلُنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ، زَيْدٌ لَيْسَ
فَجَوَابُهُ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللَّهُ شَفَاعَتَهُ، لِأَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تُفِيدُ الْآيَةُ التَّرْغِيبَ وَالتَّحْرِيضَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لَا تُفِيدُ الْآيَةُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةٍ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٨] خَصَّهُمْ بِذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُسْلِمِ بِخِلَافِهِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُمْ. وَإِلَّا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لِيَرُدَّ دُعَاءَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْضَ التَّحْقِيرِ وَالْإِيذَاءِ وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالِاسْتِغْفَارِ لِكُلِّ الْعُصَاةِ فَقَدِ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ غَفَرَ لَهُمْ وَلَا مَعْنَى لِلشَّفَاعَةِ إِلَّا هَذَا، وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النِّسَاءِ: ٨٦] فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكُلَّ بِأَنَّهُمْ إِذَا حَيَّاهُمْ أَحَدٌ بِتَحِيَّةٍ أَنْ يُقَابِلُوا تِلْكَ التَّحِيَّةَ بأحسن منها أو بأن يَرُدُّوهَا، ثُمَّ أَمَرَنَا بِتَحِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: ٥٦] الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَحِيَّةٌ، فَلَمَّا طَلَبْنَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها، أَنْ يَفْعَلَ مُحَمَّدٌ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مَرْدُودِ الدُّعَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ شَفَاعَتَهُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النِّسَاءِ: ٦٤] وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّوْبَةِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَتَى اسْتَغْفَرَ لِلْعُصَاةِ وَالظَّالِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَقْبُولَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ الشَّفَاعَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْثِيرُهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ أَوْ فِي إِسْقَاطِ الْمَضَارِّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكُنَّا شَافِعِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا طَلَبْنَا مِنَ الله تعالى أن يزيد في فضله عند ما نَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْنَا كَوْنُنَا شَافِعِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ/ الشَّفِيعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الْمَشْفُوعِ لَهُ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَطْلُبُ الْخَيْرَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنْ لَمَّا كُنَّا أَدْنَى رُتْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ نُوصَفَ بِكَوْنِنَا شَافِعِينَ لَهُ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: سُؤَالُ الْمَنَافِعِ لِلْغَيْرِ إِنَّمَا يَكُونُ شَفَاعَةً إِذَا كَانَ فِعْلُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لِأَجْلِ سُؤَالِهِ وَلَوْلَاهُ لَمْ تُفْعَلْ أَوْ كَانَ لِسُؤَالِهِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِهَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تُفْعَلُ سَوَاءٌ سَأَلَهَا أَوْ لَمْ يَسْأَلْهَا، وَكَانَ غَرَضُ
فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: إِنَّا وَإِنْ كُنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكْرِمُ رَسُولَهُ وَيُعَظِّمُهُ سَوَاءٌ سَأَلَتِ الْأُمَّةُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ تَسْأَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي إِكْرَامِهِ بِسَبَبِ سُؤَالِ الْأُمَّةِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ لَوْلَا سُؤَالُ الْأُمَّةِ لَمَا حَصَلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى تَجْوِيزُ كَوْنِنَا شَافِعِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ دُخُولُهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَسْتَغْفِرُ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: ٧]، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعَامِّ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ بَعْضُ أَقْسَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعَامِّ بِذَلِكَ الْخَاصِّ. الْحَادِيَ عَشَرَ: الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى حُصُولِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»،
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ عَلَى مُضَادَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ وَجَبَ رَدُّهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَفَاعَتَهُ لَيْسَتْ إِلَّا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ شَفَاعَتَهُ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ فَتَخْصِيصُهُ بِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَطْ يَقْتَضِي حِرْمَانَ أَهْلِ الثَّوَابِ عَنْهُ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وَثَالِثُهَا:
أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِالظَّنِّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ. ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الخبر لكن فِيهِ احْتِمَالَاتٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ بِمَعْنَى/ الْإِنْكَارِ يَعْنِي أَشَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: هذا رَبِّي أَيْ أَهَذَا رَبِّي، وَثَانِيهَا: أَنَّ لَفْظَ الْكَبِيرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ لَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِالْمَعْصِيَةِ بَلْ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْصِيَةَ يَتَنَاوَلُ الطَّاعَةَ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الصلاة: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: ٤٥]، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَقَوْلُهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ
: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَهْلَ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَلْ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَهْلُ الطَّاعَاتِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ لَفْظَ الْكَبِيرَةِ يَتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَلَكِنَّ
قَوْلَهُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ
صِيغَةُ جَمْعٍ مَقْرُونَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ فوجب أن يدل الخبر على ثوبت الشَّفَاعَةِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ قُلْنَا: لَفْظُ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ «أَهْلٍ» مُفْرَدٌ فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكْفِي فِي صِدْقِ الْخَبَرِ شَخْصٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الشَّخْصِ الْآتِي بِكُلِّ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ لَكِنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَنَحْنُ نَحْمِلُ الْخَبَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَيَكُونُ تَأْثِيرُ الشَّفَاعَةِ فِي أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَشَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
ذَكَرَهُ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي إِلَّا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ بِمَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ وَإِنَّ سَائِرَ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى سُقُوطِ كُلِّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. الثَّانِي:
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَالُ كُلَّ مَنْ مَاتَ مَنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ تَنَالَهُ الشَّفَاعَةُ. وَالثَّالِثُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ:
أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ ما قد بلغكم ألا تذهبون إلا مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ:
أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ. نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى/ نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟
فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى وَيَقُولُونَ: يَا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى عيسى بن مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ. فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ وَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شاء أن يدعني ثم يقول لي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا
وَأَكْثَرُ هَذَا الْخَبَرِ مُخَرَّجٌ بِلَفْظِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِنَّمَا رَوَاهَا بِلَفْظِ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا حُجَّةً، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا رُوِيَتْ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ الزِّيَادَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ/ بُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهَا، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْمَطَاعِنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا بِالْآحَادِ إِلَّا أَنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرِكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ خُرُوجُ أَهْلِ الْعِقَابِ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيًّا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَيَكُونُ حُجَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ عَلَى جَمِيعِ أَدِلَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ نَفْيَ جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّفَاعَاتِ، وَأَدِلَّتُنَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ إِثْبَاتَ شَفَاعَةٍ خَاصَّةٍ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ إِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَكَانَتْ دَلَائِلُنَا مُقَدَّمَةً عَلَى دَلَائِلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّا نَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بِجَوَابٍ عَلَى حِدَةٍ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فَهَبْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ مِثْلِ هَذَا الْعَامِّ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَخْصُوصِ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَتِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَخْصِيصِهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: ١٨] فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: لِلظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ، لَكِنَّ قَوْلَنَا لِلظَّالِمِينَ:
حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَنَقِيضُ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ، وَالسَّالِبَةُ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا تَحَقُّقُ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَعَلَى هَذَا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يُجَابُ وَهُمُ الْكُفَّارُ، فَأَمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلْبِ الْحَمِيمِ وَالشَّفِيعِ فَلَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤] فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٠] فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا:
لِلظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ وَهَذِهِ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ فَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَسَلْبُ الْعُمُومِ لَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٨] فَهَذَا وَارِدٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَدُلُّ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ عَلَى ضِدِّ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ السَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عِنْدَنَا تَأْثِيرَ الشَّفَاعَةِ فِي جَلْبِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ وَأَعْنِي بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَلْبِ الْمَنَافِعِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ عَاصِيًا فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: ١٤] فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ الْوَعِيدِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّفَاعَةِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا [غَافِرٍ: ٧] فَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ خُصُوصَ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ أَوَّلِهَا.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَلَا يُشَفَّعُ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِأَحَدٍ أَلْبَتَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَا أَنَّهُ يُمْتَنَعُ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ.
وَالَّذِي نُحَقِّقُهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الشَّافِعِينَ لَا يُشَفَّعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَعَلَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُشَفَّعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَفِي وَقْتٍ آخَرَ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُ هُنَاكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ فِي تَأْوِيلِ الشَّفَاعَةِ: إِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ عَامُّ الْفَيْضِ تَامُّ الْجُودِ، فَحَيْثُ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّمَا لَا يَحْصُلُ لِعَدَمِ كَوْنِ الْقَابِلِ مُسْتَعِدًّا، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْفَيْضِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ ذَلِكَ الْفَيْضِ مِنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْأَوَّلِ، وَمِثَالُهُ فِي الْمَحْسُوسِ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُضِيءُ إِلَّا لِلْقَابِلِ الْمُقَابِلِ، وَسَقْفُ الْبَيْتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقَابِلًا لِجِرْمِ الشَّمْسِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِقَبُولِ النُّورِ عَنِ الشَّمْسِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وُضِعَ طَسْتٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْمَاءِ الصَّافِي وَوَقَعَ عَلَيْهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ انْعَكَسَ ذَلِكَ الضَّوْءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى السَّقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ الصَّافِي مُتَوَسِّطًا فِي وُصُولِ النُّورِ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ إِلَى السَّقْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُقَابِلٍ لِلشَّمْسِ، وَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ كَالْوَسَائِطِ بَيْنِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَبَيْنَ أَرْوَاحِ عَوَامِّ الْخَلْقِ فِي وُصُولِ فَيْضِ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَى أَرْوَاحِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الشَّفَاعَةِ تَفْرِيعًا على أصولهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِجْمَالًا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْسَامَ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّذْكِيرِ وَأَعْظَمَ فِي الْحُجَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ/ وَاذْكُرُوا إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ وَهِيَ إِنْعَامَاتٌ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْإِنْعَامُ الْأَوَّلُ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ فقرىء أَيْضًا أَنْجَيْنَاكُمْ وَنَجَّيْتُكُمْ، قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْإِنْجَاءِ وَالتَّنْجِيَةِ التَّخْلِيصُ، وَأَنَّ بَيَانَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ حتى لا
مُصْعَبُ بْنُ رَيَّانَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَقَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ أَحَدٌ أَشَدَّ غِلْظَةً وَلَا أَقْسَى قَلْبًا مِنْهُ، وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ قَابُوسَ وَكَانَ مِنَ الْقِبْطِ، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ كَانَ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَبَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ: هُوَ غَيْرُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ اسْمُهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ، أَمَّا آلُ فِرْعَوْنَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ منه هاهنا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَهُمُ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى إِهْلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ تَعَالَى مُنْجِيًا لَهُمْ مِنْهُمْ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُوجِبُ بَقَاءَهُمْ وَهَلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ فَهُوَ مَنْ سَامَهُ خَسْفًا إِذَا أَوْلَاهُ ظُلْمًا، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا | أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا |
يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَمَعْنَاهُ يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث. وهاهنا أَبْحَاثٌ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَبْحَ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ مَضَرَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ ذَبْحَ الْأَبْنَاءِ يَقْتَضِي فَنَاءَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسْلِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِذَا انْفَرَدْنَ فَلَا تَأْثِيرَ لهن ألبتة في ذلك، وذلك يفضي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى هَلَاكِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ هَلَاكَ الرِّجَالِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَصَالِحِ النِّسَاءِ فِي أَمْرِ الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَتَمَنَّى
الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يُذَبِّحُونَ بِلَا وَاوٍ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَكَرَهُ مَعَ الْوَاوِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ مُفَسَّرًا بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ سِوَى الذَّبْحِ وَجُعِلَ الذَّبْحُ شَيْئًا آخَرَ سِوَى سُوءِ الْعَذَابِ، احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْوَاوِ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ ذِكْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيمَ: ٥] وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ نَوْعًا آخَرَ لِيَكُونَ التَّخَلُّصُ مِنْهُمَا نَوْعَيْنِ مِنَ النِّعْمَةِ. فَلِهَذَا وَجَبَ ذِكْرُ الْعَطْفِ هُنَاكَ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ إِلَّا بِتَذْكِيرِ جِنْسِ النِّعْمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠، ٤٧، ١٢٢] فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ هُوَ الذَّبْحَ أَوْ غَيْرَهُ كَانَ تَذْكِيرُ جِنْسِ النِّعْمَةِ حَاصِلًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الرِّجَالَ دُونَ الْأَطْفَالِ لِيَكُونَ/ فِي مُقَابَلَةِ النِّسَاءِ إِذِ النِّسَاءُ هُنَّ الْبَالِغَاتُ، وَكَذَا الْمُرَادُ مِنَ الْأَبْنَاءِ هُمُ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ، قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمُ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ وَالتَّجَمُّعَ لِإِفْسَادِ أَمْرِهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأَطْفَالُ دُونَ الْبَالِغِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: حَمْلًا لِلَفْظِ الْأَبْنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ قَتْلُ جَمِيعِ الرِّجَالِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِمْ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ فِي الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّابُوتِ حَالَ صِغَرِهِ مَعْنًى، أَمَّا قَوْلُهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الرِّجَالِ لِيَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَمَّا قُتِلُوا حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَمْ يَصِيرُوا رِجَالًا، فَلَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ اسْمِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا الْبَنَاتُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْنَ بَلْ وَصَلْنَ إِلَى حَدِّ النِّسَاءِ جَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، أَيْ يُفَتِّشُونَ حَيَاءَ الْمَرْأَةِ أَيْ فَرْجَهَا هَلْ بِهَا حَمْلٌ أَمْ لَا، وَأُبْطِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا فِي بُطُونِهِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُيُونِ ظَاهِرًا لَمْ يُعْلَمْ بِالتَّفْتِيشِ وَلَمْ يُوصَلْ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ بِالْيَدِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي سَبَبِ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عباس رضي الله عنهما أنه وقع
وَثَانِيهَا: قَوْلُ السُّدِّيِّ: إِنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا فِرْعَوْنُ الْكَهَنَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْ يَكُونُ هَلَاكُ الْقِبْطِ عَلَى يَدِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرُوا فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ وَعَيَّنُوا لَهُ السَّنَةَ فَلِهَذَا كَانَ يَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَعِلْمِ النُّجُومِ لَا يَكُونُ أَمْرًا مُفَصَّلًا وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا بَلْ يَكُونُ أَمْرًا مُجْمَلًا وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُقْدِمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ فَكَانَ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِالرُّسُلِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ. قُلْنَا: لَعَلَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ وَبِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كُفْرَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ شَاكًّا مُتَحَيِّرًا فِي دِينِهِ وَكَانَ يُجَوِّزُ صِدْقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ احْتِيَاطًا.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْمُلُوكِ وَالظَّلَمَةِ صَارَ تَخْلِيصُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا هَلَاكَ مَنْ حَاوَلَ إِهْلَاكَهُمْ وَشَاهَدُوا ذُلَّ مَنْ بَالَغَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَتَعْظِيمُ النِّعْمَةِ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَيَقْتَضِي نِهَايَةَ قُبْحِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ مُبَالَغَةً فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الذُّلِّ وَكَانَ خَصْمُهُمْ فِي نِهَايَةِ/ الْعِزِّ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُحِقِّينَ وَكَانَ خَصْمُهُمْ مُبْطِلًا لَا جَرَمَ زَالَ ذُلُّ الْمُحِقِّينَ وَبَطَلَ عِزُّ الْمُبْطِلِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَغْتَرُّوا بِفَقْرِ مُحَمَّدٍ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ مُحِقٌّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَلِبَ الْعِزُّ إِلَى جَانِبِهِ وَالذُّلُّ إِلَى جَانِبِ أَعْدَائِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَرَّ بِعِزِّ الدُّنْيَا بَلْ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ عِزِّ الْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَالِامْتِحَانُ قَالَ تَعَالَى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٥] وَقَالَ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَافِ: ١٦٨].
وَالْبَلْوَى وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَيُقَالُ لِلنِّعْمَةِ بَلَاءٌ وَلِلْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ بَلَاءٌ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَيْرِ إِبْلَاءٌ وَفِي الشَّرِّ بَلَاءٌ وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ | وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو |
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
فَرَقْنا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى فَصَّلْنَا. يُقَالُ: فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى: (بكم) ؟ قلنا: فيه وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْلُكُونَهُ وَيَتَفَرَّقُ الْمَاءُ عِنْدَ سُلُوكِهِمْ فَكَأَنَّمَا فَرَّقَ بِهِمْ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: فَرَّقْنَاهُ بِسَبَبِكُمْ وَبِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إِغْرَاقَ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ وَبَلَغَ بِهِمُ الْحَالُ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَعِيرُوا حلي القبط،
وذلك الغرضين. أَحَدُهُمَا: لِيَخْرُجُوا خَلْفَهُمْ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَبْقَى أَمْوَالُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَشِيِّ وَقَالَ لِمُوسَى:
أَخْرِجْ قَوْمَكَ لَيْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [طه: ٧٧] وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا كُلُّ سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: لَا تَتَّبِعُوهُمْ حَتَّى يَصِيحَ الديك. قال الراوي: فو الله مَا صَاحَ لَيْلَتَهُ دِيكٌ فَلَمَّا أَصْبَحُوا دَعَا فِرْعَوْنُ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ: لَا أَفْرَغُ مِنْ تَنَاوُلِ كَبِدِ هَذِهِ الشَّاةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَلْفُ أَلْفٍ/ وَمِائَتَا أَلْفِ نَفْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ فَتَبِعُوهُمْ نَهَارًا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٦٠] أي بعد طلوع الشمس. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٦١] فَقَالَ مُوسَى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٦٢] فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ مُوسَى وَأَتَى الْبَحْرَ قَالَ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ: أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ مُوسَى: إِلَى أَمَامِكَ وَأَشَارَ إِلَى الْبَحْرِ فَأَقْحَمَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ يَمْشِي فِي الْمَاءِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَسَبَحَ الْفَرَسُ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ الْبَحْرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشُّعَرَاءِ: ٦٧]، فَانْشَقَّ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ جَبَلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ، فَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ فَكَانَ فِيهِ وَحْلٌ فَهَبَّتِ الصَّبَا فَجَفَّ الْبَحْرُ، وَكُلُّ طَرِيقٍ فِيهِ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا يَابِسًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طَهَ: ٧٧]، فَأَخَذَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا وَدَخَلُوا فِيهِ فَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّ بَعْضَنَا لَا يَرَى صَاحِبَهُ، فَضَرَبَ مُوسَى عَصَاهُ عَلَى الْبَحْرِ فَصَارَ بَيْنَ الطُّرُقِ مَنَافِذُ وَكُوًى فَرَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، فَلَمَّا بَلَغَ شَاطِئَ الْبَحْرِ رَأَى إِبْلِيسَ وَاقِفًا فَنَهَاهُ عَنِ الدُّخُولِ فَهَمَّ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَحْرَ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَجْرَةٍ فَتَقَدَّمَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ كَانَ عَلَى فَحْلٍ فَتَبِعَهُ فَرَسُ فِرْعَوْنَ وَدَخْلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا دَخَلَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ صَاحَ مِيكَائِيلُ بِهِمْ أَلْحِقُوا آخِرَكُمْ بِأَوَّلِكُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَحْرَ بِالْكُلِّيَّةِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اعلم أن هذه الْوَاقِعَةَ تَضَمَّنَتْ نِعَمًا كَثِيرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا نِعَمُ الدُّنْيَا فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْمَضِيقِ الَّذِي مِنْ وَرَائِهِمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَقُدَّامِهِمُ الْبَحْرُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَدْرَكَهُمُ الْعَدُوُّ وَأَهْلَكَهُمْ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ وَإِنْ سَارُوا غَرِقُوا فَلَا خَوْفَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَجَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ فَلَا فَرَجَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ،
أَنْ أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَنِعَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَقَدْ خَلَّصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَّصَ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ وَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَكَانَ الْخَوْفُ بَاقِيًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعُوا وَاحْتَالُوا بِحِيلَةٍ وَقَصَدُوا إِيذَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَهُمْ فَقَدْ حَسَمَ مَادَّةَ الْخَوْفِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ الْإِغْرَاقُ بِمَحْضَرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَأَمَّا نِعَمُ الدِّينِ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى لَمَّا شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ الْبَاهِرَةَ زَالَتْ عَنْ قُلُوبِهِمُ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ، فَإِنَّ دَلَالَةَ مِثْلِ هَذَا الْمُعْجِزِ/ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُقَرِّبُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْهُمْ تَحَمُّلَ النَّظَرِ الدَّقِيقِ وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّاقِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ذَلِكَ صَارَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى تَصْدِيقِ مُوسَى وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَصَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ إِلَى تَرْكِ تَكْذِيبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِقْدَامِ عَلَى تَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا عِزَّ فِي الدُّنْيَا أَكْمَلُ مِمَّا كَانَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا شِدَّةَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَتْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ الْعَزِيزَ ذَلِيلًا وَالذَّلِيلَ عَزِيزًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْقَلْبِ عَنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الْحَاصِلَةُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَثِيرَةٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَالْحُجَّةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ حَالِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُخَالِطْ أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارِهِمُ الْمُفَصَّلَةِ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنَ الْكُتُبِ عَلِمُوا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْوَحْيِ وَأَنَّهُ صَادِقٌ، فَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْيَهُودِ وَحَجَّةً لَنَا فِي تَصْدِيقِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا إِذَا تَصَوَّرْنَا مَا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ اللَّهَ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَنَا فِي الطَّاعَةِ وَمُنَفِّرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَمَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُمْ خُصُّوا بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ، فَقَدْ خَالَفُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمُورٍ حَتَّى قَالُوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨]، وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعَ أن معجزتهم هِيَ الْقُرْآنُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ انْقَادُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا خَالَفُوهُ فِي أَمْرٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَبَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فَلْقَ الْبَحْرِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ وَفِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى كَالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ الْجَوَابَ الْكُلِّيَّ بِأَنَّ فِي الْمُكَلَّفِينَ مَنْ يَبْعُدُ عَنِ الْفِطْنَةِ وَالذَّكَاءِ وَيَخْتَصُّ بِالْبَلَادَةِ وَعَامَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا كَذَلِكَ، فَاحْتَاجُوا فِي التَّنْبِيهِ إِلَى مُعَايَنَةِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَفَلْقِ الْبَحْرِ وَرَفْعِ الطُّورِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَرُّوا بِقَوْمٍ يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ
، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَحَالُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ فِي الْعُقُولِ، فَلَا جَرَمَ، اقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ والمعجزات اللطيفة.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ تَرَوْنَ الْتِطَامَ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمْ فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُمْ إِيَّاهُمْ فَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ أَلْفَ أَلْفِ وَمِائَتَيْ أَلْفِ نَفْسٍ وَفِرْعَوْنُ مَعَهُمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ طَافِينَ وَإِنَّ الْبَحْرَ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِشُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يُونُسَ: ٩٢] أَيْ نُخْرِجُكَ مِنْ مَضِيقِ الْبَحْرِ إِلَى سَعَةِ الْفَضَاءِ لِيَرَاكَ النَّاسُ، وَتَكُونَ عِبْرَةً لَهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَأَنْتُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ حيث توجهونهم وَتُقَابِلُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ: لَقَدْ ضَرَبْتُكَ وَأَهْلُكَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَمَا أَغَاثُوكَ تَقُولُ ذَلِكَ إِذَا قَرُبَ أَهْلُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهُ ومعناه راجع إلى العلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الثَّالِثُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي الْأَعْرَافِ وَطَهَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا بِغَيْرِ أَلِفٍ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُوَاعَدَةُ مُفَاعَلَةٌ وَلَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ فَلَهُ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا:
أَنَّ الْوَعْدَ وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَبُولُهُ كَانَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبُولُ الْوَعْدِ يُشْبِهُ الْوَعْدَ، لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلْوَعْدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْآدَمِيُّ يَعِدُ اللَّهَ وَيَكُونَ مَعْنَاهُ يُعَاهِدُ اللَّهَ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ وَاعَدْنَا. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ الْوَحْيَ وَهُوَ وَعَدَ اللَّهَ الْمَجِيءَ لِلْمِيقَاتِ إِلَى الطُّورِ، أَمَّا مُوسَى فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: وَزْنُهُ فُعْلَى وَالْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ أُخِذَتْ مِنْ مَاسَ يَمِيسُ إِذَا تَبَخْتَرَ فِي مِشْيَتِهِ وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: وَزْنُهُ مُفْعِلٌ فَالْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَهُوَ مِنْ أَوْسَيْتُ الشَّجَرَةَ إِذَا أَخَذْتُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْوَرَقِ وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَلَعِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَمُو هُوَ الْمَاءُ بِلِسَانِهِمْ، وَسَى هُوَ الشَّجَرُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُ جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ حِينَ خَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ فَدَفَعَتْهُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ حَتَّى أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَتْ جِوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَ التَّابُوتَ فَأَخَذْنَهُ/ فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالشَّجَرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَاسِدَانِ جَدًّا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْقِبْطَ مَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ اسْمُ عَلَمٍ وَاسْمُ الْعَلَمِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى فِي الذَّاتِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَّا نَسَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بن يعقوب بن اسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِأَنَّ الشُّهُورَ تَبْدَأُ مِنَ اللَّيَالِي.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَعْنَاهُ وَاعَدْنَا مُوسَى انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَقَوْلِهِمْ: الْيَوْمُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُنْذُ خَرَجَ فُلَانٌ، أَيْ تَمَامُ الْأَرْبَعِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا فِي قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ انْقِضَاءَ أَيِّ أَرْبَعِينَ كَانَ، بَلْ أَرْبَعِينَ مُعَيَّنًا وَهُوَ الثَّلَاثُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ هَذِهِ الْأَرْبَعُونَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَعَدَ قَبْلَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ وَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَتَنْزِلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْرَاةُ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الْمُتَأَيِّدُ بِالْأَخْبَارِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ هَاهُنَا: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الثَّلَاثِينَ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ أَجَابَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ وَعْدَهُ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ (ثُمَّ) لِأَنَّهُ تعالى لما وَعَدَ مُوسَى حُضُورَ الْمِيقَاتِ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ السَّبْعِينَ وَأَظْهَرَ فِي ذَلِكَ دَرَجَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَضِيلَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْحَاضِرِينَ عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ وَتَعْرِيفًا لِلْغَائِبِينَ وَتَكْمِلَةً لِلدِّينِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فَلَمَّا أَتَوْا عَقِيبَ ذَلِكَ بِأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ التَّعَجُّبِ فَهُوَ كَمَنْ يَقُولُ إِنَّنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّكَ تَقْصِدُنِي بِالسُّوءِ وَالْإِيذَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَوَعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٢]، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى إِلَى الطُّورِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّيَابُ وَالْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ هَذِهِ
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْأُمَمِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ مَعَ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا تِلْكَ الْبَرَاهِينَ الْقَاهِرَةَ اغْتَرُّوا بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ جِدًّا، وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْقُرْآنِ/ مُعْجِزًا إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِالشُّبَهَاتِ الْقَوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ وَأَكْمَلُ عَقْلًا وَأَزْكَى خَاطِرًا مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ استفادها من الوحي. وَثَالِثُهَا: فِيهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْجَهْلِ بِالدَّلَائِلِ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ لَوْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالدَّلِيلِ مَعْرِفَةً تَامَّةً لَمَا وَقَعُوا فِي شُبْهَةِ السَّامِرِيِّ. وَرَابِعُهَا: فِي تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُشَاهِدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْخِلَافِ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ النَّكِدَةِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ خَلَّصَهُمُ اللَّهُ مِنْ فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهر وموسى إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ اغْتَرُّوا بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَأَنْ يَصْبِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ مُجَادَلَةً مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَاوَةً لَهُ هُمُ الْيَهُودُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِأَسْلَافِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا فِي الْبَلَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَالْعِنَادِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الْأَخْلَافُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الظُّلْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ النَّقْصُ، قَالَ
الْبَحْثُ الثَّانِي: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إِلَّا مَنْ فَعَلَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا لَأَنَّ الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمُرَادِ. وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْعِصْيَانُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ الذَّمُّ بِسَبَبِهِ يَجْرِي مَجْرَى الذَّمِّ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا، وَالْجَوَابُ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِفِعْلِ الْمَدْحِ والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذَلِكَ مِرَارًا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا اسْتَفَادُوا بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَلَالَ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ بِطَاعَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَالِانْتِقَاصِ بِمَعْصِيَةِ الْأَشْقِيَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا جَازَ عَدُّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِنْعَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ اسْمٌ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ فَأَمَّا إِسْقَاطُ مَا يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى عَفْوًا أَلَا تَرَى أَنَّ الظَّالِمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمَظْلُومِ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ التَّرْكُ عَفْوًا فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ عِقَابَ مَنْ يَجُوزُ عِقَابُهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَذَلِكَ أَيْضًا خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ مُوسَى فَلَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ فُسَّاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس كَانَ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ «لَعَلَّ» قَدْ تقدم في قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣] [الأعراف: ١٧١] [الْبَقَرَةِ: ٢١، ٣٣] وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الشُّكْرِ وَمَاهِيَّتِهِ فَطَوِيلٌ وَسَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَفَا عَنْهُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ لِكَيْ يَشْكُرُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا الشُّكْرَ، وَالْجَوَابُ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمُ الشُّكْرَ لَأَرَادَ ذَلِكَ إِمَّا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ لِلشَّاكِرِ دَاعِيَةُ الشُّكْرِ أَوَّلًا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِهَذَا الشرط كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ افْتِقَارُ الدَّاعِيَةِ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَحَيْثُ خَلَقَ اللَّهُ الدَّاعِيَ حَصَلَ الشُّكْرُ لَا مَحَالَةَ وَحَيْثُ لَمْ يَخْلُقِ الدَّاعِيَ اسْتَحَالَ حُصُولُ الشُّكْرِ، وَذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ حُصُولَ الشُّكْرِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَقَدْ أَرَادَ مِنْهُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عليهم أيضاً والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الرَّابِعُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا دَاخِلًا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ التَّوْرَاةِ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا وَتَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّوْرَاةَ لَهَا صِفَتَانِ كَوْنُهَا كِتَابًا مُنَزَّلًا وَكَوْنُهَا فُرْقَانًا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْغَيْثَ وَاللَّيْثَ تُرِيدُ الرَّجُلَ الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُودِ وَالْجَرَاءَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٨] وَأَمَّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ لِأَنَّهُ إِذَا أَبَانَ ظَهَرَ الْحَقُّ مُتَمَيِّزًا مِنَ/ الْبَاطِلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ بَعْضُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ مَا أوتي موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَدِ وَالْعَصَا وَسَائِرِ الْآيَاتِ وَسُمِّيَتْ بِالْفُرْقَانِ لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفُرْقَانِ النَّصْرَ وَالْفَرَجَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَالِ: ٤١] وَالْمُرَادُ النَّصْرُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ يَتَوَقَّعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْلِيَ وَصَاحَبُهُ هُوَ الْمَقْهُورَ، فَإِذَا ظَهَرَ النَّصْرُ تَمَيَّزَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ وَانْفَرَقَ الطَّمَعُ الصَّادِقُ مِنَ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ قُطْرُبٌ الْفُرْقَانُ هُوَ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا قَدْ صَارَ مَذْكُورًا فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: ٥٠] وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكِتَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا عَقِيبَ الْهُدَى. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ مِنَ الدَّلَائِلِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّا لَمَّا آتَيْنَا مُوسَى فُرْقَانَ الْبَحْرِ اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ هُوَ الْهِدَايَةُ وَأَيْضًا فَالْهُدَى قَدْ يُرَادُ بِهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ كَمَا يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ آتَاهُمُ الْكِتَابَ نِعْمَةً فِي الدِّينِ وَالْفُرْقَانَ الَّذِي حَصَلَ بِهِ خَلَاصُهُمْ مِنَ الْخَصْمِ نِعْمَةً عَاجِلَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكُلُّ دَلِيلٍ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ هَذَا اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَآتَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُرْقَانَ لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ. وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عُلَمَاءِ النَّحْوِ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَقُطْرُبٌ وَهَذَا تَعَسُّفٌ شَدِيدٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ الْبَتَّةَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَعَلَّ وَتَفْسِيرُ الِاهْتِدَاءِ، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ:
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاهْتِدَاءَ مِنَ الْكُلِّ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى: يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ، فِيمَنْ يَهْتَدِي وَالضَّلَالَ فِيمَنْ يَضِلُّ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يُنَزِّلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ وَيَقُولَ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ إِذَا كَانَ يَخْلُقُهُ، فَلَا تَأْثِيرَ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ فِيهِ لَوْ خُلِقَ الِاهْتِدَاءُ وَلَا كِتَابَ لَحَصَلَ الِاهْتِدَاءُ، وَلَوْ أَنْزَلَ بَدَلًا مِنَ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ أَلْفَ كِتَابٍ وَلَمْ يُخْلَقِ الِاهْتِدَاءُ فِيهِمْ لَمَا حَصَلَ الِاهْتِدَاءُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْزَلْتُ الْكِتَابَ لِكَيْ تَهْتَدُوا؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا لا تحصى مع الجواب والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِنْعَامَ الْخَامِسَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِالْقَتْلِ والقتل لَا يَكُونُ نِعْمَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَهُمْ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَتَخَلَّصُونَ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَبِأَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ الدِّينِيَّةَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَصْفُهَا إِلَّا بِمُقَدِّمَةِ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ كان ذكرها أيضاً في تَمَامِ النِّعْمَةِ. فَصَارَ كُلُّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْدُودًا فِي نِعَمِ اللَّهِ فَجَازَ التَّذْكِيرُ بِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَتْلِ رَفَعَ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَنْهُمْ قَبْلَ فَنَائِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً فِي حَقِّ أُولَئِكَ الْبَاقِينَ. وَفِي حَقِّ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْلَا أَنَّهُ رَفَعَ الْقَتْلَ عَنْ آبَائِهِمْ لَمَا وُجِدَ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءُ فَحَسُنَ إِيرَادُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ تَوْبَةَ أُولَئِكَ مَا تَمَّتْ إِلَّا بِالْقَتْلِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: لَا حَاجَةَ بِكُمُ الْآنَ فِي التَّوْبَةِ إِلَى الْقَتْلِ بَلْ إِنْ رَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكُمْ وَآمَنْتُمْ قَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَكُمْ مِنْكُمْ فَكَانَ بَيَانُ التَّشْدِيدِ فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ بِقَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ التَّوْبَةِ السَّهْلَةِ الْهَيِّنَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي التَّوْبَةِ، فَإِنَّ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَغِبُوا فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ مَعَ نِهَايَةِ مَشَقَّتِهَا عَلَى النَّفْسِ فَلَأَنْ يَرْغَبَ الْوَاحِدُ مِنَّا فِي التَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ النَّدَمِ كَانَ أَوْلَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْغِيبَ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُهِمَّةُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ قَالَ موسى لقومه بعد ما رَجَعَ مِنَ الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ رَبُّهُ فَرَآهُمْ قد اتخذوا العجل: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الظُّلْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّكُمْ نَقَصْتُمْ أَنْفُسَكُمُ الثَّوَابَ الْوَاجِبَ بِالْإِقَامَةِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْإِصْرَارُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَلَا فِيهِ نَفْعٌ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ لَا عِلْمًا وَلَا/ طِبًّا، فَلَمَّا عَبَدُوا الْعِجْلَ كَانُوا قَدْ أَضَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرِ الْأَبَدِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] لَكِنَّ هَذَا الظُّلْمَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَيَّدَ لِئَلَّا يُوهِمَ إِطْلَاقُهُ أَنَّهُ ظُلْمُ الْغَيْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الظُّلْمِ مَا يَتَعَدَّى، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَفِيهِ حَذْفٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّهُمْ لَوِ اتَّخَذُوهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إِلَهًا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمْ ظُلْمًا، فَالْمُرَادُ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، لَكِنْ لَمَّا دَلَّتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ حَسُنَ الْحَذْفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّوْبَةِ مُفَسَّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ كَمَا أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ»،
يَقْتَضِي أَنَّ وَضْعَ الطهور مواضعه مفسر بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى الْفِعْلِ
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ وَالتَّوْبَةُ لَا تكون إلا للبارئ، وَالْجَوَابُ:
الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الرِّيَاءِ فِي التَّوْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: لَوْ أَظْهَرْتُمُ التَّوْبَةَ لَا عَنِ الْقَلْبِ فَأَنْتُمْ مَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِكُمْ، وَإِنَّمَا تُبْتُمْ إِلَى النَّاسِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا أَذْنَبْتُمْ إِلَى اللَّهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ اخْتُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِ الْبَارِئِ؟ وَالْجَوَابُ: الْبَارِئُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: ٣] وَمُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالصُّوَرِ الْمُتَبَايِنَةِ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الْبَقَرِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْغَبَاوَةِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتُوبُوا وَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاءَ الْأُولَى لِلسَّبَبِ لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبُ التَّوْبَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتُوبُوا أَيْ فَأَتْبِعُوا التَّوْبَةَ الْقَتْلَ تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكُمْ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ/ وَاحِدٍ نَفْسَهُ أَوِ الْمُرَادُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التَّائِبِينَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ لَصَارُوا عُصَاةً بِتَرْكِ ذَلِكَ، الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَمُوتَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إِنَّمَا سُمِّيَ قَتْلًا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. إِذَا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الْقَتْلِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحَ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ وَلَا تَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِمَاتَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ وَيُعَوِّضُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفَ بِالْعِوَضِ الْعَظِيمِ وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِبَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ الْمُزْهِقِ لِلرُّوحِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الزُّهُوقِ إِمَّا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْتُلُ إِنْسَانًا فَجَرَحَهُ جِرَاحَةً عَظِيمَةً وَبَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ حَيًّا لَحْظَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَتُسَمِّيهِ كُلُّ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ قَاتِلًا وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقَتْلِ اسْمُ الْفِعْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الزُّهُوقِ سَوَاءٌ أَدَّى إِلَيْهِ فِي الْحَالِ
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْمُصْلَحَةِ إِلَيْهِ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ عِلْمَهُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، مِثْلُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ غَدًا فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لَهُ إِلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى وُرُودِ الْغَدِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُمْكِنَةً سَقَطَ مَا قَالَ الْقَاضِي، بَلِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَقْوَى، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ صَرْفُ الآية عن ظاهرها، ثم فيه وجهان، الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ مَعْنَاهُ لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٩] وَمَعْنَاهُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ المؤمنين كالنفس الواحدة، وَقِيلَ/ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١١] أَيْ إِخْوَانَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّورِ: ١٢] أَيْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَقَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: ٦١] أَيْ لِيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُولَئِكَ التَّائِبُونَ بَرَزُوا صَفَّيْنِ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى اللَّيْلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ غَيْرَ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ من قوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَيِ اسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَقْرَبُ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَزْدَادُ الْمَشَقَّةُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكَتْ فِي الذَّنْبِ كَانَ بَعْضُهُمْ أَشَدَّ عَطْفًا عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كُلِّفُوا بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ، فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ لِحُضُورِ الْمِيقَاتِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْمَقْتُولُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا فَمَا تَحَرَّكُوا حَتَّى قُتِلُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أيام، وهذا لقول ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. الثَّانِي: أَنَّهُ
لَمَّا أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَتْلِ أَجَابُوا فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ لِيَصْبِرُوا عَلَى الْقَتْلِ فَأَصْبَحُوا مُجْتَمِعِينَ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَتَاهُمْ هَارُونُ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ الْبَتَّةَ وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ، فَقَالَ التَّائِبُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكُمْ قَدْ أَتَوْكُمْ شَاهِرِينَ السُّيُوفَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا فَلَعَنَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَيْهِمْ أَوِ اتَّقَاهُمْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ يَقُولُونَ آمِينَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ وَقَامَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَدْعُوَانِ اللَّهَ وَيَقُولَانِ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ يَا إِلَهَنَا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمَا، قَدْ غَفَرْتُ لِمَنْ قُتِلَ وَتُبْتُ عَلَى مَنْ بَقِيَ، قَالَ: وَكَانَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، هَذِهِ رِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَلَكِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ عَبَدَهُ، فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْإِنْكَارِ بِقَتْلِ مَنِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُبْصِرُ وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ وَجَارَهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلِ فَقَتَلُوا إِلَى الْمَسَاءِ حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَالَا: يَا رَبِّ هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ فَانْكَشَفَتِ السَّحَابَةُ وَنَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: هَلْ يَصِحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مَعَ الْبَعْضِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ عَامًّا فَالْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لِأَجْلِهِ يُمْكِنُ تَحَمُّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَضَرَرِ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ لِأَنَّهُ/ مُتَنَاهٍ، وَضَرَرُ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ فَلَيْسَ فِي تَحَمُّلِ الْقَتْلِ إلا التقدم وَالتَّأْخِيرُ، وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ فَذَاكَ هُوَ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَفِيهِ مَحْذُوفٌ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مُوسَى فَتَابَ عَلَيْكُمْ بَارِئُكُمْ.
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
[في هذه الآية بحثان] [البحث الأول في بيان الإنعام السادس لبني إسرائيل] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ السَّادِسُ، بَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي حِينَ قُلْتُمْ لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ثُمَّ أَحْيَيْتُكُمْ لِتَتُوبُوا عَنْ بَغْيِكُمْ وَتَتَخَلَّصُوا عَنِ الْعِقَابِ وَتَفُوزُوا بِالثَّوَابِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ فِيهَا تَحْذِيرًا لِمَنْ كَانَ فِي زَمَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فِعْلِ مَا يُسْتَحَقُّ بِسَبَبِهِ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ. وَثَالِثُهَا: تَشْبِيهُهُمْ فِي جُحُودِهِمْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بأسلافهم في جحود نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِعِظَمِ تِلْكَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَا يُظْهِرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها وَلَوْ جَحَدُوهَا لَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِثْلَ مَا اسْتَحَقَّهُ أَسْلَافُهُمْ، وَرَابِعُهَا: فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُلَاقِي مِنْهُمْ وَتَثْبِيتٌ لِقَلْبِهِ عَلَى الصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَخَامِسُهَا: فِيهِ إِزَالَةُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ:
إِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا خَبَرَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا يَرْتَدُّونَ كُلَّ وَقْتٍ وَيَتَحَكَّمُونَ عَلَيْهِ وَيُخَالِفُونَهُ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمُ الْأَخْبَارَ عَنْ نُبُوَّتِهِ. وَسَادِسُهَا: لَمَّا أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الْقِصَصِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ الْبَتَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنِ الْوَحْيِ.
الْبَحْثُ الثاني: للمفسرين في هذه الواقعة قولان، الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ كَلَّفَ اللَّهُ عَبَدَةَ الْعِجْلِ بِالْقَتْلِ،
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْقَتْلِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَابَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ مُوسَى فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوُا الطُّورَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي أَمَرْتُهُمْ بِالْقَتْلِ ثُمَّ اخْتَرْتُ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَكُونُ مَعِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا فَقَالَ مُوسَى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ فَقَامُوا وَنَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى الْآخَرِ كَيْفَ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّكَ لَا تَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَاهُ بِذَلِكَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَوْ غَيْرُهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَمَعْنَاهُ لَا نُصَدِّقُكَ وَلَا نَعْتَرِفُ بِنُبُوَّتِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [أَيْ] عِيَانًا.
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ كَأَنَّ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ جَاهِرٌ بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها وانتصار بها عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَنُصِبَتْ بِفِعْلِهَا كَمَا يُنْصَبُ الْقُرْفُصَاءُ بِفِعْلِ الْجُلُوسِ أَوْ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى ذَوِي جَهْرَةٍ وَقُرِئَ جَهْرَةً بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهِيَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْغَلَبَةِ وَإِمَّا جَمْعُ جَاهِرٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ أَصْلُ الْجَهْرَةِ مِنَ الظُّهُورِ يُقَالُ جَهَرْتُ الشَّيْءَ [إِذَا] كَشَفْتَهُ وَجَهَرْتُ الْبِئْرَ إِذَا كَانَ مَاؤُهَا مُغَطًّى بِالطِّينِ فَنَقَّيْتَهُ حَتَّى ظَهَرَ مَاؤُهُ وَيُقَالُ صَوْتٌ جَهِيرٌ وَرَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ، إِذَا كَانَ صَوْتُهُ عَالِيًا، وَيُقَالُ:
وَجْهٌ جَهِيرٌ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: جَهْرَةً تَأْكِيدًا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ أَوِ التَّخَيُّلُ عَلَى [نَحْوِ] مَا يَرَاهُ النَّائِمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُمْتَنِعَةٌ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النِّسَاءِ: ١٥٣]، فَسُمِّيَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعَاقَبَهُمْ فِي الْحَالِ، فَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةً لَجَرَى سُؤَالُهُمْ لَهَا مَجْرَى مَنْ يَسْأَلُ مُعْجِزَةً زَائِدَةً. فَإِنْ قُلْتَ أَلَيْسَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَجْرَى إِنْزَالَ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُتُوًّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي نَفْسِهِ فَكَذَا سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَنِعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الرُّؤْيَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢١] فَالرُّؤْيَةُ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ عِنْدَ مجزيها مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ لَمْ يَكُنِ الْتِمَاسُهَا عُتُوًّا لَأَنَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى نِعْمَةً فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ عَاتِيًا وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَا يُقَالُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى يُحْيِيَ اللَّهُ بِدُعَائِكَ هَذَا الْمَيِّتَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُشْتَرِكَةٌ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَمَا كَانَ سُؤَالُهَا عُتُوًّا وَمُنْكَرًا، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. [وَ] قَوْلُهُ: إِنَّ طَلَبَ سَائِرِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّقْلِ مِنْ طَعَامٍ إِلَى طَعَامٍ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ طَالِبُهُ عَاتِيًا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. قُلْنَا: وَلِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ طَالِبُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ لَيْسَ بِعَاتٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَالِبُ كُلِّ مُمْكِنٍ غَيْرَ عَاتٍ وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ضُرُوبِ الْأَمْثِلَةِ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَكَيْفَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَذَكَرَ مَعَهَا شَيْئًا مُمْكِنًا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إِمَّا نُزُولُ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ. وَأَثْبَتَ صِفَةَ الْعُتُوِّ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ فِي أَنَّ صِفَةَ الْعُتُوِّ مَا حَصَلَتْ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَطْلُوبِ مُمْتَنِعًا. أَمَّا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ مُمْتَنِعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْبَعْضِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. قُلْنَا: إِنَّكَ مَا أَقَمْتَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْظَامَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مُمْتَنِعًا وَإِنَّمَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَى ضُرُوبِ الْأَمْثِلَةِ، وَالْمِثَالُ لَا يَنْفَعُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَبَطَلَ قَوْلُكَ: الظَّاهِرُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ مُمْتَنِعًا. فَظَهَرَ بِمَا قُلْنَا سُقُوطُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا السَّبَبُ فِي اسْتِعْظَامِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ؟ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ طَلَبُهَا فِي الدُّنْيَا/ مُسْتَنْكَرًا.
وَثَانِيهَا: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَى اللَّهُ فَكَانَ طَلَبُ الرُّؤْيَةِ طلباً لِإِزَالَةِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ لَمَّا تَمَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَ طَلَبُ الدَّلَائِلِ الزَّائِدَةِ تَعَنُّتًا وَالْمُتَعَنِّتُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْنِيفَ، وَرَابِعُهَا:
لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي مَنْعِ الْخِلْقِ عَنْ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا ضَرْبًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا عَلِمَ أَنَّ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً فَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ طَلَبَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَارٌ وَقَعَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَثَانِيهَا: صَيْحَةٌ جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى جُنُودًا سمعوا بخسها فَخَرُّوا صَعِقِينَ مَيِّتِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِأَنَّ الْبَعْثَ قَدْ [لَا] يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْفِ: ١١، ١٢]. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ دَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟ قُلْتُ: لَا، لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابُ مشافهة فلا يحب أَنْ يَتَنَاوَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ مُوسَى لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في حق موسى: فَلَمَّا أَفاقَ مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِفَاقَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَلِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَلَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، أَمَّا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَفْظُ الشُّكْرِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سَبَأٍ: ١٣]، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ وَقَدْ أَمَاتَهُمْ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ أَهْلَ الْآخِرَةِ إِذَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ؟
قُلْنَا: الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ تَكْلِيفِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ هُوَ الْإِمَاتَةَ ثُمَّ الْإِحْيَاءَ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدِ اضْطَرَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللَّذَّاتِ/ وَمَا فِي النَّارِ مِنَ الْآلَامِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا تَكْلِيفَ فَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ هُوَ هَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ بِالصَّاعِقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِ اضْطَرَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُكَلَّفُوا مِنْ بَعْدُ وَيَكُونُ مَوْتُهُمْ ثُمَّ الْإِحْيَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ. وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى قَطَعَ آجَالَهُمْ بِهَذِهِ الْإِمَاتَةِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ كَمَا أَحْيَا الَّذِي أَمَاتَهُ حِينَ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَأَحْيَا الَّذِينَ أماتهم بعد ما خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَاتَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَجَلًا لِمَوْتِهِمُ الْأَوَّلِ ثُمَّ الْوَقْتُ الْآخَرُ أَجَلًا لِحَيَاتِهِمْ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ فَجَوَابُنَا عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا فلا حاجة إلى الإعادة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
قال المفسرون: وَظَلَّلْنا وجعلن الْغَمَامَ تُظِلُّكُمْ، وَذَلِكَ فِي التِّيهِ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُمُ السَّحَابَ يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ يُظِلُّهُمْ مِنَ الشَّمْسِ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَهُوَ التَّرَنْجَبِينُ مِثْلُ الثَّلْجِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ صَاعٌ وَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ السَّلْوَى وَهِيَ السُّمَانِيُّ فَيَذْبَحُ الرَّجُلُ مِنْهَا مَا يَكْفِيهِ كُلُوا عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ: وَما ظَلَمُونا يَعْنِي فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ أَوْ بِأَنْ أَخَذُوا أَزْيَدَ مِمَّا أَطْلَقَ لَهُمْ فِي أَخْذِهِ أَوْ بِأَنْ سَأَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَمَا ظَلَمُونَا فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِهِ لِدَلَالَةِ وَما ظَلَمُونا عَلَيْهِ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الثَّامِنُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ ظَلَّلَ لَهُمْ مِنَ الْغَمَامِ وَأَنْزَلَ [عَلَيْهِمْ] مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَهُوَ مِنَ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ أَتْبَعَهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ الدِّينِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِمَا يَمْحُو ذُنُوبَهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمُخْلِصِ مِمَّا اسْتَوْجَبُوهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة: ٥٨] فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمْرٌ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ تَكْلِيفًا وَدُخُولُ الْبَابِ سُجَّدًا مَشْرُوطٌ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ لَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٢١] دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْقَرْيَةُ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَخْبَارِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَفْسُ مِصْرَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي زَيْدٍ إِنَّهَا أَرِيحَاءُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَرْيَةُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ وَقَعَ مِنْهُمْ عَقِيبَ هَذَا الْأَمْرِ فِي حَيَاةِ مُوسَى، لَكِنَّ مُوسَى مَاتَ فِي أَرْضِ التِّيهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّا قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَوْ عَلَى
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فَفِيهِ بَحْثَانِ.
الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي الْبَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بَابٌ يُدْعَى بَابُ الْحِطَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَثَانِيهِمَا: حَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَنَى بِالْبَابِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ الْقَرْيَةِ وَمَدْخَلًا إِلَيْهَا.
الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ فَقَالَ الْحَسَنُ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ السُّجُودِ الَّذِي هُوَ إِلْصَاقُ/ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّخُولِ حَالَ السُّجُودِ فَلَوْ حَمَلْنَا السُّجُودَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَامْتَنَعَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ السُّجُودِ، وَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الرُّكُوعُ، لِأَنَّ الْبَابَ كَانَ صَغِيرًا ضَيِّقًا يَحْتَاجُ الدَّاخِلُ فِيهِ إِلَى الِانْحِنَاءِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَكَانُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى دُخُولِهِ رُكَّعًا فَمَا كَانَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَمْرِ. الثَّانِي: أَرَادَ بِهِ الْخُضُوعَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَةِ السُّجُودِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَاضُعِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّوْبَةِ فَالتَّائِبُ عَنِ الذَّنْبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَاضِعًا مُسْتَكِينًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبَابِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ صِفَةُ الْقَلْبِ، فَلَا يَطَّلِعُ الْغَيْرُ عَلَيْهَا، فَإِذَا اشْتَهَرَ وَاحِدٌ بِالذَّنْبِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَحْكِيَ تَوْبَتَهُ لِمَنْ شَاهَدَ مِنْهُ الذَّنْبَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، إِذِ الْأَخْرَسُ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْكَلَامُ بَلْ لِأَجْلِ تَعْرِيفِ الْغَيْرِ عُدُولَهُ عَنِ الذَّنْبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عُرِفُ بِمَذْهَبٍ خَطَأٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَرِّفَ إِخْوَانَهُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِالْخَطَأِ عُدُولَهُ عَنْهُ، لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْبَاطِلِ وَلِيَعُودُوا إِلَى مُوَالَاتِهِ بَعْدَ مُعَادَاتِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ الْخُضُوعِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْقَلْبِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى تِلْكَ التَّوْبَةِ وهو قوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: ٥٨]، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَوْمَ بِأَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ وَأَنْ يَذْكُرُوا بِلِسَانِهِمُ الْتِمَاسَ حَطِّ الذُّنُوبَ حَتَّى يَكُونُوا جَامِعِينَ بَيْنَ نَدَمِ الْقَلْبِ وَخُضُوعِ الْجَوَارِحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. ثَانِيهَا: قَوْلُ الْأَصَمِّ: إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ (حِطَّةٌ) فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ وَهِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَوْ أَمْرُكَ حِطَّةٌ وَالْأَصْلُ النَّصْبُ بِمَعْنَى حَطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً وَإِنَّمَا رُفِعَتْ لِتُعْطِيَ مَعْنَى الثَّبَاتِ كَقَوْلِهِ:
صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَالْأَصْلُ صَبْرًا عَلَى تَقْدِيرِ اصْبِرْ صَبْرًا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ مَعْنَاهُ أَمْرُنَا حِطَّةٌ أَيْ أَنْ نَحُطُّ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَنَسْتَقِرُّ فِيهَا، وَزَيَّفَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ غُفْرَانُ خَطَايَاهُمْ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: ٥٨]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ الْخَطَايَا كَانَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ حِطَّةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ لَمَّا حَطُّوا فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ حَتَّى يَدْخُلُوا سُجَّدًا مَعَ التَّوَاضُعِ كَانَ الْغُفْرَانُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُ الْقَفَّالِ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا فَإِنَّا إِنَّمَا انْحَطَطْنَا لِوَجْهِكِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ فَالْكَلَامُ فِي الْمَغْفِرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: نَغْفِرْ لَكُمْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَلَوْ كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبًا عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ.
الثَّانِي: هَاهُنَا قِرَاءَاتٌ. أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ الْمُنَادِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَثَانِيهَا: قَرَأَ نَافِعٌ بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ الْبَاقُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَبَلَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَرَابِعُهَا: قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ إِذَا غَفَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ غُفِرَتْ وَإِذَا غُفِرَتْ فَإِنَّمَا يَغْفِرُهَا اللَّهُ، وَالْفِعْلُ إِذَا تَقَدَّمَ الِاسْمَ الْمُؤَنَّثَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاعِلِ حَائِلٌ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: ٦٧] وَالْمُرَادُ مِنَ الْخَطِيئَةِ الْجِنْسُ لَا الْخَطِيئَةُ الْوَاحِدَةُ بِالْعَدَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَطاياكُمْ فَفِيهِ قِرَاءَاتٌ، أَحَدُهَا: قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «خَطِيئَتُكُمْ» بِمَدَّةٍ وَهَمْزَةٍ وَتَاءٍ مَرْفُوعَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَثَانِيهَا: الْأَعْمَشُ «خَطِيئَاتِكُمْ» بِمَدَّةٍ وَهَمْزَةٍ وَأَلْفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ قَبْلَ التَّاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ. وَثَالِثُهَا: الْحَسَنُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَرْفَعُ التَّاءَ، وَرَابِعُهَا: الْكِسَائِيُّ خَطَايَاكُمْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الطَّاءِ قَبْلَ الْيَاءِ، وَخَامِسُهَا: ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَقَبْلَ الكاف. وسادسها: الكسائي بكسر الطاء والتاء، وَالْبَاقُونَ بِإِمَالَةِ الْيَاءِ فَقَطْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُحْسِنِ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِالطَّاعَةِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أَوْ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِطَاعَاتٍ أُخْرَى فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: فَالزِّيَادَةُ الْمَوْعُودَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَأَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِهَذِهِ الطَّاعَةِ فَإِنَّا نَزِيدُهُ سَعَةً فِي الدُّنْيَا وَنَفْتَحُ عَلَيْهِ قُرًى غَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِهَذِهِ الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنَّا نَغْفِرُ لَهُ خَطَايَاهُ وَنَزِيدُهُ عَلَى غُفْرَانِ الذُّنُوبِ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ كَمَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: ٢٦]، أَيْ نُجَازِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا وَزِيَادَةً كَمَا جَعَلَ الثَّوَابَ لِلْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشْرًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ «الْمُحْسِنِينَ» مَنْ كَانَ مُحْسِنًا بِطَاعَاتٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّا نَجْعَلُ دُخُولَكُمُ الْبَابَ سُجَّدًا وَقَوْلَكُمْ حِطَّةٌ مُؤَثِّرًا فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَاعَاتٍ أُخْرَى أَعْطَيْنَاكُمُ/ الثَّوَابَ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ الزَّائِدَةِ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ كَانَ خَاطِئًا غَفَرْنَا لَهُ ذَنْبَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَاطِئًا بَلْ كَانَ مُحْسِنًا زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، أَيْ كَتَبْنَا تِلْكَ الطَّاعَةَ فِي حَسَنَاتِهِ وَزِدْنَاهُ زِيَادَةً مِنَّا فِيهَا فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالزِّيَادَةُ للمطيعين.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي نُقْصَانِ خَيْرَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَضَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي تَكْرِيرِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ أَمْرِهِمْ وَإِيذَانًا بِأَنَّ إِنْزَالَ الرِّجْزِ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الرِّجْزَ هُوَ الْعَذَابُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أَيِ الْعُقُوبَةُ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الْأَعْرَافِ: ١٣٤] وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الرِّجْزَ وَالرِّجْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَذَابُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ [الْأَنْفَالِ: ١١] فَمَعْنَاهُ لطخه وما يدعوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ أَيُّ شَيْءٍ كَانَتْ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ مِنْهُمْ بِالْفَجْأَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ حَتَّى مَاتَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، فَالْفِسْقُ مِنَ الْخُرُوجِ الْمُضِرِّ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْفِسْقُ هُوَ الظُّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَفَائِدَةُ التَّكْرَارِ التَّأْكِيدُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَرَّرٍ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالظُّلْمِ/ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] ولأنه تعالى قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الظُّلْمُ إِلَّا عَظِيمًا لَكَانَ ذكر العظيم تكريراً والفسق لا بد وأن يَكُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَلَمَّا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالظُّلْمِ أَوَّلًا: وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ، ثَانِيًا: لِيُعْرَفَ أَنَّ ظُلْمَهُمْ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ لَا مِنَ الصَّغَائِرِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ فَنَزَلَ الرِّجْزُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بَلْ لِلْفِسْقِ الَّذِي كَانُوا فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُولُ التكرار.
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٦١، ١٦٢] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْأَذْكَارِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا بِغَيْرِهَا، وَرُبَّمَا احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ لِتَبْدِيلِهِمُ الْقَوْلَ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ يُضَادُّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ، فَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ اللَّفْظَ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ بَدَّلَ قَوْلًا بِقَوْلٍ آخَرَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ فِي الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يَتَّفِقَا، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٍ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ [نِعَمَهُ] نِعْمَةً نِعْمَةً فَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا أَمَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَلَا يَبْقَى فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إِبْهَامٌ بَعْدَ تَقْدِيمِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا وفي الأعراف: اسْكُنُوا؟ الْجَوَابُ: الدُّخُولُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّكُونِ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الدُّخُولَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسُّكُونَ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: فَكُلُوا بِالْفَاءِ وَفِي الأعراف: وَكُلُوا بِالْوَاوِ؟ وَالْجَوَابُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً وفي الأعراف: فَكُلا.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَفِي الْأَعْرَافِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ، الْجَوَابُ: الْخَطَايَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ وَالْخَطِيئَاتُ جَمْعُ السَّلَامَةِ فَهُوَ لِلْقِلَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لَا جَرَمَ قَرَنَ بِهِ ما يليق جوده وَكَرَمِهِ وَهُوَ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ، فَذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَفِي الْأَعْرَافِ/ لَمَّا لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لَا جَرَمَ ذَكَرَ ذَلِكَ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفَاعِلَ ذَكَرَ مَا يَلِيقُ بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة [ة] وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ لَمْ يَذْكُرِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكَثْرَةِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لِمَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: رَغَداً فِي الْبَقَرَةِ وَحَذَفَهُ فِي الْأَعْرَافِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَالْجَوَابِ فِي الْخَطَايَا وَالْخَطِيئَاتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَعَهُ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلُوا رَغَدًا، وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسْنِدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرِ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ فِيهِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وَفِي الْأَعْرَافِ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ؟
الْجَوَابُ: الْوَاوُ للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا مُذْنِبِينَ وَالْبَعْضَ الْآخَرَ مَا كَانُوا مُذْنِبِينَ، فَالْمُذْنِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِحَطِّ الذُّنُوبِ
السُّؤَالُ السَّابِعُ: لِمَ قَالَ: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فِي الْبَقَرَةِ مَعَ الْوَاوِ وَفِي الْأَعْرَافِ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ غَيْرِ الْوَاوِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا فِي الْأَعْرَافِ فَذَكَرَ فِيهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْحِطَّةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْبَةِ، وَثَانِيهَا:
دُخُولُ الْبَابِ سُجَّدًا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ جُزْأَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْحِطَّةِ. وَالْآخَرُ: قَوْلُهُ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا فَتَرْكُ الْوَاوِ يُفِيدُ تَوَزُّعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُزْأَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرْطَيْنِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيُفِيدُ كَوْنَ مَجْمُوعِ الْمَغْفِرَةِ وَالزِّيَادَةِ جَزَاءً وَاحِدًا لِمَجْمُوعِ الْفِعْلَيْنِ أَعْنِي دُخُولَ الْبَابِ وَقَوْلَ الْحِطَّةِ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا وَفِي الْأَعْرَافِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي زِيَادَةِ كَلِمَةِ «مِنْهُمْ» فِي الْأَعْرَافِ؟ الْجَوَابُ: سَبَبُ زِيَادَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ أَوَّلَ الْقِصَّةِ هَاهُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِلَفْظِ «مِنْ» لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٩] فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ عَدَّدَ صُنُوفَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ وَأَوَامِرِهِ لَهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْقِصَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَذَكَرَ لَفْظَةَ: مِنْهُمْ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ كَمَا ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ مُطَابِقًا لِأَوَّلِهِ فَيَكُونُ الظَّالِمُونَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى بِإِزَاءِ الْهَادِينَ مِنْهُمْ فَهُنَاكَ ذَكَرَ أُمَّةً عَادِلَةً، وَهَاهُنَا ذَكَرَ أُمَّةً جَابِرَةً وَكِلْتَاهُمَا مِنْ قَوْمِ/ مُوسَى فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَمْيِيزًا وَتَخْصِيصًا حَتَّى يَلْزَمَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
السُّؤَالُ التَّاسِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً وقال في الأعراف: فَأَرْسَلْنا الْجَوَابُ: الْإِنْزَالُ يُفِيدُ حُدُوثَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَالْإِرْسَالُ يُفِيدُ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِئْصَالَهُ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْآخِرَةِ.
السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَفِي الأعراف: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ، الْجَوَابُ:
أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَوْنَ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِسْقًا اكْتَفَى بِلَفْظِ الظُّلْمِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَقِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ التَّاسِعُ مِنَ الْإِنْعَامَاتِ الْمَعْدُودَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ فِي التِّيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَجَعَلَ ثِيَابَهُمْ بِحَيْثُ لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ خَافُوا/ الْعَطَشَ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ حَمْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيَّامِ مَسِيرِهِمْ إِلَى التِّيهِ فَقَالَ: بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُفْرَدٌ بِذَاتِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِسْقَاءِ طَلَبُ السُّقْيَا مِنَ الْمَطَرِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ إِذَا أَقْحَطُوا وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْجِيرِ الْحَجَرِ بِالْمَاءِ فَوْقَ الْإِجَابَةِ بِالسُّقْيَا وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي التِّيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْبِلَادِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ طَلَبِ الْمَاءِ إِلَّا فِي النَّادِرِ، الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحَجَرَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ مُعَدًّا لِذَلِكَ فَكَمَا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى يَنْزِلَانِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ غَدَاةٍ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْفَجِرُ لَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَيَّامِهِمْ فِي التِّيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعَصَا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ عَصًا أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْأَشْجَارِ، وَقِيلَ كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى وَلَهَا شُعْبَتَانِ تَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مِقْدَارَهَا كَانَ مِقْدَارًا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَأَنْ تَنْقَلِبَ حَيَّةً عَظِيمَةً وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَلَهَا قَدْرٌ مِنَ الطُّولِ وَالْغِلَظِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ قَاطِعٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ حَتَّى يَكْتَفِيَ فِيهَا بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي «الْحَجَرِ» إِمَّا لِلْعَهْدِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى حَجَرٍ مَعْلُومٍ، فَرُوِيَ أَنَّهُ حَجَرٌ طُورِيٌّ حَمَلَهُ مَعَهُ وَكَانَ مُرَبَّعًا لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ فِي جَدْوَلٍ إِلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَعَةُ الْمُعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ مَيْلًا، وَقِيلَ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى شُعَيْبَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ مَعَ الْعَصَا، وَقِيلَ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ إِذْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ فَفَرَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرُوهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ بِنَا لَوْ أَفْضَيْنَا إِلَى أَرْضٍ لَيْسَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ فَحَمَلَ حَجَرًا فِي مِخْلَاتِهِ فَحِينَمَا نَزَلُوا أَلْقَاهُ وَقِيلَ: كَانَ يَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ وَيَضْرِبُهُ بِهَا فَيَيْبَسُ، فَقَالُوا: إِنْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مُتْنَا عَطَشًا.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَا تَقْرَعِ الْحِجَارَةَ، وَكَلِّمْهَا تُطِعْكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فَقِيلَ: كَانَ مِنْ رُخَامٍ وَكَانَ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ، وَقِيلَ: مِثْلُ رَأْسِ الْإِنْسَانِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَفْوِيضُ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ فِي الْقُدْرَةِ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ وَمِنْ قَبْلُ أَنْ يَضْرِبَ يَنْفَجِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ ذلك لو قيل إنه أبلغ في/ قِيلَ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ لَكَانَ أَقْرَبَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ ضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ رَسُولَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُهُ لَصَارَ الرَّسُولُ عَاصِيًا، وَلِأَنَّهُ إِذَا انْفَجَرَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ صَارَ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ بِالْعَصَا عَبَثًا، كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ وَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ كما في قوله تعالى: فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا: فَانْفَجَرَتْ وَفِي الْأَعْرَافِ: فَانْبَجَسَتْ [الْأَعْرَافِ: ١٦] وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ لِأَنَّ الِانْفِجَارَ خُرُوجُ الْمَاءِ بِكَثْرَةٍ وَالِانْبِجَاسُ خُرُوجُهُ قَلِيلًا. الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْفَجْرَ الشَّقُّ فِي الْأَصْلِ، وَالِانْفِجَارُ الِانْشِقَاقُ، وَمِنْهُ الْفَاجِرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الْفِسْقِ، وَالِانْبِجَاسُ اسْمٌ لِلشِّقِّ الضَّيِّقِ الْقَلِيلِ، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ اخْتِلَافَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلَا يَتَنَاقَضَانِ، وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُ انْبَجَسَ أَوَّلًا، ثُمَّ انْفَجَرَ ثَانِيًا، وَكَذَا الْعُيُونُ: يَظْهَرُ الْمَاءُ مِنْهَا قَلِيلًا ثُمَّ يَكْثُرُ لِدَوَامِ خُرُوجِهِ. وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ حَاجَتَهُمْ كَانَتْ تَشْتَدُّ إِلَى الْمَاءِ فَيَنْفَجِرُ، أَيْ يَخْرُجُ الْمَاءُ كَثِيرًا ثُمَّ كَانَتْ تَقِلُّ فَكَانَ الْمَاءُ يَنْبَجِسُ أَيْ يَخْرُجُ قَلِيلًا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يُعْقَلُ خُرُوجُ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ؟ الْجَوَابُ: هَذَا السَّائِلُ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ وُجُودَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَوْ يُنْكِرَهُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْجِسْمَ كَيْفَ شَاءَ كَمَا خَلَقَ الْبِحَارَ وَغَيْرَهَا، وَإِنْ نَازَعَ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَأَيْضًا فَالْفَلَاسِفَةُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِفَسَادِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ لَهَا هَيُولَى مُشْتَرَكَةٌ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَصِحُّ الْكَوْنُ وَالْفَسَادُ عَلَيْهَا، وَإِنَّهُ يَصِحُّ انْقِلَابُ الْهَوَاءِ مَاءً وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ قَالُوا: [الْهَوَاءُ] إِذَا وُضِعَ فِي الْكُوزِ الْفِضَّةِ جَمُدَ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَى أَطْرَافِ الْكُوزِ قَطَرَاتُ الْمَاءِ، فَقَالُوا: تِلْكَ الْقَطَرَاتُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ انْقَلَبَ مَاءً فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ مُطِيعَةٌ لِلِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَبْعَدًا أَنْ يَحْدُثَ اتِّصَالٌ فَلَكِيٌّ يَقْتَضِي وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ الْغَرِيبِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ لَا يُمْكِنُهُمُ الْجَزْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ.
أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ لَا جَرَمَ قُلْنَا لَهُمْ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرَ الْعَبْدُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ؟ فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ طريقين ضعيفين جداً سنذكرهما بأن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ آيَةِ السِّحْرِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ ضَعْفِهِمَا وَسُقُوطِهِمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْمُعْجِزَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ، أَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَا جَرَمَ جَزَمُوا أَنَّ الْمُحْدِثَ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِظُهُورِهَا على يدل الْمُدَّعِي عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَتَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ كَانَ مُسْتَكِنًّا فِي الْحَجَرِ ثُمَّ ظَهَرَ أَوْ قَلَبَ اللَّهُ الْهَوَاءَ مَاءً أَوْ خَلَقَ الْمَاءَ ابْتِدَاءً؟ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الظَّرْفَ الصَّغِيرَ لَا يَحْوِي الْجِسْمَ الْعَظِيمَ/ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّدَاخُلِ وَهُوَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْكَلَامِ فِيمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَقَدْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي مُتَوَضَّئِهِ فَفَارَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى اسْتَكْفَوْا.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مُعْجِزَةُ مُوسَى فِي هَذَا الْمَعْنَى أَعْظَمُ أَمْ مُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ الْجَوَابُ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ، لَكِنَّ الَّتِي لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى لِأَنَّ نُبُوعَ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ مَعْهُودٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا نُبُوعُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ الْبَتَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْمَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمِ مُوسَى كَثْرَةٌ وَالْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ إِذَا اشْتَدَّتْ بِهِمُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ وَجَدُوهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ وَتَنَازُعٌ وَرُبَّمَا أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ فَأَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ بِأَنْ عَيَّنَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ مَاءً مُعَيَّنًا لَا يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ وَالْعَادَةُ فِي الرَّهْطِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَازُعِ مِثْلُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ هَذَا الِانْفِجَارُ عَلَى الْإِعْجَازِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْسَ ظُهُورِ الْمَاءِ مُعْجِزٌ، وَثَانِيهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ الْعَظِيمِ مِنَ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ، وَثَالِثُهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَرَابِعُهَا: خُرُوجُ الْمَاءِ عِنْدَ ضَرْبِ الْحَجَرِ بِالْعَصَا، وَخَامِسُهَا: انْقِطَاعُ الْمَاءِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِقُدْرَةٍ تَامَّةٍ نَافِذَةٍ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَعِلْمٍ نَافِذٍ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فَنَقُولُ: إِنَّمَا عَلِمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ أَنْ لَا يَشْرَبَ إِلَّا مِنْ جَدْوَلٍ مُعَيَّنٍ كَيْلَا يَخْتَلِفُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَأَمَّا إِضَافَةُ الْمَشْرَبِ إِلَيْهِمْ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّقِّ الَّذِي يَلِيهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمِلْكِ لَهُمْ وَجَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَفِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: فَقُلْنَا لَهُمْ أَوْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَإِنَّمَا قَالَ: كُلُوا لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ بِلَا تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَاشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَغْذِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَلَمَّا أَعْطَاهُمُ الْمَاءَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ. وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْحَلَالُ، قَالُوا: لِأَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ قَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا الْإِبَاحَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرِّزْقِ مُبَاحًا، فَلَوْ وُجِدَ رِزْقٌ حَرَامٌ لَكَانَ ذَلِكَ الرِّزْقُ مُبَاحًا وَحَرَامًا وَإِنَّهُ/ غَيْرُ جَائِزٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَالْعِثِيُّ أَشَدُّ الْفَسَادِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَمَادَوْا فِي الْفَسَادِ فِي حَالَةِ إِفْسَادِكُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَادِينَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْمَاءِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَا تبالغوا في التنازع والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
[في هذه الآية مسائل] [المسألة الأولى] وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنَ الطَّعَامِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَغْرَاضٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا تَنَاوَلُوا ذَلِكَ النَّوْعَ الْوَاحِدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَلُّوهُ فَاشْتَهَوْا غَيْرَهُ، الثَّانِي: لَعَلَّهُمْ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ وَإِنَّمَا تَعَوَّدُوا سَائِرَ الْأَنْوَاعِ وَرَغْبَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا اعْتَادَهُ فِي أَصْلِ التَّرْبِيَةِ وَإِنْ كَانَ/ خَسِيسًا فَوْقَ رَغْبَتِهِ فِيمَا لَمْ يَعْتَدْهُ وَإِنْ كَانَ شَرِيفًا.
الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ مَلُّوا مِنَ الْبَقَاءِ فِي التِّيهِ فَسَأَلُوا هَذِهِ الْأَطْعِمَةَ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْبِلَادِ وَغَرَضُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى الْبِلَادِ لَا نَفْسُ تِلْكَ الْأَطْعِمَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الطَّعَامِ الْوَاحِدِ سَبَبٌ لِنُقْصَانِ الشَّهْوَةِ وَضَعْفِ الْهَضْمِ وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْأَنْوَاعِ يُعِينُ عَلَى تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ وَكَثْرَةِ الِالْتِذَاذِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَبْدِيلَ النَّوْعِ بِالنَّوْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الْعُقَلَاءِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوا وَلَوْ كَانُوا عَاصِينَ فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ لَكَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعْصِيَةً وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَبَوْا شَيْئًا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ أَعْطَاهُمْ عَاجِلَ مَا سَأَلُوهُ كَمَا قَالَ: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشُّورَى: ٢٠] لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ مَعْصِيَةً بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا إِنْزَالَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَتِلْكَ الْكَرَاهَةُ مَعْصِيَةٌ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ مَا سَأَلُوهُ بِأَنَّهُ أَدْنَى وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا رَاضِينَ بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا شَيْئًا آخَرَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَنْ لِلنَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَخِطُوا الْوَاقِعَ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِقَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَاضِرًا مُتَيَقَّنًا وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَحْصُلُ عَفْوًا بِلَا كَدٍّ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْحَاضِرِ، فَقَدْ يُقَالُ فِي الْغَائِبِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ: إِنَّهُ أَدْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يُتَيَقَّنُ وَمِنْ حَيْثُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْكَدِّ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ بَعْضُهُ فَثَبَتَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي النَّوْعِ بل أنه واحد في لنهج وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ طَعَامَ فُلَانٍ عَلَى مَائِدَتِهِ طَعَامٌ وَاحِدٌ إِذَا كَانَ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ نَهْجِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: وَقِثَّائِها بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَقُثَّائِهَا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: وَفُومِها بِالْفَاءِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَثُومِهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ/ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: وَهَذَا أَوْفَقُ لِذِكْرِ الْبَصَلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْفُومِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْحِنْطَةُ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْفُومَ هُوَ الْخُبْزُ وَهُوَ أَيْضًا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: فَوِّمُوا لَنَا أَيِ اخْبِزُوا لَنَا وَقِيلَ هُوَ الثُّومُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَثُومِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ هُوَ الْحِنْطَةَ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَشْرَفُ الْأَطْعِمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الثُّومَ أَوْفَقُ لِلْعَدَسِ وَالْبَصَلِ مِنَ الْحِنْطَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ وَفِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (أَتُبْدِلُونَ) بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَعَنْ زُهَيْرٍ الْفُرْقُبِيِّ: (أَدْنَأُ) بِالْهَمْزَةِ مِنَ الدَّنَاءَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَدْنَى وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ المراد إما أن يكون أَدْنَى فِي الْمَصْلَحَةِ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَنْفَعَ فِي بَابِ الدِّينِ مِنَ الَّذِي طَلَبُوهُ لَمَا جَازَ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ قَدْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَكُونُ أَلَذَّ الْأَطْعِمَةِ عِنْدَ قَوْمٍ قَدْ يَكُونُ أَخَسَّهَا عِنْدَ آخَرِينَ، بَلِ الْمُرَادُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مُتَيَقَّنُ الْحُصُولِ وَمَا يَطْلُبُونَهُ مَشْكُوكُ الْحُصُولِ وَالْمُتَيَقَّنُ خَيْرٌ مِنَ الْمَشْكُوكِ أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الَّذِي يَحْصُلُ عَفْوًا صَفْوًا لَمَّا كَرِهْنَاهُ بِطِبَاعِنَا كَانَ تَنَاوُلُهُ أَشَقَّ مِنَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْكَدِّ إِذَا اشْتَهَتْهُ طِبَاعُنَا. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُ وَقَعَ الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع عَلَى الْغَائِبِ الْمَشْكُوكِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ: اهْبِطُوا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَقُرِئَ بِضَمِّ الْبَاءِ، الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ:
مِصْراً بِالتَّنْوِينِ وَإِنَّمَا صَرَفَهُ مَعَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ فِيهِ وَهُمَا التَّعْرِيفُ وَالتَّأْنِيثُ لِسُكُونِ وَسَطِهِ كقوله: وَنُوحاً هَدَيْنا... وَلُوطاً [الْأَنْعَامِ: ٨٤، ٨٦] وَفِيهِمَا الْعُجْمَةُ وَالتَّعْرِيفُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَلَدُ، فَمَا فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَأَ بِهِ الْأَعْمَشُ: اهبطوا مصر بغير تنوين كقوله: ادْخُلُوا مِصْرَ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَرْكُ التَّنْوِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَلِفُ فِي مِصْرًا زِيَادَةٌ مِنَ الْكَاتِبِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَعْرِفَةً فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فمنهم من
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ إِيجَابٌ لِدُخُولِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ أَرْضٍ أُخْرَى. وَالثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ: كَتَبَ اللَّهُ يَقْتَضِي دَوَامَ كَوْنِهِمْ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [الْمَائِدَةِ: ٢٦] فَإِذَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ فَعِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمْ دُخُولُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ مِصْرَ سِوَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْوُجُوهُ ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَلَعَلَّهُمْ نُدِبُوا إِلَى دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَعَ أَنَّهُمْ مَا مُنِعُوا مِنْ دُخُولِ مِصْرَ، أَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ تِلْكَ النَّدْبِيَّةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ بَلْ فِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ. الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تَعْصُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ إِذِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ عَصَى فِيمَا يُؤْمَرُ بِهِ: ارْتَدَّ عَلَى عَقِبِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعِصْيَانِ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَطْ. قُلْنَا: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَيَتِمُّ دَلِيلُنَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّهُ لِلنَّدْبِ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي تَرْكِهِ يَكُونُ إِذْنًا فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَرْتَدُّوا لَا تَرْجِعُوا. قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ قَالَ بعده: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ. قَوْلُهُ: أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، قُلْنَا: التَّخْصِيصُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، أَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فَإِنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِصْرَ فِرْعَوْنَ واحتج عليه بوجهين. الْأَوَّلُ: أَنَّا إِنْ قَرَأْنَا: اهْبِطُوا مِصْرَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كَانَ لَا مَحَالَةَ عَلَمًا لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَلْدَةٌ مُلَقَّبَةٌ بِهَذَا اللَّقَبِ سِوَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَمًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ صِفَةً فَحَمْلُهُ عَلَى الْعَلَمِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الصِّفَةِ مِثْلَ ظَالِمٍ وَحَادِثٍ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا جَاءَا عَلَمَيْنِ كَانَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْعَلَمِيَّةِ أَوْلَى. أَمَّا إِنْ قَرَأْنَاهُ بِالتَّنْوِينِ فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ مَعَ ذَلِكَ اسْمَ عَلَمٍ وَنَقُولَ:
إِنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ التَّنْوِينُ لِسُكُونِ وَسَطِهِ كَمَا فِي نُوحٍ وَلُوطٍ فَيَكُونُ التَّقْرِيرُ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ جِنْسٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا إِذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ جَمِيعِ رِقَابِ الدُّنْيَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَّثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ مِصْرَ وَإِذَا كَانَتْ مَوْرُوثَةً لَهُمُ امْتَنَعَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا بَيَانُ أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ لَهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ:
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: ٥٧- ٥٩] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ لَهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِهَا/ لِأَنَّ الْإِرْثَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا لِلدَّارِ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ دُخُولِهَا بِوَجْهٍ آخَرَ، كَحَالِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ دَارَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ دُخُولُهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَّثَهُمْ مِصْرَ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، ثُمَّ
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي أَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَلَكِنْ قَدْ يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ لِعَارِضٍ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ، فَنَحْنُ تَرْكَنَا هَذَا الْأَصْلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فَالْمَعْنَى جُعِلَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةً بِهِمْ حَتَّى مُشْتَمِلَةً عَلَيْهِمْ فَهُمْ فِيهَا كَمَنْ يَكُونُ فِي الْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ أَوْ أُلْصِقَتْ بِهِمْ حَتَّى لَزِمَتْهُمْ ضَرْبَةُ لَازِمٍ كَمَا يُضْرَبُ الطِّينُ عَلَى الْحَائِطِ فَيَلْزَمُهُ وَالْأَقْرَبُ فِي الذِّلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ يُحَارِبُ وَيُفْسِدُ: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ بِهِ الْجِزْيَةُ خَاصَّةً على ما قَالَ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَةِ: ٢٩] فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَا كَانَتْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَسْكَنَةُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ وَتَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ، فَهَذَا الْجِنْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالْعُقُوبَةِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ عَدَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
أَمَّا قوله تعالى: وَباؤُ ففيه وجوه. أحدها: البوء الرجوع، فقوله: باؤُ أَيْ رَجَعُوا وَانْصَرَفُوا بِذَلِكَ وَلَا يُقَالُ بَاءَ إلا بشر. وثانيها: البوء التسوية. فقوله: باؤُ أي استوى عليهم غضب الله. قال الزجاج.
وثالثها: باؤ أَيِ اسْتَحَقُّوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: ٢٩] أَيْ تَسْتَحِقُّ الْإِثْمَيْنِ جَمِيعًا. وَأَمَّا غَضَبُ اللَّهِ فَهُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فَهُوَ عِلَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلْحَاقِ الْغَضَبِ بِهِمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ الْكُفْرُ حَصَلَ فِيهِمْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَصَلَتِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فِيهِمْ بِخَلْقِهِ لَمَا كَانَ جَعْلُ أحدهما جزاء الثاني أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْكُفْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَيْضًا وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَكْفُرُونَ دَخَلَ تَحْتَهُ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى؟ الْجَوَابُ:
الْمَذْكُورُ هَاهُنَا الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَهْلُ وَالْجَحْدُ بِآيَاتِهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْبَاطِلِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا لِأَنَّ الْآتِيَ بِهِ اعْتَقَدَهُ حَقًّا لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ وَقَدْ يَأْتِي بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ أَقْبَحُ فَقَوْلُهُ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ كان
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا فَهُوَ تَأْكِيدٌ بِتَكْرِيرِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ وَقَدِ احْتَمَلَ مِنْهُ ذُنُوبًا سَلَفَتْ مِنْهُ فَعَاقَبَهُ عِنْدَ آخِرِهَا: هَذَا بِمَا عَصَيْتَنِي وَخَالَفْتَ أَمْرِي، هَذَا بِمَا تَجَرَّأْتَ علي واغتررت بحلمي، هذا بِكَذَا فَيُعِدُّ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبْكِيتًا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الظُّلْمُ: أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِمَا فَعَلُوهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَهْلُهُمْ بِهِ وَجَحْدُهُمْ لِنِعَمِهِ ثُمَّ ثَنَّاهُ بِمَا يَتْلُوهُ فِي الْعِظَمِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ ثَلَّثَهُ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَخُصُّهُمْ ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِثْلَ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ، وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ حُسْنِ التَّرْتِيبِ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ هَاهُنَا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَكَرَ الْحَقَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعْرِفَةً، وَقَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آلِ عِمْرَانَ: ٢١ نَكِرَةً، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ لَيْسُوا سَواءً [آلِ عِمْرَانَ: ١١٢، ١١٣] فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: الْحَقُّ الْمَعْلُومُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ، «كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»، فَالْحَقُّ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَأَمَّا الْحَقُّ الْمُنْكَرُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْعُمُومِ أَيْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَقٌّ لَا هَذَا الَّذِي يَعْرِفُهُ المسلمون ولا غيره ألبتة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ: هادُوا بِضَمِّ الدَّالِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ الصَّابِئِينَ وَالصَّابِئُونَ بِالْهَمْزَةِ فِيهِمَا حَيْثُ كَانَا وَعَنْ نَافِعٍ وَشَيْبَةَ وَالزَّهْرِيِّ وَالصَّابِّينَ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالصَّابُونَ بِبَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَعَنِ الْعُمَرِيِّ يجعل الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِيَاءَيْنِ خَالِصَتَيْنِ فَهُمَا بَدَلُ الْهَمْزَةِ، فَأَمَّا تَرْكُ الْهَمْزَةِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ إِلَى الشَّيْءِ فَأَحَبَّهُ، وَالْآخَرُ: قَلْبُ الْهَمْزَةِ فَنَقُولُ: الصَّابِيِينَ وَالصَّابِيُونَ وَالِاخْتِيَارُ الْهَمْزُ لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ وَإِلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ أَقْرَبُ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَالُوا: هُوَ الْخَارِجُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ إِذَا ذَكَرَ وَعَدًا أَوْ وَعِيدًا عَقَّبَهُ بِمَا يُضَادُّهُ ليكون الكلام تاماً فههنا لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَخْبَرَ بِمَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْكَرِيمِ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ والمسيء بإساءته كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: ٣١] فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَنَظِيرُهُ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاءِ: ١٣٦]
هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُبْطِلُونَ كُلُّ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ صَارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى/ الْمَاضِي، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هادُوا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إِنَّمَا سُمُّوا بِهِ حِينَ تَابُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا أَكْبَرِ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِنَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ بِالدَّالِ لِلتَّعْرِيبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا نَقَلُوا أَسْمَاءً مِنَ الْعَجَمِيَّةِ إِلَى لُغَتِهِمْ غَيَّرُوا بَعْضَ حُرُوفِهَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَفِي اشْتِقَاقِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُسَمَّى نَاصِرَةَ فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَثَانِيهَا: لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَثَالِثُهَا: لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: النَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانَ يُقَالُ رَجُلٌ نَصْرَانُ، وَامْرَأَةٌ نَصْرَانَةٌ وَالْيَاءُ فِي نَصْرَانِيٍّ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي أَحَمَرِيٍّ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوا الْمَسِيحَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّابِئِينَ فَهُوَ مِنْ صَبَأَ إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَابِئًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينًا بِخِلَافِ أَدْيَانِهِمْ وَصَبَأَتِ النُّجُومُ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنْ مَطْلَعِهَا. وَصَبَأْنَا بِهِ إِذَا خَرَجْنَا بِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَذْهَبِهِمْ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَدْيَانُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلشَّيْطَانِ أَرْبَعَةٌ وَوَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ: الصَّابِئُونَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَجُوسُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّخَاذِهَا قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْخَالِقَةُ لَهَا فَيَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ تَعْظِيمُهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ إِنَّهَا تَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْكِلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ وَمُبْطِلًا لِقَوْلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّهِمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعِنْدِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا/ الْحِفْظَ كَالْوَدَائِعِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَجْرَهُمْ مُتَيَقَّنٌ جَارٍ مَجْرَى الْحَاصِلِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقِيلَ: أَرَادَ زَوَالَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْآخِرَةِ فِي حَالِ الثَّوَابِ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عَامٌّ فِي النَّفْيِ، وَكَذَلِكَ:
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَخُصُوصًا فِي الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ خَوْفٍ وَحُزْنٍ، إِمَّا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَجْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْأَجْرِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَعِيمُهُمْ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا كَوْنَهُ مُنْقَطِعًا لَاعْتَرَاهُمُ الْحُزْنُ الْعَظِيمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سُورَةِ الْمَائِدَةِ هَكَذَا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْمَائِدَةِ: ٦٩] وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الْحَجِّ: ١٧] فَهَلْ فِي اخْتِلَافِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَقْدِيمِ الصُّنُوفِ وَتَأْخِيرِهَا وَرَفْعِ «الصَّابِئِينَ» فِي آيَةٍ وَنَصْبِهَا فِي أُخْرَى فَائِدَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ مِنْ حِكَمٍ وَفَوَائِدَ، فَإِنْ أَدْرَكْنَا تِلْكَ الْحِكَمَ فَقَدْ فُزْنَا بِالْكَمَالِ وَإِنْ عَجَزْنَا أَحَلْنَا الْقُصُورَ عَلَى عُقُولِنَا لَا عَلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْعَاشِرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَاقِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا أَوْدَعَ اللَّهُ الْعُقُولَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ أَقْوَى الْمَوَاثِيقِ/ وَالْعُهُودِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْفَ وَالتَّبْدِيلَ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ وَهُوَ قول الأصم، وثانيها: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ فِيهَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالُوا: لَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَيَقُولُ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ فَأَبَوْا فَرُفِعَ فَوْقَهُمُ الطُّورُ وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا طَرَحْنَاهُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَرَفْعُ الطُّورِ هُوَ الْمِيثَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الطُّورِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ عَجِيبَةٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا أُخِذَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّهُ مِيثَاقًا وَاحِدًا وَلَوْ قِيلَ مَوَاثِيقُكُمْ لَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَاثِيقُ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ لَا مِيثَاقٌ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ فَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٧١] وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا وَاوُ عَطْفٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَلَمَّا نَقَضُوهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قَبُولِ الْكِتَابِ رُفِعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ فَلَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ وَلَكِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ وَالزَّمَانُ زَمَانٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ عِنْدَ رَفْعِنَا الطُّورَ فَوْقَكُمْ. الثَّانِي: قِيلَ: إِنَّ الطُّورَ كُلُّ جَبَلٍ قَالَ الْعَجَّاجُ:
دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ | تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ كَامِلَةٍ وَعُدُولٍ عَنِ التَّغَافُلِ وَالتَّكَاسُلِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: خُذْ هَذَا بِقُوَّةٍ وَلَا قُوَّةَ حَاصِلَةٌ كما لا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ أَيِ احْفَظُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَادْرُسُوهُ وَلَا تَنْسُوهُ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمُوهُ عَلَى نَفْسِ الذِّكْرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُدَارَسَةِ فَلَا إِشْكَالَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ لِكَيْ تَتَّقُوا، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ فِعْلَ الطَّاعَةِ مِنَ الْكُلِّ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَخْذًا لِلْمِيثَاقِ وَلَا صَحَّ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالِالْتِزَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَدْ يُعْلَمُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ قَبُولِ التَّوْرَاةِ وَرَفْعِ الطُّورِ تَوَلَّوْا عَنِ التَّوْرَاةِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَحَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَكَفَرُوا بِهِمْ وَعَصَوْا أَمْرَهُمْ وَلَعَلَّ فِيهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْهَا مَا عَمِلَهُ أَوَائِلُهُمْ وَمِنْهَا مَا فَعَلَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ وَلَمْ يَزَالُوا فِي التِّيهِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْأَعَاجِيبَ لَيْلًا وَنَهَارًا يُخَالِفُونَ مُوسَى وَيَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَهُ بِكُلِّ أَذًى وَيُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي فِي مُعَسْكَرِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ وَأَحْرَقَتِ النَّارُ بَعْضَهُمْ وَعُوقِبُوا بِالطَّاعُونِ وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِ التَّوْرَاةِ الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا ثُمَّ فَعَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ حَتَّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفَرُوا بِالْمَسِيحِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. وَالْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَا تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ فَالْجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِنَادِ أَسْلَافِهِمْ فَغَيْرُ عَجِيبٍ إِنْكَارُهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْكِتَابِ وَجُحُودُهُمْ لِحَقِّهِ وَحَالُهُمْ فِي كِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ مَا ذُكِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لَوْلَا مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ إِمْهَالِكُمْ وَتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ مِنَ الهالكين الذين باعوا أنفسهم نار جَهَنَّمَ، فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا عَنْ هَذَا الْخُسْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِمْهَالِ حَتَّى تَابُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثُمَّ قِيلَ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رُجُوعًا بِالْكَلَامِ إِلَى أَوَّلِهِ، أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِكُمْ برفع الجبل فوقكم لدمتم لي رَدِّكُمُ الْكِتَابَ وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَرَحِمَكُمْ فَلَطَفَ بِكُمْ بِذَلِكَ حَتَّى تُبْتُمْ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةُ فَلَوْلا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ مِنْ لَوَازِمِ حُصُولِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَيْثُ حَصَلَ الْخُسْرَانُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هُنَاكَ لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ بِالْكَافِرِ شَيْئًا مِنَ الْأَلْطَافِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَجَابَ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنِ الْكُلِّ فِي الْفَضْلِ لَكِنِ انْتَفَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِرَجُلٍ
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ وُجُوهَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا خَتَمَ ذَلِكَ بِشَرْحِ بَعْضِ مَا وَجَّهَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَيْلَةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَهُوَ مَكَانٌ مِنَ الْبَحْرِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ حَتَّى لَا يُرَى الْمَاءُ لِكَثْرَتِهَا وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ فِي كُلِّ سَبْتٍ خَاصَّةً وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الْأَعْرَافِ: ١٦٣] فَحَفَرُوا حِيَاضًا عِنْدَ الْبَحْرِ وَشَرَّعُوا إِلَيْهَا الْجَدَاوِلَ فَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَدْخُلُهَا فَيَصْطَادُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَذَلِكَ الْحَبْسُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ اعْتِدَاؤُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَخَذُوا السَّمَكَ وَاسْتَغْنَوْا بِذَلِكَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَلَمَّا طَالَ/ الْعَهْدُ اسْتَسَنَّ الْأَبْنَاءُ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ وَاتَّخَذُوا الْأَمْوَالَ فَمَشَى إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَرِهُوا الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ وَنَهَوْهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا وَقَالُوا: نَحْنُ فِي هَذَا الْعَمَلِ مُنْذُ زَمَانٍ فَمَا زَادَنَا اللَّهُ بِهِ إِلَّا خَيْرًا، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا فَرُبَّمَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ وَالْهَلَاكُ فَأَصْبَحَ الْقَوْمُ وَهُمْ قِرَدَةٌ خَاسِئُونَ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ مُعْجِزَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ قَوْلَهُ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ كَالْخِطَابِ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُخَالِطِ الْقَوْمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا عَرَفَهُ مِنَ الْوَحْيِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِمَا عَامَلَ بِهِ أَصْحَابَ السَّبْتِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَمَا تَخَافُونَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِكُمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ الْمَمْدُودِ لَكُمْ ونظيره قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها [النِّسَاءِ: ٤٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ اعْتِدَاءَ مَنِ اعْتَدَى مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ لِكَيْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْعُقُوبَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ، وَلَفْظُ الِاعْتِدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ فِي السَّبْتِ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا تَعَدَّوْا في ذلك الاصطياد فقط، وأن يقال: إِنَّمَا تَعَدَّوْا لِأَنَّهُمُ اصْطَادُوا مَعَ أَنَّهُمُ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ الِاصْطِيَادَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ يَوْمَ السَّبْتِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ اللَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الِاصْطِيَادِ يَوْمَ السَّبْتِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ أَكْثَرَ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَيَّامِ كَمَا قَالَ:
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ [الْأَعْرَافِ: ١٦٣] وَهَلْ هَذَا إِلَّا
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: (قِرَدَةً خاسِئِينَ) خَبَرٌ: أَيْ كُونُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الْقِرْدِيَّةِ وَالْخُسُوءِ، وَهُوَ الصَّغَارُ وَالطَّرْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يَقْلِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ سُرْعَةُ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعْجِزْهُ مَا أَرَادَ إِنْزَالَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِهَؤُلَاءِ بَلْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ، كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صَارُوا كَذَلِكَ أَيْ لَمَّا أَرَادَ/ ذَلِكَ بِهِمْ صَارُوا كَمَا أَرَادَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النِّسَاءِ: ٤٧] وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنَّ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ هَذَا التَّكْوِينِ إِلَّا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذَا التَّكْوِينِ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ أَثَرٌ فِي التَّكْوِينِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عِنْدُنَا فَأَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ لَفْظًا لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَسَخَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ لَا أَنَّهُ مَسَخَ صُوَرَهُمْ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: ٥] وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْأُسْتَاذُ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تَعْلِيمُهُ: كُنْ حِمَارًا. وَاحْتُجَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِأَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمُشَاهَدُ وَالْبِنْيَةُ الْمَحْسُوسَةُ فَإِذَا أَبْطَلَهَا وَخَلَقَ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبَ الْقِرْدِ وَشَكْلَهُ كَانَ ذَلِكَ إِعْدَامًا لِلْإِنْسَانِ وَإِيجَادًا لِلْقِرْدِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْمَسْخِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ إِنْسَانًا وَخَلَقَ فِيهَا الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ قِرْدًا فَهَذَا يَكُونُ إِعْدَامًا وَإِيجَادًا لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَسْخًا.
وَالثَّانِي: إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ قِرْدًا وَكَلْبًا أَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا عَاقِلًا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ تَمَامَ هَذَا الْهَيْكَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَدْ يَصِيرُ سَمِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ هَزِيلًا، وَبِالْعَكْسِ فَالْأَجْزَاءُ مُتَبَدِّلَةٌ وَالْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْبَاقِي غَيْرَ الزَّائِلِ، فَالْإِنْسَانُ أَمْرٌ وَرَاءَ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمَحْسُوسِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا سَارِيًا فِي الْبَدَنِ أَوْ جُزْءًا فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الْبَدَنِ كَقَلْبٍ أَوْ دِمَاغٍ أَوْ مَوْجُودًا مُجَرَّدًا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ تَطَرُّقِ التَّغَيُّرِ إِلَى هَذَا الْهَيْكَلِ وَهَذَا هُوَ الْمَسْخُ وَبِهَذَا التقدير يجوز في المالك الَّذِي تَكُونُ جُثَّتُهُ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ أَنْ يَدْخُلَ حُجْرَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْأَمَانَ يَحْصُلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَرَّرْنَا جَوَازُ الْمَسْخِ أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ جِدًّا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى جَهَالَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَجَلَاءِ الْبَيِّنَاتِ فَقَدْ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِنَّهُ حِمَارٌ وَقِرْدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَجَازُ مِنَ الْمَجَازَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ. بَقِيَ هَاهُنَا سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ قِرْدًا لَا يَبْقَى لَهُ فَهْمٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عِلْمٌ فَلَا يَعْلَمُ مَا نَزَلَ بِهِ من العذاب
السُّؤَالُ الثَّانِي: أُولَئِكَ الْقِرَدَةُ بَقُوا أَوْ أَفْنَاهُمُ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ بَقُوا فَهَذِهِ الْقِرَدَةُ الَّتِي فِي زَمَانِنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مَنْ نَسْلِ أُولَئِكَ الْمَمْسُوخِينَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْكُلُّ جَائِزٌ عَقْلًا إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْخَاسِئُ الصَّاغِرُ الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ كَالْكَلْبِ إِذَا دَنَا مِنَ النَّاسِ قِيلَ لَهُ اخْسَأْ، أَيْ تَبَاعَدْ وَانْطَرِدْ صَاغِرًا فَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ يُحْتَمَلُ صَاغِرًا ذَلِيلًا مَمْنُوعًا عَنْ مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْمُلْكِ: ٣، ٤]، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَدِّدِ الْبَصَرَ فِي السَّمَاءِ تَرْدِيدَ مَنْ يَطْلُبُ فُطُورًا فَإِنَّكَ وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَجِدْ فُطُورًا فَيَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ذَلِيلًا كَمَا يَرْتَدُّ الْخَائِبُ بَعْدَ طُولِ سَعْيِهِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَلَا يَظْفَرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ خَائِبًا صَاغِرًا مَطْرُودًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَقْصِدُهُ مِنْ أَنْ يُعَاوِدَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَجَعَلْناها فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: (جَعَلْنَاهَا) يَعْنِي الْمِسْخَةَ الَّتِي مُسِخُوهَا، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ جَعَلْنَا الْقِرَدَةَ نَكَالًا. وَثَالِثُهَا: جعلنا قرية أصحاب السبت نكالًا. رابعها: جَعَلْنَا هَذِهِ الْأُمَّةَ نَكَالًا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ يَدُلُّ عَلَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ رَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى مَذْكُورٍ مُتَقَدِّمٍ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَّا ذِكْرُهُمْ وَذِكْرُ عُقُوبَتِهِمْ، أَمَّا النَّكَالُ فَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ الْعُقُوبَةُ الْغَلِيظَةُ الرَّادِعَةُ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَيُقَالُ لِلْقَيْدِ النِّكْلُ، وَلِلِّجَامِ الثَّقِيلِ أَيْضًا نِكْلٌ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [الْمُزَّمِّلِ: ١٢] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا [النِّسَاءِ: ٨٤] وَالْمَعْنَى: أَنَّا جَعَلْنَا مَا جَرَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عُقُوبَةً رَادِعَةً لِغَيْرِهِمْ أَيْ لَمْ نَقْصِدْ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ التَّشَفِّي لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَضُرُّهُ الْمَعَاصِي وَتَنْقُصُ مِنْ مُلْكِهِ وَتُؤَثِّرُ فِيهِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا نُعَاقِبُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فَعِقَابُنَا زَجْرٌ وَمَوْعِظَةٌ، قَالَ الْقَاضِي: الْيَسِيرُ مِنَ الذَّمِّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَكَالٌ حَتَّى إِذْ عَظُمَ وَكَثُرَ وَاشْتَهَرَ، يُوصَفُ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّارِقِ الْمُصِرِّ الْقَطْعَ جَزَاءً وَنَكَالًا وَأَرَادَ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِزْيِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الذَّمِّ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا أَنْزَلَهُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ وَاسْتَحَلُّوا مِنَ اصْطِيَادِ الْحِيتَانِ وَغَيْرِهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ الدُّنْيَا وَنَقَضُوا مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً لَا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَلِّلَ مِقْدَارَ مَسْخِهِمْ وَيُغَيِّرَ صُوَرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُغَيِّرَةِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: لِمَا قَبْلَهَا وَمَا مَعَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ لِأَنَّ مَسْخَهُمْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَاعْتَبَرُوا بِهَا وَاعْتَبَرَ بِهَا مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ خَبَرُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الَآخِرِينَ، وَثَانِيهَا: أُرِيدُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مَا يَحْضُرُهَا مِنَ الْقُرُونِ وَالْأُمَمِ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَخَافُ إِنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَاجِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعِقَابِ الْآجِلِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَدُومُ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَكَمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بِالِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يُخَصُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَعِظَ الْمُتَّقُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ جَعَلْنَاهَا نَكَالًا وَلِيَعِظَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَّقِينَ بَعْضًا فَتَكُونُ الْمَوْعِظَةُ مُضَافَةً إِلَى الْمُتَّقِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَهَذَا خَاصٌّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
[في شأن النزول الآيات] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّشْدِيدَاتِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَ قَرِيبًا لِكَيْ يَرِثَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فِي مَجْمَعِ الطَّرِيقِ ثُمَّ شَكَا ذَلِكَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاجْتَهَدَ مُوسَى فِي تَعَرُّفِ الْقَاتِلِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ قَالُوا لَهُ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ، فَسَأَلَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَاسْتَقْصَوْا فِي طَلَبِ الْوَصْفِ فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجِدُوهَا بِذَلِكَ النَّعْتِ إِلَّا عِنْدَ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَبِعْهَا إِلَّا بِأَضْعَافِ ثَمَنِهَا، فَاشْتَرَوْهَا وذبحوها وأمرهم
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِيلَامَ وَالذَّبْحَ حَسَنٌ وَإِلَّا لَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَنَا وَجْهُ الْحُسْنِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِأَجْلِ الْأَعْوَاضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ، وَقَالَ مُنْكِرُو الْعُمُومِ: إِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ اذْبَحْ بَقَرَةً. يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: اذْبَحْ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَأْنِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ وَيَصِحُّ أَيْضًا/ أَنْ يُقَالَ اذْبَحْ بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، فَإِذَنِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِكَ «اذْبَحْ» مَعْنًى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَإِذَنْ قَوْلُهُ اذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: اذْبَحُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ الْعُمُومَ لَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ تَكْرِيرًا وَلَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً نَقْضًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فاذبحوا بَقَرَةً كَالنَّقِيضِ لِقَوْلِنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَقَوْلُنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ النَّفْيَ الْعَامَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا اذْبَحُوا بَقَرَةً يَرْفَعَ عُمُومَ النَّفْيِ وَيَكْفِي فِي ارْتِفَاعِ عُمُومِ النَّفْيِ خُصُوصُ الثُّبُوتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْإِطْلَاقُ فِي ذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا فَذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنَ اللَّفْظِ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
بَقَرَةً لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُنْكَرَةٌ وَالْمُفْرَدُ الْمُنَكَّرُ إِنَّمَا يُفِيدُ فَرْدًا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ فَرْدًا أَيَّ فَرْدٍ كَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَثْبُتُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْبَحْ بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحْ أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أن قوله تعالى: اذبحوا بَقَرَةً هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّنَةٍ أَوْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَالَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهَا مَا كَانَتْ مُبَيَّنَةً، وَقَالَ الْمَانِعُونَ مِنْهُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوا تَغَيُّرَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ الْأَوَّلَ كَانَ كَافِيًا لَوْ أَطَاعُوا وَكَانَ التخيير في جنس البقرة إِذْ ذَاكَ هُوَ الصَّلَاحَ، فَلَمَّا عَصَوْا وَلَمْ يَمْتَثِلُوا وَرَجَعُوا بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَغَيُّرُ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْمُشَاهَدِ، لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوَلَدِهِ قَدْ يَأْمُرُهُ بِالسَّهْلِ اخْتِيَارًا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَقَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّعْبِ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ وما لَوْنُها وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ،... إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ،... إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا أُمِرُوا بِذَبْحِهِ مِنْ قَبْلُ وَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا كَانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، بَلْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ
فَإِنْ قِيلَ أَمَّا الْكِنَايَاتُ فَلَا نُسَلِّمُ عَوْدَهَا إِلَى الْبَقَرَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ لَوْ كَانَتْ عَائِدَةً إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لَبَقِيَ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ غَيْرَ مُفِيدٍ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: بَقَرَةٌ صَفْراءُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ آخَرَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْكِنَايَاتِ عَائِدَةً إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْمَحْذُورُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِرُجُوعِ الْكِنَايَةِ إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَجِبُ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ جَرَى ذِكْرُهُ وَالْقِصَّةُ وَالشَّأْنُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُمَا فَلَا يَجُوزُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَيْهِمَا لَكِنَّا خَالَفْنَا هَذَا الدَّلِيلَ لِلضَّرُورَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: ما لَوْنُها، وما هِيَ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْبَقَرَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَائِلِينَ مُعَانِدِينَ لَمْ يَكُنْ فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مَا يُزِيلُ الِاحْتِمَالَ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى أَنْ تَكُونَ بَقَرَةً صَفْرَاءَ مُتَوَسِّطَةً فِي السِّنِّ كَامِلَةً فِي الْقُوَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمَّا سَكَتُوا هَاهُنَا وَاكْتَفَوْا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعَانِدِينَ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّعْنِيفَ عَلَى طَلَبِ الْبَيَانِ بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْمَدْحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ:
فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عَلِمْنَا تَقْصِيرَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى ذَبْحِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا بَيَّنَهَا لَكَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ذَبْحُ بَقَرَةٍ، أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهُمْ كَادُوا يُفَرِّطُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْبَيَانِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْأَخِيرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا عَلَى تَمَامِ الْبَيَانِ تَوَقَّفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَهُ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُعَارِضَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ دَلَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بَقَرَةٌ أَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَقُولَ: التَّكَالِيفُ مُغَايِرَةٌ فَكُلِّفُوا فِي الْأَوَّلِ: أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَثَانِيًا: أَنْ تَكُونَ لَا فَارِضًا وَلَا بِكْرًا بَلْ عَوَانًا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَا ذَلُولًا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: هُزُواً بِالضَّمِّ وَهُزْؤًا بِسُكُونِ الزَّايِ نَحْوَ كُفُؤًا وَكُفْءً وَقَرَأَ حَفْصٌ: (هُزُوًا) بِالضَّمَّتَيْنِ وَالْوَاوِ وَكَذَلِكَ كُفُوًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْهُزْءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَهْزُوءِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَيْ فِي مَعْلُومِهِ وَاللَّهُ رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :(أتتخذنا هزؤاً) أَتَجْعَلُنَا مَكَانَ هُزْءٍ أَوْ أَهْلَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوءًا بِنَا وَالْهُزْءُ نَفْسُهُ فَرْطُ الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَوْمُ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ مُوسَى:
اذْبَحُوا بَقَرَةً لَمْ يَعْرِفُوا بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَذَلِكَ السُّؤَالِ مُنَاسَبَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُلَاعِبُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا فَيَصِيرُ حَيًّا فَلَا جَرَمَ، وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْهُزْءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ كَيْفَ يَصِيرُ حَيًّا بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْبَقَرَةِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤاً لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ وَشَكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كُفْرٌ وَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَوَّزُوا الْخِيَانَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كُفْرٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزَةٌ فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُلَاعِبُهُمْ مُلَاعَبَةً حَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أَيْ مَا أَعْجَبَ هَذَا الْجَوَابَ كَأَنَّكَ تَسْتَهْزِئُ بِنَا لَا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا عَلَى مُوسَى الِاسْتِهْزَاءَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِهْزَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَمَنْصِبُ النُّبُوَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَسْتَعِذْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ مِثْلِ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازًا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَقْوَى. وَثَانِيهَا:
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِمَا فِي الِاسْتِهْزَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، فَإِنِّي متى
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤- ١٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَرَةِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُبَيِّنٍ التَّعْيِينَ حَسُنَ مَوْقِعُ سُؤَالِهِمْ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ وَالِاسْتِعْلَامُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْسَارِ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا صَارَ حَيًّا تَعَجَّبُوا مِنْ أَمْرِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ تِلْكَ الْبَقَرَةَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْخَاصَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً، فَلَا جَرَمَ اسْتَقْصُوا فِي السُّؤَالِ عَنْ وَصْفِهَا كَعَصَا مُوسَى الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِصِيِّ بِتِلْكَ الْخَوَاصِّ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَجِيبَةَ مَا كَانَتْ خَاصِّيَّةَ الْبَقَرَةِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَةً يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَافَ مِنَ الْفَضِيحَةِ، فَأَلْقَى الشُّبْهَةَ فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا مطلق البقرة، لما وقعت الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، رَجَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، فَسَأَلُوا طَلَبًا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ وَإِزَالَةً لِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَغَيَّرَتْ وَاقْتَضَتِ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ سُؤَالَ «مَا هِيَ» طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ «مَا» سُؤَالٌ، وَ «هِيَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَمَا هِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَلَبًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِ أَجْزَائِهَا وَمُقَدِّمَاتِهَا لَا بِذِكْرِ صِفَاتِهَا الْخَارِجَةِ عَنْ مَاهِيَّتِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ السِّنِّ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِهَذَا السُّؤَالِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا الْبَقَرُ طَلَبُ مَاهِيَّتِهِ وَشَرْحُ حَقِيقَتِهِ بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ طَلَبَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْبَقَرِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا حَسُنَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ وَسُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، وَالْبِكْرُ: الْفَتِيَّةُ وَالْعَوَانُ النَّصَفُ، قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْبِكْرُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ مَا لَمْ تَلِدْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ [الضَّبِّيُّ] : إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْفَارِضِ أَنَّهَا الْمُسِنَّةُ وَفِي الْبِكْرِ أَنَّهَا الشَّابَّةُ وَهِيَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَمِنَ الْإِبِلِ الَّتِي وَضَعَتْ بَطْنًا وَاحِدًا. قَالَ الْقَفَّالُ: الْبِكْرُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَمِنْهُ بُكْرَةُ النَّهَارِ وَيُقَالُ: بَكَّرْتُ عَلَيْهِمَا الْبَارِحَةَ إِذَا جَاءَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْأَظْهَرَ
الْعَوَانُ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَحَاجَةٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ عَلَى جَوَازٍ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَهَاهُنَا سؤالان:
الأول: لفظة «بين» تقتضي شيئين فصاعداًفمن أَيْنَ جَازَ دُخُولُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَيْئَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُشَارَ بِلَفْظَةِ: (ذَلِكَ) إِلَى مُؤَنَّثَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وَاحِدٍ مُذَكَّرٍ؟ الْجَوَابُ:
جَازَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ أَوْ مَا تَقَدَّمَ لِلِاخْتِصَارِ فِي الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ بِمَعْنَى مَأْمُورِكُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ كَوْنُ الْبَقَرَةِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِأَنَّهَا بَعْدُ مَا وَصَلَتْ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَالْمُسِنَّةُ كَأَنَّهَا صَارَتْ نَاقِصَةً وَتَجَاوَزَتْ عَنْ حَدِّ الْكَمَالِ، فأما المتوسطة فهي التي تكوى فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا حَالَ السِّنِّ شَرَعُوا بَعْدَهُ فِي تَعَرُّفِ حَالِ اللَّوْنِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بأنها: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، والفقوع/ أشدها يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ، يُقَالُ فِي التَّوْكِيدِ أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَأَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَحْمَرُ قانٍ وأخضر ناضر، وهاهنا سؤالان:
الْأَوَّلُ: «فَاقِعٌ» هَاهُنَا وَاقِعٌ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ فَكَيْفَ يَقَعُ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَقَعْ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ إِنَّمَا وَقَعَ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ إِلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ اللَّوْنُ بِهِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَاللَّوْنُ سَبَبُهَا وَمُلْتَبِسٌ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ:
صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلَّا قِيلَ صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ اللَّوْنِ؟ الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جِدُّ جِدِّهِ وَجُنُونُ مَجْنُونٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ لِحُسْنِ لَوْنِهَا تَسُرُّ مِنْ نَظَرِ إِلَيْهَا، قَالَ الْحَسَنُ:
الصَّفْرَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّوْدَاءِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَصْفَرَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الدخان: كأنه جمالات صُفْرٌ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٣] أَيْ سُودٌ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ الْأَصْفَرَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَيْضًا السَّوَادُ لَا يُنْعَتُ بِالْفُقُوعِ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا السُّرُورُ فَإِنَّهُ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْرِضُ عِنْدَ حُصُولِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِحُصُولِ شَيْءٍ لَذِيذٍ أَوْ نَافِعٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّالِثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وَهَاهُنَا مسائل:
قَالَ الْحَسَنُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَدًا»،
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ يُرَادُ تَحْصِيلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: ٢٣]، وَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ بِأَسْرِهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ اهْتِدَاءَهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِقَوْلِنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ دُخُولَ كَلِمَةِ «إِنْ» عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حُصُولَ الِاهْتِدَاءِ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الِاهْتِدَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيًّا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَشِيئَةُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيَّةً. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَفِيهِ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا: مَا هُوَ طَلَبُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ الصِّفَاتُ الْعَرَضِيَّةُ الْمُفَارَقَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَقَرَ الْمَوْصُوفَ بِالتَّعْوِينِ وَالصُّفْرَةِ كَثِيرٌ فَاشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَيُّهَا نَذْبَحُ، وَقُرِئَ تَشَابَهُ بِمَعْنَى تَتَشَابَهُ بِطَرْحِ التَّاءِ وَإِدْغَامِهَا فِي الشِّينِ وَ [قُرِئَ] تَشَابَهَتْ وَمُتَشَابِهَةٌ وَمُتَشَابِهٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ. أَحَدُهَا: وَإِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا عِنْدَ تَحْصِيلِنَا أَوْصَافَهَا الَّتِي بها تمتاز عَمَّا عَدَاهَا. وَثَانِيهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْرِيفَهَا إِيَّانَا بِالزِّيَادَةِ لَنَا فِي الْبَيَانِ نَهْتَدِي إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هُدًى فِي اسْتِقْصَائِنَا فِي السُّؤَالِ عَنْ أَوْصَافِ البقرة أي نرجو أَنَّا لَسْنَا عَلَى ضَلَالَةٍ فِيمَا نَفْعَلُهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ. وَرَابِعُهَا: إِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْقَاتِلِ إِذَا وَصَفْتَ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِمَا بِهِ تَمْتَازُ هِيَ عَمَّا سِوَاهَا ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ بمعنى لم تذلل للكراب وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ وَلَا هِيَ مِنَ الْبَقَرِ الَّتِي يُسْقَى عَلَيْهَا فَتَسْقِي الْحَرْثَ وَ «لَا» الْأُولَى لِلنَّفْيِ وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لِذَلُولٍ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ وَسَاقِيَةٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الذَّلُولَ بِالْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ يَظْهَرُ بِهِمَا النَّقْصُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مِنَ الْعُيُوبِ مُطْلَقًا. وَثَانِيهَا: مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ.
وَثَالِثُهَا: مُسَلَّمَةٌ أَيْ وَحْشِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ عَنِ الْحَبْسِ. وَرَابِعُهَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ لَوْنِهَا أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنِ اخْتِلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ بِهَا، وَهَذَا الرَّابِعُ ضَعِيفٌ وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلُهُ: لَا شِيَةَ فِيها تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ، بَلِ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ السَّلَامَةَ الْكَامِلَةَ عَنِ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ، وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُسَلَّمَةٌ إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ فَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طريق الظاهر.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فَالْمَعْنَى فَذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَمَا كَادُوا يَذْبَحُونَهَا، وَهَاهُنَا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرُوا «لِكَادَ» تَفْسِيرَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ نَفْيَهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهُ نَفْيٌ. فَقَوْلُنَا: كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَوْلُنَا: مَا كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أن يَفْعَلَ لَكِنَّهُ فَعَلَهُ. وَالثَّانِي:
وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ [الْجُرْجَانِيِّ] النَّحْوِيِّ أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُنَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنَ الْفِعْلِ وَقَوْلُنَا مَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الثَّانِي بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَعْنَاهُ وَمَا قَارَبُوا الْفِعْلَ وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يُنَاقِضُ إِثْبَاتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ كَادَ لِلْمُقَارَبَةِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْخٌ صَالِحٌ لَهُ عِجْلَةٌ فَأَتَى بِهَا الْغَيْضَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا لِابْنِي حَتَّى تَكْبُرَ وَكَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ فَشَبَّتْ وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَقَرِ وَأَسْمَنِهَا فَتَسَاوَمُوهَا الْيَتِيمَ وَأُمَّهُ حَتَّى اشْتَرَوْهَا بِمَلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبًا وَكَانَتِ الْبَقَرَةُ إِذْ ذَاكَ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا طَلَبُوا الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً «١».
الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبَقَرَةَ تُذْبَحُ وَلَا تُنْحَرُ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تُنْحَرُ، قَالَ: فَتَلَوْتُ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ سَوَاءٌ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ إِنْ شِئْتَ نَحَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ ذَبَحْتَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالذَّبْحِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوَا مَا يُسَمَّى ذَبْحًا وَالنَّحْرُ وَإِنْ أَجْزَأَ عَنِ الذَّبْحِ فَصُورَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ حَتَّى لَوْ نَحَرُوا وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ مَقَامَ الذَّبْحِ لَكَانَ لَا يُجْزِي.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ، فَعَنْ بَعْضِهِمْ لِأَجْلِ غَلَاءِ ثَمَنِهَا وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُمْ خَافُوا الشُّهْرَةَ وَالْفَضِيحَةَ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْإِحْجَامُ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مَا كَانَ يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ إِلَّا بِغَلَاءٍ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَلَوْلَاهُ لَلَزِمَ ذَلِكَ إِذَا وَجَبَ التَّطَهُّرُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ فَذَاكَ لَا يَرْفَعُ التَّكْلِيفَ، فَإِنَّ الْقَوَدَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ إِذَا طَالَبَ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ التعريف
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ التَّثَاقُلَ فِيهِ وَالتَّكَاسُلَ فِي الِاشْتِغَالِ بِمُقْتَضَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ.
قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَأْمُورِ إِزَالَةَ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِذَبْحِهَا لِكَيْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ وَالشَّرُّ الْمُخَوِّفُ فِيهِمْ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا الْجِنْسِ الضَّارِّ وَاجِبٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلَاجُ إِزَالَتَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ صَارَ واجباً وأيضاً فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقُرْبَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا سَبِيلَ الْوُجُوبِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ كَفَاهُمْ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَأَقُولُ: حَاصِلُ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ واحد وهو أنا وإنا كُنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْضًا فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْوُجُوبَ هَاهُنَا بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْأَمْرِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجِبٌ، أَوْ مَقَالِيَّةٌ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْبَانَ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَذْكُورَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَلَمَّا ذُكِرَ الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الذَّبْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْشَأَ ذَلِكَ هُوَ مُجَرَّدُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ وَرَدَ التَّعْنِيفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَوْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ. أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تكون متقدمة على الأول فِي الْوُجُودِ، فَأَمَّا التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ تَارَةً يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي هَذَا النَّظْمِ، وَلَكِنَّ النَّظْمَ الْآخَرَ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْجِيحِ هَذَا النَّظْمِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا قُدِّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ عَلَى عَكْسِهِ لَكَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً لَذَهَبَ الْغَرَضُ مِنْ بَيْنِيَّةِ التَّفْرِيعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: اخْتَلَفْتُمْ وَاخْتَصَمْتُمْ فِي شَأْنِهَا لِأَنَّ الْمُتَخَاصِمِينَ يَدْرَأُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ يُدَافِعُهُ وَيُزَاحِمُهُ. وَثَانِيهَا: «ادَّارَأْتُمْ» أَيْ يَنْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُضِيفُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَثَالِثُهَا: دَفْعُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا عَنِ الْبَرَاءَةِ وَالتُّهْمَةِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ/ فِيهِ أَنَّ الدَّرْءَ هُوَ الدَّفْعُ. فَالْمُتَخَاصِمُونَ إِذَا تَخَاصَمُوا فَقَدْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ التُّهْمَةَ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ عَنْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ فِي إِسْنَادِ تِلْكَ التُّهْمَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَحَجَّةَ صَاحِبِهِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْهُ، قَالَ الْقَفَّالُ:
وَالْكِنَايَةُ فِي (فِيهَا) لِلنَّفْسِ، أَيْ فَاخْتَلَفْتُمْ فِي النَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْقِتْلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَتَلْتُمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ.
كَيْفَ أُعْمِلَ «مُخْرِجٌ» وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ؟ قُلْنَا: قَدْ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي وَقْتِ التَّدَارُءِ كَمَا حَكَى الْحَاضِرُ فِي قَوْلِهِ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: ١٨] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُمَا «ادَّارَأْتُمْ، فَقُلْنَا» ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حُكِمَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي بَابِ الْقَتْلِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْفَسَادِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيلَ هَذَا الْكِتْمَانَ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْفَسَادُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَخْلُقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ عَلَى إِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُهُ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ»
وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُخْفُونَ لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا لَهُمْ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَكْتُومَاتِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَاحِبَ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدَهَا، ثُمَّ ذُبِحَتْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
لِلتَّعْقِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
حَصَلَ عَقِيبَ قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ
ضَمِيرٌ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّذْكِيرُ عَلَى تَأْوِيلِ الشَّخْصِ وَالْإِنْسَانِ وَإِمَّا إِلَى الْقَتِيلِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِذَبْحِهَا مَصْلَحَةٌ/ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَبْحِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا لَمَا وَجَبَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ عَلَى التَّخَيُّرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَرْبِ الْمَقْتُولِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَهُ ابْتِدَاءً؟
الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ أَوْكَدَ وَعَنِ الْحِيلَةِ أَبْعَدَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ لِمُلْحِدٍ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَحْيَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ السِّحْرِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا حيي عند ما يُضْرَبُ بِقِطْعَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ انْتَفَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْيَ بِشَيْءٍ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ إِنَّمَا حَيِيَ بِفِعْلٍ فَعَلُوهُ هُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا بِتَمْوِيهٍ مِنَ الْعِبَادِ وَأَيْضًا فَتَقْدِيمُ الْقُرْبَانِ مِمَّا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْبَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ مَا هُوَ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي أَبْعَاضِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَأَيُّ بَعْضٍ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَقَرَةِ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ فَقِيلَ: لِسَانُهَا وَقِيلَ: فَخْذُهَا الْيُمْنَى وَقِيلَ: ذَنَبُهَا وَقِيلَ: الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَهُوَ أَصْلُ الْآذَانِ، وَقِيلَ: الْبِضْعَةُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّكُوتُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
وَعَلَيْهِ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: ٦٠] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، وَقَالَ قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَفُلَانٌ لا بني عَمِّهِ ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا: وَقُتِلَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجهان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ احْتِجَاجٌ فِي صِحَّةِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ هذا الِاحْتِجَاجُ أَهْوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ قَدْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلِمُوا صِحَّةَ الْإِعَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ دِاعِيَةً لَهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَأَنَّهُ سَبَبُ إحياء ذلك/ الميت، ثم قال: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَجَمَعَ الْمَوْتى
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَا جَمَعَ فِي الْقَوْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ فِي قُدْرَتِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْمَوْتَى يَكُونُ مِثْلَ هَذَا الْإِحْيَاءِ الَّذِي شَاهَدْتُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهُ، فَإِذَا شَاهَدُوهُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَانْتَفَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا الْمُسْتَدِلُّ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦] فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتِيلَ عَيَانًا، ثُمَّ قَالَ لهم: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أَيْ كَالَّذِي أَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا يُحْيِي فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِي ذَلِكَ الْإِيجَادِ إِلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ وَمِثَالٍ وَآلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَاسَ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْقَتِيلِ مَيِّتًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ آيَةً وَاحِدَةً فَلِمَ سُمِّيَتْ بِالْآيَاتِ؟
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» قَدْ تَقَدَّمَ تفسيرها في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُقَلَاءَ قَبْلَ عَرْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ حَاصِلًا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْكَ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ لِكَيْ تَصِيرَ عَاقِلًا، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَعَلَّكُمْ تَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، حَتَّى لَا يُنْكِرُوا الْبَعْثَ، هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا؟ قَالُوا: لَا. لِأَنَّهُ روي عن عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ قَاتِلًا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَاتِلًا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ كَانَ وَارِثًا لِقَتِيلِهِ أَمْ لَا؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهُ فَهَلْ حُرِمَ الْمِيرَاثَ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ يَجِبُ إِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَاتِلَ حُرِمَ لِمَكَانِ قَتْلِهِ الْمِيرَاثَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مُجْمَلًا وَلَا مُفَصَّلًا، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَشَرْعِنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، فَإِدْخَالُ هَذَا الْكَلَامِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ تَعَسُّفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْعَادِلِ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَا يَرِثُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، وَكَذَا الْقَاتِلُ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَرِثُهُ لَا من ديته ولا من سائر أمواله، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ وَقَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرِثُهُ مِنْ دِيَتِهِ وَيَرِثُهُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ الْمُسْتَفِيضِ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ»
إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ يُفِيدُ نَوْعَ ضَعْفٍ فَلَوْ خَصَّصْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَوَالَى عَلَيْهِ أَسْبَابُ الضَّعْفِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ خَبَرَ وَاحِدٍ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَكَوْنَهُ عَلَى مُصَادَمَةِ الْكِتَابِ سَبَبٌ آخَرُ وَكَوْنَهُ مَخْصُوصًا سَبَبٌ آخَرُ، فَلَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ بِهِ لَكُنَّا قَدْ رَجَّحْنَا الضَّعِيفَ جِدًّا عَلَى الْقَوِيِّ جِدًّا. أَمَّا إِذَا لَمْ يُخَصَّصْ هَذَا الْخَبَرُ أَلْبَتَّةَ انْدَفَعَ عَنْهُ بَعْضُ أَسْبَابِ الضَّعْفِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ قَوَدًا أَنَّهُ لَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يمنعون هذه الصورة والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّيْءُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ بِأَصْلِ ذَاتِهِ أَنْ يَقْبَلَ الْأَثَرَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ ثُمَّ إِنَّهُ عَرَضَ لِذَلِكَ الْقَابِلِ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ الْأَثَرَ فَيُقَالُ لِذَلِكَ الْقَابِلِ: إِنَّهُ صَارَ صُلْبًا غَلِيظًا قَاسِيًا، فَالْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِسْمٌ يَقْبَلُ الْأَثَرَ عَنِ الْغَيْرِ إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الْحَجَرِيَّةِ لَمَّا عَرَضَتْ لِلْجِسْمِ صَارَ/ جِسْمُ الْحَجَرِ غَيْرَ قَابِلٍ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ مُطَالَعَةِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَتَأَثُّرُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَضَ لِلْقَلْبِ عَارِضٌ أَخْرَجَهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ شَبِيهًا بِالْحَجَرِ فَيُقَالُ: قَسَا الْقَلْبُ وَغَلُظَ، وَلِذَلِكَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرِّقَّةِ فَقَالَ: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزُّمَرِ: ٢٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: قُلُوبُكُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيِ اشْتَدَّتْ قُلُوبُكُمْ وَقَسَتْ وَصَلَبَتْ مِنْ بَعْدِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَتْ أَوَائِلَكُمْ وَالْأُمُورُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْعِقَابُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ وَالْآيَاتُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُمْ وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي أَخَذُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ دَانَ بِالتَّوْرَاةِ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ طُغْيَانِهِمْ وَجَفَائِهِمْ مَعَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي تَلِينُ عِنْدَهَا الْقُلُوبُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خُصُوصًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ سَلَفِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ بَعْدِ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدَ ضربه بعض الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ حَتَّى عُيِّنَ الْقَاتِلُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَّا عَيَّنَ الْقَاتِلَ نَسَبَهُ الْقَاتِلُ إِلَى الْكَذِبِ وَمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ، بَلْ طَلَبَ الْفِتْنَةَ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ جَمْعٌ، فَعِنْدَهُ قَالَ تَعَالَى وَاصِفًا لَهُمْ: إِنَّهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَيْ صَارَتْ قُلُوبُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَسْوَةِ كَالْحِجَارَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ مَا عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي أَظْهَرُهَا عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لَهَا مَا خَلَوْا مِنَ الْعِنَادِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي أَخْبَارِهِمْ فِي التِّيهِ لِمَنْ نَظَرُ فِيهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ «أَوْ» لِلتَّرْدِيدِ وَهِيَ لَا تَلِيقُ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا:
أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] بِمَعْنَى وَيَزِيدُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ [النُّورِ: ٣١] وَالْمَعْنَى وَآبَائِهِنَّ وَكَقَوْلِهِ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ [النُّورِ: ٦١] يَعْنِي وَبُيُوتَ آبَائِكُمْ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طَهَ: ٤٤]، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً [الْمُرْسَلَاتِ: ٥، ٦]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبْهِمَهُ عَلَى الْعِبَادِ فَقَالَ ذَلِكَ كما
فو الله مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ | أَمِ الْقَوْمُ أَوْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«أَشُدُّ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، إِمَّا عَلَى معنى أو مثل: «أَشَدُّ قَسْوَةً» فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَإِمَّا عَلَى أَوْ هِيَ أَنْفُسُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَوْ كَانَتْ عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كَمَا قَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: ٢١]. وَثَانِيهَا:
أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَ فِيهَا امْتِنَاعٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِيهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ قَاسِيَةً بَلْ هِيَ مُنْصَرِفَةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ تَسْخِيرِهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي اتِّصَالِ الْآيَاتِ عِنْدَهُمْ وَتَتَابُعِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ لِمَعْرِفَةِ حَقِّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَامِ: ٣٩] كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أُمَمٌ سُخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِشَيْءٍ وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، لِأَنَّ الْأَحْجَارَ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَظْهَرُ مِنْهَا الْمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَمَّا قُلُوبُ هَؤُلَاءِ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ وَلَا تَلِينُ لِطَاعَةِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ فِيهِمُ الدَّوَامَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَمُّهُمْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاطَبَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الصَّلَابَةَ فِي الْحِجَارَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي قُلُوبِنَا الْقَسْوَةَ وَالْخَالِقُ فِي الْحِجَارَةِ انْفِجَارَ الْأَنْهَارِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَنْقُلَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِينَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَعُذْرُنَا ظَاهِرٌ لَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ أَوْكَدَ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّمَطُ مِنَ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرًا وَتَفْرِيعًا مِرَارًا وَأَطْوَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: أَشَدُّ قَسْوَةً وَلَمْ يَقُلْ أَقْسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قَصَدَ وَصْفَ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَقُرِئَ «قَسَاوَةً» وَتُرِكَ ضَمِيرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ/ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ وَعَمْرٌو أَكْرَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضَّلَ الْحِجَارَةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُوجَدُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّفَجُّرُ التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، يُقَالُ: انْفَجَرَتْ قُرْحَةُ فُلَانٍ، أَيِ انْشَقَّتْ بِالْمُدَّةِ وَمِنْهُ الْفَجْرُ وَالْفُجُورُ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «يَنْفَجِرُ» بِمَعْنَى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَنْشَقُّ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي حَتَّى تَكُونَ مِنْهُ الْأَنْهَارُ. قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْأَنْهَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ عَنْ أَبْخِرَةٍ تَجْتَمِعُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَرْضِ رَخْوًا انْشَقَّتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ وَانْفَصَلَتْ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَرْضِ صُلْبًا حَجَرِيًّا اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ، وَلَا يَزَالُ يَتَّصِلُ تَوَالِيهَا بِسَوَابِقِهَا حَتَّى تَكْثُرَ كَثْرَةً عَظِيمَةً فَيَعْرِضَ حِينَئِذٍ مِنْ كَثْرَتِهَا وَتَوَاتُرِ مَدِّهَا أَنْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ وَتَسِيلَ تِلْكَ الْمِيَاهُ أَوْدِيَةً وَأَنْهَارًا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، أَيْ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَنْصَدِعُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ فَيَكُونُ عَيْنًا لَا نَهْرًا جَارِيًا، أَيْ أَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ تَنْدَى بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ وَبِالْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلُ تَفَاوُتِ الرُّطُوبَةِ فِيهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَكْثُرُ فِي حَالٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَا يَجْرِي مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَقَدْ تُقِلُّ، وَهَؤُلَاءِ قُلُوبُهُمْ فِي نِهَايَةِ الصَّلَابَةِ لَا تَنْدَى بِقَبُولِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَلَا تَنْشَرِحُ لِذَلِكَ وَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَشَّقَّقُ أَيْ يَتَشَقَّقُ، فَأُدْغِمَ التاء كقوله: يَذَّكَّرُ أي يتذكر وقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: ١]، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرِ: ١]. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ الْهُبُوطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَالْحَجَرُ جَمَادٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيهِ، فَلِهَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا فِي هذه الآية وجوهاً. أحدها: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّ مِنْها رَاجِعٌ إِلَى القلوب، فإنه يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخَشْيَةُ وَالْحِجَارَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخَشْيَةُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقُلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِجَارَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحِجَارَةَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ لَائِقًا بِالْقُلُوبِ دُونَ الْحِجَارَةِ وَجَبَ رُجُوعُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَى الْقُلُوبِ دُونَ الْحِجَارَةِ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ تَعَالَى فَذَكَرَ حَالَ الْحِجَارَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فَيَجِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهَا، الثَّانِي: أَنَّ الْهُبُوطَ يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ لَا بِالْقُلُوبِ، فَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْحِجَارَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَتْ حَيَّةً عَاقِلَةً، بَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ جَبَلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَقَطَّعَ وَتَجَلَّى/ لَهُ رَبُّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ فِيهِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالْإِدْرَاكَ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا، قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فُصِّلَتْ: ٢١]، فَكَمَا جُعِلَ الْجِلْدُ يَنْطِقُ وَيَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، فَكَذَلِكَ الْجَبَلُ وَصَفَهُ بِالْخَشْيَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: ٢١]، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ فِيهِ الْعَقْلَ والفهم لصار كذلك،
وروي أنه حن الجزع لِصُعُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْوَحْيُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِهِ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ الْأَحْجَارُ وَالْأَشْجَارُ، فَكُلُّهَا كَانَتْ تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالُوا: فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُخْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْجَارِ عَقْلٌ وَفَهْمٌ حَتَّى تَحْصُلَ الْخَشْيَةُ فِيهِ، وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمَا أَنَّ عِنْدَهُمُ الْبِنْيَةَ وَاعْتِدَالَ الْمِزَاجِ شَرْطُ قَبُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبِنْيَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِمْ.
بَخِيلٌ تَضِلُّ الْبُلْقُ مِنْ حجراته | ترى الأكم فيه سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ |
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ | سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ |
[النَّحْلِ: ٤٩] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: ٦]. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَنْزِلُ وَمَا يَنْشَقُّ وَيَتَزَايَلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، عِنْدَ الزَّلَازِلِ مِنْ أَجْلِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ بِذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِهِ لَهُ وَفَزَعِهِمْ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ إِهْبَاطِ الْأَحْجَارِ فِي الزَّلَازِلِ الشَّدِيدَةِ أَنْ تَحْصُلَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَلِمَةُ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَيْ بِسَبَبِ أَنْ تَحْصُلَ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْحِجَارَةَ بِالْبَرْدِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنَ السَّحَابِ تَخْوِيفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِيَزْجُرَهُمْ بِهِ. قَالَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: / مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَيْ يَنْزِلُ بِالتَّخْوِيفِ لِلْعِبَادِ أَوْ بِمَا يُوجِبُ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ كَذَا وَتَحْلِيلِ كَذَا أَيْ بِإِيجَابِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيلُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ الْبَرْدَ لَا يُوصَفُ بِالْحِجَارَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمِرْصَادِ لِهَؤُلَاءِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَحَافِظٌ لِأَعْمَالِهِمْ مُحْصِي لَهَا فَهُوَ يُجَازِيهِمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٤] وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ كَبِيرٌ لِيَنْزَجِرُوا. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ؟
قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُوهِمُ جَوَازَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الصِّفَةِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ صِحَّتِهَا عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥]، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٥]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
[البقرة: ٧٣] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَقَبُولِهِمُ الْإِيمَانَ مِنْهُ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عِنَادِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، فَقَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَخْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْعِنَادِ الْعَظِيمِ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِلَّةِ الْقَبُولِ وَالِاسْتِجَابَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِجَابَةِ وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ، لَكِنَّا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ لِهَذِهِ الْقَرِينَةِ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَدَعَا الْيَهُودَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَّبُوهُ فَأَنْزَلَ الله
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدُّعَاءِ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُظْهِرُ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ الرَّسُولَ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الطَّمَعُ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا وَخِلَافُهُ لِأَنَّ الطَّمَعَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْوَاقِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِبْعَادِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَّصَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْكُلِّ، وَمَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى يَدِهِ وَظُهُورِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُتَمَرِّدِينَ. الثَّانِي: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُظْهِرُوا التَّصْدِيقَ وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْحَقَّ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، بَلْ غَيَّرَهُ وَبَدَّلَهُ. الثَّالِثُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمْ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ يُعَانِدُونَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [العنكبوت: ٢٦] الْجَوَابُ: أَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُمْ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تعالى:
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ لَمَّا أَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ وَبِتَصْدِيقِهِ، وَيَجُوزُ أَنَّ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَجْلِكُمْ وَلِأَجْلِ تَشَدُّدِكُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْفَرِيقَ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ. وَالَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ الله هم أَهْلُ الْمِيقَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقَ الطَّمَعُ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا الْمِيقَاتَ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ قَدْ يَجُوزُ فِيمَنْ سَمِعَ التَّوْرَاةَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ لِأَحَدِنَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّحْرِيفُ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّحْرِيفِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ [الْأَنْفَالِ: ١٦] وَالتَّحْرِيفُ هُوَ إِمَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِّهِ، يُقَالُ:
قَلَمٌ مُحَرَّفٌ إِذَا كَانَ رَأْسُهُ قَطُّ مَائِلًا غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ التَّحْرِيفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَحَمْلُ التَّحْرِيفِ عَلَى تَغْيِيرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى جِهَتِهِ وَغَيَّرُوا تَأْوِيلَهُ فَإِنَّمَا يَكُونُونَ مُغَيِّرِينَ لِمَعْنَاهُ لَا لِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُمْ زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْيِيرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنْ كَانَ التَّنْزِيلُ ثَابِتًا،
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُحَرِّفِينَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا لَا يَتَّصِلُ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى بِالطُّورِ وَمَا أُمِرَ بِهِ مُوسَى وَمَا نُهِيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالُوا: سَمِعْنَا اللَّهَ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَافْعَلُوا وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: الْمُحَرِّفُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيفُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنَّهُمْ حَرَّفُوا نَعْتَ الرَّسُولِ وَصَفْتَهُ أَوْ لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا الشَّرَائِعَ كَمَا حَرَّفُوا آيَةَ الرَّجْمِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَيُّ شَيْءٍ حَرَّفُوا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ إِقْدَامِ الْبَعْضِ عَلَى التَّحْرِيفِ حُصُولُ اليأس من إيمان الباقين، فإن عند الْبَعْضِ لَا يُنَافِي إِقْرَارَ الْبَاقِينَ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ وَيَتَعَلَّمُونَهُ مِنْ قَوْمٍ هُمْ يَتَعَمَّدُونَ التَّحْرِيفَ عِنَادًا، فَأُولَئِكَ إِنَّمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا حَرَّفُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ وَالْمُقَلِّدَةُ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: كيف تفلح وأستاذك فلان! أَيْ وَأَنْتَ عَنْهُ تَأْخُذُ وَلَا تَأْخُذُ عَنْ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ فَقَالَ قَائِلُونَ: آيَسَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ لَهُ مِنْهُمْ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْعِنَادِ، قَالُوا: وَهُوَ كَمَا لَا نَطْمَعُ لِعَبِيدِنَا وَخَدَمِنَا أَنْ يَمْلِكُوا بِلَادَنَا. ثُمَّ إِنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بَلْ نَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ فَإِيمَانُ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُمْتَنِعٌ، فَحِينَئِذٍ تَعُودُ الْوُجُوهُ الْمُقَرِّرَةُ لِلْخَبَرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِصِحَّتِهِ وَفَسَادِ مَا خَلَقُوهُ فَكَانُوا مُعَانِدِينَ مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمْدِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِضَرْبٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] وَقَالَ تَعَالَى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦] [الأنعام: ٢٠] وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِهِمْ قِلَّةٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ مَا يَعْتَقِدُونَ لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَكْرَارٌ/ لَا فَائِدَةَ فِيهِ: أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الأول: من بعد ما عقلوه مُرَادَ اللَّهِ فَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا فَاسِدًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ غير مراد الله تعالى. الثاني: أَنَّهُمْ عَقَلُوا مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ يُكْسِبُهُمُ الْوِزْرَ وَالْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى تَعَمَّدُوا التَّحْرِيفَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ كَانَتْ قَسْوَتُهُمْ أَشَدَّ وَجَرَاءَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مِنْ قِبَلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ لَكَانَ لَا يَتَغَيَّرُ حَالَ الطَّمَعِ فِيهِمْ بِصِفَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرَهُمْ، وَلَمَا صَحَّ كَوْنُ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَمْرُهُمْ فِي الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ، وَزَوَالُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يَخْلُقَهُ فِيهِمْ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إِعْظَامُهُ تَعَالَى لِذَنْبِهِمْ فِي التَّحْرِيفِ مِنْ حَيْثُ فَعَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ لَكَانَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَوْ لَا يَعْلَمُوا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ وَإِضَافَتُهُ تَعَالَى التَّحْرِيفَ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ الْمُعَانِدَ فِيهِ أَبْعَدُ مِنَ الرُّشْدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْيَأْسِ مِنَ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يُفِيدُ زَوَالَ الطَّمَعِ فِي رُشْدِهِمْ لِمُكَابَرَتِهِمُ الْحَقَّ بعد العلم به.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُمْ: آمَنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ صَادِقٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ وَنَجِدُهُ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كِتَابِنَا، ثُمَّ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الرُّؤَسَاءُ لَهُمْ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ إِذَا اعْتَرَفَ بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَاعْتَرَفَ/ بِشَهَادَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا حُجَّةَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَمْنَعُ بَعْضًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ فُتِحَ عَلَى فُلَانٍ فِي عِلْمِ كَذَا أَيْ رُزِقَ ذَلِكَ وَسُهِّلَ لَهُ طَلَبُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَعَلُوا مُحَاجَّتَهُمْ بِهِ وَقَوْلَهُ هُوَ فِي كِتَابِكُمْ هَكَذَا مُحَاجَّةً عِنْدَ اللَّهِ، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هَكَذَا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ هَكَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ فِي رَبِّكُمْ لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِأَنَّهَا مُحَاجَّةٌ فِيهِ لِأَنَّهَا مُحَاجَّةٌ فِي دِينِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ يُحَاجُّوكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ التَّسَاؤُلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الْخَلَائِقِ فِي الْمَوْقِفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اعْتَرَافٍ بِالْحَقِّ ثُمَّ كَتَمَ كَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِنْكَارِ فَكَانَ الْقَوْمُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي انْكِشَافِ فَضِيحَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ:
إِنَّ الْمُحْتَجَّ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْتَجُّ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الْحُجَّةِ حُصُولَ السُّرُورِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ الْخَصْمِ وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ الدِّيَانَةَ وَالنَّصِيحَةَ، فَقَطْ لِيَقْطَعَ عُذْرَ خَصْمِهِ وَيُقَرِّرَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ عِنْدَ الْخَلْوَةِ قَدْ حَدَّثْتُمُوهُمْ
أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ لِمَا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَا مَطْمَعَ لَكُمْ فِي إِيمَانِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الحسن. وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عند ما خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَالُوا لَهُمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَرْجِعُ وَبَالُهُ عَلَيْكُمْ وَتَصِيرُونَ مَحْجُوجِينَ بِهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ فَخَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِذَلِكَ فَرَغَّبَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فَيَعْرِفُوا أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ حُلُولَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ نِفَاقِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، فَهَذَا الْكَلَامُ زَجْرٌ/ لَهُمْ عَنِ النِّفَاقِ، وَعَنْ وَصِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِكِتْمَانِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ: أَوَلَا يَعْلَمُ كَيْتَ وَكَيْتَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ زَاجِرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يُسِرَّ إِلَى إِخْوَانِهِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَشَأْنُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَعْجَبُ.
قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَزْجُرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَرِيقَةَ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ الْيَهُودِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا قَالُوهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَكُونُ إِلْزَامِيَّةً لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَبِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جَرَمَ لَزِمَهُمُ الِاعْتِرَافُ بِالنُّبُوَّةِ وَلَوْ مَنَعُوا إِحْدَى تَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَمَا تَمَّتِ الدَّلَالَةُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ أَعْظَمَ جُرْمًا وَوِزْرًا والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعِنَادِ وَأَزَالَ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، فَالْفِرْقَةُ الْأُولَى: هِيَ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ الْمُضِلَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْأُمِّيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْ لَا يُقِرُّ بِكِتَابٍ وَلَا بِرَسُولٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ وَهَذَا الثَّانِي أَصْوَبُ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ»
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «الْأَمَانِيُّ» جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَحَدُهَا: مَا تَخَيَّلَهُ الْإِنْسَانُ فَيُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وُقُوعَهُ وَيُحَدِّثُهَا بِكَوْنِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَعِدُ فَلَانًا وَيُمَنِّيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النِّسَاءِ: ١٢٠] فَإِنْ فَسَّرْنَا الْأَمَانِيَّ بِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَمَانِيَّ) إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِخَطَايَاهُمْ وَأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَمَا تُمَنِّيهِمْ أَحْبَارُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَثَانِيهَا: إِلَّا أَمانِيَّ إِلَّا أَكَاذِيبَ مُخْتَلِفَةً سَمِعُوهَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَبِلُوهَا عَلَى التَّقْلِيدِ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنِ دَأْبٍ فِي شَيْءٍ حَدَّثَ بِهِ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أَمْ تَمَنَّيْتَهُ أَمِ اخْتَلَقْتَهُ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَمانِيَّ أَيْ إِلَّا مَا يَقْرَءُونَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» والاشتقاق منى من، إِذَا قَدَّرَ لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَجُوزُ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِقُ وَالْقَارِئُ يُقَدِّرُ أَنَّ كَلِمَةَ كَذَا بَعْدَ كَذَا، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
حَمْلُهُ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١١١] أَيْ تَمَنِّيهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١٢٣] وَقَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الْجَاثِيَةِ: ٢٤] بِمَعْنَى يُقَدِّرُونَ وَيَخْرُصُونَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: حَمْلُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢] وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَلْيَقُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُونَهُ وَبِقَدْرِ مَا يُذْكَرُ لَهُمْ فَيَقْبَلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَحَادِيثُ وَالْأَكَاذِيبُ أَوِ الظَّنُّ وَالتَّقْدِيرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ نَادِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَمانِيَّ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ | وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِغَائِبِ |
فَقَالُوا: الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا كُلُّ مَكْرُوبٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّهُ مَسِيلُ صَدِيدِ أَهْلِ جَهَنَّمَ،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ».
قَالَ الْقَاضِي: «وَيْلٌ» يَتَضَمَّنُ نِهَايَةَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَهَذَا الْقَدْرُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَيْلُ عِبَارَةً عَنْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ عَنِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ كَتَبْتُ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ التَّأْكِيدُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُنْكِرُ مَعْرِفَةَ مَا كَتَبَهُ: يَا هَذَا كَتَبْتَهُ بِيَمِينِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَكْتُبُ هَذِهِ الْكِتَابَةَ وَيَكْسِبُ هَذَا الْكَسْبَ فِي غَايَةِ الرَّدَاءَةِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الدِّينِ وَأَضَلُّوا وَبَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِدُنْيَاهُمْ، فَذَنْبُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِمَا يَضُرُّ يَعْظُمُ إِثْمُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَيَضُمُّ إِلَى الْكَذِبِ الْإِضْلَالَ وَيَضُمُّ إِلَيْهِمَا حُبَّ الدُّنْيَا وَالِاحْتِيَالَ فِي تَحْصِيلِهَا وَيَضُمُّ إِلَيْهَا أَنَّهُ مَهَّدَ طَرِيقًا فِي الْإِضْلَالِ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَلِذَلِكَ عَظَّمَ تَعَالَى مَا فَعَلُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَتَبَةُ الْكِتَابِ وَالْآخَرُ: إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ، فَهَذَا الْوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْكَتَبَةِ أَوْ عَلَى إِسْنَادِ الْمَكْتُوبِ إِلَى اللَّهِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا؟ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ كَتَبَةَ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِلَةِ لِقَصْدِ الْإِضْلَالِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُنْكَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى نِهَايَةِ شَقَاوَتِهِمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْوِزْرِ الْقَلِيلِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَرْضَى بِالْعِقَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ النَّفْعِ الْحَقِيرِ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّحْرِيفَ دِيَانَةً بَلْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ طَلَبًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَ بِالتَّرَاضِي فهو محرم، لأن الذي كَانُوا يُعْطُونَهُ مِنَ الْمَالِ كَانَ عَلَى مَحَبَّةٍ وَرِضًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ كَتْبَتَهُمْ لِمَا كَتَبُوهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُهُمُ الْمَالَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَعَادَ ذِكْرَ الْوَيْلِ فِي الْكَسْبِ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْمُوعَهُمَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ الْعَظِيمَ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَكْسِبُونَ هَلِ الْمُرَادُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَى هَذِهِ الْكِتَابَةِ وَالتَّحْرِيفِ فَقَطْ أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ سَائِرُ مَعَاصِيهِمْ وَالْأَقْرَبُ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْكُلَّ، لَكِنَّ الَّذِي يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُقَيَّدْ كَسْبُهُمْ بِهَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَحْسُنِ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَأَوْلَى مَا يُقَيَّدُ/ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كِتَابَتَهُمْ لَيْسَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ
ذَلِكَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَهَا فِيهِمْ فَهَبْ أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ إِلَّا أَنَّ انْتِسَابَ الْفِعْلِ إِلَى الْخَالِقِ أَقْوَى مِنَ انْتِسَابِهِ إِلَى الْمُكْتَسِبِ فَكَانَ إِسْنَادُ تِلْكَ الْكَتْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهَا إِلَى الْعَبْدِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الْحَمْدَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهَا إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْكَتْبَةَ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لَهَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فهي أيضاً تكون كذلك والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ قَبَائِحِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَهُوَ جَزْمُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُهُمْ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً، وَهَذَا الْجَزْمُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِالْعَقْلِ الْبَتَّةَ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا، فَلِأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ يُسْتَحَقُّ بِهَا مِنَ اللَّهِ الْعِقَابُ الدائم، فلما دل العقل على ذلك احتج فِي تَقْدِيرِ الْعِقَابِ مُدَّةً ثُمَّ فِي زَوَالِهِ بَعْدَهَا إِلَى سَمْعٍ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَحَيْثُ تُوجَدُ الدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ لم يجز الجزم بدلك، وهاهنا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَيَّامِ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى الْعَشْرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَلَا تُضَافُ إِلَى مَا فَوْقَهَا. فَيُقَالُ: أَيَّامٌ خَمْسَةٌ وَأَيَّامٌ عَشَرَةٌ وَلَا يُقَالُ أَيَّامٌ أَحَدَ عَشَرَ إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣، ١٨٤] هِيَ أَيَّامُ الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَهِيَ أَزْيَدُ مِنَ الْعَشَرَةِ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَيَّامَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا فَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الْأَقَلُّ أَوِ الْأَكْثَرُ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ يَقُولُ أَحْمِلُهُ عَلَى أَقَلِّ الْحَقِيقَةِ فَلَهُ وَجْهٌ، وَمَنْ يَقُولُ عَشَرَةٌ يَقُولُ أَحْمِلُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَلَهُ وَجْهٌ، فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْوَاسِطَةِ أَعْنِي عَلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الْعَشَرَةِ وَأَزْيَدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدَدٌ أَوْلَى مِنْ عَدَدٍ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا جَاءَتْ فِي تَقْدِيرِهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهَا، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوهَا بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ فَاللَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ مَكَانَ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ/ لَيْسَ بَيْنَ كَوْنِ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَبَيْنَ كَوْنِ الْعَذَابِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُنَاسَبَةٌ وَمُلَازَمَةٌ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَعْصِيَةِ مُقَدَّرَةً بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهَا كَذَلِكَ. أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتَحِقُّ عَلَى عِصْيَانِهِ الْعِقَابَ الدَّائِمَ مَا لَمْ تُوجَدِ التَّوْبَةُ أَوِ الْعَفْوُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَزْدَادُ بِقَدْرِ النِّعْمَةِ. فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ خَارِجَةً عَنِ الْحَصْرِ وَالْحَدِّ لَا جَرَمَ كَانَتْ مَعْصِيَتُهُمْ عَظِيمَةً جِدًّا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَيَّامَ بِالْأَرْبَعِينَ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدُوا الْعِجْلَ فِيهَا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْكَلَامِ عَلَى السَّبْعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»،
فَمُدَّةُ الْحَيْضِ مَا يُسَمَّى أَيَّامًا وَأَقَلُّ عَدَدٍ يُسَمَّى أَيَّامًا ثَلَاثَةً وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةً، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ هاهنا: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً وفي آل عمران: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آل عمران: ٢٤] وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَتِ الْأُولَى مَعْدُودَةً وَالثَّانِيَةُ مَعْدُودَاتٍ وَالْمَوْصُوفُ فِي الْمَكَانَيْنِ مَوْصُوفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ «أَيَّامًا» ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْمَ إِنْ كَانَ مُذَكَّرًا فَالْأَصْلُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ التَّاءُ. يُقَالُ:
كُوزٌ وَكِيزَانُ مَكْسُورَةٌ وَثِيَابٌ مَقْطُوعَةٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا كَانَ الْأَصْلُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ الْأَلِفَ وَالتَّاءَ، يُقَالُ: جَرَّةٌ وَجِرَارٌ مَكْسُورَاتٌ وَخَابِيَةٌ وَخَوَابِي مَكْسُورَاتٌ. إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْجَمْعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِيمَا وَاحِدُهُ مُذَكَّرٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ نَادِرًا نَحْوَ حَمَّامٌ وَحَمَّامَاتٌ وَجَمَلٌ سِبَطْرٌ وَسِبَطْرَاتٌ وَعَلَى هَذَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وفِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ فَاللَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُودَةً وَفِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ الْفَرْعُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَهْدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْدِ وَالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَبَرُهُ سُبْحَانَهُ عَهْدًا لِأَنَّ خَبَرَهُ سُبْحَانَهُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنَّا بِالْقَسَمِ وَالنَّذْرِ، فَالْعَهْدُ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَّخَذْتُمْ لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، بَلْ هُوَ إِنْكَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى حُجَّةَ رَسُولِهِ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ/ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ الْجَزْمُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّ الْكَذِبَ صِفَةُ نَقْصٍ، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالْعَالِمُ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَبِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ مِنْهُ مُحَالٌ، فَلِهَذَا قَالَ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَهْدُ هُوَ الْوَعْدُ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، فَلَمَّا خَصَّ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ جَائِزٌ، ثُمَّ الْعَقْلُ يُطَابِقُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ لُؤْمٌ وَفِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ. قُلْنَا: الدَّلَالَةُ الْمَذْكُورَةُ قَائِمَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ وَعَدَ مُوسَى وَلَا سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التعذيب، لِأَنَّهُ لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنَّ ينكر على
أَحُدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَابَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عَقْلًا لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى الْإِثْبَاتِ أَوْ إِلَى النَّفْيِ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَاسَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِهِ جَائِزًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا، فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ قَوْلًا بِالْمَعْلُومِ لا بغير المعلوم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨١]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: «بَلَى» إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ، أَيْ بَلَى تَمَسُّكُمْ أَبَدًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠]، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١٢٣] وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ سَيِّئَةٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ فَحَالُهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ فَاعِلَهَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الخلود
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مُعَظَّمَاتِ الْمَسَائِلِ، ولنذكرها هاهنا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي وَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَطَعَ بِوَعِيدِهِمْ وَهُمْ فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْوَعِيدَ الْمُؤَبَّدَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ وَعِيدًا مُنْقَطِعًا وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ/ وَالْخَالِدِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا وَعِيدَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ يُنْسَبُ إِلَى مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُفَسِّرِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْفُو عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي وَلَكِنَّا نَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُ هَلْ يَعْفُو عَنْهُ أَمْ لَا، وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ أَحَدًا مِنْهُمْ مُدَّةً فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ أَبَدًا، بَلْ يَقْطَعُ عَذَابَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَكْثَرِ الْإِمَامِيَّةِ، فَيَشْتَمِلُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: فِي الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ، وَالْأُخْرَى: فِي أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْوَعِيدُ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى نَعْتِ الدَّوَامِ أَمْ لَا؟
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْوَعِيدِ وَلْنَذْكُرْ دَلَائِلَ الْمُعْتَزِلَةِ أَوَّلًا ثُمَّ دَلَائِلَ الْمُرْجِئَةِ الْخَالِصَةَ ثُمَّ دَلَائِلَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا عَلَى الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتِلْكَ الْعُمُومَاتُ عَلَى جِهَتَيْنِ.
بَعْضُهَا وَرَدَتْ بِصِيغَةِ «مَنْ» فِي معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع، [أنواع ما تمسكوا المعتزلة من عمومات القرآن] أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَآيَاتٌ، إِحْدَاهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ١٣] إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ١٤]، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ وَارْتَكَبَ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَقَتْلَ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَمَتَى حَمَلَ الْخَصْمُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ ثُمَّ الَّذِي يُبْطِلُ قَوْلَهُ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُدُودَهُ فِي الْمَوَارِيثِ ثُمَّ وَعَدَ مَنْ يُطِيعُهُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَعْصِيهِ فِيهَا، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا إِلَى الطَّاعَةِ فِيهَا مِمَّنْ يَكُونُ مُنْكِرًا لِرُبُوبِيَّتِهِ وَمُكَذِّبًا لِرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَتَرْغِيبُهُ فِي الطَّاعَةِ فِيهَا أَخَصُّ مِمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّاعَةِ فِيهَا وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَمَتَى كَانَ الْمُؤْمِنُ مُرَادًا بِأَوَّلِ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ بِآخِرِهَا، الثَّانِي: أنه قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُدُودُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ عَلَّقَ بِالطَّاعَةِ فِيهَا الْوَعْدَ وَبِالْمَعْصِيَةِ فِيهَا الْوَعِيدَ، فَاقْتَضَى سِيَاقُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْصِيَةِ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ تَعَدِّي حُدُودٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا كَانَ مَزْجُورًا بِهَذَا الْوَعِيدِ فِي تَعَدِّي هَذِهِ الْحُدُودِ فَقَطْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهَذَا الْوَعِيدِ لَمَا كَانَ مَزْجُورًا بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُرَادٌ بِهَا كَالْكَافِرِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْكَافِرِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ
ضَرَبْتُ عَبِيدِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ شَامِلًا لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ اخْتَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْ تَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ وَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ لَا مَحَالَةَ دُونَ الْمُؤْمِنِ، قُلْنَا: الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لَكِنَّهُ وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس المراد هاهنا تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَانْصَرَفَ قَوْلُهُ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إِلَى تِلْكَ الْحُدُودِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَزْجُورٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ/ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ غَيْرَ مَزْجُورٍ بِهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَعِيدِ بِهَا فَائِدَةٌ لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَتَعَدَّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِي الْحُدُودِ مَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فِي التَّعَدِّي لِتَضَادِّهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبَ الثَّنَوِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَيْسَ يُوجَدُ فِي الْمُكَلَّفِينَ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ٩٣]، دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١٢٣].
وخامسها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْأَنْفَالِ: ١٦].
وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨].
وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النِّسَاءِ: ٢٩، ٣٠]. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طه: ٧٤، ٧٥] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ الدَّائِمِ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ. وَتَاسِعُهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه: ١١١] وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ، وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ تَعْدَادِ الْمَعَاصِي: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الْفُرْقَانِ: ٦٨، ٦٩] بَيَّنَ أَنَّ الْفَاسِقَ كَالْكَافِرِ فِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ، إِلَّا مَنْ تَابَ مِنَ الْفُسَّاقِ أَوْ آمَنَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [النَّمْلِ: ٨٩، ٩٠] الْآيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا مَوْعُودٌ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: ٣٧- ٣٩]. وَالثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: ٢٣] الْآيَةَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ، وَالرَّابِعَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْآيَةَ، فَحَكَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: ٨٠] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَذَّبَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صِيغَةِ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ لَكَانَتْ إِمَّا مَوْضُوعَةً لِلْخُصُوصِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْخُصُوصِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَاءَ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالشَّرْطِ، لِأَنَّ عَلَى
جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا فَرْقٌ لِصِحَّةِ دُخُولِ زَيْدٍ فِي الْكَلَامَيْنِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْعَدَدِ يُخْرِجُ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا فَائِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلِ عَلَى الْعَدَدِ وَبَيْنَ الدَّاخِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: لَأَخْصِمَنَّ مُحَمَّدًا ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَيْسَ قَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ أَلَيْسَ قَدْ عُبِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ «١»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ دَلَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ: التَّمَسُّكُ فِي الْوَعِيدِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهِيَ فِي آيَاتٍ. إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: ١٤] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْجُبَّائِيَّ وَأَبَا الْحَسَنِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا طَلَبُوا الْإِمَامَةَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»
وَالْأَنْصَارُ سَلَّمُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ، لِأَنَّ قَوْلَنَا:
بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ إِمَامٍ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ. أَمَّا كَوْنُ كُلِّ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ يُنَافِي كَوْنَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ،
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمَّا هَمَّ بِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
احْتَجَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنِ اللَّفْظَ لَا يُفِيدُهُ بَلْ عَدَلَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ،
فَقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِلَّا بِحَقِّهَا»
وَإِنْ كَانَ الزَّكَاةُ مِنْ حَقِّهَا، وَثَانِيهَا: / أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يُؤَكَّدُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الِاسْتِغْرَاقَ، أَمَّا أَنَّهُ يُؤَكَّدُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: ٧٣] وَأَمَّا أَنَّهُ بَعْدَ التَّأْكِيدِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُ الْمُؤَكَّدِ فِي أَصْلِهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مسماة بالتأكيد
أنه عليه الصلاة والسلام أنكر عليه قوله هذا وقال له: ما أجهلك بلغة قومك «ما» لما لا يعقل.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا دَخَلَا فِي الِاسْمِ صَارَ الِاسْمُ مَعْرِفَةً، كَذَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِصَرْفِهِ إِلَى الْكُلِّ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ، وَأَمَّا صَرْفُهُ إِلَى مَا دُونَ الْكُلِّ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ يَبْقَى مَجْهُولًا. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا أَفَادَ جَمْعًا مَخْصُوصًا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قُلْتُ: هَذِهِ الْفَائِدَةُ كَانَتْ حَاصِلَةً بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا، أَفَادَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَتَمَيُّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ فَائِدَةً زَائِدَةً وَمَا هِيَ إِلَّا الِاسْتِغْرَاقُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنْهُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَخَامِسُهَا:
الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ فِي اقْتِضَاءِ الْكَثْرَةِ فَوْقَ الْمُنَكَّرِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ انْتِزَاعُ الْمُنَكَّرِ مِنَ الْمُعَرَّفِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يُقَالُ رَأَيْتُ الرِّجَالَ مِنْ رِجَالٍ، وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُنْتَزَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُنْتَزَعِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، إِمَّا الْكُلُّ أَوْ مَا دُونَهُ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَدَدٍ دُونَ الْكُلِّ إِلَّا وَيَصِحُّ انْتِزَاعُهُ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُنْتَزَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ مُفِيدًا لِلْكُلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي هَاشِمٍ، وَهِيَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُجُورَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَفِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ يَذْكُرُهَا النَّحْوِيُّونَ وَهِيَ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَيْسَتْ لَامَ تَعْرِيفٍ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُجَابُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: ٣٨]، وَكَمَا تَقُولُ الَّذِي يَلْقَانِي فَلَهُ دِرْهَمٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي دَخَلَتْ هَذِهِ اللَّامُ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْحَدِيدِ: ١٨] فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ بِمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ اصَدَّقُوا لَمَا صَحَّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كان قوله: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَجَرُوا فَهُمْ فِي الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: ٨٥، ٨٦] وَلَفْظُ الْمُجْرِمِينَ صِيغَةُ جَمْعٍ مُعَرَّفَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مَرْيَمَ: ٧٢] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ [النحل: ٦١] بَيَّنَ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ عِقَابَهُمْ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصْدُقُ أَنْ لَوْ حَصَلَ عِقَابُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ: صِيَغُ الْجُمُوعِ الْمَقْرُونَةُ بِحَرْفِ الَّذِي، فَأَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١، ٢]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠]. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] فَبَيَّنَ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ النُّصْرَةِ وَإِنْ كَانَ معترفاً بالله
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: ٣٣] فَبَيَّنَ مَا عَلَى الْفَاسِقِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧].
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٠] تَوَعُّدٌ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْعُمُومَاتِ: لَفْظَةُ «كُلٍّ» وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يُونُسَ: ٥٤] فَبَيَّنَ مَا يَسْتَحِقُّ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: ٢٨، ٢٩] بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ قَوْلُهُ فِي الْوَعِيدِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي إِزَاحَةِ الْعُذْرِ تَقْدِيمَ الْوَعِيدِ، أَيْ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوَعِيدِ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عِلَّةٌ وَلَا مَخْلَصٌ مِنْ عَذَابِهِ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ. أَمَّا عُمُومَاتُ الْأَخْبَارِ فَكَثِيرَةٌ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْمَذْكُورُ بِصِيغَةِ «مَنْ» أَحَدُهَا: مَا
رَوَى وَقَّاصُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أَكَلَ بِأَخِيهِ أَكْلَةً أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَخَذَ بِأَخِيهِ كِسْوَةً كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ»،
وَهَذَا نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْفَاسِقِ، وَمَعْنَى أَقَامَهُ: أَيْ جَازَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَثَانِيهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ وَذَا وَجْهَيْنِ كَانَ فِي النَّارِ ذَا لِسَانَيْنِ وَذَا وَجْهَيْنِ»
وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَثَالِثُهَا:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنْ/ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ،
وَرَابِعُهَا:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ السُّوءَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ الْفَاسِقِ الظَّالِمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ وَلَا مُسْلِمٍ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَخَامِسُهَا:
عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَرِيئًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ»،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى، وَالْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ مَنْ مَاتَ عَاصِيًا مَانِعًا وَلَمْ يُرِدِ التَّوْبَةَ وَلَمْ يَتُبْ عَنْهُ. وَسَادِسُهَا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَسَابِعُهَا:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي وَعِيدِ الْفَاسِقِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْرَبْهَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَثَامِنُهَا:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
وَتَاسِعُهَا:
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ».
وَعَاشِرُهَا:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً وَلَا ثَوَابًا وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَهَامَانَ وَفِرْعَوْنَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ».
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيُوجِبُ وَعِيدَ الْأَبَدِ، الْحَادِيَ عَشَرَ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُدْمِنَ خَمْرٍ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ»،
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِحْبَاطُ الْعَمَلِ، الثَّانِيَ عَشَرَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا بَطْنَهُ يَهْوِي فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ مُتَعَمِّدًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَرَدٍّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»،
الثَّالِثَ عَشَرَ:
عَنْ أَبِي ذر قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ خَابُوا وَخَسِرُوا؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا»،
يَعْنِي بِالْمُسْبِلِ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَرْحَمْهُ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَوُرُودُهُ فِي الْفَاسِقِ نَصٌّ فِي الْبَابِ، الرَّابِعَ عَشَرَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ/ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ».
الْخَامِسَ عَشَرَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
السَّادِسَ عَشَرَ:
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»،
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْوَعِيدِ وَنَصٌّ فِي أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْفُسَّاقِ كَوُرُودِهَا فِي الْكُفَّارِ، السَّابِعَ عَشَرَ:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
الثَّامِنَ عَشَرَ:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ مَعِيشَتِي مِنْ هَذِهِ التَّصَاوِيرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ وَمَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ يره كلف أن يعقد بين شعرتين».
التَّاسِعَ عَشَرَ:
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
الْعِشْرُونَ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُنَاظَرَتِهِ مَعَ عُثْمَانَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ قَاضِيًا يَقْضِي بِالْجَهْلِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ كَانَ قَاضِيًا يَقْضِي بِالْجَوْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ».
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»،
وَإِذَا كَانَ فِي
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»
وَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزُّخْرُفِ: ٧١].
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْعُمُومَاتِ الْإِخْبَارِيَّةِ الْوَارِدَةِ لَا بِصِيغَةِ «مَنْ» وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، الْأَوَّلُ:
عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِسْكِينٌ مُتَكَبِّرٌ وَلَا شَيْخٌ زَانٍ وَلَا مَنَّانٌ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ»،
وَمَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ: أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ».
الثَّالِثُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحِمَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ/ الْقَطِيعَةِ، قَالَ:
نَعَمْ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٣]،
وَهَذَا نَصٌّ فِي وَعِيدِ قَاطِعِ الرَّحِمِ وَتَفْسِيرِ الْآيَةِ،
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ).
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ».
الرَّابِعُ:
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ: «مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. قَالَ: فَمَا حَقُّهُمْ عَلَى اللَّهِ إذا فعلوا ذلك؟ قَالَ: أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُمْ إِذَا لَمْ يَعْبُدُوهُ. الْخَامِسُ:
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
السَّادِسُ:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ».
السَّابِعُ:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُبْغِضُ أَهْلَ الْبَيْتِ رَجُلٌ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ»،
وإذا استحقوا النار ببعضهم فَلَأَنْ يَسْتَحِقُّوهَا بِقَتْلِهِمْ أَوْلَى. الثَّامِنُ:
فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ خَيْبَرَ إِلَى أَنْ كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، فَبَيْنَمَا يَحْفَظُ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ وَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا له الجنة، قال رسول الله: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا».
فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: شِرَاكٌ مِنْ نار أو شراكين مِنَ النَّارِ.
التَّاسِعُ:
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَقَاطِعُ الرَّحِمِ وَمُصَدِّقُ السِّحْرِ».
الْعَاشِرُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ لَهُ مَالٌ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ صَفَائِحَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ».
هَذَا مَجْمُوعُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعُمُومَاتِ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ «مَنْ» فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ،
وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لَوْ أَفَادَتِ الْعُمُومَ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها، لأنها تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَحَيْثُ حَسُنَ إِدْخَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَيْهَا عَلِمْنَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ مَعْنَى العموم لا محالة، سلما أنها تفيد معنى وَلَكِنْ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً؟ الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّاسَ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ٢٣] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ إِفَادَةً ظَنِّيَّةً، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ إِفَادَةً قَطْعِيَّةً وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنِ اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؟، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: بَحَثْنَا فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ الْوِجْدَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ. وَإِذَا كَانَتْ إِفَادَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى نَفْيِ الْمُخَصِّصَاتِ، وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَانَتِ الدَّلَالَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الدَّلَالَةُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَقَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٦] حَكَمَ عَلَى كُلِّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ إِنَّا شَاهَدْنَا قَوْمًا مِنْهُمْ قَدْ آمَنُوا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِلشُّمُولِ أَوْ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ لِأَجْلِهَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْخُصُوصُ. وَأَمَّا ما كان هناك فلم يجوز مثله هاهنا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُخَصِّصِ، لَكِنَّ آيَاتِ الْعَفْوِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا وَالرُّجْحَانُ مَعَنَا لِأَنَّ آيَاتِ الْعَفْوِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ خَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ لَا مَحَالَةَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُخَصِّصُ وَلَكِنَّ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ وَهُوَ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ أَدْخَلُ فِي الْكَرْمِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْوَعِيدِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ وَغَالِبَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ تَرْجِيحُ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَعِيدَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَعْدَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالتَّحْصِيلِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُعَارِضُ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَا تَكُونُ قَاطِعَةً فِي الْعُمُومَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَرَدَتْ فِي الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُرَادُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ الْخَاصَّةُ فَقَطْ عَلِمْنَا أَنَّ/ إِفَادَتَهَا لِلْعُمُومِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الَّذِينَ قَطَعُوا بِنَفْيِ الْعِقَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
[النَّحْلِ: ٢٧] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ وَالْعَذَابِ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لِأَحَدٍ سِوَى الْكَافِرِينَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تعالى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: ٥٣]، حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَعْتَبِرِ التَّوْبَةَ وَلَا غَيْرَهَا، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِغُفْرَانِ كُلِّ الذُّنُوبِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرَّعْدِ: ٦] وَكَلِمَةُ «عَلَى» تُفِيدُ الْحَالَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْمَلِكَ عَلَى أَكْلِهِ، أَيْ رَأَيْتُهُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بالأكل، فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ اللَّهُ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالظُّلْمِ وَحَالُ الِاشْتِغَالِ بِالظُّلْمِ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَحْصُلُ الْغُفْرَانُ بِدُونِ التَّوْبَةِ وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ هُنَاكَ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْلِ: ١٤- ١٦]، وَكُلُّ نَارٍ فَإِنَّهَا مُتَلَظِّيَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّ النَّارَ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي هُوَ الْمُكَذِّبُ الْمُتَوَلِّي. الْخَامِسُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْمُلْكِ: ٨، ٩]، دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ مُكَذِّبٌ لَا يُقَالُ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ قَبْلَهُ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: ٦- ٩]، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّا نَقُولُ: دَلَالَةُ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لَا تَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ مَا بَعْدَهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سَبَأٍ: ١٧] وَهَذَا بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ فَوَجَبَ أن يختص بالكافر الأصلي. السابع:
أنه تعالى بعد ما أَخْبَرَ أَنَّ النَّاسَ صِنْفَانِ: بِيضُ الْوُجُوهِ وَسُودُهُمْ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] فَذَكَرَ أَنَّهُمُ الكفار. والثامن: أنه تعالى بعد ما جَعَلَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ، السَّابِقُونَ وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، بَيَّنَ أَنَّ السَّابِقِينَ وَأَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ فِي النَّارِ، ثُمَّ بين أنهم كفار بقوله: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٤٧]. التَّاسِعُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يُخْزَى وَكُلُّ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ فَإِنَّهُ يُخْزَى فَإِذَنْ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ/ لَا يُخْزَى لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُخْزَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخْزَى لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيمِ: ٨]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النَّحْلِ: ٢٧]. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] إِلَى أَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا:
وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٤]، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: ١٩٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٦٢]. فَقَوْلُهُ: وَعَمِلَ صالِحاً نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَيَكْفِي فِيهِ الْإِثْبَاتُ بِعَمَلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاءِ: ١٢٤] وَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَنَا فِيهِ رِسَالَةٌ مُفْرَدَةٌ مَنْ أَرَادَهَا فَلْيُطَالِعْ تِلْكَ الرِّسَالَةَ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَجِيءُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا أَصْحَابُنَا الَّذِينَ قَطَعُوا بِالْعَفْوِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَتَوَقَّفُوا فِي الْبَعْضِ فَقَدِ احْتَجُّوا مِنَ الْقُرْآنِ بِآيَاتٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَفُوًّا غَفُورًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشُّورَى: ٢٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠] وقوله: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: ٣٢] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشُّورَى: ٣٤] وَأَيْضًا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ عِبَادِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ الْعَفُوَّ فَنَقُولُ: الْعَفْوُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أَوْ عَمَّنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ عِقَابَ مَنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ قَبِيحٌ، وَمَنْ تَرَكَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَفَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا لَا يُقَالُ: أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: عَفَا إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ فَتَرَكَهُ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: ٢٥]، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنِ التَّائِبِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا/ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَفْوَ عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُنَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى غَافِرًا وَغَفُورًا وَغَفَّارًا، قَالَ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غَافِرٍ: ٣] وَقَالَ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الْكَهْفِ: ٥٨] وَقَالَ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: ٨٢] وَقَالَ: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥]. وَالْمَغْفِرَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَمَّنْ لَا يَحْسُنُ عِقَابُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَمَّنْ يَحْسُنُ عِقَابُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ صِفَةَ الْمَغْفِرَةِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ تَرْكَ الْقَبِيحِ لَا يَكُونُ مِنَّةً عَلَى الْعَبْدِ بَلْ كَأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَاللَّوْمَ وَالْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ بِتَرْكِ الْقَبَائِحِ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: لم يَجُوزُ حَمْلُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: ٥٢] وَالْمُرَادُ
وَهُوَ أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ الْعَذَابَ الزَّائِدَ عَلَى الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ رَحِيمًا عَلَيْنَا لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا ظَلَمَنَا، فَبَقِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ رَحِيمًا لِأَنَّهُ تَرَكَ الْعِقَابَ الْمُسْتَحَقَّ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَلَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ عِقَابِهِمْ وَاجِبٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّهُ تَرَكَ عِقَابَ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّكْلِيفَ وَالرِّزْقَ كُلَّهَا تَفَضُّلٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْ عِقَابِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَحِيمًا فِي الدُّنْيَا فَأَيْنَ رَحْمَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ عندكم التخفيف عن العذاب غَيْرُ جَائِزٍ هَكَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَعِيدِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ حُصُولُ التَّخْفِيفِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ ثَبَتَ جَوَازُ الْعَفْوِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِأَحَدِهِمَا قَالَ بِالْآخَرِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨]، فَنَقُولُ: «لِمَنْ يَشَاءُ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ وَلَا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التوبة، وإنما قلنا: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَلَا عَلَى الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ تَفَضُّلًا لَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ اسْتِحْقَاقًا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
أَيْ وَيَتَفَضَّلُ بِغُفْرَانِ مَا دُونَ ذَلِكَ الشِّرْكِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ لَا يَتَفَضَّلُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيُعْطِي مَا دُونَهَا لِمَنِ اسْتَحَقَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُنْتَظِمًا، وَلَمَّا كَانَ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُسْتَحَقًّا امْتَنَعَ كَوْنُهُمَا مُرَادَيْنِ بِالْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَالتَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ لَمْ يَبْقَ لِتَمْيِيزِ الشِّرْكِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ مَعْنًى لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَذَلِكَ يَغْفِرُ الشِّرْكَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَغْفِرُهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَبْقَى لِلْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ غَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَاعِلُهُ فِعْلَهُ يَفْعَلُهُ وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذين لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مُعَلَّقَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْفِرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ مَغْفِرَةَ التَّائِبِينَ وَأَصْحَابِ الصَّغَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا مُبَيَّنَةٌ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ غُفْرَانُ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ مَا سِوَى/ الشِّرْكِ وَذَلِكَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ غُفْرَانَ كُلِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَحْتَمِلُ قِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَنْ يَغْفِرَ كُلَّهَا لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا لِلْكُلِّ بَلْ لِلْبَعْضِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِأُصُولِنَا، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ فِي الْآخِرَةِ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِسْقَاطُ الْعِقَابِ وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ أَعَمُّ مِنْ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ دَائِمًا أَوْ لَا دَائِمًا وَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْقَيْدَيْنِ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْمَغْفِرَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِسْقَاطِ الدَّائِمِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا وَيُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ مَا دُونَ الشِّرْكِ عَنِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَرَى مَزِيدًا لِلْكُفَّارِ فِي عِقَابِ الدُّنْيَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّا نَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ عِقَابَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ عِقَابَ مَا دُونَ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَخْوِيفُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِتَعْجِيلِ الْعِقَابِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِتَجْوِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يُعَجِّلَ عِقَابَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْغُفْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَغْفِرَةِ التَّائِبِ وَمَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ؟ أما الوجوه الثلاثة الأول: فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ لَا يَقُولُونَ بِهَا وَهِيَ وُجُوبُ مَغْفِرَةِ صَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَلَا نُسَلِّمُ أن قوله: ما دُونَ ذلِكَ يفيد العموم، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ لَفْظِ «كُلُّ» وَ «بَعْضُ» عَلَى الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: وَيَغْفِرُ كُلَّ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَيَغْفِرُ بَعْضَ مَا دُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَا دُونَ ذلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلَكِنَّا نُخَصِّصُهُ بِصَاحِبِ الصَّغِيرَةِ وَصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعِيدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْكَبَائِرِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، فَآيَاتُ الْوَعِيدِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْمَغْفِرَةَ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِقَابِ وَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْ عِقَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: ٣٣]
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ نَتَمَسَّكَ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ أَوْ مِنَ التَّوْفِيقِ، وَالتَّرْجِيحُ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ أَكْثَرُ وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: ١١٤] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ إِنَّمَا كَانَتْ مُذْهِبَةً لِلسَّيِّئَةِ لِكَوْنِهَا حَسَنَةً عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا الْإِيمَاءِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ حَسَنَةٍ مُذْهِبَةً لِكُلِّ سَيِّئَةٍ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْحَسَنَاتِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهَا لَا تُذْهِبُ سَيِّئَاتِهِمْ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: ١٦٠]، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ عَلَى الْعَشْرَةِ فَقَالَ:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] وَأَمَّا فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَقَالَ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهَذَا فِي غَايَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الحسنة راجع عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَانِبِ السَّيِّئَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ الْوَعْدِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاءِ: ١٢٢] فَقَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَعِيدُ اللَّهِ حَقًّا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] الْآيَةَ، يَتَنَاوَلُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً، وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٠- ١١١] وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ غير التوبة، فصرح هاهنا بِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اسْتَغْفَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّهُ يَجِدِ اللَّهَ مُعَذِّبًا مُعَاقِبًا، بل قال:
فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْحَسَنَةِ رَاجِحٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ أسأتم أسأتم لها فكأنها تَعَالَى أَظْهَرَ إِحْسَانَهُ بِأَنْ أَعَادَهُ مَرَّتَيْنِ وَسَتَرَ عَلَيْهِ إِسَاءَتَهُ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْحَسَنَةِ رَاجِحٌ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ وَالْإِعَادَةُ لَا تَحْسُنُ إِلَّا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا فِي سُورَتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِنَايَةَ اللَّهِ بِجَانِبِ الْوَعْدِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَالْعَفْوِ عَنِ السَّيِّئَاتِ أَتَمُّ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمَّا تَعَارَضَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَصَرْفُ التَّأْوِيلِ إِلَى الْوَعِيدِ أَحْسَنُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَعْدِ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ
الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يذمون وَيُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا بِأَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ آيَاتِ الْوَعْدِ فِي الْآخِرَةِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظَّمُونَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: فَكَمَا أن
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: ٥٣] وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الآية إن دلت فإنما تَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ الْعُصَاةِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، فَمَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ لَا تَقُولُونَ بِهِ وَمَا تَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ حَمَلْنَاهَا عَلَى جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ [الزُّمَرِ: ٥٤] وَالْإِنَابَةُ هِيَ التَّوْبَةُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ شَرْطٌ فِيهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ. أَنَّ قَوْلَهُ: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَعْدٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُسْقِطُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ سَيَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُخْرِجُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ لَا مَحَالَةَ، فَيَكُونُ هَذَا قَطْعًا بِالْغُفْرَانِ لَا مَحَالَةَ، وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي إِجْرَاءِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا عَلَى قَيْدِ التَّوْبَةِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ فسروا كون الخطيئة محبطة بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً مُحْبِطَةً لِثَوَابِ فَاعِلِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ/ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ السَّيِّئَةِ مُحِيطَةً بِالْإِنْسَانِ كَوْنُهَا كَبِيرَةً فَكَذَلِكَ شَرْطُ هَذِهِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الْعَفْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْعَفْوُ لَمَا تَحَقَّقَتْ إِحَاطَةُ السَّيِّئَةِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِذَنْ لَا يَثْبُتُ كَوْنُ السَّيِّئَةِ مُحِيطَةً بِالْإِنْسَانِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ عَدَمُ الْعَفْوِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُفَسِّرُ إِحَاطَةَ الْخَطِيئَةِ بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً، بَلْ نُفَسِّرُهَا بِأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ مَوْصُوفًا بِالْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الَّذِي يَكُونُ عَاصِيًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَكُونُ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَهَهُنَا لَا تَتَحَقَّقُ إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ بِالْعَبْدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِحَاطَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْجِسْمَ إِذَا مَسَّ بَعْضَ أَجْزَاءِ جِسْمٍ آخَرَ دُونَ بَعْضٍ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ بِالْعَبْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ كَافِرًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَيْسُوا إِلَّا هم وذلك
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةً فِي الْوَعِيدِ إِلَّا وَذَكَرَ بِجَنْبِهَا آيَةً فِي الْوَعْدِ، وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ:
أَحَدُهَا: لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ عَدْلَهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَدِلَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا»،
وَذَلِكَ الِاعْتِدَالُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُظْهِرُ بِوَعْدِهِ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَبِوَعِيدِهِ كَمَالَ حِكْمَتِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سبباً للعرفان، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَمَلُ الصَّالِحُ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَوْ دَلَّ الْإِيمَانُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكَانَ ذِكْرُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ الْإِيمَانِ تَكْرَارًا/ أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: آمَنَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا وَاحِدًا مِنْ أَفْعَالِ الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِعْلَ الْمَاضِي يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَصْدَرِ فِي زَمَانٍ مَضَى وَالْإِيمَانُ هُوَ الْمَصْدَرُ، فَلَوْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: آمَنَ دَلِيلًا عَلَى صُدُورِ كُلِّ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَدْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِيمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَبِيرَةِ وَلَمْ يَتُبْ عَنْهَا، فَهَذَا الشَّخْصُ قَبْلَ إِتْيَانِهِ بِالْكَبِيرَةِ كَانَ قَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَنْ صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَإِذَا صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ الصَّالِحَاتِ وَمِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحَاتِ التَّوْبَةُ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالصَّالِحَاتِ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالْكَبِيرَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِذَا صُدِّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّهُ مَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ يَجِبُ صِدْقُ الْمُفْرَدِ، بَلْ إِنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لَكِنَّ قَوْلَنَا: آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ حُكْمِ الْوَعْدِ. بَقِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْفَاسِقَ أَحْبَطَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ ثَوَابَ طَاعَتِهِ فَيَكُونُ التَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْوَعِيدِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا تَفَضُّلًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ
لِلْحَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَصْحَابٌ إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهَا فَمَنْ أُعْطِيَ الْجَنَّةَ تَفَضُّلًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُوَصِّلٌ إِلَى أَعْظَمِ النِّعَمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُوَصِّلُ إِلَى النِّعْمَةِ نِعْمَةٌ، فَهَذَا التَّكْلِيفُ لَا مَحَالَةَ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ إنه تعالى بين هاهنا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِأَشْيَاءَ: التَّكْلِيفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَعْبُدُونَ» بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، وَوَجْهُ الْيَاءِ أَنَّهُمْ غَيْبٌ أَخْبَرَ عَنْهُمْ، وَوَجْهُ التَّاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ وَالِاخْتِيَارُ التَّاءُ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَالَ:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فَدَلَّتِ الْمُخَاطَبَةُ عَلَى التَّاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ «يَعْبُدُونَ» مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَفْعُهُ عَلَى أَنْ لَا يَعْبُدُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُسْقِطَتْ «أَنْ» رُفِعَ الْفِعْلُ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:
أَلَا أيهذا اللاثمي أَحْضُرَ الْوَغَى | وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي |
الْقَوْلُ الثَّانِي: مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَقْسَمْنَا عَلَيْهِمْ لَا يَعْبُدُونَ، وَأَجَازَ هَذَا الْوَجْهَ الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَخْفَشِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ قُطْرُبٍ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ غَيْرَ عَابِدِينَ إِلَّا اللَّهَ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّ مَوْضِعَ «لَا تَعْبُدُونَ» عَلَى النَّهْيِ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ نَهْيًا أُمُورٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ:
أَقِيمُوا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ: لَا تَعْبُدُوا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِخْبَارَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ آكَدُ وَأَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ سُورِعَ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: التَّقْدِيرُ أَنْ لَا تَعْبُدُوا تَكُونُ «أَنْ» مَعَ الْفِعْلِ بَدَلًا عَنِ الْمِيثَاقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَوْحِيدِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْمِيثَاقُ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهَى
التَّكْلِيفُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بِمَ يَتَّصِلُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَعَلَامَ انْتَصَبَ؟ قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ عَلَى مَعْنَى أَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَالثَّانِي: قِيلَ عَلَى مَعْنَى وَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا لِأَنَّ اتِّصَالَ الْبَاءِ بِهِ أَحْسَنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكَانَ وَإِلَى الْوَالِدَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَأَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ. الثَّالِثُ: قِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى الْخَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنْ تَعْبُدُوا وَتُحْسِنُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَرْدَفَ عِبَادَةَ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ أَعْظَمُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ شُكْرِهِ عَلَى شُكْرِ غَيْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ نِعْمَةِ اللَّهِ فَنِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ أَعَمُّ النِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ هُمَا الْأَصْلُ وَالسَّبَبُ فِي كَوْنِ الْوَلَدِ وَوُجُودِهِ كَمَا أَنَّهُمَا مُنْعِمَانِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْإِنْعَامُ بِأَصْلِ الْوُجُودِ، بَلْ بِالتَّرْبِيَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أَنَّ إِنْعَامَهُمَا أَعْظَمُ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ بَعْدَ إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْوَالِدَانِ هُمَا الْمُؤَثِّرَانِ فِي وُجُودِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤَثِّرَ الْحَقِيقِيَّ أَرْدَفَهُ بِالْمُؤَثِّرِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَطْلُبُ بِإِنْعَامِهِ عَلَى الْعَبْدِ عِوَضًا الْبَتَّةَ بَلِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ الْإِنْعَامِ وَالْوَالِدَانِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَطْلُبَانِ عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْوَلَدِ عِوَضًا مَالِيًّا وَلَا ثَوَابًا، فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ الْمِيعَادَ يُحْسِنُ إِلَى وَلَدِهِ وَيُرَبِّيهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَشْبَهَ إِنْعَامُهُمَا إِنْعَامَ اللَّهِ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الْإِنْعَامِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْظَمِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ عَنْهُ مَوَادَّ نِعَمِهِ وَرَوَادِفَ كَرَمِهِ، وَكَذَا الْوَالِدَانِ لَا يَمَلَّانِ الْوَلَدَ وَلَا يَقْطَعَانِ عَنْهُ مَوَادَّ مَنْحِهِمَا وَكَرَمِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسِيئًا إِلَى الْوَالِدَيْنِ. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ الْوَالِدَ الْمُشْفِقَ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِالِاسْتِرْبَاحِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ وَيَصُونُهُ عَنِ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، فَكَذَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَصَرِّفٌ فِي طَاعَةِ الْعَبْدِ فَيَصُونُهَا عَنِ الضَّيَاعِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ أَعْمَالَهُ الَّتِي لَا تَبْقَى كَالشَّيْءِ الْبَاقِي أَبَدَ الْآبَادِ كَمَا قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١]. السَّادِسُ: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ نِعْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَلَكِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِعْمَةَ الْوَالِدَيْنِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ، إِلَّا أَنَّهَا قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ فَاعْتَدَلَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَالرُّجْحَانِ لِنِعَمِ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ جَعَلْنَا نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ كَالتَّالِيَةِ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِمَا مُؤْمِنَيْنِ أَمْ لَا، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِتَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا وَالِدَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَهَكَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما/ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما الْآيَةَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِيذَائِهِمَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الآية: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً
[مَرْيَمَ: ٤٢] ثُمَّ إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيَذْكُرُ الْجَوَابَ الْغَلِيظَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْلِ: ١٢٣].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا هُوَ أَلَّا يُؤْذِيَهُمَا الْبَتَّةَ وَيُوَصِّلَ إِلَيْهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَعْوَتُهُمَا إِلَى الْإِيمَانِ إِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَأَمْرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ إِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ.
التَّكْلِيفُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِي الْقُرْبى وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ زَيْدٍ دَخَلَ فِيهِ الْوَارِثُ الْمَحْرَمُ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ، وَلَا يَدْخُلُ الْأَبُ وَالِابْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يُعْرَفَانِ بِالْقَرِيبِ، وَيَدْخُلُ الْأَحْفَادُ وَالْأَجْدَادُ، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وقيل بدخول الكل. وهاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْفَظُونَ الْأَجْدَادَ الْعَالِيَةَ فَيَتَّسِعُ نَسْلُهُمْ وَكُلُّهُمْ أَقَارِبُ، فَلَوْ تَرَقَّيْنَا إِلَى الْجَدِّ الْعَالِي وَحَسَبْنَا أَوْلَادَهُ كَثُرُوا، فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَرْتَقِي إِلَى أَقْرَبِ جَدٍّ يَنْتَسِبُ هُوَ إِلَيْهِ وَيُعْرَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي مِثَالِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّا نَصْرِفُهُ إِلَى بَنِي شَافِعٍ دُونَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَنْتَسِبُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى شَافِعٍ دُونَ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا فِي زَمَانِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى أَوْلَادِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَرْتَقِي إِلَى بَنِي شَافِعٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَنْ يُعْرَفُ بِهِ أَقَارِبُهُ فِي زَمَانِنَا، أَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ الْعَجَمِ وَلَا تَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ الْعَرَبِ عَلَى الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُعِدُّونَ ذَلِكَ قَرَابَةً، أَمَّا لَوْ قَالَ لِأَرْحَامِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهِ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَقَّ ذِي الْقُرْبَى كَالتَّابِعِ لِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَقْرِبَاؤُهُ بِوَاسِطَةِ اتِّصَالِهِمْ بِالْوَالِدَيْنِ وَالِاتِّصَالُ بِالْوَالِدَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاتِّصَالِ بِذِي الْقُرْبَى، فَلِهَذَا أَخَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عَنِ الْوَالِدَيْنِ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إن الرحم سجنة مِنَ الرَّحْمَنِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ، إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ، إِنِّي قُطِعْتُ. قَالَ فَيُجِيبُهَا رَبُّهَا: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنِّي أَقْطَعُ مَنْ قَطَعَكِ وَأَصِلُ مَنْ وَصَلَكِ، ثُمَّ قَرَأَ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ،
وَالسَّبَبُ الْعَقْلِيُّ فِي تَأْكِيدِ رِعَايَةِ هَذَا الْحَقِّ أَنَّ الْقَرَابَةَ مَظِنَّةُ الِاتِّحَادِ وَالْأُلْفَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ أَشَقَّ على القلب وأبلغ في الإيمام وَالْإِيحَاشِ وَالضَّرُورَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَقْوَى كَانَ دَفْعُهُ أَوْجَبَ، فَلِهَذَا وَجَبَتْ رِعَايَةُ حُقُوقِ الْأَقَارِبِ.
التَّكْلِيفُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْيَتامى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ وَجَمْعُهُ أَيْتَامٌ وَيَتَامَى، كَقَوْلِهِمْ: نَدِيمٌ وَنَدَامَى، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ إِنَّهُ يَتِيمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا فِي الْإِنْسَانِ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ فَيُتْمُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْيَتِيمُ كَالتَّالِي لِرِعَايَةِ حُقُوقِ الْأَقَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِصِغَرِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلِيُتْمِهِ وَخُلُوِّهِ عمن
التَّكْلِيفُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَساكِينِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «وَالْمَسَاكِينُ» وَاحِدُهَا مِسْكِينٌ، أُخِذَ مِنَ السُّكُونِ كَأَنَّ الْفَقْرَ قَدْ سَكَنَهُ وَهُوَ أَشَدُّ فَقْرًا مِنَ الْفَقِيرِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: ١٦] وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا، لِأَنَّ الْفَقِيرَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ كَأَنَّ فَقَارَهُ انْكَسَرَ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الْكَهْفِ: ٧٩] جَعَلَهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ مِلْكًا لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا تَأَخَّرَتْ دَرَجَتُهُمْ عَنِ الْيَتَامَى لِأَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَكَانَ الْمَيْلُ إِلَى مُخَالَطَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، وَلِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَيْضًا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِتَعَهُّدِ نَفْسِهِ وَمَصَالِحِ مَعِيشَتِهِ، وَالْيَتِيمُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْيَتِيمِ عَلَى الْمِسْكِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلزَّكَاةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ.
التَّكْلِيفُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (حَسَنًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ عَلَى مَعْنَى الْوَصْفِ لِلْقَوْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
قُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا حَسَنًا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٨] وَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [النَّمْلِ: ١١] وَفِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا فِي مَوْضِعِ حَسَنًا كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أَيْ لِيَحْسُنَ قَوْلُكُمْ نُصِبَ عَلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ. الرَّابِعُ: حُسْنًا أَيْ قَوْلٌ هُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ لِإِفْرَاطِ حُسْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: لِمَ خُوطِبُوا بِقُولُوا بَعْدَ الْإِخْبَارِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: ٢٢]. وَثَانِيهَا: فِيهِ حَذْفٌ أَيْ قُلْنَا لَهُمْ قُولُوا. وَثَالِثُهَا: الْمِيثَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا كأنه قيل: قلت لا تعبدوا وقولوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مَنْ هُوَ؟ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَعَلَى أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَأُمَّتِهِ: قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ الأول أقرب حتى تكون القصة قصة وَاحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يَجِبُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا مَعَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَذَمُّهُمْ وَالْمُحَارَبَةُ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَعَهُمْ حَسَنًا، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاءِ: ١٤٨] فَأَبَاحَ الْجَهْرَ
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢] وَقَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩] أَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَهُمْ، قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّعْنَ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا بَيَانُهُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، بَلِ الْقَوْلُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ وَنَحْنُ إِذَا لَعَنَّاهُمْ وَذَمَمْنَاهُمْ لِيَرْتَدِعُوا بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى نَافِعًا فِي حَقِّهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ قَوْلًا حَسَنًا وَنَافِعًا، كَمَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْوَالِدِ فِي الْقَوْلِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا وَنَافِعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، سَلَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُمْ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَهُ يُنَافِي وُجُوبَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ، بَيَانُهُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ بِسَبَبِ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا وَمُسْتَحِقًّا لِلتَّحْقِيرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْقَوْلِ الْحَسَنِ مَعَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاءِ: ١٤٨] فَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَشْفَ حَالِ الظَّالِمِ/ لِيَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُ؟ وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: كَلَامُ النَّاسِ مَعَ النَّاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ مَعَ الْفَاسِقِ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ مَعَ جَلَالَتِهِمَا وَنِهَايَةِ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] الْآيَةَ، وَأَمَّا دَعْوَةُ الْفُسَّاقِ فَالْقَوْلُ الْحَسَنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
[النَّحْلِ: ١٢٥] وَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: ٣٤] وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْغَرَضِ بِالتَّلَطُّفِ مِنَ الْقَوْلِ لَمْ يَحْسُنْ سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ آدَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا داخلة تحت قوله تعالى:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ،
التَّكْلِيفُ السَّابِعُ وَالثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الثَّمَانِيَةِ، بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيَقْبَلُوا فَتَحْصُلُ لَهُمُ الْمَنْزِلَةُ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِمْ، تَوَلَّوْا وَأَسَاءُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَلَقَّوْا نِعَمَ رَبِّهِمْ بِالْقَبُولِ مَعَ تَوْكِيدِ الدَّلَائِلِ وَالْمَوَاثِيقِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يَزِيدُ فِي قُبْحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّوَلِّي، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّوَثُّقِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي أَعْرَضْتُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ كَإِعْرَاضِ أَسْلَافِكُمْ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مَنْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وَمَنْ تَأَخَّرَ. أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فَظَاهِرُ الْخَطَّابِ يَقْتَضِي أَنَّ آخِرَهُ فِيهِمْ أَيْضًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ عَنْ/ هَذَا الظَّاهِرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَاقَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ سِيَاقَةَ إِظْهَارِ النِّعَمِ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ بَقَوْا عَلَى مَا دَخَلُوا فِيهِ. أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَهُوَ بِالْحَاضِرِينَ أَلْيَقُ وَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةٌ، وَهُوَ بِسَلَفِهِمُ الْغَائِبِينَ أَلْيَقُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ كَمَا لَزِمَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهَا فَذَلِكَ هُوَ لَازِمٌ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَيَلْزَمُكُمْ مِنَ الْحُجَّةِ مِثْلُ الَّذِي لَزِمَهُمْ وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى نِهَايَةِ قُبْحِ أَفْعَالِهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ مُخْتَصًّا بِمَنْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَنَّكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا بَعْدَ أَخْذِ هَذِهِ الْمَوَاثِيقِ فَإِنَّكُمْ بَعْدَ اطِّلَاعِكُمْ عَلَى دَلَائِلِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، فَكُنْتُمْ فِي هَذَا الْإِعْرَاضِ بِمَثَابَةِ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي ذَلِكَ التولي والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ هَذَا التَّكْلِيفَ وَأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِصِحَّتِهِ ثُمَّ خَالَفُوا الْعَهْدَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَسْلَافِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ آبَائِكُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَسْلَافِ وَتَقْرِيعٌ لِلْأَخْلَافِ وَمَعْنَى: أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أَمَرْنَاكُمْ وَأَكَّدْنَا الْأَمْرَ وَقَبِلْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ بِلُزُومِهِ ووجوبه.
لَا تَتَعَرَّضُوا لِمُقَاتَلَةِ مَنْ يَقْتُلُكُمْ فَتَكُونُوا قَدْ قَتَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَامِسُهَا: لا تسفكون دماءكم مَنْ قِوَامُكُمْ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا بِهِمْ فَتَكُونُونَ مُهْلِكِينَ لِأَنْفُسِكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: لَا تَفْعَلُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِسَبَبِهِ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، الثَّانِي: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ فِيهِ الْمِحْنَةُ وَالشِّدَّةُ حَتَّى يُقْرُبَ مِنَ الْهَلَاكِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَيْ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِالْمِيثَاقِ وَاعْتَرَفْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِلُزُومِهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَيْهَا كَقَوْلِكَ فُلَانٌ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا أَيْ شَاهِدٌ عَلَيْهَا، وَثَانِيهَا:
اعْتَرَفْتُمْ بِقَبُولِهِ وَشَهِدَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَشْهُورًا. وَثَالِثُهَا: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الْيَوْمَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ عَلَى إِقْرَارِ أَسْلَافِكُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَرَابِعُهَا: الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ الرِّضَاءُ بِالْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ كَأَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَا يُقِرُّ عَلَى الضَّيْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُكُمْ بِذَلِكَ وَرَضِيتُمْ بِهِ فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ وَشَهِدْتُمْ بِوُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَقْرَرْتُمْ يَعْنِي أَسْلَافَكُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الْآنَ يَعْنِي عَلَى إِقْرَارِهِمْ، الثَّانِي: أَقْرَرْتُمْ فِي وَقْتِ الْمِيثَاقِ الَّذِي مَضَى وَأَنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَشْهَدُونَ، الثَّالِثُ: أنه للتأكيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٥]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ فَفِيهِ إشكال لأن قوله: أَنْتُمْ للحاضرين وهؤُلاءِ لِلْغَائِبِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَاضِرُ نَفْسَ الْغَائِبِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: تَقْدِيرُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ، وَثَانِيهَا: تَقْدِيرُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ أَعْنِي هَؤُلَاءِ الحاضرين، وثالثها: أنه بمعنى الذين وَصِلَتُهُ «تَقْتُلُونَ» وَمَوْضِعُ تَقْتُلُونَ رَفْعٌ إِذَا كَانَ خَبَرًا وَلَا مَوْضِعَ لَهُ إِذَا كَانَ صِلَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِثْلُهُ فِي الصِّلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] يَعْنِي وَمَا تِلْكَ الَّتِي بِيَمِينِكَ، وَرَابِعُهَا: هَؤُلَاءِ تَأْكِيدٌ لِأَنْتُمْ، وَالْخَبَرُ «تَقْتُلُونَ»، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ الْوُجُوهَ، وَأَصَحُّهَا أَنَّ الْمُرَادَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقَتْلُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ قَدْ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ إِذْ كَانَ الْكُلُّ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَبَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ مَا هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تَظَاهَرُونَ» بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ فَوَجْهُ التَّخْفِيفِ الْحَذْفُ لِإِحْدَى التَّاءَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَعاوَنُوا وَوَجْهُ التَّشْدِيدِ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الظَّاءِ، كَقَوْلِهِ تعالى:
اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: ٣٨] وَالْحَذْفُ أَخَفُّ وَالْإِدْغَامُ أَدَلُّ عَلَى الْأَصْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّظَاهُرَ هُوَ التَّعَاوُنُ، وَلَمَّا كَانَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَقَتْلُ الْبَعْضِ بَعْضًا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْفِتْنَةُ وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى اقْتِدَارٍ وَغَلَبَةٍ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يُظَاهِرُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فَكَذَا إِعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ مُحَرَّمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ:
أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَقْدَرَ الظَّالِمَ عَلَى الظُّلْمِ وَأَزَالَ الْعَوَائِقَ وَالْمَوَانِعَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّهْوَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الظُّلْمِ كَانَ قَدْ أَعَانَهُ عَلَى الظُّلْمِ، فَلَوْ كَانَتْ إِعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ قَبِيحَةً لَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجَدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَوَابُ:
أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ مَكَّنَ الظَّالِمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَجَرَهُ عَنِ الظُّلْمِ بِالتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ، بِخِلَافِ الْمُعِينِ لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ فَإِنَّهُ يُرَغِّبُهُ فِيهِ وَيُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِهِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ ذَنْبِ الْمُعِينِ مِثْلُ قَدْرِ ذَنْبِ الْمُبَاشِرِ، بَلِ الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ دُونَهُ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ الْمُبَاشَرَةِ لَمَا أَثَّرَتْ فِي حُصُولِ الظُّلْمِ وَلَوْ حَصَلَتِ الْمُبَاشَرَةُ بِدُونِ الْإِعَانَةِ لَحَصَلَ الضَّرَرُ وَالظُّلْمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَدْخَلُ فِي الْحُرْمَةِ مِنَ الْإِعَانَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ: (أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) بِالْأَلِفِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وحده بغير ألف فيهما والباقون: «أسارى» بالألف وَ «تُفْدُوهُمْ» بِغَيْرِ أَلِفٍ وَ «الْأَسْرَى» جَمْعُ أَسِيرٍ كَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، وَفِي أُسَارَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ أَسْرَى كَسَكْرَى وَسُكَارَى، وَالثَّانِي: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الْأَسْرَى وَالْأُسَارَى، وَقَالَ: الْأُسَارَى الَّذِينَ فِي وِثَاقٍ، وَالْأَسْرَى الَّذِينَ فِي الْيَدِ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ أُسَارَى أَشَدُّ مُبَالَغَةً، وَأَنْكَرَ ثَعْلَبٌ ذَلِكَ، وَقَالَ/ عَلِيُّ بن عيسى: الاختيار أسارى بالألف لِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَئِمَّةِ وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ إِذْ كَانَ يُقَالُ بِكَثْرَةٍ فِيهِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْوَاحِدِ نَحْوَ شُكَاعَى وَلِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تُفْدُوهُمْ وَتُفَادُوهُمْ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ تُفْدُوهُمْ مِنَ الْفِدَاءِ وَهُوَ الْعِوَضُ مِنَ الشَّيْءِ صِيَانَةً لَهُ، يُقَالُ: فَدَاهُ فِدْيَةً وَتُفَادُوهُمْ مِنَ الْمُفَادَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تُفادُوهُمْ وَصْفٌ لَهُمْ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَهُوَ التَّخْلِيصُ مِنَ الْأَسْرِ بِبَذْلِ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَعُودُوا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُ ضِدُّ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ مَعَ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ إِذَا وَقَعَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيكُمْ لَمْ تَرْضَوْا مِنْهُ إِلَّا بِأَخْذِ مَالٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ ثُمَّ عنده تُخْرِجُونَهُ مِنَ الْأَسْرِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْمُفَسِّرُونَ إِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي مَعَكُمْ نَبَأُ مُحَمَّدٍ فَجَحَدْتُمُوهُ فَقَدْ آمَنْتُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرْتُمْ بِبَعْضٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يحتمل لفظ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا وَالَّذِينَ فُودُوا فَرِيقٌ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ كَانَا أَخَوَيْنِ كَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَافْتَرَقُوا فَكَانَتِ النَّضِيرُ مَعَ الْخَزْرَجِ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ. فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقَاتِلُ مَعَ حُلَفَائِهِ وَإِذَا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيَارَهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ الْعَرَبُ وَقَالُوا: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُذِلَّ حُلَفَاءَنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ فُودُوا وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَابَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ فَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَالْقِصَّةُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْرَاجِ أُعِيدَ ذِكْرُهُ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ فَمَوْضِعُهُ عَلَى هَذَا رَفْعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُ إِخْرَاجِهِمْ مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا:
إِخْرَاجُهُمْ كُفْرٌ، وَفِدَاؤُهُمْ إِيمَانٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ إِذْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَتَرَكُوا الْبَعْضَ، وَقَدْ تَكُونُ الْمُنَاقَضَةُ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ لَا يُقَالُ هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ مَعْصِيَةٌ، فَلِمَ سَمَّاهَا كُفْرًا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَكْفُرُ، لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ غَيْرُ وَاجِبٍ/ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ التَّوْرَاةِ كَانَ دَالًّا عَلَى وجوبه. وثالثها: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمَا عَلَى سَوَاءٍ يَجْرِي مَجْرَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُوا بِبَعْضٍ وَالْكُلُّ فِي الْمِيثَاقِ سَوَاءٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَأَصْلُ الْخِزْيِ الذُّلُّ وَالْمَقْتُ. يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْعَدَهُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِحْيَاءُ، فَإِذَا قِيلَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْقَعَهُ مَوْقِعًا يُسْتَحَيَا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْخِزْيِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْجِزْيَةُ وَالصَّغَارُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، بَلْ إِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّ هَذَا الْوَجْهُ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْخِزْيِ الْوَاقِعِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ الْبَالِغُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: «خِزْيٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّمَّ وَاقِعٌ فِي النِّهَايَةِ الْعُظْمَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَذَابَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْيَهُودِ، فَكَيْفَ قَالَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ: يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْخِزْيِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، فَلَفْظُ «الْأَشَدِّ» وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الجهة.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَجْهُ الْأَوَّلِ: الْبِنَاءُ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَوَجْهُ الثَّانِي: الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْكَلَامِ وَاخْتِيَارُ الْخِطَابِ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرَ وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى لِتَغْلِيبِ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ إِذَا اجْتَمَعَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ إِذَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ وَصَلَتِ الْحُقُوقُ لَا مَحَالَةَ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ تَحْصِيلِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ الْآخِرَةِ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَكَّنَ الْمُكَلَّفَ مِنْ تَحْصِيلِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِ أَحَدِهِمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْآخَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَا أَعْرَضَ الْيَهُودُ عَنْهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ الذَّمِّ لَهُمْ لِأَنَّ الْمَغْبُونَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الدُّنْيَا مَذْمُومٌ حَتَّى يُوصَفَ بِأَنَّهُ تَغَيَّرَ فِي عَقْلِهِ فَبِأَنْ يُذَمَّ مُشْتَرِي مَتَاعِ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى اشْتَرَوُا وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِمَعْنَى جَوَابِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِكَ أُولَئِكَ الضُّلَّالُ انْتَبِهْ فَلَا خَيْرَ فِيهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَعْضُهُمْ حَمَلَ التَّخْفِيفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَدُومُ، لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ لَكَانَ قَدْ خَفَّ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى شِدَّتِهِ لَا عَلَى دَوَامِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ يَخِفُّ بِالِانْقِطَاعِ وَقَدْ يَخِفُّ بِالْقِلَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا وَصَفَ تَعَالَى عَذَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُخَفَّفُ اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْيِ النُّصْرَةِ فِي الْآخِرَةِ يَعْنِي أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْفَعُ هَذَا الْعَذَابَ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ عَذَابَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى نَفْيِ النُّصْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْآخِرَةِ، لِأَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَإِنْ حَصَلَ فَيَصِيرُ كَالْحُدُودِ الَّتِي تُقَامُ عَلَى الْمُقَصِّرِ وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَصِيرُونَ غَالِبِينَ للمؤمنين في بعض الأوقات.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَفَاضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَابَلُوهُ بِالْكُفْرِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْيَهُودِ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَتْلِ/ أَنْفُسِهِمْ وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّوْرَاةَ لَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى بِحَمْلِهَا فَلَمْ يُطِقْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مَلَكًا فَلَمْ يُطِيقُوا حَمْلَهَا فَخَفَّفَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى فَحَمَلَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَفَّيْنَا، أَتْبَعْنَا مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّيْءِ يَأْتِي فِي قَفَاهُ الشَّيْءُ، أَيْ بَعْدَ نَحْوِ ذَنَبِهِ مِنَ الذَّنَبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتِ الرُّسُلُ تَتَوَاتَرُ وَيَظْهَرُ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدَةٌ إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الشَّرِيعَةِ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيهَا، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الرَّسُولَ الثَّانِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرِيعَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْأُوَلِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ جِهَةٍ إِلَّا مَا كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ قَبْلُ أَوْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ قَبْلُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا لَا شَرِيعَةَ مَعَهُ أَصْلًا، تُبَيِّنُ الْعَقْلِيَّاتِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي مَسْأَلَتِنَا: فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَتَوْا بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ إِنْ كَانَتِ الْأُولَى مَحْفُوظَةً أَوْ مُحْيِيَةً لِبَعْضِ مَا انْدَرَسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَةِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ تَنْفِيذَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ السالفة على الأمة أو نوع آخَرَ مَنِ الْأَلْطَافِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْقَاضِي مَا أَتَى فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الدَّعْوَى، فَلِمَ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ إِلَّا لِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْ لِإِحْيَاءِ شَرِيعَةٍ انْدَرَسَتْ وَهَلِ النِّزَاعُ وَقَعَ إِلَّا فِي هَذَا؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمْ: يُوشَعُ، وَشَمْوِيلُ «١»، وَشَمْعُونُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ وَشَعْيَاءُ، وَأَرْمِيَاءُ، وَعُزَيْرٌ، وَحِزْقِيلُ، وَإِلْيَاسُ، وَالْيَسَعُ، وَيُونُسُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَغَيْرُهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْمَلَ ذِكْرَ الرَّسُولِ ثُمَّ فَصَّلَ ذِكْرَ عِيسَى لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِشَرِيعَةِ مُوسَى فَكَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِيسَى، لِأَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ أَكْثَرَ شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ عِيسَى بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَيْشُوعُ، وَمَرْيَمُ بِمَعْنَى الْخَادِمِ، وَقِيلَ: مَرْيَمُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مِنَ النِّسَاءِ كَزِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
«قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ»
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْبَيِّنَاتِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: الْمُعْجِزَاتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَنَحْوِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَثَانِيهَا:
أَنَّهَا الْإِنْجِيلُ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْكُلَّ يَدْخُلُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَ يُبَيِّنُ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ شَرِيعَتِهِ فَلَا يَكُونُ لِلتَّخْصِيصِ معنى.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَأَيَّدْنَاهُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «الْقُدْسِ» بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ رُعُبٌ وَرُعْبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ الرُّوحُ الْمُقَدَّسَةُ كَمَا يُقَالُ: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ فَوُصِفَ جِبْرِيلُ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُ وَبَيَانًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: سُمِّي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الدِّينُ كَمَا يَحْيَا الْبَدَنُ بِالرُّوحِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُكَلَّفُونَ فِي ذَلِكَ يَحْيَوْنَ فِي دِينِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. الرَّابِعُ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحًا، لِأَنَّهُ مَا ضَمَّتْهُ أَصْلَابُ الْفُحُولِ وَأَرْحَامُ الْأُمَّهَاتِ، وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْإِنْجِيلُ، كَمَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢] وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ وَمَصَالِحَ الدُّنْيَا تَنْتَظِمُ لِأَجْلِهِ. وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الرُّوحُ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَسَبَ رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ الله، عن الربيع، وعلى هذا المراد بِهِ الرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ وَعَلَى الْإِنْجِيلِ وَعَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ لِأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الرِّيحُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مَخَارِقِ الْإِنْسَانِ وَمَنَافِذِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَا كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالرُّوحِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرُّوحَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ بِالْعُلُومِ، وَالْإِنْجِيلُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَحَيَاتِهَا، وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ سَبَبٌ لِأَنْ يُتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ مُسَمَّى الرُّوحِ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ أَتَمُّ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ مِنْ هَوَاءٍ نُورَانِيٍّ، لَطِيفٍ فَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ أَتَمَّ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِيمَا عَدَاهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي قَوَّيْنَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ التَّقْوِيَةِ الْإِعَانَةُ وَإِسْنَادُ الْإِعَانَةِ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقِيقَةٌ وَإِسْنَادُهَا إِلَى الْإِنْجِيلِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ اخْتِصَاصَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ آكَدِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ مَرْيَمَ/ بِوِلَادَتِهَا وَإِنَّمَا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الَّذِي رَبَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَكَانَ يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ وَكَانَ مَعَهُ حِينَ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَهُوَ نِهَايَةُ الذَّمِّ لَهُمْ، لِأَنَّ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِخِلَافِ مَا يَهْوُونَ كَذَّبُوهُ، وَإِنْ تَهَيَّأَ لَهُمْ قَتْلُهُ قَتَلُوهُ. وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ لِإِرَادَتِهِمُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِهِمْ لَذَّاتِهَا وَالتَّرَؤُّسَ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَتِ الرسل تبطل عليه ذَلِكَ فَيُكَذِّبُونَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَيُوهِمُونَ عَوَامَّهُمْ كَوْنَهُمْ كَاذِبِينَ وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِالتَّحْرِيفِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ اسْتِكْبَارَ إِبْلِيسَ عَلَى آدَمَ.
الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَهُمْ بَعْدُ لِأَنَّكُمْ حَاوَلْتُمْ قَتْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا أَنِّي أَعْصِمُهُ مِنْكُمْ وَلِذَلِكَ سَحَرْتُمُوهُ وَسَمَمْتُمْ لَهُ الشَّاةَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي. فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي»
وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٨]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
أَمَّا الْغُلْفُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَمْعُ أغْلَفَ وَالْأَغْلَفُ هُوَ مَا فِي غِلَافٍ أَيْ قُلُوبِنَا مُغَشَّاةٌ بِأَغْطِيَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ دَعْوَتِكَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهَا: رَوَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ بِالْعِلْمِ وَمَمْلُوءَةٌ بِالْحِكْمَةِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا بِهِمْ إِلَى شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَالِثُهَا: غُلْفٌ أَيْ كَالْغِلَافِ الْخَالِي لَا شَيْءَ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ مَعَهُ الْإِيمَانُ، لَا غِلَافَ وَلَا كِنَّ وَلَا سَدَّ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ صَادِقِينَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَكَانَ لَا يُكَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَذُمُّ الْكَاذِبَ الْمُبْطِلَ لَا الصَّادِقَ الْمُحِقَّ الْمَعْذُورَ، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْكَهْفِ: ٥٧] وقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [يس: ٨، ٩] لَيْسَ الْمُرَادُ كَوْنَهُمْ مَمْنُوعِينَ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلِ الْمُرَادُ إِمَّا مَنْعُ الْأَلْطَافِ أَوْ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْبُورِ عَلَى الْكُفْرِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ ذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ ذَمُّهُ تَعَالَى الْكَافِرِينَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ لَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا/ صَادِقِينَ لَمَا ذَمَّهُمْ بَلْ كَانَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ إِظْهَارًا لِعُذْرِهِمْ وَمُسْقِطًا لِلَوْمِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْغُلْفِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً فَلَا يَجِبُ الْجَزْمُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مَذْمُومٌ؟
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَمَّا لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَوْلًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ يَعْنِي لَيْسَتْ قُلُوبُنَا فِي أَغْلَافٍ وَلَا فِي أَغْطِيَةٍ، بَلْ قَوِيَّةٌ وَخَوَاطِرُنَا مُنِيرَةٌ ثُمَّ إِنَّا بِهَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْأَفْهَامِ تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم يجد مِنْهَا شَيْئًا قَوِيًّا. فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذَا التَّصَلُّفَ الْكَاذِبَ لَا جَرَمَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى كُفْرِهِمُ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ قُلُوبَهُمْ مَا كَانَتْ فِي الْأَغْطِيَةِ بَلْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الأنعام: ٢٠] [الْبَقَرَةِ: ١٤٦] إِلَّا أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ وَادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ وَغَيْرُ وَاقِفَةٍ عَلَى ذَلِكَ فكان كفرهم كفر
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ عَنْ قَتَادَةَ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ صِفَةُ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا كُلِّفُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كانوا يكفرن بِالرُّسُلِ. وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ أَصْلًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا كَمَا يُقَالُ: قَلِيلًا مَا يَفْعَلُ بِمَعْنَى لَا يَفْعَلُ الْبَتَّةَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلِيلًا مَا تُنْبِتُ، يريدون ولا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: ١٥٥] وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى إِذَا كَانَ الْمُصَرَّحُ فِيهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي انْتِصَابِ «قَلِيلًا» وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: فَإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ «وَمَا» مَزِيدَةٌ وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، وَثَانِيهَا: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِقَلِيلٍ يُؤْمِنُونَ. وَثَالِثُهَا: فَصَارُوا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٩]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ غَيْرُ مَا مَعَهُمْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْقُرْآنُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بتكليفهم بصديق مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ وَاللَّائِقُ بِذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِمَا مَعَهُمْ فِي دَلَالَةِ نُبُوَّتِهِ إِذْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِمَا مَعَهُمْ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ وَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدِ الْمُوَافَقَةُ فِي بَابِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ جَمِيعَ كُتُبِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مُوَافَقَتُهُ لِكُتُبِهِمْ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعَلَامَاتِ وَالنُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ نَصْبُهَا عَنِ النَّكِرَةِ؟ قُلْنَا: إِذَا وُصِفَتِ النَّكِرَةُ تَخَصَّصَتْ فَصَحَّ انْتِصَابُ الْحَالِ عَنْهَا وَقَدْ وُصِفَ كِتابٌ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي جَوَابِ «لَمَّا» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١] فَإِنَّ جَوَابَهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ. لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، عَنِ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّكْرِيرِ لِطُولِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ: كَفَرُوا به كقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٥] عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ جَوَابًا لِلَمَّا الأولى وكَفَرُوا بِهِ جَوَابًا لِلَمًّا الثَّانِيَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: ٣٨] [طه: ١٣٣] الْآيَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ، أَيْ يَسْأَلُونَ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ عَلَيْنَا وَانْصُرْنَا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ. وَثَانِيهَا: كَانُوا يَقُولُونَ لِمُخَالِفِيهِمْ عِنْدَ الْقِتَالِ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ يَنْصُرُنَا عَلَيْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَالِثُهَا: كَانُوا يَسْأَلُونَ الْعَرَبَ عَنْ مَوْلِدِهِ وَيَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا
وَخَامِسُهَا: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا قَرَءُوا وَذَكَرُوا مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَأَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ سَأَلُوا مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَلْ وُلِدَ فِيهِمْ مَنْ يُوَافِقُ حَالُهُ حَالَ هَذَا الْمَبْعُوثِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ التَّوْرَاةَ/ نُقِلَتْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِيهَا نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَعْنِي بَيَانَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمَوْصُوفَ بِالصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالسِّيرَةِ الْفُلَانِيَّةِ سَيَظْهَرُ فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْقَوْمُ مُضْطَرِّينَ إِلَى مَعْرِفَةِ شَهَادَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ وَصْفًا إِجْمَالِيًّا وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَمْ يَعْرِفُوا نُبُوَّتَهُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، بَلْ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ صَارَتْ تِلْكَ الْأَوْصَافُ كَالْمُؤَكِّدَةِ، فَلِهَذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْكَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَفَرُوا بِهِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَثْرَةِ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ الله عليه، عظم ذلك عليهم فَأَظْهَرُوا التَّكْذِيبَ وَخَالَفُوا طَرِيقَهُمُ الْأَوَّلَ. وَثَانِيهَا: اعْتِرَافُهُمْ بنبوته كان يوجب عليهم زوال رئاساتهم وَأَمْوَالِهِمْ فَأَبَوْا وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِنْكَارِ.
وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً فَلَا جَرَمَ كَفَرُوا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَفَّرَهُمْ بَعْدَ مَا بَيَّنَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِنُبُوَّتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ فَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُبْعَدَ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ مَلْعُونًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَةِ: ٨٣] وَقَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] قُلْنَا: الْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ لَعْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٠]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
اعْلَمْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ بِئْسَمَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ نِعْمَ وبئس نِعْمَ وَبِئْسَ بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي كَقَوْلِنَا: «عَلِمَ» إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ ثَانِيهِ حَرْفَ حَلْقٍ وَهُوَ مَكْسُورٌ يَجُوزُ فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، الْأَوَّلُ: عَلَى الْأَصْلِ أَعْنِي بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي. وَالثَّانِي:
إِتْبَاعُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَكَذَا يُقَالُ: فِخِذٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْخَاءِ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ الْأَخِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الْجَوَازِ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمَا لِخُرُوجِهِمَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ وُجُودِ الْمَصْدَرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَصَيْرُورَتِهِمَا كَلِمَتَيْ مَدْحٍ وَذَمٍّ وَيُرَادُ بِهِمَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، لِيَدُلَّ هَذَا التَّغْيِيرُ اللَّازِمُ فِي اللَّفْظِ عَلَى التَّغْيِيرِ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْمَعْنَى فَيَقُولُونَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ وَلَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى الْأَصْلِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَمَا أَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ:
فَفِدَاءٌ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى | مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرٍّ وَضُرِّ |
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ | نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُبِرِّ |
أَلَسْنَا بِنِعْمَ الْجَارِ يُؤْلَفُ بَيْتُهُ | مِنَ النَّاسِ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدَمَا |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ «نِعْمَ وَبِئْسَ» أَصْلَانِ لِلصَّلَاحِ وَالرَّدَاءَةِ وَيَكُونُ فَاعِلُهُمَا اسْمًا يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ إِمَّا مُظْهَرًا وَإِمَّا مُضْمَرًا، وَالْمُظْهَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: نَحْوَ قَوْلِكَ، نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ لَا تُرِيدُ رَجُلًا دُونَ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ الرَّجُلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: نَحْوَ قَوْلِكَ نِعْمَ غُلَامُ الرَّجُلِ زَيْدٌ، أَمَّا قَوْلُهُ:
فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لَا سِلَاحَ لَهُمْ | وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَا |
عِشْرُونَ رَجُلًا وَالْمُمَيَّزُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ عِشْرُونَ الدِّرْهَمَ وَلَوْ أَدْخَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى هَذَا فَقَالُوا: نِعْمَ الرَّجُلَ بِالنَّصْبِ لَكَانَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ، إِذْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْإِتْيَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَرَفَعُوا وَقَالُوا نِعْمَ الرَّجُلُ وَكَفَوْا أَنْفُسَهُمْ مُؤْنَةَ الْإِضْمَارِ وَإِنَّمَا أَضْمَرُوا الْفَاعِلَ قَصْدًا لِلِاخْتِصَارِ، إِذْ كَانَ «نِعْمَ رَجُلًا» يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ الَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْتَ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا كَأَنَّهُ قِيلَ:
زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، أَخَّرْتَ زَيْدًا وَالنِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ الْمِسْكِيُنُ تُرِيدُ الْمِسْكِينُ مَرَرْتُ بِهِ، فَأَمَّا الرَّاجِعُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ شَائِعًا يَنْتَظِمُ فِيهِ الْجِنْسُ كَانَ زَيْدٌ دَاخِلًا تَحْتَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الذِّكْرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ فِي قَوْلِكَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: نِعْمَ الرَّجُلُ،
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ نِعْمَ وَبِئْسَ كَزَيْدٍ مِنَ الرِّجَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُضَافُ إِلَى الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَافِ: ١٧٧] مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَإِذْ قَدْ لَخَّصْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ بِمَعْنَى بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ «أَنْ يكفروا».
المسألة الثانية: في الشراء هاهنا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَكَّنَ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُفْضِي بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكُفْرِ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إِلَى النَّارِ صَارَ اخْتِيَارُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ تَمَلُّكِ سِلْعَةٍ عَلَى سِلْعَةٍ فَإِذَا اخْتَارَ الْإِيمَانَ الَّذِي فِيهِ فَوْزُهُ وَنَجَاتُهُ. قِيلَ: نِعْمَ مَا اشْتَرَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صَلُحَ أَنْ يُوصَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ وَمُشْتَرٍ لِوُقُوعِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَحَّ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ لِأَنَّ الَّذِي حَصَّلُوهُ عَلَى مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ لَمَّا كَانَ هُوَ الْكُفْرُ صَارُوا بَائِعِينَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ يَأْتِي بِأَعْمَالٍ يَظُنُّ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُ مِنَ الْعِقَابِ فَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى الثَّوَابِ فَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ تَفْسِيرَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ/ تَعَالَى: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ اخْتَارُوا هَذَا الْكُفْرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَالَ: بَغْياً وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى غَرَضِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا يُقَالُ يُعَادِي فُلَانٌ فَلَانًا حَسَدًا تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى غَرَضِهِ وَلَوْلَا هَذَا الْقَوْلُ لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكْفُرُوا جَهْلًا لَا بَغْيًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ حَرَامٌ. وَلَمَّا كَانَ الْبَغْيُ قَدْ يَكُونُ لِوُجُوهٍ شَتَّى بَيَّنَ تَعَالَى غَرَضَهُمْ مِنْ هَذَا الْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْقِصَّةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ بِالنُّبُوَّةِ الْمُنْتَظَرَةِ يَحْصُلُ فِي قَوْمِهِمْ فَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي الْعَرَبِ حَمَلَهُمْ ذَلِكَ على البغي والحسد.
أما قوله تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْغَضَبَيْنِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ سَبَبَيْنِ لِلْغَضَبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ دُخُولًا فِي غَضَبٍ بَعْدَ غَضَبٍ وَسَخَطٍ بَعْدَ سَخَطٍ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لِأَجْلِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي سَبَبٍ بَعْدَ سَبَبٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةَ، الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ إِثْبَاتَ غَضَبَيْنِ فَقَطْ بَلِ الْمُرَادُ إثبات
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَضَبُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي مِزَاجِهِ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ قَلْبِهِ بِسَبَبِ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ الْإِضْرَارَ مِنْ جِهَةِ اللَّعْنِ وَالْأَمْرَ بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْغَضَبِ وَأَنَّ غَضَبَهُ يَتَزَايَدُ ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من الْعَذَابِ فَلَا يَكُونُ غَضَبُهُ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَغَضَبِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِخِصَالٍ كَثِيرَةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى يَدْخُلُ فِيهَا أُولَئِكَ الْكُفَّارُ وَغَيْرُهُمْ وَالْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إِلَّا هُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَذَابُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ مُهِينًا لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَهَانَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِيمَا يَعْقِلُ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُهِينُ لِلْمُعَذَّبِينَ بِالْعَذَابِ الْكَثِيرِ إِلَّا أَنَّ الْإِهَانَةَ لَمَّا/ حَصَلَتْ مَعَ الْعَذَابِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَذَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِهَانَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْوَصْفِ؟ قُلْنَا: كَوْنُ الْعَذَابِ مَقْرُونًا بِالْإِهَانَةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدَّلِيلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عَذَابَ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْخَوَارِجُ قَالُوا: ثَبَتَ بِسَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّ الْفَاسِقَ يُعَذَّبُ، وَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا الْكَافِرُ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ الْفَاسِقُ كَافِرٌ. وَثَانِيهَا: الْمُرْجِئَةُ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا الْكَافِرُ وَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِكَافِرٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ وَفَسَادُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَخْفَى «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَيْضًا مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يَعْنِي به اليهود: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي تُفِيدُ الْعُمُومَ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَمَّا آمَنُوا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ذَمَّهُمْ عَلَى ذلك ولولا أن لفظة «ما» تفيد
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ فَهُوَ كَالْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ/ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا لَا مَحَالَةَ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْكُتُبِ مَعَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْكُتُبِ مُحَالٌ. الثَّانِي: مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا وَلَا اسْتَفَادَ مِنْ أُسْتَاذٍ، فَلَمَّا أَتَى بِالْحِكَايَاتِ وَالْقِصَصِ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا اسْتَفَادَهَا مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَجَبَ اشْتِمَالُ التَّوْرَاةِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ بَلْ مُكَذِّبًا لَهَا وَإِذَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ لَزِمَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ دَعْوَاهُمْ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ مُتَنَاقِضَةٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ قَتْلَهُ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ السَّعْيُ فِي قَتْلِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كُفْرًا فَلِمَ سَعَيْتُمْ فِي ذَلِكَ إِنْ صَدَقْتُمْ فِي ادِّعَائِكُمْ كَوْنَكُمْ مُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي الدِّينِ مِنْ حِرَفِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنَّ إِيرَادَ الْمُنَاقَضَةِ عَلَى الْخَصْمِ جَائِزٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ وَإِنْ كَانَ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ لَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ سَلَفِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ الْمَاضِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: آمِنُوا خِطَابٌ لهؤلاء الموجودين: وفَلِمَ تَقْتُلُونَ حِكَايَةُ فِعْلِ أَسْلَافِهِمْ فَكَيْفَ وُجِّهَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: أَنَّكُمْ بِهَذَا التَّكْذِيبِ خَرَجْتُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا آمَنْتُمْ كَمَا خَرَجَ أَسْلَافُكُمْ بِقَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَاقِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ كَيْفَ جَازَ قَوْلُهُ: لِمَ تَقْتُلُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا أَضْرِبُكَ أَمْسُ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَعْرِفُهُ بِمَا سَلَفَ مِنْ قُبْحِ فعله:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٢]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢)
اعْلَمْ أَنَّ تَكْرِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُغْنِي عَنْ تَفْسِيرِهَا وَالسَّبَبُ فِي تَكْرِيرِهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى طَرِيقَةَ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَهُمْ بِالْعِنَادِ وَالتَّكْذِيبِ وَمَثَّلَهُمْ بِسَلَفِهِمْ فِي قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِي يُنَاسِبُ التَّكْذِيبَ لَهُمْ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، أَعَادَ ذِكْرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ ذَلِكَ أَجَازُوا أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَابِرٌ ثَابِتٌ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى رَبِّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَالِي مَعَكُمْ وَإِنْ بَالَغْتُمْ فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْإِعَادَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَإِيجَابِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ لَجَاجِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ إِظْلَالَ الْجَبَلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُخَوِّفَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَرَّحُوا بِقَوْلِهِمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْوِيفَ وَإِنْ عَظُمَ لَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَمِعُوهُ فَتَلَقَّوْهُ بِالْعِصْيَانِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَكَقَوْلِهِ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ، وَفِي وَجْهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ تَدَاخَلَهُمْ حُبُّهُ وَالْحِرْصُ عَلَى عِبَادَتِهِ كَمَا يَتَدَاخَلُ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، وَقَوْلُهُ: فِي قُلُوبِهِمُ بَيَانٌ/ لمكان الإشراف كَقَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠]. الثَّانِي: كَمَا أَنَّ الشُّرْبَ مَادَّةٌ لِحَيَاةِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ فَكَذَا تِلْكَ الْمَحَبَّةُ كَانَتْ مَادَّةً لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأُشْرِبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلًا غَيْرَهُمْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَى اللَّهِ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنَّ غَيْرَهُمْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ لِفَرْطِ وُلُوعِهِمْ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِكُفْرِهِمْ فَالْمُرَادُ بِاعْتِقَادِهِمُ التَّشْبِيهَ عَلَى اللَّهِ وَتَجْوِيزِهِمُ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ عِبَادَةُ الْعِجْلِ وَإِضَافَةُ الْأَمْرِ إِلَى إِيمَانِهِمْ تَهَكُّمٌ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هُودٍ: ٨٧] وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَانُ عَرَضٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَكِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْآمِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ التَّشْكِيكُ فِي إِيمَانِهِمْ والقدح في صحة دعواهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاسِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَصْمِ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا فَافْعَلْ كَذَا إِلَّا وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ لِيَصِحَّ إِلْزَامُ الثَّانِي عَلَيْهِ «١». وَثَانِيهَا: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ/ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: ٨٠]. وَثَالِثُهَا: اعْتِقَادُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُحِقُّونَ لِأَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي شَرْعِهِمْ، وَأَنَّ سَائِرَ الْفِرَقِ مُبْطِلُونَ، وَرَابِعُهَا: اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلَى أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَعْنِي يَعْقُوبَ وَإِسْحَاقَ وَإِبْرَاهِيمَ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوَصِّلُهُمْ إِلَى ثَوَابِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَظَّمُوا شَأْنَ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ عَلَى الْعَرَبِ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ كَالْحُجَّةِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَصْرِفُونَ النَّاسَ بِسَبَبِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَبَيَانُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى نِعَمِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى قِلَّتِهَا كَانَتْ مُنَغَّصَةً عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُنَازَعَتِهِ مَعَهُمْ بِالْجِدَالِ وَالْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ فِي النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ الْمُنَغَّصَةِ، ثُمَّ إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي الْمَوْتِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ مَطْلُوبَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَوْتِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْسَانُ راضياً بالموت متمنياً
(المصحح).
[هاهنا سؤالات] [السؤال الأول] فَإِنْ قِيلَ «١» لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَالِصَةً لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، قَوْلُهُ لَأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ مَطْلُوبٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمَوْتِ وَالَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا. قُلْنَا: قُلْنَا الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا نَظَرًا إِلَى ذَاتِهِ وَالْمَوْتُ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْآلَامِ الْعَظِيمَةِ وَمَا كَانُوا يُطِيقُونَهَا فَلَا جَرَمَ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْلِبُوا هَذَا السُّؤَالَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُوا: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ دُونَ مَنْ يُنَازِعُكَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَارْضَ بِأَنْ نَقْتُلَكَ وَنَقْتُلَ أُمَّتَكَ، فَإِنَّا نَرَاكَ وَنَرَى أُمَّتَكَ فِي الضُّرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجِدَالِ وَالْقِتَالِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّكُمْ تَتَخَلَّصُونَ إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَرْضَوْا بِقَتْلِكُمْ! السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَالِصَةٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ أَبَدًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَعِيدِيَّةً أَوْ لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَنَّ يَصِيرَ مُعَذَّبًا فَلِأَجْلِ هَذَا مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا السُّؤَالَ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْقِيَامَةِ/ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَسَبِ الْعَدَدِ لَكِنَّهَا طَوِيلَةً بِحَسَبِ الْمُدَّةِ فَلَا جَرَمَ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ فَقَالَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشُّورَى: ١٨] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَحَدَّى الْقَوْمَ بِذَلِكَ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ لَفْظَ التَّمَنِّي مُشْتَرِكٌ بَيْنَ التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْتَنِي مِتُّ، لِلْيَهُودِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّكَ طَلَبْتَ مِنَّا التَّمَنِّي وَالتَّمَنِّي لَفْظٌ مُشْتَرِكٌ، فَإِنْ ذَكَرْنَاهُ بِاللِّسَانِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَإِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَلَمَّا عَلِمَ الْيَهُودُ أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا لَا جَرَمَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: هَبْ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ. الجواب: قوله أولًاكون الْمَوْتِ مُتَضَمِّنًا لِلْأَلَمِ يَكُونُ كَالصَّارِفِ عَنْ تَمَنِّيهِ، قلنا كما
أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقُولُ إِنِّي بُعِثْتُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ،
وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ فَلِأَجْلِ هَذَا لَا أَرْضَى بِالْقَتْلِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ كَذَلِكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، قَوْلُهُ ثَالِثًا: كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ عِقَابِ الْكَبَائِرِ، قُلْنَا: الْقَوْمُ ادَّعَوْا كَوْنَ الْآخِرَةِ خَالِصَةً لَهُمْ وَذَلِكَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنَ امْتِزَاجِ ثَوَابِهَا بِالْعِقَابِ قَوْلُهُ رَابِعًا: نُهِيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ قُلْنَا هَذَا النَّهْيُ طَرِيقَةُ الشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحَالُ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ،
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي غِلَالَةٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا بِزِيِّ الْمُحَارِبِينَ فَقَالَ يَا بُنَيَّ لَا يُبَالِي أَبُوكَ أَعَلَى الْمَوْتِ سَقَطَ أَمْ عَلَيْهِ يَسْقُطُ الْمَوْتُ،
وَقَالَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصِفِّينَ:
الْآنَ أُلَاقِي الْأَحِبَّهْ «١» | مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ |
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا»،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَشَرِقُوا بِهِ وَلَمَاتُوا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوْا بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فَحَصَلَتِ الْحُجَّةُ، فَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَالْمُرَادُ الْجَنَّةُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ دَارِ الْآخِرَةِ دُونَ النَّارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لهم الجنة.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةً فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ سَالِمَةً لَكُمْ خَاصَّةً بِكُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكُمْ فِيهَا حَقٌّ، يَعْنِي إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وَ (النَّاسِ) لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ:
لِلْعَهْدِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنْسُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد هاهنا مَعْهُودٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ فَالْمُرَادُ بِهِ سِوَى لَا مَعْنَى الْمَكَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ وُهِبَ مِنْهُ مُلْكًا: هَذَا لَكَ مِنْ دُونِ النَّاسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا أَمْرٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ وَهُوَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْجُودًا وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّحَدِّي وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّمَنِّي قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ يَتَحَدَّوْا بِأَنْ يَدْعُوَ/ الْفَرِيقَانِ بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ فَرِيقٍ كَانَ أَكْذَبَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولُوا لَيْتَنَا نَمُوتُ وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَخَبَرٌ قَاطِعٌ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ لِأَنَّ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهُولَةِ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ فَهَذَا إِخْبَارٌ جَازِمٌ عَنْ أَمْرٍ قَامَتِ الْأَمَارَاتُ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَداً فَهُوَ غَيْبٌ آخَرُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَهُمَا غَيَبَانِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَبَيَانٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا لَا يَتَمَنَّوْنَ [الْمَوْتَ] لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ وَكَثْرَةَ ذُنُوبِهِمْ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فَهُوَ كَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنْهُ صَارَ تَصَوُّرُ الْمُكَلَّفِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الصَّوَارِفِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِرًا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ كَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَإِنْ قِيلَ: إنه تعالى قال هاهنا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فلم ذكر هاهنا (لَنْ) وَفِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ «لَا» قُلْنَا: إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ مَنْ دُونِ النَّاسِ وَادَّعَوْا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَالدَّعْوَى الْأُولَى أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِيَةِ إِذِ السَّعَادَةُ الْقُصْوَى هِيَ الْحُصُولُ فِي دَارِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْوَلَايَةِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً إِلَّا أَنَّهَا إِنَّمَا تُرَادُ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى أَعْظَمَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِ: «لَنْ» لِأَنَّهُ أَقْوَى الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ وَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا جَرَمَ اكْتَفَى فِي إِبْطَالِهَا بِلَفْظِ «لَا» لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى النَّفْيِ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٦]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)[في هذه الآية مسألتان] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ في غاية الحرص على الحياة لأن هاهنا قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ فَقَالَ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ فَهُوَ مِنْ وَجَدَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَجَدْتُ زَيْدًا ذَا حِفَاظٍ، وَمَفْعُولَاهُ «هُمْ» وَ «أَحْرَصَ» وَإِنَّمَا قَالَ: عَلى حَياةٍ بِالتَّنْكِيرِ لِأَنَّهُ حَيَاةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَطَاوِلَةُ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا أَوْقَعَ مِنْ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «عَلَى الْحَيَاةِ» أَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَفِيهِ [ثلاثة أقول] :
أَحَدُهَا: أَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَأَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا كَقَوْلِكَ:
هُوَ أَسْخَى النَّاسِ وَمِنْ حَاتِمٍ. هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَصَمِّ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَمْ يَدْخُلِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا تَحْتَ النَّاسِ؟ قُلْنَا:
بَلَى وَلَكِنَّهُمْ أُفْرِدُوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ حِرْصَهُمْ شَدِيدٌ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْمَعَادِ وَمَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَحِرْصُهُمْ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبْعَدُ لِأَنَّهَا جَنَّتُهُمْ فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِمْ فِي الْحِرْصِ مَنْ لَهُ كِتَابٌ وَهُوَ مقر بالجزاء كان حقيقياً بِأَعْظَمِ التَّوْبِيخِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ زَادَ حِرْصُهُمْ عَلَى حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ اسْتِئْنَافٍ وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: «عَلَى حَيَاةٍ» [وَ] تَقْدِيرُهُ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أُنَاسٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: ١٦٤].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْقِصَّةُ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ خَاصَّةً فَالْأَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَتَجِدَنَّ الْيَهُودَ أَحْرَصَ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ وَفِي إِظْهَارِ كَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ. إِنَّ الدار الآخرة لنا لِغَيْرِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قِيلَ الْمَجُوسُ:
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَلِكِهِمْ: عِشْ أَلْفَ نَيْرُوزَ وَأَلْفَ مِهْرَجَانٍ، وَعَنِ ابن عباس هو قول الأعاجم: زي هزار سال، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَقِيلَ: كُلُّ مُشْرِكٍ لَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حِرْصَ هَؤُلَاءِ عَلَى الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ أَلْفِ سَنَةٍ قَوْلَ الْأَعَاجِمِ عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُعْدَهُمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ هَذَا الْبَقَاءَ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ هَذَا الْحِرْصَ الشَّدِيدَ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ؟
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في أن قوله: وَما هُوَ كناية عما ذا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ «أَحَدِهِمْ» الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ أَيْ وَمَا أَحَدُهُمْ بِمَنْ يُزَحْزِحُهُ مِنَ النَّارِ تَعْمِيرُهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَمِيرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ «يُعَمَّرُ» مِنْ مَصْدَرِهِ وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) مُوَضِّحُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّحْزَحَةُ التَّبْعِيدُ وَالْإِنْحَاءُ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ الْعَذَابِ أَقَلَّ تَأْثِيرٍ وَلَوْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِمُبْعِدِهِ وَبِمُنْجِيهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قِلَّةِ التَّأْثِيرِ كَدَلَالَةِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ، يُقَالُ: إِنَّ لِفُلَانٍ بَصَرًا بِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ مَعْرِفَةً، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ لَوْ وُجِدَتِ الْمُبْصَرَاتُ لَأَبْصَرَهَا وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ يَصِحَّانِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْأَعْمَالِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَى حُمِلَ هَذَا الْبَصَرُ عَلَى الْعِلْمِ لا محالة والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَمُنْكَرَاتِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ سَبَبٍ وَأَمْرٍ قَدْ ظَهَرَ مِنَ اليهود حتى يأمره تعالى بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَاجَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا أُمُورًا، أَحَدُهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ نَومُكَ، فَقَدْ أُخْبِرْنَا عَنْ نَوْمِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» قَالَ: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْوَلَدِ أَمِنَ الرَّجُلِ يَكُونُ أَمْ مِنَ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْعِظَامُ وَالْعَصَبُ وَالْعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْرُ وَالشَّعْرُ، فَمِنَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ صَدَقْتَ. فَمَا بَالُ الرَّجُلِ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ دُونَ أَخْوَالِهِ أَوْ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ دُونَ أَعْمَامِهِ؟ فَقَالَ: أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبِهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، قَالَ: صَدَقْتَ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يُخْبِرُ عَنْهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سُقْمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ لُحْمَانُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا؟
فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ إِنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بِكَ، أَيُّ مَلَكٍ يَأْتِيكَ بِمَا تَقُولُ عَنِ اللَّهِ؟ قَالَ جِبْرِيلُ:
قَالَ إِنَّ ذَلِكَ عَدُوُّنَا يَنْزِلُ بِالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ، وَرَسُولُنَا مِيكَائِيلُ يَأْتِي بِالْبِشْرِ وَالرَّخَاءِ فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَأْتِيكَ آمَنَّا بِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا مَبْدَأُ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ؟ فَقَالَ ابْنُ صُورِيًّا/ مَبْدَأُ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّنَا أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَيُخَرَّبُ فِي زَمَانِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بُخْتُنَصَّرُ وَوَصَفَهُ لَنَا فَطَلَبْنَاهُ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ بَعَثْنَا لِقَتْلِهِ رِجَالًا فَدَفَعَ عَنْهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنْ سَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَى قَتْلِهِ فَهَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَيُخَرِّبُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَتْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَبُرَ وَقَوِيَ وَمَلَكَ وَغَزَانَا وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَنَا، فَلِذَلِكَ نَتَّخِذُهُ عَدُوًّا، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَإِنَّهُ
وَثَانِيهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَمَرُّهُ عَلَى مِدْرَاسِ الْيَهُودِ وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: يَا عُمَرُ قَدْ أَحْبَبْنَاكَ وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِيكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَجِيئُكُمْ لِحُبِّكُمْ وَلَا أَسْأَلُكُمْ لِأَنِّي شَاكٌّ فِي دِينِي وَإِنَّمَا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ لِأَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَى آثَارَهُ فِي كِتَابِكُمْ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا يُطْلِعُ مُحَمَّدًا عَلَى أَسْرَارِنَا وَهُوَ صَاحِبُ كَلِّ خَسْفٍ وَعَذَابٍ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ يَجِيءُ بِالْخِصْبِ وَالسَّلْمِ فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالُوا: أَقْرَبُ مَنْزِلَةً، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ وَمِيكَائِيلُ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ فَمَا هُمَا بِعَدُوَّيْنِ وَلَأَنْتُمْ أَكْفَرُ مِنَ الْحَمِيرِ، وَمَنْ كَانَ عَدُوٌّ لِأَحَدِهِمَا كَانَ عَدُوًّا لِلْآخَرِ وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ فَوَجَدَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِالْوَحْيِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ وَافَقَكَ رَبُّكَ يَا عُمَرُ» قَالَ عمر: لقد رأيتني في دين بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ،
وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدُوُّنَا، أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِينَا فَجَعَلَهَا فِي غَيْرِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ الَّذِي نَزَّلَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ بِشَارَةُ الْمُطِيعِينَ بِالثَّوَابِ وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ عَنْ أَمْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهِ فَعَدَاوَةُ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ تُوجِبُ عَدَاوَةَ اللَّهِ وَعَدَاوَةُ اللَّهِ كُفْرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ عَدَاوَةَ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ كُفْرٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ مِيكَائِيلَ بِإِنْزَالِ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَتَمَرَّدُ أَوْ يَأْبَى عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ أَوْ كَانَ يَقْبَلُهُ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ عَلَى مِيكَائِيلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمَا الْوَجْهُ فِي تَخْصِيصِ جِبْرِيلَ بِالْعَدَاوَةِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا شَقَّ عَلَى الْيَهُودِ فَإِنْزَالُ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى شَقَّ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَإِنِ اقْتَضَتْ نَفْرَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِإِنْزَالِ القرآن قبحه فلتقتض نقرة أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُبْحَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسَادُ مَا قَالُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَقُولَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَدُوُّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّا نَرَى الْيَهُودَ فِي زَمَانِنَا هَذَا مُطْبِقِينَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِهِمْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ حِكَايَةَ اللَّهِ أَصْدَقُ، وَلِأَنَّ جَهْلَهُمْ كَانَ شَدِيدًا وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «جَبْرِيلَ» بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مَهْمُوزًا وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ بِوَزْنِ قِنْدِيلٍ وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ ثَلَاثٌ منها ذكرناها، وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل عَلَى وَزْنِ جِبْرَاعِيلَ وَجِبْرَايِلُ عَلَى وَزْنِ جِبْرَاعِلَ وَجِبْرِينَ بِالنُّونِ وَمُنِعَ الصَّرْفُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جِبْرِيلُ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَ «جَبَرَ» عَبَدَ وَ «إِيلُ» اللَّهُ: وُمِيكَائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «فَإِنَّهُ» وَفِي قَوْلِهِ: «نَزَّلَهُ» إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهَاءَ الْأُولَى تَعُودُ عَلَى جِبْرِيلَ وَالثَّانِيَةَ: عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ كَقَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَيْ إِنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا يُنَزِّلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِضْمَارُ مَا لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ فِيهِ فَخَامَةٌ لِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، وثانيها: الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَنَّهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْقُرْآنُ: إِنَّمَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣] وَأَكْثَرُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ ثَبَتَ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْأَدَاءِ ثَبَاتَهُ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا جَازَ أَنْ يُقَالَ: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ نَزَّلَهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَلْبِي، وَالْجَوَابُ: جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي، مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ اسْتَقَامَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ مَا أَتَى إِلَّا أَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ فِيهِ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ فَأَنْزَلَهُ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَتَى/ بِالْهِدَايَةِ وَالْبِشَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْكُورًا فَكَيْفَ تَلِيقُ بِهِ الْعَدَاوَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ إِنْ كَانُوا يُعَادُونَهُ فَيَحِقُّ لَهُمْ ذَاكَ، لِأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بُرْهَانًا عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَمِصْدَاقًا لِصِدْقِكَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يُبْغِضُونَ مَنْ أَكَّدَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْأَظْهَرُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْعِلْمِ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ وَاللَّفْظُ وَاجِبُ الْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِنْزَالَهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْوُجُوبُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمْرِ لَا مِنَ الْعِلْمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ لَازِمٍ كَانَ أَوْكَدَ فِي الْحُجَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مَعْنَى لتخصيص كتاب دون كِتَابٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالتَّوْرَاةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُوَافِقُ التَّوْرَاةَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لِشَرَائِعِ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَلِمَ صَارَ بِأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُتَوَافِقَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ غير مصدق لها؟
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُدىً فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُدًى. وَثَانِيهِمَا: بَيَانُ أَنَّ الْآتِيَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ كَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُهُ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بُشْرَى، وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى الثَّانِي فِي الْوُجُودِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ لَفْظَ الْهُدَى عَلَى لَفْظِ الْبُشْرَى، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ خَصَّ كَوْنَهُ هُدًى وَبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بالكتاب فهو كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بُشْرَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبُشْرَى عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ.
أَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ كَانَ عَدُوًّا لَهُ، فَبَيَّنَ أَنَّ فِي مُقَابَلَةِ عَدَاوَتِهِمْ مَا يُعَظِّمُ ضَرَرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عَدَاوَةُ اللَّهِ لَهُمْ، لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَعَدَاوَتُهُ تَعَالَى تُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ الأليم الذي لا ضرر أعظم منه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ الْعَدَاوَةِ الْإِضْرَارُ بِالْعَدُوِّ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى الْعَدَاوَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِينَا لِأَنَّ الْعَدُوَّ/ لِلْغَيْرِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ إِنْزَالَ الْمَضَارِّ بِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُعَادُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ عَدَاوَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ دُونَهُ لِاسْتِحَالَةِ الْمُحَارَبَةِ وَالْأَذِيَّةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ كَرَاهَتُهُمُ الْقِيَامَ بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَبُعْدَهُمْ عَنِ التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْعَدُوُّ لَا يَكَادُ يُوَافِقُ عَدُوَّهُ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ شَبَّهَ طَرِيقَتَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِالْعَدَاوَةِ، فَأَمَّا عَدَاوَتُهُمْ لِجِبْرِيلَ وَالرُّسُلِ فَصَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْإِضْرَارَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْأُمُورِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهِمْ، وَعَدَاوَتُهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهَا فِي الْعَاجِلِ تَقْتَضِي الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَفِي الْآجِلِ تَقْتَضِي الْعَذَابَ الدَّائِمَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مَعَ انْدِرَاجِهِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ؟ الْجَوَابُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا كَأَنَّهُمَا لِكَمَالِ فَضْلِهِمَا صَارَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، الثَّانِي:
أَنَّ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْيَهُودِ هُوَ ذِكْرُهُمَا وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمَا، فَلَا جَرَمَ نَصَّ عَلَى اسْمَيْهِمَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مِيكَائِيلَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي الذِّكْرِ مُسْتَقْبَحٌ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَحًا شَرْعًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فهو عند الله حسن»،
وَثَانِيهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، وَمِيكَائِيلُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ وَهِيَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَشْرَفَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ
[أما قوله تعالى وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين فيه مسائل] المسألة الأولى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ مِيكَالَ بِوَزْنِ قِنْطَارٍ، وَنَافِعٌ مِيكَائِلَ مُخْتَلَسَةً لَيْسَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِلَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِيكَائِيلَ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِيلَ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى ميكئيل على وزن ميكعيل، وَمِيكَئِيلُ كَمِيكَعِيلَ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْعَرَبُ إِذَا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.
المسألة الثانية: الْوَاوُ فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، قِيلَ: وَاوُ الْعَطْفِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَوْ يَعْنِي مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِجَمِيعِ الكافرين.
المسألة الثالثة: عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ أَرَادَ عَدُوٌّ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٩]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمَّا بُعِثَ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ: فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ وَنَحْنُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَ لَنَا صِفَتَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآيات البينات الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْقُرْآنَ مَعَ سَائِرِ الدَّلَائِلِ نَحْوَ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْمُبَاهَلَةِ وَمِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ نَحْوَ إِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا قُرِنَتْ إِلَى التَّنْزِيلِ كَانَتْ أَخَصَّ بِالْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَجْهُ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالْآيَاتِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ هِيَ الدَّالَّةُ وَإِذَا كَانَتْ أَبْعَاضُ الْقُرْآنِ دَالَّةً بِفَصَاحَتِهَا عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَتْ آيَاتٍ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْغُيُوبِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ فَهِيَ آيَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيِّنًا فَمَا مَعْنَى وَصْفِ الْآيَاتِ بِكَوْنِهَا بَيِّنَةً، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ كَوْنُ بَعْضِهَا أَبْيَنَ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَمْكَنَ فِي الْعُلُومِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ تَجْوِيزُ نَقِيضِ مَا اعْتَقَدَهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ حَصَلَ مَعَهُ ذَلِكَ التَّجْوِيزُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عِلْمًا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ آخَرُ آكَدَ مِنْهُ. قُلْنَا: التَّفَاوُتُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ بَلْ فِي طَرِيقِهِ، فَإِنَّ الْعُلُومَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ طَرِيقُ تَحْصِيلِهِ وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مُقَدِّمَاتٍ فَيَكُونُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ أَصْعَبَ، وَإِلَى مَا يَكُونُ أَقَلَّ مُقَدِّمَاتٍ فَيَكُونُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، وَهَذَا هُوَ الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِنْزَالُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْرِيكِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ وَذَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي الْجِسْمِيِّ
أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكُفْرُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: جُحُودُهَا مَعَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا. وَالثَّانِي: جُحُودُهَا مَعَ الْجَهْلِ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِيهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِهَا وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ تَخْصِيصٌ فَيَدْخُلُ الْكُلُّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَمَّا حُدَّ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: ٥٠] وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلنَّوَاةِ: إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرُّطَبَةِ عِنْدَ سُقُوطِهَا فَسَقَتِ النَّوَاةُ، وَقَدْ يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهُ الْفُجُورُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فُجُورِ السَّدِّ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَاءَ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَفْسُدُ [إِذَا صَارَ إِلَيْهِ] فَشَبَّهَ تَعَدِّي الْإِنْسَانِ مَا حُدَّ لَهُ إِلَى الْفَسَادِ بِالَّذِي فَجَّرَ السَّدَّ حَتَّى صَارَ إِلَى حَيْثُ يُفْسِدُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ تَجَاوَزَ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا يُوصَفُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِمَا كُلُّ أَمْرٍ يُعَظَّمُ مِنَ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَنَّ مَنْ فَتَحَ مِنَ النَّهْرِ نَقْبًا يَسِيرًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَجَّرَ ذَلِكَ النَّهْرَ وَكَذَلِكَ الْفِسْقُ إِنَّمَا يُقَالُ: إِذَا عَظُمَ التَّعَدِّي. إِذَا ثَبَتَ هذا فنقول في قوله: إِلَّا الْفاسِقُونَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَاسِقٌ وَلَا يَنْعَكِسُ فَكَأَنَّ ذِكْرَ الْفَاسِقِ يَأْتِي عَلَى الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُكَفَّرُ بِهَا إِلَّا الْكَافِرُ الْمُتَجَاوِزُ عَنْ كُلِّ حَدٍّ فِي كَفْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا كَانَتْ بَيِّنَةً ظَاهِرَةً لَمْ يَكْفُرْ بِهَا إِلَّا الْكَافِرُ الَّذِي يَبْلُغُ فِي الْكُفْرِ إِلَى النِّهَايَةِ الْقُصْوَى وَتَجَاوَزَ عَنْ كُلِّ حد مستحسن في العقل والشرع.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٠]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً وَاوُ عَطْفٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِالزِّيَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ: أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ وَكُلَّمَا عَاهَدُوا، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ بِسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقُونَ بِمَعْنَى الَّذِينَ فَسَقُوا فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَقُرِئَ عُوهِدُوا وَعُهِدُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، الْإِنْكَارُ وَإِعْظَامُ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّنْكِيرِ وَالتَّبْكِيتِ وَدَلَّ بقول: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَلَى عَهْدٍ بَعْدَ عَهْدٍ نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْعَادَةِ فِيهِمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عِنْدَ كُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ سَجِيَّتُهُمْ وَعَادَتُهُمْ وَعَادَةُ سَلَفِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ نَقْضِهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لِأَنَّ مَنْ يُعْتَادُ/ مِنْهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا يَصْعُبُ عَلَى النَّفْسِ مُخَالَفَتُهُ كَصُعُوبَةِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْعَهْدِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صِحَّةِ شَرْعِهِ كَانَ ذَلِكَ كَالْعَهْدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَقَبُولُهُمْ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ كَالْمُعَاهَدَةِ مِنْهُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَئِنْ خَرَجَ النَّبِيُّ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنُخْرِجَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَيَنْقُضُونَهُ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ عَاهَدُوهُ عَلَى أَنْ لَا يعينوا عليه
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ عَاهَدَ مَنْ آمَنَ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِفَةَ جَمِيعِهِمْ خَصَّ الْفَرِيقَ بِالذِّكْرِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ هُمُ الْأَقَلُّونَ بَيَّنَ أَنَّهُمُ الْأَكْثَرُونَ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَكْثَرُ أُولَئِكَ الْفُسَّاقِ لَا يُصَدِّقُونَ بِكَ أَبَدًا لِحَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَالثَّانِي: لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِكِتَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْمِهِمْ كَالْمُنَافِقِينَ مَعَ الرَّسُولِ يُظْهِرُونَ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِكِتَابِهِمْ ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الرَّسُولِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ هُوَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَرِفًا بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ أَوْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّوْرَاةَ بَشَّرَتْ بِمَقْدِمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَتَى مُحَمَّدٌ كَانَ مُجَرَّدُ مَجِيئِهِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبَذَ فَرِيقٌ فَهُوَ مَثَلٌ لِتَرْكِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا يُرْمَى بِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ وَقِلَّةَ الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمَ الْكِتَابِ مَنْ يَدْرُسُهُ وَيَحْفَظُهُ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الفريق بالعلم/ عند قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، الثَّانِي: الْمُرَادُ مَنْ يَدَّعِي التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَهَذَا كَوَصْفِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ لَا يُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ عُلُومِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَتَمَسَّكُ بِمُوجَبِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبْذَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ أَوَّلًا وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُمْ نَبَذُوهُ، الثَّانِي:
أَنَّهُ قَالَ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَرِيقِ مَعْنًى لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ نَبْذُهُمُ التَّوْرَاةَ وَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ؟ قُلْنَا: إِذَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَفِيهِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْهُ كَانُوا نَابِذِينَ لِلتَّوْرَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَنْ يَعْلَمُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ جَحَدُوا مَا يَعْلَمُونَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَصِحُّ الْجَحْدُ عَلَيْهِمْ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ كَانُوا فِي الْقِلَّةِ بحيث تجوز المكابرة عليهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ وَهُوَ اشْتِغَالُهُمْ بِالسِّحْرِ وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُمُ النَّاسَ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا حِكَايَةٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُمُ الْيَهُودُ، ثُمَّ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّحَرَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعُدُّونَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُلُوكِ فِي الدُّنْيَا، فَالَّذِينَ كَانُوا مِنْهُمْ فِي زَمَانِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ بِسَبَبِ السِّحْرِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: ١٠١] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كُتُبَ السِّحْرِ.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير: تَتْلُوا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التِّلَاوَةُ وَالْإِخْبَارُ، وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ (تَتْلُوا) أَيْ تَكْذِبُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. يُقَالُ: تَلَا عَلَيْهِ إِذَا كَذَبَ وَتَلَا عَنْهُ، إِذَا صَدَقَ وَإِذَا أَبْهَمَ جَازَ الْأَمْرَانِ. وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُخْبِرَ يُقَالُ فِي خَبَرِهِ إِذَا كَانَ كَذِبًا إِنَّهُ تَلَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ قَدْ تَلَا عَلَى فُلَانٍ لِيَمِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّدْقِ الَّذِي لَا يُقَالُ فِيهِ، روي عن فُلَانٍ، بَلْ يُقَالُ: رَوَى عَنْ فُلَانٍ وَأَخْبَرَ عَنْ فُلَانٍ وَتَلَا عَنْ فُلَانٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَخْبَارِ وَالتِّلَاوَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ مِمَّا يُتْلَى وَيُقْرَأُ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ كُلُّ الْأَوْصَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيَاطِينِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَعًا. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ قَالُوا: إِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ ثُمَّ يَضُمُّونَ إِلَى مَا سَمِعُوا أَكَاذِيبَ يُلَفِّقُونَهَا وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، وَقَدْ دَوَّنُوهَا فِي كُتُبٍ يَقْرَءُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ وَفَشَا ذَلِكَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ وَمَا تَمَّ لَهُ مُلْكُهُ إِلَّا بِهَذَا الْعِلْمِ وَبِهِ يُسَخِّرُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالرِّيحَ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ قَالُوا:
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ دَفَنَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ حِرْصًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ الظَّاهِرُ مِنْهَا يَبْقَى ذَلِكَ
فهذا معنى: «ما تتلوا الشَّيَاطِينُ»، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ لَوْ قَدَرُوا عَلَى تَغْيِيرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ بِحَيْثُ يَبْقَى ذلك التحريف محققاً فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ عَنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي كُلِّ الْأَدْيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، أَمَّا لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الِافْتِعَالَ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ أَنْ نَزِيدَ فِي كُتُبِ سُلَيْمَانَ بِخَطٍّ مِثْلِ خَطِّ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ وَيَبْقَى مَخْفِيًّا فَيُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فَقِيلَ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ عَلَى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ مِنْ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَقُولُونَ إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمُلْكَ بِسَبَبِ هَذَا الْعِلْمِ، فَكَانَتْ تِلَاوَتُهُمْ لِتِلْكَ الْكُتُبِ كَالِافْتِرَاءِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ هُوَ النُّبُوَّةُ، أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ النُّبُوَّةُ وَتَحْتَ النُّبُوَّةِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَالشَّرِيعَةُ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ «١» ثُمَّ أَخْرَجَ الْقَوْمُ صَحِيفَةً فِيهَا ضُرُوبُ السِّحْرِ وَقَدْ دَفَنُوهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ ثُمَّ أَخْرَجُوهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْهَمُوا أَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ صَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقَوُّلَا عَلَى مُلْكِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا وَجَدَ تِلْكَ الْمَمْلَكَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ كَانَ ذَلِكَ الِادِّعَاءُ كَالِافْتِرَاءِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَرْغِيبًا لِلْقَوْمِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمُلْكَ بِسَبَبِ السِّحْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَخَّرَ الْجِنَّ لِسُلَيْمَانَ فَكَانَ يُخَالِطُهُمْ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ أَسْرَارًا عَجِيبَةً فَغَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفَادَ السِّحْرَ مِنْهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ فَهَذَا تَنْزِيهٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ نَسَبُوهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ: قِيلَ فِيهِ أَشْيَاءُ، أَحَدُهَا: ما روي عن بعض أخبار الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ مِنَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا السِّحْرَ عَنْ سُلَيْمَانَ فَنَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّ قِوَامَ مُلْكِهِ كَانَ بِالسِّحْرِ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً، [أما قوله تعالى ولكن الشياطين كفروا] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي بَرَّأَهُ مِنْهُ لَاصِقٌ بِغَيْرِهِ فَقَالَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُشِيرُ/ بِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ السِّحْرَ كَالْحِرْفَةِ لِنَفْسِهِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا بِهِ كَفَرُوا فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا أَوَّلًا بِالسِّحْرِ فَقَالَ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّحْرِ يَقَعُ مِنْ وُجُوهٍ.
وَنَسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أنا نعلل ونخذع كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ، وَالْآخَرُ: نُغَذَّى وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا | عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ السِّحْرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ أَمْرٍ يَخْفَى سَبَبُهُ وَيُتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ. قَالَ تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: ١١٦] يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى وَقَالَ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: ٦٦] وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْدَحُ وَيُحْمَدُ.
رُوِيَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: خَبِّرْنِي عَنِ الزِّبْرِقَانِ، فَقَالَ: مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: هُوَ وَاللَّهِ يَعْلَمُ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ زَمَنُ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ أَحْمَقُ الْأَبِ لَئِيمُ الْخَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْتَ فِيهِمَا، أَرْضَانِي فَقُلْتُ: أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ وَأَسْخَطَنِي فَقُلْتُ أَسْوَأَ مَا عَلِمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»
فَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ الْمُشْكِلَ وَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ وَبَلِيغِ عِبَارَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا يُوَضِّحُ الْحَقَّ وَيُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا؟ وَهَذَا الْقَائِلُ إِنَّمَا قَصَدَ إِظْهَارَ الْخَفِيِّ لَا إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ وَلَفْظُ السِّحْرِ إِنَّمَا يُفِيدُ إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا سَمَّاهُ سِحْرًا لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لِلُطْفِهِ وَحُسْنِهِ اسْتَمَالَ الْقُلُوبَ فَأَشْبَهَ السِّحْرَ الَّذِي يَسْتَمِيلُ الْقُلُوبَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَ سِحْرًا، لَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ/. الثَّانِي: أَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى الْبَيَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْسِينِ مَا يَكُونُ قَبِيحًا وَتَقْبِيحِ مَا يَكُونُ حَسَنًا فَذَلِكَ يُشْبِهُ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ عَلَى أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكَلْدَانِيِّينَ والْكَسْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ وَالشُّرُورُ وَالسَّعَادَةُ وَالنُّحُوسَةُ وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَلَخَّصَهَا فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ وَنَحْنُ نَنْقُلُ تِلْكَ الْوُجُوهَ
أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزَاتِ عَلَى النُّبُوَّاتِ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا اسْتِحْدَاثَ الْخَوَارِقِ بِوَاسِطَةِ تَمْزِيجِ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْأَرْضِيَّةِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ صَدَرَتْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَا مِنْ طَرِيقِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْأَلْوَانِ لَقَدَرَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، لَكِنَّا نَرَى مَنْ يَدَّعِي السِّحْرَ مُتَوَصِّلًا إِلَى اكْتِسَابِ الْحَقِيرِ مِنَ الْمَالِ بِجُهْدٍ جَهِيدٍ، فَعَلِمْنَا كَذِبَهُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَعْلَمُ فَسَادَ مَا يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْكِيمْيَاءِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ أَمْكَنَهُمْ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ أَنْ يَقْلِبُوا غَيْرَ الذَّهَبِ ذَهَبًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْنُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْمَشَقَّةِ وَالذِّلَّةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُمْ إِلَّا بِالْآلَاتِ الْعِظَامِ وَالْأَمْوَالِ الْخَطِيرَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلْمُلُوكِ الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْمُلُوكُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ/ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ وَالْكُنُوزِ، وَفِي عِلْمِنَا بِانْصِرَافِ النُّفُوسِ وَالْهِمَمِ عَنْ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ الْقَاضِي: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِمَّا قَائِمًا بِالْمُتَحَيِّزِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ مُصِرُّونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ وَالنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ وَلَا قَائِمَةٍ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِهَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ وُجِدَ مَوْجُودٌ هَكَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأُسْلُوبِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَاهِيَّةِ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِذَاتِهِ؟ قَوْلُهُ: الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ، قُلْنَا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجِسْمِ إِلَّا الْمُمْتَدُّ فِي الْجِهَاتِ، الشَّاغِلُ لِلْأَحْيَازِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، قُلْنَا: الِامْتِدَادُ فِي الْجِهَاتِ وَالشُّغْلُ لِلْأَحْيَازِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهَا وَلَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ مُشْتَرِكَةً فِي بَعْضِ اللَّوَازِمِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ خَلْقُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ؟ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي لَنَا مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ وَهَذَا الِامْتِنَاعُ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا مُشْتَرَكَ سِوَى كَوْنِنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ بِأَسْرِهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ حُكْمٌ مُعَلَّلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عدمي
وَنَظِيرُ مَا ذَكَرُوهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مُخَالَفَةُ الصَّوْتِ لِلْبَيَاضِ بِأَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّوَادِ لِلْبَيَاضِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مَانِعَةً لِلصَّوْتِ مِنْ صِحَّةِ أَنْ يُرَى لَوَجَبَ لِكَوْنِ السَّوَادِ مُخَالِفًا لِلْبَيَاضِ أَنْ يَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا فَكَذَا مَا قَالُوهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمَّا حَكَى هَذِهِ الْوُجُوهَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَزَيْفِهَا بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَفْسَهُ تَمَسَّكَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَنَا. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ/ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ لَا يَبْقَى مَعَ تَجْوِيزِ هَذَا الْأَصْلِ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ مُتَفَرِّعًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ فَسَادُ هَذَا الْأَصْلِ بِالْبِنَاءِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّاتِ، وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْكَلَامُ فِي الْإِمْكَانِ غَيْرٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْبَشَرِ إِلَّا فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَبَاعِدَةِ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنَّفْسِ الْقَوِيَّةِ، قَالُوا: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ جِسْمٌ صَارَ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجِسْمَانِيٍّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ الْبَارِدَةِ أَنْ يَكُونَ مِزَاجُهُ مِزَاجًا مِنَ الْأَمْزِجَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ عَنَّا وَالْمُتَعَذِّرَةِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ إِذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ سار فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ النَّفْسُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: النُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ فَيَتَّفِقُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ إِنْ كَانَتْ لِذَاتِهَا قَادِرَةً عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ مُطَّلِعَةً عَلَى الْأَسْرَارِ الْغَائِبَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِهِ سِوَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ بَانَ بُطْلَانُهَا، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَالْجِسْرِ عَلَى هَاوِيَةٍ تَحْتَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ، وَثَانِيهَا:
اجْتَمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ وَالدَّوَرَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ، وَثَالِثُهَا: حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ «أَرِسْطُو» في طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مَعَ الدِّيَكَةِ نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ
أَنَّكَ لَوْ أَنْصَفْتَ لَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَبَادِئَ الْقَرِيبَةَ لِلْأَفْعَالِ الْحَيَوَانِيَّةِ لَيْسَتْ إِلَّا التَّصَوُّرَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الْمُحَرِّكَةَ الْمَغْرُوزَةَ فِي الْعَضَلَاتِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَتَرْكِهِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَصَوُّرُ كَوْنِ الْفِعْلِ جَمِيلًا أَوْ لَذِيذًا أَوْ تَصَوُّرُ كَوْنِهِ قَبِيحًا أَوْ مُؤْلِمًا فَتِلْكَ التَّصَوُّرَاتُ هِيَ الْمَبَادِئُ لِصَيْرُورَةِ الْقُوَى الْعَضَلِيَّةِ مَبَادِئُ لِلْفِعْلِ لِوُجُودِ الْأَفْعَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتُ هِيَ الْمَبَادِئَ لِمَبَادِئِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي/ كَوْنِهَا مَبَادِئَ لأفعال أَنْفُسَهَا وَإِلْغَاءَ الْوَاسِطَةِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَسَادِسُهَا: التَّجْرِبَةُ وَالْعِيَانُ شَاهِدَانِ بِأَنَّ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ مَبَادِئُ قَرِيبَةٌ لِحُدُوثِ الْكَيْفِيَّاتِ فِي الْأَبْدَانِ فَإِنَّ الْغَضْبَانَ تَشْتَدُّ سُخُونَةُ مِزَاجِهِ حَتَّى أَنَّهُ يُفِيدُهُ سُخُونَةٌ قَوِيَّةٌ.
يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ عَرَضَ لَهُ فَالِجٌ فَأَعْيَا الْأَطِبَّاءَ مُزَاوَلَةُ عِلَاجِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِالشَّتْمِ وَالْقَدْحِ فِي الْعِرْضِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْمَلِكِ وَقَفَزَ مِنْ مَرْقَدِهِ قَفْزَةً اضْطِرَارِيَّةً لِمَا نَالَهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فَزَالَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ الْمُزْمِنَةُ وَالْمَرْضَةُ الْمُهْلِكَةُ. وَإِذَا جَازَ كَوْنُ التَّصَوُّرَاتِ مَبَادِئَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي الْبَدَنِ فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ مِنْ كَوْنِهَا مَبَادِئَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ خَارِجَ الْبَدَنِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ أَمْرٌ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ وَذَلِكَ أَيْضًا يُحَقِّقُ إِمْكَانَ مَا قُلْنَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّفُوسُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الْآلَاتِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ [السَّمَاءِ] كَانَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لها تصرف ألبتة إلا في هذه الْبَدَنِ، فَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْإِنْسَانُ صَيْرُورَتَهَا بِحَيْثُ يَتَعَدَّى تَأْثِيرٌ مِنْ بَدَنِهَا إِلَى بَدَنٍ آخَرَ اتَّخَذَ تِمْثَالَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَوَضَعَهُ عِنْدَ الْحِسِّ وَاشْتَغَلَ الْحِسُّ بِهِ فَيَتْبَعُهُ الْخَيَالُ عَلَيْهِ وَأَقْبَلَتِ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ عَلَيْهِ فَقَوِيَتِ التَّأْثِيرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعْتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمُزَاوَلَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنِ انْقِطَاعِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ وَتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ. وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَتَمَّ كَانَ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ أَقْوَى، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَتِ النَّفْسُ مُنَاسِبَةً لِهَذَا الْأَمْرِ نَظَرًا إِلَى مَاهِيَّتِهَا وَخَاصِّيَّتِهَا عَظُمَ التَّأْثِيرُ، وَالسَّبَبُ الْمُتَعَيَّنُ فِيهِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ أَشْغَلَتْ جَمِيعَ قُوَّتِهَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ تَفَرَّقَتْ قُوَّتُهَا وَتَوَزَّعَتْ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ فَتَصِلُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ شُعْبَةٌ مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَجَدْوَلٌ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ. وَلِذَلِكَ نَرَى أَنَّ إِنْسَانَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي قُوَّةِ الْخَاطِرِ إِذَا اشْتَغَلَ أَحَدُهُمَا: بِصِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاشْتَغَلَ الْآخَرُ بِصِنَاعَتَيْنِ. فَإِنَّ [ذَا الْفَنِّ] الْوَاحِدِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ذِي الْفَنَّيْنِ، وَمَنْ حَاوَلَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ حَالَ تَفَكُّرِهِ فِيهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يُفَرِّغَ خَاطِرَهُ عَمَّا عَدَاهَا، فَإِنَّهُ عِنْدَ تَفْرِيغِ الْخَاطِرِ يَتَوَجَّهُ الْخَاطِرُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ أَسْهَلَ وَأَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَشْغُولَ الْهَمِّ وَالْهِمَّةِ بِقَضَاءِ اللَّذَّاتِ وَتَحْصِيلِ الشَّهَوَاتِ كَانَتِ الْقُوَّةُ النَّفْسَانِيَّةُ مَشْغُولَةً بِهَا مُسْتَغْرِقَةً فِيهَا، فَلَا يَكُونُ انْجِذَابُهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْفِعْلِ الْغَرِيبِ الَّذِي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وهاهنا آفة
لِلْعَادَةِ فَهَذَا شَرْحُ سِحْرِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالرُّقَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنِّ مِمَّا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، أَمَّا أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ مَا أَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مُخْتَلِفَةٌ مِنْهَا خَيِّرَةٌ وَمِنْهَا شِرِّيرَةٌ، فَالْخَيِّرَةُ هُمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ وَالشِّرِّيرَةُ هُمْ كُفَّارُ الْجِنِّ وَشَيَاطِينُهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْخَلَفُ مِنْهُمْ: هَذِهِ الْأَرْوَاحُ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا لَا مُتَحَيِّزَةٌ وَلَا حَالَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّزِ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَالِمَةٌ مُدْرِكَةٌ لِلْجُزْئِيَّاتِ، وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْحَاصِلَةَ لِلنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِسَبَبِ اتِّصَالِهَا بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ أَضْعَفُ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَاصِلَةِ إِلَيْهَا بِسَبَبِ اتِّصَالِهَا بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ أَسْهَلُ فَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَةَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ أَسْهَلُ، وَلِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ وَالْمُشَاكَلَةَ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ وَأَشَدُّ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ بِسَبَبِ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ أَقْوَى فَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّمَاوِيَّةَ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ كَالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشُّعْلَةِ، وَالْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَطْرَةِ، وَالسُّلْطَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّعِيَّةِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وُجُودِهَا بُرْهَانٌ قَاهِرٌ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالْإِمْكَانِ، ثُمَّ إِنَّ/ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الرُّقَى وَالدُّخْنِ وَالتَّجْرِيدِ، فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ.
عَلَى أَحْوَالِهَا، فَهَذَا مَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ أُخْرَى، مِثْلَ: فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ الْبُوقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ، وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حتى يفرق فيها ضَحِكِ السُّرُورِ وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ، وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ أَنْ يجر ثقيلًا
النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ وَالدُّخْنِ الْمُسْكِرَةِ نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مَشَاهَدٌ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَخَلَطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ.
النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنَ السِّحْرِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَحَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرُّعْبِ وَالْمَخَافَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنَ السَّاحِرُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ حِينَئِذٍ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمَ أَنَّ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي تَنْفِيذِ الْأَعْمَالِ وَإِخْفَاءِ الْأَسْرَارِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنَ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيفَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحُ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ هَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى إِنْكَارِهَا إِلَّا النَّوْعَ الْمَنْسُوبَ إِلَى التَّخَيُّلِ وَالْمَنْسُوبَ إِلَى إِطْعَامِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ وَالْمَنْسُوبَ إِلَى التَّضْرِيبِ وَالنَّمِيمَةِ، فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ فَقَدْ أَنْكَرُوهَا وَلَعَلَّهُمْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِهَا وجوزوا وُجُودَهَا، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَقْدِرَ السَّاحِرُ عَلَى أَنْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ وَيَقْلِبَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا وَالْحِمَارَ إِنْسَانًا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَذِهِ الأشياء عند ما يَقْرَأُ السَّاحِرُ رُقًى مَخْصُوصَةً وَكَلِمَاتٍ مُعَيَّنَةً. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ الْفَلَكُ وَالنُّجُومُ فَلَا. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالصَّابِئَةُ فَقَوْلُهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ تَقْرِيرُهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الصَّابِئَةِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِدُهُ قَادِرًا وَالشَّيْءُ الَّذِي حَكَمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ» وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ وَجَعَلَتْ ذَلِكَ السِّحْرَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَ ذَلِكَ زَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَأُنْزِلَ الْمُعَوِّذَتَانِ بِسَبَبِهِ،
وَثَانِيهَا: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهَا: إِنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُكِ؟ فَقَالَتْ: صِرْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقَالَا لِي يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَأَبَيْتُ، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ، فَذَهَبْتُ لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْتُ لَا أَفْعَلُ وَجِئْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا لِي: مَا رَأَيْتِ لَمَّا فَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ/ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَا لِي: أَنْتِ عَلَى رَأْسِ أَمْرٍ فَاتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَفْعَلِي، فَأَبَيْتُ فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَافْعَلِي، فذهب فَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِي فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فَجِئْتُهُمَا فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: إِيمَانُكِ قَدْ خَرَجَ عَنْكِ وَقَدْ أَحْسَنْتِ السِّحْرَ، فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟
قَالَا: مَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِيهِ فِي وَهْمِكِ، إِلَّا كَانَ فَصَوَّرْتُ فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِحَبٍّ، فَقُلْتُ:
انْزَرِعْ فَانْزَرَعَ فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبُلًا فَقُلْتُ: انْطَحِنْ فَانْطَحَنَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَقُلْتُ: انْخَبِزْ فَانْخَبَزَ وَأَنَا لَا أُرِيدُ شَيْئًا أُصَوِّرُهُ فِي نَفْسِي إِلَّا حَصَلَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ لَكِ تَوْبَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الْحِكَايَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِهِ بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: ٦٩]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفَرْقَانِ: ٨] وَلَوْ صَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْحُورًا لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ مِنَ السِّحْرِ فَكَيْفَ يَتَمَيَّزُ الْمُعْجِزُ عَنِ السِّحْرِ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الدَّلَائِلُ يَقِينِيَّةٌ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ فَلَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٌ: اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ السَّاحِرَ هَلْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا؟
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُمَا بِقَوْلٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْخَالِقَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ السحر.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ فِي التَّصْفِيَةِ وَقِرَاءَةِ الرُّقَى وَتَدْخِينِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ إِلَى حَيْثُ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَ أَفْعَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ الْأَجْسَامَ وَالْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَتَغْيِيرَ الْبِنْيَةِ وَالشَّكْلِ فَهَهُنَا الْمُعْتَزِلَةُ اتَّفَقُوا عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ قَالُوا لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَهَذَا رَكِيكٌ مِنَ الْقَوْلِ. فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى يَدِهِ لِئَلَّا يَحْصُلَ التَّلْبِيسُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى يَدِهِ لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى التَّلْبِيسِ فَإِنَّ الْمُحِقَّ يَتَمَيَّزُ عَنِ/ الْمُبْطِلِ بِمَا أَنَّ الْمُحِقَّ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالْمُبْطِلَ لَا تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا مِنَ السِّحْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَضَافُوا السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْزِيهًا لَهُ عَنْهُ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَيْضًا قَالَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كُفْرًا. وَحَكَى عَنِ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قُلْنَا: حِكَايَةُ الْحَالِ يَكْفِي فِي صدقها صورة واحدة فتحملها عَلَى سِحْرِ مَنْ يَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ النُّجُومِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ قَتْلُهُمْ أَمْ لَا؟ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْكَوَاكِبِ كَوْنَهَا آلِهَةً مُدَبِّرَةً. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَخَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَتَرْكِيبِ الْأَشْكَالِ، فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمَا، فَالْمُسْلِمُ إِذَا أَتَى بِهَذَا الِاعْتِقَادِ كَانَ كَالْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لَنَا أَنَّهُ أَسْلَمَ فَيُقْبَلُ إِسْلَامُهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ»،
أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِخَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَتَغْيِيرِ الشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ بَعْضِ الرُّقَى وَتَدْخِينِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ، فَالسَّاحِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى اسْتِحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَتَغْيِيرِ الْخِلْقَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ كُفْرٌ قَالُوا: لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ أَمْكَنَهُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ إِتْيَانَهُ بِهِ مُبَاحٌ كَفَرَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْمَحْظُورِ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا، وَإِنِ اعْتَقَدَ حُرْمَتَهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ، إِنْ قَالَ: إِنِّي سَحَرْتُهُ وَسِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا، يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَالَ: سَحَرْتُهُ وَسِحْرِي قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ وَإِنْ قَالَ سَحَرْتُ غَيْرَهُ فَوَافَقَ اسْمَهُ فَهُوَ خَطَأٌ تَجِبُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ إِلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْعَاقِلَةُ فحينئذ تَجِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ مِنْهُ، فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دمه وإن شهد شهدان عَلَى أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ وَصَفُوهُ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَاحِرٌ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ وَإِنْ أَقَرَّ بِأَنِّي كُنْتُ أَسْحَرُ مَرَّةً وَقَدْ تَرَكْتُ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ قَالَ:
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ».
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَخْبَارٍ، أَحَدُهَا: مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا وَأَخَذُوهَا فَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا فَبَلَغَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا فَكَأَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَتَلَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَثَانِيهَا: مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ وَرَدَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَثَالِثُهَا:
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ له بما يقول فقد برىء مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ السَّحَرَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا كَانُوا مِنَ الْكَفَرَةِ فَإِنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ أَعْنِي الْإِتْيَانَ بِضُرُوبِ الشَّعْبَذَةِ وَالْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ، وَالْمَبْنِيَّةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَنْ يُوهِمُ ضُرُوبًا مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّقْرِيعِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْ بِهِ السَّوْدَاءُ مُحْكِمَ الِاعْتِقَادِ فِيهِ وَيَتَمَشَّى بِالتَّضْرِيبِ وَالنَّمِيمَةِ وَيَحْتَالُ فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الْوَصْلَةِ، وَيُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ بِكِتَابَةٍ يَكْتُبُهَا مِنَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَفْنِ الْأَشْيَاءِ الْوَسِخَةِ فِي دُورِ النَّاسِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيهَامِ أَنَّ الْجِنَّ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ يَدُسُّ الْأَدْوِيَةَ الْمُبَلِّدَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الْكُفْرِ وَلَا يُوجِبُ الْقَتْلَ أَلْبَتَّةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ فِي السِّحْرِ وَاللَّهُ الْكَافِي وَالْوَاقِي وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَفَرُوا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَتَعْلِيمُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ أَيْضًا كُفْرٌ، وَلِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَلَوْ كَانَ تَعْلِيمُ السِّحْرِ كُفْرًا لَزِمَ تَكْفِيرُ الْمَلَكَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْرِهِمْ مَعْصُومُونَ وَأَيْضًا فَلِأَنَّكُمْ قَدْ دَلَلْتُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا فَهُوَ كُفْرٌ. قُلْنَا: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَنَحْنُ نَحْمِلُ هَذَا السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسَمَّاةِ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَهَذَا السِّحْرُ كُفْرٌ، وَالشَّيَاطِينُ إِنَّمَا كَفَرُوا لِإِتْيَانِهِمْ بِهَذَا السِّحْرِ لَا بِسَائِرِ الْأَقْسَامِ.
وَأَمَّا الْمَلَكَانِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يُعَلِّمَانِ سَائِرَ الْأَنْوَاعِ عَلَى/ مَا قَالَ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ لَكِنَّ تَعْلِيمَ هَذَا النَّوْعِ إِنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيته وَكَوْنُهُ صَوَابًا، فَأَمَّا أَنْ يُعَلِّمَهُ لِيُحْتَرَزَ عَنْهُ فَهَذَا التَّعْلِيمُ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَتَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَرِزًا عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِ «لَكِنَّ» وَ «الشَّيَاطِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ «لَكِنَّ» وَالْبَاقُونَ «لَكِنْ» بِالتَّخْفِيفِ وَ «الشَّيَاطِينُ» بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَالِ: ١٧] وَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْوَاوِ كَانَ التَّشْدِيدُ أَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ الْوَاوِ فَالتَّخْفِيفُ أَحْسَنُ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ «لَكِنْ» بِالتَّخْفِيفِ يَكُونُ عَطْفًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ، وَالْمُشَدَّدَةُ لَا تَكُونُ عَطْفًا لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ «إِنَّ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أقوال. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى (السِّحْرِ) أَيْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَيْضًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَمِنْهُ مَا تَأْثِيرُهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ عَطْفًا عَلَى (مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وتقديره مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنْكَرَ فِي الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ نَازِلًا عَلَيْهِمَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ لَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُهُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَعَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُ ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ:
كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُبْعَثُوا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّ السِّحْرَ لَا يَنْضَافُ إِلَّا إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْمَرَدَةِ، وَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ؟
وَهَلِ السِّحْرُ إِلَّا الْبَاطِلُ الْمُمَوَّهُ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِهِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: ٨١] ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَهْجًا آخَرَ يُخَالِفُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ: كَمَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَبُوا السِّحْرَ إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَانَ مُبَرَّأً/ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ نَسَبُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِلَى السِّحْرِ مَعَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ مُبَرَّأً عَنِ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ هُوَ الشَّرْعَ وَالدِّينَ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ تَوْكِيدًا لِبَعْثِهِمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالتَّمَسُّكِ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَتَمَسَّكُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ وَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَيَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكْفُرْ سُلَيْمَانُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرٌ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانَتْ تُضِيفُ السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلَيْنِ قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جَحْدٌ أَيْضًا أَيْ لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا بَلْ يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ كَقَوْلِكَ مَا أَمَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى مَا يَلِيهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ نَزَلَ السِّحْرُ عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُ ذَلِكَ السِّحْرِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى. قُلْنَا: تَعْرِيفُ صِفَةِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ أَنْ يَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانياً: أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِ سِحْرِ مَنْ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِثْبَاتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ حق. قوله ثالثاً: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ التنبيه على إبطاله. قوله رابعاً: إِنَّمَا يُضَافُ السِّحْرُ إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْمَرَدَةِ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: فَرْقٌ بَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ التَّعْلِيمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ لِغَرَضِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: (ملكين) بكسر اللام وهو مروي عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَا عِلْجَيْنِ أَقْلَفَيْنِ بِبَابِلَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، وَقِيلَ: كَانَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْمُلُوكِ. وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ لَهُمَا، وَقِيلَ: هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ غَيْرُهُمَا: أَمَّا الَّذِينَ كَسَرُوا اللَّامَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ تَعْلِيمُ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: كَيْفَ يَجُوزُ إِنْزَالُ/ الْمَلَكَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَامِ: ٨]، وَثَالِثُهَا: لَوْ أَنْزَلَ الْمَلَكَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوْ لَا يَجْعَلَهُمَا كَذَلِكَ، فَإِنْ جَعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرَجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا وَتَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نُشَاهِدُهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنْسَانًا، بَلْ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: ٩] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا سَنُبَيِّنُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَقِرَاءَةُ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ مُتَوَاتِرَةٌ وَخَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَقْطَعُوا عَلَى مَنْ صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ إِنْسَانًا، كَمَا أَنَّهُ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى من شاهد دحية الكلبي أن لا يَقْطَعَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْبَشَرِ بَلِ الْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِآدَمَ وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ عَلَيْهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَكَانُوا يَعْرُجُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ تَبْقِيَةِ اللَّهِ لَهُمْ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ القبائح، ثم
لَهُ، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا رَسُولَيْنِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْعَثُ الرَّسُولَ إِلَى الْإِنْسِ مَلَكًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «هَارُوتُ وَمَارُوتُ» عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَلَكَيْنِ، عَلَمَانِ لَهُمَا وَهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الصَّرْفِ، وَلَوْ كَانَا مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ وَهُوَ الْكَسْرُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَانْصَرَفَا، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ عَلَى: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ حَالَهُمَا فَقَالَ: وَهَذَانِ الْمَلَكَانِ لَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ إِلَّا بَعْدَ التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: / إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ والمراد هاهنا بِالْفِتْنَةِ الْمِحْنَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، كَقَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا عُرِضَ عَلَى النَّارِ لِيَتَمَيَّزَ الْخَالِصُ عَنِ الْمَشُوبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْوُجُوهَ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ بَعْثَةُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ وَلَا يَصِفَانِهِ لِأَحَدٍ وَلَا يَكْشِفَانِ لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِيَالِ حَتَّى يَبْذُلَا لَهُ النَّصِيحَةَ، فَيَقُولَا لَهُ: «إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ» أَيْ هَذَا الَّذِي نَصِفُهُ لَكَ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَبَيْنَ المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي، فَإِيَّاكَ بَعْدَ وُقُوفِكَ عَلَيْهِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ أَوْ تَتَوَصَّلَ به إلى شيء من الأغراض الْعَاجِلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّفْرِيقِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ مُؤَثِّرٌ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ فَيَصِيرُ كَافِرًا، وَإِذَا صَارَ كَافِرًا بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فَيَحْصُلُ تَفَرُّقٌ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّمْوِيهِ وَالْحِيَلِ وَالتَّضْرِيبِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، لَكِنْ ذَكَرَ هَذِهِ الصُّورَةَ تَنْبِيهًا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ، فَإِنَّ اسْتِكَانَةَ الْمَرْءِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَرُكُونَهُ إِلَيْهَا مَعْرُوفٌ زَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَوَدَّةٍ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِذَا أَمْكَنَ بِهِ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى شِدَّتِهِ فَغَيْرُهُ بِهِ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الضَّرَرَ، وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ عَيْبَهُمْ وَذَمَّهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا جَازَ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْلِيَةُ، يَعْنِي السِّحْرُ إِذَا سَحَرَ إِنْسَانًا فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَرَرِ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَذَانُ أَذَانًا لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إِذْنًا لِأَنَّ بِالْحَاسَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ يُدْرَكُ الْإِذْنُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ [التَّوْبَةِ: ٣] أَيْ إِعْلَامٌ، وَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩] مَعْنَاهُ: فاعلموا وقوله:
آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الأنبياء: ١٠٩] يعني أعلمتكم، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ عِنْدَ فِعْلِ السِّحْرِ إنما يحصل
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الشِّرَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشَّيَاطِينُ فَكَأَنَّهُمْ قَدِ اشْتَرَوْا ذَلِكَ السِّحْرَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا قَصَدَا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ لِيَصِلَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازِ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ مَنَافِعَ الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْمِحَنِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: «الْخَلَاقُ» النَّصِيبُ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْخَلَقِ وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ وَمِنْهُ خَلِقَ الْأَدِيمُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَدَّرَ لِلرَّجُلِ كَذَا دِرْهَمًا رِزْقًا عَلَى عَمَلِ كَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَلَاقُ الْخَلَاصُ وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لأخلاق لَهُمْ | إِلَّا سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ وَأَغْلَالِ |
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ عَلِمُوا غَيْرَ الَّذِينَ لَمْ يَعْلَمُوا، فَالَّذِينَ عَلِمُوا هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا السِّحْرَ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَأَمَّا الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا جَوَابُ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ. وَثَانِيهَا: لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْقَوْمِ وَاحِدًا وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا شَيْئًا وَجَهِلُوا شَيْئًا آخَرَ، عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ وَلَكِنَّهُمْ جَهِلُوا مِقْدَارَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَارِّهَا وَعُقُوبَاتِهَا. وَثَالِثُهَا: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَوْمَ وَاحِدٌ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعِلْمِهِمْ بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ كَالْعَدَمِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: ٩٧] إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ لَكِنَّهُ لَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ: صنعت ولم تصنع.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٣]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيهِمُ الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ [البقرة: ١٠٢] أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ جَامِعًا بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالْعُدُولِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: آمَنُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ/ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: ١٠١] ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ وَأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالسِّحْرِ. قَالَ مِنْ بَعْدِ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَأُثِيبُوا إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَتِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ إِلَى هَذِهِ الاسمية لما في الجملة الاسمية مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ لَمَثُوبَةُ اللَّهِ خَيْرٌ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُرَادَ لَشَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُمْ. وَثَانِيهَا:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا تَمَنِّيًا لِإِيمَانِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ إِيمَانَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَيْتَهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ ابْتَدَأَ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خير.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ من هاهنا أَنْ يَشْرَحَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ عِنْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِيهِ وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِ وَهَذَا هُوَ النوع الأول من هذا الباب وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي ثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يُخَاطِبُ فِي التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَسَاكِينِ أَثْبَتَ الْمَسْكَنَةَ لَهُمْ آخِرًا حَيْثُ قَالَ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الْبَقَرَةِ: ٦١]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ مِنَ الْعَذَابِ فِي النِّيرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا فَاسْمُ الْمُؤْمِنِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِذَا كَانَ يُخَاطِبُنَا فِي الدُّنْيَا بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعَامِلَنَا فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ الْمُعَامَلَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ الْمُتَرَادِفَتَيْنِ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَأْذَنَ فِي الْأُخْرَى، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَصْلُحُ الصَّلَاةُ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْعِبْرِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: راعِنا وَيَأْذَنَ فِي قَوْلِهِ: انْظُرْنا وَإِنْ كَانَتَا مُتَرَادِفَتَيْنِ وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَنَعَ مِنْ قَوْلِهِ: راعِنا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى نَوْعِ مَفْسَدَةٍ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلَا عَلَيْهِمْ/ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ: رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ كَانَتْ لَهُمْ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ يَتَسَابُّونَ بِهَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهِيَ «رَاعِينَا» وَمَعْنَاهَا: اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ: رَاعِنَا افْتَرَضُوهُ وَخَاطَبُوا بِهِ النَّبِيَّ وَهُمْ يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَسَبَّةَ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا وَأُمِرُوا بِلَفْظَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ:
انْظُرْنا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النِّسَاءِ: ٤٦]، وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَمِعَهَا مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا:
أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَثَانِيهَا: قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ أهل
رَاعِينَا أَيْ أَنْتَ رَاعِي غَنَمِنَا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهَا، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّعْيِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُوهِمًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَرْعِنَا سَمْعَكَ لِنُرْعِيَكَ أَسْمَاعَنَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَبَيَّنَ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُخَاطَبَةِ عَلَى مَا قَالَ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النُّورِ: ٦٣]. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» خِطَابٌ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: رَاعِ كَلَامِي وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ وَلَا تَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي «انْظُرْنَا» إِلَّا سُؤَالُ الِانْتِظَارِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ تَوَقَّفْ فِي كَلَامِكَ وَبَيَانِكَ مِقْدَارَ مَا نَصِلُ إِلَى فَهْمِهِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «رَاعِنَا» عَلَى وَزْنِ عَاطِنَا مِنَ الْمُعَاطَاةِ، وَرَامِنَا مِنَ الْمُرَامَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَلَبُوا هَذِهِ النُّونَ إِلَى النُّونِ الْأَصْلِيَّةِ وَجَعَلُوهَا كَلِمَةً مُشْتَقَّةً من الرعونة وهي الحق، فَالرَّاعِنُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الرُّعُونَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْمَصْدَرَ. كَقَوْلِهِمْ: عِيَاذًا بِكَ، أَيْ أَعُوذُ عِيَاذًا بِكَ، فَقَوْلُهُمْ: رَاعِنًا: أَيْ فَعَلْتَ رُعُونَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ: صِرْتَ رَاعِنًا، أَيْ صِرْتَ ذَا رُعُونَةٍ، فَلَمَّا قَصَدُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ الْفَاسِدَةَ لَا جَرَمَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَقُولُوا قَوْلًا رَاعِنًا أَيْ: قَوْلًا مَنْسُوبًا إِلَى الرُّعُونَةِ بِمَعْنًى رَاعِنٍ: كَتَامِرٍ وَلَابِنٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا انْظُرْنا فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ نَظَرَهُ أَيِ انْتَظَرَهُ، قَالَ تَعَالَى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الْحَدِيدِ: ١٣] فَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْإِمْهَالَ لِيَنْقُلُوا عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلى الاستعاذة.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعجل عليهم حتى يقولون هَذَا؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُقَالُ فِي خِلَالِ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عَجَلَةٌ تُحْوِجُ إِلَى ذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي خِلَالِ حَدِيثِهِ: اسْمَعْ أَوْ سَمِعْتَ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْجَلُ قَوْلَ مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِرْصًا عَلَى تَحْصِيلِ الْوَحْيِ وَأَخْذِ الْقُرْآنِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْجَلَ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حِرْصًا عَلَى تَعْجِيلِ أَفْهَامِهِمْ فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُمْهِلَهُمْ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَفْهَمُوا كُلَّ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَثَانِيهَا: «انْظُرْنَا» مَعْنَاهُ «انْظُرْ» إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ/ حَرْفَ «إِلَى» كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَالْمَعْنَى مِنْ قَوْمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ كَانَ إِيرَادُهُ لِلْكَلَامِ عَلَى نَعْتِ الْإِفْهَامِ وَالتَّعْرِيفِ أَظْهَرَ وَأَقْوَى. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ «أَنْظِرْنَا» مِنَ النَّظِرَةِ أَيْ أَمْهِلْنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْمَعُوا فَحُصُولُ السَّمَاعِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْأَمْرِ بِهِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُهَا: فَرِّغُوا أَسْمَاعَكُمْ لِمَا يَقُولُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى لَا تَحْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِعَادَةِ، وَثَانِيهَا: اسْمَعُوا سَمَاعَ قَبُولٍ وَطَاعَةٍ وَلَا يَكُنْ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا:
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَثَالِثُهَا: اسْمَعُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ حَتَّى لَا تَرْجِعُوا إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ تَأْكِيدًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا لِلْكَافِرِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِذَا لَمْ يَسْلُكُوا مَعَ الرَّسُولِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِنَ الْإِعْظَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى مَا يَقُولُ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا يقول، ومعنى «العذاب الأليم» قد تقدم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مِنْ» الْأَوْلَى لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جِنْسٌ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: ١] وَالثَّانِيَةُ: مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْخَيْرِ، وَالثَّالِثَةُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَيْرُ الْوَحْيُ وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزُّخْرُفِ: ٣٢] الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَحَقَّ بِأَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فَيَحْسُدُونَكُمْ وَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَسَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ من يشاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٦]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ طَعْنِ الْيَهُودِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَيَقُولُ الْيَوْمَ قَوْلًا وَغَدًا يَرْجِعُ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّسْخُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى إِبْطَالِ الشَّيْءِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ لَنَا أَنَّهُ يُقَالُ: نَسَخَتِ الرِّيحُ آثَارَ الْقَوْمِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا عُدِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ فِي مَكَانٍ آخَرَ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ [الْحَجِّ: ٥٢] أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً في الإبطال وجب أن لا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمُ الرِّيحَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْآثَارِ، وَالشَّمْسَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلظِّلِّ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمُزِيلَ لِلْآثَارِ وَالظِّلِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولِهِ ثُمَّ نُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَنَقُولُ: بَلِ النَّسْخُ هُوَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَمِنْهُ نَسَخَ الْكِتَابَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ كَأَنَّهُ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِ أَوْ يَنْقُلُ حِكَايَتَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ وَتَنَاسُخُ الْقُرُونِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَتَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ إِنَّمَا هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: ٢٩] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِبْطَالِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ النَّاسِخَ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ الْمُؤَثِّرَتَيْنِ فِي تِلْكَ الْإِزَالَةِ وَيَكُونَانِ أَيْضًا نَاسِخَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مُخْتَصَّيْنِ بِذَلِكَ التَّأْثِيرِ. وَالثَّانِي:
أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِنَّمَا أَخْطَئُوا فِي إِضَافَةِ النَّسْخِ إِلَى الشَّمْسِ وَالرِّيحِ، فَهَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ مُتَمَسَّكَنَا إِطْلَاقُهُمْ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَى الْإِزَالَةِ لِإِسْنَادِهِمْ هَذَا الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ وَالشَّمْسِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنَ الْإِبْطَالِ لِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ النَّقْلُ فَقَدْ عُدِمَتْ صِفَةٌ وَحَصَلَ عَقِيبَهَا صِفَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْعَدَمِ أَهَمُّ مِنْ عَدَمٍ يَحْصُلُ عَقِيبَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَانَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (مَا نُنْسِخْ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَرَّهُ النَّسْءُ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّزْقِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ مِنَ النِّسْيَانِ، ثُمَّ/ الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ عَلَى التَّرْكِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١٥٥] أَيْ فَتَرَكَ وَقَالَ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الْأَعْرَافِ: ٥١] أَيْ نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ عَلَى التَّرْكِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَنْسِيَّ يَكُونُ مَتْرُوكًا، فَلَمَّا كَانَ التَّرْكُ مِنْ لَوَازِمِ النِّسْيَانِ أَطْلَقُوا اسْمَ الْمَلْزُومِ على اللازم وقرئ ننسها وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا نُنْسِكْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَخْهَا، وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِكْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَزَائِيَّةٌ كَقَوْلِكَ: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ وَعَمَلُهَا الْجَزْمُ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِذَا كَانَا مُضَارِعَيْنِ فَقَوْلُهُ: (نَنْسَخْ) شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: (نَأْتِ) جَزَاءٌ وَكِلَاهُمَا مَجْزُومَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُخَ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ لَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، فَقَوْلُنَا: طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ نَعْنِي بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْقَوْلِ الصَّادِرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ، وَالْفِعْلِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمَا، وَيَخْرُجُ عَنْهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ طَرِيقًا شَرْعِيًّا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجِزُ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ لَيْسَ طَرِيقًا شَرْعِيًّا وَلَا يَلْزَمُ تَقَيُّدُ الْحُكْمِ بِغَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إِذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ نَهَانَا عَنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا النَّهْيِ نَاسِخًا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ حُكْمِ الْأَمْرِ ثَابِتًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: النَّسْخُ عِنْدَنَا جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ سَمْعًا خِلَافًا لِلْيَهُودِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ عَقْلًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ سَمْعًا، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ وَوُقُوعِهِ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتُهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالنَّسْخِ، وَأَيْضًا قُلْنَا: عَلَى الْيَهُودِ إِلْزَامَانِ. الْأَوَّلُ:
جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفُلْكِ: «إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ»، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ،
الثَّانِي: كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُزَوِّجُ الْأُخْتَ مِنَ الْأَخِ وَقَدْ حَرَّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى موسى عليه السلام. قال منكر والنسخ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أُمِرَ النَّاسُ بِشَرْعِهِمَا إِلَى زَمَانِ ظُهُورِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُمِرَ النَّاسُ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعِنْدَ ظُهُورِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَالَ التَّكْلِيفُ بِشَرْعِهِمَا وَحَصَلَ التكليف
أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ جَمْعٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَبَثٌ، وَثَانِيهَا: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شَرْعَهُمَا سَيَصِيرُ مَنْسُوخًا، فَإِذَا نَقَلَ شَرْعَهُ وَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ أَصْلَ الشَّرْعِ بِدُونِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ شَرْعَنَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ فِيهَا الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ اشْتِهَارُهُ وَبُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا فَلَعَلَّ الْقُرْآنَ عُورِضَ، وَلَمْ تُنْقَلْ مُعَارَضَتُهُ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ هَذَا الشَّرْعَ عَنْ هَذَا الْوَضْعِ وَلَمْ يُنْقَلْ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ أَنْ تُنْقَلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ فَنَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا سَيَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَمَعْلُومًا لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ مُنَازَعَةُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِيهِ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُطْبِقِينَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا يَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ دَائِمٍ. فَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ انْتِهَاءً لِلْغَايَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ كَوْنَهُ دَائِمًا أَوْ كَوْنَهُ غَيْرَ دَائِمٍ فَنَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ/ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، فَوُرُودُ أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَعْدَ أَنْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَمَسَّكْنَا فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والاستدلال به أيضاً ضعيف، لأن «ما» هاهنا تفيد
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ، وقال أبو مسلم بن بحر: إنه لم يقع، واحتج الجمهور على وقوعه فِي الْقُرْآنِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قوله تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْهُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ هِيَ الشَّرَائِعُ الَّتِي فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَالسَّبْتِ وَالصَّلَاةِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَّا وَتَعَبَّدَنَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ النَّسْخِ نَقْلُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَتَحْوِيلُهُ عَنْهُ إِلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ نَسَخْتُ الْكِتَابَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ النَّسْخُ لَوَقَعَ إِلَى خَيْرٍ مِنْهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ عِنْدَنَا، وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ وَهَذَا النَّسْخُ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْقُرْآنِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الدَّلَائِلِ، وَعَلَى الثَّانِي:
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ، بَلِ التَّقْدِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّا نَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِوُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالِاعْتِدَادِ حَوْلًا كَامِلًا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٠] ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ مَا زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَمُدَّةُ حَمْلِهَا حَوْلٌ كَامِلٌ لَكَانَتْ عِدَّتُهَا حَوْلًا كَامِلًا، وَإِذَا بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَا نَاسِخًا، وَالْجَوَابُ: أَنْ مُدَّةَ عِدَّةِ الْحَمْلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ حَصَلَ وَضْعُ الْحَمْلِ بِسَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَجَعْلُ السَّنَةِ الْعِدَّةَ يَكُونُ زَائِلًا بِالْكُلِّيَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَى الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا/ إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الْمُجَادَلَةِ: ١٢] ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّمَا زَالَ ذَلِكَ لِزَوَالِ سَبَبِهِ لِأَنَّ سَبَبَ التَّعَبُّدِ بِهَا أَنْ يَمْتَازَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَصَدَّقُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا حَصَلَ هَذَا الْغَرَضُ سَقَطَ التَّعَبُّدُ. وَالْجَوَابُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ مُنَافِقًا وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ غَيْرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [الْمُجَادَلَةِ: ١٣].
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَالِ: ٦٥، ٦٦].
الْجَوَابُ: أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسَائِرِ الْجِهَاتِ، فَالْخُصُوصِيَّةُ الَّتِي بِهَا امْتَازَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ قَدْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ نَسْخًا.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النَّحْلِ: ١٠١] وَالتَّبْدِيلُ يَشْتَمِلُ عَلَى رَفْعٍ وَإِثْبَاتٍ، وَالْمَرْفُوعُ إِمَّا التِّلَاوَةُ وَإِمَّا الْحُكْمُ، فَكَيْفَ كَانَ فَهُوَ رَفْعٌ وَنَسْخٌ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَلَوْ نُسِخَ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ. وَالْجَوَابُ:
أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْضًا مَا يُبْطِلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَنْسُوخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُكْمَ فَقَطْ أَوِ التِّلَاوَةَ فَقَطْ أَوْ هُمَا مَعًا، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ فَكَهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ التِّلَاوَةَ فَقَطْ فَكَمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
وَرُوِيَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»،
وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ فِي الرَّضَاعِ بِعَشْرٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَالْعَشْرُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَالْخُمْسُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ بَاقِي الْحُكْمِ.
وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ السَّبْعِ الطِّوَالِ أَوْ أَزْيَدَ ثُمَّ وَقَعَ النُّقْصَانُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها فَمِنْهُمْ مَنْ/ فَسَّرَ النَّسْخَ بِالْإِزَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنَّسْخِ بِمَعْنَى نَسَخْتُ الْكِتَابَ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهُ أَوْ نُنْسِهَا أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا قُرِئَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ نُسِّيتُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَحَمَلُوهُ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَنُنْسِهَا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَإِنْ قِيلَ: وُقُوعُ هَذَا النِّسْيَانِ مَمْنُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَالنِّسْيَانُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ بِأَجْمَعِهِمْ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ يَصِحُّ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَرْحِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتْلَى وَيُؤْتَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُحْتَجُّ بِهِ، فَإِذَا زَالَ حُكْمُ التَّعَبُّدِ بِهِ وَطَالَ الْعَهْدُ نُسِيَ أَوْ إِنْ ذُكِرَ فَعَلَى طَرِيقِ مَا يُذْكَرُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَيَصِيرُ لِهَذَا الْوَجْهِ مَنْسِيًّا عَنِ الصُّدُورِ، الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَيُرْوَى فِيهِ خَبَرٌ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ السُّورَةَ فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ نَسُوهَا،
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: ٦، ٧] وَبِقَوْلِهِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: ٢٤].
الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَيْ نُبَدِّلْهَا، إِمَّا بِأَنْ نُبَدِّلَ حُكْمَهَا فَقَطْ أَوْ تِلَاوَتَهَا فَقَطْ أَوْ نُبَدِّلَهُمَا، أَمَّا قوله
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نَرْفَعْهَا بَعْدَ إِنْزَالِهَا أَوْ نَنْسَأْهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْهَمْزَةِ أَيْ نُؤَخِّرْ إِنْزَالَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا فِي الْحَالِ، فَإِنَّا نُنَزِّلُ بَدَلَهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَصْلَحَةِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، أَوْ نُنْسِهَا، أَيْ نَتْرُكْهَا وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فِي التِّلَاوَةِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ نَنْسَخْهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ نَنْسَأْهَا، نُؤَخِّرْهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ «نُنْسِهَا» فَالْمَعْنَى نَتْرُكُهَا يَعْنِي نَتْرُكُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ آيَةٍ فَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْأَخَفُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَصْلَحُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْمُكَلَّفُ عَلَى مَصَالِحِهِ لَا عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى طِبَاعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الثَّانِي أَصْلَحَ مِنَ الْأَوَّلِ لَكَانَ الْأَوَّلُ نَاقِصَ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ قُلْنَا: الْأَوَّلُ أَصْلَحُ مِنَ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْثَرَ مَسَائِلِ النَّسْخِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ إِلَّا إِلَى بَدَلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَسَخَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ بِمَا يَكُونُ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ.
وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَإِسْقَاطَ التَّعَبُّدِ بِهِ خَيْرٌ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ لَا إِلَى بَدَلٍ أَنَّهُ نَسَخَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِلَى البدل.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يُنَافِي كَوْنَهُ أَثْقَلَ، لِأَنَّ الْأَثْقَلَ لَا يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ وَلَا مِثْلَهُ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَسَخَ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ قَوْمٍ فَنُسِخَتْ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَضَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْأَثْقَلِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا نَسْخُهُ إِلَى الْأَخَفِّ فَكَنَسْخِ الْعِدَّةِ مِنْ حَوْلٍ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَكَنَسْخِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إِلَى التَّخْيِيرِ فِيهَا. وَأَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْمِثْلِ فَكَالتَّحْوِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكِتَابُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: مَا آخُذُ مِنْكَ مِنْ ثواب آتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ، يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِثَوْبٍ مِنْ جِنْسِهِ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فَجِنْسُ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يفيد أنه هو المنفرد
أَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يُفِيدُ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ بِأَسْرِهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، بَلْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ مُرَتَّبٌ عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ الْأَوْلَى، فَلَوْ كَانَ نَسْخُ تِلْكَ الْآيَةِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْخَيْرِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ آيَةَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
وَبِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِخَبَرِ الرَّجْمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ حَقًّا لِلْوَارِثِ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ مَانِعَةٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي:
فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ قَوْلَهُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» كَانَ قُرْآنًا فَلَعَلَّ النَّسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ بِهِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَتَنْبِيهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى تَصْرِيفِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مَانِعَ لِمَا اخْتَارَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: «١» اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ قَدِيمَيْنِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لَأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ وَيَرْتَفِعَ، وَمَا ثَبَتَ زَوَالُهُ اسْتَحَالَ قِدَمُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَكَانَ فِعْلًا كَانَ مُحْدَثًا، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ كَوْنَهُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ وَلَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ مُحْدَثٌ؟ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ لَا شَكَّ أَنَّ تَعَلُّقَهُ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ وَحَدَثَ لَهُ تَعَلُّقٌ آخَرُ، فَالتَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ زَالَ وَالْقَدِيمُ لَا يَزُولُ، وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي حَادِثٌ لأنه حصل بعد ما لَمْ يَكُنْ، وَالْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ [مُحْدَثٌ] وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ وَالْكَلَامُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. أَجَابَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ كَانَتْ فِي الْأَزَلِ مُتَعَلِّقَةً بِإِيجَادِ الْعَالِمِ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ أَوْ لَمْ يَبْقَ؟ فَإِنْ بَقِيَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ فَيَلْزَمُكُمْ حُدُوثُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ إِنْ بَقِيَ التَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ كَانَ جهلًا، وإن لم يبق
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَقْرِيرِهِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَالْقَدِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَهُوَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٧]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ النَّسْخِ عَقَّبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْخَلْقِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ التَّكْلِيفُ مِنْهُ لِمَحْضِ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْخَلْقِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ لَا لِثَوَابٍ يَحْصُلُ، أَوْ لِعِقَابٍ يَنْدَفِعُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَمْرِ القبلة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ الْجِهَاتِ أَكْبَرَ حُرْمَةً مِنَ الْبَعْضِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَجْعَلُهَا هُوَ تَعَالَى لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ التَّخْصِيصِ بِالتَّشْرِيفِ، فَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ تَغَيُّرِهِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالنَّصِيرُ فَكِلَاهُمَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ غَيْرُ الْقُدْرَةِ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَوْ كَانَ الْمُلْكُ عِبَارَةً عَنِ الْقُدْرَةِ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَالْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: ٤].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
اعلم أن هاهنا مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «أَمْ» عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَّصِلَةٍ وَمُنْقَطِعَةٍ، فَالْمُتَّصِلَةُ عَدِيلَةُ الْأَلِفِ وَهِيَ مُفَرِّقَةٌ لِمَا جَمَعَتْهُ أَيٌّ، كَمَا أَنَّ «أَوْ» مُفَرِّقَةٌ لِمَا جَمَعَتْهُ تَقُولُ: اضْرِبْ أَيَّهُمْ شِئْتَ زَيْدًا أَمْ عَمْرًا، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ أَحَدَهُمْ قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَالْمُنْقَطِعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ تَامٍّ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ وَالْأَلِفِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: إِنَّهَا الْإِبِلُ أَمْ شَاءٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ هِيَ شَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [الأحقاف: ٨] أَيْ: بَلْ يَقُولُونَ، قَالَ الْأَخْطَلُ:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ | غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا |
قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ فقال: يا محمد والله ما أؤمن بِكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ بِأَنْ تَصْعَدَ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّبِعُوهُ. وَقَالَ لَهُ بَقِيَّةُ الرَّهْطِ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ كَمَا جَاءَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ، فَنُؤْمِنُ بِكَ عِنْدَ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ مُحَمَّدًا أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا سَأَلَ السَّبْعُونَ فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتْ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَبَوْا وَرَجَعُوا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِ قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الْبَقَرَةِ: ٤٠، ٤٧] حِكَايَةٌ عَنْهُمْ وَمَحَاجَّةٌ مَعَهُمْ وَلِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَلِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ الْيَهُودِ وَمَا جَرَى ذِكْرُ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ فَإِذَا سَأَلَهُ كَانَ مُتَبَدِّلًا كُفْرًا بِالْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ فِي ظاهر قوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالسُّؤَالِ فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّةِ السُّؤَالِ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَنَّهُمْ سَأَلُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْمُعْجِزَاتِ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ كُفْرٌ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِوَجْهِ الْحِكْمَةِ الْمُفَصَّلَةِ فِي نَسْخِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ كُفْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ التَّفْصِيلِيَّةَ فِي خِلْقَةِ الْبَشَرِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة، وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم كانوا يَطْلُبُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ فَلِهَذَا كَفَرُوا بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ كَمَا أَنَّهُ مَا كَانَ لِقَوْمِ مُوسَى أَنْ يَذْكُرُوا أَسْئِلَتَهُمُ الْفَاسِدَةَ. وَثَانِيهَا: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَتَمَرَّدْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ كُنْتُمْ كَمَنْ سَأَلَ مُوسَى مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، وَثَالِثُهَا: لَمَّا أَمَرَ وَنَهَى قَالَ: أَتَفْعَلُونَ مَا أُمِرْتُمْ أَمْ تَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى؟
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سَواءَ السَّبِيلِ وَسَطَهُ قَالَ تَعَالَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ٥٥] أَيْ وَسَطِ الْجَحِيمِ، وَالْغَرَضُ التَّشْبِيهُ دُونَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْإِيمَانِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، فَالْمُبَدِّلُ لِذَلِكَ بِالْكُفْرِ عَادِلٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَقِيلَ فِيهِ إِنَّهُ ضل سواء السبيل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
رُوِيَ أَنَّ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ، وَزَيْدَ بْنَ قَيْسٍ وَنَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ: أَلَمْ تَرَوْا مَا أَصَابَكُمْ، وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ مَا هُزِمْتُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَفْضَلُ وَنَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ سَبِيلًا، فَقَالَ عَمَّارٌ: كَيْفَ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيكُمْ؟ قَالُوا: شَدِيدٌ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ أَنِّي لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ مَا عِشْتُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَبَأَ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أَصَبْتُمَا خَيْرًا وَأَفْلَحْتُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَاعْلَمْ أَنَّا نَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي الْحَسَدِ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى التَّفْسِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذَمِّ الْحَسَدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ».
الثَّانِي:
قَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا يَوْمًا جَالِسِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ينظف لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي شِمَالِهِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَقَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي تَأَذَّيْتُ مِنْ أَبِي فَأَقْسَمْتُ لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْهَبَ بِي إِلَى دَارِكَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَا يَقُومُ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ: إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَرَّتِ الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَ عَمَلَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ ذَاكَ؟
قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي عَيْبًا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا تُطَاقُ».
الثَّالِثُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَالْبِغْضَةُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ حَالِقَةُ الشَّعْرِ وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدِّينِ».
الرَّابِعُ:
قَالَ: «إِنَّهُ سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ، قَالُوا: مَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاعُدُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ ثُمَّ الْهَرْجُ».
الْخَامِسُ:
أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا يُغْبَطُ بِمَكَانِهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَكَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ مِنْ عَمَلِهِ ثَلَاثًا: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَانَ لَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ.
السَّادِسُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أَعْدَاءً، قِيلَ: وَمَا أُولَئِكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».
السَّابِعُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ، الْأُمَرَاءُ بِالْجَوْرِ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ، وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ».
أَمَّا الْآثَارُ، فَالْأَوَّلُ: حُكِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى وَاسِطَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعِظَكَ بِشَيْءٍ، إِيَّاكَ وَالْكِبْرَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عَصَى اللَّهَ بِهِ إِبْلِيسُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ أَسْكَنَهُ
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا حَسَدْتُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ حَقِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ يَصِيرُ إِلَى النَّارِ. الثَّالِثُ: قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: هَلْ يَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: مَا أَنْسَاكَ بَنِي يَعْقُوبَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ مَا لَمْ تُعِدَّ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا. الرَّابِعُ:
قَالَ مُعَاوِيَةُ: كُلُّ النَّاسِ أَقْدَرُ عَلَى/ رِضَاهُ إِلَّا الْحَاسِدَ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ. الْخَامِسُ: قِيلَ: الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْفَزَعِ إِلَّا شِدَّةً وَهَوْلًا، وَعِنْدَ الْمَوْقِفِ إِلَّا فَضِيحَةً وَنَكَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْحَسَدِ: إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَخِيكَ بِنِعْمَةٍ فَإِنْ أَرَدْتَ زَوَالَهَا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ، وَإِنِ اشْتَهَيْتَ لِنَفْسِكَ مِثْلَهَا فَهَذَا هُوَ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَحَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، إِلَّا نِعْمَةً أَصَابَهَا فَاجِرٌ أَوْ كَافِرٌ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فَلَا يَضُرُّكَ مَحَبَّتُكَ لِزَوَالِهَا فَإِنَّكَ مَا تُحِبُّ زَوَالَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَالْأَذَى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ مَا ذَكَرْنَا آيَاتٌ. أَحَدُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَأَخْبَرَ أَنَّ حُبَّهُمْ زَوَالَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ حَسَدٌ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النِّسَاءِ: ٨٩]. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٠] وَهَذَا الْفَرَحُ شَمَاتَةٌ، وَالْحَسَدُ وَالشَّمَاتَةُ مُتَلَازِمَانِ. وَرَابِعُهَا: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَعَبَّرَ عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يُوسُفَ: ٨، ٩] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَسَدَهُمْ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَرَاهَتِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَهُ.
وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الْحَشْرِ: ٩] أَيْ لَا تَضِيقُ بِهِ صُدُورُهُمْ وَلَا يَغْتَمُّونَ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْحَسَدِ. وَسَادِسُهَا: قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: ٥٤]. وَسَابِعُهَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [الْبَقَرَةِ: ٢١٣] إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١٣] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: حَسَدًا. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الشُّورَى: ١٤] فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْعِلْمَ لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَتَحَاسَدُوا وَاخْتَلَفُوا، إِذْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرِّيَاسَةِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ.
وَتَاسِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْيَهُودُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَاتَلُوا قَوْمًا قَالُوا: نَسْأَلُكَ بِالنَّبِيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُرْسِلَهُ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تُنْزِلُهُ إِلَّا تَنْصُرُنَا، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَرَفُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَةِ: ٨٩] إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً [الْبَقَرَةِ: ٩٠] أَيْ حَسَدًا.
وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَاءَ أَبِي وَعَمِّي مِنْ عِنْدِكَ فَقَالَ أَبِي لِعَمِّي مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى مُعَادَاتَهُ أَيَّامَ الْحَيَاةِ،
فَهَذَا حُكْمُ الْحَسَدِ. أَمَّا الْمُنَافَسَةُ فَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ
[الْمُطَفِّفِينَ: ٢٦]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد: ٢١] وَإِنَّمَا الْمُسَابَقَةُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ وَهُوَ كَالْعَبْدَيْنِ يَتَسَابَقَانِ إِلَى خِدْمَةِ/ مَوْلَاهُمَا إِذْ يَجْزَعُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْبِقَهُ صَاحِبُهُ فَيَحْظَى عِنْدَ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةٍ لَا يَحْظَى هُوَ بِهَا. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَسَدِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُنَافَسَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الْمُنَافَسَةُ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً وَمَنْدُوبَةً وَمُبَاحَةً، أَمَّا الْوَاجِبَةُ فَكَمَا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ نِعْمَةً دِينِيَّةً وَاجِبَةً كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فههنا يجب عليه أن يحب لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ كَانَ رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ كَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّشْمِيرِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ كَانَتِ الْمُنَافَسَةُ فِيهَا مَنْدُوبَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَانَتِ الْمُنَافَسَةُ فِيهَا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَذْمُومُ أَنْ يُحِبَّ زَوَالَهَا عَنِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُحِبَّ حُصُولَهَا لَهُ وَزَوَالَ النُّقْصَانِ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، لَكِنَّ هاهنا دَقِيقَةً وَهِيَ أَنَّ زَوَالَ النُّقْصَانِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ لَهُ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ مَا حَصَلَ لِلْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَزُولَ عَنِ الْغَيْرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَإِذَا حَصَلَ الْيَأْسُ عَنْ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ فَيَكَادُ الْقَلْبُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شَهْوَةِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، فَهَهُنَا إِنْ وَجَدَ قَلْبَهُ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشَّخْصِ لَأَزَالَهَا، فَهُوَ صَاحِبُ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ وَإِنْ كَانَ يَجِدُ قَلْبَهُ بِحَيْثُ تَرْدَعُهُ التَّقْوَى عَنْ إِزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ فَالْمَرْجُوُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثلاث لا ينفك المؤمن منهن، الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ»،
أَيْ إِنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِكَ شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْحَسَدِ وَكُلُّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَرَاتِبِ الْحَسَدِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ أَرْبَعَةٌ. الْأُولَى: أَنْ يُحِبَّ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَهَذَا غَايَةُ الْحَسَدِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُحِبَّ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ رَغْبَتِهِ فِي دَارٍ حَسَنَةٍ أَوِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ نَافِذَةٍ نَالَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ، فَالْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ حُصُولُهُ لَهُ، فَأَمَّا زَوَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْتَهِي عَنْهَا بَلْ يَشْتَهِي لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا أَحَبَّ زَوَالَهَا لِكَيْ لَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَهِيَ لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا يُحِبُّ زَوَالَهَا، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الدِّينِ، وَالثَّالِثَةُ: مِنْهَا مَذْمُومَةٌ وَغَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَالثَّانِيَةُ: أَخَفُّ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَالْأَوَّلُ: مَذْمُومٌ مَحْضٌ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: ٣٢] فَتَمَنِّيهِ لِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَأَمَّا تَمَنِّيهِ عَيْنَ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلْحَسَدِ سَبْعَةَ أَسْبَابٍ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ إِنْسَانٌ أَبْغَضَهُ قَلْبُهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ/ الْغَضَبُ يُوَلِّدُ الْحِقْدَ وَالْحِقْدُ يَقْتَضِي التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُبْغِضُ عَنِ التَّشَفِّي بِنَفْسِهِ أَحَبَّ أَنْ يَتَشَفَّى مِنْهُ الزَّمَانُ، فَمَهْمَا أَصَابَ عَدُوَّهُ آفَةٌ وَبَلَاءٌ فَرِحَ، وَمَهْمَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ سَاءَتْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ضِدُّ مُرَادِهِ، فَالْحَسَدُ مِنْ لَوَازِمِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ وَلَا يُفَارِقُهُمَا، وَأَقْصَى الْإِمْكَانِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ لَا يُظْهِرَ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنْ يَكْرَهَ تِلْكَ الْحَالَةَ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يُبْغِضَ إِنْسَانًا ثُمَّ تَسْتَوِي عِنْدَهُ مَسَرَّتُهُ وَمَسَاءَتُهُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَسَدِ هُوَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِهِ، إِذْ قَالَ: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
[آلِ عِمْرَانَ: ١١٩، ١٢٠] وَكَذَا قَالَ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٨]. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: التَّعَزُّزُ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ أَمْثَالِهِ إِذَا نَالَ مَنْصِبًا عَالِيًا تَرَفَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، فَيُرِيدُ زَوَالَ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ، بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِتَرَفُّعِهِ عَلَيْهِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي طَبِيعَتِهِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ زَوَالَ النِّعْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِيَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَالُوا: كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا غُلَامٌ يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رؤوسنا؟ فَقَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ قَوْلَ قُرَيْشٍ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَامِ: ٥٣] كَالِاسْتِحْقَارِ بِهِمْ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُمْ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: التَّعَجُّبُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: ١٠]، وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [المؤمنون: ٤٧]، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٤] وَقَالُوا مُتَعَجِّبِينَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفُرْقَانِ: ٢١] وَقَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: ٦٣، ٦٩].
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَحَاسُدُ الضَّرَّاتِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحَاسُدُ الْإِخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْأَبَوَيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمَالِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَذَلِكَ تَحَاسُدُ الْوَاعِظِينَ الْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ كَانَ غَرَضُهُمَا نَيْلَ الْمَالِ وَالْقَبُولِ عِنْدَهُمْ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبُ الْجَاهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّلٍ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَحَبَّ مَوْتَهُ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِهَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ شَجَاعَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ ثَرْوَةٍ وَيَفْرَحُ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ.
السَّبَبُ السَّابِعُ: شُحُّ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَلَا بِكِبْرٍ وَلَا بِطَلَبِ مَالٍ إِذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا وُصِفَ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ وَإِدْبَارُهُمْ وَتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ وَخِزَانَتِهِ، وَيُقَالُ: الْبَخِيلُ مَنْ بَخِلَ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَا عَدَاوَةٌ وَلَا رَابِطَةٌ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ إِلَّا خُبْثُ النَّفْسِ وَرَذَالَةُ جِبِلَّتِهِ فِي الطَّبْعِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ يُرْجَى زَوَالُهُ لِإِزَالَةِ سَبَبِهِ، وَهَذَا خُبْثٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا عَنْ سَبَبٍ عَارِضٍ فَتَعْسُرُ إِزَالَتُهُ. فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ الْحَسَدِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَوْ جَمِيعُهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَعْظُمُ فِيهِ الْحَسَدُ وَيَقْوَى قُوَّةً لَا يَقْوَى صَاحِبُهَا مَعَهَا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَبَبِ كَثْرَةِ الْحَسَدِ وَقِلَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ إِنَّمَا يَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَكْثُرُ فِيهِمُ الْأَسْبَابُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يَحْسُدَ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَكَبِّرِ وَلِأَنَّهُ يَتَكَبَّرُ وَلِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ إِنَّمَا تَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ يَجْتَمِعُونَ بِسَبَبِهَا فِي مَجَالِسِ الْمُخَاطَبَاتِ وَيَتَوَارَدُونَ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَالْمُنَازَعَةُ مَظِنَّةُ الْمُنَافَرَةِ، وَالْمُنَافَرَةُ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْحَسَدِ فَحَيْثُ لَا مُخَالَطَةَ فَلَيْسَ هُنَاكَ مُحَاسَدَةٌ، وَلَمَّا لَمْ تُوجَدِ الرَّابِطَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي بَلَدَيْنِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَاسَدَةٌ، فَلِذَلِكَ تَرَى الْعَالِمَ يَحْسُدُ الْعَالِمَ دُونَ الْعَابِدِ وَالْعَابِدَ يَحْسُدُ الْعَابِدَ دُونَ الْعَالِمِ، وَالتَّاجِرَ يَحْسُدُ التَّاجِرَ، بَلِ الْإِسْكَافُ يَحْسُدُ الْإِسْكَافَ وَلَا يَحْسُدُ الْبَزَّازَ، وَيَحْسُدُ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَابْنَ عَمِّهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْسُدُ الْأَجَانِبَ وَالْمَرْأَةُ تَحْسُدُ ضَرَّتَهَا وَسُرِّيَّةَ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحْسُدُ أُمَّ الزَّوْجِ وَابْنَتَهُ، لِأَنَّ مَقْصِدَ الْبَزَّازِ غَيْرُ مَقْصِدِ الْإِسْكَافِ فَلَا يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْمَقَاصِدِ، ثُمَّ مُزَاحَمَةُ الْبَزَّازِ الْمُجَاوِرِ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْبَعِيدِ عَنْهُ إِلَى طَرَفِ السُّوقِ وَبِالْجُمْلَةِ فَأَصْلُ الْحَسَدِ الْعَدَاوَةُ وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ التَّزَاحُمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَالْغَرَضُ الْوَاحِدُ لَا يَجْمَعُ مُتَبَاعِدَيْنِ بَلْ لَا يَجْمَعُ إِلَّا مُتَنَاسِبَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْحَسَدُ بَيْنَهُمْ، نَعَمْ مَنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَى الْجَاهِ الْعَرِيضِ وَالصِّيتِ فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْسُدُ كُلَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي الْخَصْلَةِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا، أَقُولُ: وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِيهِ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ وَضِدُّ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ وَمِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ التَّفَرُّدُ بِالْكَمَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الْكَمَالِ مُبَغَّضًا لِكَوْنِهِ مُنَازِعًا فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَمَالِ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُهُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنْهُ فَاخْتَصَّ الْحَسَدُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَفِي بِالْمُتَزَاحِمِينَ، أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا ضِيقَ فِيهَا، وَإِنَّمَا مِثَالُ الْآخِرَةِ نِعْمَةُ الْعِلْمِ، فَلَا جَرَمَ مَنْ يُحِبُّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ فَلَا يَحْسُدُ غَيْرَهُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَضِيقُ عَلَى الْعَارِفِينَ بَلِ الْمَعْلُومُ الْوَاحِدُ يَعْرِفُهُ أَلْفُ/ أَلْفٍ وَيَفْرَحُ بِمَعْرِفَتِهِ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَلَا تَنْقُصُ لَذَّةُ أَحَدٍ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، بَلْ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْعَارِفِينَ زِيَادَةُ الْأُنْسِ، فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الدِّينِ مُحَاسَدَةٌ لِأَنَّ مَقْصِدَهُمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَهِيَ بَحْرٌ وَاسِعٌ لَا ضِيقَ فِيهَا وَغَرَضُهُمُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا ضِيقَ فِيهَا، نَعَمْ إِذَا قَصَدَ الْعُلَمَاءُ بِالْعِلْمِ الْمَالَ وَالْجَاهَ، تَحَاسَدُوا لِأَنَّ الْمَالَ أَعْيَانٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ خَلَتْ عَنْهَا يَدُ الْآخَرِ، وَمَعْنَى الْجَاهِ مَلْءُ الْقُلُوبِ، وَمَهْمَا امْتَلَأَ قَلْبُ شَخْصٍ بِتَعْظِيمِ عَالِمٍ انْصَرَفَ عَنْ تَعْظِيمِ الْآخَرِ، أَمَّا إِذَا امْتَلَأَ قَلْبٌ بِالْفَرَحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُ غَيْرِهِ وَأَنْ يَفْرَحَ بِهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ الْحَسَدِ فَقَالَ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الْحِجْرِ: ٤٧].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الدَّوَاءِ الْمُزِيلِ لِلْحَسَدِ وَهُوَ أَمْرَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ. أَمَّا الْعِلْمُ فَفِيهِ مَقَامَانِ إِجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَاجِبِ لَمْ يَقِفْ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْرَةِ عَنْهُ، وَإِذَا حَصَلَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ زَالَ الْحَسَدُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ فَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّكَ بِالْحَسَدِ كَرِهْتَ حُكْمَ اللَّهِ وَنَازَعْتَهُ فِي قِسْمَتِهِ الَّتِي قَسَمَهَا لِعِبَادِهِ وَعَدْلِهِ الَّذِي أَقَامَهُ فِي خَلْقِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ، وَهَذِهِ
لَا مَاتَ أَعْدَاؤُكَ بَلْ خُلِّدُوا | حَتَّى يَرَوْا مِنْكَ الَّذِي يُكْمِدُ |
لَا زِلْتَ مَحْسُودًا عَلَى نِعْمَةٍ | فَإِنَّمَا الْكَامِلُ مَنْ يُحْسَدُ |
الثَّانِي: أَنَّ الْحَاسِدَ إِذَا أَتَى بِضِدِّ مُوجِبَاتِ الْحَسَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ يَصِيرُ ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ طَبْعًا لَهُ فَيَزُولُ الْحَسَدُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّفْرَةَ الْقَائِمَةَ بِقَلْبِ الْحَاسِدِ مِنَ الْمَحْسُودِ أَمْرٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ رَاضِيًا بِتِلْكَ النَّفْرَةِ، وَالثَّانِي: إِظْهَارُ آثَارِ تِلْكَ النَّفْرَةِ مِنَ الْقَدْحِ فِيهِ وَالْقَصْدُ إِلَى إِزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَجَرُّ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ رُجُوعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَالْعَالِمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى حَقٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ رَدَّهُ عَنْهُ إِلَّا بِشُبْهَةٍ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُحِقَّ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا بِشُبْهَةٍ وَالشُّبْهَةُ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَتَّصِلُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَضِيقِ الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ وَاسْتِمْرَارِ الْمَخَافَةِ بِكُمْ، فَاتْرُكُوا الْإِيمَانَ الَّذِي سَاقَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالثَّانِي: فِي بَابِ الدِّينِ: بِطَرْحِ الشُّبَهِ فِي الْمُعْجِزَاتِ أَوْ تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ»
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُبَّهُمْ لِأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَسَدِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ:
عَنَى بِقَوْلِهِ: كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ فِعْلُهُمْ لَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ «ود» على معنى أنهم أحبوا
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا فَهَذَا يَدُلُّ على أن اليهود بعد ما أَرَادُوا صَرْفَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِيمَانِ احْتَالُوا فِي ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ تَعَالَى بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِمَا فَعَلُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى تَسْكِينِ الثَّائِرَةِ فِي الْوَقْتِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْيَهُودِ فَكَذَا أَمَرَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ/ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: ١٤] وَقَوْلِهِ: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ١٠] وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ عَلَّقَهُ بِغَايَةٍ فَقَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمُجَازَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْحَسَنِ، وَثَانِيهَا:
أَنَّهُ قُوَّةُ الرَّسُولِ وَكَثْرَةُ أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا الْخُضُوعُ لِدَفْعِ الْجِزْيَةِ وَتَحَمُّلِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ٢٩]
وَعَنِ الْبَاقِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالٍ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَجِّ: ٣٩] وَقَلَّدَهُ سَيْفًا فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر،
وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُرُودُ اللَّيْلِ ناسخاً فكذا هاهنا، الْجَوَابُ: أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ إِذَا كَانَتْ لَا تُعْلَمُ إِلَّا شَرْعًا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الْوَارِدُ شَرْعًا عَنْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيَحِلُّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إِلَى أن أنسحه عَنْكُمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَالْكُفَّارُ كَانُوا أَصْحَابَ الشَّوْكَةِ وَالْقُوَّةِ وَالصَّفْحُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قُدْرَةٍ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُنَالُ بِالْأَذَى فَيَقْدِرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْأَعْدَاءِ أَنْ يَدْفَعَ عَدُوَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِأَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ كَيْ لَا يُهَيِّجُوا شَرًّا وَقِتَالًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَسُنَ الِاسْتِدْعَاءُ، وَاسْتُعْمِلَ مَا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ النُّصْحِ وَالْإِشْفَاقِ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى الأمر بالقتال أو غيره.
تم الجزء الثالث: ويليه الجزء الرابع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
[تتمة سورة البقرة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ الْغَيْرِ وَصَلَاحِهِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَذَلِكَ أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهَا الْقِيَامَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَتَيْنِ، وَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّطَوُّعَاتُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ عَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَلِأَنَّ وِجْدَانَ عَيْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا يُرْغَبُ فِيهِ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ وِجْدَانُ ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ تَرْغِيبٌ مِنْ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يُجَازِي عَلَى الْكَثِيرِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهِ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَهُوَ النَّفْعُ الْحَسَنُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنَ الطَّاعَةِ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْحَجِّ: ٧٧].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ/ لَا تَقُولُ فِي النَّصَارَى: إِنَّهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ فِي الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، وَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ سِوَاهُ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ كُلَّ واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١٣٥] وَالْهُودُ: جَمْعُ هَائِدٍ، كَعَائِذٍ وَعُوذٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قِيلَ: كَانَ هُودًا، عَلَى تَوْحِيدِ الِاسْمِ، وَجَمْعِ الْخَبَرِ؟ قُلْنَا: حُمِلَ الِاسْمُ عَلَى لَفْظِ (مَنْ) وَالْخَبَرُ عَلَى مَعْنَاهُ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: ١٦٣] وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَنَّيَاتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَمَنِّيهِمْ لِذَلِكَ قَدَّرُوهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَمْنِيَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ قُلْنَا: أُشِيرَ بِهَا إِلَى الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ، أَيْ: تِلْكَ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ أَمَانِيُّهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً
وتِلْكَ أَمانِيُّهُمْ اعْتِرَاضٌ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا تَتَّكِلْ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ التَّوَلِّي».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَاتِ: صَوْتٌ بِمَنْزِلَةِ هَاءِ فِي مَعْنَى أَحْضِرْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ سَوَاءٌ ادَّعَى نَفْيًا، أَوْ إِثْبَاتًا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَصْدَقِ الدَّلَائِلِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنِ ادَّعَى شَيْئًا بِلَا شَاهِدٍ | لَا بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ |
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ | لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا |
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ | لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَوَاضُعُهُ لِلَّهِ بِفِعْلٍ حَسَنٍ لَا بِفِعْلٍ قَبِيحٍ، فَإِنَّ الْهِنْدَ يَتَوَاضَعُونَ لِلَّهِ لَكِنْ بِأَفْعَالٍ قَبِيحَةٍ، وَمَوْضِعُ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْسِنٌ مَوْضِعُ حَالٍ كَقَوْلِكَ: جَاءَ فُلَانٌ وَهُوَ رَاكِبٌ، أَيْ جَاءَ فُلَانٌ رَاكِبًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، يَعْنِي بِهِ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ لَا يَلْحَقُهُ خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ، فَأَمَّا الْخَوْفُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا الْحُزْنُ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْوَاقِعِ وَالْمَاضِي كَمَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ فَنَبَّهَ تَعَالَى بِالْأَمْرَيْنِ عَلَى نِهَايَةِ السَّعَادَةِ لِأَنَّ النَّعِيمَ الْعَظِيمَ إِذَا دَامَ وَكَثُرَ وَخَلُصَ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَلَا يَحْزَنُ عَلَى أَمْرٍ فَاتَهُ وَلَا عَلَى أَمْرٍ يَنَالُهُ وَلَا يَخَافُ انْقِطَاعَ مَا هُوَ فِيهِ وَتَغَيُّرَهُ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهَا الَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ قَبْلُ، وَاعْلَمْ أنه تعالى
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَامِ: ٢٥] وَقَالَ في موضع آخر: يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: ٤٢] [الإسراء: ٤٧] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ [مُحَمَّدٍ: ١٦] وَلَمْ يَقِلْ: خَرَجَ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَمَّا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بالإخلاص فلنذكر هاهنا حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ إِلَّا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي فَضْلِ النِّيَّةِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»،
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ»
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِكُثْبَانٍ مِنْ رَمْلٍ فِي مَجَاعَةٍ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هَذَا الرَّمْلُ طَعَامًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَبِلَ صَدَقَتَكَ وَشَكَرَ حُسْنَ نِيَّتِكَ وَأَعْطَاكَ ثَوَابَ مَا لَوْ كَانَ طَعَامًا فَتَصَدَّقْتَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِنْسَانُ إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ فِي فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ جَلْبَ نَفْعٍ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ ظَهَرَ فِي قَلْبِهِ مَيْلٌ وَطَلَبٌ، وَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ، وَهِيَ الْإِرَادَةُ فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ وَالْبَاعِثُ لَهُ عَلَى تِلْكَ النِّيَّةِ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوِ الِاعْتِقَادُ أَوِ الظَّنُّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرَيْنِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْبَعْثِ، أَوْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ وَاحِدًا/ وَهُوَ كَمَا إِذَا هَجَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ سَبُعٌ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا اعْتِقَادُهُ مَا فِي الْهَرَبِ مِنَ النَّفْعِ وَمَا فِي تَرْكِ الْهَرَبِ مِنَ الضَّرَرِ، فَهَذِهِ النِّيَّةُ تُسَمَّى خَالِصَةً، وَيُسَمَّى الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا إِخْلَاصًا. الثَّانِي: أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الْفِعْلِ بَاعِثَانِ مُسْتَقِلَّانِ، كَمَا إِذَا سَأَلَهُ رَفِيقُهُ الْفَقِيرُ حَاجَةً فَيَقْضِيهَا لِكَوْنِهِ رَفِيقًا لَهُ، وَكَوْنِهِ فَقِيرًا، مَعَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالِاسْتِقْضَاءِ، وَاسْمُ هَذَا مُوَافَقَةُ الْبَاعِثِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ، لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ مُسْتَقِلٌّ، وَاسْمُ هَذَا مُشَارَكَةٌ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَقِلَّ أَحَدُهُمَا وَيَكُونُ الْآخَرُ مُعَاضِدًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ وِرْدٌ مِنَ الطَّاعَاتِ فَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَ فِي وَقْتِ أَدَائِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ فَصَارَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ أَخَفَّ بِسَبَبِ مُشَاهَدَتِهِمْ، وَاسْمُ هَذَا مُعَاوَنَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ»
ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ النِّيَّةَ سِرٌّ، وَالْعَمَلَ عَلَنٌ، وَطَاعَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ طَاعَةِ الْعَلَانِيَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ خَيْرًا مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ. وَثَانِيهَا: النِّيَّةُ تَدُومُ إِلَى آخِرِ الْعَمَلِ، وَالْأَعْمَالُ لَا تَدُومُ، وَالدَّائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَأَيْضًا فَنِيَّةُ عَمَلِ الصَّلَاةِ قَدْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي لَحَظَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَالْأَعْمَالُ تَدُومُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذِ الْعَمَلُ بِلَا نِيَّةٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَظَاهِرٌ التَّرْجِيحِ لِلْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ إِثْبَاتَ الْأَفْضَلِيَّةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ النِّيَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْوَاقِعَةِ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِيضَاحَ الْوَاضِحَاتِ، بَلِ الْوَجْهُ الْجَيِّدُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ: النِّيَّةُ مَا لَمْ تَخْلُ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفُتُورِ لَا تَكُونُ نِيَّةً جَازِمَةً، وَمَتَى خَلَتْ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْفُتُورِ وَجَبَ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَائِقٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَنْفَكُّ أَلْبَتَّةَ عَنِ الْفِعْلِ، فَيُدَّعَى أَنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّيَّةِ إِلَّا الْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ وانقيادا له، وإنما يراد الأعمال ليست حفظ التَّذَكُّرُ بِالتَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ وَالْقَصْدُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ كَالْمَقْصُودِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسِيلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مِنَ الْجَسَدِ، فَفِعْلُهُ أَشْرَفُ مِنْ فِعْلِ الْجَسَدِ، فَكَانَتِ النِّيَّةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الأعمال على ثلاثة أقسام: طاعات، ومعاصي، وَمُبَاحَاتٍ، أَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
يَقْتَضِي انْقِلَابَ الْمَعْصِيَةِ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ كَالَّذِي يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ يَبْنِي/ مَسْجِدًا مِنْ مَالٍ حَرَامٍ. الثَّانِي: الطَّاعَاتُ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَضِيلَةِ، أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً، وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ تَكْثُرُ الْحَسَنَةُ كَمَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً. أَوَّلُهَا:
أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَيَقْصِدَ بِهِ زِيَارَةَ مَوْلَاهُ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ زَارَ اللَّهَ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ إِكْرَامُ زَائِرِهِ».
وَثَانِيهَا: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ حَالَ الِانْتِظَارِ كَمَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ.
وَثَالِثُهَا: إِغْضَاءُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وسائر الأعضاء كما لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ كَفٌّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ، وَهُوَ نَوْعُ تَرَهُّبٍ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ».
وَرَابِعُهَا: صَرْفُ الْقَلْبِ وَالسِّرِّ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَخَامِسُهَا: إِزَالَةُ مَا سِوَى اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ عِلْمٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَسَابِعُهَا: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةُ أَهْلِ الدِّينِ. وَثَامِنُهَا: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطَّاعَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَيَحْتَمِلُ نِيَّةً أَوْ نِيَّاتٍ يَصِيرُ بِهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرُبَاتِ، فَمَا أَعْظَمَ خُسْرَانَ مَنْ يَغْفُلُ عَنْهَا وَلَا يَصْرِفُهَا إِلَى الْقُرُبَاتِ،
وَفِي الْخَبَرِ: مَنْ تَطَيَّبَ لِلَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ
فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هو التنعم وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هُوَ التَّنَعُّمَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا أَوْ إِظْهَارَ التَّفَاخُرِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ رِيَاءَ الْخَلْقِ أَوْ لِيَتَوَدَّدَ بِهِ إِلَى قُلُوبِ النِّسَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْعَلُ التَّطَيُّبَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ إِقَامَةَ السُّنَّةِ وَدَفْعَ الرَّوَائِحِ الْمُؤْذِيَةِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَتَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ، فَهُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلْتَهُ لِدَاعِي الْحَقِّ فَهُوَ الْعَمَلُ الْحَقُّ، وَكُلَّ مَا عَمِلْتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَحَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عَذَابٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا سَمِعَ الْوُجُوهَ الْعَقْلِيَّةَ وَالنَّقْلِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ تَدْرِيسِهِ وَتِجَارَتِهِ: نَوَيْتُ أَنْ أُدَرِّسَ لِلَّهِ وَأَتَّجِرَ لِلَّهِ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نِيَّةٌ وَهَيْهَاتَ فَذَاكَ حَدِيثُ نَفْسٍ أَوْ حَدِيثُ لِسَانٍ وَالنِّيَّةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِنَّمَا النِّيَّةُ انْبِعَاثُ النَّفْسِ وَمَيْلُهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ فِيهِ غَرَضَهَا إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا.
وَالْمَيْلُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى اكْتِسَابِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّبْعَانِ نَوَيْتُ أَنْ أَشْتَهِيَ الطَّعَامَ، أَوْ كَقَوْلِ الْفَارِغِ نَوَيْتُ أَنْ أَعْشَقَ، بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ إِلَّا بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهِ وَلَيْسَتْ هِيَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِمَا
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُمْ إِجَابَةً لِبَاعِثِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَّقِي النَّارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِبَاعِثِ الرَّجَاءِ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالْعَامِلُ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ عَامِلٌ لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، كَالْأَجِيرِ السُّوءِ وَدَرَجَتُهُ دَرَجَةُ الْبُلْهِ، وَأَمَّا عِبَادَةُ ذَوِي الْأَلْبَابِ فَلَا تُجَاوِزُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْفِكْرَ فِيهِ حُبًّا لِجَلَالِهِ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ مُؤَكِّدَاتٌ لَهُ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَثَوَابُ النَّاسِ بِقَدْرِ نِيَّاتِهِمْ فَلَا جَرَمَ صَارَ الْمُقَرَّبُونَ مُتَنَعِّمِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنِسْبَةُ شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ إِلَى شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِهَذَا الْمَقَامِ كَنِسْبَةِ نعيم الجنة إلى وجهه الكريم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَهُمْ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَصَّلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ قَوْلَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي الْآخَرِ، وَكَيْفَ يُنْكِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ دِينَ الْأُخْرَى، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أَيْ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَقَلُّ مِنْ لا شيء، ونظيره قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ [الْمَائِدَةِ: ٦٨]، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا يُثْبِتَانِ الصَّانِعَ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ قَوْلًا بَاطِلًا يُحْبِطُ ثَوَابَ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّهُمْ مَا أَتَوْا بِذَلِكَ الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْعَامُّ بِالْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فيه، وَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِبَابِ النُّبُوَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَتَنَاظَرُوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ: نَحْوَهُ وَكَفَرُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّوْرَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الظَّاهِرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ الْيَهُودِ وَكُلِّ النَّصَارَى بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَجِبُ لِمَا نُقِلَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ/ أَنَّ يَهُودِيًّا خَاطَبَ النَّصَارَى بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَنْ لَا يُرَادَ بِالْآيَةِ سِوَاهُ، إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْوَجْهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَمَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ مُنْذُ كَانُوا فَهَذَا قَوْلُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا لِكَيْ يَصِحَّ هَذَا الْفَرْقُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالتِّلَاوَةِ إِذَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ هَذَا الِاخْتِلَافَ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا قَدْ وَقَعَتْ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ يَقْرَءُونَ الْكُتُبَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ وَيُلْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَوْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، حَمَلْنَا قَوْلَهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ على المعاندين وعكسه أيضا محتمل. وثالثها: أن يحمل قَوْلَهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ على علمائهم ويحمل قَوْلَهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عَلَى عَوَامِّهِمْ فَصْلًا بَيْنَ خَوَاصِّهِمْ وَعَوَامِّهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ: لِأَنَّ كُلَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دَخَلُوا فِي الْآيَةِ فَمَنْ مُيِّزَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ. وَثَانِيهَا: حُكْمُ الِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ الْمُكَذِّبِ لِلْمَظْلُومِ الْمُكَذَّبِ. وَثَالِثُهَا: يُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عِيَانًا وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عِيَانًا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَرَابِعُهَا: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ فِيمَا اختلفوا فيه والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مُجَرَّدَ بَيَانِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَعْنِي مُجَرَّدَ بَيَانِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِهِ كَذَا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَازَاهُمْ بِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَسَعَوْا فِي خَرَابِهِ مَنْ هُمْ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ. أَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَلِكَ النَّصَارَى غَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَخَرَّبَهُ وَأَلْقَى فِيهِ الْجِيَفَ وَحَاصَرَ أَهْلَهُ وَقَتَلَهُمْ وَسَبَى الْبَقِيَّةَ وَأَحْرَقَ التَّوْرَاةَ، وَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ خَرَابًا حَتَّى بَنَاهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي بُخْتُنَصَّرَ حَيْثُ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَعْضُ النَّصَارَى أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بُغْضًا لِلْيَهُودِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ غَلَطَانِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ عَهْدَ بُخْتُنَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَالنَّصَارَى كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ بُخْتُنَصَّرَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: فَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّصَارَى وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: تَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّصَارَى ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَطْ، فَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ مُعَامَلَتَكُمْ فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِهَا هَكَذَا، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَالَ: جَرَى ذِكْرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١١٣] وَقِيلَ: جَرَى ذِكْرُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَذَمُّهُمْ، فَمَرَّةً وَجَّهَ الذَّمَّ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَرَّةً إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَساجِدَ اللَّهِ عُمُومٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْجِدٌ بِمَكَّةَ يَدْعُو اللَّهَ فِيهِ، فَخَرَّبُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَنْعَ بِصَدِّ الرَّسُولِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ الْمَسَاجِدِ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ؟
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: هَذَا كَمَنَ يَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مَسْجِدًا وَاحِدًا بَلْ مَسَاجِدَ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَانِي مَفْعُولَيْ مَنَعَ لِأَنَّكَ تَقُولُ: مَنَعْتُهُ كَذَا، وَمِثْلُهُ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاءِ: ٥٩]، وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤]. الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ (مِنْ) كَأَنَّهُ قِيلَ:
مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَسَاجِدَ اللَّهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (مَنَعَ).
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: السَّعْيُ فِي تَخْرِيبِ الْمَسْجِدِ قَدْ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَنْعُ الْمُصَلِّينَ وَالْمُتَعَبِّدِينَ وَالْمُتَعَهِّدِينَ لَهُ مِنْ دُخُولِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْرِيبًا. وَالثَّانِي: بِالْهَدْمِ وَالتَّخْرِيبِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ التَّخْرِيبُ لِأَنَّ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ إِقَامَةِ شِعَارِ الْعِبَادَةِ فِيهِ يَكُونُ تَخْرِيبًا لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ مَوْضِعُ صَلَاةٍ فَخَرَّبَتْهُ قُرَيْشٌ لَمَّا هَاجَرَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] مَعَ أَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ، وَكَذَا الزِّنَا وَقَتْلُ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ/ التَّخْصِيصُ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَسَعَوْا فِي تَخْرِيبِ الْمَسْجِدِ هُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُهُ إِلَّا خَائِفِينَ، وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُهُ عَامًّا فِي الْكُلِّ فَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْخَوْفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ عَلَى حَالِ الْهَيْبَةِ وارتعاد الفرائض مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهِمْ وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى مَا كَانَ الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَعُتُوُّهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا خَائِفًا يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ، أَوْ يُقْتَلَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ صِدْقَ هَذَا الْوَعْدِ فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَنَادَى فِيهِمْ عَامَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَحَجَّ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي ظَاهِرًا عَلَى الْمَسَاجِدِ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَحُجَّ وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي مُسْلِمٍ فِي حَمْلِ الْمَنْعِ مِنَ الْمَسَاجِدِ عَلَى صَدِّهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَيُحْمَلُ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ظُهُورِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلَبَتِهِ لَهُمْ بِحَيْثُ يَصِيرُونَ خَائِفِينَ مِنْهُ وَمِنْ أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ بِالْجِزْيَةِ وَالْإِذْلَالِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا فِي أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ نَحْوَ أَنْ يَدْخُلُوا لِلْمُخَاصَمَةِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالْمُحَاجَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: ١٧]. وَخَامِسُهَا:
قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا خائِفِينَ بِمَعْنَى أَنَّ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفِينَ، وَلَا يُوجِدُ فِيهِ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا أُوجِعَ ضَرْبًا وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ فِي أَيْدِي النَّصَارَى بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِلَّا خَائِفًا، إِلَى أَنِ اسْتَخْلَصَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَمَانِنَا. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْخِزْيِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْقَتْلِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فَإِنَّ الْخِزْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْإِذْلَالِ فَكُلُّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ وَذَلِكَ رَدْعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْخِزْيَ الْحَاضِرَ يَصْرِفُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى مَجْرَى النِّهَايَةِ/ فِي الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ وَصَفَهُمْ بِأَعْظَمِ الظُّلْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنِّ: ١٨]. أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إِلَى ذَاتِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ١٨] فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى حَصْرِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النُّورِ: ٣٦].
وَرَابِعُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ يَتَنَاوَلُ الْمُشْرِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] فَإِذَا كَانَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي عِمَارَتِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ، فَأَحَدُهَا: مَا
رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
وَثَانِيهَا: مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا»،
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ السِّرُّ الْعَقْلِيُّ فِي تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ إِنَّمَا تَتَشَرَّفُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالسُّوقُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الْغَفْلَةَ عَنِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِنَّ ذَاكَرَ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ السُّوقَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَشْرَفَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَسْوَاقُ أَخَسَّ الْمَوَاضِعِ. الثَّانِي: فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ (أ)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إِحْدَاهَا تَحُطُّ خَطِيئَتَهُ وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَتَهُ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(ب)
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
(ج)
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ أَبْعَدَ مَنْزِلًا مِنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَوَاتُ مَعَ
(د)
جَابِرٌ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ قَالَ يَا بَنِي سَلَمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّهِمْ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢]. (هـ-)
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ مَشْيًا وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّنْ يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
(و)
عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ ثُمَّ مَرَّ إِلَى الْمَسْجِدِ يَرْعَى الصَّلَاةَ كَتَبَ لَهُ كَاتِبُهُ أَوْ كَاتِبَاهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الْمَسْجِدِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَالْقَاعِدُ الَّذِي يَرْعَى الصَّلَاةَ كَالْقَانِتِ وَيُكْتَبُ مِنَ الْمَصَلِّينَ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ».
(ز)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ الْمَوْتُ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ، فَقَالُوا: أَهْلُكَ، وَأَمَّا إِخْوَتُكَ وَجُلَسَاؤُكَ فَفِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ارْفَعُونِي فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: خَيْرًا. فَقَالَ: إِنِّي مُورِثُكُمُ الْيَوْمَ حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِسَابًا وَمَا أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ إِلَّا احْتِسَابًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرْفَعْ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَلَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ الْيُسْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ انْصَرَفَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ، فَإِنْ هُوَ أَدْرَكَ بَعْضَهَا وَفَاتَهُ بَعْضٌ كَانَ كَذَلِكَ».
(ح)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا».
(ط)
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرباط» رواه أبو مُسْلِمٌ.
(ي) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِدَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ: هَلْ تَدْرِي فِيمَ نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آلِ عِمْرَانَ: ٢٠٠] قَالَ: قُلْتُ لَا يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ وَلَكِنِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. (يا)
بُرَيْدَةُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
قَالَ النَّخَعِيُّ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مُوجِبَةً. (يب) قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ يُقَالُ خَمْسٌ كَانَ عَلَيْهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (يج)
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَنْ مَالٍ حَلَالٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ.
(يد)
أَبُو ذَرٍّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
(يه)
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ/ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ١٨].
(يو) عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ وَإِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ من زراره فِيهَا. (يز)
أَنَسٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ عُمَّارَ بُيُوتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ بُيُوتِ اللَّهِ».
(يح)
(يط)
عَنْ أَنَسٍ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أُنْزِلَتْ عَاهَةٌ مِنَ السَّمَاءِ صُرِفَتْ عَنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ».
(ك)
كَتَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ: يَا أَخِي لِيَكُنْ بَيْتُكَ الْمَسَاجِدَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمْ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى».
(كا) قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: عن عبد الله بن سلام: إن المساجد أَوْتَادًا مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّ لَهُمْ جُلَسَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا فَقَدُوهُمْ سَأَلُوا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَرْضَى عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ. (كب) ا
لحسن قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ».
(كج)
أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، لَا يَقْرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا وَلَا الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، لَا يَتَأَلَّفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ سُحُبٌ بِالنَّهَارِ».
(كد)
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سبعة يظلمهم اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ».
هَذَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
(كه)
عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ كَتَبَ لَهُ كَاتِبُهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَالْقَاعِدُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَالْقَانِتِ وَيُكْتَبُ مِنَ الْمُصَلِّينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ».
(كو) رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَسَأَلَهُ أَبِي: أَحُضُورُ الْجِنَازَةِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُقْبَرَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ، تُسَبِّحُ اللَّهَ وَتُهَلِّلُ وَتَسْتَغْفِرُ وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ: آمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
الثَّالِثُ: فِي تَزْيِينِ الْمَسَاجِدِ. (أ)
ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ».
وَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْيِيدِ رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النِّسَاءِ: ٧٨] وَهِيَ الَّتِي يَطُولُ بِنَاؤُهَا. (ب) أَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَقَالَ لِلْبَنَّاءِ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. (ج) رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى أثرجة مِنْ جِصٍّ مُعَلَّقَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ. (د) قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَيَّنْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ. (هـ-)
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: غَدَوْنَا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلى/ الزواية فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَمَرَرْنَا بِمَسْجِدٍ فَقَالَ أَنَسٌ: لَوْ صَلَّيْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: حَتَّى نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْآخَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَيُّ مَسْجِدٍ، قَالُوا: مَسْجِدٌ أُحْدِثَ الْآنَ، فَقَالَ أنس: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا».
الرَّابِعُ: فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ،
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ»،
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. الْخَامِسُ: فِيمَا يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ،
رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ
السَّادِسُ: فِي فَضِيلَةِ الْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ. (أ)
أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ».
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوِ اخْتَصَى إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ائذن لي في التراهب، فَقَالَ: «إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارًا لِلصَّلَاةِ».
السَّابِعُ: فِي كَرَاهِيَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ،
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ، وَكَانَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَحْبَةٌ إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ سَمَّاهَا الْبَطْحَاءَ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أَوْ يَرْفَعَ صَوْتًا فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّحَلُّقِ وَالِاجْتِمَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، بَلْ يُشْتَغَلُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، ثُمَّ لَا بَأْسَ بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّحَلُّقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا طَلَبُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ، فَمَكْرُوهٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ»،
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ أُمُورِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، وَاقْتِضَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ/ السَّلَفِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ عَلَى السَّائِلِ الْمُتَعَرِّضِ فِي الْمَسْجِدِ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ، قَالَ عُمَرُ
فِيمَنْ لَزِمَهُ حَدٌّ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ،
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ طُهِّرَتْ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَنْ يُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ أَوْ يُقْبَضَ فِيهَا الْخَرَاجُ، أَوْ يُنْطَقَ فِيهَا بِالْأَشْعَارِ أَوْ يُنْشَدَ فِيهَا الضَّالَّةُ أَوْ تُتَّخَذَ سُوقًا، وَلَمْ يَرَ بَعْضُهُمْ بِالْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بَأْسًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحْبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ. الثَّامِنُ: فِي النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ
فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاتِّكَاءِ وَالِاضْطِجَاعِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِثْلَ جَوَازِهَا فِي الْبَيْتِ، إِلَّا الِانْبِطَاحَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْهُ
وَقَالَ: إِنَّهَا ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ،
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ شَابًّا أَعْزَبَ لَا أَهْلَ لَهُ فَكَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّخِذُوهُ مَبِيتًا أَوْ مَقِيلًا. التَّاسِعُ: فِي كَرَاهِيَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»،
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَامَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي
أَيْ يَنْضَمُّ وَيَنْقَبِضُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ كَوْنَهُ مَسْجِدًا يَقْتَضِي التَّعْظِيمَ وَإِلْقَاءُ النُّخَامَةِ يَقْتَضِي التَّحْقِيرَ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، فَعَبَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ تِلْكَ الْمُنَافَاةِ
بِقَوْلِهِ: لَيَنْزَوِي،
وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ،
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلَكِنْ لِيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَيَدْفِنُهُ».
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حتى رؤي فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ: يَفْعَلُ هَكَذَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
الْعَاشِرُ: فِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ:
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ»،
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا»
وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضَرٌ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ حَاضِرًا، وَقَالَ/ لَهُ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: فِي الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ يُنَظَّفَ وَيُطَيَّبَ،
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُزْرِمُوهُ»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَالْخَلَاءِ، إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ»، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبُّوا عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا، وَأَبَاهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ والمسجد الحرام، احتج الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: ٢٨] قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ إِمَّا عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الْحَرَمِ كُلِّهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ حَاصِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْحَجُّ وَلِهَذَا قَالَ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ. الثَّانِي: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَجَاسَتُهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَا دَامُوا مُشْرِكِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ الْحَجَّ لَذَكَرَ مِنَ الْبِقَاعِ مَا يَقَعُ فِيهِ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ عَرَفَةُ. الرَّابِعُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لَا الْحَجُّ فَقَطْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التَّوْبَةِ: ٢٨] فَأَرَادَ بِهِ الدُّخُولَ لِلتِّجَارَةِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُمْ مَتَى دَخَلُوا كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْإِخْرَاجِ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَوْ بِمَنْ مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من
حُضُورُهَا وَلُزُومُهَا، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَعْمُرُ/ مَسْجِدَ فُلَانٍ أَيْ يَحْضُرُهُ وَيَلْزَمُهُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ»،
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ١٨]، فَجَعَلَ حُضُورَ الْمَسَاجِدِ عِمَارَةً لَهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَرَمَ وَاجِبُ التَّعْظِيمِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً»
فَصَوْنُهُ عَمَّا يُوجِبُ تَحْقِيرَهُ وَاجِبٌ وَتَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْبَيْتِ لِلتَّحْقِيرِ لِأَنَّهُمْ لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ رُبَّمَا اسْتَخَفُّوا بِهِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَلْوِيثِهِ وَتَنْجِيسِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الْحَجِّ: ٢٦] وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَالتَّطْهِيرُ عَلَى النَّجَسِ وَاجِبٌ فَيَكُونُ تَبْعِيدُ الْكُفَّارِ عَنْهُ وَاجِبًا. وَسَادِسُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْهُ، فَالْكَافِرُ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ أَوْلَى إِلَّا أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ أَنْ يُمْنَعَ عَنْ كُلِّ الْمَسَاجِدِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُمُورٍ، الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ يَثْرِبَ فَأَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ.
الثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ»
وَهَذَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الدُّخُولِ. الثَّالِثُ: الْكَافِرُ جَازَ لَهُ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كَالْمُسْلِمِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: أَنَّهُمَا كَانَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَعَنِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فظهر الفرق والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، الضَّابِطُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا القول الأول [أي نزلت في أمر يختص بالصلاة] فَهُوَ أَقْوَى لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا يُفِيدُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَا يُعْقَلُ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ تَحْوِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَجَمِيعَ الْجِهَاتِ وَالْأَطْرَافِ كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمَخْلُوقَةُ لَهُ، فَأَيْنَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَهُوَ الْقِبْلَةُ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ قِبْلَةً لِذَاتِهَا، بل لأن الله جَعَلَهَا قِبْلَةً، فَإِنْ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِبْلَةً فَلَا تُنْكِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عِبَادَهُ كَيْفَ يُرِيدُ وَهُوَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِهِمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِجَوَازِ نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ جانب إلى
[مَرْيَمَ: ١٦] فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَفَ مَعْبُودَهُ بِالْحُلُولِ فِي الْأَمَاكِنِ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا خَالِقٌ، فَكَيْفَ تَخْلُصُ لَهُمُ الْجَنَّةُ وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالتَّخْيِيرِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا فِي الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ حَيْثُ شَاءَ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ لِلْكَعْبَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ وَأَرَادَ. وَسَادِسُهَا: مَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ فَجَعَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مَسْجِدَهُ حِجَارَةً مَوْضُوعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ صَلَّيْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ نُقِلُوا حِينَئِذٍ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْقِتَالَ فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ نَسْخِ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَسَابِعُهَا:
أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي النَّوَافِلَ حَيْثُ تَتَوَجَّهُ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي السَّفَرِ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ،
فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ لِنَوَافِلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَقَدْ صَادَفْتُمُ الْمَطْلُوبَ: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الْفَضْلِ غَنِيٌّ، فَمِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ رَخَّصَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَكُمُ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ، إِمَّا تَرْكُ النَّوَافِلِ، وَإِمَّا النُّزُولُ عَنِ الرَّاحِلَةِ وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الرُّفْقَةِ بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ، فَإِنَّهَا صَلَوَاتٌ مَعْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ فَتَكْلِيفُ النُّزُولِ عَنِ الرَّاحِلَةِ عِنْدَ أَدَائِهَا وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ النَّوَافِلِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَتَكْلِيفُ الِاسْتِقْبَالِ يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْيِيرِ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَثَانِيهِمَا: فِي السَّفَرِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ لِلظُّلْمَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، لِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُصَلِّيَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا تَخْيِيرَ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي اسْتِقْبَالِ أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ، بَلْ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَوْلَى بِعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ التَّحْوِيلِ إِلَى الْكَعْبَةِ اخْتِصَاصًا فِي الشَّرِيعَةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا: لَمْ يَثْبُتْ/ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَأَيْضًا فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِالْكَعْبَةِ فَهَذِهِ الدَّلَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ تَكَلَّمَ الْيَهُودُ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تِلْكَ الْقِبْلَةَ كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا صَوَابًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ صَوَابٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَيْنَمَا يُوَلُّوا مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ فثم وجه
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ سِوَى الصَّلَاةِ فَلَهُمْ أَيْضًا وُجُوهٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِمَنْعِ مَسَاجِدِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمِي وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَيْنَمَا وَلَّوْا هَارِبِينَ عَنِّي وَعَنْ سُلْطَانِي فَإِنَّ سُلْطَانِي يَلْحَقُهُمْ، وَقُدْرَتِي تَسْبِقُهُمْ وَأَنَا عَلِيمٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَكَانُهُمْ وَفِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَزَجْرٌ عَنِ ارْتِكَابِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرَّحْمَنِ: ٣٣] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ سَعَةَ الْعِلْمِ، وَهُوَ نَظِيرُ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيدِ: ٤] وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: ٧] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِرٍ: ٧] وَقَوْلِهِ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: ٩٨] أَيْ عَمَّ كُلَّ شَيْءٍ بِعِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا:
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَّاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا: نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ»
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٩] فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْجِهَاتِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ شَرْقٍ وَغَرْبٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، كُلُّهَا لِي فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ نَحْوَ شَيْءٍ مِنْهَا بِأَمْرٍ يُرِيدُنِي وَيَبْتَغِي طَاعَتِي وَجَدَنِي هُنَاكَ أَيْ وَجَدَ ثَوَابِي فَكَانَ فِي هَذَا عُذْرٌ لِلنَّجَّاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى اسْتِقْبَالِهِمُ الْمَشْرِقَ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣]. وَثَالِثُهَا: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] قَالُوا: أَيْنَ نَدْعُوهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَمْنَعْكُمْ تَخْرِيبُ مَنْ خَرَّبَ مَسَاجِدَ اللَّهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَيْثُ كُنْتُمْ مِنْ أَرْضِهِ فَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى. وَخَامِسُهَا: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُجْتَهِدِينَ الْوَافِينَ بِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا رَأَى بِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُصِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ التَّوَجُّهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ أُرِيدَ، فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَالْآيَةُ نَاسِخَةٌ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِسَائِرِ الْوُجُوهِ فَهِيَ لَا نَاسِخَةٌ وَلَا مَنْسُوخَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَبَيَّنَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مَمْلُوكَتَانِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَةَ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ فِي الْوَهْمِ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ وَمُوجِدٍ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ عَامَّةٌ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَعْنِي الْفَوْقَ وَالتَّحْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَالْخَالِقُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَخْلُوقِ لَا مَحَالَةَ، فَقَدْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِهَاتِ وَالْأَحْيَازِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ وَالْمَاهِيَّاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا وَلَهُ وَجْهٌ جُسْمَانِيٌّ لَكَانَ وَجْهُهُ مُخْتَصًّا بِجَانِبٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَمَا كَانَ يَصْدُقُ قَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَلَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ جِسْمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَالسَّعَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ لكنا بينا أنا لو حملناه هاهنا عَلَى الْعُضْوِ لَكَذَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لِلْمَشْرِقِ لَاسْتَحَالَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ مُحَاذِيًا لِلْمَغْرِبِ أَيْضًا، فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ إِضَافَةَ وَجْهِ اللَّهِ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِضَافَةُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، فَقَوْلُهُ:
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ: فَثَمَّ وَجْهُهُ الَّذِي وَجَّهَكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ لَهُ بِوَجْهَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ قِبْلَةً لِنَصْبِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا/ فَأَيُّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعَالَمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ نَصَبَهُ وَعَيَّنَهُ فَهُوَ قِبْلَةٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهِ الْقَصْدَ وَالنِّيَّةَ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ أُحْصِيهِ | رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ |
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلَّى إِذَا أَقْبَلَ، وَوَلَّى إِذَا أَدْبَرَ، وَهُوَ من الأضداد ومعناه هاهنا الْإِقْبَالُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
فَأَيْنَما تُوَلُّوا بِفَتْحِ التَّاءِ من التولي، يريد فأينما توجهوا القبلة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ مِنْ مَقَابِحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ والنصارى والمشركين، [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون] وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [البقرة: ١١٤] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَنَحْنُ قَدْ تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى الْيَهُودِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، ووهب بن يهودا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَهُ فَهُوَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ يُنَزِّهُ بِهَا نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاءِ: ١٧١] فَمَرَّةً أَظْهَرَهُ، وَمَرَّةً اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ عَلَى هَذَا التَّنْزِيهِ بِقَوْلِهِ: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ وَلَدًا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ مَوْجُودَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ، وَلَامْتَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَا بِهِ التَّعَيُّنِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَيَلْزَمُ تَرَكُّبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ قَيْدَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْجُودَيْنِ الواجبين لذاتهما ممكن لذاته، وهذا خُلْفٌ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه، ويقضى إِلَى كَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمَعَ تَسْلِيمِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَالٍ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، لِأَنَّ كُلَّ كَثْرَةٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْوَاحِدِ، فَتِلْكَ الْآحَادُ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لِذَوَاتِهَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى مَا ثَبَتَ، فَالْبَسِيطُ مُرَكَّبٌ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً كَانَ الْمُرَكَّبُ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهَا أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ
مَرْيَمَ: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مَرْيَمَ: ٣٤، ٣٥] وَقَالَ أَيْضًا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: ٨٨- ٩٣] فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَنْ في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَتَمُّ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَا» تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم: ٢٦] فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقُنُوتُ: أَصْلُهُ الدَّوَامُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٣] وَطُولِ الْقِيَامِ،
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقُنُوتِ»
وَبِمَعْنَى السُّكُوتِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] فَأَمْسَكْنَا عَنِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أَيْ كُلُّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ قَانِتُونَ مُطِيعُونَ، وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ: لَيْسُوا مُطِيعِينَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطِيعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا فَعِنْدَ هَذَا فَسَّرُوا الْقُنُوتَ بِوُجُوهٍ أُخَرَ. الْأَوَّلُ: بِكَوْنِهَا شَاهِدَةً عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ. الثَّانِي: كَوْنُ جَمِيعِهَا فِي مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ يَتَصَرَّفُ
يُحْكَى عَنْ علي بن أبي طالب قَالَ لِبَعْضِ النَّصَارَى: لَوْلَا تَمَرُّدُ عِيسَى عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَصِرْتُ عَلَى دِينِهِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى/ عِيسَى مَعَ جِدِّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ عِيسَى إِلَهًا فَالْإِلَهُ كَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرَهُ إِنَّمَا الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَانَ الْقُنُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الدَّوَامِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ دَوَامَ الْمُمْكِنَاتِ وَبَقَاءَهَا بِهِ سُبْحَانَهُ وَلِأَجْلِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ حَالَ بَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَنْقَطِعَ حَاجَتُهُ عَنِ الْمُؤَثِّرِ لَا محال حُدُوثِهِ وَلَا حَالَ بَقَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ كيف جاء بما الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ: قانِتُونَ جوابه: كأنه جاء بما دُونَ مَنْ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَدِيعُ وَالْمُبْدِعُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ مِثْلُ أَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَحَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَدِيعٍ مُبَالَغَةً لِلْعُدُولِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِبْدَاعَ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ: سَامِعٍ وَسَمِيعٍ وَقَدْ يَجِيءُ بَدِيعٌ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، وَالْإِبْدَاعُ الْإِنْشَاءُ وَنَقِيضُ الْإِبْدَاعِ الِاخْتِرَاعُ عَلَى مِثَالٍ وَلِهَذَا السَّبَبِ فإن الناس يسمعون مَنْ قَالَ أَوْ عَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مُبْتَدِعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَبَيَّنَ بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض [في قوله تعالى وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُبْدِعُ الشَّيْءَ فَقَالَ: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: الْقَضَاءُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ سُمِّيَ بِهِ وَلِهَذَا جُمِعَ عَلَى أَقْضِيَةٍ كَغِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُ الْقَضِيَّةُ، وَجَمْعُهَا الْقَضَايَا وَوَزْنُهُ فَعَالٌ مِنْ تَرْكِيبِ «ق ض ي» وَأَصْلُهُ «قَضَايٌ» إِلَّا أَنَّ الْيَاءَ لَمَّا وَقَعَتْ طَرَفًا بَعْدَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ اعْتَلَّتْ فَقُلِبَتْ أَلْفًا، ثُمَّ لَمَّا لَاقَتْ هِيَ أَلِفَ فَعَالٍ قُلِبَتْ هَمْزَةً لِامْتِنَاعِ الْتِقَاءِ الْأَلِفَيْنِ لَفْظًا، وَمِنْ نَظَائِرِهِ الْمَضَاءُ وَالْأَتَاءُ، مِنْ مَضَيْتُ وَأَتَيْتُ وَالسِّقَاءُ، وَالشِّفَاءُ، مِنْ سَقَيْتُ وَشَفَيْتُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَصَالَةِ الْيَاءِ دُونَ الْهَمْزَةِ ثَبَاتُهَا فِي أَكْثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْكَلِمَةِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَقَضَيْنَا، وَقَضَيْتَ إِلَى قَضَيْتُنَّ، وَقَضَيَا وَقَضَيْنَ، وَهُمَا يَقْضِيَانِ، وَهِيَ وَأَنْتَ تَقْضِي، وَالْمَرْأَتَانِ وَأَنْتُمَا تَقْضِيَانِ، وَهُنَّ يَقْضِينَ، وَأَمَّا أَنْتِ تَقْضِينَ، فَالْيَاءُ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَالْأَصْلُ الَّذِي يَدُلُّ تَرْكِيبُهُ عَلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْقَطْعِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قَضَى الْقَاضِي لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا قَضَاءً إِذَا حَكَمَ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ لِلدَّعْوَى، وَلِهَذَا قِيلَ: حَاكِمٌ فَيْصَلٌ إِذَا كَانَ قَاطِعًا لِلْخُصُومَاتِ وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَاضِي مَعْنَاهُ الْقَاطِعُ لِلْأُمُورِ الْمُحْكِمُ لَهَا، وَقَوْلُهُمْ انْقَضَى الشَّيْءُ إِذَا تَمَّ وَانْقَطَعَ، وَقَوْلُهُمْ: قَضَى حَاجَتَهُ، مَعْنَاهُ قَطَعَهَا عَنِ الْمُحْتَاجِ وَدَفَعَهَا عَنْهُ وَقَضَى دَيْنَهُ إِذَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قَطَعَ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ عَنْ نَفْسِهِ أَوِ انْقَطَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، / وَقَوْلُهُمْ: قَضَى الْأَمْرَ، إِذَا أَتَمَّهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: ١٢] وَهُوَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ فِي إِتْمَامِ الْعَمَلِ قَطْعًا لَهُ وَفَرَاغًا مِنْهُ، وَمِنْهُ:
قَتَلَهُ فَمَجَازٌ مِمَّا ذُكِرَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَقَضِّي الْبَازِي فَلَيْسَ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَمِمَّا يُعَضِّدُ ذَلِكَ دَلَالَةُ مَا اسْتُعْمِلَ مِنْ تَقْلِيبِ تَرْتِيبِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَيْضُ وَالضِّيقُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَاضَهُ فَانْقَاضَ، أَيْ شَقَّهُ فَانْشَقَّ، وَمِنْهُ قَيْضُ الْبَيْضِ لِمَا انْفَلَقَ مِنْ قِشْرِهِ الْأَعْلَى، وَانْقَاضَّ الْحَائِطُ إِذَا انْهَدَمَ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ، وَالْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَالْفَلْقُ وَالْهَدْمُ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَمَّا الضِّيقُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَدَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ بَيِّنَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قُطِعَ ضَاقَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، فَأَوَّلُهَا: قَضَبَهُ إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ الْقَضْبَةُ الْمُرَطَّبَةُ، لِأَنَّهَا تُقْضَبُ أَيْ تُقْطَعُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْقَضِيبُ: الْغُصْنُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْمِقْضَبُ مَا يُقْضَبُ بِهِ كَالْمِنْجَلِ. وَثَانِيهَا: الْقَضْمُ وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا لِلْمَأْكُولِ، وَسَيْفٌ قَضِيمٌ: فِي طَرَفِهِ تَكَسُّرٌ وَتَفَلُّلٌ. وَثَالِثُهَا: الْقَضَفُ وَهُوَ الدِّقَّةُ، يُقَالُ رَجُلٌ قَضِيفٌ، أَيْ: نَحِيفٌ، لِأَنَّ الْقِلَّةَ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْقَطْعِ. وَرَابِعُهَا: الْقُضْأَةُ فُعْلَةٌ وَهِيَ الْفَسَادُ، يُقَالُ قَضِئَتِ القربة إذا عفيت وَفَسَدَتْ وَفِي حَسَبِهِ قُضْأَةٌ أَيْ عَيْبٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ أَوْ مُسَبَّبَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ بِحَسْبِ اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَامِلِ لَفْظِ الْقَضَاءِ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يَعْنِي خَلَقَهُنَّ. وَثَانِيهَا: بِمَعْنَى الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣]. وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْحَاكِمِ: الْقَاضِي. وَرَابِعُهَا: بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: ٤] أَيْ أَخْبَرْنَاهُمْ، وهذا يأتي مقروناً بإلى.
وَخَامِسُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الْأَحْقَافِ: ٢٩] يَعْنِي لَمَّا فُرِغَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: ٤٤] يَعْنِي فُرِغَ مِنْ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَجِّ: ٢٩] بِمَعْنَى لِيَفْرُغُوا مِنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] قِيلَ: إِذَا خَلَقَ شَيْئًا، وَقِيلَ: حَكَمَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَقِيلَ: أَحْكَمَ أَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٤٧] بِالنَّصْبِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ:
فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩، ٦٠] وَفِي الْأَنْعَامِ: كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [الْأَنْعَامِ: ٧٣] فَإِنَّهُ رَفَعَهُمَا، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ بِالنَّصْبِ فِي النَّحْلِ وَيس وَبِالرَّفْعِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ هُوَ بَعِيدٌ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ فَهُوَ يَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَحِينَئِذٍ يَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَإِنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ فَيَكُونُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَالْقِسْمَانِ فَاسِدَانِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِتَوَقُّفِ حُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ لَفْظَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْكَافِ عَلَى النُّونِ، فَالنُّونُ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْكَافِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وَالْكَافُ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى
أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ تَكَوُّنَ الْمَخْلُوقِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: كُنْ مُقَدَّمًا عَلَى تَكَوُّنِ الْمَخْلُوقِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا فَقَوْلُهُ: كُنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَلَا جَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُنْ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ كُلُّ مُحْدَثٍ إِلَى قَوْلِهِ: كُنْ وَقَوْلُهُ: كُنْ أَيْضًا مُحْدَثٌ فَيَلْزَمُ افْتِقَارُ: كُنْ آخَرَ وَيَلْزَمُ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ وَهُمَا مُحَالَانِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوَقُّفُ إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُخَاطِبَ الْمَخْلُوقَ بكن قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ أَوْ حَالَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ خِطَابَ الْمَعْدُومِ حَالَ عَدَمِهِ سَفَهٌ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَوْجُودَ بِأَنْ يَصِيرَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ أَيْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَكُونُ جَمَادًا، وَتَكْلِيفُ الْجَمَادِ عَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْقَادِرَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ وَتَرْكُهُ بِحَسْبِ الْإِرَادَاتِ، فَإِذَا فَرَضْنَا الْقَادِرَ الْمُرِيدَ مُنْفَكًّا عَنْ قَوْلِهِ: كُنْ فَإِمَّا أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ أَوْ لَا يَتَمَكَّنَ، فَإِنْ تَمَكَّنَ لَمْ يَكُنِ الْإِيجَادُ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى الفعل إلا عند تكلمه بكن فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّكُمْ سَمِعْتُمُ الْقُدْرَةَ بكن وَذَلِكَ نِزَاعٌ فِي اللَّفْظِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كُنْ لَوْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّكْوِينِ لَكُنَّا إِذَا تَكَلَّمْنَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ التَّأْثِيرُ، وَلَمَّا عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ فَسَادَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ كُنْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، بِشَرْطِ كَوْنِ الْكَافِ مُتَقَدِّمًا عَلَى النُّونِ، فَالْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ أَوْ مَجْمُوعَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ لِكَلِمَةِ كُنْ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ، بَلِ التَّأْثِيرُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِهَذَا الْمَجْمُوعِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ حِينَ حَصَلَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي حَاصِلًا، وَحِينَ جَاءَ الثَّانِي فَقَدْ فَاتَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْمُوعِ وُجُودُ أَلْبَتَّةَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَجْمُوعِ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خلقه إذا الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِهِ: كُنْ فِي وُجُودِ الشَّيْءِ فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسَادُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ سُرْعَةُ نَفَاذِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ لَا بِفِكْرَةٍ وَمُعَانَاةٍ وَتَجْرِبَةٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عِنْدَ وَصْفِ خلق السموات وَالْأَرْضِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ كَانَ مِنْهُمَا لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ سُرْعَةِ نَفَاذِ قَدْرَتِهِ فِي
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والمشركين، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: [ما حكي عن اليهود والنصارى والمشركين في قدح النبوة] أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ الْوَلَدَ، حَكَى الْآنَ عَنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَؤُلَاءِ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] وَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: ٥]، وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: ٢١] هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَأَلُوا ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاءِ: ١٥٣] فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلُ الْعِلْمِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ كَمَا يَنْبَغِي، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْرِيرُ هذه الشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا أَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ/ وَأَنَّ يَخْتَارَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَأَبْعَدَهَا عَنِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَ مُوسَى وَأَنْتَ تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ كَلَّمَكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمِ: ١٠] فَلِمَ لَا يُكَلِّمُنَا مُشَافَهَةً وَلَا يَنُصُّ عَلَى نُبُوَّتِكَ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الِاعْتِقَادُ وَتَزُولَ الشُّبْهَةُ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَخُصُّكَ بِآيَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَهَذَا مِنْهُمْ طَعْنٌ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ آيَةً وَمُعْجِزَةً، لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَاسْتَحَالَ أَنْ يَقُولُوا: هَلَّا يَأْتِينَا بِآيَةٍ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّا قَدْ أَيَّدْنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَبَيَّنَّا صِحَّةَ قَوْلِهِ بِالْآيَاتِ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ طَلَبُ هَذِهِ الزَّوَائِدِ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ إِجَابَتُهَا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الدَّلَالَةُ الْوَاحِدَةُ فَقَدْ تَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَوْ كَانَ غَرَضُهُ طَلَبَ الْحَقِّ لَاكْتَفَى بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، فَحَيْثُ لَمْ يَكْتَفِ بِهَا وَطَلَبَ الزَّائِدَ عَلَيْهَا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِلطَّلَبِ مِنْ بَابِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ، فَلَمْ تَكُنْ إِجَابَتُهَا وَاجِبَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٠، ٥١] فَبَكَّتَهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الدَّلَالَةِ الشَّافِيَةِ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ لَفَعَلَهَا، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوهُ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا لَجَاجًا فَلَا جَرَمَ لم
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ تَتَشَابَهُ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، فَكَمَا أَنَّ قَوْمَ مُوسَى كَانُوا أَبَدًا فِي التَّعَنُّتِ وَاقْتِرَاحِ الْأَبَاطِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَةِ: ٦١] وَقَوْلِهِمْ:
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] وقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: ١٥٣] فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَكُونُونَ أَبَدًا فِي الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ وَطَلَبِ الْبَاطِلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَجِيءِ الشَّجَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ، وَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، آيَاتٌ قَاهِرَةٌ، وَمُعْجِزَاتٌ بَاهِرَةٌ لِمَنْ كَانَ طَالِبًا لليقين.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ الْبَاطِلِ وَاقْتَرَحُوا الْمُعْجِزَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ الْأَدِلَّةِ وَكَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ فِي بَابِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّنْبِيهِ لِكَيْ لَا يَكْثُرَ غَمُّهُ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ وُجُوهٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرْسَالِ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ إِرْسَالًا بِالْحَقِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ أَيْ أَنْتَ مُبَشِّرٌ بِالْحَقِّ وَمُنْذِرٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ الدِّينَ وَالْقُرْآنَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِالْقُرْآنِ حَالَ كَوْنِهِ بَشِيرًا لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالثَّوَابِ وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ صِفَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ لِتَكُونَ مُبَشِّرًا لِمَنِ اتَّبَعَكَ وَاهْتَدَى بِدِينِكَ وَمُنْذِرًا لِمَنْ كَفَرَ بِكَ وَضَلَّ عَنْ دِينِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ:
الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ التَّاءِ وَاللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ، وَأَمَّا نَافِعٌ فَبِالْجَزْمِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى النَّهْيِ.
أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَصِيرَهُمْ إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: ٤٠]، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النُّورِ: ٥٤]. وَالثَّانِي: أَنَّكَ هَادٍ وَلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَلَا تَأْسَفْ وَلَا تَغْتَمَّ لِكُفْرِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: ٨]. الثَّالِثُ: لَا تَنْظُرْ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْحَالَ قَدْ يَتَغَيَّرُ فَهُوَ غَيْبٌ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِ غَيْرِهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِمَا اجْتَرَمَهُ سِوَاهُ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بَعِيدًا.
أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟
فَنُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عن
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَ رَسُولَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدِ انْزَاحَتْ مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِهِمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الثَّبَاتِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَوْمَ بَلَغَ حَالُهُمْ فِي تَشَدُّدِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ بِالْكِتَابِ، بَلْ يُرِيدُونَ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ لَهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَشَرَحَ مَا يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَالْمِلَّةُ هِيَ الدِّينُ ثُمَّ قَالَ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى بِمَعْنَى أَنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْهُدَى الْحَقُّ وَالَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى هُدًى وَهُوَ الْهُدَى كُلُّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ هُدًى، وَمَا يَدْعُونَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مَا هُوَ بِهُدًى إِنَّمَا هُوَ هَوًى، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أَيْ أَقْوَالَهُمُ الَّتِي هِيَ أَهْوَاءٌ وَبِدَعٌ، بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ مِنَ الدِّينِ الْمَعْلُومِ صِحَّتُهُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ. مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيْ مُعِينٍ يَعْصِمُكَ وَيَذُبُّ عَنْكَ، بَلِ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَقَمْتَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ يَجُوزُ مِنْهُ أَنْ يَتَوَعَّدَهُ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْوَعِيدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الصَّارِفَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ هَذَا الْوَعِيدُ أَوْ هَذَا الْوَعِيدُ أَحَدُ صَوَارِفِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَوْلَى فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. وَثَالِثُهَا: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا بَاطِلًا، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ. وَرَابِعُهَا: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَفِيعَ لِمُسْتَحِقِّ الْعِقَابِ لِأَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ إِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ لَوْ كَانَ يَجِدُ شَفِيعًا وَنَصِيرًا لَكَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ كفر، وعندنا لا شفاعة في الكفر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
المسألة الأولى: الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء. وأُولئِكَ ابتداء ثان ويُؤْمِنُونَ بِهِ خبره.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْقُرْآنَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ حَثٌّ وَتَرْغِيبٌ فِي تِلَاوَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَدْحٌ عَلَى تِلْكَ التِّلَاوَةِ، وَالْكِتَابُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ هُوَ الْقُرْآنُ لَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهُمَا غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مقصود عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَالْكِتَابُ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْقُرْآنُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آتَاهُمُ الْكِتَابَ، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا ذَمَّ طَرِيقَتَهُمْ وَحَكَى عَنْهُمْ سُوءَ أَفْعَالِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَدْحِ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتَهُمْ، بَلْ تَأَمَّلَ التَّوْرَاةَ وَتَرَكَ تَحْرِيفَهَا وَعَرَفَ مِنْهَا صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ فَالتِّلَاوَةُ لَهَا مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقِرَاءَةُ. الثَّانِي: الِاتِّبَاعُ فِعْلًا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهُ يُقَالُ تَلَاهُ فِعْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْسِ: ٢] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَيَصِحُّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْمُبَالَغَةُ لِأَنَّ التَّابِعَ لِغَيْرِهِ قَدْ يَسْتَوْفِي حَقَّ الِاتِّبَاعِ فَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ التَّالِي يَسْتَوْفِي حَقَّ قِرَاءَتِهِ فَلَا يُخِلُّ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ، وَالَّذِينَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ هُمُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ. فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ تَدَبَّرُوهُ فَعَمِلُوا بِمُوجِبِهِ حَتَّى تَمَسَّكُوا بِأَحْكَامِهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَغَيْرِهِمَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَضَعُوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرءوا الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ وَآمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَتَوَقَّفُوا فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ منه وفوضوه إلى الله سبحانه. ورابعها: يقرءونه كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ. وَخَامِسُهَا: أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مَفْهُومٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعْظِيمُهَا، وَالِانْقِيَادُ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ تَكْثِيرًا لِفَوَائِدِ كَلَامِ الله تعالى والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٤]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي شَرْحِ وُجُوهِ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فِي شَرْحِ قَبَائِحِهِمْ فِي أَدْيَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَخَتَمَ هَذَا الْفَصْلَ بما بدأ به وهو قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ شرع سبحانه هاهنا فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ أَنْ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفِيَّةَ أَحْوَالِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَخْصٌ يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركين كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ مُتَشَرِّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ ومن ساكني حرمه وخادمي بيته.
[أما قوله تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ إلى قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانُوا أَيْضًا
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ فَلَمَّا وَفَّى بِهَا وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهَا لَا جَرَمَ نَالَ النُّبُوَّةَ وَالْإِمَامَةَ وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ الْإِمَامَةَ لِأَوْلَادِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ فِي الدِّينِ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ، فَهَؤُلَاءِ مَتَى أَرَادُوا وِجْدَانَ هَذَا الْمَنْصِبِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ اللَّجَاجِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَجَّ مِنْ خَصَائِصِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ بِتَعْظِيمِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ ذَلِكَ الْغَضَبِ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِهَا بِأُمُورٍ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَنْظِيفِ الْبَدَنِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اخْتِيَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالدِّمَاءِ وَتَرْكِ النَّظَافَةِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى مَا ابْتُلِيَ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى/ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَمُنَاظَرَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ الِانْقِيَادُ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، وَهَذَا يُوجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَسْلُكُوا طَرِيقَتَهُ فِي تَرْكِ الْحَسَدِ وَالْحَمِيَّةِ وَكَرَاهَةِ الِانْقِيَادِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي لِأَجْلِهَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمُورًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفَهُ بِهَا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيفَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَى تَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَكْلِيفٍ حَصَلَ بَعْدَهُ تَشْرِيفٌ.
أَمَّا التَّكْلِيفُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [الْعَامِلُ فِي إِذِ] قال صاحب الكشاف: العامل في إِذِ إِمَّا مُضْمَرٌ نَحْوُ: وَاذْكُرْ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ إِذِ ابْتَلَاهُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَإِمَّا قالَ إِنِّي جاعِلُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تَكْلِيفَهُ إِيَّاهُ بِبَلْوَى تَوَسُّعًا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مِنَّا عَلَى جِهَةِ الْبَلْوَى وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمِحْنَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُ مَا يَكُونُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ بَيْنَنَا جَازَ أَنْ يَصِفَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِذَلِكَ مَجَازًا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَقَالَ هِشَامُ بن الحكم: إنه تعالى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا فَقَطْ، فَأَمَّا حُدُوثُ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ وَدُخُولُهَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرُهُمْ وَذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: ٣١] وَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هُودٍ: ٧] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
[الْبَقَرَةِ: ١٥٥] وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وَكَلِمَةُ «لَعَلَّ» للترجي وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢١] فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَنَظَائِرُهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَعْلَمُ وُقُوعَ الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَمَّا الْعَقْلُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَزِمَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَنِ الْخَالِقِ وَعَنِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ مَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وُقُوعَهُ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ وَبِلَا وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُتَضَادَّانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَانَ وُقُوعُهُ مُحَالًا لِعَيْنِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْجُزْئِيَّةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَكَانَ بَعْضُهَا وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَبَعْضُهَا مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَلَا قُدْرَةَ الْبَتَّةَ لَا عَلَى الْوَاجِبِ وَلَا عَلَى الْمُمْتَنِعِ فَيَلْزَمُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْخَالِقِ تَعَالَى وَعَنِ الْخَلْقِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ أَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا إِذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْعَالَمِ أَوْ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ حُدُوثُهُ، وَأَمَّا/ فِي حَقِّ الْخَلْقِ فَلِأَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا كَوْنَنَا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّا إِنْ شِئْنَا الْفِعْلَ قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْنَا التَّرْكَ قَدَرْنَا عَلَى التَّرْكِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا وَالْآخَرُ مُمْتَنِعًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُكْنَةُ الَّتِي يُعْرَفُ ثُبُوتُهَا بِالضَّرُورَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِأَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ مُغَايِرٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِلُ مِنَّا تعقل أحد التعلقين مع الذهول عن التعليق الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَلُّقَانِ تَعَلُّقًا وَاحِدًا لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَذْهُولًا عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، لَكَانَ لَهُ تَعَالَى عُلُومٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، أَوْ كَانَ لِعِلْمِهِ تَعَلُّقَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ حُصُولُ مَوْجُودَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ نُقْصَانِ عَشَرَةٍ مِنْهُ، فَالنَّاقِصُ مُتَنَاهٍ، وَالزَّائِدُ زَادَ عَلَى الْمُتَنَاهِي بِتِلْكَ الْعَشَرَةِ، وَالْمُتَنَاهِي إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي كَانَ الْكُلُّ مُتَنَاهِيًا، فَإِذًا وُجُودُ أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مُحَالٌ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَوْجُودُ هُوَ الْعِلْمُ، فَأَمَّا تِلْكَ التَّعَلُّقَاتُ فَهِيَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ، قُلْنَا: الْعِلْمُ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْلُومِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ حَاصِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ عِلْمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا:
أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ عَدَدَهَا أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَدَهَا فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَهَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَكَلَامُنَا لَيْسَ إِلَّا فِي الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَعْلُومٍ فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ فِي الذِّهْنِ عَمَّا عَدَاهُ، وَكُلُّ مُتَمَيِّزٍ عَمَّا عَدَاهُ فَإِنَّ مَا عَدَاهُ خَارِجٌ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ كُلُّ مَعْلُومٍ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ كُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَوْ كَانَ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَنِسْبَةٌ إِلَيْهِ وَانْتِسَابُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ يُعْتَبَرُ تَحَقُّقُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ تَعَيُّنٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ نِسْبَةٌ، وَالشَّيْءُ الْمُشَخَّصُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مُشَخَّصًا الْبَتَّةَ، فَاسْتَحَالَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُحَالَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَإِنَّا نَعْلَمُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَعَيُّنَاتٌ الْبَتَّةَ، قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَوْرَدْتُمُوهُ نَقْضٌ عَلَى كَلَامِنَا، وَلَيْسَ جَوَابًا عَنْ كَلَامِنَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُزِيلُ الشَّكَّ، وَالشُّبْهَةَ، قَالَ هِشَامٌ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْعَقْلِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هِشَامًا كَانَ رَئِيسَ الرَّافِضَةِ، فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء، أَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن فِي نَفْسِهَا عَدَدٌ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِنَا:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِثْبَاتُ الْجَهْلِ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَعْلُومِ أَنْ يَعْلَمَ الْعِلْمُ تَمَيُّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَلَوْ كَانَ تَوَقُّفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الْعِلْمِ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ مِنْ غَيْرِهِ يُوقَفُ عَلَى الْعِلْمِ بِغَيْرِهِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا إِذَا عَلِمَ أُمُورًا لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا بِالنَّقْضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا انْتَقَضَتِ الشُّبْهَةُ سَقَطَتْ، فَيَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ عَالِمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى سَالِمًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أن الضمير لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، فَالضَّمِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَذْكُورِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمُتَأَخِّرًا مَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، مِنْهُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ متقدماً لفظاً ومعنى فالمشهور عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي بِجَوَازِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالشِّعْرِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ:
جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ | جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِبْرَاهَامَ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ، (إِبْرَاهِيمَ) وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَيْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِرَفْعِ إِبْرَاهِيمَ وَنَصْبِ رَبِّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ دَعَاهُ بِكَلِمَاتٍ مِنَ الدُّعَاءِ فِعْلَ الْمُخْتَبِرِ هَلْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِنَّ أَمْ لَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِمَامَةِ وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ وَالدُّعَاءِ بِإِبْعَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُمُورٌ شَاقَّةٌ، أَمَّا الْإِمَامَةُ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ منها هاهنا هُوَ النُّبُوَّةُ، وَهَذَا التَّكْلِيفُ يَتَضَمَّنُ مَشَاقَّ عَظِيمَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْزَمُهُ أن يحتمل جَمِيعَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَأَنْ لَا يَخُونَ فِي أَدَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ، بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَاقِّ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ ثَوَابَ النَّبِيِّ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا بِنَاءُ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرُهُ وَرَفْعُ قَوَاعِدِهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي كَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ عَرَفَ شِدَّةَ الْبَلْوَى فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِقَامَةَ الْمَنَاسِكِ، وَقَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالشَّيْطَانِ فِي الْمَوْقِفِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا اشْتِغَالُهُ بِالدُّعَاءِ فِي أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَهَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِزَالَةُ الْحَسَدِ عَنِ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنِ ابْتِلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالْكَلِمَاتِ هُوَ ذَلِكَ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِذِكْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، بَلْ قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِابْتِلَاءَ لَيْسَ إِلَّا التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فَأَتَمَّهُنَّ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ قَوْلَهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بَعْدَ قَوْلِهِ: فَأَتَمَّهُنَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى امْتَحَنَهُ بِالْكَلِمَاتِ وَأَتَمَّهَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ:
إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْإِمَامَةَ فَقَطْ، بَلِ الْإِمَامَةَ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرَهُ وَالدُّعَاءَ فِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِأُمُورٍ عَلَى الْإِجْمَالِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّهَا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالشَّرْحِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يعد فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَذَا القول يحتمل وجهين، أحدهما:
بِكَلِمَاتٍ كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِنَّ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مِمَّا شَاءَ كَلَّفَهُ بِالْأَمْرِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثاني: بكلمات تكون من إبراهيم يلكم بِهَا قَوْمَهُ، أَيْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهَا، وَالْقَائِلُونَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ عَشْرُ خِصَالٍ كَانَتْ فَرْضًا فِي شَرْعِهِ وَهِيَ سُنَّةٌ فِي شَرْعِنَا، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ، أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ: فَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ/ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالسِّوَاكُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْبَدَنِ: فَالْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْتَلَاهُ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، عَشْرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التَّوْبَةِ: ١١٢] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:
ابْتَلَاهُ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ: بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْخِتَانِ عَلَى الْكِبَرِ، وَالنَّارِ، وَذَبْحِ الْوَلَدِ، وَالْهِجْرَةِ، فَوَفَّى بِالْكُلِّ فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: ٣٧] عَنِ الْحَسَنِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٣١]. وَسَادِسُهَا: الْمُنَاظَرَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي التَّوْحِيدِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ ومع نمرود وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ، وَقَسْمُ الْغَنَائِمِ، وَالضِّيَافَةُ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ يَتَنَاوَلُ إِلْزَامَ كُلِّ مَا فِي فعله كلفة شدة وَمَشَقَّةٌ، فَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ فِي الْكُلِّ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْكُلِّ، وَلَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الِابْتِلَاءُ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِنَّ كَالسَّبَبِ لِأَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ إِمَامًا، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الِابْتِلَاءِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ إِمَامًا وَهَذَا أَيْضًا مُلَائِمٌ لِقَضَايَا الْعُقُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَفَاءَ مِنْ شَرَائِطِ النُّبُوَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَتَرْكِ الْمُدَاهَنَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَتَقْبِيحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَتَحَمُّلِ الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَاقِّ وَأَجَلِّ الْمَتَاعِبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أُمَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّهُ تَعَالَى ابْتَلَاهُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا وَفَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَا لَا جَرَمَ أَعْطَاهُ خُلْعَةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ:
إِنَّهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ جَعَلَهُ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ، مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ مِنْ حَدِيثِ الْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَمَّا ذَبْحُ الْوَلَدِ وَالْهِجْرَةُ وَالنَّارُ فَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا الْخِتَانُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرْوَى أَنَّهُ خَتَنَ نَفْسَهُ وَكَانَ سِنُّهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلِمَاتِ/ هَذِهِ الأشياء كان المراد من قوله: فَأَتَمَّهُنَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُتِمُّهُنَّ وَيَقُومُ بِهِنَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَا جَرَمَ أَعْطَاهُ خُلْعَةَ الْإِمَامَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي فَأَتَمَّهُنَّ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَعْنَى فَقَامَ بِهِنَّ حَقَّ الْقِيَامِ، وَأَدَّاهُنَّ أَحْسَنَ التَّأْدِيَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَتَوَانٍ. وَنَحْوُهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وَفِي الْأُخْرَى لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى: فَأَعْطَاهُ مَا طلبه لم ينقض منه شيئاً.
أما [التشريف ف] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَالْإِمَامُ اسْمُ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ كَالْإِزَارِ لِمَا يُؤْتَزَرُ بِهِ، أَيْ يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي دِينِكَ. وَفِيهِ مسائل:
لِلنَّاسِ إِماماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِكُلِّ النَّاسِ وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا بِالشَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَبَعًا لِرَسُولٍ آخَرَ لَكَانَ مَأْمُومًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ لَا إِمَامًا لَهُ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْعُمُومُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِمَامٌ فِي كُلِّ شَيْءِ وَالَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَئِمَّةٌ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٣] وَالْخُلَفَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُهُمْ وَقَبُولُ قَوْلِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُسَمَّى أَيْضًا إِمَامًا لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إِمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إِمَامِكُمْ»
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ لِمَنِ اسْتَحَقَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي الدِّينِ وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [الْقَصَصِ: ٤١] إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ لَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا مُقَيَّدًا، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِلَهِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمَعْبُودَ الْحَقَّ، فَأَمَّا الْمَعْبُودُ الْبَاطِلُ فَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِلَهِ مَعَ الْقَيْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هُودٍ: ١٠١] وَقَالَ:
وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً [طه: ٩٧] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِمَامَةِ وَجَبَ حمل اللفظ هاهنا عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ الْإِمَامِ هاهنا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِيَحْسُنَ نِسْبَةُ الِامْتِنَانِ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْإِمَامَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْوَعْدَ فِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ عَلَى شَدَّةِ اخْتِلَافِهَا وَنِهَايَةِ تَنَافِيهَا يُعَظِّمُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَتَشَرَّفُونَ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ إِمَّا فِي النَّسَبِ وَإِمَّا فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ حَتَّى إِنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا مُعَظِّمِينَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ/ حَنِيفاً [النحل: ١٢٣] وقال: مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الْحَجِّ: ٧٨] وَجَمِيعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُونَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَصِيرُ إِمَامًا إِلَّا بِالنَّصِّ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِمَامًا بِسَبَبِ التَّنْصِيصِ عَلَى إِمَامَتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ له منصب الخلافة إلا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ المراد بالإمامة هاهنا النُّبُوَّةُ ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مُطْلَقُ الْإِمَامَةِ لَكِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ طَرِيقُ الْإِمَامَةِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ بِغَيْرِ النَّصِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعْصُومًا عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا فِعْلُ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ فِعْلِهِ وَكَوْنَهُ وَاجِبًا عِبَارَةٌ عَنْ
أَمَّا قوله: مِنْ ذُرِّيَّتِي فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الذُّرِّيَّةُ: الْأَوْلَادُ وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ اللَّهِ الْخَلْقَ وَتَرَكُوا هَمْزَهَا لِلْخِفَّةِ كَمَا تَرَكُوا فِي الْبَرِّيَّةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوبَةً إِلَى الذَّرِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عُطِفَ عَلَى الْكَافِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاعِلُ بَعْضِ ذُرِّيَّتِي كَمَا يُقَالُ لَكَ:
سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ فَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي كُلِّهِمْ أَوْ فِي بَعْضِهِمْ وَهَلْ يَصْلُحُ جَمِيعُهُمْ لِهَذَا الْأَمْرِ؟ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ ظَالِمًا لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَامِ وَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرِيحًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَنَالُ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْذُونًا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ؟ فَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَلِمَ رَدَّ دُعَاءَهُ؟ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا، قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى إِجَابَةَ دُعَائِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَجَعَلَ آخِرَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَهْدِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بفتحها، / وقرأ بعضهم: لا ينال عهدي الظالمون أَيْ مَنْ كَانَ ظَالِمًا مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْعَهْدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ الْإِمَامَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْإِمَامَةِ هُوَ النُّبُوَّةَ فَكَذَا وَإِلَّا فَلَا. وَثَانِيهَا: عَهْدِي أَيْ رَحْمَتِي عَنْ عَطَاءٍ. وَثَالِثُهَا: طَاعَتِي عَنِ الضَّحَّاكِ. وَرَابِعُهَا: أَمَانِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي طَلَبٌ لِتِلْكَ الْإِمَامَةِ الَّتِي وَعَدَهُ بِهَا بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَقَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ تِلْكَ الْإِمَامَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُعْطِي بَعْضَ وَلَدِهِ مَا سَأَلَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوَابُ: لَا، أَوْ يَقُولُ: لَا يَنَالُ عَهْدِي ذُرِّيَّتَكَ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَلِيقُ بِالظَّالِمِينَ، قُلْنَا:
بَلَى، وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ ذُرِّيَّتِهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَأَنَّ النُّبُوَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّوَافِضُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَدْحِ فِي إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَقَدْ كَانَا حَالَ كُفْرِهِمَا ظَالِمَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنَّهُمَا لَا يَنَالَانِ عَهْدَ الْإِمَامَةِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا صَدَقَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُمَا لَا يَنَالَانِ عَهْدَ الْإِمَامَةِ الْبَتَّةَ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْإِمَامَةِ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ مُذْنِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِذَنْ مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا كَانَا مِنَ الظَّالِمِينَ الْمُذْنِبِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِإِمَامَتِهِمَا وَذَلِكَ
قَالُوا: كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَكُلُّ مُشْرِكٍ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ لَا يَنَالُهُ عَهْدُ الْإِمَامَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنَالَهُمَا عَهْدُ الْإِمَامَةِ، أَمَّا أَنَّهُمَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُشْرِكَ ظَالِمٌ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] وَأَمَّا أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَنَالُهُ عَهْدُ الْإِمَامَةِ فَلِهَذِهِ الْآيَةِ، لَا يُقَالُ إِنَّهُمَا كَانَا ظَالِمَيْنِ حَالَ كُفْرِهِمَا، فَبَعْدَ زَوَالِ الْكُفْرِ لَا يَبْقَى هَذَا الِاسْمُ لِأَنَّا نَقُولُ الظَّالِمُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ، وَقَوْلُنَا: وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بِالتَّقْسِيمِ بِالْقِسْمَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ القسمين وما كان مشتركاً بين القسمين لا يَلْزَمُ انْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الْحَالِ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إِلَى الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ النَّائِمَ يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ غَيْرُ حَاصِلٍ حَالَ كَوْنِهِ نَائِمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِظُلْمٍ وُجِدَ مِنْ قَبْلُ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ حُرُوفٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَالْمَشْيُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فِي أَحْيَازٍ مُتَعَاقِبَةٍ، فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْبَتَّةَ لَا وُجُودَ لَهَا، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ شَرْطًا فِي كَوْنِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمَاشِي وَأَمْثَالِهِمَا حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا/ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لَيْسَ شَرْطًا لِكَوْنِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً؟ وَالْجَوَابُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ، بِمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى كَافِرٍ فَسَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ مُؤْمِنٍ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا قَبْلُ بِسِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ لَا يُسَمَّى كَافِرًا وَالتَّائِبَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هُودٍ: ١١٣] فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ حَالَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الظُّلْمِ، وَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: ٩١] مَعْنَاهُ: مَا أَقَامُوا عَلَى الْإِحْسَانِ، عَلَى أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: النُّبُوَّةُ، فَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلنُّبُوَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: الْفَاسِقُ حَالَ فِسْقِهِ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْفِسْقَ الطَّارِئَ هَلْ يُبْطِلُ الْإِمَامَةَ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُ الْإِمَامَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَقَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي طَلَبٌ لِلْإِمَامَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ هُوَ الْإِمَامَةُ، لِيَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، فَتَصِيرُ الْآيَةُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَنَالُ الْإِمَامَةُ الظَّالِمِينَ، وَكُلُّ عَاصٍ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ، قُلْنَا: أَمَّا الشِّيعَةُ فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: مُقْتَضَى الْآيَةِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْبَاطِنِ فَتَبْقَى الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَقَالَ آدَمُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] قُلْنَا: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي آدَمَ وَيُونُسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَهْدَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس: ٦٠] يَعْنِي أَلَمْ آمُرْكُمْ بِهَذَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالُوا إِنَّ اللَّهَ
[آلِ عِمْرَانَ: ١٨٣] يَعْنِي أَمَرَنَا، وَمِنْهُ عُهُودُ الْخُلَفَاءِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا بَطَلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ ثَبْتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ بُطْلَانُ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»،
وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُنَفَّذُ إِذَا وَلِيَ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فُتْيَاهُ إِذَا أَفْتَى، وَلَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِحَيْثُ لَوِ اقْتُدِيَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ/ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ إِمَامًا وَخَلِيفَةً، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ قَاضِيًا، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْحَاكِمِ فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَحُبِسَ، فَلَحَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطًا، فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: تَوَلَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَزُولَ عَنْكَ الضَّرْبُ، فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّتِي تَدْخُلُ فَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى عَدَّ لَهُ اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقِصَّتُهُ فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مَشْهُورَةٌ، وَفِي حَمْلِهِ الْمَالَ إِلَيْهِ وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرًّا فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ وَالْقِتَالِ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ بن الحسن، ثم قَالَ: وَإِنَّمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ إِمَامٍ جَائِرٍ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ، وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ كَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً، فَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَنْ وَلَّاهُ، لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْوَانِهِ، وَلَيْسَ شرط أعوان القاضي أن يكون عُدُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِتَوْلِيَةِ رَجُلٍ عَدْلٍ مِنْهُمُ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ إِمَامٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ:
الْإِمَامَةُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ إِمَامٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَالنَّبِيُّ أَوْلَى النَّاسِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ فَاسِقًا، فَبِأَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَاعِلًا لِلذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى. الثَّانِي:
قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذَا الْعَهْدُ إِنْ كَانَ هُوَ النُّبُوَّةَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْإِمَامَةَ، فَكَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَكُلُّ فَاسِقٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ النُّبُوَّةُ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَاسِقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ لَهُ مَعَكَ عَهْدًا، وَلَكَ مَعَهُ عَهْدًا، وَبَيَّنَ أَنَّكَ مَتَى تَفِي بِعَهْدِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفِي أَيْضًا بِعَهْدِهِ فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] ثُمَّ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ عَهْدَكَ بِالذِّكْرِ، وَأَفْرَدَ عَهْدَ نَفْسِهِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ، أَمَّا عَهْدُكَ فَقَالَ فِيهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي/ آدَمَ [يس: ٦٠] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٣] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عَهْدَهُ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ الشَّدِيدَةُ فِي هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ تَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ فَنَقُولُ: الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْكَ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْعَهْدُ الَّذِي الْتَزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِهَتِهِ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الرَّحْمَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ فِي حَالِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا نَقْضَ هَذَا الْعَهْدِ، وَمِنْ رَبِّهِ إِلَّا الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَلْنَشْرَعْ فِي مَعَاقِدِ هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: أَوَّلُ إِنْعَامِهِ عَلَيْكَ إِنْعَامُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَإِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَالْآلَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ اشْتِغَالُكَ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَبَثِ فَقَالَ:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: ١٦] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: ٣٩] وَقَالَ أَيْضًا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: ٢٧] وَقَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ فَقَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ حَيْثُ خَلَقَكَ وَأَحْيَاكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَجَعَلَكَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا فَإِذَا لَمْ تَشْتَغِلْ بِخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَضْتَ عَهْدَ عُبُودِيَّتِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَهْدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي إِعْطَاءَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَعَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْكَ يَقْتَضِي الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ ذَرَّةً مِنَ الذَّرَّاتِ إِلَّا وَجَعَلَهَا هَادِيَةً لَكَ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَأَنْتَ مَا وَفَّيْتَ الْبَتَّةَ بِعَهْدِ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَوْ فَاتَتْكَ لَكُنْتَ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: ٥٣] ثُمَّ مَعَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهَا وَقَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٩] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُكَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ فَبِأَنْ تَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّكَ مَا أَتَيْتَ إِلَّا بِالْكُفْرَانِ عَلَى مَا قَالَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: ١٧] فَهُوَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِهِ، وَأَنْتَ نَقَضْتَ عَهْدَكَ. وَرَابِعُهَا: أَنْ تُنْفَقَ نِعَمُهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، فَعَهْدُهُ مَعَكَ أَنْ يُعْطِيَكَ أَصْنَافَ النِّعَمِ وَقَدْ فَعَلَ وَعَهْدُكَ مَعَهُ أَنْ تَصْرِفَ نِعَمَهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وَأَنْتَ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: ٦، ٧]. وَخَامِسُهَا:
أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لِتَكُونَ مُحْسِنًا إِلَى الْفُقَرَاءِ: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثُمَّ إِنَّكَ تَوَسَّلْتَ بِهِ إِلَى إِيذَاءِ النَّاسِ وإيحاشهم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد: ٢٤] [النِّسَاءِ: ٣٧]. وَسَادِسُهَا:
أَعْطَاكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ لِتَكُونَ مُقْبِلًا على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إن السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ لَوْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِخُلْعَةٍ نَفِيسَةٍ، ثُمَّ إِنَّكَ فِي حَضْرَتِهِ تُعْرِضُ عَنْهُ وَتَبْقَى مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ بَعْضِ الْأَسْقَاطِ كَيْفَ تَسْتَوْجِبُ الْأَدَبَ والمقت فكذا هاهنا، وَاعْلَمْ أَنَّا لَوِ اشْتَغَلْنَا/ بِشَرْحِ كَيْفِيَّةِ وَفَائِهِ سُبْحَانَهُ بِعَهْدِ الْإِحْسَانِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ نَقْضِنَا لِعَهْدِ الإخلاص
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٥]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَلَّفَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَهَذَا شَرْحُ التَّكْلِيفِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْبَيْتُ فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَتَا تَدْخُلَانِ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ أَوِ الْجِنْسِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْجِنْسَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، ثُمَّ نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَمْناً وَهَذَا صِفَةُ جَمِيعِ الْحَرَمِ لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْبَيْتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ الْحَرَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: ٩٥] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ لَا الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا، لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا
[التَّوْبَةِ: ٢٨]، وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ حُضُورَ مَوَاضِعِ النُّسُكِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ/ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ فَاقْتَضَى جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَيْتِ وَعَنَى بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ أَنَّ حرمة الحرم لما كانت معلقة بِالْبَيْتِ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْبَيْتِ.
أما قوله: مَثابَةً لِلنَّاسِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ مَثَابَةً وَثَوْبًا إِذَا رَجَعَ يُقَالُ: ثَابَ الْمَاءُ إِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْرِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، وَثَابَ إِلَى فُلَانٍ عَقْلُهُ أَيْ رَجَعَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ النَّاسُ، ثُمَّ ثَابُوا: أَيْ عَادُوا مُجْتَمِعِينَ، وَالثَّوَابُ مِنْ هَذَا أُخِذَ، كَأَنَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمَثَابُ مِنَ الْبِئْرِ: مُجْتَمَعُ الْمَاءِ فِي أَسْفَلِهَا، قَالَ الْقَفَّالُ قِيلَ: إِنَّ مَثَابًا وَمَثَابَةً لُغَتَانِ مِثْلُ: مَقَامٍ وَمَقَامَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: الْهَاءُ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي مَثَابَةٍ مُبَالَغَةً كَمَا فِي قولهم: نسابة وعلامة، وأصل مثابة مثوبة مَفْعُلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: تَمَسَّكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ كَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ كَوْنَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ النَّاسِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ النَّاسِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجَبْرِ وَالْإِلْجَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ تَعَذُّرُ إِجْرَاءِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّا مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ مِمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّدْبِ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَوْدَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَدْ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا سِوَى الطَّوَافِ، فَوَجَبَ تَحَقُّقُهُ/ فِي الطَّوَافِ، هَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ طَعَنَ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَتَهَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْناً أَيْ مَوْضِعَ أَمْنٍ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً خَبَرٌ، فَتَارَةً نَتْرُكُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَنَقُولُ إِنَّهُ خَبَرٌ، وَتَارَةً نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَنَقُولُ إِنَّهُ أَمْرٌ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الْحَرَمِ آمِنِينَ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ عَلَى مَا قَالَ:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَصِ: ٥٧] وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ الْقَتْلَ الْحَرَامَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ، وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ الْمُبَاحُ قَدْ يُوجَدُ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] فَأَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ بِأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَمْنًا مِنَ الْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، فَكَانَ الْبَيْتُ مُحْتَرَمًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ مُتَمَسِّكِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لَا يَهِيجُونَ عَلَى أَحَدٍ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ قُرَيْشًا: أَهْلَ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، ثُمَّ اعْتُبِرَ فِيهِ أَمْرُ الصَّيْدِ حَتَّى أَنَّ الْكَلْبَ لَيَهُمُّ بِالظَّبْيِ خَارِجَ الحرم فيفر الظبي منه فَيَتْبَعُهُ الْكَلْبُ فَإِذَا دَخَلَ الظَّبْيُ الْحَرَمَ لَمْ يَتْبَعْهُ الْكَلْبُ، وَرُوِيَتِ الْأَخْبَارُ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مكة وأنها لم تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا كَمَا كَانَتْ»،
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمْ
وَهَذَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ مَكَّةُ فِيهِ مُحَرَّمَةً فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُنْصَبَ الْحَرْبُ عَلَيْهَا كَمَا يُنْصَبُ عَلَى غَيْرِهَا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَمْناً لَيْسَ فيه بيان أنه جعله أمناً في ماذا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنَ الْقَحْطِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ نَصْبِ الْحُرُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْنًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْقَحْطِ وَالْآفَاتِ أَوْلَى لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا نَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ لَفْظِ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَفِي سَائِرِ الْوُجُوهِ نَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وحمزة وعاصم والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ.
أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَقَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا عَطْفٌ عَلَى مَاذَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ:
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ١٢٢]، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. الثَّانِي: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ابْتَلَاهُ بِكَلِمَاتٍ وَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ لَهُ جَزَاءً لِمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِهَذَا وَلَدَهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَضْمَرَ قَوْلَهُ وَقَالَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٧١] الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وَهُوَ كَلَامٌ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا أَنْتُمْ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَالتَّقْدِيرُ أَنَّا لَمَّا شَرَّفْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ بِكَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا فَاتَّخِذُوهُ أَنْتُمْ قِبْلَةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ قَدْ يُذْكَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتِ الْفَاءُ أَوْضَحَ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَاتَّخَذُوا بِالْفَتْحِ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِهِ مُصَلًّى، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفًا عَلَى: جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وَإِذِ اتَّخَذُوهُ مُصَلًّى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا أَقْوَالًا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَجَرِ قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَغَسَلَتْ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَاصَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الرِّجْلِ الْأُخْرَى فَغَاصَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. الرَّابِعُ: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاتَّفَقَ المحققون على أن القول الأولى أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَتَى الْمَقَامَ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فَقِرَاءَةُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ظَاهِرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِلًا لَوْ سَأَلَ الْمَكِّيَّ بِمَكَّةَ عَنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُجِبْهُ وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ/. وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالْمَقَامِ وَمَعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ قَالَ: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِمْ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَجَرَ صَارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فِي رُطُوبَةِ الطِّينِ حَتَّى غَاصَتْ فِيهِ رِجْلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْلَى مِنِ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِهِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تَعَلُّقٌ بِالْحَرَمِ وَلَا بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ هَذَا الْمَوْضِعَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِ، وَثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَامَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ عِنْدَ الْمُغْتَسَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ، أَعْنِي: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْحَجَرِ يَكُونُ أَوْلَى قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ فَسَّرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجَرِ خَرَّجَ قَوْلَهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عَلَى مَجَازِ قَوْلِ الرَّجُلِ: اتَّخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ صَدِيقًا وَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ أَخًا صَالِحًا وَوَهَبَ اللَّهُ لِي مِنْكَ وَلِيًّا مُشْفِقًا وَإِنَّمَا تَدْخُلُ «مِنْ» لِبَيَانِ الْمُتَّخَذِ الْمَوْصُوفِ وَتُمَيِّزُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: مُصَلًّى وُجُوهًا. أَحَدُهَا: الْمُصَلَّى الْمُدَّعَى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هي الدعاء، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: ٥٦] وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَتِمَّ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ الْحَرَمِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً. وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إِذَا أُطْلِقَ يُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُصَلَّى أَمَامَكَ يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي فَسَّرُوا الْآيَةَ بها وهاهنا بَحْثٌ فِقْهِيٌّ وَهُوَ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: سُنَّةٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا، قال: لا إلا أن تطوع وَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ نَفْلًا مِثْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَرَكْعَتَاهُ سُنَّةٌ
وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوَى الشَّيْخُ أحمد البيهقي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ،
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: خُلِقَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْهُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ/ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعُ الْبَيْتِ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهَا الْأَرْضُ، وَإِنَّ أَوَّلَ جَبَلٍ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبُو قُبَيْسٍ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الْجِبَالُ».
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَوْحَشَ مِنْهَا لِمَا رَأَى مِنْ سَعَتِهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَمَا لِأَرْضِكَ هَذِهِ عَامِرٌ يُسَبِّحُكَ فِيهَا وَيُقَدِّسُ لَكَ غَيْرِي. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهَا مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مَنْ يُسَبِّحُ بِحَمْدِي وَيُقَدِّسُ لِي وَسَأَجْعَلُ فِيهَا بُيُوتًا تُرْفَعُ لِذِكْرِي فَيُسَبِّحُنِي فِيهَا خَلْقِي وَسَأُبَوِّئُكَ مِنْهَا بَيْتًا أَخْتَارُهُ لِنَفْسِي وَأَخُصُّهُ بِكَرَامَتِي وَأُوثِرُهُ عَلَى بُيُوتِ الْأَرْضِ كُلِّهَا بِاسْمِي وَأُسَمِّيهِ بَيْتِي أُعَظِّمُهُ بِعَظَمَتِي وَأَحُوطُهُ بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولادها بِذِكْرِي وَأَضَعُهُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي اخْتَرْتُ لِنَفْسِي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ، أَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ لَكَ وَلِمَنْ بَعْدَكَ حَرَمًا آمِنًا أُحَرِّمُ بِحُرْمَتِهِ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ وَمَا حَوْلَهُ فَمَنْ حَرَّمَهُ بِحُرْمَتِي فَقَدْ عَظَّمَ حُرْمَتِي وَمَنْ أَحَلَّهُ فَقَدْ أَبَاحَ حُرْمَتِي، وَمَنْ أَمَّنَ أَهْلَهُ اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ أَمَانِي وَمَنْ أَخَافَهُمْ فَقَدْ أَخَافَنِي وَمَنْ عَظَّمَ شَأْنَهُ فَقَدْ عَظُمَ فِي عَيْنِي وَمَنْ تَهَاوَنَ بِهِ فَقَدْ صَغُرَ فِي عَيْنِي سُكَّانُهَا جِيرَانِي وَعُمَّارُهَا وَفْدِي وَزُوَّارُهَا أَضْيَافِي أَجْعَلُهُ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وَأُعَمِّرُهُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَأْتُونَهُ أَفْوَاجًا شُعْثًا غُبْرًا: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الْحَجِّ: ٢٧] يَعُجُّونَ بِالتَّكْبِيرِ عَجًّا إِلَيَّ وَيَثُجُّونَ بِالتَّلْبِيَةِ ثَجًّا، فَمَنِ اعْتَمَرَهُ لَا يُرِيدُ غَيْرِي فَقَدْ زَارَنِي وَضَافَنِي وَنَزَلَ بِي وَوَفَدَ عَلَيَّ، فَحَقَّ لِي أَنْ أُتْحِفَهُ بِكَرَامَتِي وَحَقَّ عَلَى الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ وَأَضْيَافَهُ وَزُوَّارَهُ وَأَنْ يُسْعِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَاجَتِهِ تُعَمِّرُهُ يَا آدَمُ مَا كُنْتَ حَيًّا ثُمَّ يُعَمِّرُهُ مِنْ بَعْدِكَ الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ وَلَدِكَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَنَبِيًّا بَعْدَ نَبِيٍّ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ وَلَدِكَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَجْعَلُهُ مِنْ سُكَّانِهِ وَعُمَّارِهِ وَحُمَاتِهِ وَوُلَاتِهِ فَيَكُونُ أَمِينِي عَلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا انْقَلَبَ إِلَيَّ وَجَدَنِي قَدِ ادَّخَرْتُ لَهُ مِنْ أَجْرِهِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الْقُرْبَةِ إِلَى الْوَسِيلَةِ عِنْدِي وَأَجْعَلُ اسْمَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَذِكْرَهُ وَشَرَفَهُ وَمَجْدَهُ وَسَنَاهُ وَتَكْرُمَتَهُ لِنَبِيٍّ مِنْ وَلَدِكَ يَكُونُ قَبْلَ هَذَا النَّبِيِّ وَهُوَ أَبُوهُ، يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَرْفَعُ لَهُ قَوَاعِدَهُ وَأَقْضِي عَلَى يَدَيْهِ عِمَارَتَهُ وَأُعَلِّمُهُ مَشَاعِرَهُ وَمَنَاسِكَهُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً وَاحِدَةً قَانِتًا قَائِمًا بِأَمْرِي دَاعِيًا إِلَى سَبِيلِي أَجْتَبِيهِ وَأَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَبْتَلِيهِ فَيَصْبِرُ وَأُعَافِيهِ فَيَشْكُرُ، وَآمُرُهُ فَيَفْعَلُ وَيَنْذِرُ لي فيفي ويدعوني فاستجب دَعْوَتَهُ فِي وَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَأُشَفِّعُهُ فِيهِمْ وَأَجْعَلُهُمْ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَوُلَاتَهُ وَحُمَاتَهُ وَسُقَاتَهُ وَخُدَّامَهُ وَخُزَّانَهُ وَحُجَّابَهُ حَتَّى يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا وَأَجْعَلُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَهْلَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ يَأْتَمُّ بِهِ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْمَوَاطِنَ مِنْ جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا لِي لَا أَسْمَعُ صَوْتَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا كُنْتُ أَسْمَعُهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بِخَطِيئَتِكَ يَا آدَمُ فَانْطَلِقْ إِلَى مَكَّةَ فَابْنِ بِهَا بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا رَأَيْتَهُمْ يَطُوفُونَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ فَبَنَى الْبَيْتَ، فَكَانَ مَوْضِعُ قَدَمَيْ آدَمَ قُرًى وَأَنْهَارًا وَعِمَارَةً وَمَا بَيْنَ خُطَاهُ مَفَاوِزَ فَحَجَّ آدَمُ الْبَيْتَ مِنَ الْهِنْدِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ يَاقُوتَةً مُجَوَّفَةً مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: / يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا بَيْتِي فَطُفْ حَوْلَهُ
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا،
وَذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ وَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمُ وَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ اخْتَصَمُوا فِيهِ فَقَالُوا: يَحْكُمُ بَيْنَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحَجَرَ فِي مِرْطٍ ثُمَّ تَرْفَعُهُ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ فَرَفَعُوهُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ،
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَ صُفُوحٍ فِي كُلِّ صَفْحٍ مِنْهَا كِتَابٌ، فِي الصَّفْحِ الْأَوَّلِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُهَا يَوْمَ صَنَعْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حَفًّا وَبَارَكْتُ لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ. وَفِي الصَّفْحِ الثَّانِي: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ. وَفِي الثَّالِثِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ الْخَيْرُ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَ الشَّرُّ عَلَى يَدَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي فَضَائِلِ الْحَجَرِ وَالْمَقَامِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شقي»
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ»،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيَأْتِيَنَّ هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ».
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ أَلْزَمْنَاهُمَا ذَلِكَ وَأَمَرْنَاهُمَا أَمْرًا وَثَّقْنَا عَلَيْهِمَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ مَعْنَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّطْهِيرُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ لَا يَلِيقُ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَحَوَالَيْهِ مُصَلًّى وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى: وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى: طَهِّرا بَيْتِيَ ابْنِيَاهُ وَطَهِّرَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَسِّسَاهُ عَلَى التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ١٠٩]. وَثَانِيهَا: عَرِّفَا النَّاسَ أَنَّ بَيْتِيَ/ طُهْرَةٌ لَهُمْ مَتَى حَجُّوهُ وَزَارُوهُ وَأَقَامُوا بِهِ، وَمَجَازُهُ: اجْعَلَاهُ طَاهِرًا عِنْدَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُطَهِّرُ هَذَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُنَجِّسُهُ. وَثَالِثُهَا: ابْنِيَاهُ وَلَا تَدَعَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالشِّرْكِ يُزَاحِمُ الطَّائِفِينَ فِيهِ، بَلْ أَقِرَّاهُ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرَّيْبِ، كَمَا يُقَالُ: طَهَّرَ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْ فُلَانٍ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ إِيقَاعَ تَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥] فَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطَهَّرْنَ مِنْ نَجَسٍ بَلْ خُلِقْنَ طَاهِرَاتٍ، وَكَذَا الْبَيْتُ الْمَأْمُورُ بِتَطْهِيرِهِ خُلِقَ طَاهِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ نَظِّفَا بَيْتِيَ مِنَ الْأَوْثَانِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَكْفُ مَصْدَرُ عَكُفَ يعكف بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا عَكْفًا إِذَا لَزِمَ الشَّيْءَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاكِفٌ، وَقِيلَ: إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى فِرَقٍ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطَّائِفُونَ غَيْرَ الْعَاكِفِينَ وَالْعَاكِفُونَ غَيْرَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ لِتَصِحَّ فَائِدَةُ الْعَطْفِ، فَالْمُرَادُ بِالطَّائِفِينَ: مَنْ يَقْصِدُ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَيَطُوفُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِينَ: مَنْ يُقِيمُ هُنَاكَ وَيُجَاوِرُ، وَالْمُرَادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: مَنْ يُصَلِّي هُنَاكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ:
أَنَّهُ إِذَا كَانَ طَائِفًا فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الطَّائِفِينَ بِالْغُرَبَاءِ فَحِينَئِذٍ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَصَّهُمْ بِالطَّوَافِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ بِهِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ. وَثَانِيهَا:
تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ. وَثَالِثُهَا: تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا إِذْ لَمْ تُفَرِّقِ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ، وَكَمَا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ، كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إِلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، قُلْنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ إِلَى الْبَيْتِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا وُقُوعَ الطَّوَافِ خَارِجَ الْبَيْتِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ أَنْ/ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: ٢٩] وَأَيْضًا الْمُرَادُ لَوْ كَانَ التَّوَجُّهَ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت وَالْغَائِبُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ بَلْ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُتَوَجِّهَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْمَسْجِدِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَهُوَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلطَّائِفِينَ يَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ، أَوْ كَانَ مِنَ المندوبات.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ بِالْأَمْنِ وَالتَّوْسِعَةِ بِمَا يُجْلَبُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّهَا بَلَدٌ لَا زَرْعَ وَلَا غَرْسَ فِيهِ، فَلَوْلَا الْأَمْنُ لَمْ يُجْلَبْ إِلَيْهَا مِنَ النَّوَاحِي وَتَعَذَّرَ الْعَيْشُ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ وَجَعَلَهُ آمِنًا مِنَ الْآفَاتِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ جَبَّارٌ إِلَّا قَصَمَهُ اللَّهُ كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَارَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَخَرَّبَ الْكَعْبَةَ وَقَصَدَ أَهْلَهَا بِكُلِّ سُوءٍ وَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ؟
الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ لِذَاتِهَا، بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُ شَيْئًا آخَرَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَطْلُوبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَلَدَ آمِنًا كَثِيرَ الْخِصْبِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ/ بِمَنَافِعِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْمُعَظَّمِ طَلَبُهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الدُّنْيَا إِذَا طُلِبَتْ لِيُتَقَوَّى بِهَا عَلَى الدِّينِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ، فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ آمِنًا وَحَصَلَ فِيهِ الْخِصْبُ تَفَرَّغَ أَهْلُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ كَانُوا عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَالنَّاسُ إِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ الذَّهَابُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الطُّرُقُ آمِنَةً وَالْأَقْوَاتُ هُنَاكَ رَخِيصَةً. وَثَالِثُهَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ مِمَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَحِينَئِذٍ يُشَاهِدُ الْمَشَاعِرَ الْمُعَظَّمَةَ وَالْمَوَاقِفَ الْمُكَرَّمَةَ فَيَكُونُ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ سَبَبَ اتِّصَالِهِ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَلَداً آمِناً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَأْمُونٌ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْقَارِعَةِ: ٧] أَيْ مَرْضِيَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المراد أهل البلد كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] أَيْ أَهْلَهَا وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْخَوْفَ لَا يَلْحَقَانِ الْبَلَدَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اختلفوا في الأمن المسؤول فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْقَحْطِ لِأَنَّهُ أَسْكَنَ أَهْلَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ. وَثَانِيهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ. وَثَالِثُهَا: سَأَلَهُ الْأَمْنَ من القتل وهو قول أبو بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ الْأَمْنَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الرِّزْقَ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْنُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْقَحْطِ لَكَانَ سُؤَالُ الرِّزْقِ بَعْدَهُ تَكْرَارًا فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إلى قوله: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم: ٣٧] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أن يقول: لعل الأمن المسؤول هُوَ الْأَمْنُ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ، أَوْ لَعَلَّهُ الْأَمْنُ مِنَ الْقَحْطِ، ثُمَّ الْأَمْنُ مِنَ الْقَحْطِ قَدْ يَكُونُ بِحُصُولِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّوْسِعَةِ فِيهَا فَهُوَ بِالسُّؤَالِ الْأَوَّلِ طَلَبُ إِزَالَةِ الْقَحْطِ وَبِالسُّؤَالِ الثَّانِي طَلَبُ التوسعة العظيمة.
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ»
وَأَيْضًا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٧] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام وقبله كانت لسائر الْبِلَادِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ».
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا قَبْلَ الدَّعْوَةِ بِوَجْهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ حَرَامًا بعد الدعوة. فالأول: يمنع اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الِاصْطِلَامِ وَبِمَا جَعَلَ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: بِالْأَمْرِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: بَلَداً آمِناً عَلَى التَّنْكِيرِ وَقَالَ فِي السورة إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِناً عَلَى التَّعْرِيفِ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّعْوَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْمَكَانُ قَدْ جُعِلَ بَلَدًا، كَأَنَّهُ قَالَ:
اجْعَلْ هَذَا الْوَادِيَ بَلَدًا آمِنًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: ٣٧] فقال: هاهنا اجْعَلْ هَذَا الْوَادِيَ بَلَدًا آمِنًا، وَالدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ وَقَعَتْ وَقَدْ جُعِلَ بَلَدًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلْ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي صَيَّرْتَهُ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ، كَقَوْلِكَ: جَعَلْتُ هَذَا الرَّجُلَ آمِنًا. الثَّانِي: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صَارَ الْمَكَانُ بَلَدًا، فَقَوْلُهُ: اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً تَقْدِيرُهُ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، كَقَوْلِكَ: كَانَ الْيَوْمُ يَوْمًا حَارًّا، وَهَذَا إِنَّمَا تَذْكُرُهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِالْحَرَارَةِ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً مَعْنَاهُ: اجْعَلْهُ مِنَ الْبُلْدَانِ الْكَامِلَةِ فِي الْأَمْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا طَلَبُ الْأَمْنِ لَا طَلَبُ الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ أَنْ يُدِرَّ عَلَى سَاكِنِي مَكَّةَ أَقْوَاتَهُمْ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَصَارَتْ مَكَّةُ يُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَهُوَ يدل مِنْ قَوْلِهِ: أَهْلَهُ يَعْنِي وَارْزُقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَهُ أَنَّ مِنْهُمْ قَوْمًا كُفَّارًا بِقَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤] لَا جَرَمَ خَصَّصَ دُعَاءَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: ٦٨] وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] فَصَارَ ذَلِكَ تَأْدِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ، لَا جَرَمَ خَصَّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ دُونَ الْكَافِرِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِقَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا الْفَرْقَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَرِزْقِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِينَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِمَامَةِ وَالنُّبُوَّةِ مِنْ قُوَّةِ الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ عَلَى ضُرُوبِ الْمِحْنَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَلَا تَأْخُذَهُ فِي الدِّينِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَسَطْوَةُ جَبَّارٍ، أَمَّا الرِّزْقُ فَلَا يَقْبُحُ إِيصَالُهُ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْكَافِرِ وَالصَّادِقِ وَالْمُنَافِقِ، فَمَنْ آمَنَ فَالْجَنَّةُ مَسْكَنُهُ وَمَثْوَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ فَالنَّارُ مُسْتَقَرُّهُ وَمَأْوَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوِيٌّ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ دَعَا لِلْكُلِّ كَثُرَ فِي الْبَلَدِ الْكُفَّارُ فَيَكُونُ فِي غَلَبَتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ مَفْسَدَةٌ وَمَضَرَّةٌ مِنْ ذَهَابِ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّعَاءِ لِهَذَا السَّبَبِ،
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَأُمَتِّعُهُ بِسُكُونِ الْمِيمِ خَفِيفَةً مِنْ أَمْتَعْتُ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً مِنْ مَتَّعْتُ، وَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ على الكثير بِخِلَافِ التَّخْفِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أُمَتِّعُهُ قِيلَ: بِالرِّزْقِ، وَقِيلَ: بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: بِهِمَا إِلَى خُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ هَذِهِ الدِّيَارِ إِنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ وَإِنْ كُنْتَ خَصَصْتَ بِدُعَائِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أُمَتِّعُ الْكَافِرَ مِنْهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا، وَلَا أَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يَتِمَّ عُمْرُهُ فَأَقْبِضَهُ ثُمَّ أَضْطَرَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، فَجَعَلَ مَا رُزِقَ الْكَافِرُ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَلِيلًا، إِذْ كَانَ وَاقِعًا فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ، وَهِيَ مُدَّةٌ وَاقِعَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا قَلِيلٌ جِدًّا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ نِعْمَةَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا مَوْصُولَةٌ بِالنِّعْمَةِ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ نِعْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا تَنْقَطِعُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَى الْآخِرَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الِاضْطِرَارِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَتَعَذَّرُ عليه الخلاص منه وهاهنا كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطُّورِ: ١٣] ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْقَمَرِ: ٤٨] يُقَالُ: اضْطَرَرْتُهُ إِلَى الْأَمْرِ أَيْ أَلْجَأْتُهُ وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ كَارِهًا لَهُ، وَقَالُوا: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الضُّرِّ وَهُوَ إِدْنَاءُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ ضَرَّةُ الْمَرْأَةِ لِدُنُوِّهَا وَقُرْبِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاضْطِرَارَ هُوَ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ اخْتِيَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: ١٧٣] [الأنعام: ١٤٥] [النحل: ١١٥] فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَكْلُ فَعَلَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْجِئُهُ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ النَّارَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِيهَا بِأَنْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ لَوْ رَامَ التَّخَلُّصَ لَمُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ يَجْعَلُ مَلْجَأً إِلَى الْوُقُوعِ فِي النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِئْسَ الْمَصِيرُ، لِأَنَّ نِعْمَ الْمَصِيرُ مَا يُنَالُ فِيهِ النَّعِيمُ وَالسُّرُورُ، وبئس المصير ضده.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّهُمَا عِنْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ ذَكَرَا ثَلَاثَةً مِنَ الدعاء ثم هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِذْ يَرْفَعُ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٌ وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ الْأَسَاسُ، وَالْأَصْلُ لِمَا فَوْقَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ، وَمَعْنَاهَا الثَّابِتَةُ، وَمِنْهُ أَقْعَدَكَ اللَّهُ أَيْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْعِدَكَ أَيْ يُثَبِّتُكَ وَرَفَعَ الْأَسَاسَ الْبَنَّاءُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا إِذَا بُنِيَ عَلَيْهَا نُقِلَتْ عَنْ هَيْئَةِ الِانْخِفَاضِ إِلَى هَيْئَةِ الِارْتِفَاعِ وَتَطَاوَلَتْ بَعْدَ التَّقَاصُرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا سَافَاتِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ كُلَّ سَافٍ قَاعِدَةٌ لِلَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ وَيُوضَعُ فَوْقَهُ، وَمَعْنَى رَفْعِ الْقَوَاعِدِ رَفْعُهَا بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا وَضَعَ سَافًا فَوْقَ سَافٍ فَقَدْ رَفَعَ السَّافَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِيكًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَبِنَائِهِ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي ذَلِكَ وَالتَّقْدِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَطْفُ فِي فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي سَلَفَ ذِكْرُهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعِيلُ مَعْطُوفًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاكَهُمَا فِي ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْبِنَاءِ وَرَفْعِ الْجُدْرَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَانِيًا لِلْبَيْتِ وَالْآخَرُ يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْحَجَرَ وَالطِّينَ، وَيُهَيِّئُ لَهُ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَصِحُّ إِضَافَةُ الرَّفْعِ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أُدْخِلَ فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ خَرَجَ وَخَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فَقَالَا: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِلَى اللَّهِ فَعَطِشَ إِسْمَاعِيلُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ فَنَادَاهُمَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَحَصَ الْأَرْضَ بِأُصْبُعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ ابْتَدَءُوا: وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا طَاعَتَنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ إِسْمَاعِيلُ شَرِيكًا فِي الدُّعَاءِ لَا فِي الْبِنَاءِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
تَقَبَّلْ مِنَّا لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَاذَا يَقْبَلُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ رَفْعُ الْبَيْتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ كَيْفَ يَدْعُو اللَّهَ بِأَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُ، فَإِذَنْ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ رَدُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ يَرْفَعُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ لِأَنَّ فِي إِبْهَامِ الْقَوَاعِدِ وَتَبْيِينِهَا بَعْدَ الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ الشَّأْنِ مَا لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: تَقَبَّلْ مِنَّا فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: كُلُّ عَمَلٍ يَقْبَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ يُثِيبُ صَاحِبَهُ وَيَرْضَاهُ مِنْهُ، وَالَّذِي لَا يُثِيبُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَهُوَ الْمَرْدُودُ، فَهَهُنَا عَبَّرَ عَنْ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ، فَذَكَرَ لَفْظَ الْقَبُولِ وَأَرَادَ بِهِ الثَّوَابَ وَالرِّضَا لِأَنَّ التَّقَبُّلَ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الرَّجُلُ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ، فَشَبَّهَ الْفِعْلَ مِنَ الْعَبْدِ بالعطية، والرضا من الله بِالْقَبُولِ تَوَسُّعًا. وَقَالَ الْعَارِفُونَ: فَرْقٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ فَإِنَّ التَّقَبُّلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ فِي قَبُولِهِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، وَاعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا مَوْقِعَ القبول من المخدوم الذي عِنْدَ الْخَادِمِ الْعَاقِلِ مِنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْمَحَبَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٥] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ مُخْلِصِينَ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَبُولِهَا وَطَلَبُوا الثَّوَابَ
المسألة الثالثة: إِنَّمَا عَقَّبَ هَذَا الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَسْمَعُ دُعَاءَنَا وَتَضَرُّعَنَا، وَتَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِنَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَحَدٍ سِوَاكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ سَمِيعًا. قُلْنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَمَالِهِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّينَ وَالِاعْتِقَادَ، أَوِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ، وَكَيْفَ كَانَ فَقَدْ رَغِبَا فِي أَنْ يَجْعَلَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ: وَجَعْلُهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا خَلْقُ ذَلِكَ فِيهِمَا، فَإِنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَقْتَ السُّؤَالِ غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ، إِذْ لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَكَانَ طَلَبُ أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ، لَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُسْلِمَيْنِ، وَلِأَنَّ صُدُورَ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَا/ مُسْلِمَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِهَا، سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ لَهُ مَعَانٍ أُخَرُ سِوَى الْخَلْقِ.
أَحَدُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفُرْقَانِ: ٤٧]. وَثَانِيهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى وَهَبَ، نَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَهَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْفَرَسَ. وَثَالِثُهَا:
جَعَلَ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩]، وَقَالَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠]. وَرَابِعُهَا: جَعَلَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٣] يَعْنِي أَمَرْنَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] فَهُوَ بِالْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ كَاتِبًا وَشَاعِرًا إِذَا عَلَّمْتَهُ ذَلِكَ.
وَسَادِسُهَا: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ تَقُولُ: جَعَلْتُ كَلَامَ فُلَانٍ بَاطِلًا إِذَا أَوْرَدْتَ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَهُمَا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُكْمِ لَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: جَعَلَنِي فُلَانٌ لِصًّا وَجَعَلَنِي فَاضِلًا أَدِيبًا إِذَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَعْلِ الْخَلْقُ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَلْقَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْفِيقَهُمَا لِذَلِكَ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَتَّى يَفْعَلَهَا فَقَدْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا لَهُ، وَمِثَالُهُ: مَنْ يُؤَدِّبُ ابْنَهُ حَتَّى يَصِيرَ أَدِيبًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَيَّرْتُكَ أَدِيبًا وَجَعَلْتُكَ أَدِيبًا، وَفِي خِلَافِ ذَلِكَ يُقَالُ: جَعَلَ ابْنَهُ لِصًّا مُحْتَالًا، سَلَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلَائِلِ
وَالْجَوَابُ: قوله: الآية متروكة الظاهر، قلنا: لا نسلم وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَقَوْلُهُ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيِ اخْلُقْ هَذَا الْعَرَضَ فِينَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ دَائِمًا، وَطَلَبُ تَحْصِيلِهِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُنَافِي حُصُولَهُ فِي الْحَالِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ:
لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْحِ: ٤]، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦] فَكَأَنَّهُمَا دَعَوَاهُ بِزِيَادَةِ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْأَصْلِ فِي الْحَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا أُطْلِقَ يُفِيدُ الْإِيمَانَ وَالِاعْتِقَادَ، فَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ بِحَرْفِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ:
مُسْلِمَيْنِ لَكَ فَالْمُرَادُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَالِانْقِيَادُ وَالرِّضَا بِكُلِّ مَا قَدَّرَ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْضِيَتِهِ، فَلَقَدْ كَانَا عَارِفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَكِنْ لَعَلَّهُ بَقِيَ فِي قُلُوبِهِمَا نَوْعٌ مِنَ الْمُنَازَعَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْبَشَرِيَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ لِيَحْصُلَ لَهُمَا مَقَامُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، قَوْلُهُ: يُحْمَلُ الْجَعْلُ عَلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ، قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْصُوفَ إِذَا حَصَلَتِ الصِّفَةُ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الصِّفَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ/ بِالدُّعَاءِ هُوَ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَحْصِيلِ الصِّفَةِ، وَلَا يُقَالُ: وَصْفُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ ثَنَاءٌ وَمَدْحٌ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ الرَّغْبَةَ فِي تَحْصِيلِ نَفْسِ الشَّيْءِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْوَصْفِ بِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْإِسْلَامُ فِيهِمَا فَقَدِ اسْتَحَقَّا التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَاصِلًا وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي طَلَبِهِ بِالدُّعَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةَ لَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمَّى إِبْرَاهِيمَ مُسْلِمًا جَازَ أَنْ يُقَالَ جَعَلَهُ مُسْلِمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ، قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَعْلِ مُضَافٌ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَرْفُهُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَثَانِيهَا:
أَنَّ تِلْكَ الْأَلْطَافَ قَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْجَدَهَا وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْوُجُودِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَطَلَبُهَا يَكُونُ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَلْطَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لُطْفًا وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ فَنَقُولُ:
مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ أَوْ يَمْتَنِعَ أَوْ لَا يَجِبَ وَلَا يَمْتَنِعَ، فَإِنْ وَجَبَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَهُوَ مَانِعٌ لَا مُرَجِّحٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَلَا يَمْتَنِعْ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهُ تَارَةً وَلَا وُقُوعُهُ أُخْرَى فَاخْتِصَاصُ وَقْتِ الْوُقُوعِ بِالْوُقُوعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِانْضِمَامِ أَمْرٍ إِلَيْهِ لِأَجْلِهِ تَمَيَّزَ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِالْوُقُوعِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْمُرَجِّحُ مَجْمُوعَ اللُّطْفِ مَعَ هَذِهِ الضَّمِيمَةِ الزَّائِدَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا اللُّطْفِ أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ أَصْلًا وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ الْمُسَاوِي عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا اللُّطْفِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، قَوْلُهُ: الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ فِعْلِ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فَصْلُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، قُلْنَا: إِنَّهُ مُعَارَضٌ بِسُؤَالِ الْعِلْمِ وَسُؤَالُ الدَّاعِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَشْهُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَكَيْفَ طَلَبَا الْإِسْلَامَ؟ قَدْ أَدْرَجْنَاهُ فِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ نَكُونُ مُسْلِمَيْنِ لَكَ لَا لِغَيْرِكَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَى شَيْءٍ سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٧] ثم هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيْ مُوَحِّدَيْنِ مُخْلِصَيْنِ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ. وَالثَّانِي: قَائِمَيْنِ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِعُمُومِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَا إِنَّ الْعَبْدَ لَا يُخَاطِبُ اللَّهَ تَعَالَى وَقْتَ الدُّعَاءِ إِلَّا بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] فِي شَرَائِطِ الدُّعَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ مِنْ أَوْلَادِنَا وَ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ وَخَصَّ بَعْضَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُمَا أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا الظَّالِمَ بقوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ الْعَرَبَ لأنهم من ذريتهما، وأُمَّةً قِيلَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ ظَالِمًا فَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكُونُ ظَالِمًا، فَإِذَنْ كَوْنُ بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً صَارَ مَعْلُومًا بِتِلْكَ الْآيَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِهِ بِالدُّعَاءِ مَرَّةً أُخْرَى؟
الْجَوَابُ: تِلْكَ الدَّلَالَةُ مَا كَانَتْ قَاطِعَةً، وَالشَّفِيقُ بِسُوءِ الظَّنِّ مُولَعٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ ذُرِّيَّتَهُمَا بِالدُّعَاءِ أَلَيْسَ أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْبُخْلِ فِي الدُّعَاءِ؟
وَالْجَوَابُ: الذُّرِّيَّةُ أَحَقُّ بِالشَّفَقَةِ وَالْمَصْلَحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحْرِيمِ: ٦] وَلِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا صَلَحُوا صَلَحَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَتَابَعَهُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ إِذَا كَانُوا عَلَى السَّدَادِ كَيْفَ يَتَسَبَّبُونَ إِلَى سَدَادِ مَنْ وَرَاءَهُمْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ رَدَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَصَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّدِّ فَلَمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ علمنا أنه
وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وحده ولا يشرك به شيئاً، ولم تزال الرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَيُقَالُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ يُقِرُّونَ بِالْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيُوَحِّدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَلَا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرِنا مَناسِكَنا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَرِنا قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ عَلِّمْنَا شَرَائِعَ حِجِّنَا إِذْ أَمَرْتَنَا بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لنحجه وندعوا النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ، فَعَلِّمْنَا شَرَائِعَهُ وَمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَأْتِيَهُ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ وَقَوْلٍ مَجَازُ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الْفُرْقَانِ: ٤٥]، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: ١]. الثَّانِي: أَظْهِرْهَا لِأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَى إِبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، حَتَّى بَلَغَ عَرَفَاتٍ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعَرَفْتَ مَا أَرَيْتُكَ مِنَ الْمَنَاسِكِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَسَدَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَفَعَلَ، فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ كُلُّ ذَلِكَ يَأْمُرُهُ جِبْرِيلُ عليه السلام برمي الحصيات.
وهاهنا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ وَالرُّؤْيَةُ مَعًا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ بَعْضُهَا يُعْلَمُ وَلَا يُرَى، وَبَعْضُهَا لَا يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ والمجاز معاً وأنه جَائِزٍ، فَبَقِيَ الْقَوْلُ الْمُعْتَبَرُ وَهُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ، فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ: إِنَّ الْمَنَاسِكَ هِيَ الْمَوَاقِفُ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ كَمِنًى وَعَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إِنَّ الْمَنَاسِكَ هِيَ أَعْمَالُ الْحَجِّ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النُّسُكُ هُوَ التَّعَبُّدُ، يُقَالُ لِلْعَابِدِ نَاسِكٌ ثُمَّ سُمِّيَ الذَّبْحُ نُسُكًا وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةً، وَسُمِّيَ أَعْمَالُ الْحَجِّ مَنَاسِكَ.
قال عليه السلام: «خذوا عن مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا».
وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ تُسَمَّى: مَنَاسِكَ أَيْضًا، وَيُقَالُ: الْمَنْسَكُ بِفَتْحِ السِّينِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَبِكَسْرِ السِّينِ بِمَعْنَى الْمَوَاضِعِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [الْحَجِّ: ٦٧] قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»
أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا أَفْعَالَهُ فِي الْحَجِّ لَا أَنَّهُ أَرَادَ: خُذُوا عَنِّي مَوَاضِعَ نُسُكِكُمْ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا الْمَنَاسِكَ عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْأَفْعَالِ فَالْإِرَاءَةُ لِتَعْرِيفِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَوَاضِعِ فَالْإِرَاءَةُ لِتَعْرِيفِ الْبِقَاعِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ الْمَنَاسِكَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَقَطْ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ إِنَّمَا تُسَمَّى نُسُكًا لِدُخُولِهَا تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمُّونَ مَا يُذْبَحُ لِلْأَكْلِ بِذَلِكَ فَمَا لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الذَّبِيحَةُ نُسُكًا، وَهُوَ كَوْنُهُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ قَائِمٌ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَوَجَبَ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ وَإِنْ حَمْلَنَا الْمَنَاسِكَ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللُّزُومِ لِمَا يُرْضِيهِ وَجُعِلَ ذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ مَا شَرَعَهُ الله تعالى
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَرِنا بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، فِي حم السَّجْدَةِ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا [فُصِّلَتْ: ٢٩] وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ بِاخْتِلَاسِ كَسْرَةِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرَةِ مُشْبَعَةً، وَأَصْلُهُ أَرْئِنَا بِالْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ، نُقِلَتْ كَسْرَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَتِ الْهَمْزَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْكُنَ الرَّاءُ لِئَلَّا يُجْحَفَ بِالْكَلِمَةِ وَتَذْهَبَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا التَّسْكِينُ فَعَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَحَرَكَتِهَا وَعَلَى التَّشْبِيهِ بِمَا سَكَنَ كَقَوْلِهِمْ: فَخْذٌ وَكَبْدٌ، وَأَمَّا الِاخْتِلَاسُ فَلِطَلَبِ الْخِفَّةِ وَبَقَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَتُبْ عَلَيْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ بِتَقَدُّمِ الذَّنْبِ، فَلَوْلَا تَقَدُّمُ الذَّنْبِ وَإِلَّا لَكَانَ طَلَبُ التَّوْبَةِ طَلَبًا لِلْمُحَالِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّا نُجَوِّزُ الصَّغِيرَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغِيرَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الصَّغَائِرَ قَدْ صَارَتْ مُكَفَّرَةً بِثَوَابِ فَاعِلِهَا وَإِذَا صَارَتْ مُكَفَّرَةً فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا مُحَالٌ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
وهاهنا أجوبة أخر نصلح لِمَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ وَلِمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهَا، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِصُورَةِ التوبة تشديداً فِي الِانْصِرَافِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ النَّادِمِ الْعَازِمِ عَلَى التَّحَرُّزِ الشَّدِيدِ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ لُطْفًا دَاعِيًا إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنِ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّقْصِيرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: إِمَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ تَرْكِ الْأَوْلَى، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ ظَالِمًا عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَفِّقَ أُولَئِكَ الْعُصَاةَ الْمُذْنِبِينَ لِلتَّوْبَةِ فَقَالَ: وَتُبْ عَلَيْنا أَيْ عَلَى الْمُذْنِبِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا، وَالْأَبُ الْمُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ إِذَا أَذْنَبَ وَلَدُهُ فَاعْتَذَرَ الْوَالِدُ عَنْهُ فَقَدْ يَقُولُ:
أَجْرَمْتُ وَعَصَيْتُ وَأَذْنَبْتُ فَاقْبَلْ عُذْرِي وَيَكُونُ مُرَادُهُ: إِنَّ وَلَدِي أَذْنَبَ فَاقْبَلْ عُذْرَهُ، لِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ يَجْرِي مَجْرَى نَفْسِهِ، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥، ٣٦] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ إِنْ تَابَ، وَتَغْفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ. الثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ وَتُبْ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ عَطْفًا عَلَى هَذَا: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ. الرَّابِعُ: تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَافِ: ١١] بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذا كَانُوا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قوله: أَرِنا مَناسِكَنا أي أر ذُرِّيَّتَنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مَخْلُوقَةً لِلْعَبْدِ، لَكَانَ طَلَبُهَا مِنَ اللَّهِ تعالى محالًا
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: الدَّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ هُوَ الْعِلْمُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ أَيْضًا إِشْكَالًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، فَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ الِاخْتِبَارِ وَالتَّكْلِيفِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا فَهُوَ مُسْتَنْتَجٌ عَنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْمُنْتِجَةِ لِلْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْأَوَّلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِيًا فِي ذَلِكَ الْإِنْتَاجِ أَوْ غيره كَافٍ، فَإِنْ كَانَ كَافِيًا كَانَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْمُسْتَنْتَجِ أَوَّلًا عَلَى تِلْكَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَاجِبًا، وَالَّذِي يَجِبُ تَرَتُّبُهُ عَلَى مَا يَكُونُ/ خَارِجًا عَنِ الِاخْتِيَارِ، كَانَ أَيْضًا خَارِجًا عَنِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَذَلِكَ الْآخَرُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَهُوَ إِنْ كَانَ حَاصِلًا فَالَّذِي فَرَضْنَاهُ غَيْرُ كَافٍ، وَقَدْ كَانَ كَافِيًا، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ افْتَقَرَ أَوَّلُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إِلَى عِلْمٍ نَظَرِيٍّ آخَرَ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ أَوَّلُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوَّلًا لِلْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَهَذَا خُلْفٌ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْأَوَّلِ كَمَا فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا آخِرًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتُبْ عَلَيْنا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى بِالتَّأْوِيلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ
يُرِيدُ مَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ وَوَصْفُهُ لِذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَهَذَا الدُّعَاءُ يُفِيدُ كَمَالَ حَالِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ رَسُولٌ يُكْمِلُ لَهُمُ الدِّينَ وَالشَّرْعَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَثْبُتُونَ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِيَكُونَ مَحَلُّهُمْ وَرُتْبَتُهُمْ فِي الْعِزِّ وَالدِّينِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَا مَعًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَانَ أَشْرَفَ لِطَلِبَتِهِ إِذَا أُجِيبَ إِلَيْهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَوْلِدَهُ وَمَنْشَأَهُ فَيَقْرُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَةِ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ مُرَادُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِمَارَةَ الدِّينِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ وَيَكْمُلُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ لِيَجْتَمِعَ لَهُ بِذَلِكَ نِهَايَةُ الْمُرَادِ فِي الدِّينِ، ويضاف إِلَيْهِ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ فِي ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ لَا عِزَّ وَلَا شَرَفَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ. وَأَمَّا إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ حُجَّةٌ. وَثَانِيهَا: مَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى»
وَأَرَادَ بِالدَّعْوَةِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الصَّفِّ مِنْ قَوْلِهِ:
مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: ٦]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ بِمَكَّةَ لِذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يَكُونُونَ بِهَا وَبِمَا حَوْلَهَا وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلّم.
وهاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ حَيْثُ يقال: اللهم صل على محمد وآل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؟
وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ فَلَمَّا وَجَبَ لِلْخَلِيلِ عَلَى الْحَبِيبِ حَقُّ دُعَائِهِ لَهُ/ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَقَّهُ بِأَنْ أَجْرَى ذِكْرَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ ذَلِكَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٤] يَعْنِي أَبْقِ لِي ثَنَاءً حَسَنًا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ حَبِيبِهِ إِبْقَاءً لِلثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ فِي أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَبَ الْمِلَّةِ لِقَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَجِّ: ٧٨] وَمُحَمَّدٌ كَانَ أَبَ الرَّحْمَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أب لهم وقال في قصته: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَةِ: ١٢٨]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ»،
يَعْنِي فِي الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَمَّا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مِنْ وَجْهٍ قَرَّبَ بَيْنَ ذِكْرِهِمَا فِي بَابِ الثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُنَادِيَ الشَّرِيعَةِ فِي الْحَجِّ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الْحَجِّ: ٢٧] وَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَادِيَ الدِّينِ: سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٣] فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ الْجَمِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا طَلَبَ بَعْثَةَ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ لِذَلِكَ الرَّسُولِ صِفَاتٍ. أولها: قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْفُرْقَانُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أن تكون الآيات هي الأعلام الدلالة عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْنَى تِلَاوَتِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَا ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها. وثانيها:
مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: وَالْحِكْمَةَ أَيْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يُسَمَّى حَكِيمًا إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ الْأَمْرَانِ وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنْ أَحْكَمْتُ الشَّيْءَ أَيْ رَدَدْتُهُ، فَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الَّتِي تَرُدُّ عَنِ الْجَهْلِ وَالْخَطَأِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِصَابَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَوَضْعِ كُلِّ شَيْءِ مَوْضِعَهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ بِأَنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَاخْتَلَفَ المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا الْحِكْمَةُ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ الدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ أَوَّلًا وَتَعْلِيمَهُ ثَانِيًا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ/ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا سُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى تَعْلِيمِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعُقُولَ مُسْتَقْبِلَةٌ بِذَلِكَ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: الْحِكْمَةُ هِيَ الْفَصْلُ بَيْنَ الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالعقدة وَالْجِلْسَةِ. وَالْمَعْنَى: يُعَلِّمُهُمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ، وَفَصْلَ أَقَضِيَتِكَ وَأَحْكَامَكَ الَّتِي تُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا، وَمِثَالُ هَذَا: الْخُبْرُ وَالْخِبْرَةُ، وَالْعُذْرُ وَالْعِذْرَةُ، وَالْغُلُّ وَالْغِلَّةُ، وَالذُّلُّ وَالذِّلَّةُ. وَرَابِعُهَا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ أَرَادَ بِهِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ. وَالْحِكْمَةَ أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ.
وخامسها: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أَيْ يُعَلِّمُهُمْ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْحِكْمَةَ أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ حِكْمَةَ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْكُلُّ صِفَاتُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ آيَاتٌ، وَبِأَنَّهُ كِتَابٌ، وَبِأَنَّهُ حِكْمَةٌ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَوْلُهُ: «وَيُزَكِّيهِمْ» وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا عَنِ الرَّذَائِلِ وَالنَّقَائِصِ، وَلَمْ يَكُنْ زَكِيًّا عَنْهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ صِفَاتِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ التَّزْكِيَةِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالنَّقَائِصِ، فَقَالَ: وَيُزَكِّيهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَوَاطِنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ لَكِنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الزَّكَاءُ حَاصِلًا فِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْجَبْرِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَنْ هَذِهِ التَّزْكِيَةُ لَهَا تَفْسِيرَانِ. الْأَوَّلُ: مَا يَفْعَلُهُ سِوَى التِّلَاوَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِطَهَارَتِهِمْ، وَتِلْكَ الْأُمُورُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَتَكْرِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ التَّشَبُّثِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يُؤْمِنُوا وَيَصْلُحُوا، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لِيُقَوِّيَ بِهَا دَوَاعِيَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. الثَّانِي: يُزَكِّيهِمْ، يَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَزْكِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا شَهِدَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، كَتَزْكِيَةِ الْمُزَكِّي الشُّهُودَ، وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي مُشَاكَلَةِ مُرَادِهِ
وَثَالِثُهَا: وَيُزَكِّيهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَسَائِرِ الْأَرْجَاسِ، كَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ خَتَمَهَا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَالْعَزِيزُ: / هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْحَكِيمُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا قَادِرًا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ صَوَابًا وَمُبَرَّأً عَنِ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ مِنْهُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَلَا بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَلَا إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزِيزَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِذَا أُرِيدَ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْهَضْمِ وَالذِّلَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ لَمْ تَلْحَقْهُ ذِلَّةُ الْمُحْتَاجِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مُرَادِهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ اهْتِضَامٌ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْعَلِيمِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِزَّةِ كَمَالُ الْعِزَّةِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَأُرِيدَ بِالْحِكْمَةِ أَفْعَالُ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكُنِ الْعَزِيزُ وَالْحَكِيمُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بَلْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ أَزَلِيَّةٌ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُقَ نَقَائِضُهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ يُعْتَبَرُ فِي تَحَقُّقِهَا صُدُورُ الْآثَارِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ النَّظَّامُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقَبِيحِ بِأَنْ قَالَ: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقَبِيحُ مَقْدُورًا، وَالْحِكْمَةُ لِذَاتِهَا تُنَافِي فِعْلَ الْقَبِيحِ، فَالْإِلَهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فِعْلُ الْقَبِيحِ، وَمَا كان محال لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، إِنَّمَا قُلْنَا: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لَجَازَ تَبَدُّلُهُ بِنَقِيضِهِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ إِلَهًا مَعَ عَدَمِ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ تُنَافِي فِعْلَ السَّفَهِ فَذَلِكَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَأَمَّا أَنَّ مُسْتَلْزِمَ الْمُنَافِي مُنَافٍ فَمَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، فَإِذَنِ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا مَعَ فِعْلِ السَّفَهِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَبَيِّنٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ سَفَهًا مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٠]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدِهِ مِنْ شَرَائِفِ شَرَائِعِهِ الَّتِي ابْتَلَاهُ بِهَا، وَمِنْ بِنَاءِ بَيْتِهِ وَأَمْرِهِ بِحَجِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَمَا جَبَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَدُعَائِهِ بِالْخَيْرِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي سَلَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّالِفَةِ عَجَّبَ النَّاسَ فَقَالَ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وَالْإِيمَانُ بِمَا أَتَى مِنْ شَرَائِعِهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَوْبِيخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيُوصَلُونَ بِالْوَصْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ/ مِنْ نَسَبِ إِسْرَائِيلَ، وَالنَّصَارَى فَافْتِخَارُهُمْ لَيْسَ بِعِيسَى وَهُوَ مُنْتَسِبٌ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إِلَى إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوا كُلَّ خَيْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ فَصَارُوا لِذَلِكَ يُدْعَوْنَ
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: رَغِبْتُ مِنَ الْأَمْرِ إِذَا كَرِهْتَهُ، وَرَغِبْتُ فِيهِ إذا أردته. و «من» الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مَنْ سَفِهَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَرْغَبُ وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَدَلُ لِأَنَّ مَنْ يَرْغَبُ غَيْرُ مُوجِبٍ كَقَوْلِكَ: هَلْ جَاءَكَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ تَرْغِيبُ النَّاسِ فِي قَبُولِ هَذَا الدِّينِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ عَيْنُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَوْ يُقَالَ: هَذِهِ الْمِلَّةُ هِيَ تِلْكَ الْمِلَّةُ فِي الْأُصُولِ أَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَرِعَايَةَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي فُرُوعِ الشَّرَائِعِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَعْمَالِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ كُلَّ الشَّرَائِعِ، فَكَيْفَ يُقَالُ هَذَا الشَّرْعُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْأُصُولِ أَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالْمَعَادَ لَا يَقْتَضِي الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ.
وَسُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اعْتَرَفَ بِأَنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ مَنْسُوخٌ، وَلَفْظَ الْمِلَّةِ يَتَنَاوَلُ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاغِبًا أَيْضًا عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَيَلْزَمُ مَا أَلْزَمَ عَلَيْهِمْ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ مِنْهُ بَعْثَةَ هَذَا الرَّسُولِ وَنُصْرَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَشْرَ شَرِيعَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا سَلَّمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبُ كَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحِقًّا فِي مَقَالِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ/ هَذَا الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ السَّائِلُ: إِنَّ الْقَوْلَ مَا سَلَّمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِثْلَ هَذَا الرَّسُولِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلْزَامَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَنْ لَا تَثْبُتُ نُبُوَّتُهُ مَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَا لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ، فَيُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ وَهُوَ سَاقِطٌ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَوْمَ سَلَّمُوا صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَكَيْفَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ هُوَ هَذَا الشَّخْصُ؟
فَلَعَلَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تَتَأَخَّرَ إِجَابَةُ هَذَا الدُّعَاءِ بِمِقْدَارِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ الزمان الذي
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: لَعَلَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ شَاهِدَانِ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إِلَى تَكْذِيبِهِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَإِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيُّ مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَكِّدِ لِلْمَقْصُودِ وَالْمَطْلُوبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي انْتِصَابِ نَفْسَهُ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَفَهَ لَازِمٌ، وَسَفِهَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا، وَأَصْلُ السَّفَهِ الْخِفَّةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ»
وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَغِبَ عَمَّا لَا يَرْغَبُ عَنْهُ عَاقِلٌ قَطُّ فَقَدْ بَالَغَ فِي إِزَالَةِ نَفْسِهِ وَتَعْجِيزِهَا، حَيْثُ خَالَفَ بِهَا كُلَّ نَفْسٍ عَاقِلَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا، فَيَسْتَدِلُّ بِمَا يَجِدُهُ فِيهَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى حِكْمَتِهِ، فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَهْلَكَ نَفْسَهُ وَأَوْبَقَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالرَّابِعُ: أَضَلَّ نَفْسَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مَفْعُولًا وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا.
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْسَهُ نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَمَعْنَاهُ سَفِهَ نَفْسًا ثُمَّ أَضَافَ وَتَقْدِيرُهُ إِلَّا السَّفِيهَ، وَذِكْرُ النَّفْسِ تَأْكِيدٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْأَمْرُ نَفْسَهُ وَالْمَقْصُودُ منه المبالغة في سفهه. والثالث: قُرِئَ: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِسَفَاهَةِ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقَالَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّا إِذَا اخْتَرْنَاهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ دُونِ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، وَعَرَّفْنَاهُ الْمِلَّةَ الَّتِي هِيَ جَامِعَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْإِمَامَةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَشَرَّفَهُ اللَّهُ/ بِهَذَا اللَّقَبِ الَّذِي فِيهِ نِهَايَةُ الْجَلَالَةِ لِمَنْ نَالَهَا مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْبَشَرِ فَكَيْفَ مَنْ نَالَهَا مِنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَالشَّرَائِعِ فَلْيُحَقِّقْ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَعَقْلٍ أَنَّ الرَّاغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ فَهُوَ سَفِيهٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ لِيَرْغَبَ فِي مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لِيَنَالَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ كَانَ أَوْلَى، قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ الْكَرَامَةَ وحسن الثواب على كرم الله تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣١]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَامِسَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَوْضِعُ إِذْ نَصْبٌ وَفِي عَامِلِهِ وَجْهَانِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِاصْطَفَيْنَاهُ، أَيِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الِاصْطِفَاءَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ سَبَبِ الِاصْطِفَاءِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَضَعَ لَهَا وَانْقَادَ عَلِمَ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ عَلَى الْأَوْقَاتِ وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَارَهُ لِلرِّسَالَةِ وَاخْتَصَّهُ بِهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْتَارُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْبَدْءِ وَالْعَاقِبَةِ، فَإِسْلَامُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُسْنُ إِجَابَتِهِ مَنْطُوقٌ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ إِخْبَارٌ عَنِ النَّفْسِ وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُغَايَبَةِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هذا النظم
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَتَى قَالَ لَهُ أَسْلِمْ؟ وَمَنْشَأُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: أَسْلِمْ فِي زَمَانٍ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا فِيهِ، فَهَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ لِيُقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَسْلِمْ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فِيهَا، وَإِحَاطَتِهِ بِافْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُخَالِفُهَا فِي الْجِسْمِيَّةِ وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَلَمَّا عَرَفَ رَبَّهُ قَالَ لَهُ تَعَالَى: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ عَرَفَ رَبَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَسْلِمْ كَانَ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لَا نَفْسَ الْقَوْلِ بَلْ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ فِي هَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وقال قطني | مهلا رويدا قد ملأت بطني |
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَوْصَى بِالْأَلِفِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ بِالتَّشْدِيدِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ فِي وَصَّى دَلِيلُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي بِها إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: ١٣١] عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ وَالْجُمْلَةِ، وَنَحْوُهُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً [الزُّخْرُفِ: ٢٨] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦، ٢٧] وقوله: كَلِمَةً باقِيَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّأْنِيثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمِلَّةِ فِي قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ [البقرة: ١٣٠] قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَرَدُّ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمُصَرَّحِ بِذِكْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْمَدْلُولِ وَالْمَفْهُومِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمِلَّةَ أَجْمَعُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا وَصَّى وَلَدَهُ إِلَّا بِمَا يَجْمَعُ فِيهِمُ الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ بِالْآخِرَةِ، وَالشَّهَادَةُ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ.
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَزَجَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَصِيَّةً أُخْرَى، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الرَّجُلُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْفَضْلِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ وَكَمَالِ السِّيرَةِ، ثُمَّ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِالِاهْتِمَامِ، وَأَجْرَاهَا بِالرِّعَايَةِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّهُ خَصَّ أَهْلَهُ وَأَبْنَاءَهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو الْكُلَّ أَبَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْقُوبُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَّى كَوَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: قُرِئَ وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى بَنِيهِ، وَمَعْنَاهُ: وَصَّى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، أما قوله: يا بَنِيَّ فَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِوَصَّى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَنْ يَا بَنِيَّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ بِأَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ الظَّاهِرَةَ الْجَلِيَّةَ وَدَعَاكُمْ إِلَيْهِ وَمَنَعَكُمْ عَنْ غَيْرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَالْمُرَادُ بَعْثُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ يُخْشَى إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَيْهِ أَنْ تُعَاجِلَهُ الْمَنِيَّةُ فَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِالنَّجَاةِ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ فَيَصِيرُ مُدْخِلًا نَفْسَهُ فِي الْخَطَرِ وَالْغُرُورِ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي وَصِيَّةِ بَنِيهِ فِي الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّ يَعْقُوبَ وَصَّى بَنِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُبَالَغَةً فِي البيان وفيه مسائل:
[في معنى أم في قوله تعالى أم كنتم شهداء] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ (أَمْ) مَعْنَاهَا حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ، أَوْ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ «أَوْ» وَهِيَ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْقَطِعَةً مِنْهُ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَوْنَ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ فَتَسْأَلُ هَلْ أَحَدُ هَذَيْنِ عِنْدَكَ فَلَا جَرَمَ كَانَ جَوَابُهُ لَا أَوْ نَعَمْ، أَمَّا إِذَا علمت
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا بَاطِلًا بَلْ حَقًّا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ مُتَعَلِّقٌ بِمُجَرَّدِ ادِّعَائِهِمُ الْحُضُورَ عِنْدَ وَفَاتِهِ هَذَا هُوَ الذي أنكره الله تعالى. فأما ما ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فَهُوَ كَلَامٌ مُفَصَّلٌ بَلْ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ حُضُورَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ أَمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلَةٌ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِيَّةَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ يَعْنِي إِنَّ أَوَائِلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ إِذْ دَعَا بَنِيهِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَمَا لَكُمْ تَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: [في معنى إذ في الآية] قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ أَنَّ «إِذِ» الْأُولَى وَقْتَ الشهداء، وَالثَّانِيَةَ وَقْتَ الْحُضُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَفَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ كَانَتْ فِي بَابِ الدِّينِ وَهِمَّتَهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
المسألة الأولى: لفظة «مَا» لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ أَطْلَقَهُ فِي الْمَعْبُودِ الْحَقِّ؟
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «مَا» عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: مَا تَعْبُدُونَ كَقَوْلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْحَدِّ وَالرَّسْمِ: مَا الْإِنْسَانُ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِي أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَمَسَّكَ بِهَا فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ. الْأَوَّلُ: الْمُقَلِّدَةُ قَالُوا: إِنَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ. الثَّانِي: التَّعْلِيمِيَّةُ. قَالُوا: لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الرَّسُولِ وَالْإِمَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، بَلْ قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يَعْبُدُونَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ هُوَ التَّعَلُّمُ.
وَالْجَوَابُ: كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْإِلَهَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِالْإِلَهِ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْلِيمِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّعْلِيمِ لَمَّا بَطَلَ بِالدَّلِيلِ عَلِمْنَا أَنَّ إِيمَانَ الْقَوْمِ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بَلْ كَانَ حَاصِلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرُوا طَرِيقَةَ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ أَخْصَرُ فِي الْقَوْلِ مِنْ شَرْحِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى/ بِتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى سُكُونِ نَفْسِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فكأنهم قالوا: لسنا نجزي إِلَّا عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِكَ فَلَا خِلَافَ مِنَّا عَلَيْكَ فِيمَا نَعْبُدُهُ وَنُخْلِصُ الْعِبَادَةَ لَهُ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى في أول هذه السورة في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] وهاهنا مرادهم بقولهم: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ أَيْ: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُكَ وَوُجُودُ آبَائِكَ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِدْلَالِ لَا إِلَى التَّقْلِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ رَأَى أَهْلَهَا يَعْبُدُونَ النِّيرَانَ وَالْأَوْثَانَ فَخَافَ عَلَى بَنِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنِّيرَانَ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالتَّوْحِيدِ مُبَادَرَةَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ العلم واليقين. والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حَالَ الْأَسْبَاطِ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لآبائك. قال الْقَفَّالُ: وَقِيلَ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْ إِسْحَاقَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ لَا يسقطون بالجد
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو حنيفة: إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَسْقُطُونَ بِالْجَدِّ فَلَهُمْ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ خُيِّرَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةَ مَعَهُمْ أَوْ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ أُعْطِيَ السُّدُسَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَالْأَبَ يَحْجُبُ الْأَخَوَاتِ وَالْإِخْوَةَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَحْجُبَهُمُ الْجَدُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَدَّ أَبٌ لِلْآيَةِ وَالْأَثَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَاثْنَانِ هَذِهِ الآية وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَطْلَقَهُ فِي الْعَمِّ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ مَعَ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِأَبٍ.
قُلْنَا: الِاسْتِعْمَالُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ ظَاهِرًا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ العم الدليل قَامَ فِيهِ فَيَبْقَى فِي الْبَاقِي حُجَّةُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [يُوسُفَ: ٣٨] / وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، إِنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَقَالَ أَيْضًا: أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النِّسَاءِ: ١١] فِي اسْتِحْقَاقِ الْجَدِّ الثُّلُثَيْنِ دُونَ الْإِخْوَةِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ الْأَبُ دُونَهُمْ إِذَا كَانَ بَاقِيًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ كَمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٢] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَدْخَلَ يَعْقُوبَ فِي بَنِيهِ لِأَنَّهُ مَيَّزَهُ عَنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ الصَّاعِدُ فِي الأبوة أباً لكان النازل في النبوة ابْنًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمَا صَحَّ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ حَيٌّ أَنْ يُنْفَى أَنَّ لَهُ أَبًا، كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْأَبِ الْقَرِيبِ وَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ فِي الْحَقِيقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْكُلِّ إِلَّا أَنَّ رُتْبَةَ الْأَدْنَى أَقْرَبُ مِنْ رُتْبَةِ الْأَبْعَدِ فَلِذَلِكَ صَحَّ فِيهِ النَّفْيُ.
قُلْنَا: لَوْ كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ فِي الْوُجُودِ سَبَبًا لِنَفْيِ اسْمِ الْأَبِ عَنْهُ، وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَصَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَاتَ وَخَلَّفَ أُمًّا وَآبَاءً كَثِيرِينَ وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُطْلِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَرْبَابِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَرَابِعُهَا: لَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ عَارِفُونَ بِاللُّغَةِ لَمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ، وَلَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا لَكَانَتِ الْجَدَّةُ أُمًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى يَحْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاءِ: ١١] فَلَوْ كَانَ الْجَدُّ أَبًا لَكَانَ ابْنُ الِابْنِ ابْنًا لَا مَحَالَةَ فَكَانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولُ الْمِيرَاثِ لِابْنِ الِابْنِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ، فَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ فَالْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِهَا من وجوه.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَبَّاسِ: «هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي»
وَقَالَ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي»
فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، والدليل عليه ما قدمناه أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْأَبِ عَنِ الْجَدِّ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا أَطْلَقَ الِاسْمَ عَلَيْهِ نظراً إلى الحكم الشرعي لَا إِلَى الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ أَرْبَابِ اللِّسَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلهاً واحِداً فَهُوَ بدل إِلهَ آبائِكَ كَقَوْلِهِ: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [الْعَلَقِ: ١٥، ١٦] أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ تُرِيدُ بِإِلَهِ آبَائِكَ إِلَهًا وَاحِدًا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: / أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَعْبُدُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ لِرُجُوعِ الْهَاءِ إِلَيْهِ فِي لَهُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى نَعْبُدُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً مُؤَكِّدَةً، أَيْ وَمِنْ حَالِنَا أَنَّا لَهُ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ لِلتَّوْحِيدِ أَوْ مُذْعِنُونَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَبَنُوهُ الْمُوَحِّدُونَ. والأمة الصِّنْفُ. خَلَتْ سَلَفَتْ وَمَضَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَالْمَعْنَى أَنِّي اقْتَصَصْتُ عَلَيْكُمْ أَخْبَارَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لَكُمْ نَفْعٌ فِي سِيرَتِهِمْ دُونَ أَنْ تَفْعَلُوا مَا فَعَلُوهُ، فَإِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ انْتَفَعْتُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ لَمْ تَنْتَفِعُوا بِأَفْعَالِهِمْ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَها مَا كَسَبَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَسْبَ كُلِّ أَحَدٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ جَائِزًا لَكَانَ كَسْبُ الْمَتْبُوعِ نَافِعًا لِلتَّابِعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَا ذَكَرْتُ حِكَايَةَ أَحْوَالِهِمْ طَلَبًا مِنْكُمْ أَنْ تُقَلِّدُوهُمْ، وَلَكِنْ لِتُنَبَّهُوا عَلَى مَا يَلْزَمُكُمْ فَتَسْتَدِلُّوا وَتَعْلَمُوا أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ هُوَ الْحَقُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ لَا يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّ صَلَاحَ آبَائِهِمْ يَنْفَعُهُمْ، وَتَحْقِيقُهُ مَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، ائْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِأَنْسَابِكُمْ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
وَقَالَ: «وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١] وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١٢٣] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] وَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النُّورِ: ٥٤].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْأَبْنَاءُ يُعَذَّبُونَ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ:
إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ لِكُفْرِ آبَائِهِمْ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْكَسْبِ.
أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا دُخُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ بِقُدْرَتِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ذَكَرُوا لِهَذَا الْكَسْبِ ثَلَاثَ تَفْسِيرَاتٍ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ، بَلِ الْقُدْرَةُ وَالْمَقْدُورُ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعْلُومَ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ هُوَ الْكَسْبُ. وَثَانِيهَا: / أَنَّ ذَاتَ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَحْصُلُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَصْفُ كَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَاصِلَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ وَالْقُدْرَةَ الْقَدِيمَةَ، إِذَا تَعَلَّقَتَا بِمَقْدُورٍ واحد وقع المقدور بهما، وكأنه فِعْلَ الْعَبْدِ وَقَعَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْكَسْبُ وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ بِالْمُعِينِ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ مُؤَثِّرَةٌ، فَهُمْ فَرِيقَانِ. الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي تُوجِبُ الْفِعْلَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هو الخالق لكل بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَسْبَابَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى دُخُولِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فِي الْوُجُودِ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُقُوعِ فِعْلِهِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالدَّاعِيَةُ الْقَائِمَتَانِ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالنِّظَامِيَّةِ وَيَقْرُبُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِهِ.
الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُدْرَةُ مَعَ الدَّاعِي لَا تُوجِبُ الْفِعْلَ، بَلِ الْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَهَذَا الْفِعْلُ وَالْكَسْبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لِلْأَشْعَرِيِّ: إِذَا كَانَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ وَاقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا خَلَقَهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ لَا يَتَّصِفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْبَتَّةَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا مَعْنَى لِلْقَادِرِ إِلَّا ذَلِكَ، فَالْعَبْدُ الْبَتَّةَ غَيْرُ قَادِرٍ، وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي هُوَ مُكْتَسَبُ الْعَبْدِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا، فَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فَكَيْفَ يَكُونُ مُكْتَسِبًا لَهُ؟ وَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيقَاعِ، فَعِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ أَثَرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ إِلَّا شَغْلَ تِلْكَ الْأَحْيَازِ، فَهَذَا الشَّغْلُ إِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ حَصَلَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُ الأسفرايني فَضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ، فَلَا يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ مَعَهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ، قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: كَوْنُ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ مُحَالٌ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ، لَكَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فَهُوَ غَيْرُ مُوجِدٍ لَهَا. وَثَانِيهَا:
لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ إِلَّا مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فَلَا يُحَصِّلُ إِلَّا الْجَهْلَ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَكَانَ كَوْنُهُ مُوجِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَذَاتِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ ذَاتَ الْفِعْلِ وَذَاتَ الْقُدْرَةِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ،
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ صِحَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ حَكَى بَعْدَهَا أَنْوَاعًا مِنْ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ.
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ شُبْهَةً، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى التَّقْلِيدِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: ذَكَرَ جَوَابًا إِلْزَامِيًّا وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ طَرِيقُ الدِّينِ التَّقْلِيدَ فَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ إِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ فِي الدِّينِ عَلَى التَّقْلِيدِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ فِي الدِّينِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلَائِلَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى التَّقْلِيدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ أولى.
[الشبهة الثانية] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قُلْنَا: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَائِلًا بِالتَّوْحِيدِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَالْيَهُودَ يَقُولُونَ بِالتَّشْبِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ، كَانَ هُوَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرَ، إِذِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الْيَهُودِ أَنَّهَا لَا تُجَوِّزُ اخْتِيَارَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، بَلْ تَزْعُمُ أَنَّهُ كُفْرٌ. وَالْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ النَّصَارَى أَيْضًا ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْيَهُودَ تَدْعُو إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصَارَى إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَكُلُّ فَرِيقٍ يَدْعُو إِلَى دِينِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ الْهُدَى فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: تَهْتَدُوا أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اهْتَدَيْتُمْ وَصِرْتُمْ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِقَامَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ فَفِي انْتِصَابِ مِلَّةَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ عُطِفَ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ:
كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى وَتَقْدِيرُهُ قَالُوا: اتَّبِعُوا/ الْيَهُودِيَّةَ قُلْ بَلِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. الثَّانِي: عَلَى الْحَذْفِ تَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: تَقْدِيرُهُ: بَلْ نَكُونُ أَهْلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] أَيْ أَهْلَهَا. الرَّابِعُ: التَّقْدِيرُ: بَلِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ:
مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِالرَّفْعِ أَيْ مِلَّتُهُ مِلَّتُنَا، أَوْ دِينُنَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَمَّا قَوْلُهُ: حَنِيفاً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْحَنِيفِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَنِيفَ هُوَ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قيل للأعرج:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ حَنِيفًا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ كَقَوْلِكَ:
رَأَيْتُ وَجْهَ هِنْدٍ قَائِمَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ أَرَادَ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفَ فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَمْ تَتْبَعِ النَّكِرَةُ الْمَعْرِفَةَ فَانْقَطَعَ مِنْهُ فَانْتَصَبَ، قَالَهُ نُحَاةُ الْكُوفَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شُرَكَاءَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَذَلِكَ شِرْكٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَنِيفَ اسْمٌ لِمَنْ دَانَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِشَرَائِعَ مَخْصُوصَةٍ، مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ وَالْخِتَانِ وَغَيْرِهِمَا، فمن دان بذلك فهو حنيف، وكان الْعَرَبُ تَدِينُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ كَانَتْ تُشْرِكُ، فَقِيلَ مِنْ أَجْلِ هَذَا: حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الْحَجِّ: ٣١]، وَقَوْلُهُ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يُوسُفَ: ١٠٦] قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقصة لِقَوْلِهِ: إِفْحَامًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَجُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَلْ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ قَدْ أَقَامَ الْحُجَّةَ بِهَا وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ ثُمَّ وَجَدَهُمْ مُعَانِدِينَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى بَاطِلِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُجَانِسُ/ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالِاتِّبَاعِ فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُقِرِّينَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّثْلِيثِ، امْتَنَعَ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّوْحِيدِ، وَمَتَى كَانُوا قَائِلِينَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانُوا مُنْكِرِينَ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ أَوْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِهِ، لَكِنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ مُنْكِرًا لِلتَّجْسِيمِ وَالتَّثْلِيثِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ إِلْزَامُ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَثْبَتَ الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا صَحَّ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَتَهُمْ مُخَالِفَةٌ لِطَرِيقَةِ إبراهيم عليه السلام.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٦]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
[قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١٣٥] ذَكَرُوا فِي مُقَابَلَتِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [البقرة: ١٣٥] ثُمَّ قَالَ لِأُمَّتِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، أَعْنِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قُولُوا خِطَابٌ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ، وَاحْتَجَّ الْحَسَنُ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ، وَالظَّاهِرُ إِفْرَادُهُ بِالْخِطَابِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَرَائِنَ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً إِلَّا أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ أَمَّا قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِنَّمَا قَدَّمَهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ بِالشَّرَائِعِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ اسْتَحَالَ أَنْ يَعْرِفَ نَبِيًّا أَوْ كِتَابًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَالْمُقَلِّدَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَسْباطِ قَالَ الْخَلِيلُ: السِّبْطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبِيلَةِ فِي الْعَرَبِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السِّبْطُ، الْحَافِدُ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأسباط: الحفدة وهم حفدة يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَرَارِيُّ أَبْنَائِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونكفر ببعض، فإنا لو فعلنا ذلك كَانَتِ الْمُنَاقَضَةُ لَازِمَةً عَلَى الدَّلِيلِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِي: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَيْ لَا نَقُولُ: إِنَّهُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، بَلْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَلْيَقُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ إِسْلَامَنَا لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ الْهَوَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ الْمُعْجِزُ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ. فَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمُعْجِزَاتِ بِالْقَبُولِ، وَالْبَعْضِ بِالرَّدِّ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَيْسَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، بَلِ اتِّبَاعُ الْهَوَى والميل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٧]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِنُبُوَّةِ مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنْ يَحْتَرِزَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْمُنَاقَضَةِ: رَغَّبَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ فَقَالَ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا.
[في معنى اهْتَدَوْا] / مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّثْبِيتُ وَالْمَعْنَى: إِنْ حَصَّلُوا دِينًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُسَاوِي هَذَا الدِّينَ فِي السَّدَادِ اسْتَحَالَ الِاهْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ وَالصَّوَابُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أَصْوَبَ مِنْهُ فَاعْمَلْ بِهِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا أَصْوَبَ مِنْ رَأْيِكَ وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تثبيت صاحبك وتوفيقه عَلَى أَنَّ مَا رَأَيْتَ لَا رَأْيَ وَرَاءَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا:
إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُسَاوِي هَذَا الدِّينَ فِي السَّدَادِ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُعْجِزُ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ، وَكُلُّ مَا غَايَرَ هَذَا الدِّينَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ، وَالْمُتَنَاقِضُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِ الْمُتَنَاقِضِ فِي السَّدَادِ وَالصِّحَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمِثْلَ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] أَيْ لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وِصَالِيَّاتٌ كَكَمَا يُؤْثَفِينَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ | وَدِقَّةٌ فِي سَاقِهِ مِنْ هَزْلِهِ |
وَثَالِثُهَا: أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِالْفُرْقَانِ مِنْ غَيْرِ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ مِنْ غَيْرِ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ فَقَدِ اهْتَدَوْا لِأَنَّهُمْ يَتَّصِلُونَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ فَإِنْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ مَا بِهِ صِرْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فَالتَّمْثِيلُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ وَالتَّصْدِيقَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ وَلَكِنْ قُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، قَالَ الْقَاضِي: لَا وَجْهَ لِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ حَيْثُ يُشْكِلُ الْمَعْنَى وَيُلَبِّسُ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ جَعَلَهُ الْمَرْءُ مَذْهَبًا لَزِمَهُ أَنْ يُغَيِّرَ تِلَاوَةَ كُلِّ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا فَالْمُرَادُ فَقَدْ عَمِلُوا بِمَا هُدُوا إِلَيْهِ وَقَبِلُوهُ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ دَاخِلًا فِي أَهْلِ رِضْوَانِهِ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذَا الِاهْتِدَاءِ، وَتِلْكَ الْهِدَايَةُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا إِلَّا عَلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَشَفَ عَنْهَا وَبَيَّنَ وُجُوهَ دَلَالَتِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ مَا يَلْحَقُهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا فَقَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وَفِي الشِّقَاقِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الشِّقَاقُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ، كَأَنَّهُ صَارَ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ صَاحِبِهِ بِسَبَبِ الْعَدَاوَةِ وَقَدْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ إِذَا فَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ وَفَارَقَهَا، وَنَظِيرُهُ: الْمُحَادَّةُ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَدٍّ وَذَاكَ فِي حَدٍّ آخَرَ، وَالتَّعَادِي مِثْلُهُ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي عُدْوَةٍ وَذَاكَ فِي عُدْوَةٍ، وَالْمُجَانَبَةُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي جَانِبٍ وَذَاكَ فِي جَانِبٍ آخَرَ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُؤْذِيهِ قَالَ الله
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أَيْ إِنْ تَرَكُوا مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ فَقَدِ الْتَزَمُوا الْمُنَاقَضَةَ وَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَزِمُ الْمُنَاقَضَةَ الْبَتَّةَ فَحَيْثُ الْتَزَمُوهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُمْ طَلَبَ الدِّينِ/ وَالِانْقِيَادَ للحق وَإِنَّمَا غَرَضُهُمُ الْمُنَازَعَةُ وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ. أَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فِي خِلَافٍ مُذْ فَارَقُوا الْحَقَّ وَتَمَسَّكُوا بِالْبَاطِلِ فَصَارُوا مُخَالِفِينَ لِلَّهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُقَاتِلٌ فِي شِقَاقٍ. أَيْ فِي ضَلَالٍ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي مُنَازَعَةٍ وَمُحَارَبَةٍ. وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ فِي عَدَاوَةٍ قَالَ الْقَاضِي:
وَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْمُعَادَاةِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ أَوِ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَعْصِيَةً إِنَّهُ شِقَاقٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي مُخَالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنِهِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ فَصَارَ هَذَا الْقَوْلُ وَعِيدًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ وَصَارَ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مُتَرَصِّدُونَ لِإِيقَاعِهِ فِي الْمِحَنِ، فَعِنْدَ هَذَا آمَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كَيْدِهِمْ وَآمَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شرهم ومكرهم فقال: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقبه وَقَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا تَكَفَّلَ بِالْكِفَايَةِ فِي أَمْرٍ حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِهِ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا مُخْبِرَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَفَاهُ شَرَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَصَارُوا أَذِلَّاءَ فِي أَيْدِيهِمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمُ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ أَوْ لَا يَقْدِرُونَ الْبَتَّةَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِأَنَّهُ الْمُتَخَرِّصُ لَا يُصِيبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، قَالَ الْمُلْحِدُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُعْجِزٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُبْتَلًى بِإِيذَاءِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِيكَ شَرَّهُ، ثُمَّ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُعْتَادًا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ وَأَيْضًا لَعَلَّهُ تَوَصَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِرُؤْيَا رَآهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، فَإِنَّ الْمُنَجِّمِينَ يَقُولُونَ: مَنْ كَانَ سَهْمُ الْغَيْبِ فِي طَالِعِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُنَا مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ وَحْدَهُ مُعْجِزٌ، بَلْ غَرَضُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى مِنَ المتخرص الكاذب.
[في معنى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُدْرِكُ مَا يُضْمِرُونَ وَيَقُولُونَ وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كِفَايَتِهِ إِيَّاهُمْ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْنِي: يَسْمَعُ دُعَاءَكَ وَيَعْلَمُ نِيَّتَكَ وَهُوَ يَسْتَجِيبُ لَكَ وَيُوصِلُكَ إِلَى مُرَادِكَ، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ تَعَالَى زَائِدٌ عَلَى عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
«عَلِيمٌ» بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ فَيَتَنَاوَلُ كَوْنَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ سَمِيعًا عِبَارَةً عَنْ عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ كَوْنِهِ تَعَالَى سَمِيعًا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَلِيمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي آمَنَ بِهِ المؤمنون ليس له مثل، وجوابه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصَّبْغُ مَا يُلَوَّنُ بِهِ الثِّيَابُ وَيُقَالُ: صَبَغَ الثَّوْبَ يَصْبُغُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ صَبْغًا بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ. (وَالصِّبْغَةُ) فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِصِبْغَةِ اللَّهِ عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَذَكَرُوا فِي أَنَّهُ لم سمي دين الله بصبغة اللَّهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ وَيَقُولُونَ:
هُوَ تَطْهِيرٌ لَهُمْ. وَإِذَا فَعَلَ الْوَاحِدُ بِوَلَدِهِ ذَلِكَ قَالَ: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اطْلُبُوا صِبْغَةَ اللَّهِ وَهِيَ الدِّينُ، والإسلام لاصبغتهم، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الصِّبْغَةِ عَلَى الدِّينِ طَرِيقَةُ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَغْرِسُ الْأَشْجَارَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَأْمُرَهُ بِالْكَرَمِ: اغْرِسْ كَمَا يَغْرِسُ فُلَانٌ تُرِيدُ رَجُلًا مُوَاظِبًا عَلَى الْكَرَمِ، ونظيره قوله تعالى:
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤، ١٥]، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤]، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠]، إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ [هُودٍ: ٣٨]. وَثَانِيهَا: الْيَهُودُ تَصْبُغُ أَوْلَادَهَا يَهُودًا وَالنَّصَارَى تَصْبُغُ أَوْلَادَهَا نَصَارَى بِمَعْنَى يُلْقُونَهُمْ فَيَصْبُغُونَهُمْ بِذَلِكَ لِمَا يُشْرِبُونَ فِي قُلُوبِهِمْ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ: فُلَانٌ يَصْبُغُ فُلَانًا فِي الشَّيْءِ، أَيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ وَيُلْزِمُهُ إِيَّاهُ كَمَا يُجْعَلُ الصَّبْغُ لَازِمًا للثواب وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
دَعِ الشَّرَّ وَانْزِلْ بِالنَّجَاةِ تَحَرُّزًا | إِذَا أَنْتَ لَمْ يَصْبُغْكَ فِي الشَّرِّ صَابِغُ |
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرُّومِ: ٣٠] وَمَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْسُومٌ فِي تَرْكِيبِهِ وَبِنْيَتِهِ بِالْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَالْآثَارُ الشَّاهِدَةُ عَلَيْهِ بِالْحُدُوثِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْخَالِقِ فَهَذِهِ الْآثَارُ كَالصِّبْغَةِ لَهُ وَكَالسِّمَةِ اللَّازِمَةِ. قَالَ الْقَاضِي: مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ مُقَارِبٌ فِي الْمَعْنَى، لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دِينُ اللَّهِ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ مِنْ عَقْلٍ وَشَرْعٍ، وَهُوَ الدِّينُ أَيْضًا لَكِنَّ الدِّينَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا هُوَ الَّذِي وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ/ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي أَلْزَمَكُمُ التَّمَسُّكَ بِهِ فَالنَّفْعُ بِهِ سَيَظْهَرُ دِينًا وَدُنْيَا كَظُهُورِ حُسْنِ الصِّبْغَةِ، وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعَادَةٍ جَارِيَةٍ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي صَبْغٍ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي أَوْلَادِهِمْ مَعْنًى، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا اسْتَقَامَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ بِدُونِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَقِيَّةَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ:
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ هِيَ الْخِتَانُ، الَّذِي هُوَ تَطْهِيرٌ، أَيْ كَمَا أَنَّ الْمَخْصُوصَ الَّذِي لِلنَّصَارَى تَطْهِيرٌ لَهُمْ فَكَذَلِكَ الْخِتَانُ تَطْهِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ صِبْغَةَ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةَ وَتَفْسِيرٌ لَهَا. الثَّانِي: اتَّبِعُوا صِبْغَةَ اللَّهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ فَيَنْتَصِبُ عَنْ قَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ وَعْدُ اللَّهِ عَمَّا تَقَدَّمَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَصْبُغُ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ وَيُطَهِّرُهُمْ بِهِ مِنْ أَوْسَاخِ الْكُفْرِ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَتِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ النَّظْمِ وَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قالت حذام.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمُحَاجَّةِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالنُّبُوَّةِ لِتَقَدُّمِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي أن الله اصطفى رسول مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْكُمْ وَتَقُولُونَ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنُّبُوَّةِ مِنَّا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِيمَانِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَوْلُهُمْ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: ١٣٥] عَنِ الْحَسَنِ. وَرَابِعُهَا:
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أَيْ: أَتُحَاجُّونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ كَانَتْ مَعَ مَنْ؟ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وَالْعَرَبُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَبِمَنْ يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ وَبِمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَكُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَلِمَ تُرَجِّحُونَ أَنْفُسَكُمْ عَلَيْنَا، بَلِ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا لِأَنَّا مُخْلِصُونَ لَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ وَهَذَا التأويل أقرب.
أما قوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ، أَيْ لَا يَرْجِعُ إِلَيَّ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الْقَبِيحَةِ ضَرَرٌ حَتَّى يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ دَفْعَ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نُصْحُكُمْ وَإِرْشَادُكُمْ إِلَى الْأَصْلَحِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ لَمْ يَنْجَعْ قَوْلُهُ فِي الْقَلْبِ الْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٠]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: أَمْ تَقُولُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُحَاجُّونَنَا أَمْ تَقُولُونَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُتَّصِلَةً وَتَقْدِيرُهُ: بِأَيِّ الْحُجَّتَيْنِ تَتَعَلَّقُونَ فِي أَمْرِنَا، أَبِالتَّوْحِيدِ فَنَحْنُ مُوَحِّدُونَ، أَمْ بِاتِّبَاعِ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ؟ وَأَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى: بَلْ أَتَقُولُونَ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْضًا، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مُنْقَطِعَةً لِانْقِطَاعِ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلَى حِجَاجٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُودًا أَوْ نَصَارَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ لَا مَحَالَةَ كَذِبُهُمْ فِيهِ. وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَا بَعْدَهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالتَّوْبِيخُ وَأَنْ يُقَرِّرَ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا يَقُولُونَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ وَخَبَرَهُ أَصْدَقُ وَقَدْ أَخْبَرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِيمَنْ لَا يَعْلَمُ وَهُمْ عَلِمُوهُ وَكَتَمُوهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْكَلَامُ؟ قُلْنَا: مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ظَنٍّ وَتَوَهُّمٍ فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ وَمَنْ قَالَ: عَلِمُوا وَجَحَدُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْزِلَتَكُمْ مَنْزِلَةُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَعَ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً حَصَلَتْ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ زَيْدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْكَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى. لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ هود أَوْ نَصَارَى، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ شَهَادَةً أَظْلَمَ مِنْهُ لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الْكَذِبِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْ كَتَمْتُمْ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِنَ اللَّهِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْكَاتِمِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَبِالْمَكْتُومِ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلَمْ يُقِمْهَا عِنْدَ اللَّهِ بَلْ كَتَمَهَا وَأَخْفَاهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ صِلَةَ الشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً جَاءَتْهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَجَحَدَهَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عِنْدِي شَهَادَةٌ مِنْكَ، أَيْ شَهَادَةٌ سَمِعْتُهَا مِنْكَ وَشَهَادَةٌ جَاءَتْنِي مِنْ جِهَتِكَ وَمِنْ عِنْدِكَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤١]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَاجَّ الْيَهُودَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِيَكُونَ وَعْظًا لَهُمْ وَزَجْرًا حتى لا يتكلوا عَلَى فَضْلِ الْآبَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يُؤْخَذُ بِعَمَلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى لَا يَسْتَنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُكُمْ عَيْنَ فَرْضِهِمْ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ لَمْ يَسْتَنْكِرْ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَصَالِحُ فَيَنْقُلُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ أُخْرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُسْنَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَّنَ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ بذلك بل كل إنسان مسؤول عَنْ عَمَلِهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ بِأَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِطَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْ أَخْطَئُوا لَا يَنْفَعُ هَؤُلَاءِ وَلَا يَضُرُّهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ طَرِيقَةَ الدِّينِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كُرِّرَتِ الْآيَةُ؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَنَى بِالْآيَةِ الْأُولَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَالثَّانِيَةِ أَسْلَافَ الْيَهُودِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرَّحٌ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ إِنَّهُمْ كَانُوا هُودًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ طَرِيقَةِ أَسْلَافِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَصَارَ سَلَفُهُمْ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِينَ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ وَيُعَيِّنُهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَالتَّعَسُّفِ بَلِ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى اخْتَلَفَتِ الْأَوْقَاتُ وَالْأَحْوَالُ وَالْمَوَاطِنُ لَمْ يَكُنِ التَّكْرَارُ عَبَثًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ فَوَصْفُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَعَلَيْكُمْ بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَانْظُرُوا فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَكُمْ وَأَعْوَدُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ إِلَّا عَنْ عَمَلِكُمْ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى طَعْنًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: النَّسْخُ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِلَا دَوَامٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ لَمْ يَقْتَضِ الْفِعْلَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ وُرُودُ الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِهِ نَاسِخًا وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ اللَّادَوَامَ فَهَهُنَا ظَاهِرٌ أَنَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ يُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَهُنَا كَانَ جَاهِلًا ثُمَّ بَدَا لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ/ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا فَثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ النَّسْخُ مِنْهُ مُحَالًا، فَالْآتِي بِالنَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يكون مبطلًا
أَمَّا قَوْلُهُ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَاضِي أَيْضًا، كَالرَّجُلِ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَطْعَنُ فِيهِ بَعْضُ أَعْدَائِهِ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَطْعَنُونَ عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُ، وَمَجَازُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيمَا يُكَرَّرُ وَيُعَادُ، فَإِذَا ذَكَرُوهُ مَرَّةً فَسَيَذْكُرُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَصَحَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ نَزَلَتِ الْآيَةُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ قبل أن ذكروا هَذَا الْكَلَامَ أَنَّهُمْ سَيَذْكُرُونَهُ وَفِيهِ فَوَائِدُ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَأَذِّيهِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَقَلَّ مِمَّا إِذَا سَمِعَهُ مِنْهُمْ أَوَّلًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَسْمَعَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَهُ مَعَهُ فَحِينَ يَسْمَعُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ يَكُونُ الْجَوَابُ حَاضِرًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّا إِذَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ الْجَوَابُ حَاضِرًا، وَأَمَّا السَّفَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: ١٣] وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَيَعْدِلُ عَنْ طَرِيقِ مَنَافِعِهِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ، يُوصَفُ بِالْخِفَّةِ وَالسَّفَهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَطَأَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مَضَرَّةً مِنْهُ فِي بَابِ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ الْعَادِلُ عَنِ الرَّأْيِ الْوَاضِحِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ يُعَدُّ سَفِيهًا، فَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي أَمْرِ دِينِهِ كَانَ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ فَلَا كَافِرَ إِلَّا وَهُوَ سَفِيهٌ فَهَذَا اللَّفْظُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْيَهُودِ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى جُمْلَتِهِمْ، وَلَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. فَأَوَّلُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقة لَهُمْ فِي الْقِبْلَةِ رُبَّمَا تَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُوَافِقًا لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْ تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتنموا وَقَالُوا: قَدْ عَادَ إِلَى طَرِيقَةِ آبَائِهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى دِينِهِمْ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَعَلِمْنَا أَنَّهُ الرَّسُولُ الْمُنْتَظَرُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الآية. وثانيها: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ، إِنَّهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى/ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَتَأَذَّوْنَ مِنْهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَحَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا: أَبَى إِلَّا الرُّجُوعَ إِلَى مُوَافَقَتِنَا، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْجِهَاتِ عَنْ بَعْضٍ بِخَاصِّيَّةٍ مَعْقُولَةٍ تَقْتَضِي تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَيْهَا، فَكَانَ هَذَا التَّحْوِيلُ مجرد البعث وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٣]. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ لِأَنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ لَفْظُ عُمُومٍ دَخَلَ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَقَدْ بَيَّنَّا صَلَاحِيَتَهُ لِكُلِّ الْكُفَّارِ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّصُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلَّاهُ عَنْهُ صَرَفَهُ عَنْهُ وَوَلَّى إِلَيْهِ بِخِلَافِ وَلَّى عَنْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الْأَنْفَالِ: ١٦] وَقَوْلُهُ: مَا وَلَّاهُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعَجُّبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: في هذا التولي وجهان. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَابَ الْكُفَّارُ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتَى حَوَّلَ الْقِبْلَةَ بَعْدَ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ مُعَاذٍ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنْ قَتَادَةَ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ آخرون: بل سنتان. الوجه الثاني: قول أب مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْخَبَرُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَوَّلَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ لَفْظُ الْآيَةِ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ كَانُوا عَلَيْهَا، أَيِ السُّفَهَاءُ كَانُوا عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقِبْلَةَ النَّصَارَى، فَالْأُولَى إِلَى الْمَغْرِبِ وَالثَّانِيَةُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَجَّهُوا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْكَعْبَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنْكَرًا، فَقَالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ أَحَدٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ صَدَقَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الرِّوَايَاتُ الظَّاهِرَةُ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ القبلة لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا وَتُقَابِلُهُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ لِفُلَانٍ قِبْلَةٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ من الاستقبال، وقال غيره: إذ تَقَابَلَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبْلَةٌ لِلْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ:
جَعَلْتُ مَأْوَاكَ لِي قَرَارًا | وَقِبْلَةً حَيْثُمَا لَجَأْتُ |
وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ إِحْدَاثِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ اخْتَصَّ بِهَا ذَلِكَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ كَانَ طَلَبُ الْعِلَّةِ فِي أَنَّهُ لِمَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ كَطَلَبِ الْعِلَّةِ فِي أَنَّهُ لِمَ حَصَلَ الْعَالَمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنِ اسْتَغْنَى أَحَدُهُمَا عَنِ الْمُرَجِّحِ فَكَذَا الْآخَرُ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَكَذَا الْآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ ذَلِكَ عَلَى الْحِكْمَةِ فَقَدْ بَطَلَ تَوْقِيفُ فَاعِلِيَّةِ اللَّهِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْغَرَضِ.
وَخَامِسُهَا: مَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكُفْرِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْغَرَضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ غَرَضٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ وَتَعْذِيبِهِ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتَهُ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ فِي/ الْأَزَلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ جَائِزًا افْتَقَرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ الْعَدَمِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّلُ فَثَبَتَ عِنْدَنَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ بِالدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ فَاعِلِيَّتُهُ بِمَحْضِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالنَّفَاذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ النَّسْخِ بِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمُلْكُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَلَمْ يُعَلِّلْ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ بَصَرِيحِهَا عَلَى قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَالْحَكِيمُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ خَالِيَةً عَنِ الْأَغْرَاضِ، عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمًا وَأَغْرَاضًا، ثُمَّ إِنَّهَا تَارَةً تَكُونُ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً لَنَا، وَتَارَةً مَسْتُورَةً خَفِيَّةً عَنَّا، وَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَصَالِحَ خَفِيَّةٍ وَأَسْرَارٍ مَطْوِيَّةٍ عَنَّا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: اسْتَحَالَ الطَّعْنُ بِهَذَا التَّحْوِيلِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْحِكَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَا تَكُونُ قَطْعِيَّةً، بَلْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أُمُورًا احْتِمَالِيَّةً أَمَّا تَعْيِينُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حِكَمًا. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةً عَقْلِيَّةً مُدْرِكَةً لِلْمُجَرَّدَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَقُوَّةً خَيَالِيَّةً مُتَصَرِّفَةً فِي عَالَمِ الْأَجْسَادِ، وَقَلَّمَا تَنْفَكُّ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَنْ مُقَارَنَةِ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ وَمُصَاحَبَتِهَا، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِحْضَارَ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ مُجَرَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضَعَ لَهُ صُورَةً خَيَالِيَّةً يَحْسِبُهَا حَتَّى تَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ الْخَيَالِيَّةُ مُعِينَةً عَلَى إِدْرَاكِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُهَنْدِسَ إِذَا أَرَادَ إِدْرَاكَ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمَقَادِيرِ، وَضَعَ لَهُ صُورَةً مُعَيَّنَةً وَشَكْلًا مُعَيَّنًا لِيَصِيرَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ مُعِينَيْنِ لِلْعَقْلِ عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ، وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَجْلِسِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ، فإنه
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله: إِخْواناً [آل عمران: ١٠٣] ولو توجه وَاحِدٍ فِي صَلَاتِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، فَعَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ جِهَةً مَعْلُومَةً، وَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوَجُّهِ نَحْوَهَا، لِيَحْصُلَ لَهُمُ الْمُوَافَقَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إلى أن الله تعالى يجب الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْكَعْبَةَ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ في قوله: بَيْتِيَ وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِإِضَافَتِهِمْ بِصِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ، وَكِلْتَا/ الْإِضَافَتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّكْرِيمِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُؤْمِنُ أَنْتَ عَبْدِي، وَالْكَعْبَةُ بَيْتِي، وَالصَّلَاةُ خِدْمَتِي، فَأَقْبِلْ بِوَجْهِكَ فِي خِدْمَتِي إِلَى بَيْتِي، وَبِقَلْبِكَ إِلَيَّ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِنَّ الْيَهُودَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: ٤٤] الْآيَةَ، وَالنَّصَارَى اسْتَقْبَلُوا الْمَغْرِبَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مَرْيَمَ: ١٦] وَالْمُؤْمِنُونَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ خَلِيلِ اللَّهِ، وَمَوْلِدُ حَبِيبِ اللَّهِ، وَهِيَ مَوْضِعُ حَرَمِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى مَطْلَعَ الْأَنْوَارِ، وَقَدِ اسْتَقْبَلْنَا مَطْلَعَ سَيِّدِ الْأَنْوَارِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْ نُورِهِ خُلِقَتِ الْأَنْوَارُ جَمِيعًا. وَسَادِسُهَا: قَالُوا: الْكَعْبَةُ سُرَّةُ الْأَرْضِ وَوَسَطُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى وَسَطِ الْأَرْضِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلِأَجْلِهِ جَعَلَ وَسَطَ الْأَرْضِ قِبْلَةً لِلْخَلْقِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ حُبَّهُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ أَمْرِهِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى ذَلِكَ مُدَّةً لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] الْآيَةَ، وَفِي الشَّاهِدِ إِذَا وُصِفَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَحَبَّةِ آخَرَ قَالُوا: فُلَانٌ يُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ فُلَانٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِهَةِ التَّحْقِيقِ، وَقَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] وَلَمْ يَقُلْ قِبْلَةً أَرْضَاهَا، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ رِضَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ رِضَاكَ فِي الدَّارَيْنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى شَرَفِ الْفُقَرَاءِ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] وَقَالَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقِبْلَةِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٤٥] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ وَجْهِكَ، وَالْفُقَرَاءُ قِبْلَةُ رَحْمَتِي، فَإِعْرَاضُكَ عَنْ قِبْلَةِ وَجْهِكَ، يُوجِبُ كَوْنَكَ ظَالِمًا، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ قِبْلَةِ رَحْمَتِي كَيْفَ يَكُونُ. وَثَامِنُهَا: الْعَرْشُ قِبْلَةُ الْحَمَلَةِ، وَالْكُرْسِيُّ قِبْلَةُ الْبَرَرَةِ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ قِبْلَةُ السَّفَرَةِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَقُّ قِبْلَةُ الْمُتَحَيِّرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٥] وَثَبَتَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّورِ، وَالْكُرْسِيَّ مِنَ الدُّرِّ، وَالْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنَ الْيَاقُوتِ، وَالْكَعْبَةَ مِنْ جِبَالٍ خَمْسَةٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَا، وَطُورِ زَيْتَا، وَالْجُودِيِّ، وَلُبْنَانَ، وَحِرَاءٍ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي حِكْمَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، قَدْ ذَكَرْنَا شُبْهَةَ الْقَوْمِ فِي إِنْكَارِ هَذَا التَّحْوِيلِ، وَهِيَ أَنَّ الْجِهَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ مُجَرَّدَ الْعَبَثِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْحَكِيمِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْلِيلُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِكَمِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَهُمْ طَرِيقَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَسَّخَ فِي أَوْهَامِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَنَاهُ الْخَلِيلُ وَعَظَّمَهُ، كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهِ أَشَدَّ تَعْظِيمًا وَخُشُوعًا، وَذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَطْلُوبَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِنَاءُ هَذَا الْبَيْتِ سَبَبًا لِظُهُورِ دَوْلَةِ الْعَرَبِ كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي تَعْظِيمِهِ أَشَدَّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانُوا يُعَيِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّا أَرْشَدْنَاكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ لَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَشْوِيشِ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، فَهَذَا يُنَاسِبُ الصَّرْفَ عَنْ تِلْكَ الْقِبْلَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ مَنْشَأُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعْظِيمُ الْكَعْبَةِ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لِأَنَّهُ مَتَى رَسَخَ فِي قَلْبِهِمْ تَعْظِيمُهُ، كَانَ قَبُولُهُمْ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ أَسْرَعَ وَأَسْهَلَ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمَطْلُوبِ مَطْلُوبٌ، فَكَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مُنَاسِبًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا الْيَهُودُ، أُمِرُوا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الْيَهُودِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَالْهِدَايَةُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّمَا هِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ لِلْعِبَادَةِ أَصْلَحُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّيهِمْ إِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الْهِدَايَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الدَّعْوَةَ أَوِ الدَّلَالَةَ أَوْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فِيهِ، وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُمَا عَامَّانِ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي بِأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ مِنَ اللَّهِ تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَافُ فِي كَذلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى يَهْدِي، أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ، كَذَلِكَ أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَثَانِيهَا:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَسَطُ اسْمًا حَرَّكْتَ الْوَسَطَ كَقَوْلِهِ: أُمَّةً وَسَطاً وَالظَّرْفُ مُخَفَّفٌ تَقُولُ:
جَلَسْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْوَسَطِ وَذَكَرُوا أُمُورًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالشِّعْرُ وَالنَّقْلُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [الْقَلَمِ: ٢٨] أَيْ أَعْدَلُهُمْ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رَوَى الْقَفَّالُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمَّةً وَسَطًا قَالَ عَدْلًا»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا»
أَيْ أَعْدَلُهَا، وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ قُرَيْشٍ نَسَبًا،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ»
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ زُهَيْرٍ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ | إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي الْعَظَائِمُ |
إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَدْلُ وَسَطًا لِأَنَّهُ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
وَثَالِثُهَا: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً طَرِيقَةُ الْمَدْحِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى وَصْفًا وَيَجْعَلَهُ كَالْعِلَّةِ فِي أَنْ جَعَلَهُمْ شُهُودًا لَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةَ الرَّسُولِ إِلَّا وَذَلِكَ مَدْحٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَسَطًا) مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَدْحِ فِي بَابِ الدِّينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْدَحَ اللَّهُ الشُّهُودَ حَالَ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ شُهُودًا إِلَّا بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا، فَوَجَبَ أَنْ يكون المراد من الْوَسَطِ الْعَدَالَةَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَعْدَلَ بِقَاعِ الشَّيْءِ وَسَطُهُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ مَعَ سَائِرِ أَطْرَافِهِ عَلَى سَوَاءٍ وَعَلَى اعْتِدَالٍ، وَالْأَطْرَافُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ والفساد والأوسط مَحْمِيَّةٌ مَحُوطَةٌ فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْوَسَطِ صَارَ كَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ قَالُوا: وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أن لفظ الوسط يستعمل في الجامدات قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اكْتَرَيْتُ جَمَلًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بمكة للحج فقال: أعطى مِنْ سَطَا تَهْنَةٍ أَرَادَ مِنْ خِيَارِ الدَّنَانِيرِ وَوَصْفُ الْعَدَالَةِ لَا يُوجَدُ فِي الْجَمَادَاتِ فَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ أَوْسَطُنَا نَسَبًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَكْثَرُ فَضْلًا وَهَذَا وَسَطٌ فِيهِمْ كَوَاسِطَةِ
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وَسَطًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَوَسِّطُونَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفَرِّطِ وَالْمُفْرِطِ وَالْغَالِي وَالْمُقَصِّرِ فِي الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فجعلوا ابناً وإلهاً ولأقصروا كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ فِي قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبْدِيلِ الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَصَّرُوا فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَيْرِيَّتَهُمْ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ فِعْلُ الْأَلْطَافِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ اخْتَارُوا عِنْدَهَا الصَّوَابَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، لَكِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْبَاهِرَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مَعَنَا، أَقْصَى مَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مُنْتَقَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي، وَالْكَلَامُ الْمَنْقُوضُ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: ١٤٢] وَقَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ الْبَعْضَ بِالْهِدَايَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ الْأُخْرَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَقَدْ فَعَلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَائِدَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا:
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فَلَوْ أَقَامُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمْ بِهَا وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَعْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةَ الظاهرة لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ وَالْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مُعَارَضَةٌ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُمْ وَسَطًا غَيْرَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا وَإِلَّا لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بِقَادِرَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سَلَّمْنَا اتِّصَافَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَلَكِنْ لِمَ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ هَذَا الْوَصْفِ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَطْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، سَلَّمْنَا اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْآخِرَةِ فَيَلْزَمُ وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَاكَ لِأَنَّ عَدَالَةَ
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ عَدْلًا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، بَلْ إِذَا اخْتَلَفُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ يَفْعَلُونَ الْقَبِيحَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَهُمْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْناكُمْ خِطَابٌ لِمَجْمُوعِهِمْ لَا لِكُلِّ واحد منهم وحده، على أن وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدْلًا لَكِنَّا نَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الباقي وهذا المعنى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِذَا كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِأَعْيَانِهِمُ افْتَقَرْنَا إِلَى اجْتِمَاعِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، لِكَيْ يَدْخُلَ الْمُعْتَبَرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، مِثَالُهُ: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا قَالَ إِنَّ وَاحِدًا/ مِنْ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ وَوَجَدْنَا أَوْلَادَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَأْيٍ عَلِمْنَاهُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْمُحِقُّ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعُوا سِوَى الْوَاحِدِ عَلَى رَأْيٍ لَمْ نَحْكُمْ بِكَوْنِهِ حَقًّا لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ الَّذِي خَالَفَ، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّا لَوْ مَيَّزَنَا فِي الْأُمَّةِ مَنْ كَانَ مُصِيبًا عَمَّنْ كَانَ مُخْطِئًا كَانَتِ الْحُجَّةُ قَائِمَةً فِي قَوْلِ الْمُصِيبِ وَلَمْ نَعْتَبِرِ الْبَتَّةَ بِقَوْلِ الْمُخْطِئِ قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ وَسَطًا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَالَتِهِمْ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى قُلْنَا: هَذَا مَذْهَبُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَخَيْرِيَّتِهِمْ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ عَنِ الصَّغَائِرِ؟ قُلْنَا: خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ، وَالْخَبَرُ الصِّدْقُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَفِعْلُ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّخْصِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَيُقَالُ: الْخَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَمَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَنْ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ لَا يَقْتَضِي إِخْبَارَهُ تَعَالَى عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْكَبَائِرِ فَضْلًا عَنِ الصَّغَائِرِ، وَكُنَّا قَدْ نَصَرْنَا هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَيْهَا، أَمَّا السُّؤَالُ الْآخَرُ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ خطاب
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا تَقَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ وَجْهَانِ.
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَشْهَدُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَهُمْ، رُوِيَ أَنَّ الْأُمَمَ يَجْحَدُونَ تَبْلِيغَ الْأَنْبِيَاءِ، فَيُطَالِبُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى/ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا وَهُوَ أَعْلَمُ، فَيُؤْتَى بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْهَدُونَ فَتَقُولُ الْأُمَمُ مِنْ أَيْنَ عَرَفْتُمْ فَيَقُولُونَ: عَلِمْنَا ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ النَّاطِقِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الصَّادِقِ، فَيُؤْتَى بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيُسْأَلُ عَنْ حَالِ أُمَّتِهِ فَيُزَكِّيهِمْ وَيَشْهَدُ بِعَدَالَتِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] وَقَدْ طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهُا: أَنَّ مَدَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَنَّ الْأُمَمَ يُكَذِّبُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أن الْقِيَامَةِ قَدْ يَكْذِبُونَ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْقَاضِي، إِلَّا أَنَّا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَامِ: ٢٣، ٢٤].
وَثَانِيهَا: أَنَّ شَهَادَةَ الْأُمَّةِ وَشَهَادَةَ الرَّسُولِ مُسْتَنِدَةٌ فِي الْآخِرَةِ إِلَى شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَمْ يَشْهَدِ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً؟ وَجَوَابُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَضْلِ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْإِيمَانِ بِهِمْ جَمِيعًا، فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ كَالْعَدْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاسِقِ، فَلِذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ إِظْهَارًا لِعَدَالَتِهِمْ وَكَشْفًا عَنْ فَضِيلَتِهِمْ وَمَنْقَبَتِهِمْ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا تُسَمَّى شَهَادَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ»
وَالشَّيْءُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِثْلُ الشَّمْسِ فَوَجَبَ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي خَالَفُوا الْحَقَّ فِيهَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الْأَشْهَادُ أَرْبَعَةٌ. أَوَّلُهَا: الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِثْبَاتِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١] وَقَالَ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: ١٠- ١٢]. وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَاكِيًا عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: ١١٧] وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَقَالَ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ وَالشُّهُودَ هُوَ الرُّؤْيَةُ يُقَالُ:
شَاهَدْتُ كَذَا إِذَا رَأَيْتَهُ وَأَبْصَرْتَهُ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْإِبْصَارِ بِالْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ مُنَاسِبَةٌ شَدِيدَةٌ لَا جَرَمَ قَدْ تُسَمَّى الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ: مُشَاهَدَةً وَشُهُودًا، وَالْعَارِفُ بِالشَّيْءِ: شَاهِدًا وَمُشَاهِدًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ: شَاهِدًا عَلَى الشَّيْءِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بِهَا صَارَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْمُبَيِّنُ لِحَالِهِ جَارِيًا مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ/ الْمُخْبِرُ أَيْضًا شَاهِدًا، ثُمَّ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى جِهَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ حَالَ شَيْءٍ وَكَشَفَ عَنْهُ كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالشَّهَادَةِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا لَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي فَلَا أَقَلَّ مِنْ حُصُولِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ شُهُودًا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ رَتَّبَ كَوْنَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى صَيْرُورَتِهِمْ وَسَطًا تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا حَصَلَ وَصْفُ كَوْنِهِمْ وَسَطًا فِي الدُّنْيَا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ وَصْفُ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ: تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا، وَمُتَحَمِّلُ الشَّهَادَةِ قَدْ يُسَمَّى شَاهِدًا وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقِيَامَةِ قُلْنَا: الشَّهَادَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْآيَةِ لَا التَّحَمُّلُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ الْعَدَالَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، هِيَ الْأَدَاءُ لَا التَّحَمُّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْأُمَّةِ مُؤَدِّينَ لِلشَّهَادَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِنَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُبْطِلُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّا بَيَّنَّا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا شُهُودًا فِي الدُّنْيَا وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ شُهُودًا فِي الْقِيَامَةِ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُمْ: عِنْدَ الْإِجْمَاعِ يُبَيَّنُ لِلنَّاسِ الْحَقُّ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يَعْنِي مُؤَدِّيًا وَمُبَيِّنًا، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ مَعَ ذَلِكَ لَهُمُ الشَّهَادَةُ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْرِي الْوَاقِعُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مَجْرَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا الْحَقَّ عَرَفُوا عِنْدَهُ مَنِ الْقَابِلُ وَمَنِ الرَّادُّ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الْعُقُودِ يَعْرِفُ مَا الَّذِي تَمَّ وَمَا الَّذِي لَمْ يَتِمَّ ثُمَّ يَشْهَدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ كُفْرُهُ وَفِسْقُهُ نَحْوَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أَوْ فِعْلٍ، وَمَنْ كَفَرَ بِرَدِّ النَّصِّ أَوْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ: شُهَدَاءَ لِلنَّاسِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ إِمَّا
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلى قوله إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
واعلم أَنَّ قَوْلَهُ: وَما جَعَلْنَا مَعْنَاهُ مَا شَرَعْنَا وَمَا حَكَمْنَا كَقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣] أَيْ مَا شَرَعَهَا وَلَا جَعَلَهَا دِينًا، وَقَوْلُهُ: كُنْتَ عَلَيْها أَيْ كُنْتَ مُعْتَقِدًا لِاسْتِقْبَالِهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَانَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ، وَقَوْلُهُ: كُنْتَ عَلَيْها لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْقِبْلَةِ، إِنَّمَا هُوَ ثَانِي مَفْعُولَيْ جَعَلَ يُرِيدُ:
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا. ثُمَّ هَاهُنَا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانًا لِلْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ تَأْلِيفًا لِلْيَهُودِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنَقُولُ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها. أَوَّلًا: يَعْنِي وَمَا رَدَدْنَاكَ إِلَيْهَا إِلَّا امْتِحَانًا لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها لِسَانًا لِلْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ أَمْرِكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ وَأَنَّ اسْتِقْبَالَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَانَ أَمْرًا عَارِضًا لِغَرَضٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِكَ هَذَا، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، لِنَمْتَحِنَ النَّاسَ وَنَنْظُرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ لَا يَتَّبِعُهُ وَيَنْفِرُ عَنْهُ. وَهَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَقَالَ: لَوْلَا الرِّوَايَاتُ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى قِبْلَةٍ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كُنْتَ بِمَعْنَى صِرْتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَقَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي مَعْنَى لَمْ يَزَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النِّسَاءِ: ١٥٨] فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أَيِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ عَلَيْهَا وَهِيَ الْكَعْبَةُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ لَامُ الْغَرَضِ وَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْغَرَضُ عَلَى اللَّهِ أَوْ لَا يَصِحُّ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَصِحَّ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَمَا جَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا إِلَّا لِنَعْلَمَ كَذَا يُوهِمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لِيَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ الْعِلْمُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْلَمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: ٣١] وَقَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ/ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الْأَنْفَالِ: ٦٦] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وَقَوْلُهُ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [الْعَنْكَبُوتِ: ٣] وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ [سبأ: ٢١] والكلام في هذه المسألة أمر مُسْتَقْصًى فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى وَالْمُفَسِّرُونَ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَعْلَمَ حِزْبُنَا مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: فَتَحْنَا الْبَلْدَةَ
قول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ ينبغي له أن يشتمني يقول وا دهراه وَأَنَا الدَّهْرُ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ أَهَانَنِي».
وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ لِيَحْصُلَ الْمَعْدُومُ فَيَصِيرَ مَوْجُودًا، فَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُدُوثَ الْعِلْمِ، قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُوجَدُ هَلْ هُوَ عُلِمَ بِوُجُودِهِ إِذَا وُجِدَ الْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا لِنُمَيِّزَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِانْكِشَافِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، فَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يُوَالُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ يُعَادُونَ، فَسَمَّى التَّمْيِيزَ عِلْمًا، لِأَنَّهُ أَحَدُ فَوَائِدِ الْعِلْمِ وَثَمَرَاتِهِ. وَرَابِعُهَا: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِنَرَى، وَمَجَازُ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ [الفجر: ٦] [الفيل: ١] [إبراهيم: ١٩] وَرَأَيْتُ، وَعَلِمْتُ، وَشَهِدْتُ، أَلْفَاظٌ مُتَعَاقِبَةٌ. وَخَامِسُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَمِثَالُهُ أَنَّ جَاهِلًا وَعَاقِلًا اجْتَمَعَا، فَيَقُولُ الْجَاهِلُ: الْحَطَبُ يَحْرِقُ النَّارَ، وَيَقُولُ الْعَاقِلُ: بَلِ النَّارُ تَحْرِقُ الْحَطَبَ، وَسَنَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِنَعْلَمَ أَيُّهُمَا يَحْرِقُ صَاحِبَهُ مَعْنَاهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّنَا الْجَاهِلُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ إِلَّا لِتَعْلَمُوا وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْكَلَامِ: الِاسْتِمَالَةُ وَالرِّفْقُ فِي الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [سَبَأٍ: ٢٤] فَأَضَافَ الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترفيقاً لِلْخِطَابِ وَرِفْقًا بِالْمُخَاطَبِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَسَادِسُهَا:
نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ الَّذِي كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، إِذِ الْعَدْلُ يُوجِبُ ذَلِكَ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ مَعْنَاهُ: إِلَّا لِيَحْصُلَ اتِّبَاعُ الْمُتَّبِعِينَ، وَانْقِلَابُ الْمُنْقَلِبِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِكَ: مَا عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنِّي أَيْ مَا كَانَ هَذَا مِنِّي وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَلِمَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمِحْنَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ بِسَبَبِ تَحْوِيلِهَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمَدِينَةَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا حَوَّلَهُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ قَالُوا: هَذِهِ الْمِحْنَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ التَّحْوِيلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ لَمَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ، رَوَى الْقَفَّالُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَقَالُوا مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ/ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا بَالُهُمْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ ثُمَّ تَرَكُوهَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَسْنَا نَعْلَمُ حَالَ إِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِ أَبِيهِ وَمَوْلِدِهِ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَحَيَّرَ فِي دِينِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ أَوْلَى لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَمْرِ النَّسْخِ أَعْظَمُ مِنَ الشُّبْهَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَبِيرَةِ فَقَالَ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ اسْتِعَارَةٌ وَمَعْنَاهُ: مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الْمُنْقَلِبَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَدْ تَرَكَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَدْبَرَ عَنْهُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ وَالدَّلَائِلَ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُدْبِرِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَوُصِفُوا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٢٣] وَكَمَا قَالَ: كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] وَكُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «إِنْ» الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ، مَعْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: جَزَاءٌ، وَمُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجَحْدٌ، وَزَائِدَةٌ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَهِيَ تُفِيدُ رَبْطَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَالْمُسْتَلْزَمُ هُوَ الشَّرْطُ وَاللَّازِمُ هُوَ الْجَزَاءُ كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَهِيَ تُفِيدُ تَوْكِيدَ المعنى في الجملة بمنزلة «إِنَّ» الْمُشَدَّدَةِ كَقَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطَّارِقِ: ٤] وَقَالَ: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ: ١٠٨] وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَالْغَرَضُ فِي تَخْفِيفِهَا إِيلَاؤُهَا مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلِيَهَا مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتِ اللَّامُ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةَ لِلْعِوَضِ عَمَّا حُذِفَ مِنْهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي لِلْجَحْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الْمُلْكِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأحقاف: ٩] إِذْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَلِيهَا الِاسْمُ وَالْفِعْلُ جَمِيعًا كَمَا وَصَفْنَا، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ:
وَهِيَ الَّتِي لِلْجَحْدِ، كَقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ٥٧] وَقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] وَقَالَ: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [فَاطِرٍ: ٤١] أَيْ مَا يُمْسِكُهُمَا، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ وَهِيَ الزَّائِدَةُ فَكَقَوْلِكَ: مَا إِنْ رَأَيْتَ زَيْدًا.
إِذَا عَرَفَتْ هَذَا فَنَقُولُ: «إِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: ١٤٣] هِيَ الْمُخَفَّفَةُ الَّتِي تَلْزَمُهَا اللَّامُ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا تَوْكِيدُ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كانَتْ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَذْكُورٍ سَابِقٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْقِبْلَةُ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [البقرة: ١٤٣] الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ وَهِيَ مُفَارَقَةُ الْقِبْلَةِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلتَّوْلِيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ثُمَّ قَالَ عَطْفًا عَلَى هَذَا: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أَيْ وَإِنْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا وَلَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى التَّوْلِيَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ: ١٢١] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْفِعْلَةُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ أَنَّ الِامْتِحَانَ/ وَالِابْتِلَاءَ حَصَلَ بِنَفْسِ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ النَّسْخِ أَقْوَى مِنَ الْإِشْكَالِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَبِيرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَبِيرَةً فَالْمَعْنَى: لَثَقِيلَةً شَاقَّةً مُسْتَنْكَرَةً كَقَوْلِهِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْفِ: ٥] أَيْ: عَظُمَتِ الْفِرْيَةُ بِذَلِكَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّورِ: ١٦] وَقَالَ:
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَابِ: ٥٣] ثُمَّ إِنَّا إِنْ قُلْنَا الِامْتِحَانُ وَقَعَ بِنَفْسِ الْقِبْلَةِ، قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَهَا ثَقِيلٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ طَرِيقَةِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ وَإِنْ قُلْنَا: الِامْتِحَانُ وَقَعَ بِتَحْرِيفِ الْقِبْلَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا لَثَقِيلَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَرَفَ مَسْأَلَةَ النَّسْخِ وَتَخَلَّصَ عَمَّا فِيهَا مِنَ السُّؤَالَاتِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ثَقِيلٌ صَعْبٌ إِلَّا عَلَى مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ لَا
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ إِمَّا الدَّعْوَةُ أَوْ وَضْعُ الدَّلَالَةِ أَوْ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ هَاهُنَا بَاطِلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهَا ثَقِيلَةً عَلَى الْكُلِّ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ، وَوَضْعُ الدَّلَائِلِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْقُلَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ هَاهُنَا خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ فَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَرَادَ بِهِ الِاهْتِدَاءَ. وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهُدَى اللَّهِ فَغَيْرُهُمْ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: [فيمن ماتوا على القبلة الْأُولَى] أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَغَيْرِهِمْ مَاتُوا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَقَالَ عَشَائِرُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ إِخْوَانُنَا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَكَيْفَ حَالُهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا السَّبَبِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَّصِلْ بَعْضُ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ إِلَّا مَعَ الْبَدَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَفْسَدَةً وَبَاطِلًا فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ ضَائِعَةً، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّسْخَ نَقْلٌ مِنْ مَصْلَحَةٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ/ وَمِنْ تَكْلِيفٍ إِلَى تَكْلِيفٍ، وَالْأَوَّلُ كَالثَّانِي فِي أَنَّ الْقَائِمَ بِهِ مُتَمَسِّكٌ بِالدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ أَجْرُهُ وَنَظِيرُهُ: مَا سَأَلُوا بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَمَّنْ مَاتَ وَكَانَ يَشْرَبُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ [الْمَائِدَةِ: ٩٣] فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الشَّكُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ تَجْوِيزِ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ وَقَعَ لِمُنَافِقٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِيَذْكُرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ فَقَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا مِمَّنْ مَاتَ أَدْرَكَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا:
لَعَلَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ دَفْعًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ لَوْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي نَقْلِكُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ أَقَرَّكُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ إِضَاعَةً عَنْهُ لِصَلَاتِكُمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَالِيَةً عَنِ الْمَصَالِحِ فَتَكُونُ ضَائِعَةً وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ مَا عَمِلُوهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ خِطَابٌ مَعَ من؟ على قولين: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَرْبَعَةً. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ جَوَابٌ عَمَّا سَأَلُوهُ مِنْ قَبْلُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتَ قَبْلَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ وَإِذَا كَانَ إِيمَانُكُمُ الْمَاضِي قَبْلَ النَّسْخِ لَا يُضِيعُهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ إِيمَانُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ النَّسْخِ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْيَاءُ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نُسِخَ بَطَلَ، وَكَانَ مَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ كَفَّارَةً لِمَا سَلَفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّأْوِيلِ فَسَأَلُوا عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَأْتُوا بِمَا يُكَفِّرُ مَا سَلَفَ فَقِيلَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وَالْمُرَادُ أَهْلُ مِلَّتِكُمْ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَةِ: ٧٢]، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَةِ: ٥٠]. الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَنِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مَعًا، فَإِنَّهُمْ أَشْفَقُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ صَلَاتِهِمْ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَهُمْ، وَكَانَ الْإِشْفَاقُ وَاقِعًا فِي الْفَرِيقَيْنِ فَقِيلَ: إِيمَانُكُمْ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ أَنْ يُغَلِّبُوا الْخِطَابَ فَيَقُولُوا: كُنْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ الْغَائِبُ فَعَلْتُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ صَلَاتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا الْقَوْلَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِي شَرْعِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةَ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنَّهُ لَا يُضِيعُ تَصْدِيقَكُمْ بِوُجُوبِ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ الْإِيمَانِ وَأَشْرَفُ نَتَائِجِهِ وَفَوَائِدِهِ فَجَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ لَا يُضِيعُ ثَوَابَ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدِ انْقَضَى وَفَنِيَ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ إِلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ قَائِمٌ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَصَحَّ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥] أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنَّ الرَّأْفَةَ مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النُّورِ: ٢] أَيْ لَا تَرْأَفُوا بِهِمَا فَتَرْفَعُوا الْجَلْدَ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ويدخل فيه الانفصال وَالْإِنْعَامُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَطَرَ رَحْمَةً فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] لِأَنَّهُ إِفْضَالٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْعَامٌ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّأْفَةَ أَوَّلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَعْمَالَهُمْ وَيُخَفِّفُ الْمِحَنَ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ لِتَكُونَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي وَجْهِ تَعَلُّقِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحج: ٦٥] وَالرَّءُوفُ الرَّحِيمُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ هَذِهِ الْإِضَاعَةُ. وثانيها: أنه لرؤف رَحِيمٌ فَلِذَلِكَ يَنْقُلُكُمْ مِنْ شَرْعٍ إِلَى شَرْعٍ آخَرَ وَهُوَ أَصْلَحُ لَكُمْ وَأَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رَحِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَمْرٌو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وأبو بكر عن عاصم: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مَهْمُوزًا غَيْرَ مُشْبَعٍ عَلَى وَزْنِ رَعُفٍ والباقون لَرَؤُفٌ مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا مُشْبَعًا عَلَى وَزْنِ رَعُوفٍ وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ رَئِفٍ أَيْضًا كَحَزِرٍ، وَرَأْفٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَلَا الْفَسَادَ قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ بالناس لرؤف رَحِيمٌ، وَالْكُفَّارُ مِنَ النَّاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رؤفاً رَحِيمًا بِهِمْ، / وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِيهِمُ الْكُفْرَ الَّذِي يَجُرُّهُمْ إِلَى الْعِقَابِ الدَّائِمِ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَلَوْ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَعَ مثل هذا الإضرار رؤفاً رَحِيمًا فَعَلَى أَيِّ طَرِيقٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يكون رؤفاً رَحِيمًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِانْتِظَارِ تَحْوِيلِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ويجب التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ فَكَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى،
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى غَيْرِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: «أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ رَبَّكَ ذَلِكَ» فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ بِمَا سَأَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
وَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ أُمُورًا. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُخَالِفُنَا ثُمَّ إِنَّهُ يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا وَلَوْلَا نَحْنُ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْتَقْبِلُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يُصَيِّرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَالَةِ الْعَرَبِ وَلِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الشَّرَفُ لِلْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَلْدَتِهِ وَمَنْشَئِهِ لَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكْرَهَ قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحَوِّلَهُ رَبُّهُ عَنْهَا إِلَى قِبْلَةٍ يَهْوَاهَا بِطَبْعِهِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهَا بِحَسَبِ شَهْوَتِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ وَعَلَّمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي خِلَافِ الطَّبْعِ وَالْمَيْلِ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَسْأَلُوا مَا لَا صَلَاحَ فِيهِ فَلَا يُجَابُوا إِلَيْهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي الْإِجَابَةِ عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ إِلَيْهِ فَكَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ فِي الْإِجَابَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى قِبْلَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يُحَوِّلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ قِبْلَةٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام فأمره أن يصل نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعَ مِنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ الْقِبْلَةُ، فَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَرِدَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَظْهَرِ الْقِبْلَةُ فَتَتَأَخَّرَ صَلَاتُهُ فَلِذَلِكَ كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ عَنِ الْأَصَمِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ وُعِدَ بِذَلِكَ وَقِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَاقِيَةٌ بِحَيْثُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا، لَكِنْ لِأَجْلِ الْوَعْدِ كَانَ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو عِنْدَ التَّحْوِيلِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ، نَحْوَ: رَغْبَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَايَنَةِ عَنِ الْيَهُودِ، وَتَمْيِيزِ الْمُوَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَلِهَذَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى، وَإِلَّا لَمَا كَانَتِ الْقِبْلَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِلْأُولَى، بَلْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا مَعَ بَيَانِ مَوْضِعِ التَّوَجُّهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ تَقَلُّبَ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الدُّعَاءُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، قَالُوا: لَوْلَا الْأَخْبَارُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِمَكَّةَ جَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَهَذِهِ صَلَاةٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ لَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فَانْتَظَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ وَبِالْمَدِينَةِ أَوَّلًا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا/ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ فَرْضًا مُحَقَّقًا بِلَا تخيير.
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : أَنَّ نَفَرًا قَصَدُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْبَيْعَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِيهِمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، فَتَوَجَّهَ بِصَلَاتِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي طَرِيقِهِ، وَأَبَى الْآخَرُونَ وَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ- يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ- لَوْ ثَبَتَّ عَلَيْهَا أَجْزَأَكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ، وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَرْتَضِي الْقِبْلَةَ الْأُولَى، فَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ مَا كَانَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَحَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَا يَرْتَضِيهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا صَارَ مَنْسُوخًا بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَثَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم ذكر بعد:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: ١٤٢] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَذْهَبِ الَّذِي قُلْنَاهُ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ وَالدَّرَجَةِ عَنْ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا الْأَثَرُ فما روي عن ابن عباس أَمْرَ الْقِبْلَةِ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، لَا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فَلَنُعْطِيَنَّكَ وَلَنُمَكِّنَنَّكَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا مِنْ قَوْلِكَ وَلَّيْتُهُ كَذَا، إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمة بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تَرْضاها فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: تَرْضَاهَا تُحِبُّهَا وَتَمِيلُ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ/ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا بِحَسَبِ مَيْلِ الطَّبْعِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً يَمِيلُ طَبْعُكَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا يُكَلِّفُ، وَيَقْدَحُ فِي حَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُرِيدُهُ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الطَّعْنَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
إِنَّا حَوَّلْنَاكَ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي مَالَ طَبْعُكَ إِلَيْهَا بِمُجَرَّدِ مَيْلِ طَبْعِكَ فَأَمَّا لَوْ قَالَ: إِنَّا حَوَّلْنَاكَ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي مَالَ طَبْعُكَ إِلَيْهَا لِأَجْلِ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ وَافَقَتْ مَيْلَ طَبْعِكَ فَأَيُّ ضَرَرٍ يَلْزَمُ مِنْهُ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
فَكَانَ طَبْعُهُ يَمِيلُ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: قِبْلَةً
أَيْ تُحِبُّهَا بِسَبَبِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: أَيْ كُلَّ جِهَةٍ وَجَّهَكَ اللَّهُ إِلَيْهَا فَهِيَ لَكَ رِضًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْخَطَ، كَمَا فَعَلَ مَنِ انْقَلَبَ على عقيبه مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ ارْتَدُّوا. وَرَابِعُهَا: تَرْضاها أَيْ تَرْضَى عَاقِبَتَهَا لِأَنَّكَ تَعْرِفُ بِهَا مَنْ يَتَّبِعُكَ لِلْإِسْلَامِ، فَمَنْ يَتَّبِعُكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهِ هَاهُنَا جُمْلَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِجُمْلَتِهِ لَا بِوَجْهِهِ فَقَطْ وَالْوَجْهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ وَلِأَنَّ بِالْوَجْهِ تُمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الشَّطْرُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ يُقَالُ: شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَجْلِبُ جَلْبًا لَكَ شَطْرُهُ أَيْ نِصْفُهُ. وَالثَّانِي: نَحْوَهُ وَتِلْقَاءَهُ وِجْهَتَهُ، وَاسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ «الرِّسَالَةِ» على هذا بأبيات أربعة: قال خقاف بْنُ نُدْبَةَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وَقَالَ سَاعِدَةُ بن جؤبة:
أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ: أَقِيمِي... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وَقَالَ لَقِيطٌ الْإِيَادِيُّ:
وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ شِعْرِكُمُ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعَا
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّ الْعَسِيرَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا... فَشَطْرُهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْحُورُ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُرِيدُ تِلْقَاءَهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْحُورٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ جِهَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتِلْقَاءَهُ وَجَانِبَهُ، قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ/ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّطْرِ هَاهُنَا: وَسَطُ الْمَسْجِدِ وَمُنْتَصَفُهُ لِأَنَّ الشَّطْرَ هو النصف، والكعبة واقعة في نصف المسجد من جميع الجوانب، فلما كان الجواب هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ وَاقِعَةً في الْمَسْجِدِ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَكَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَوْ وَقَفَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى مُنْتَصَفِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِالْجَانِبِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الشَّطْرِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ، أَمَّا لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ
أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ،
قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي صَرْفِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِي خَبَرِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يجب أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ: فَأَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَفِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَنَسٍ: جَاءَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ فَنَادَى: إِنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهَكَذَا عَامَّةُ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كُلُّهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ يجب إجزاؤه على ظاهر لفظ إِلَّا إِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَقَالَ/ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مُسَمًّى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: الْجَمَاعَةُ إِذَا صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُسْتَحِبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ خَلْفَ الْمَقَامِ وَالْقَوْمُ يَقِفُونَ مُسْتَدِيرِينَ بِالْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْإِمَامِ جَازَ، فَلَوِ امْتَدَّ الصَّفُّ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجِهَةَ كَافِيَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَطْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَانِبُهُ وَجَانِبُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُحَاذِيًا لَهُ وَوَاقِعًا فِي سَمْتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جَانِبِ عَمْرٍو وَلَوْ قَابَلَ بِوَجْهِهِ وَجْهَهُ وَجَعَلَهُ مُحَاذِيًا لَهُ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَجْهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَجْهُ أَحَدِهِمَا مُحَاذِيًا لِوَجْهِ الْآخَرِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى جَانِبِ عَمْرٍو فَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا قِبْلَةَ إِلَّا عَيْنُ الْكَعْبَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي أَنَّ الْقِبْلَةَ
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»،
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَيْنَ مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ فَهُوَ قِبْلَةٌ: لِأَنَّ جَانِبَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِقِبْلَةٍ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ مَشْرِقٍ مُعَيَّنٍ وَمَغْرِبٍ مُعَيَّنٍ قِبْلَةٌ وَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَشْرِقِ الشِّتْوِيِّ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ الصَّيْفِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ قِبْلَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْرِقَ الشِّتْوِيَّ جَنُوبِيٌّ مُتَبَاعِدٌ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمِقْدَارِ الْمَيْلِ وَالْمَغْرِبَ الصَّيْفِيَّ شَمَالِيٌّ مُتَبَاعِدٌ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمِقْدَارِ الْمَيْلِ وَالَّذِي بَيْنَهُمَا هُوَ سَمْتُ مَكَّةَ قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَذْهَبِنَا أَوْلَى مِنْهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَذْهَبِكُمْ أَمَّا فِعْلُ/ الصَّحَابَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ مَسْجِدِ قُبَاءَ كَانُوا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْمَدِينَةِ مُسْتَقْبِلِينَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، مُسْتَدْبِرِينَ لِلْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ لَهُمْ: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ دَلَالَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَسُمِّيَ مَسْجِدُهُمْ بِذِي الْقِبْلَتَيْنِ، وَمُقَابَلَةُ الْعَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِأَدِلَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ يَطُولُ النَّظَرُ فِيهَا فَكَيْفَ أَدْرَكُوهَا عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَفِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَوُا الْمَسَاجِدَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُحْضِرُوا قَطُّ مُهَنْدِسًا عِنْدَ تَسْوِيَةِ الْمِحْرَابِ، وَمُقَابَلَةُ الْعَيْنِ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِدَقِيقِ نَظَرِ الْهَنْدَسَةِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا إِمَّا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ أَحَدٍ قَطُّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ مِقْدَارَ نَيْفٍ وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقِفُوا فِي مُحَاذَاةِ هَذَا الْمِقْدَارِ، بَلِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُمْ فِي مُحَاذَاةِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثِيرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُحَاذَاتِهَا، وَحَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُحَاذَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَإِنْ قِيلَ: الدَّائِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ النُّقَطِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهَا تَكُونُ مُحَاذِيَةً لِمَرْكَزِ الدَّائِرَةِ فَالصُّفُوفُ الْوَاقِعَةُ فِي الْعَالَمِ بِأَسْرِهَا كَأَنَّهَا دَائِرَةٌ بِالْكَعْبَةِ، وَالْكَعْبَةُ كَأَنَّهَا نُقْطَةٌ لِتِلْكَ الدَّائِرَةِ إِلَّا أَنَّ الدَّائِرَةَ إِذَا صَغُرَتْ صَغُرَ التَّقَوُّسُ وَالِانْحِنَاءُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنِ اتَّسَعَتْ وَعَظُمَتْ لَمْ يَظْهَرِ التَّقَوُّسُ وَالِانْحِنَاءُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْهَا، بَلْ نَرَى كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا شَبِيهًا بِالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّتِ الْجَمَاعَةُ بِصَفٍّ طَوِيلٍ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَزِيدُ طُولُهَا عَلَى أَضْعَافِ الْبَيْتِ، وَالْكُلُّ يُسَمَّوْنَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَلَكِنَّ الْقِطْعَةَ مِنَ الدَّائِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ فِي الْحِسِّ، إِلَّا أَنَّهَا لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ منحية فِي نَفْسِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا مُسْتَقِيمَةً، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ قِطَعِ تِلْكَ الدَّائِرَةِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الدَّائِرَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ خُطُوطٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ
أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالدَّلَالَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ الدَّلَالَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَنَا اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْجِهَةِ وَاجِبٌ ظَنًّا لَا يَقِينًا، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ يَقِينًا لَا ظَنًّا، قُلْنَا: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبًا لَكَانَ الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، وَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ تَعَلُّمِ الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَاجِبٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ وَاجِبًا إِمَّا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ الظَّنِّ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمَارَاتِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ تِلْكَ الْأَمَارَاتِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْعَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ إِمَّا أَرْضِيَّةٌ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْجِبَالِ، وَالْقُرَى، وَالْأَنْهَارِ، أَوْ هَوَائِيَّةٌ وَهِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالرِّيَاحِ، أَوْ سَمَاوِيَّةٌ وهي النجوم.
أما الأرضية والهوائية غير مَضْبُوطَةٍ ضَبْطًا كُلِّيًّا، فَرُبَّ طَرِيقٍ فِيهِ جَبَلٌ مُرْتَفِعٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ أَوْ شِمَالِهِ أَوْ قُدَّامَهُ أَوْ خَلْفَهُ، فَكَذَلِكَ الرِّيَاحُ قَدْ تَدُلُّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَلَسْنَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ، إِذْ كُلُّ بَلَدٍ بِحُكْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا السَّمَاوِيَّةُ فَأَدِلَّتُهَا مِنْهَا تَقْرِيبِيَّةٌ وَمِنْهَا تَحْقِيقِيَّةٌ، أَمَّا التَّقْرِيبِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَهَارِيَّةً أَوْ لَيْلِيَّةً، أَمَّا النَّهَارِيَّةُ فَالشَّمْسُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُرَاعَى قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ أَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ الزَّوَالِ أَهِيَ بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، أَمْ هِيَ عَلَى الْعَيْنِ الْيُمْنَى أَمِ الْيُسْرَى، أَوْ تَمِيلُ إِلَى الْجَبِينِ مَيْلًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّمْسَ لَا تَعْدُو فِي الْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ، وَكَذَلِكَ يُرَاعَى مَوْقِعُ الشَّمْسِ وَقْتَ الْعَصْرِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَوْضِعِ الْغُرُوبِ، وَهُوَ أَنْ يُعْرَفَ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ عَنْ يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ، أَوْ هِيَ مَائِلَةٌ إِلَى وَجْهِهِ أَوْ قَفَاهُ، وَكَذَلِكَ يُعْرَفُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمَوْضِعِ الشَّفَقِ، وَيُعْرَفُ وَقْتُ الصُّبْحِ بمشرق الشمس، فكأن الشَّمْسُ تَدُلُّ عَلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَأَمَّا اللَّيْلِيَّةُ فَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْقِبْلَةِ بِالْكَوْكَبِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْجَدْيُ، فَإِنَّهُ كَوْكَبٌ كَالثَّابِتِ لَا تَظْهَرُ حَرَكَتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى قَفَا الْمُسْتَقْبِلِ أَوْ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ
وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْيَقِينِيَّةُ وَهِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي كُتُبِ الْهَيْئَةِ قَالُوا: سَمْتُ الْقِبْلَةِ نُقْطَةُ التَّقَاطُعِ بَيْنَ دَائِرَةِ الْأُفُقِ، وَبَيْنَ دَائِرَةٍ عَظِيمَةٍ تَمُرُّ بسمت رؤسنا ورؤوس أَهْلِ مَكَّةَ، وَانْحِرَافُ الْقِبْلَةِ قَوْسٌ مِنْ دَائِرَةِ الْأُفُقِ مَا بَيْنَ سَمْتِ الْقِبْلَةِ دَائِرَةُ نِصْفِ النَّهَارِ فِي بَلَدِنَا، وَمَا بَيْنَ سَمْتِ الْقِبْلَةِ وَمَغْرِبِ الِاعْتِدَالِ تَمَامُ الِانْحِرَافِ قَالُوا: وَيَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ سَمْتِ الْقِبْلَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ طُولِ مَكَّةَ وَعَرْضِهَا، فَإِنْ كَانَ طُولُ الْبَلَدِ مُسَاوِيًا لِطُولِ مَكَّةَ وَعَرْضُهَا مُخَالِفٌ لِعَرْضِ مَكَّةَ، كَانَ سَمْتُ قِبْلَتِهَا عَلَى خَطِّ نِصْفِ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ شَمَالِيًّا فَإِلَى الْجَنُوبِ وَإِنْ كَانَ جَنُوبِيًّا فَإِلَى الشَّمَالِيِّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَرْضُ الْبَلَدِ مُسَاوِيًا لِعَرْضِ مَكَّةَ وَطُولُهُ مُخَالِفًا لِطُولِهَا فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ سَمْتَ قِبْلَةِ ذَلِكَ الْبَلَدِ عَلَى خَطِّ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ ظَنٌّ خَطَأٌ وَقَدْ يُمْكِنُ أَيْضًا فِي الْبِلَادِ الَّتِي أَطْوَالُهَا وَعُرُوضُهَا مُخَالِفَةٌ لِطُولِ مَكَّةَ وَعَرْضِهَا، أَنْ يَكُونَ سَمْتُ قِبْلَتِهَا مطلع الاعتدال ومعربه وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِخْرَاجِ قَدْرِ الِانْحِرَافِ وَلِذَلِكَ طُرُقٌ أَسْهَلُهَا أَنْ يُعْرَفَ الجزء الذي يسامت رؤس أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَهُوَ (زَيْحٌ) مِنَ الْجَوْزَاءِ (وَكَجٌّ ح) مِنْ السَّرَطَانِ فَيَضَعُ ذَلِكَ الْجُزْءَ عَلَى خَطٍّ وَسَطَ السَّمَاءِ فِي الِاسْطِرْلَابِ الْمَعْمُولِ لِعَرْضِ الْبَلَدِ، وَيُعَلِّمُ عَلَى الْمَرْئِيِّ عَلَامَةً، ثُمَّ يُدِيرُ الْعَنْكَبُوتَ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ شَرْقِيًّا عَنْ مَكَّةَ كَمَا فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الطُّولَيْنِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَجَرَةِ ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْنَ وَقَعَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ مُقَنْطَرَاتِ الِارْتِفَاعِ فَمَا كَانَ فَهُوَ الِارْتِفَاعُ الَّذِي عِنْدَهُ يُسَامِتُ ذَلِكَ الجزء رؤوس أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ يَرْصُدُ مُسَامَتَةَ الشَّمْسِ ذَلِكَ الْجُزْءُ فَإِذَا انْتَهَى ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ إِلَى ذَلِكَ الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أَهْلِ مَكَّةَ فَيَنْصِبُ مِقْيَاسًا وَيَخُطُّ عَلَى ظِلِّ الْمِقْيَاسِ خَطًّا مِنْ مَرْكَزِ الْعَمُودِ إِلَى طَرَفِ الظِّلِّ فَذَلِكَ الْخَطُّ خَطُّ الظِّلِّ فَيَبْنِي عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فَرْضٌ عَلَى الْعَيْنِ أَمْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا فَرْضٌ عَلَى الْعَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِقْبَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِقْبَالُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ، وَمَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعلم أن قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ خَارِجَ الصَّلَاةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ إِنَّهُ طَاعَةٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ»
فَبَقِيَ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ خَوَاصِّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الرَّجُلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَايِنًا لِلْقِبْلَةِ أَوْ غَائِبًا عَنْهَا، أَمَّا الْمُعَايِنُ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَأَمَّا الْغَائِبُ فَإِمَّا أن يكون قادر عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِ الظن فهذه أقسام ثلاثة:
[أقسام الأشخاص بالنسبة إلى القبلة] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْغَائِبَ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُصَلِّي إِذَا كَانَ بِأَرْضِ مَكَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» نُظِرَ إِنْ كَانَ الْحَائِلُ أَصْلِيًّا كَالْجِبَالِ فَلَهُ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا كَالْأَبْنِيَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلًا يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ كَمَا فِي الْحَائِلِ الْأَصْلِيِّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ فَرْضَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالْمُكَلَّفُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْيَقِينِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَحْصِيلِ هَذَا الظَّنِّ طُرُقًا:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: الِاجْتِهَادُ وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِاجْتِهَادَ يُقَدَّمُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ الْقِبْلَةَ بِالتَّقْلِيدِ أَيْضًا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ وَهُمَا بَاطِلَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَوْلَى أَمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِ الِاجْتِهَادِ؟
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الخطأ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَلَّدَ صَاحِبُ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ تَطَرَّقَ إِلَى عَمَلِهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ فَأَقَلُّهُمَا خَطَأً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم»
فههنا أُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ صَاحِبَ «التَّهْذِيبِ» ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ وَجَدَ مِحْرَابًا أَوْ عَلَامَةً لِلْقِبْلَةِ فِي طَرِيقٍ هِيَ جَادَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْجِهَةِ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ كَالْيَقِينِ، أَمَّا فِي الِانْحِرَافِ يَمْنَةٌ أَوْ يَسْرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مَعَ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ: تَيَاسَرُوا يَا أَهْلَ مَرْوَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ بِأَنْ قَالَ، رَأَيْتُ غَالِبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَعَلَيْهِ قَبُولُهُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَقْلِيدٍ، بَلْ هُوَ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا إِذَا/ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ: إِنِّي رَأَيْتُ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ أَوِ الشَّمْسَ قَدْ زَالَتْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ، هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ»، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ إِلَّا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْغَيْرِ أَوْ فِعْلَهُ فِي تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ كَانَ هَذَا تَقْلِيدًا، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَوَّزَ الْمُخَالَفَةَ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ فَنَقُولُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ كَمَا فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ. وَثَالِثُهَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قال: اجتهد برأي مدحه الرسول
الطَّرِيقُ الثَّانِي: الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ، مِثْلُ مَا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ عَنْ كَوْنِ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَهَذَا يُفِيدُ ظَنَّ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَرْطَيْنِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ، فَلَا عِبْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بقول الكافر والمجنون ولا بعلمها، وَاخْتَلَفُوا فِي شَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ. أَوَّلُهَا: الْبُلُوغُ. حَكَى الْخُيْضَرِيُّ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ أَيْضًا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ. وَثَانِيهَا: الْعَدَالَةُ قَالُوا: لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ لِأَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ. وَثَالِثُهَا: الْعَدَدُ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ لَا سِيَّمَا الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْعَدَدَ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْعَدَدَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَحْكَامٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ يُفِيدُ ظَنًّا أَقْوَى كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ يُفِيدُ ظَنَّا أَضْعَفَ مِثَالُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْمُتَيَقِّنِ رَاجِحٌ عَلَى تَقْلِيدِ الظَّانِّ بِالِاجْتِهَادِ، وَتَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ الظَّانِّ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ، فَالْأَوْلَى لَهُ تَحْصِيلُ الِاجْتِهَادِ حَتَّى تَصِيرَ الصَّلَاةُ قَضَاءً أَوْ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ حَتَّى تَبْقَى الصَّلَاةُ أَدَاءً فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ حِينَ الصَّلَاةِ بَلْ يَجِبُ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: إِنْ شَاهَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِحْرَابًا مَنْصُوبًا جَازَ لَهُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ/ الَّذِي تَقَدَّمَ، أَمَّا إِذَا رَأَى الْقِبْلَةَ مَنْصُوبَةً فِي طَرِيقٍ يَقِلُّ فِيهِ مُرُورُ النَّاسِ أَوْ فِي طَرِيقٍ يَمُرُّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَلَا يَدْرِي مَنْ نَصَبَهَا أَوْ رَأَى مِحْرَابًا فِي قَرْيَةٍ وَلَا يَدْرِي بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ أَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ أَهْلِهَا مُطَّلِعِينَ عَلَى دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَقَوْلِ الْغَيْرِ، وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ إِنْسَانٌ بِمَوَاقِعِ الْكَوَاكِبِ وَكَانَ هُوَ عالماً بالاستدلال بها على القبلة، فههنا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَالُ بِمَا يَسْمَعُ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ رُؤْيَتِهَا بِنَفْسِهِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِي عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ الْكَائِنُ فِي الظُّلْمَةِ الَّتِي خَفِيَتِ الْأَمَارَاتُ بِأَسْرِهَا عَلَيْهِ أَوِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ، أَوْ تَعَارَضَتِ الْأَمَارَاتُ لَدَيْهِ وَعَجَزَ عَنِ التَّرْجِيحِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مَنْفِيٌّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أحد أمور ثلاثة: إما أن يقال التكاليف بِالصَّلَاةِ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَتَعَذُّرُ الشَّرْطِ يُوجِبُ سُقُوطَ التكليف بالمشروط، فههنا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، أَوْ يُقَالُ: شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ قَدْ سَقَطَ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِعُذْرٍ أَقَلَّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ حَالُ الْمُسَابَقَةِ فَيَسْقُطُ هَاهُنَا أَيْضًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَأْتِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ
البحث الثاني: أنه إذا مال قبله إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون ذلك الترجيح مبنياً على الاستدلال، بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا اجْتِهَادًا، وَهَلِ الْمُكَلَّفُ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»
وَلِأَنَّ سَائِرَ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ لَمَّا انْسَدَّتْ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقَدْرِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا أَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ وَقَدْ صَحَّتْ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ سَوَاءٌ بَانَ صَوَابُهُ أَوْ خَطَؤُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَعْبَةِ الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ لَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْكَعْبَةِ، بَلْ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَمُسْتَدْبِرًا عَنْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبِلًا لِكُلِّ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ قَالَ: وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا
أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى،
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ نَافِلَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ جَائِزٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَالِكًا خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ وَمُخَالَفَةُ الرَّاوِي وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْخَبَرِ إِلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ نَوْعَ مَرْجُوحِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ خلى عَنْ هَذَا الطَّعْنِ، فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ
الشَّيْخَيْنِ أَوْرَدَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»
وَالتَّعَارُضُ حَاصِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ يَتَعَارَضَانِ. وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَجُّهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَنْ جَوَّزَ الصَّلَاةَ دَاخِلَ الْبَيْتِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَلْ جَوَّزَ اسْتِدْبَارَهُ. وَالْجَوَابُ: عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ) إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ عُمُومٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَالْآتِي بِهِ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِيغَةَ عُمُومٍ لَمْ تَكُنِ الآية متناولة
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ السَّقْفُ وَالْحِيطَانُ وَالْبِنَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ حَاصِلَةٌ فِي أَحْيَازٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْقِبْلَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَحْيَازَ فَقَطْ، أَوْ تِلْكَ الْأَجْسَامَ فَقَطْ، أَوْ تِلْكَ الْأَجْسَامَ بِشَرْطِ حُصُولِهَا فِي تِلْكَ الْأَحْيَازِ لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ أَنَّهَا تِلْكَ الْأَجْسَامُ فَقَطْ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نُقِلَ تُرَابُ الْكَعْبَةِ وَمَا فِي بِنَائِهَا مِنَ الْأَحْجَارِ وَالْخَشَبِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُنِيَ بِهِ بِنَاءٌ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَلَا جائز أن يقال: / إنها تلك الْأَجْسَامِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا فِي تِلْكَ الْأَحْيَازِ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَوِ انْهَدَمَتْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَأُزِيلَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْيَازِ تِلْكَ الْأَحْجَارُ وَالْخَشَبُ، وَبَقِيَتِ الْعَرْصَةُ خَالِيَةً، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَكَانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لِلْقِبْلَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْقِبْلَةُ هُوَ ذَلِكَ الْخَلَاءُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ تِلْكَ الْأَجْسَامُ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ أَيْضًا مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْبِنَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنَ السَّقْفِ وَالْحِيطَانِ وَالْمِقْدَارُ وَجِهَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الْأَحْيَازُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَجْسَامُ، فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَانَتِ الْقِبْلَةُ هُوَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْخَلَاءِ وَالْفَضَاءِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوِ انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَالْوَاقِفُ فِي عَرْصَتِهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْخَلَاءِ، وَالْوَاقِفُ فِي الْعَرْصَةِ مُسْتَقْبِلٌ لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْخَلَاءِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَقَالُوا أَيْضًا: الْوَاقِفُ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي قُبَالَتِهِ جِدَارٌ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدِي، لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ لِذَلِكَ الْخَلَاءِ وَالْفَضَاءِ الَّذِي هُوَ الْقِبْلَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ، وَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْجِهَاتِ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لَزِمَ الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى التَّكْلِيفِ بِالظَّنِّ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالظَّنِّ وَاقِعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ نِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْآتِي بِهِ آتٍ بِمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةٌ أُخْرَى، كَمَا فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَطَهَارَةِ الْمَكَانِ وَالثَّوْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَاقِطٌ عِنْدَ قِيَامِ الْعُذْرِ كَمَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْعَدُوِّ، أَوْ مِنَ السَّبُعِ، أَوْ مِنَ الْجَمَلِ الصَّائِلِ، أَوْ عِنْدَ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ بِسَبَبِ التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ، أَوْ فِي أَدَاءِ النَّوَافِلِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ إِذَا أَدَّى الصَّلَاةَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَكَذَا الْمُجْتَهِدُ إِذَا كان لَهُ تَعَيُّنُ الْخَطَأِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ وَيَتَحَوَّلَ وَيَبْنِيَ
قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا لَيْسَ بِتَكْرَارٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لا مع الأمة، وقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ. وثانيها: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى مُخَاطَبَتُهُمْ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ لَوْ وَقَعَ الِاخْتِصَارُ عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَيْنَمَا حَصَلُوا مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا نَحْوَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يَعْنِي: وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ وَمَوْضِعُ (كُنْتُمْ) مِنَ الْإِعْرَابِ جَزْمٌ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَيْثُمَا تَكُونُوا، وَالْفَاءُ جَوَابٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَالْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَالْكِتَابُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا قَلِيلًا لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ الْحَقُّ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِبْلَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْمَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ مَعَ شَرْعِهِ وَنُبُوَّتِهِ حَقٌّ فَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى هَذَا التَّكْلِيفِ الْخَاصِّ بِالْقِبْلَةِ، وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ كَيْفَ عَرَفُوا ذَلِكَ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ كَانُوا عَرَفُوا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ خَبَرَ الرَّسُولِ وَخَبَرَ الْقِبْلَةِ وَأَنَّهُ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبْلَةً لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَتَى عَلِمُوا نُبُوَّتَهُ فَقَدْ عَلِمُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّ كُلَّ مَا أَتَى بِهِ فَهُوَ حَقٌّ فَكَانَ هَذَا التَّحْوِيلُ حَقًّا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابن عمار وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْيَهُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ وَعْدٌ لَهُمْ وَبِشَارَةٌ أَيْ لَا يَخْفَى على جدكم واجتهادهم فِي قَبُولِ الدِّينِ، فَلَا أُخِلُّ بِثَوَابِكُمْ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ فَهُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يجعلها لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ/ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٢]
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ حَقٌّ، بين بعد ذلك صِفَتَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ١٤٤] وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي الْبَاطِلِ أَنَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَى النَّفْسِ، بَلْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهُدَى فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُ عَوَامَّهُمْ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الأنعام: ٢٠] مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي الْكُلِّ امْتَنَعَ الْكِتْمَانُ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ، وَإِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خَاصًّا فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَمُسْتَمِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُعَانِدِ اللَّجُوجِ، لَا شَأْنَ الْمُعَانِدِ الْمُتَحَيِّرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ لَصَارَتِ الْآيَةُ كَذِبًا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعَ قَبِلْتَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، ثُمَّ أَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى أَنَّ صَاحِبَ الشُّبْهَةِ صَاحِبُ هَوًى فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ مَا تَمَّمَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فَإِنَّهُ لَوْ أَتَى بِتَمَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَوَصَلَ إِلَى الْحَقِّ، فَحَيْثُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ التَّامَّ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَعْضُهُمْ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كُلُّهُمْ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَالْعَوَامَّ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى اتِّبَاعِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ كَانَ/ الْإِصْرَارُ حَاصِلًا فِي الْكُلِّ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلُنَا: كُلُّ الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ مُغَايِرٌ لِقَوْلِنَا إِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَقْدُورِ لُطْفٌ لِبَعْضِهِمْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي الْمَقْدُورِ لِهَؤُلَاءِ لُطْفٌ، لَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْآيَاتِ مَا لَوْ أَتَاهُمْ بِهِ لَكَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَكَانَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فِيمَا يَرْتَكِبُونَ، فَإِنَّهُمْ مُسْتَطِيعُونَ لِأَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا ضِدَّهُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَهُ، فَلَوِ اتَّبَعُوا قِبْلَتَهُ لزم انقلاب
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ أَبَاطِيلِهِمْ بِسَبَبِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ لَيْسَ عَنْ شُبْهَةٍ يُزِيلُهَا بِإِيرَادِ الْحُجَّةِ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالْحَسَدِ، وَذَلِكَ لَا يَزُولُ بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ جَمِيعَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ:
لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قِبْلَتِكَ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَامِ: ٣٥] وَقَالَ الْأَصَمُّ وَغَيْرُهُ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، قَالَ الْقَاضِي: إِنْ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ وَالْعَوَامُّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَسَنِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلَمَاءُ نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ فِي عُلَمَائِهِمُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَدْ آمَنَ وَجَبَ أَيْضًا ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ قَدْ آمَنَ صَحَّ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي رُجُوعِ النَّفْيِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مَا تَبِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قِبْلَتَكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: «لَئِنْ» بِمَعْنَى «لَوْ» وَأُجِيبَ بِجَوَابِ لَوْ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خِلَافٌ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا لَمَّا تَقَارَبَا اسْتُعْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَأُجِيبَ بِجَوَابِهِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً [الرُّومِ: ٥١] ثُمَّ قَالَ: لَظَلُّوا عَلَى جَوَابِ: «لَوْ» وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْبَقَرَةِ: ١٠٣] ثُمَّ قَالَ: لَمَثُوبَةٌ عَلَى جَوَابِ: لَئِنْ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ «لَوْ» لِلْمَاضِي «وَلَئِنْ» لِلْمُسْتَقْبَلِ هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ هَذَا التَّدَاخُلُ لِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ، فَجَاءَ الْجَوَابُ كَجَوَابِ الْقَسَمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ: وَزْنُهَا فَعْلَةٌ أَصْلُهَا: أَيَّةٌ، فَاسْتَثْقَلُوا التَّشْدِيدَ فِي الْآيَةِ فَأَبْدَلُوا مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى أَلِفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَالْآيَةُ الْحُجَّةُ وَالْعَلَامَةُ، وَآيَةُ الرَّجُلِ: شَخْصُهُ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ/ بِآيَتِهِمْ جَمَاعَتِهِمْ، وَسُمِّيَتْ آيَةُ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِهَا عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
رُوِيَ أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أَتَى الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ بَلْ هِيَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَفْعٌ لِتَجْوِيزِ النَّسْخِ، وَبَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً. وَالثَّانِي: حَسْمًا لِأَطْمَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَنَا الَّذِي نَنْتَظِرُهُ، وَطَمِعُوا فِي رُجُوعِهِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ. الثَّالِثُ: الْمُقَابَلَةُ يَعْنِي مَا هُمْ بِتَارِكِي بَاطِلِهِمْ وَمَا أَنْتَ بِتَارِكِ حَقِّكَ. الرَّابِعُ: أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ اسْتِصْلَاحُهُمْ بِاتِّبَاعِ قِبْلَتِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ. الْخَامِسُ: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ قِبْلَةَ الْيَهُودِ مُخَالِفَةٌ لِقِبْلَةِ النَّصَارَى، فَلِلْيَهُودِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَلِلنَّصَارَى الْمَشْرِقُ، فَالْزَمْ قِبْلَتَكَ وَدَعْ أَقْوَالَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ مُتَبَايِنُونَ فِي الْقِبْلَةِ فَكَيْفَ يَدْعُونَكَ إِلَى تَرْكِ قِبْلَتِكَ مَعَ أَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ قِبْلَتَاهُمَا لِلْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي ثَالِثٍ، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَدِ اتَّبَعَ قِبْلَةَ الْآخَرِ لَكِنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فَيُفْضِي إِلَى الْخُلْفِ، وَجَوَابُهُ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى عُلَمَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَتَّبِعُ قِبْلَةَ الْآخَرِ فَالْخُلْفُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكُلِّ قُلْنَا إِنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَوَى الْمَقْصُورُ هُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَالْهَوَاءُ الْمَمْدُودُ مَعْرُوفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَرَفَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ خَطَأٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ وَقَعَ مِنَ الرَّسُولِ لَقَبُحَ، وَالْإِلْجَاءُ عَنْهُ مُرْتَفِعٌ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنْهُ، لَكَانَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ/ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ مَأْمُورًا بِشَيْءٍ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْ شَيْءٍ وَأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ. وَثَانِيهَا: لَوْلَا تَقَدُّمُ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ لَمَا احْتَرَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِاحْتِرَازُ مَشْرُوطًا بِذَلِكَ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ فَكَيْفَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاحْتِرَازَ مُنَافِيًا لِلنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنَ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ أَنْ يَتَأَكَّدَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلَمَّا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ الدالة على التوحيد بعد ما قَرَّرَهَا فِي الْعُقُولِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْعَقْلِ بِالنَّقْلِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ هاهنا. ورابعها: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٩] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ عِصْمَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: ٥٠] وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَشْرَكَ وَمَا مَالَ إليه، وقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ١] وَقَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: ٩] وَقَالَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ١٤] فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ غَيْرَهُ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ، كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ مِنْهُ أَقْبَحَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْثَرُ فَكَانَ حُصُولُ الذَّنْبِ مِنْهُ أَقْبَحَ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَزِيدَ الْحُبِّ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِمَزِيدِ التَّحْذِيرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ الْحَازِمَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى أَكْبَرِ أَوْلَادِهِ وَأَصْلَحِهِمْ فَزَجَرَهُ عَنْ أَمْرٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةِ
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ليس المراد منه أن اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ، مِثْلُ تَرْكِ الْمُخَاشَنَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْغِلْظَةِ فِي الْكَلَامِ، طَمَعًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي اسْتِمَالَتِهِمْ، فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَيْضًا وَآيَسَهُ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا قَالَ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٧٤].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّكَ إِذَا عَاتَبْتَ إِنْسَانًا أَسَاءَ عَبْدُهُ إِلَى عَبْدِكَ فَتَقُولُ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَعَاقَبْتُكَ عَلَيْهِ عِقَابًا شَدِيدًا، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لَا يَمِيلُ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ جَاءَكَ، بَلِ الْمُرَادُ الدَّلَائِلُ وَالْآيَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَاعْلَمْ/ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّعْظِيمُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَظَّمَ أَمْرَ النُّبُوَّاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ بِأَنْ سَمَّاهَا بِاسْمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ شَرَفًا وَمَرْتَبَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْوَعِيدِ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَشَدُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ فَالْمُرَادُ إِنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَكُنْتَ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْمِ فِي كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التهديد والزجر والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَالْجَمْعُ الْعَظِيمُ الَّذِي عَلِمُوا شَيْئًا اسْتَحَالَ عَلَيْهِمُ الِاتِّفَاقُ عَلَى كِتْمَانِهِ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا لَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ وَسَأَلَ عَنِ الْجَامِعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ لَا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً جَلِيَّةً، يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ وَأَبْنَاءُ غَيْرِهِمْ. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي بِابْنِي، قَالَ:
وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنِّي لَسْتُ أَشُكُّ فِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَمَّا وَلَدِي فَلَعَلَّ وَالِدَتَهُ خَانَتْ. فَقَبَّلَ عُمَرُ رَأَسَهُ، وَجَازَ الْإِضْمَارُ
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمَّا حَذَّرَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى بِقَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٤٥] أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: اعْلَمُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَمَا جَاءَ بِهِ وَصِدْقَهُ وَدَعْوَتَهُ وَقِبْلَتَهُ لَا يَشُكُّونَ فِيهِ كَمَا لَا يَشُكُّونَ فِي أَبْنَائِهِمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَقَالَ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِ: ٦] إِلَّا أَنَّا نَقُولُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وَصْفَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى مُشْتَمِلًا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالصِّفَةِ وَالْخِلْقَةِ والنسب والقبلة أَوْ هَذَا الْوَصْفُ مَا أَتَى مَعَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَقْدَمِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْقِبْلَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعْلُومًا لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَانَا مَشْهُورَيْنِ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا تَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِصِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّا نَقُولُ: هَبْ أَنَّ التَّوْرَاةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ سَيَكُونُ نَبِيًّا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْتَهِيًا فِي التَّفْصِيلِ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِنُبُوَّتِهِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنِ اشْتِمَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى وَصْفِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ أَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَبِيًّا صَادِقًا فَهَذَا بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ يُفِيدُ الْيَقِينَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأنبياء وَأُبُوَّةِ الْآبَاءِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْتُمُوهُ كَانَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا بُرْهَانِيًّا غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلْغَلَطِ، أَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا ابْنِي فَذَلِكَ ليس علماً يقيناً بَلْ ظَنٌّ وَمُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ، فَلِمَ شُبِّهَ الْيَقِينُ بِالظَّنِّ؟
وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ الْعِلْمَ بنبوة الْأَبْنَاءِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِأَشْخَاصِ الْأَبْنَاءِ وَذَوَاتِهِمْ فَكَمَا أَنَّ الْأَبَ يَعْرِفُ شَخْصَ ابْنِهِ مَعْرِفَةً لَا يُشْتَبَهُ هُوَ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَعِنْدَ هَذَا يَسْتَقِيمُ التَّشْبِيهُ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ وَذَلِكَ نَظَرِيٌّ وَتَشْبِيهُ النَّظَرِيِّ بِالضَّرُورِيِّ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَحُسْنَ الِاسْتِعَارَةِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ خَصَّ الْأَبْنَاءَ الذُّكُورَ؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّ الذُّكُورَ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ وَهُمْ بِصُحْبَةِ الْآبَاءِ أَلْزَمُ وَبِقُلُوبِهِمْ ألصق.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الْعِلْمُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: ١٤٥] وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ: النُّبُوَّةُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ الْعِلْمَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَأَمَّا أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الْبَتَّةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ أَمْرَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَانَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى أَمْرِ النُّبُوَّةِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ لَا تَدُلُّ أَوَّلَ دَلَالَتِهَا إِلَّا عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَذَلِكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى أَمْرِ النُّبُوَّةِ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَعَرَفُوا الرَّسُولَ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنُ بِهِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ لَا يُوصَفُ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، لَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَوَصَفَ الْبَعْضُ بِذَلِكَ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، عَلَى أَنَّ كِتْمَانَ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مَحْظُورٌ إِذَا أَمْكَنَ إِظْهَارُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكْتُومِ فَقِيلَ: أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقيل: أمر القبلة وقد استقصينا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بِغَيْرِ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ: مِنْ رَبِّكَ وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أَيْ هَذَا الَّذِي يَكْتُمُونَهُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ عَلَى مَعْنَى: الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ غَيْرِهِ يَعْنِي إِنَّ الْحَقَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَالَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ كَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُوَ الْبَاطِلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي مَاذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ عَانَدَ وَكَتَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَثَانِيهَا: بَلْ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ الْقِبْلَةِ. وَثَالِثُهَا: إِلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي النُّبُوَّةَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ/ قُرْآنٍ وَوَحْيٍ وَشَرِيعَةٍ، فَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في المراد بقوله: لِكُلٍ
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال: لِكُلٍ
وَلَمْ يَقُلْ لِكُلِّ قَوْمٍ أَوْ أُمَّةٍ لِأَنَّهُ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَضُرَّ حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: ٤٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْفِرَقِ، أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، قَالَ: لِأَنَّ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَيَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٨]. وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمُ: الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِيهِ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ أَيْ جِهَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ يُصَلِّي إِلَيْهَا: جَنُوبِيَّةٌ أَوْ شَمَالِيَّةٌ، أَوْ شَرْقِيَّةٌ أَوْ غَرْبِيَّةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَى هذا القول بوجهين. الأول: قوله تعالى: وَمُوَلِّيها
يَعْنِي اللَّهُ مُوَلِّيهَا وَتَوْلِيَةُ اللَّهِ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهَا تَوْلِيَةُ الشَّيْطَانِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ مَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ جِهَةٍ، وَالْجِهَاتُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْخَيْرِيَّةِ لَيْسَتْ إِلَّا جِهَاتُ الْكَعْبَةِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ آخَرُونَ: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَأَصْحَابِ الشَّرَائِعِ جِهَةُ قِبْلَةٍ، فَقِبْلَةُ الْمُقَرَّبِينَ: الْعَرْشُ، وَقِبْلَةُ الرُّوحَانِيِّينَ: الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ الْكَرُوبِيِّينَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَبْلَكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وقبلتك الكعبة.
أما قوله تعالى: جْهَةٌ
ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرئ: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ وُجْهَةٍ هُوَ مُوَلِّيهَا فَزِيدَتِ اللَّامُ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتَ، وَلِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الفاء: وِجْهَةٌ، وَجِهَةٌ، وَوَجْهٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ فَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْمِنْهَاجُ وَالشَّرْعُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً [الْحَجِّ: ٦٧]، لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ [المائدة: ٤٨] / شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: ٤٨] وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلشَّرَائِعِ مَصَالِحَ، فَلَا جَرَمَ اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا اخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا صَحَّ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ١٤٤] فَهَذِهِ الْوِجْهَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى ذلك.
أما قوله: وَمُوَلِّيها
فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ، أَيْ وَلِكُلِّ أَحَدٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّي وَجْهَهُ إِلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ اللَّهُ تَعَالَى يُوَلِّيهَا إِيَّاهُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ:
أَيْ فَالْزَمُوا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ قِبْلَتَكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى خَيْرَاتٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِشَرَفِكُمْ بِقِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَأْخُذُونَهُ عَلَى انْقِيَادِكُمْ لِأَوَامِرِهِ فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَأَيْنَمَا تَكُونُوا مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فِي صَعِيدِ الْقِيَامَةِ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنِ الْمُطِيعُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْعَاصِي، وَمَنِ الْمُصِيبُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْمُخْطِئُ، إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجِهَةً قَدِ اخْتَارَهَا، إِمَّا بِشَرِيعَةٍ وَإِمَّا بِهَوًى، فَلَسْتُمْ تُؤْخَذُونَ بِفِعْلِ غَيْرِكُمْ، فَإِنَّمَا لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قوله: وَمُوَلِّيها
عائداً إلى الله تعالى فههنا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ جِهَةٌ يُوَلِّيهَا اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ، إِذَا شَاءَ يَفْعَلُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ صَلَاحًا فَالْجِهَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي وَلَّى وُجُوهَ عِبَادِهِ إِلَيْهِمَا، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ بِالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّ انْقِيَادَكُمْ خَيْرَاتٌ لَكُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى مَطَاعِنِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يقولون: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة: ١٤٢] فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ جَمِيعًا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. الثَّانِي: أَنَّا إِذَا فسرنا قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
بِجِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَنَوَاحِيهَا، كَانَ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ، أَيْ نَاحِيَةٌ من الكعبة: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، فَإِنَّهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ تُؤَدَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فَهِيَ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ نِيَّاتُهُمْ فَهُوَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا وَيُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
أما قوله تعالى: وَمُوَلِّيها
أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مُسْتَقْبِلُهَا وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: مُوَلِّيهَا عَلَى مَعْنَى مُتَوَلِّيهَا يُقَالُ: قَدْ تَوَلَّاهَا وَرَضِيَهَا وَأَتْبَعَهَا، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ النَّخَعِيِّ:
هُوَ مَوْلَاهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقر
وفي قراءة الباقين: وَلِّيها
وَلِقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَلَيْتَهُ فَقَدْ وَلَاكَ، لِأَنَّ مَعْنَى وَلَيْتَهُ أَيْ جَعَلْتَهُ/ بِحَيْثُ تَلِيهِ وَإِذَا صَارَ هَذَا بِحَيْثُ يَلِي ذَلِكَ فَذَاكَ أَيْضًا، يَلِي هَذَا، فَإِذَنْ قَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] ولا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالظَّالِمُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الفراء.
والثاني: وَمُوَلِّيها
أي قد زُيِّنَتْ لَهُ تِلْكَ الْجِهَةُ وَحُبِّبَتْ إِلَيْهِ، أَيْ صارت بحيث يحبها ويرضاها.
أما قوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
فَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْبَدَارِ إِلَى الطَّاعَةِ فِي وَقْتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ النَّدْبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْحَدِيدِ: ٢١] وَمَعْنَاهُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالصَّلَاةُ مِمَّا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ إِلَيْهَا مَنْدُوبَةً. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: ١٠، ١١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّابِقُونَ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقَرَّبُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا السَّابِقُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْفَضْلِ مَنُوطٌ بالمسابقة. ورابعها:
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠] وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْخَيْرَاتِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ».
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ فِي تَرْكِ الْمُسَارَعَةِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَافِ: ١٢] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُسَارَعَةِ مُوجِبٌ لِلذَّمِّ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] وَالْمُحَافَظَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعْجِيلِ، لِيَأْمَنَ الْفَوْتَ بِالنِّسْيَانِ وَسَائِرِ الْأَشْغَالِ. وَثَامِنُهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: ٨٤] فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ أَوْلَى. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيدِ: ١٠] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ سَبَبٌ لِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَعَاشِرُهَا:
مَا
رَوَى عُمَرُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه وَأَنَسٌ وَأَبُو مَحْذُورَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ»
قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
رِضْوَانُ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُقَصِّرِينَ فَإِنْ قِيلَ هَذَا احْتِجَاجٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنِ السَّيِّئَاتِ السَّابِقَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُوجِبُ رِضْوَانَ اللَّهِ، فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُوجِبًا لِلْعَفْوِ وَالرِّضْوَانِ، وَالتَّقْدِيمُ مُوجِبًا لِلرِّضْوَانِ دُونَ الْعَفْوِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ/ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ وذلك لم يقله أحد. الثاني: أنه عدم المسارعة الِامْتِثَالِ يُشْبِهُ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعِقَابَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِالْفِعْلِ بَعْدَ ذَلِكَ سَقَطَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَفْسِيرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ.
الْحَادِي عَشَرَ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وجدت لها كفؤا».
الثاني عشر:
روي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمِيقَاتِهَا الْأَوَّلِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ:
رَوَى عن أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ».
الرَّابِعَ عَشَرَ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَمَنْ كَانَ أَسْبَقَ فِي الطَّاعَةِ كَانَ هُوَ الَّذِي سَنَّ عَمَلَ الطَّاعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الْمُتَأَخِّرِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: إِنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ أَحَدَ أَسْبَابِ الْفَضِيلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ الْمُسَابَقَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى وَقَعَ الْخِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَسْبَقُ إِسْلَامًا أَمْ عَلِيًّا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الطَّاعَةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ تَعْجِيلَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي أداء حقوق اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا رِعَايَةُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُبَادَرَةَ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى الصَّلَاةِ إِظْهَارٌ لِلْحِرْصِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْوَلُوعِ بِهَا، وَالرَّغْبَةِ فِيهَا وَفِي التَّأْخِيرِ كَسَلٌ عَنْهَا، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ تَفَرَّغَتْ ذِمَّتُهُ، فَإِذَا أَخَّرَ فَرُبَّمَا عَرَضَ لَهُ شُغْلٌ فَمَنَعَهُ عَنْ أَدَائِهَا فَيَبْقَى الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، فَالْوَجْهُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى.
الْعِشْرُونَ: أَجْمَعْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّ تَعْجِيلَهُ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُؤَخِّرَ الصَّوْمَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ وَيَصُومَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي الصَّوْمِ أَفْضَلُ عَلَى مَا قَالَ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] فَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّعْجِيلُ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ:
تَنْتَقِضُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، أَوْ بِمَا إِذَا حَصَلَ لَهُ رَجَاءُ إِدْرَاكِ/ الْجَمَاعَةِ أَوْ وُجُودُ الْمَاءِ قُلْنَا: التَّأْخِيرُ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِأُمُورٍ عَارِضَةٍ، وَكَلَامُنَا فِي مُقْتَضَى الْأَصْلِ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْمُسَارَعَةُ إِلَى الِامْتِثَالِ أَحْسَنُ فِي الْعُرْفِ مِنْ تَرْكِ الْمُسَارَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ»
. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: صَلَاةٌ كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، كَالْمَغْرِبِ فَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ أَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ كَالْمَانِعِ، أَمَّا إِذَا صَلَّاهَا فِي دَارِهِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ حَضَرَهُ الطَّعَامُ وَبِهِ جُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَوَقَّعَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الْكَمَالَ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَارَعَةَ أَفْضَلُ، وَلْنَذْكُرْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
أَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا بِالتَّغْلِيسِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا بِالْإِسْفَارِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ الدَّلَائِلِ السَّالِفَةِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: مَا
أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ وَالنِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ»
قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي كِتَابِ «شَرْحِ السُّنَّةِ» : مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ أَيْ مُتَجَلِّلَاتٍ بِأَكْسِيَتِهِنَّ، وَالتَّلَفُّعُ بِالثَّوْبِ الِاشْتِمَالُ، وَالْمُرُوطُ: الْأَرْدِيَةُ الْوَاسِعَةُ، وَاحِدُهَا مِرْطٌ، وَالْغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالْغَلَسِ كَيْلَا يُعْرَفْنَ، وَهَكَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالْغَلَسِ، ثُمَّ لَمَّا نُهِينَ عَنِ الْحُضُورِ فِي الْجَمَاعَاتِ تَرَكَ ذَلِكَ قُلْنَا:
الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ عَدَمُ النَّسْخِ، وَلَوْلَا هَذَا الْأَصْلُ لَمَا جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِشَيْءٍ مِنَ
أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً،
وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّغْلِيسِ. وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَّسَ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ أَسْفَرَ مَرَّةً، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ فَقَالَ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧] وَمَدَحَ التَّارِكِينَ لِلنَّوْمِ فَقَالَ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السَّجْدَةِ: ١٦] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ النَّوْمِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ»
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّغْلِيسُ أَفْضَلَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ النَّوْمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَطْيَبُ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَشَقَّ، / فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ».
وَثَانِيهَا:
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَغَلَّسَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَوَاتٍ إِلَّا لِمِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا.
وَثَالِثُهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَافَظُوا عَلَى شَيْءٍ مَا حَافَظُوا عَلَى التَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ. وَرَابِعُهَا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَالُوا: كَادَتِ الشَّمْسُ أَنَّ تَطْلُعَ، فَقَالَ لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ فَاسْتَشْرَقُوا الشَّمْسَ، فَقَالَ: لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَضِيلَةِ الِانْتِظَارِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ كَمَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ»
فَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا فَقَدِ انْتَظَرَ الصَّلَاةَ أَوَّلًا ثُمَّ بِهَا ثَانِيًا وَمَنْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَهُ فَضْلُ الِانْتِظَارِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّأْخِيرَ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى تَحْصِيلًا لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ التَّغْلِيسَ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِ الغليس احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَتَفَرَّغَ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا. وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِذَا صَلَّى وَقْتَ الْإِسْفَارِ فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا صَلَّى بِالتَّغْلِيسِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْفَجْرَ اسْمٌ لِلنُّورِ الَّذِي يُنْفَى بِهِ ظَلَامُ الْمَشْرِقِ، فَالْفَجْرُ إِنَّمَا يَكُونُ فَجْرًا لَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ بَاقِيَةً فِي الْهَوَاءِ، فَأَمَّا إِذَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتَنَارَ الْهَوَاءُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَجْرًا، وَأَمَّا الْإِسْفَارُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ، يُقَالُ: أَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إِذَا كَشَفَتْ عَنْهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظُهُورُ الْفَجْرِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ بَقَاءِ الظَّلَامِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنَّ الظَّلَامَ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ كَانَ النُّورُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ الظَّلَامِ أَشَدَّ،
فَقَوْلُهُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ»
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى التَّغْلِيسِ، أَيْ كُلَّمَا وَقَعَتْ صَلَاتُكُمْ حِينَ كَانَ الْفَجْرُ أَظْهَرَ وَأَبْهَرَ كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَوَّلِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِسْفَارَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى تَيَقُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَزَوَالِ الشَّكِّ عَنْهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشَقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى وَقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْكَسَلِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: إِنَّ الْكَسَلَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِدِّ فِي الطَّاعَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَافِظُوا عَلَى التَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ، فَجَوَابُهُ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ لِأَنَّ
أما قوله تعالى: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَهُوَ وَعْدٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَوَعِيدٌ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اسْتَبِقُوا أَيُّهَا الْمُحَقِّقُونَ وَالْعَارِفُونَ بِالنُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْخَيْرَاتِ وَتَحَمَّلُوا فِيهَا/ الْمَشَاقَّ لِتَصِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مالكم عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى، ثُمَّ إنه سبحانه حقق بقوله: نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٠].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
[ما الفائدة في تكرار هذه الآية وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَحْثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: ١٤٤] وَذَكَرَ هَاهُنَا ثَانِيًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا قَوْلَهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فَهَلْ فِي هَذَا التَّكْرَارِ فَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَكُونُ فِي الْبَلَدِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ عَلَى الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فَلِأَجْلِ إِزَالَةِ هَذَا الْوَهْمِ كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَعَادَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِهَا كُلَّ مَرَّةٍ فَائِدَةً زَائِدَةً أَمَّا/ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَمْرَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ حَقٌّ، لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَشْهَدُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَشَهَادَةُ اللَّهِ بِكَوْنِهِ حَقًّا مُغَايِرَةٌ لِعِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ حَقًّا، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ حَسُنَتْ إِعَادَتُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [الْبَقَرَةِ: ٧٩].
وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ مَقْرُونٌ بِإِكْرَامِهِ إِيَّاهُمْ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُحِبُّونَهَا وَهِيَ قِبْلَةُ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي مقرون بقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[البقرة: ١٤٨] أَيْ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ وَمِلَّةٍ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَتَوَجَّهُوا أَنْتُمْ إِلَى أَشْرَفِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا حَقٌّ وَذَلِكَ هُوَ قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. وَالثَّالِثُ مَقْرُونٌ بِقَطْعِ اللَّهِ تَعَالَى حُجَّةَ مَنْ خَاصَمَهُ مِنَ الْيَهُودِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ عِلَلًا ثَلَاثًا قُرِنَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَمْرٌ بِالْتِزَامِ الْقِبْلَةِ نَظِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: الْزَمْ هَذِهِ الْقِبْلَةَ فَإِنَّهَا الْقِبْلَةُ الَّتِي كُنْتَ تَهْوَاهَا، ثُمَّ يقال: ألزم هذه القبلة فإنها قبلة الْحَقُّ لَا قِبْلَةَ الْهَوَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ثُمَّ يُقَالُ: الْزَمْ هَذِهِ الْقِبْلَةَ فَإِنَّ فِي لُزُومِكَ إِيَّاهَا انْقِطَاعَ حُجَجِ الْيَهُودِ عَنْكَ، وَهَذَا التَّكْرَارُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالتَّكْرَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: ١٢] وَكَذَلِكَ مَا كُرِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٧٤].
وَالْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ أَوَّلُ الْوَقَائِعِ الَّتِي ظَهَرَ النَّسْخُ فِيهَا فِي شَرْعِنَا فَدَعَتِ/ الْحَاجَةُ إِلَى التَّكْرَارِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ وَإِيضَاحِ الْبَيِّنَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: ٧٤] يَعْنِي مَا يَعْمَلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدُونَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيُدْخِلُونَ الشُّبْهَةَ عَلَى الْعَامَّةِ بِقَوْلِهِمْ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَةِ: ١٤٢] وَبِأَنَّهُ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى مَوْلِدِهِ وَدِينِ آبَائِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِهَذَا فَأَنْزَلَ مَا أَبْطَلَهُ وَكَشَفَ عَنْ وَهْنِهِ وَضَعْفِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُوهِمُ حِجَاجًا وَكَلَامًا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عَنِ الْقَوْمِ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ تَزُولُ الْآنَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ رِوَايَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: تُخَالِفُنَا فِي دِينِنَا وَتَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا. وَثَانِيهَا: قَالُوا: أَلَمْ يَدْرِ مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى هَدَيْنَاهُ. وَثَالِثُهَا:
أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَالْآنَ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَدْ تَرَكَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ وَسَائِلَ لَهُمْ إِلَى الطَّعْنِ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ: لِيَلَّا يَتْرُكُ الْهَمْزَةَ وَكُلُّ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ قَبْلَهَا كسرة فإنه يقبلها يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (لِئَلَّا) مَوْضِعُهُ نَصْبٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (وَلُّوا) أَيْ وَلُّوا لِئَلَّا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ: عَرَّفْتُكُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قِيلَ: النَّاسُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَاهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهَا عَنِ الْحُجَّةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُمْكِنُ دَفْعُ السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُجَّةَ كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً، قَدْ تَكُونُ أَيْضًا بَاطِلَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى/ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشُّورَى: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آلِ عِمْرَانَ: ٦١] وَالْمُحَاجَّةُ هِيَ أَنْ يُورِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ حُجَّةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُورِدُ الْمُبْطِلَ يُسَمَّى بِالْحُجَّةِ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ اشْتِقَاقُهَا مِنْ حَجَّهُ إِذَا عَلَا عَلَيْهِ فَكُلُّ كَلَامٍ يُقْصَدُ بِهِ غَلَبَةُ الْغَيْرِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ، فَكُلُّ كَلَامٍ يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ مَسْلَكًا لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتٍ أَوْ إِبْطَالٍ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تُسَمَّى حُجَّةً كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ فَلَمَّا حُوِّلَتْ، بَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَتَمُوا مَا عَرَفُوا عَنْ أَبِي رَوْقٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا حُجَّةٌ سَمَّاهَا اللَّهُ. (حُجَّةٌ) بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ أَوْ لَعَلَّهُ تَعَالَى سَمَّاهَا (حُجَّةٌ) تَهَكُّمًا بِهِمْ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَرَادَ بِالْحُجَّةِ الْمُحَاجَّةَ وَالْمُجَادَلَةَ فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى الْوَاوِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَأَنْشَدَ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ | لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ |
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ قُطْرُبٌ: مَوْضِعُ الَّذِينَ خَفْضٌ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَانِ الْوَجْهَانِ بَعِيدَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي فَالْمَعْنَى لَا تَخْشَوْا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَتَعَنَّتُ وَيُجَادِلُ وَيُحَاجُّ، وَلَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فِي قِبْلَتِكُمْ فإنهم لا يضرنكم وَاخْشَوْنِي، يَعْنِي احْذَرُوا عِقَابِي إِنْ أَنْتُمْ عَدَلْتُمْ عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَتُرُوكِهِ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: خَشْيَةَ عِقَابِ اللَّهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْخَلْقِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَأَنْ/ لَا يَكُونَ مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ بِهِمْ، وَلَا مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُتَعَلَّقِ اللَّامِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَوَّلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ لِهَاتَيْنِ الْحِكْمَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: لِانْقِطَاعِ حُجَّتِهِمْ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: لِتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَلَمَّا حُوِّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَحِقَهُمْ ضَعْفُ قَلْبٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّحَوُّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الْبُقْعَةِ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّعْمَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُتَعَلَّقَ اللَّامِ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ: وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكُمْ وَإِرَادَتِي اهْتِدَاءَكُمْ أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قيل: واحشوني لِأُوَفِّقَكُمْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عِنْدَ قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: ٣] فَبَيَّنَ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَيْفَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ قُلْنَا: تَمَامُ النِّعْمَةِ اللَّائِقَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُوَ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «تَمَامُ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ»
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَامُ النِّعْمَةِ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ التَّشَكُّكِ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ إِلَى بَيْتِ
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوُجُوهٍ، بَعْضُهَا إِلْزَامِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] وَبَعْضُهَا بُرْهَانِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [الْبَقَرَةِ: ١٣٦] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقَّبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِحِكَايَةِ/ شُبْهَتَيْنِ لَهُمْ. إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [الْبَقَرَةِ: ١٣٥]. وَالثَّانِيَةُ: اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِنْكَارِ النَّسْخِ عَلَى الْقَدْحِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قول: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَةِ: ١٤٢] وَأَطْنَبَ اللَّهُ تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وبالحق فعل ذلك، لأن أعظم الشبهة لِلْيَهُودِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنْكَارُ النَّسْخِ، فَلَا جَرَمَ أَطْنَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَخَتَمَ ذَلِكَ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ اسْتِمَالَةً لحصول العز والشرف في الدنيا، والتخلص في الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ يَكُونُ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي هَذَا الْبَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كَما أَرْسَلْنا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَافُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ راجع إلى قوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٥٠] أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ. الثَّانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ... وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٢٩] وَقَالَ أَيْضًا: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَةِ: ١٢٨] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَأَهْدِيكُمْ إِلَى الدِّينِ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا أَرْسَلْنَا فيكم رسولًا إجابة لدعوة عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ. الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا، أَيْ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْ شَأْنِهِ وَصِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، فَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يُعَلِّمُكُمُ الدِّينَ وَالشَّرْعَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ وَتَقْرِيرُهُ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى صُورَةٍ لَا تَتْلُونَ كِتَابًا، وَلَا تَعْلَمُونَ رَسُولًا، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ لَيْسَ بِصَاحِبِ كِتَابٍ، ثُمَّ أَتَاكُمْ بِأَعْجَبِ الْآيَاتِ يَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ بِلِسَانِكُمْ وَفِيهِ مَا فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَخْلَاقِ السُّفَهَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِهِ فَقَالَ: كَمَا أَوْلَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَجَعَلْتُهَا لَكُمْ دَلِيلًا، فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي وَثَوَابِي، والذي
جوزه الفراء وجعل لأذكروني جَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَما. وَالثَّانِي: أَذْكُرْكُمْ وَوَجْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَ لِيَذْكُرَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلِمَا سَلَفَ مِنْ نِعْمَتِهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَبْلَ الْكَلَامِ إِذَا وُجِدَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَتَعَلُّقُهُ بِهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَجْهِ التشبيه قولان: إن قلنا لكاف مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي كَانَ الْمَعْنَى/ أَنَّ النِّعْمَةَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ بِالذِّكْرِ جَارِيَةٌ مَجْرَى النِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا مَصْدَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَإِرْسَالِنَا فِيكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيكُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَرَبُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ وَفِي إِرْسَالِهِ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ، نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا لَهُمْ فِيهِ الشَّرَفِ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ حَالِ الْعَرَبِ الْأَنَفَةُ الشَّدِيدَةُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ فَبَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاسِطَتِهِمْ لِيَكُونُوا إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبَ.
أَمَّا قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيَتَأَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلُومِ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ تِلَاوَتِهِ كُلُّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَلِّمُهُمْ مَا إِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ صَارُوا أَزْكِيَاءَ عَنِ الْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: يُزَكِّيهِمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، أَيْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَيَصِفُكُمْ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُزَكِّيَ زَكَّى الشَّاهِدَ، أَيْ وَصَفَهُ بِالزَّكَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّنْمِيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ يُكَثِّرُكُمْ، كَمَا قَالَ: إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: ٨٦] وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَيَتَوَاصَلُوا وَيَكْثُرُوا، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِالْمُطِيعِ كُلَّ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ فَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ، وَأَمَّا الْحِكْمَةَ فَهِيَ الْعِلْمُ بِسَائِرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى تَفْصِيلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِكْمَةَ هِيَ سُنَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَجَهَالَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، فَالْخَلْقُ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ ضَالِّينَ فِي أَمْرِ أَدْيَانِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ حَتَّى عَلَّمَهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أنواع النعم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ، أَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ، فَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ بِاللِّسَانِ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيُسَبِّحُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ
اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي فَأَجْمَلَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْكُلُّ فِيهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَذْكُرْكُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْمَوْضِعِ، وَالَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الثَّوَابِ وَالْمَدْحِ، وَإِظْهَارِ الرِّضَا وَالْإِكْرَامِ، وَإِيجَابِ الْمَنْزِلَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:
أَذْكُرْكُمْ ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَاتٌ. الْأُولَى: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي. الثَّانِيَةُ: اذْكُرُونِي بِالْإِجَابَةِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: أَمَرَ الْخَلْقَ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَرَاجِينَ خَائِفِينَ وَيُخْلِصُوا الذِّكْرَ لَهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ، فَإِذَا هُمْ ذَكَرُوهُ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ذَكَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ. الثَّالِثَةُ: اذْكُرُونِي بِالثَّنَاءِ وَالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّنَاءِ وَالنِّعْمَةِ. الرَّابِعَةُ: اذْكُرُونِي فِي الدُّنْيَا أَذْكُرْكُمْ فِي الْآخِرَةِ. الْخَامِسَةُ: اذْكُرُونِي فِي الْخَلَوَاتِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْفَلَوَاتِ. السَّادِسَةُ: اذْكُرُونِي فِي الرَّخَاءِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْبَلَاءِ. السَّابِعَةُ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَعُونَتِي. الثَّامِنَةُ:
اذْكُرُونِي بِمُجَاهَدَتِي أَذْكُرْكُمْ بِهِدَايَتِي. التَّاسِعَةُ: اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ أَذْكُرْكُمْ بِالْخَلَاصِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ. الْعَاشِرَةُ: اذْكُرُونِي بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ، وَبِقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي مَا يَتَّصِلُ بِالشُّكْرِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا يُعِينُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، أَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ قَهْرُ النَّفْسِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْطِينِهَا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَتَجَنُّبِ الْجَزَعِ، وَمَنْ حَمَلَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ عَلَى هَذَا التَّذْلِيلِ سَهُلَ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَحَمُّلُ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الصَّبْرَ عَلَى الصَّوْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٤] وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَالِ: ٤٥] وَبِالتَّثَبُّتِ فِي الصَّلَاةِ أَيْ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٧]. / إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى لعموم اللفظ وعدم تقيده، والاستعانة بالصلاة لأنه يَجِبُ أَنْ تُفْعَلَ عَلَى طَرِيقِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُوَفِّرَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا يَأْتِي فِيهَا مِنْ قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْخَيْرِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يَعْنِي فِي النَّصْرِ لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٧] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لَهُمْ إِذَا هُمُ اسْتَعَانُوا عَلَى طَاعَاتِهِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَهُمْ تَوْفِيقًا وَتَسْدِيدًا وَأَلْطَافًا كَمَا قَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: ٧٦].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٤]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
اعْلَمْ أن هذه الآية نظيرة قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فِي إِقَامَةِ دِينِي، فَإِنِ احْتَجْتُمْ فِي تِلْكَ الْإِقَامَةِ إِلَى مُجَاهَدَةِ عَدُوِّي بِأَمْوَالِكُمْ وَأَبْدَانِكُمْ فَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَلِفَتْ نُفُوسُكُمْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ ضَيَّعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بَلِ اعْلَمُوا أَنَّ قَتْلَاكُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدِي وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَتْلَى بَدْرٍ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ: عُبَيْدَةُ بن الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَذُو الشَّمَالَيْنِ، وَعَمْرُو بْنُ نُفَيْلَةَ، وَعَامِرُ بْنُ بَكْرٍ، وَمِهْجَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّه. وَمِنَ الْأَنْصَارِ:
سَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وزيد بن الحرث، وَتَمِيمُ بْنُ الْهُمَامِ، وَرَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَمُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَعَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَاتَ فُلَانٌ وَمَاتَ فُلَانٌ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ إِنَّهُمْ مَاتُوا. وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ مُحَمَّدٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمْواتٌ رُفِعَ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَا تَقُولُوا هُمْ أَمْوَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ فِي الْوَقْتِ أَحْيَاءٌ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعِينَ يَصِلُ ثَوَابُهُمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْقُبُورِ، فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نُشَاهِدُ أَجْسَادَهُمْ مَيْتَةً فِي الْقُبُورِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عِنْدَنَا فَالْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يعبد اللَّهُ الْحَيَاةَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ وَالْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ/ إِلَى التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ الْحَيَاةَ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي مَاهِيَّةِ الْحَيِّ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْأَطْرَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُحْيِيَهُمْ إِذَا لَمْ يُشَاهَدُوا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي لَا تُسَمُّوهُمْ بِالْمَوْتَى وَقُولُوا لَهُمُ الشُّهَدَاءَ الْأَحْيَاءَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: هُمْ أَمْوَاتٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] فَقَالَ: وَلَا تَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ مَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَكِنْ قُولُوا: هُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدِّينِ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، يَعْنِي الْمُشْرِكُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيٌّ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ وَنُورٍ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: مَا مَاتَ رَجُلٌ خَلَفَ مِثْلَكَ، وَحُكِيَ عَنْ بُقْرَاطَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ: مُوتُوا بِالْإِرَادَةِ تَحْيَوْا بِالطَّبِيعَةِ أَيْ بِالرُّوحِ.
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ»
وَالْأَخْبَارُ فِي ثَوَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ كَالْمُتَوَاتِرَةِ،
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي آخِرِ/ صَلَاتِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا فَائِدَةٌ، أَجَابَ عَنْهُ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ دَرَجَتَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَرْفَعُ وَمَنْزِلَتَهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: ٦٩] فَأَرَادَهُمْ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ أَعْظَمُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ النَّاسَ يَزُورُونَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ وَيُعَظِّمُونَهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ فَقَالَ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آل عمران: ١٦٩] وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ بِالْمَكَانِ، بَلْ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامَةِ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ بَلْ بِإِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ وَإِيصَالِ الْبِشَارَاتِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ ثَوَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ لِلرُّوحِ لَا لِلْقَالَبِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ الرُّوحِ، وَلْنُشِرْ إِلَى خُلَاصَةِ حَاصِلِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَنَقُولُ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الْهَيْكَلِ أَبَدًا فِي النُّمُوِّ وَالذُّبُولِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالِاسْتِكْمَالِ وَالذَّوَبَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ من حيث هُوَ أَمْرٌ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ، وَالْبَاقِي غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ بَاقٍ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِهَذَا الْهَيْكَلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنِّي أَكُونُ عَالِمًا بِأَنِّي أَنَا حَالَ مَا أَكُونُ غَافِلًا عَنْ جَمِيعِ أَجَزَائِي وَأَبْعَاضِي، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَالَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِي (أَنَا) مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَلِأَنَّ الْمَحْسُوسَ إِنَّمَا هُوَ السَّطْحُ وَاللَّوْنُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدُ اللَّوْنِ وَالسَّطْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ (أَنَا) أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّ أَشَدَّهَا تَلْخِيصًا وَتَحْصِيلًا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَجْزَاءَ جِسْمَانِيَّةً سَارِيَةٌ فِي هَذَا الْهَيْكَلِ سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فِي الْوَرْدِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَقَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي مِنْهَا يَتَأَلَّفُ هَذَا الْهَيْكَلُ إِلَّا أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ سُبْحَانَهُ يُبْقِي بَعْضَ الْأَجْزَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِهِ فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ هِيَ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ (أَنَا) ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ حَيَّةٌ بِحَيَاةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا فَإِذَا زَالَتِ الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين. وَثَانِيهِمَا: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا اخْتِلَافَ الْأَجْسَامِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ أَجْسَامٌ مُخَالِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا هَذَا الْهَيْكَلُ وَتِلْكَ الْأَجْسَامُ حَيَّةٌ لِذَاتِهَا مُدْرِكَةٌ لِذَاتِهَا، فَإِذَا خَالَطَتْ هَذَا الْبَدَنَ وَصَارَتْ سَارِيَةً فِي هَذَا الْهَيْكَلِ، سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ صَارَ هَذَا الْهَيْكَلُ مُسْتَطِيرًا بِنُورِ ذَلِكَ الرُّوحِ/ مُتَحَرِّكًا بِتَحَرُّكِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْهَيْكَلَ أَبَدًا فِي الذَّوَبَانِ وَالتَّحَلُّلِ وَالتَّبَدُّلِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، وَإِنَّمَا لَا يَعْرِضُ لَهَا التَّحَلُّلُ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْقَالَبُ انْفَصَلَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ النُّورَانِيَّةُ إِلَى عالم السموات وَالْقُدُسِ وَالطَّهَارَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ السُّعَدَاءِ، وَإِلَى الْجَحِيمِ وَعَالَمِ الْآفَاتِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْقِيَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أَنَا مَوْجُودٌ) لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي السُّلُوكِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ حَقًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فَرْدًا حَقًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ فَرْدًا حَقًّا، وَكُلُّ جِسْمٍ وَكُلُّ حَالٍ فِي الْجِسْمِ فَلَيْسَ بِفَرْدٍ حَقًّا، فَذَلِكَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ مِنَّا أَنَّهُ يَعْلَمُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا وَلَا جِسْمَانِيًّا أَمَّا أَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ حَقًّا فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ شَيْءٍ، فَهَذَا الْمَوْجُودُ إِنْ كَانَ فَرْدًا حَقًّا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا فَالْمُرَكَّبُ مُرَكَّبٌ عَلَى الْفَرْدِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْدِ عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ فَرْدٌ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ مَا هُوَ فَرْدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِذَلِكَ الْفَرْدِ إِنْ كَانَ مُنْقَسِمًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عِلْمًا بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِمَّا أَنْ يَحْدُثَ زَائِدٌ هُوَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْفَرْدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ هُوَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْحَادِثَةُ لَا تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَرَضْنَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ هذه الكيفية
قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ إِمَّا أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَالْأَوَّلُ مُكَابَرَةٌ لِأَنَّا نَجِدُ هَذِهِ البينة مُتَفَرِّقَةً مُتَمَزِّقَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُصُولِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَيْهَا؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ وَيُوصِلُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِلَيْهَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْإِنْسَانُ هُوَ الرُّوحُ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ التَّفَرُّقُ وَالتَّمَزُّقُ فَلَا جَرَمَ يَصِلُ إِلَيْهِ الْأَلَمُ وَاللَّذَّةُ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرُدُّ الرُّوحَ إِلَى البدن يوم القيامة الكبرى، حتى تنظم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٥]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
[في قوله تعالى ولنبلون بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ والأنفس والثمرات] اعْلَمْ أَنَّ الْقَفَّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: هَذَا متعلق بقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥] أَيِ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّا نَبْلُوكُمْ بِالْخَوْفِ وبكذا وفيه مسائل:
المسألة الأولى: [الشكر يوجب المزيد فَكَيْفَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ] فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: ١٥٢] وَالشُّكْرُ يُوجِبُ الْمَزِيدَ عَلَى مَا قَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فَكَيْفَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ إِكْمَالَ الشَّرَائِعِ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلشُّكْرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْقِيَامَ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمِحَنِ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ فِيهَا بِالصَّبْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ أَوَّلًا فَأَمَرَ بِالشُّكْرِ، ثُمَّ ابْتَلَى وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ، لِيَنَالَ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ مَعًا، فَيَكْمُلُ إِيمَانُهُ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ وَنِصْفُ شُكْرٍ».
المسألة الثانية: [المراد بهذه المخاطبة] رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ ستصل إليهم تلك المحن، اشتد خرقهم، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْخَوْفُ تَعْجِيلًا لِلِابْتِلَاءِ، فَيَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَزِيدَ الثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا شَاهَدُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مُقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَيْهِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالْمِحْنَةِ وَالْجُوعِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اخْتَارُوا هَذَا الدِّينَ لِقَطْعِهِمْ بِصِحَّتِهِ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَزِيدِ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّبَعَ إِذَا عَرَفُوا أَنَّ الْمَتْبُوعَ فِي أَعْظَمِ الْمِحَنِ بِسَبَبِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْصُرُهُ، ثُمَّ رَأَوْهُ مَعَ ذَلِكَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِمَّا إِذَا رَأَوْهُ مُرَفَّهَ الْحَالِ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَوُجِدَ مُخْبِرُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَرَ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ طَمَعًا مِنْهُ فِي الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَإِذَا اخْتَبَرَهُ تَعَالَى بِنُزُولِ هَذِهِ الْمِحَنِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْمُنَافِقُ عَنِ الْمُوَافِقِ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ نَفَرَ مِنْهُ وَتَرَكَ دِينَهُ فَكَانَ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ إِخْلَاصَ الْإِنْسَانِ حَالَةَ الْبَلَاءِ وَرُجُوعَهُ إِلَى بَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ إِخْلَاصِهِ حَالَ إِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ بِشَيْءٍ عَلَى الْوُحْدَانِ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَشْيَاءَ عَلَى الْجَمْعِ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لِئَلَّا يُوهِمَ بِأَشْيَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَدُلُّ عَلَى ضُرُوبِ الْخَوْفِ وَالتَّقْدِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ كَذَا وَشَيْءٍ مِنْ كَذَا. الثَّانِي: مَعْنَاهُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يُلَاقِيكَ مِنْ مَكْرُوهٍ وَمَحْبُوبٍ، فَيَنْقَسِمُ إِلَى مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَإِلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَاضِي وَإِلَى مَا سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا خَطَرَ بِبَالِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا مَضَى سُمِّيَ ذِكْرًا وَتَذَكُّرًا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ: يُسَمَّى ذَوْقًا وَوَجْدًا وَإِنَّمَا سُمِّيَ وَجْدًا لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَجِدُهَا مِنْ نَفْسِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَطَرَ بِبَالِكَ وُجُودُ شَيْءٍ فِي الاستقبال وغلب ذلك على قبلك، سُمِّيَ انْتِظَارًا وَتَوَقُّعًا، فَإِنْ كَانَ الْمُنْتَظَرُ مَكْرُوهًا حَصَلَ مِنْهُ أَلَمٌ فِي الْقَلْبِ يُسَمَّى خَوْفًا وَإِشْفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا سُمِّيَ ذَلِكَ ارْتِيَاحًا، والارتياح رجاء، فالخوف هو تألم الْقَلْبِ لِانْتِظَارِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ، وَالرَّجَاءُ هُوَ ارْتِيَاحُ الْقَلْبِ لِانْتِظَارِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَحْطُ وَتَعَذُّرُ تَحْصِيلِ الْقُوتِ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا الْخَوْفُ الشَّدِيدُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ عِنْدَ مُكَاشَفَتِهِمُ الْعَرَبَ بِسَبَبِ الدِّينِ، فَكَانُوا لَا يَأْمَنُونَ قَصْدَهُمْ إِيَّاهُمْ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْخَوْفِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ مَا كَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَابِ: ١١] وَأَمَّا الْجُوعُ فَقَدْ أَصَابَهُمْ فِي أَوَّلِ مُهَاجَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقِلَّةِ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ،
وَرَوَى أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَيِّهَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ الْتَقَى مَعَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: مَا أَخْرَجَكَ؟ قَالَ: الْجُوعُ. قَالَ:
أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ:
وَأَمَّا النَّقْصُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ بِأَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ وَقَدْ يُقْتَلُ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ/ النَّقْصُ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ٤١] وَقَدْ يَحْصُلُ الجوع في السفر الْجِهَادِ عِنْدَ فَنَاءِ الزَّادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ١٢٠] وَقَدْ يَكُونُ النَّقْصُ فِي النَّفْسِ بِمَوْتِ بَعْضِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُحَقَّقًا فِي الْإِيمَانِ كَانَ كَمَنْ قَالَ فِيهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَجِّ: ١١] فَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَانِبِ الظُّلْمَةِ فَلَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ مِثَالُهُ: أَنَّ الْمُرَاهِقَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ بِهِ أَبُوهُ مِنَ التَّأْدِيبِ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ، لَكَانَ لَهُ أَنْ يُمَانِعَ بَلْ يُحَارِبَ، وَكَذَا فِي الْعَبْدِ مَعَ مَوْلَاهُ فَمَا يُدَبِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا حِكْمَةً وَصَوَابًا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ مِنَ الظُّلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ فِي وَبَشِّرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْبِشَارَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْبَهَائِمِ وَالْمَلَائِكَةِ، أَمَّا فِي الْبَهَائِمِ فَلِنُقْصَانِهَا، وَأَمَّا فِي الْمَلَائِكَةِ فَلِكَمَالِهَا، بَيَانُهُ أَنَّ الْبَهَائِمَ سُلِّطَتْ عَلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، وَلَيْسَ لِشَهَوَاتِهَا عَقْلٌ يُعَارِضُهَا، حَتَّى يُسَمَّى ثَبَاتُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي مُقَابَلَةِ مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ صَبْرًا، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ جُرِّدُوا لِلشَّوْقِ إِلَى حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالِابْتِهَاجِ بِدَرَجَةِ الْقُرْبِ مِنْهَا وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ شَهْوَةٌ صَارِفَةٌ عَنْهَا، حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى مُصَادَمَةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ بِجُنْدٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ خُلِقَ فِي ابْتِدَاءِ الصِّبَا نَاقِصًا مِثْلَ الْبَهِيمَةِ، وَلَمْ يُخْلَقْ فِيهِ إِلَّا شَهْوَةُ الْغِذَاءِ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِ شَهْوَةُ اللَّعِبِ، ثُمَّ شَهْوَةُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الصَّبْرِ الْبَتَّةَ، إِذِ الصَّبْرُ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ جُنْدٍ فِي مُقَابَلَةِ جُنْدٍ آخَرَ، قَامَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا لِتَضَادِّ مَطَالِبِهِمَا أَمَّا الْبَالِغُ فَإِنَّ فِيهِ شَهْوَةً تَدْعُوهُ إِلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَقْلًا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَطَلَبُ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَإِذَا عَرَفَ الْعَقْلُ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِطَلَبِ هذه اللذات العاجلة، عَنِ الْوُصُولِ إِلَى تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْبَاقِيَةِ، صَارَتْ دَاعِيَةُ الْعَقْلِ صَادَّةً وَمَانِعَةً لِدَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ الصَّدُّ وَالْمَنْعُ صَبْرًا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: بَدَنِيٌّ، كَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِالْبَدَنِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِمَّا بِالْفِعْلِ كَتَعَاطِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ أَوْ بِالِاحْتِمَالِ/ كَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْأَلَمِ الْعَظِيمِ. وَالثَّانِي: هُوَ الصَّبْرُ النَّفْسَانِيُّ وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ وَمُشْتَهِيَاتِ الطَّبْعِ، ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ إِنْ كَانَ صَبْرًا عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ سُمِّيَ عِفَّةً، وَإِنْ كَانَ عَلَى احْتِمَالٍ مَكْرُوهٍ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِ عِنْدَ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّبْرُ، فَإِنْ كَانَ فِي مُصِيبَةٍ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الصَّبْرِ وَيُضَادُّهُ حَالَةٌ تُسَمَّى الْجَزَعَ وَالْهَلَعَ، وَهُوَ إِطْلَاقُ دَاعِي الْهَوَى فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَضَرْبِ الْخَدِّ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغِنَى يُسَمَّى ضَبْطَ النَّفْسِ وَيُضَادُّهُ حَالَةٌ تُسَمَّى:
الْبَطَرَ. وَإِنْ كَانَ فِي حَرْبٍ وَمُقَاتِلَةٍ يُسَمَّى: شَجَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ يُسَمَّى:
حِلْمًا، وَيُضَادُّهُ النَّزَقُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مِنْ نَوَائِبِ الزَّمَانِ مُضْجِرَةٍ سُمِّيَ: سِعَةَ الصَّدْرِ، وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ وَالنَّدَمُ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى»
وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يُعَدُّ مَعَهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ثُمَّ صَبَرَ، فَذَلِكَ يُسَمَّى سَلْوًا وَهُوَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ كُلِّفَ النَّاسُ إِدَامَةَ الْجَزَعِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي فَضِيلَةِ الصَّبْرِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّابِرِينَ بِأَوْصَافٍ وَذَكَرَ الصَّبْرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا وَأَضَافَ أَكْثَرَ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السَّجْدَةِ: ٢٤] وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَافِ: ١٣٧] وَقَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٦] وَقَالَ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [الْقَصَصِ: ٥٤] وَقَالَ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزُّمَرِ: ١٠] فَمَا مِنْ طَاعَةٍ إِلَّا وَأَجْرُهَا مُقَدَّرًا إِلَّا الصَّبْرَ، وَلِأَجْلِ كَوْنِ الصَّوْمِ مِنَ الصَّبْرِ قَالَ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَوَعَدَ الصَّابِرِينَ بِأَنَّهُ مَعَهُمْ فَقَالَ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَالِ: ٤٦] وَعَلَّقَ النُّصْرَةَ عَلَى الصَّبْرِ فَقَالَ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٥] وَجَمَعَ لِلصَّابِرِينَ أُمُورًا لَمْ يَجْمَعْهَا لِغَيْرِهِمْ فَقَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٥٧]. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ»
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْعَقَائِدِ، وَبِحُصُولِ مَا يَنْبَغِي، فَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي هُوَ الصَّبْرُ وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ صَبْرًا إِلَّا أَنَّ تَرَكَ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلَ/ مَا يَنْبَغِي قَدْ يَكُونُ مُطَابِقًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الصَّبْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّهْوَةِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الصَّبْرِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَ الصَّبْرَ نِصْفَ الْإِيمَانِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ أَفْضَلِ مَا أُوتِيتُمُ الْيَقِينُ وَعَزِيمَةُ الصَّبْرِ وَمَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْهُمَا لَمْ يُبَالِ مَا فَاتَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِيمَانُ هُوَ الصَّبْرُ»
وَهَذَا شَبَهُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: في بيان أن الصبر أفضل الشُّكْرَ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَالَةُ الْأَخْبَارِ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ أَشَدُّ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ أَفْضَلِ مَا أُوتِيتُمُ الْيَقِينُ وَعَزِيمَةُ الصَّبْرِ»
وَقَالَ: «يُؤْتَى بِأَشْكَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَجْزِيهِ اللَّهُ جَزَاءَ الشَّاكِرِينَ، وَيُؤْتَى بِأَصْبَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ نَجْزِيَكَ كَمَا جَزَيْنَا هَذَا الشَّاكِرَ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَشَكَرْتَ، وَابْتَلَيْتُكَ فَصَبَرْتَ، لَأُضَعِّفَنَّ لَكَ الْأَجْرَ فَيُعْطَى أَضْعَافَ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ»
وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ»
فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ
وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا لِمَكَانِ مُلْكِهِ، وَآخِرُ الصَّحَابَةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِمَكَانِ غِنَاهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا مِصْرَاعَانِ إِلَّا بَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ مِصْرَاعٌ وَاحِدٌ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُهُ أَهْلُ الْبَلَاءِ وَأَمَامُهُمْ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَاتٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ أَفَادَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الدِّينِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ الْأَمْرَاضَ وَغَيْرَهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَخِلَافَ قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَنْسُبُونَهَا إِلَى سَعَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَنُحُوسَتِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغِذَاءَ لَا يُفِيدُ الشِّبَعَ، وَشُرْبُ الْمَاءِ لَا يُفِيدُ الرِّيَّ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ أَسْبَابَهَا صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَجَازِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ الحقيقة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى لما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَيْفَ يَكُونُ صَابِرًا، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِشَارَةَ كَيْفَ هِيَ؟ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، أَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَمِثْلُ الخوف من الغرق والحريق وَالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا، وَالَّذِي مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَلِأَجْلِ الْفَقْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقْرُ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ بِأَنْ يُغْلَبُوا عَلَيْهِ فَيُتْلِفُوهُ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ مِنَ اللَّهِ تعالى إنما يكون بالجوانح الَّتِي تُصِيبُ الْأَمْوَالَ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَنَّ الْقَوْمَ لِاشْتِغَالِهِمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِعِمَارَةِ الْأَرَاضِي، وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِمَاتَةِ وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْقَتْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُضِفْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ عَمَّمَ وَقَالَ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ مَضَرَّةٍ يَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَيْهِ تَكْلِيفًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى خِلَافِهِ كَانَ تَارِكًا لِلتَّمَسُّكِ بِأَدَائِهِ فَالَّذِي يَنَالُهُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَعَدْلٌ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرِّضَا بِهِ وَتَرْكُ الْجَزَعِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ فِيمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غَافِرٍ: ٢٠] أَمَّا إِذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ مِنْ غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاب مِنْهُ وَأَنْ يَكْظِمَ غَيْظَهُ وَغَضَبَهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ شُفَعَاءَ غَيْظُهُ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَلْزَمَهُ سُلُوكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حَتَّى لَا يُجَاوِزَ أَمْرَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْأَوَّلِ، إنا الله يُدَبِّرُ فِينَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ يَنْتَصِفُ لَنَا كَيْفَ يَشَاءُ.
لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ «إِنَّا» مَعَ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُرُوفِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا امْتِنَاعُ الْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِمَالَةُ «حَتَّى» وَ «لَكِنَّ».
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ إِنَّا لِلَّهِ إِقْرَارٌ مِنَّا لَهُ بِالْمُلْكِ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهَلَاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ فِيهِ سواء، وَذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُ اللَّهِ نَفْعَهُمْ وَضَرَّهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا رُجُوعًا إِلَيْهِ تَعَالَى، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ/ لَا بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ بَلْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُجَازِي الصَّابِرِينَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّا لِلَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا نَزَلَ بِهِ فِي الْحَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَقَوْلُهُ:
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْحَالِ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا سَيَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْ إِثَابَتِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَمِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، ومن الانتصاب مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَكُونُ مُذَلِّلًا نَفْسَهُ، رَاضِيًا بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. أَحَدُهَا:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ».
وَثَانِيهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ طُفِئَ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» فَقِيلَ أَمُصِيبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ كُلُّ شَيْءٍ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ.
وَثَالِثُهَا:
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي فَأْجُرْنِي فِيهَا وَعَوِّضْنِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَعَوَّضَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقُلْتُ هَذَا الْقَوْلَ: فَعَوَّضَنِي اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَعَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ وَتَحْقِيقُ سَبِيلِ الْهُدَى.
وَخَامِسُهَا: عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نِعْمَ الْعَدْلَانِ وَهُمَا: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَنِعْمَتِ الْعِلَاوَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ هِيَ: الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ وَالتَّعْظِيمُ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ فَهِيَ: النِّعَمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا بِهِ عَاجِلًا ثُمَّ آجِلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْمُهْتَدُونَ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُوصِّلَةِ بِصَاحِبِهَا
فَرْضٍ وَنَفْلٍ، أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، لَا يَصْرِفُ عَنْهَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِظْهَارًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً مِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي/ بِهِ إِذَا سَمِعَهُ، وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ قَالَ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُحَبَّ الْبَقَاءُ فِيهَا، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزُنَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا.
وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِبَيَانِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِنَّمَا يَصْبِرُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ: إِمَّا بِطَرِيقِ التَّصَرُّفِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْجَذْبِ، أَمَّا طَرِيقُ التَّصَرُّفِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَالَ قَلْبُهُ إِلَى شَيْءٍ وَالْتَفَتَ خَاطِرُهُ إِلَى شَيْءٍ جَعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مَنْشَأً لِلْآفَاتِ فَحِينَئِذٍ يَنْصَرِفُ وَجْهُ الْقَلْبِ عَنْ عَالَمِ الْحُدُوثِ إِلَى جَانِبِ الْقُدُسِ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالْجَنَّةِ جَعَلَهَا مِحْنَةً عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتِ الْجَنَّةُ، فَبَقِيَ آدَمُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا اسْتَأْنَسَ يَعْقُوبُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْقَعَ الْفِرَاقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَقِيَ يَعْقُوبُ مَعَ ذِكْرِ الْحَقِّ، وَلَمَّا طَمِعَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ صَارُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى
قَالَ: «مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ».
وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَلَاءً وَلَكِنْ يَرْفَعُهُ مِنَ الْبَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَا الْبَلَاءُ وَلَا الرَّحْمَةُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى تَوَقَّعَ مِنْ جَانِبٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ خَيْرًا مِنْ مُتَوَقَّعِهِ فَيَسْتَحِي الْعَبْدُ فَيَرْجِعُ إِلَى بَابِ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الْجَذْبِ فَهُوَ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ».
وَمَنْ جَذَبَهُ الْحَقُّ إِلَى نَفْسِهِ صَارَ مَغْلُوبًا لِأَنَّ الْحَقَّ غَالِبٌ لَا مَغْلُوبٌ، وَصِفَةُ الرَّبِّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ الْعُبُودِيَّةُ، وَالرُّبُوبِيَّةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ لَا بِالضِّدِّ، وَصِفَةُ الْحَقِّ حَقِيقَةٌ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ مَجَازٌ، وَالْحَقِيقَةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْمَجَازِ لَا بِالضِّدِّ، وَالْغَالِبُ يَقْلِبُ الْمَغْلُوبَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ تَلِيقُ بِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَهِيبِ نَسِيَ نَفْسَهُ وَصَارَ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ وَحِسِّهِ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَمُشْتَغِلًا بِهِ وَغَافِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فكيف بمن لحظ نصره حَضْرَةَ السُّلْطَانِ الَّذِي كَانَ مَنْ عَدَاهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ هُنَالِكَ كَالْفَانِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ هُنَالِكَ رَاضِيًا بِأَقْضِيَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيُتِمَّ إِنْعَامَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ بِإِحْيَاءِ شَرَائِعِ إِبْرَاهِيمَ/ وَدِينِهِ عَلَى ما قال: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة:
أَحَدُهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِحُسْنِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] فَإِنَّ كان عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى شُكْرِهِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ. وَثَانِيهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِقُبْحِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ بِسَبَبِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ يُسَلِّمُ حُسْنَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ إِنْزَالِ الْآلَامِ وَالْفَقْرِ وَالْمِحَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَأَلَّمُ الْعَبْدُ مِنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ بِهِ وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَهِيَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَلَى مَا قَالَ:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة: ١٥٥] فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ الْمُسْلِمُ حُسْنَهُ وَكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا.
وَثَالِثُهَا: الْأَمْرُ الَّذِي لَا يُهْتَدَى لَا إِلَى حُسْنِهِ وَلَا إِلَى قُبْحِهِ، بَلْ يَرَاهُ كَالْعَبَثِ الْخَالِي عَنِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ وَهُوَ مِثْلُ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقِسْمَ عَقِيبَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ لِيَكُونَ قَدْ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَكَالِيفِهِ وذكراً لِكُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ عَلَمَانِ لِلْجَبَلَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ إِنَّ الصَّفَا وَاحِدٌ وَيُجْمَعُ عَلَى صِفِيِّ وَأَصْفَاءٍ كَمَا يُقَالُ عَصَا وَعِصِيٌّ، وَرَحَا وَأَرْحَاءٌ قَالَ الزاجر:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ | مَوَاقِعُ الطَّيْرِ مِنَ الصِّفِيِّ |
إِنَّا إِذَا قَرَعَ الْعَدُوُّ صَفَاتَنَا | لَاقَوْا لَنَا حَجَرًا أَصَمَّ صَلُودَا |
حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ | بِصَفَا الْمَشَاعِرِ كُلَّ يَوْمٍ يَقْرَعُ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّعَائِرُ إِمَّا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ أَوْ عَلَى النُّسُكِ، أَوْ نَحْمِلَهَا عَلَى مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ وَالنُّسُكِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ حَصَلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، لِأَنَّ نَفْسَ الْجَبَلَيْنِ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بِأَنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا وَالسَّعْيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمَنَاسِكِ وَكَيْفَ كَانَ فَالسَّعْيُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَمِنْ أَعْلَامِ دِينِهِ، وَقَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْمَنَاسِكِ الَّذِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: ١٢٨] وَاعْلَمْ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ عِبَادَةً تَامَّةً فِي نَفْسِهِ بَلْ إِنَّمَا يَصِيرُ عِبَادَةً إِذَا صَارَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا السِّرِّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ يَصِيرُ السَّعْيُ عِبَادَةً فَقَالَ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي شَرْعِ هَذَا السَّعْيِ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ حِينَ ضَاقَ بِهَا الْأَمْرُ فِي عَطَشِهَا وَعَطَشِ ابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغَاثَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْبَعَهُ لَهَا وَلِابْنِهَا مِنْ زَمْزَمَ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَلِّي أَوْلِيَاءَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحَنِ إِلَّا أَنَّ فَرَجَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ فَإِنَّهُ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ، فَانْظُرْ إِلَى حَالِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ كَيْفَ أَغَاثَهُمَا وَأَجَابَ دُعَاءَهُمَا، ثُمَّ جَعَلَ أَفْعَالَهُمَا طَاعَةً لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَآثَارَهُمَا قُدْوَةً لِلْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ إِلَّا أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ نَالَ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ وَفَازَ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى فِي الْمَنْزِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي لَفْظِ الْحَجِّ أَقْوَالًا. الْأَوَّلُ: الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَيْءٍ وَالتَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، فَمَنْ زَارَ الْبَيْتَ لِلْحَجِّ فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ أَوَّلًا لِيَعْرِفَهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِلطَّوَافِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مِنًى ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ. الثَّانِي: قَالَ قُطْرُبٌ: الْحَجُّ الْحَلْقُ يُقَالُ: احْجُجْ شَجَّتَكَ، وَذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ الشَّعْرَ مِنْ نَوَاحِي الشجة ليدخل المحجاج فِي الشَّجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَجَّ فُلَانٌ أَيْ خلق، قَالَ الْقَفَّالُ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الْفَتْحِ: ٢٧] أَيْ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَلَقِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ لِمَعْنَى الْحَلْقِ. الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ الْحَجُّ الْقَصْدُ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَحْجُوجٌ، وَمَكَانٌ/ مَحْجُوجٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ، فَكَانَ الْبَيْتُ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حَجًّا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ رَجُلٌ مَحْجُوجٌ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يُخْتَلَفُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ هُوَ الَّذِي كَثُرَ السَّيْرُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاعْتِمَارُ هُوَ الْقَصْدُ وَالزِّيَارَةُ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَجَاشَتِ النَّفْسُ لَمَّا جَاءَ جَمْعُهُمُ | وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرِ |
وَقَوْلُهُ: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أَيْ يَتَطَوَّفَ فَأُدْغِمَتِ التاء في الطاء كما قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: ١]، يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلِ: ١] أَيْ الْمُتَدَثِّرُ وَالْمُتَزَمِّلُ، وَيُقَالُ: طَافَ وَأَطَافَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي فِعْلِهِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، ثُمَّ يَمْتَازُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ، أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا السَّعْيَ رُكْنٌ، وَلَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَيَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا»،
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ السَّعْيِ وَهُوَ الْعَدْوُ، ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّعْيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْوِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: ٩] وَالْعَدْوُ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: ٣٩] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَدْوَ، بَلِ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْوِ، وَلَكِنَّ الْعَدْوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِفَةِ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَشْيِ وَاجِبًا.
وَثَانِيهَا: مَا ثَبَتَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَعَى لَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى/ الْبَيْتَ،
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَعَى وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا السَّعْيُ لِلْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: ٢١] وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَشْوَاطٌ شُرِعَتْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ فِي إِحْرَامٍ كَامِلٍ فَكَانَ جِنْسُهَا رُكْنًا كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يَلْزَمُ طَوَافُ الصَّدْرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِلْجِنْسِ لِوُجُوبِهِ مَرَّةً، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَهَذَا لَا يُقَالُ فِي الْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَثَانِيهِمَا:
قَوْلُهُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ»
وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَامَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّعْيِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِهِمَا وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِمَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ انْصَرَفَتِ الْإِبَاحَةُ إِلَى وُجُودِ الصَّنَمَيْنِ حَالَ الطَّوَافِ لَا إِلَى نَفْسِ الطَّوَافِ كما لو كان في الثواب نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ عِنْدَكُمْ، أَوْ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عِنْدَنَا، فَقِيلَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ، فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَكَانِ النَّجَاسَةِ لَا إِلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنِّي أَرَى أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيَّ فِي أَنْ لَا أَطُوفَ بِهِمَا، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، ثُمَّ حَكَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّنَمَيْنِ، وَتَفْسِيرُ عَائِشَةَ راجع عَلَى تَفْسِيرِ التَّابِعِينَ، فَإِنْ قَالُوا: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وَاللَّفْظُ أَيْضًا مُحْتَمِلٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: ١٧٦] أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَقُولُوا، قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرًا. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ السَّعْيَ مَنْدُوبٌ، فَقَدْ صَارَتِ الْآيَةُ مَتْرُوكَةَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهَا.
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّطَوُّعِ هُوَ الطَّوَافُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة: ١٨٤] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامَ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى التَّطَوُّعِ بِالْخَيْرِ فَكَانَ الْمَعْنَى: فَمَنْ تَطَوَّعَ وَزَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ كَانَ خَيْرًا، فَكَذَا هَاهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّطَوُّعُ مَصْرُوفًا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الطَّوَافِ فَيَطُوفُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ مِثْلَ أَنْ يَطُوفَ ثَمَانِيَةً أَوْ أَكْثَرَ. الثَّانِي: أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ حَجِّ الْفَرْضِ وَعُمْرَتِهِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى طَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَطَوُّعًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ (يَطَّوَّعْ) بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَتَطَوَّعُ، إِلَّا أَنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ لِتَقَارُبِهِمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ فِيهِمَا الِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَنْ أَتَانِي أَكْرَمْتُهُ فَيُوقِعُ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَزَاءِ، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ يُوَافِقُ الْمَعْنَى كَانَ أَحْسَنَ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا تَطَوَّعَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ مَاضِيًا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ تَطَوَّعَ جَزْمًا. الثَّانِي: أَنْ لَا يُجْعَلَ (مِنْ) لِلْجَزَاءِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ (الَّذِي) وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَالْفَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِكَوْنِهَا خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَعْنَى مُبْتَدَأِ الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِذَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَوِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، أَفَادَتْ أَنَّ الثَّانِيَ إِنَّمَا وَجَبَ لِوُجُوبِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: ٥٣] فَمَا مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، وَالْفَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ
[النساء: ٣٨] إلى قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ [البقرة: ٢٧٤] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [الْبُرُوجِ: ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً
[الْبَقَرَةِ: ٢٧٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: تَطَوَّعَ تَفَعَّلَ مِنَ الطَّاعَةِ وَسَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ: طَاعَ وَتَطَوَّعَ، كَمَا يُقَالُ: حَالَ وَتَحَوَّلَ وَقَالَ وَتَقَوَّلَ وَطَافَ وَتَطَوَّفَ وَتَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَثِيرًا، وَالطَّوْعُ هُوَ الِانْقِيَادُ، وَالطَّوْعُ مَا تَرْغَبُ بِهِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: السَّعْيُ وَاجِبٌ، فَسَّرُوا هَذَا التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالسَّعْيِ فِي الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّاكِرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَالشَّاكِرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُجَازِي عَلَى الطَّاعَةِ: وَإِنَّمَا سَمَّى الْمُجَازَاةَ عَلَى الطَّاعَةِ شُكْرًا لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّلَطُّفِ لِلْعِبَادِ مُبَالَغَةً فِي الْإِحْسَانِ/ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] وَهُوَ تَعَالَى لَا يَسْتَقْرِضُ مِنْ عِوَضٍ، وَلَكِنَّهُ تَلَطُّفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُقْرِضِ بِأَنْ يُقَدِّمَ فَيَأْخُذَ أَضْعَافَ مَا قَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ الشُّكْرَ لَمَّا كَانَ مُقَابِلًا لِلْإِنْعَامِ أَوِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ سُمِّيَ كُلُّ مَا كَانَ جَزَاءً شُكْرًا عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ. الثَّالِثُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا وَإِنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِكَ إِلَّا أَنِّي أَجْعَلُ لَهَا مِنَ الْمَوْقِعِ بِحَيْثُ لَوْ صَحَّ عَلَى أَنْ أَنْتَفِعَ بِهَا لَمَا ازْدَادَ وَقْعُهُ عَلَى مَا حَصَلَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ طَاعَةَ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْقَبُولِ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ قَدْرَ الْجَزَاءِ فَلَا يَبْخَسُ الْمُسْتَحِقَّ حَقَّهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقَدْرِهِ وَعَالِمٌ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَضُّلِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ لِيَكُونَ لقوله تعالى: عَلِيمٌ تعلق بشاكر وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَأْتِي الْعَبْدُ فَيَقُومُ بِحَقِّهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَمَا يَفْعَلُهُ لَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَذَلِكَ تَرْغِيبٌ فِي أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَى شُرُوطِهِ، وَتَحْذِيرٌ من خلاف ذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
[في هذه الْآيَةِ مَسَائِلُ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ، فَكَتَمُوا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ وَالْأَصَمِّ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ، وَهُوَ نزوله عند سبب معين لا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْكِتْمَانُ تَرْكُ إِظْهَارِ الشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَحُصُولُ الدَّاعِي إِلَى إِظْهَارِهِ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يُعَدُّ كِتْمَانًا، فَلَمَّا كَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ أَشَدِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، وَصَفَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِالْكِتْمَانِ، كَمَا يُوصَفُ أَحَدُنَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بِالْكِتْمَانِ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا تَقْوَى الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْدَحُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ السِّرِّ، لِأَنَّ الْكِتْمَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَمَ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: ١٧٤] فَهَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ وَزَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَنَظِيرُهَا فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التَّوْبَةِ: ١٢٢]
وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دُونَ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْهُدى يَدْخُلُ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَائِلِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فَعَادَ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قُلْنَا: الْأَوَّلُ هُوَ التَّنْزِيلُ وَالثَّانِي مَا يَقْتَضِيهِ التَّنْزِيلُ مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَكَانَ كِتْمَانُهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَعِيدِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا الْإِظْهَارُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْبَعْضُ/ صَارَ بِحَيْثُ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهَا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا وَاجِبًا وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَةِ: ١٦٠] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْهِيًّا عَنِ الكتمان ومأمور بِالْبَيَانِ لِيَكْثُرَ الْمُخْبِرُونَ فَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ؟
قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُمْ مَا نُهُوا عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ وَمَنْ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْوَضْعِ وَالِافْتِرَاءِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ كَانَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَخْذًا لِلْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ١٧٤] وظاهر ذلك بمنع أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَعَلَى الْكِتْمَانِ جَمِيعًا لأن قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ١٧٤] مَانِعٌ أَخَذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ قيل فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَنْزِلِ الْأَوَّلِ مَا فِي كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالثَّانِي: مَا فِي الْقُرْآنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فَاللَّعْنَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هِيَ الْإِبْعَادُ وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ الْإِبْعَادُ مِنَ الثَّوَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فَيَجِبُ أَنْ يحمل على من للعنة تَأْثِيرٌ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٦١] وَالنَّاسُ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّاعِنِينَ هُمْ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا، فَإِنَّهَا تَقُولُ: مُنِعْنَا الْقَطَرَ بِمَعَاصِي بَنِي آدَمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَإِنَّمَا قَالَ: اللَّاعِنُونَ وَلَمْ يَقُلِ اللَّاعِنَاتُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ فَجَمَعَهَا جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ:
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: ٤] ويا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: ١٨] وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: ٢١]، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣]. وَثَانِيهَا: كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ اللَّعْنُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ؟ قُلْنَا: عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً لَكَانَتْ تَلْعَنُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ إِذَا أُعِيدَتْ وَجُعِلَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّهَا تَلْعَنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ/ يَلْعَنُونَهُمْ أَيْضًا حَيْثُ كَتَمُوهُمُ الدِّينَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا تَلَاعَنَ الْمُتَلَاعِنَانِ وَقَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقٌّ رَجَعَتْ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَخَامِسُهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ لَهُمْ لَعْنَتَيْنِ: لَعْنَةَ اللَّهِ. وَلَعْنَةَ الْخَلَائِقِ. قَالَ: وَذَلِكَ إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَيُسْأَلُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَنْ
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَظِيمَ الْوَعِيدِ فِي الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَعِيدَ يَلْحَقُهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا تَغَيَّرَ حُكْمُهُمْ، وَدَخَلُوا فِي أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ نَدِمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّاسَ ذَمُّوهُ، أَوْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ رَدَّ شَهَادَتَهُ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَزَمَ عَلَى رَدِّ كُلِّ وَدِيعَةٍ، والقيام بكل واجب، لكي تقبل شهادة، أَوْ يُمْدَحَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَهَذَا مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فِي التَّوْبَةِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ إِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ مَثَلًا لَوْ أَفْسَدَ عَلَى غَيْرِهِ دِينَهُ بِإِيرَادِ شُبْهَةٍ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ ثَالِثًا أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ ضِدِّ الْكِتْمَانِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَبَيَّنُوا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَبِفِعْلِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَعْضِ لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَصْلَحُوا عَامٌّ فِي الْكُلِّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ حُصُولُ فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا حَسُنَ هَذَا الْمَدْحُ وَمَعْنَى: أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَقَبُولُ التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ إِزَالَةَ عِقَابِ مَا تَابَ مِنْهَا فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قُلْتُمْ أَنَّ مَعْنَى فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ قَبُولُ التَّوْبَةِ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالثَّوَابِ كَمَا تَقُولُونَ فِي قَبُولِ الطَّاعَةِ قُلْنَا: الطَّاعَةُ إِنَّمَا أَفَادَ قَبُولُهَا اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا سِوَاهُ وَهُوَ الْغَرَضُ بِفِعْلِهَا/ وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوْبَةُ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ، وَهُوَ الْغَرَضُ بِفِعْلِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا الثَّوَابَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَا التَّوَّابُ الْقَابِلُ لِتَوْبَةِ كُلِّ ذِي تَوْبَةٍ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَعْنَى الرَّحِيمِ عَقِيبَ ذَلِكَ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ بِالْمُكَلَّفِينَ مِنْ عِبَادِهِ، يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ بَعْدَ التَّفْرِيطِ الْعَظِيمِ منهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْآيَاتِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ التَّائِبِينَ مِنْهُمْ، ذَكَرَ أَيْضًا حَالَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حَالَ الْحَيَاةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا ذُكِرَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ صَارَ الْوَعِيدُ لَازِمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَمَّا كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ عَلِمْنَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَأَهْلُ دِينِهِ لَا يَلْعَنُونَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ دِينِهِ يَلْعَنُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥]. وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أَرَادَ بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِغَيْرِهِمْ وَحَكَمَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ النَّاسُ لَا غَيْرَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَلْعَنُ الْجَاهِلَ وَالظَّالِمَ لِأَنَّ قُبْحَ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي الْعُقُولِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ جَاهِلًا أَوْ ظَالِمًا وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ كَذَلِكَ، كَانَتْ لَعْنَتُهُ عَلَى الْجَاهِلِ وَالظَّالِمِ تَتَنَاوَلُ نَفْسَهُ عَنِ السُّدِّيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُحْمَلَ وُقُوعُ اللَّعْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ، وَحِينَئِذٍ يَعُمُّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، / وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنَّا لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَدِ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ جُنَّ لَمْ يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السَّبِيلُ فِيمَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالْمُوَالَاةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، فَإِنَّ مَوْتَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ جُنُونَهُ، لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَالِ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْمُوَافَاةِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: عَلَّقَ تَعَالَى وُجُوبَ لَعْنَتِهِ بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى كُفْرِهِ فَلَوِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ لَوْ مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْإِيمَانُ إِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. الْجَوَابُ: الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ مِنْهَا اللَّعْنُ لَوْ مَاتَ، وَمِنْهَا الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ وَهُوَ اللَّعْنُ وَحْدَهُ، لِمَ قُلْتُمْ: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُفْرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفْرَ بِمَعْنَى السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ، لَا يَبْقَى فِيهِمْ حَالَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْحَيِّ الْفَاهِمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ مَعَ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخُلُودُ اللُّزُومُ الطَّوِيلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَخْلَدَ إِلَى كَذَا أَيْ لَزِمَهُ وَرَكَنَ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَامِلُ فِي خالِدِينَ الظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ (عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لِلَّعْنَةِ فَهُوَ حَالٌ من
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خالِدِينَ فِيها أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَقِيلَ فِي النَّارِ إِلَّا أَنَّهَا أُضْمِرَتْ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَتَهْوِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ إِذَا وُجِدَ لَهُ مَذْكُورٌ مُتَقَدِّمٌ فَرَدُّهُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ. الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَ هَذَا الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنَةِ أَكْثَرُ فَائِدَةً من حمله على النار، لأن اللعنة هُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَإِيجَادِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ اللَّعْنُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّارُ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَفِي حَمْلِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنِ يَكُونُ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى النَّارِ لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْعَذَابَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: الْخُلُودُ وَهُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ عِنْدَنَا، وَالْمُكْثُ الدَّائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١]. وَثَانِيهَا: عَدَمُ التَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَنَالُهُمْ مِنْ/ عَذَابِ اللَّهِ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، لَا يَصِيرُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَقَلَّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّشَابُهُ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا تَصَوَّرَ حَالَ غَيْرِهِ فِي شِدَّةٍ كَالْعِقَابِ، كَانَ ذَلِكَ كَالتَّخْفِيفِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَفِّرُ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَ وَقْتُهُ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا. الثَّالِثُ:
أَنَّهُمْ حَيْثُمَا يُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَزْدَادُ غَمُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. (أَجَابُوا عَنْهُ) بِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَلِيلَةِ، فَالْمُسْتَغْرِقُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَا يَنْتَبِهُ لِهَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ التَّفَاوُتِ، قَالُوا:
وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ مُتَشَابِهٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا انْقِطَاعَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَفِّفُ عنهم إذا تصوره، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي مِحْنَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا إِذَا بُشِّرَ بِالْخَلَاصِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ مَوْقِعُ مِحْنَتِهِ وَكُلَّمَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ أَعْظُمَ، كَانَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرَّوْحِ وَالتَّخْفِيفِ بِتَصَوُّرِ الِانْقِطَاعِ أَكْثَرَ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْعِقَابِ: قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَالْإِنْظَارُ هُوَ التَّأْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٠] وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يُؤَجَّلُ، بَلْ يَكُونُ حَاضِرًا مُتَّصِلًا بِعَذَابٍ مِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَنَا أَنَّ حُكْمَ دَارِ الْعَذَابِ وَالثَّوَابِ بِخِلَافِ حُكْمِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِيهَا إِلَى آجَالٍ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ لَا مُهْلَةَ الْبَتَّةَ فَإِذَا اسْتَمْهَلُوا لَا يُمْهَلُونَ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا لَا يُغَاثُونَ وَإِذَا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٨] نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعِقَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى يَأْسِ الْكَافِرِ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالتَّخْفِيفِ والتأخير
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْإِلَهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْوَاحِدُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُمْ وَاحِدٌ اسْمٌ جَرَى عَلَى وَجْهَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَالِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِصِفَةٍ قَوْلُهُمْ: وَاحِدٌ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعَدَدِ نَحْوُ: وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا اسْمٌ لَيْسَ بِوَصْفٍ كَمَا أَنَّ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ صِفَةً فَنَحْوُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا أُجْرِيَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاحِدِيَّةُ هَلْ هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا إِذَا قُلْنَا هَذَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَوْهَرَ يُشَارِكُهُ الْعَرَضُ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ جَوْهَرًا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُعْقَلَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا حَالَ الذُّهُولِ عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لِغَيْرِ الْمَعْلُومِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ وَاحِدًا نَفْسَ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، لَكَانَ قَوْلُنَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِنَا: الْجَوْهَرُ جَوْهَرٌ، وَلِأَنَّ مُقَابِلَ الْجَوْهَرِ هُوَ الْعَرَضُ، وَمُقَابِلَ الْوَاحِدِ هُوَ الْكَثِيرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا أَوْ ثُبُوتِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَلْبِيًّا لَكَانَ سَلْبًا لِلْكَثْرَةِ وَالْكَثْرَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ سَلْبِيَّةً، والواحدة سَلْبُ الْكَثْرَةِ، كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبًا لِلسَّلْبِ وَسَلْبُ السَّلْبِ ثُبُوتٌ، فَالْوَحْدَةُ ثُبُوتِيَّةٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ ثُبُوتِيَّةً وَلَا مَعْنًى لِلْكَثْرَةِ إِلَّا مَجْمُوعَ الْوَحَدَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبِيَّةً مَعَ الْكَثْرَةِ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَعْدُومَاتِ أَمْرًا مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ هَذِهِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لَهَا إِلَّا فِي الذِّهْنِ أولها تَحَقُّقٌ خَارِجَ الذِّهْنِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الذِّهْنِيُّ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْخَارِجِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي نَفْسِهِ وَاحِدًا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ قَدْ كَانَ واحداً في نفسه قبل أن وجد ذِهْنِيًّا وَفَرَضِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ وَاحِدًا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ قَائِمَةٌ بِتِلْكَ الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى كَوْنَ الْوَحْدَةِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، كَانَتِ الْوَحَدَاتُ مُتَسَاوِيَةً فِي مَاهِيَّةِ كَوْنِهَا وَاحِدَةً وَمُتَبَايِنَةً بِتَعَيُّنَاتِهَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَحْدَةِ وَحْدَةٌ أُخْرَى، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ مَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ وَاحِدٌ، فَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْقَسِمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَى إِنْسَانَيْنِ بَلْ قَدْ يَنْقَسِمُ إِلَى الْأَبْعَاضِ وَالْأَجْزَاءِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ حَتَّى الْعَدَدُ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا فَإِنْ قُلْتَ: عَشَرَتَانِ فَالْعَشَرَتَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِهِمُ الْوَحْدَةُ بِالْمَوْجُودِ فَظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ كَانَ وُجُودُهُ نَفْسَ وَحْدَتِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُنْقَسِمُ إِلَى شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِمَا بِهِ الِانْقِسَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ بِاعْتِبَارَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنِ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَفِي كَوْنِهِ مَبْدَأً لِوُجُودِ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي. والبرهان على
وَإِشْكَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الْحَقِّ وَاحِدَةً، فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، وَتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةُ وَمَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةِ، فَذَلِكَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَأَيْنَ التَّوْحِيدُ؟
وَإِشْكَالٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ وَوَاجِبَةُ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَهِيَ بِوُجُودِهَا تُشَارِكُ سَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ وَبِمَاهِيَّاتِهَا تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهُنَاكَ كَثْرَةٌ حَاصِلَةٌ بِسَبَبِ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَمِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ الوجود
وَإِشْكَالٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْبَسِيطَةَ هَلْ يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَهَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا أَمْ لَا.
وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ غَيْرُ الْمُخْبَرِ بِهِ فَهُمَا أَمْرَانِ لَا وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يكن التعبير عنه فهو غير مَعْلُومٌ الْبَتَّةَ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَهُوَ مَغْفُولٌ عَنْهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذَا المقام من السؤال:
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ إِلَّا أَنَّ الذَّاتَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَاجِبَةٌ لِذَاتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا بَعْدِيَّةٌ بِالرُّتْبَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتِلْكَ النُّعُوتِ والصفات فهذا مما لا امتناع فِيهِ عِنْدَ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَاحِدَةٌ فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ لَا أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ حَقٌّ وَلَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مَعَ تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فهناك تتحقق الوحدة وهاهنا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ يَلْتَفِتُ إِلَى الْوَحْدَةِ فَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِلْ إِلَى عَالَمِ الْوَحْدَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْوَحْدَةَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْوَحْدَةِ فَاعْتَبِرْ هَذِهِ الْحَالَةَ بِذِهْنِكَ اللَّطِيفِ لَعَلَّكَ تَصِلُ إِلَى سِرِّهِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْوُجُودِ وَإِشْكَالِ الْوُجُوبِ.
أَمَّا الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ؟ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّكَ مَتَى عَبَّرْتَ عَنْهُ فَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُغَايِرٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ لَا مَحَالَةَ، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ، وَلَوْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، فَهُنَاكَ ذَاتٌ مَعَ سَلْبٍ خَاصٍّ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ فَأَمَّا إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخْبِرَ عَنْهُ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَهُنَاكَ تَحَقَّقَ الْوُصُولُ إِلَى مَبَادِئِ عَالَمِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ الِالْتِفَاتُ الْمَذْكُورُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ هُوَ فَلِذَلِكَ عَظُمَ وَقْعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْخَائِضِينَ فِي بِحَارِ التَّوْحِيدِ، وَسَنَذْكُرُ شَمَّةً مِنْ حَقَائِقِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْوَحْدَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يُشَارِكُهُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ، فكأن هَذِهِ الْوَحْدَةَ هِيَ الْوَحْدَةُ الْخَاصَّةُ بِذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَرَاهِينُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] أم الْوَحْدَةُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّ ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ وَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ إِمَّا مُفْرَدَاتٌ أَوْ مُرَكَّبَاتٌ، فَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْمُفْرَدَاتِ في عالم الْمُمْكِنَاتِ، فَالْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَوَحَّدَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِهَا، أَمَّا الْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَوَحِّدٌ بِهَا وَمُتَفَرِّدٌ بِهَا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ النَّعْتِ شَيْءٌ سِوَاهُ، فَهَذِهِ تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ مَا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ، وَلَا بِذِي أَجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْقِدَمِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ نَحْوَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ، وَقَادِرًا بِنَفْسِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَجَعَلَ تَفَرُّدَهُ بِالْقِدَمِ، وَبِصِفَاتِ الذَّاتِ وَجْهًا وَاحِدًا، قَالَ الْقَاضِي:
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّوْحِيدَ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ فَلِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِنَا هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي شَخْصٍ آخَرَ سِوَاهُ، أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ امْتِيَازُ ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ عَنِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَيْدٍ زَائِدٍ، فَيَكُونُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُرَكَّبًا بِمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا مَعْلُولًا مُفْتَقِرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلِأَنَّ مَوْصُوفِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ مَوْصُوفِيَّةِ غَيْرِهِ بِصِفَاتٍ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَانٍ، لِأَنَّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لَهُ لَا تَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ غَيْرِهِ مُخْتَصَّةٌ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ/ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَقُدْرَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، بَلْ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ مَعْلُومَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ فِي ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ وَيَكُونُ حَالُهُ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْيَازِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَبِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ مَوْصُوفِيَّةُ ذَاتِهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى كَوْنِهَا حَالَّةً فِي ذَاتِهِ وَكَوْنِ ذَاتِهِ مَحَلًّا لَهَا، وَلَا أَيْضًا بِحَسَبِ كَوْنِ ذَاتِهِ مُسْتَكْمَلَةً بِهَا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الذَّاتَ كَالْمَبْدَأِ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الذَّاتُ مُسْتَكْمَلَةً بِالصِّفَاتِ لَكَانَ الْمَبْدَأُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمَلًا بِالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، بَلْ ذَاتُهُ مُسْتَكْمِلَةٌ لِذَاتِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الِاسْتِكْمَالِ الذَّاتِيِّ تَحَقُّقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَهُ إِلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ يَعُودُ فِي نَفْسِ الِاسْتِكْمَالِ فَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، خَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَ الْعُقُولِ مِنْ كُنْهِ صِفَاتِهِ كَمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهَا مِنْ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ ظَهَرَ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمَعْلُومُ مِنْ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَا لَا نَدْرِي أَنَّهُ مَا هُوَ وَلَكِنْ نَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ هَذَا الْأَثَرُ الْمَحْسُوسُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا وَحَيًّا، فَسُبْحَانَ مَنْ رَدَعَ بِنُورِ عِزَّتِهِ أَنْوَارَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَأَمَّا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، فَالْوَاجِبُ هُوَ هُوَ، وَالْمُمْكِنُ مَا عَدَاهُ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ أَقْسَامِ الْمُمْكِنَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مُلْكًا أَوْ مِلْكًا أَوْ كَانَ فِعْلًا لِلْعِبَادِ أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، وَعِنْدَ هَذَا تُدْرِكُ شَمَّةً مِنْ رَوَائِحِ أَسْرَارِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَلُوحُ لَكَ شَيْءٌ مِنْ حَقَائِقِ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: ٤٩] وَتَعْرِفُ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ الْبَتَّةَ إِلَّا مَا هُوَ هُوَ، وَمَا هُوَ لَهُ وَإِذَا وَقَعَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ فِي هَذِهِ اللُّجَّةِ، فَلَوْ سَارَتْ إِلَى الْأَبَدِ لَمْ تَقِفْ، لِأَنَّ السَّيْرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ الأول
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى إِضَافَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ وَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي كُلِّ الْخَلْقِ أَوْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْمُكَلَّفِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا وَالَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِهَذَا الْوَصْفِ، إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُتَصَوَّرُ منه عبادة الله تعالى، فإذن هَذِهِ الْإِضَافَةَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِلَى جَمِيعِ مَنْ تَصِحُّ صَيْرُورَتُهُ مُكَلَّفًا تَقْدِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِلَهِ مَا يَصِحُّ أَنْ تَدْخُلَهُ الْإِضَافَةُ فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْإِلَهِ الْقَادِرَ لَصَارَ الْمَعْنَى وَقَادِرُكُمْ قَادِرٌ وَاحِدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رَكِيكٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْوَاحِدِ بَعْدَ لَفْظِ الْإِلَهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ سَيِّدٌ وَاحِدٌ، وَبِأَنَّهُ عَالِمٌ وَاحِدٌ، وَلَمَّا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَمْكَنَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ إِلَهَ غَيْرِنَا مُغَايِرٌ لِإِلَهِنَا، فَلَا جَرَمَ أَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ، فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي نَفْيَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ، وَمَتَى انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَاهِيَّةُ انْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِهَا، إِذْ لَوْ حَصَلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الْفَرْدُ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَاهِيَّةِ: فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ الشَّامِلَ، فَإِذَا قِيلَ بَعْدُ: إِلَّا زَيْدًا، أَفَادَ التَّوْحِيدَ التَّامَّ الْمُحَقَّقَ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ لَنَا، أَوْ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلتَّوْحِيدِ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا إِلَّا اللَّهُ، لَكَانَ هَذَا توحيداً لإلهنا لا توحيد لِلْإِلَهِ الْمُطْلَقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَرْقٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا لَوْ قُلْنَا: التَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ، فَذَلِكَ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَعُودُ الْإِشْكَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وذلك لأنك إذا قلنا: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَانَ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ الثَّانِي، أَمَّا لَوْ لَمْ يُضْمَرْ هَذَا الْإِضْمَارُ كَانَ قَوْلُكَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِمَاهِيَّةِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: نَفْيُ الْمَاهِيَّةِ كَيْفَ يُعْقَلُ؟ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ السَّوَادُ لَيْسَ بِسَوَادٍ، كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِأَنَّ السَّوَادَ لَيْسَ بِسَوَادٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَهَذَا مَعْقُولٌ مُنْتَظِمٌ مُسْتَقِيمٌ، قُلْنَا: بِنَفْيِ الْمَاهِيَّةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودُ مَاهِيَّةٍ، فَإِذَا نَفَيْتَهُ فَقَدْ نَفَيْتَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْوُجُودِ، فَإِذَا عُقِلَ نَفْيُ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلِمَ لَا يُعْقَلُ نَفْيُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ أَيْضًا، فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ صَحَّ إِجْرَاءُ قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَمَا نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ وَمَا نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَلَكِنْ نَفَيْتَ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، قُلْتُ: فَمَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، هَلْ هِيَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْيِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّكَ مَا لَمْ تَتَصَوَّرِ الْوُجُودَ أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لَا تَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَّا ارْتِفَاعَ الْوُجُودِ. فَتَصَوُّرُ الْوُجُودِ غَنِيٌّ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَدَمِ، وَتَصَوُّرُ الْعَدَمِ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَلْبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى قَدَّمْنَا النَّفْيَ وَأَخَّرْنَا الْإِثْبَاتَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعَقْلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْيِ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَانَ لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي كَلِمَةِ هُوَ اعْلَمْ أَنَّ الْمَبَاحِثَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهُوَ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْأَسْرَارُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ، اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُظْهَرَةٌ وَمُضْمَرَةٌ: أَمَّا الْمُظْهَرَةُ فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَالسَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَهِيَ الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، وَالْمُخَاطَبِ، وَالْغَائِبِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُهَا أَنَا، ثُمَّ أَنْتَ، ثُمَّ هُوَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ تَصَوُّرِي لِنَفْسِي مِنْ حَيْثُ أَنِّي أَنَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ أَصِيرَ مُشْتَبَهًا بِغَيْرِي، أَوْ يَشْتَبِهَ بِي غَيْرِي، بِخِلَافِ أَنْتَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَشْتَبِهُ بِغَيْرِكَ، وَغَيْرُكُ يَشْتَبِهُ بِكَ فِي عَقْلِي وَظَنِّي، وَأَيْضًا فَأَنْتَ أَعْرَفُ مِنْ هُوَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَشَدَّ الْمُضْمَرَاتِ عِرْفَانًا أَنَا وَأَشَدَّهَا بُعْدًا عَنِ الْعِرْفَانِ. (هُوَ) وَأَمَّا (أَنْتَ) فَكَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْرَفَ الضَّمَائِرِ قَوْلًا قَوْلِي (أَنَا) أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وهاهنا لَا يُمْكِنُ الِالْتِبَاسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْفَصْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، أَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَكَقَوْلِكَ: شَرِبْنَا، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَقَوْلِكَ: نَحْنُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِلْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُ فَإِنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ لَفْظِ مُؤَنَّثِهِ وَمُذَكَّرِهِ، وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا، فَيُخَاطِبُ أَحَدَهُمَا فَلَا يَعْرِفُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِعَلَامَةٍ: وَتَثْنِيَةُ الْمُخَاطَبِ وَجَمْعُهُ إِنَّمَا حَسُنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَاضِرَ أَعْرَفُ مِنَ الْغَائِبِ فَهَذَا أَمْرٌ كَالضَّرُورِيِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ عِرْفَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ أَتَمُّ مِنْ عِرْفَانِهِ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَالْعِرْفَانُ التَّامُّ بِاللَّهِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِنَفْسِهِ (أَنَا) وَلَفْظُ (أَنَا) أَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ الضَّمَائِرِ وَهُوَ قَوْلُ (أَنَا) إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِرْفَانَ التَّامَّ بِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ليس الإله.
بَقِيَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا يُجَوِّزُونَ الِاتِّحَادَ: الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا اسْتَنَارَتْ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ اتَّحَدَ الْعَاقِلُ بِالْمَعْقُولِ وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ يَصِحُّ لِذَلِكَ الْعَارِفِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا اللَّهُ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لِأَنَّ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ فَنِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَذَاكَ لَيْسَ بِاتِّحَادٍ، وَإِنْ بَقِيَا فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، / وَلَمَّا انْسَدَّ هَذَا الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نفسك»
وأما هُوَ فللغائبين، ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هُوَ فِي حَقِّهِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ إِمَّا كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ، وَأَعْنِي بِكُلِّيٍّ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْنِي بِالْجُزْئِيِّ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ أَمْرًا لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ وَذَاتُهُ الْمُعَيَّنَةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَانِعَةٌ مِنَ الشَّرِكَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ: كَالرَّحْمَنِ، وَالرَّحِيمِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْعَلِيمِ، وَالْقَادِرِ، لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: يَا أَنْتَ وَيَا هُوَ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَالْعِلْمُ فَرْعٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَصْلٌ وَالْأَصْلُ أَشْرَفُ مِنَ الْفَرْعِ، فَقَوْلُنَا: يَا أَنْتَ، يَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ (أَنْتَ) لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ الْغَائِبَ وَفِيهِ سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ (هُوَ) إِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْعَقْلِ صُورَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَقَوْلُكَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الصُّورَةَ وَهِيَ حَاضِرَةٌ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ (هُوَ) أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْحَاضِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ مُنَزَّهَةٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ التَّرَاكِيبِ، وَالْفَرْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ نَعْتُهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وَعِنْدَ حُصُولِ الْغَيْرِيَّةِ لَا تَبْقَى الْفَرْدَانِيَّةُ، وَأَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ لِأَنَّ النعت يَقْتَضِي مُخْبَرًا عَنْهُ وَمُخْبِرًا بِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْفَرْدَانِيَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ قَاصِرَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ وَأَمَّا لَفْظُ (هُوَ) فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمُفْرَدَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لِوُصُولِهَا إِلَى كُنْهِ الْحَقِيقَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَمْتَنِعُ وُصُولُهَا إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُشْتَقَّةَ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ لِلذَّاتِ ثُمَّ مَاهِيَّاتُ صِفَةِ الْحَقِّ أَيْضًا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِآثَارِهَا الظَّاهِرَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَلَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، وَمِنْ قُدْرَتِهِ إِلَّا أَنَّهَا الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لا يمكننا تعلقها إِلَّا عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَالْأَلْفَاظُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تُشِيرُ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، بَلْ تُشِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ مَعًا/ وَالنَّاظِرُ إِلَى شَيْئَيْنِ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا قَاصِرًا، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تَصِيرُ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ، وَأَمَّا (هُوَ) فَإِنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عيله مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا مِنْ حَيْثُ عَرَضَتْ لَهُ إِضَافَةٌ أَوْ نِسْبَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى الحق ويقطعك عما سواء، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُكَ عما سواء، فكان لفظ (هُوَ) أَشْرَفَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْبَرَاهِينَ السَّالِفَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْبَعَ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ هُوَ الذَّاتُ، وَأَنَّ ذَاتَهُ مَا كَمُلَتْ بِالصِّفَاتِ بَلْ ذَاتُهُ لِكَمَالِهَا اسْتَلْزَمَتْ
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ارْتَفَعَ هُوَ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا مَعَ الِاسْمِ وَلْنَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ فَقَوْلُهُ: إِلَّا زِيدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ لِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هِيَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا جَاءَنِي إِلَّا زَيْدٌ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الْمَجِيءِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: جَاءَنِي إِلَّا زَيْدًا فَهَهُنَا الْبَدَلِيَّةُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ: جَاءَنِي خَلْقٌ إِلَّا زَيْدًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَاءَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا زَيْدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ هِيَ النِّعْمَةُ وَفَاعِلُهَا هُوَ الرَّاحِمُ فَإِذَا أَرَدْنَا إِفَادَةَ الْكَثْرَةِ قُلْنَا (رَحِيمٌ) وَإِذَا أَرَدْنَا الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ قُلْنَا الرَّحْمنُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِلَهِيَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ يُفِيدُ الْقَهْرَ وَالْعُلُوَّ فَعَقَّبَهُمَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ تَرْوِيحًا لِلْقُلُوبِ عَنْ هَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعِزَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَأَنَّهُ مَا خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِالْفَرْدَانِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ذَكَرَ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِهِ سبحانه أولا وعلى توحيده وبراءته على الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ ثَانِيًا، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي شَرْحِ تكلم الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخَلْقَ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ:
الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ ليست إلا في الْمَخْلُوقُ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَهَذَا الْإِخْرَاجُ لَوْ كَانَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْقُدْرَةِ وَالْأَثَرِ فَهُوَ إِمَّا أن يكون قديما أو حديثا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي الْأَزَلِ مُسَمَّى الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَالْأَزَلُ هُوَ نَفْيُ الْمَسْبُوقِيَّةِ فَلَوْ حَصَلَ الْإِخْرَاجُ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَلَا بُدَّ لَهُ أَيْضًا مِنْ مُخْرِجٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِخْرَاجٍ آخَرَ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُخْرِجًا لِلْأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمِهَا إِلَى وُجُودِهَا، ثُمَّ فِي الْأَزَلِ هَلْ أَحْدَثَ أَمْرًا أَوْ لَمْ
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُؤَثِّرِيَّةَ نِسْبَةٌ بَيْنَ ذَاتِ الْمُؤَثِّرِ وَذَاتِ الْأَثَرِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَحِيلُ تَقْرِيرُهَا بِدُونِ الْمُنْتَسِبِ فَهَذِهِ الْمُؤَثِّرِيَّةُ إِنْ كَانَتْ حَادِثَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُصُولُ الْأَثَرِ إِمَّا فِي الْحَالِ أو في الاستقبال من لوازم هذا الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْعَظِيمَةِ وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا بَلْ مُلْجِأً مُضْطَرًّا إِلَى ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ عِلَّةً مُوجِبَةً وَذَلِكَ كُفْرٌ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنْ قَالُوا: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْخَلْقِ، فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي مِنْهَا الشَّيَاطِينُ وَالْأَبَالِسَةُ وَالْقَاذُورَاتُ، وَذَلِكَ/ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حَادِثًا حَدَثَ بعد أن لم يكن قلنا: لم وُجِدَ هَذَا الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا قِيلَ لَنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ قَبِلْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا: إِنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا وُجِدَ بِنَفْسِهِ لَقُلْنَا إِنَّهُ خَطَأٌ وَكُفْرٌ وَمُتَنَاقِضٌ، فَلَمَّا صَحَّ تَعْلِيلُ حدوثه بعد ما لَمْ يَكُنْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ وَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُ حُدُوثِهِ بِحُدُوثِهِ بِنَفْسِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مُغَايِرٌ لِوُجُودِهِ فِي نفسه، فالخلق غير المخلوق. وثالثها: أنا نَعْرِفُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَنَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَقُدْرَتَهُ مَعَ أَنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَهُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ أَمْ هُوَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَمُؤَثِّرِيَّةُ قُدْرَةِ الْقَادِرِ فِي وُقُوعِ الْمَقْدُورِ مُغَايِرَةٌ لِنَفْسِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَلِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَقْدُورِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُغَايَرَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْمُؤَثِّرِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ، فَهَذِهِ الْمُؤَثِّرِيَّةُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِ الْمُؤَثِّرِ وَذَاتِ الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا: إِذْ قُلْنَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ فَالْعَالَمُ لَيْسَ هُوَ الْمَصْدَرَ بَلْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْعَالَمِ غَيْرُ الْعَالِمِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ السواد وخلق البياض وخلق والجوهر وَخَلْقُ الْعَرَضِ فَمَفْهُومُ الْخَلْقِ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي الْكُلِّ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ الْخَالِقِيَّةِ إِلَى خَالِقِيَّةِ الْجَوْهَرِ وَخَالِقِيَّةِ الْعَرَضِ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْخَلْقِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّقْدِيرُ وَصَارَ ذَلِكَ اسْمًا لِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ جَمِيعُهَا صَوَابًا قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢] وَيَقُولُ النَّاسُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُحْكَمٍ هُوَ مَعْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ طريقا ألبتة إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ ابن جرير في سبب نزول هذه الْآيَةِ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَيْهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَةِ: ١٦٣] فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا حَدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ فَحَدَّثُوهُمْ بِالْعَصَا وَبِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَسَأَلُوا النَّصَارَى عَنْ ذَلِكَ فَحَدَّثُوهُمْ بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَقَالَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا فَنَزْدَادَ يَقِينًا وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّنَا، فَسَأَلَ رَبَّهُ ذَلِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ وَلَكِنْ إِنْ كَذَّبُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ على أقسام:
القسم الْأَوَّلُ: فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الدَّلَائِلِ: الِاسْتِدْلَالُ/ بِأَحْوَالِ السموات وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: ٢٢] ولنذكر هاهنا نَمَطًا آخَرَ مِنَ الْكَلَامِ:
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْحُسَامِ كَانَ يَقْرَأُ كِتَابَ الْمِجِسْطِيِّ عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا: مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ: أُفَسِّرُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: ٦] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بُنْيَانِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ السموات عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مُرَتَّبٌ فِي فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْلَاكِ
قَالُوا: أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، ثُمَّ كُرَةُ الثَّوَابِتِ، ثُمَّ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَبْحَاثًا:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ذَكَرُوا فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: السَّيْرُ، وَذَلِكَ أن الكواكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكواكب الْأَعْلَى فَإِنَّهُمَا يُبْصَرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ، وَيَتَمَيَّزُ السَّائِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِلَوْنِهِ الْغَالِبِ، كَصُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ، وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَوَدَّةِ زُحَلَ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ، وَكَثِيرًا مِنَ الثَّوَابِتِ فِي طَرِيقِهِ فِي مَمَرِّ الْبُرُوجِ، وَكَوْكَبُ عُطَارِدٍ يَكْسِفُ الزُّهَرَةَ، وَالزُّهَرَةُ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَهَذَا الطَّرِيقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَمَرِ تَحْتَ الشَّمْسِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ، لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ تَحْتَهَا، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالِ أَضْوَائِهَا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، فَسَقَطَ هَذَا الطَّرِيقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ. الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَنْظَرِ فَإِنَّهُ مَحْسُوسٌ لِلْقَمَرِ وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَقَلِيلٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ بَيِّنٌ جِدًّا لِمَنِ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَنْظَرِ الْكَوَاكِبِ، وَشَاهَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمَارِسْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَلِّدًا فِيهِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ وَهُوَ أُسْتَاذُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ فِي تَلْخِيصِهِ لِفُصُولِ الْفَرْغَانِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنْظَرِ لَا يُحَسُّ بِهِ إِلَّا فِي الْقَمَرِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَطْلَيْمُوسُ: إِنَّ زُحَلَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْمِرِّيخَ تَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ فِي جَمِيعِ الْأَبْعَادِ، وَأَمَّا عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَبْعُدَانِ عَنِ الشَّمْسِ بَعْدَ
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي أَعْدَادِ الْأَفْلَاكِ، قَالُوا إِنَّهَا تِسْعَةٌ فَقَطْ، وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّصْدَ لَمَّا دَلَّ عَلَى هَذِهِ التِّسْعَةِ أَثْبَتْنَاهَا، فَأَمَّا مَا عَدَاهَا، فَلَمَّا لَمْ يَدُلَّ الرَّصْدُ عَلَيْهِ، لَا جَرَمَ مَا جَزَمْنَا بِثُبُوتِهَا وَلَا بِانْتِفَائِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِينَا فِي الشِّفَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ أَنَّ كُرَةَ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ كُرَاتٌ مُنْطَبِقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، لِأَنَّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وَحْدَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَرَكَاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ضَعِيفَتَانِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي حَوَاسِّنَا مُتَشَابِهَةً، لَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَعَلَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا يُتِمُّ الدَّوْرَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْآخَرُ يُتِمُّ هَذَا الدَّوْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يَنْقُصَانِ عَاشِرَةً، إِذَا وَزَّعْنَا تِلْكَ الْعَاشِرَةَ عَلَى أَيَّامِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، لَا شَكَّ أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ كُلِّ سَنَةٍ، بَلْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا لَا يَصِيرُ مَحْسُوسًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الْقَطْعُ بِتَشَابُهِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهَا لَمَّا تَشَابَهَتْ فِي حَرَكَاتِهَا وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَيْضًا لَيْسَتْ يَقِينِيَّةً، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ لَا يُسْتَبْعَدُ اشْتِرَاكُهَا فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَقُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي كُرَةِ الثَّوَابِتِ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الْكُرَاتِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى وَحْدَةِ كُلِّ كُرَةٍ لَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَزَيَّفْنَاهُ، فَإِذَنْ لَا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فعلها كُرَاتٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ جِدًّا لَا تَفِي بِضَبْطِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ أَعْمَارُنَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُمَثَّلَاتِ وَالْحَوَامِلِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَاحْتَجُّوا مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ كَانَ وِجْدَانُ الْمَيْلِ الْأَعْظَمِ أَعْظَمَ، فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ. (كج نا) ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ (كج له) ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ الْمَأْمُونِ وَقَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُطْبَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى، وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ، وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ كُرَةِ الْكُلِّ، وَيَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ أَيْضًا قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ تِلْكَ الْكُرَةِ فَيَعْرِضُ لِقُطْبِهَا تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا، وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْطَبِقَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أُخْرَى إِلَى الْجَنُوبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ مَسِيرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذَا السَّيْرَ يَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ/ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ لِاخْتِلَافِ بُعْدِهِمَا مِنَ الْأَوْجِ، فَيَخْتَلِفُ زَمَانُ سَيْرِ الشَّمْسِ مِنْ أَجْلِهِ. وَثَانِيهُمَا: قَوْلُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَبَابِلَ، وَأَكْثَرِ قُدَمَاءِ عُلَمَاءِ الرُّومِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ: إن السبب فيه انتقال فلك البروج، وارتفاع قطبيه وانحطاطه، وحكى أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ، وَذَكَرَ باربا الإسكنداني أَنَّ أَصْحَابَ الطَّلْسَمَاتِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّ قُطْبَ فَلَكِ الْبُرُوجِ يَتَقَدَّمُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَيَتَأَخَّرُ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْحَرَكَةِ من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها:
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي فَلَكٍ فَوْقَ أَفْلَاكِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَقَالُوا: شاهدنا لهذا الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ حَرَكَاتٍ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَاتِ هَذِهِ الثواب، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ سِوَى هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، يَدُورُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً وَاحِدَةً بِالتَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَاتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ قَدْ تَكْسِفُ تِلْكَ الثَّوَابِتَ، وَالْكَاسِفُ تَحْتَ الْمَكْسُوفِ، فَكُرَاتُ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دُونَ كُرَاتِ الثَّوَابِتِ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نسلم أن الكواكب لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا بَنَوْا عَلَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ دَلَائِلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ مِنْ كُرَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُرَاتِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ الْفَلَكُ الْمُمَثَّلُ وَأَنَّ هَذِهِ الْمُمَثَّلَةَ بَطِيئَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى وِفْقِ حَرَكَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الثَّوَابِتُ مَرْكُوزَةٌ فِي هَذِهِ الْمُمَثَّلَاتِ الْبَطِيئَةِ الْحَرَكَةِ، فَأَمَّا السَّيَّارَاتُ فَإِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْحَوَامِلِ الَّتِي هِيَ أَفْلَاكٌ خَارِجَةُ الْمَرْكَزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كُرَةٍ أُخْرَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كُرَتَانِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، وَالْأُخْرَى دُونَ كُرَةِ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ إِلَّا بِالثَّوَابِتِ الْوَاقِعَةِ فِي مَمَرِّ تِلْكَ السَّيَّارَاتِ، فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْمُقَارِبَةُ لِلْقُطْبَيْنِ فَإِنَّ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا تُكْسِفُهَا، فَالثَّوَابِتُ الَّتِي تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ هَبْ أَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، أَمَّا الَّتِي لَا تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ فَكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ دُونَ السَّيَّارَاتِ فَثَبْتَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ بَلِ احْتِمَالِيٌّ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ حَرَكَتُهُ أَسْرَعُ الْحَرَكَاتِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَرِيبًا مِنْ دَوْرَةٍ تَامَّةٍ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ.
وَأَمَّا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي تَحْتَهُ فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْبُطْءِ حَتَّى إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً عِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَعِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً دَرَجَةً، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ عَلَى عَكْسِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا لَمَّا رَصَدْنَا هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَجَدْنَا لَهَا حَرَكَةً عَلَى خِلَافِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَامَّةً، وَالْفَلَكَ الثَّامِنَ أَيْضًا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً إِلَّا بِمِقْدَارٍ نَحْوَ عُشْرِ ثَانِيَةٍ فَلَا جَرَمَ نَرَى حَرَكَةَ الْكَوَاكِبِ فِي الْحِسِّ مُخْتَلِفَةً عَنِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ فِي خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكواكب الثَّابِتَ يَرْجِعُ بِحَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ إِلَى خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، وَهُمْ مَا أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى إِبْطَالِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ بُرْهَانِيٌّ، أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ الثَّامِنِ لَوْ كَانَتْ إِلَى خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لَكَانَ حِينَمَا
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَفْلَاكِ
الْقَوْمُ وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُقْدِّمَتَيْنِ ظَنِّيَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حَرَكَاتِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ مُتَسَاوِيَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تُبْطِئُ مَرَّةً وَتُسْرِعُ أُخْرَى، وَلَيْسَ لَهَا رُجُوعٌ عَنْ مُتَوَجِّهَاتِهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ بِذَاتِهَا بَلْ بِتَحَرُّكِ الْفَلَكِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مُقَدِّمَةً أُخْرَى فَقَالُوا: الْفَلَكُ الَّذِي يَحْمِلُ الْكَوَاكِبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكَزُهُ مَرْكَزَ الْأَرْضِ أَوْ لَا يَكُونَ، فإن كان مركزه مركز الأرض، فإما أن يكون الكواكب مَرْكُوزًا فِي ثِخَنِهِ أَوْ مَرْكُوزًا فِي جِرْمٍ مَرْكُوزٍ فِي ثِخَنِ ذَلِكَ الْفَلَكِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اسْتَحَالَ أَنْ يَخْتَلِفَ قُرْبُ الْكَوْكَبِ وَبُعْدُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْ يَخْتَلِفَ قَطْعُهُ لِلْقِسِيِّ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ وَالْأَعْرَاضُ الِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ، أَوْ حَرَكَةِ الْكَوْكَبِ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ الْبَتَّةَ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون الكوكب مركوزا في جرم كري مُسْتَدِيرِ الْحَرَكَةِ، مَغْرُوزٍ فِي ثِخَنِ الْفَلَكِ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ، وَذَلِكَ الْجِرْمُ نُسَمِّيهِ بِالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِضُ بِسَبَبِ حَرَكَتِهِ اخْتِلَافُ حَالِ الْكَوْكَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ تَارَةً بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَتَارَةً بِالرُّجُوعِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَارَةً بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْمَنْظَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ لَيْسَ مَرْكَزُهُ مُوَافِقًا لِمَرْكَزِ الْأَرْضِ، فَهُوَ الْفَلَكُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ فِي أَحَدِ نِصْفَيْ فَلَكِ الْبُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ أَعْظَمَ مِنَ النِّصْفِ، وَفِي نِصْفِهِ الْآخَرِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ: الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الأرض، وأن يقطع أحد نصفي فلك الْبُرُوجِ فِي زَمَانٍ أَكْثَرَ مِنْ قَطْعِهِ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَسُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، وَقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا، مِنَ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، أَعْنِي التَّدْوِيرَ، وَالْفَلَكَ الْخَارِجَ الْمَرْكَزِ.
الْفَلَكَ الْمُمَثّلَ، وَالْمُنْفَصِلُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ فَلَكَ الْأَوْجِ، وَجِرْمُ الشَّمْسِ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحُهُ سَطْحَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ، وَهِيَ أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ وَالزُّهَرَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما فليكن مِثْلَ فَلَكِ الشَّمْسِ، وَفَلَكًا آخَرَ مَوْقِعُهُ مِنْ خَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ مَوْقِعِ جِرْمِ الشَّمْسِ مِنْ فَلَكِهِ وَيُسَمَّى: فَلَكَ/ التَّدْوِيرِ وَالْكَوْكَبُ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحَهُ وَيُسَمَّى الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ: الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعِ أُكَرَ وَهُوَ فَلَكُ عُطَارِدٍ وَالْقَمَرِ، أَمَّا عُطَارِدٌ فَإِنَّ له فليكن مِثْلَ فَلَكَيِ الشَّمْسِ وَيَنْفَصِلُ مِنَ الثَّانِي فَلَكٌ آخَرُ انْفِصَالَ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ عَنِ الْمُمَثَّلِ بِحَيْثُ يَقَعُ مَرْكَزُهُ خَارِجًا عَنِ الْمَرْكَزَيْنِ وَبُعْدُهُ عَنْ مَرْكَزِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ نِصْفِ بُعْدِ مَا بَيْنَ مَرْكَزَيِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَالْمُمَثَّلِ وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ الْفَلَكَ الْمُدِيرَ وَالْمُنْفَصِلُ الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهُ فَلَكُ التَّدْوِيرِ وَعُطَارِدٌ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْكُرَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ فَلَكَهُ يَنْقَسِمُ إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الْفَلَكُ الْمِثْلُ وَالصُّغْرَى الْفَلَكُ الْمَائِلُ وَيَنْقَسِمُ الْمَائِلُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ كَمَا فِي الْكَوَاكِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلُّ فَلَكٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَلَكٌ آخَرُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي عَرَفْتَهَا فِي فَلَكِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مِنَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ كُرَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الثِّخَنِ يُسَمَّيَانِ مُتَمِّمَيْنِ لِذَلِكَ الْفَلَكِ الْمُنْفَصِلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ يَتَحَرَّكُ عَلَى مَرْكَزِهِ حَرَكَةً دَائِمَةً مُتَّصِلَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَالنَّاسُ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْكُرَاتِ بِنَاءً عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَحَّ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِيهَا «١».
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَقَادِيرِ الْحَرَكَاتِ
قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ تَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ سِوَى الفلك الأعظم، والمدبر لِعُطَارِدٍ وَالْفَلَكِ الْمُمَثَّلِ وَالْمَائِلِ وَالْمُدِيرِ لِلْقَمَرِ فَالْحَرَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ تُسَمَّى: الْحَرَكَةَ إِلَى التَّوَالِي وَالْغَرْبِيَّةُ إِلَى خِلَافِ التَّوَالِي، وَالْفَلَكُ الْأَعْظَمُ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ دَوْرَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيِ الْعَالَمِ وَيُحَرِّكُ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ يَقَعُ لِلْكَوَاكِبِ الطُّلُوعُ وَالْغُرُوبُ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الْأُولَى، وَفَلَكُ الثَّوَابِتِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً فِي كُلِّ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ دَرَجَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ، وَهُمَا يَدُورَانِ حَوْلَ قُطْبَيِ الْعَالَمِ بِالْحَرَكَةِ الْأُولَى وَتَتَحَرَّكُ عَلَى وِفْقِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ جَمِيعُ الْأَفْلَاكِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ تَنْتَقِلُ الْأَوْجَاتُ عَنْ مَوْضِعِهَا مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت
وَأَمَّا الْأَفْلَاكُ الْخَارِجَةُ الْمَرْكَزِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ يَوْمٍ هَكَذَا: زُحَلُ (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزُّهَرَةُ (نط ج) عُطَارِدٌ (نط ح) وَالْقَمَرُ (يج يج مو) وَتُسَمَّى حَرَكَةَ الْمَرْكَزِ، وَحَرَكَةَ الْوَسَطِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ أَفْلَاكِ التَّدَاوِيرِ وَمَرْكَزِ الشَّمْسِ وَالْأَفْلَاكُ التَّدَاوِيرُ تَتَحَرَّكُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ زُحَلُ (نرح) الْمُشْتَرِي (ند ط) الْمِرِّيخُ (كرمب) الزُّهَرَةُ (لونط) عُطَارِدٌ (ج وكد) الْقَمَرُ (يج ج ند) وَتُسَمَّى: الْحَرَكَةَ الْخَاصَّةَ، وَحَرَكَةَ الِاخْتِلَافِ وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ الْكَوَاكِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يَعْرِضُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِلْقَمَرِ مَثَلًا أَبْعَادٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ وَالْأَنْوَاعُ الْمَضْبُوطَةُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَيُقَالُ لَهُ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ وَثَلَاثُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ بِالتَّقْرِيبِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ لِلْأَبْعَدِ وَهُوَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ لِلْأَقْرَبِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ النُّقَطِ الْأَرْبَعَةِ الْأَحْوَالُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَا أَتَى عَلَى شَرْحِهَا أَبُو الرَّيْحَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْكَوَاكِبِ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّمْسِ ارْتِبَاطًا مَا، فَأَمَّا الْعُلْوِيَّةُ فَإِنَّ بُعْدَ مَرَاكِزِهَا عَنْ ذُرَى أَفْلَاكِ تَدَاوِيرِهَا أَبَدًا تَكُونُ بِمِقْدَارِ بُعْدِ مَرْكَزِ الشَّمْسِ عَنْ مَرَاكِزِ تَدَاوِيرِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُحْتَرِقَةً وَمَتَى كَانَتْ فِي الْحَضِيضِ كَانَتْ فِي مُقَابَلَتِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُقَابِلَةً لِلشَّمْسِ وَذَلِكَ يُقَارِنُ الشَّمْسَ فِي مُنْتَصَفِ الِاسْتِقَامَةِ وَيُقَابِلُهَا فِي مُنْتَصَفِ الرُّجُوعِ وَقِيلَ: إِنَّ نِصْفَ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِ الْمِرِّيخِ أَعْظَمُ مِنْ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ مُمَثَّلِ الشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ يَكُونُ بُعْدُ مَرْكَزِهِ عَنْ مَرْكَزِ الشَّمْسِ أَعْظَمَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُقَابِلًا لَهَا، وَأَمَّا السُّفْلِيَّاتُ فَإِنَّ مَرَاكِزَ أَفْلَاكِ تَدْوِيرِهَا أَبَدًا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنْ تُقَارِنَ الشَّمْسُ الذُّرْوَةَ وَالْحَضِيضَ فِي مُنْتَصَفَيِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالرُّجُوعُ غَايَةُ بُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِهِمَا، وَهُوَ لِلزُّهَرَةِ (مه) وَلِعُطَارِدٍ (كه) بِالتَّقْرِيبِ وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ أَبَدًا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ بُعْدِهِ الْأَبْعَدِ وَبَيْنَ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِبُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ عَنِ الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ الْبُعْدُ الْمُضَاعَفُ لِأَنَّهُ ضِعْفُ بُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ مِنَ الشَّمْسِ فَلَزِمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ مَرْكَزُ تَدْوِيرِهِ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلشَّمْسِ أَوْ مُقَارِنًا لَهَا، وَمَتَى كَانَ فِي الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي تَرْبِيعِهِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ وَاسْتِقْبَالُهُ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ وَتَرْبِيعُهُ مَعَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْرَبِ.
وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: النَّظَرُ إِلَى مَقَادِيرِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ، فَإِنَّهَا مَعَ اشْتِرَاكِهَا فِي الطَّبِيعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهَا عَلَى أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ بِذَرَّةٍ، فَلَمَّا قَضَى صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّ الْمَقَادِيرَ بِأَسْرِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ، قَضَى بِافْتِقَارِهَا فِي مَقَادِيرِهَا إِلَى مُخَصِّصٍ مُدَبِّرٍ.
وَثَانِيهَا: النَّظَرُ إِلَى أَحْيَازِهَا، فَإِنَّ كُلَّ فَلَكٍ مُمَاسٍّ بِمُحَدَّبِهِ فَلَكًا آخَرَ فَوْقَهُ وَبِمُقَعَّرِهِ فَلَكًا آخَرَ تَحْتَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْفَلَكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ أَوْ يَنْتَهِيَ بِالْآخِرَةِ إِلَى جِسْمٍ مُتَشَابِهِ الْأَجْزَاءِ، وَذَلِكَ الْجِسْمُ الْمُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ طَبِيعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ مُسَاوِيَةً لِطَبِيعَةِ طَرَفِهِ الْآخَرِ، فَكَمَا صَحَّ عَلَى مُحَدَّبِهِ أَنْ يَلْقَى جِسْمًا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى مُقَعَّرِهِ أَنْ يَلْقَى ذَلِكَ الْجِسْمَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنَّ الْعَالِيَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ سَافِلًا، وَالسَّافِلُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَالِيًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ منها بحيزه المعين أمرا جائزا يقتضي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُقْتَضَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ حَصَلَ فِي مُقَعَّرِهِ اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ جَوَانِبِ ذَلِكَ الْفَلَكِ دُونَ سَائِرِ الْجَوَانِبِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الْمُنْتَفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ مُسَاوٍ لِسَائِرِ جَوَانِبِهِ، لِأَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ، فَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمُقَعَّرِ بِذَلِكَ الْكَوْكَبِ دُونَ سَائِرِ الْجَوَانِبِ يَكُونُ أَمْرًا مُمْكِنًا جَائِزًا فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُخَصِّصِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى قُطْبَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْفَلَكُ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ كَانَ جَمِيعُ النُّقَطِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَةً، وَجَمِيعُ الدَّوَائِرِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا مُتَسَاوِيَةً، فَاخْتِصَاصُ نُقْطَتَيْنِ مُعَيَّنَتَيْنِ بِالْقُطْبِيَّةِ دُونَ سَائِرِ النُّقَطِ مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الطَّبِيعَةِ يَكُونُ أَمْرًا جَائِزًا، فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْمُقْتَضِي، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعَيُّنِ كُلِّ دَائِرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَوَائِرِهَا بِأَنْ تَكُونَ مِنْطَقَةً. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ مَعَ تَشَابُهِهَا فِي الطَّبِيعَةِ الْفَلَكِيَّةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصٌّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْحَرَكَةِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ، فَانْظُرْ إِلَى الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ مَعَ نِهَايَةِ اتِّسَاعِهِ وَعِظَمِهِ ثُمَّ إِنَّهُ يَدُورُ دَوْرَةً تَامَّةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ لَا يَدُورُ الدَّوْرَةَ التَّامَّةَ إِلَّا فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ إِنَّ الْفَلَكَ السَّابِعَ الَّذِي تَحْتَهُ يَدُورُ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَاخْتِصَاصُ الْأَعْظَمِ بِمَزِيدِ السُّرْعَةِ، وَالْأَصْغَرُ بمزيد البطء مع أنه على خِلَافُ حُكْمِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوْسَعُ أَبْطَأَ حَرَكَةً لِعِظَمِ مَدَارِهِ، وَالْأَصْغَرُ أَسْرَعَ اسْتِدَارَةً لِصِغَرِ مَدَارِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُخَصِّصٍ، وَالْعَقْلُ يَقْضِي بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِنَّمَا اخْتَصَّ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْفَلَكَ الْمُمَثَّلَ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ الْفَلَكُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ بَقِيَ مُتَمِّمَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْخَارِجِ، وَالْآخَرُ: مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنَّهُ جِرْمٌ مُتَشَابِهُ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ اخْتَصَّ أَحَدُ جَوَانِبِهِمَا بِغَايَةِ/ الثِّخَنِ، وَالْآخَرُ بِغَايَةِ الرِّقَّةِ بِالنِّسْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ ذَلِكَ الثِّخَنِ وَالرِّقَّةِ إلى طبيعة عَلَى السَّوِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ جَانِبَيْهِ بِالرِّقَّةِ وَالْآخَرِ بِالثِّخَنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْمُخَصِّصِ الْمُخْتَارِ.
وَسَابِعُهَا: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي جِهَاتِ الْحَرَكَاتِ، فَبَعْضُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَبَعْضُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَبَعْضُهَا شَمَالِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا جَنُوبِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُدَبِّرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ أَزَلًا مُتَحَرِّكَةٌ، أَوْ مَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَتْ بِالْحَرَكَةِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَزَلًا مُتَحَرِّكَةً لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالْأَزَلِيَّةِ مُحَالٌ، وَإِنْ قلنا
وَعَاشِرُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ فِي تَرْكِيبِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ وَائْتِلَافِ حَرَكَاتِهَا أَتُرَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِكْمَةٍ، أَمْ هِيَ وَاقِعَةٌ بِالْجُزَافِ وَالْعَبَثِ؟ أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَبَاطِلٌ وَبَعِيدٌ عن العقل، فإن جوز فِي بِنَاءٍ رَفِيعٍ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَنَّ التُّرَابَ وَالْمَاءَ انْضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ تَوَلَّدَ منهما لبنات، ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ تَرْكِيبَ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَمَا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ لَيْسَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رِعَايَةِ حِكْمَةٍ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا أَحْيَاءٌ نَاطِقَةٌ فَهِيَ تَتَحَرَّكُ بِأَنْفُسِهَا أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ يُحَرِّكُهَا مُدَبِّرٌ قَاهِرٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ حَرَكَتَهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِطَلَبِ اسْتِكْمَالِهَا أَوْ لَا لِهَذَا الْغَرَضِ، فَإِنْ كَانَتْ طَالِبَةً بِحَرَكَتِهَا لِتَحْصِيلِ كَمَالٍ فَهِيَ نَاقِصَةٌ فِي ذَوَاتِهَا، طَالِبَةٌ لِلِاسْتِكْمَالِ أَوْ لَا لِهَذَا الْغَرَضِ، وَالنَّاقِصُ بِذَاتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُكَمِّلٍ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ مُحْتَاجَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَالِبَةً بِحَرَكَتِهَا لِلِاسْتِكْمَالِ، فَهِيَ عَابِثَةٌ فِي أَفْعَالِهَا، فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْمُسْتَعْظَمَةِ، وَالْحَرَكَاتِ الدَّائِمَةِ، عَلَى الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُقُولِ قِسْمٌ هُوَ الْأَلْيَقُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ مُدَبِّرًا قَاهِرًا غَالِبًا عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ يُحَرِّكُهَا لِأَسْرَارٍ مَخْفِيَّةٍ، وَلِحِكَمٍ لَطِيفَةٍ هُوَ الْمُسْتَأْثِرُ بِهَا، وَالْمُطَّلِعُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى الْإِجْمَالِ عَلَى مَا قَالَ:
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١].
وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّا نَرَاهَا مُخْتَلِفَةً فِي الْأَلْوَانِ، مِثْلَ صُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَضَوْءِ/ الشَّمْسِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكُمُودَةِ زُحَلَ وَاخْتِلَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ بِعِظَمٍ خَاصٍّ وَلَوْنٍ خَاصٍّ وَتَرْكِيبٍ خَاصٍّ، وَنَرَاهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةً بِالسَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ، وَنَرَى أَعْلَى الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ أَنْحَسَهَا وَنَرَى مَا دُونَهَا أَسْعَدَهَا، وَنَرَى سُلْطَانَ الْكَوَاكِبِ سَعِيدًا فِي بَعْضِ الِاتِّصَالَاتِ نَحْسًا فِي بَعْضٍ وَنَرَاهَا مُخْتَلِفَةً فِي الْوُجُوهِ وَالْخُدُودِ وَاللِّثَاتِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَكَوْنِ بَعْضِهَا نَهَارِيًّا وَلَيْلِيًّا وَسَائِرًا وَرَاجِعًا وَمُسْتَقِيمًا وَصَاعِدًا وَهَابِطًا مَعَ اشْتِرَاكِهَا بِأَسْرِهَا فِي الشَّفَافِيَّةِ وَالصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ فِي الْجَوْهَرِ فَيَقْضِي الْعَقْلُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا اخْتُصَّ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ.
وَالثَّانِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ وَكَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَدَافِعَةً أَوْ مُتَعَاوِنَةً، أَوْ لَا مُتَدَافِعَةً وَلَا مُتَعَاوِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَدَافِعَةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ أَوْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةً فِي الْقُوَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْقَوِيُّ غَالِبًا أَبَدًا وَالضَّعِيفُ مَغْلُوبًا أَبَدًا، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَمِرَّ أَحْوَالُ الْعَالَمِ عَلَى طَبِيعَةِ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الْقُوَّةِ وَهِيَ مُتَدَافِعَةٌ وَجَبَ تَعَذُّرُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا بِأَسْرِهَا فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ فِي الْعَالَمِ صَادِرَةً عَنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ مُدَبِّرُ الْعَالَمِ هُوَ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ، بَلْ غَيْرُهَا وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم أيضا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَصْلًا وَإِنْ كَانَتْ تَارَةً مُتَعَاوِنَةً وَتَارَةً مُتَدَافِعَةً كَانَ
وَالثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهَا أَجْسَامٌ وَكُلُّ جِسْمٍ مُرَكَّبٌ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ جِسْمٍ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مُؤَثِّرٌ فَافْتِقَارُهُ إِلَى مُؤْثِرِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ بَقَائِهِ، أَوْ حَالَ حُدُوثِهِ أَوْ حَالَ عَدَمِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ وَهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْحُدُوثَ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ.
وَالرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ الْجِسْمِ إِلَى الْفَلَكِيِّ وَالْعُنْصُرِيِّ وَالْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ، وَالْحَارِّ وَالْبَارِدِ، وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ الْأَجْسَامِ. فَالْجِسْمِيَّةُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْأُمُورُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ يَجِبُ أن تكون متساوية في قالمية الصِّفَاتِ، فَإِذَنْ كُلُّ مَا صَحَّ عَلَى جِسْمٍ صَحَّ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَنِ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَالْوَضْعِ، وَالشَّكْلِ، وَالطَّبْعِ، وَالصِّفَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الجائزات، وذلك يقضي بِالِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات وَالْأَرْضِ، عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: ٢٧]
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ أَحْوَالُ الْأَرْضِ وَفِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ
اعْلَمْ أَنَّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ أَسْبَابًا:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَوَاضِعُ الْعَدِيمَةُ الْعَرْضِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ بِمُوَافَقَتِهَا قُطْبَيِ الْعَالَمِ، تُقَاطِعُ مُعَدَّلَ النَّهَارِ عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ، وَتَقْطَعُ جَمِيعَ الْمَدَارَاتِ الْيَوْمِيَّةِ بِنِصْفَيْنِ، وَتَكُونُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ دُولَابِيَّةً، وَلَمْ يَخْتَلِفْ هُنَاكَ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْكَبٌ أَبَدِيُّ الظُّهُورِ، وَلَا أَبَدِيُّ الْخَفَاءِ، بَلْ يَكُونُ لِكُلِّ نُقْطَةٍ سِوَى الْقُطْبَيْنِ: طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ، وَيَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ فِي الدَّوْرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ بلوغ قطبية دَائِرَةِ الْأُفُقِ، وَتَمُرُّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ بُلُوغِهَا نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَهَا عَرْضٌ، فَإِنَّ قُطْبَ الشَّمَالِ يَرْتَفِعُ فِيهَا مِنَ الْأُفُقِ، وَقُطْبَ الْجَنُوبِ يَنْحَطُّ عَنْهُ وَيَقْطَعُ الْأُفُقَ مُعَدَّلَ النَّهَارِ فَقَطْ عَلَى نِصْفَيْنِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْمَدَارَاتِ فَيَقْطَعُهَا بِقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا فِي الشَّمَالِيَّةِ أَعْظَمُ مِنَ الْخَافِي وَفِي الْجَنُوبِيَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يَكُونُ النَّهَارُ فِي الشَّمَالِيَّةِ أَطْوَلَ مِنَ اللَّيْلِ، وفي الجنوبية بالخلاف، وتصير الحركة هاهنا حَمَائِلِيَّةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَيْلُ كَوْكَبٍ مَعَ نَهَارِهِ، إِلَّا مَا كَانَ فِي مُعَدَّلِ النَّهَارِ، وَتَصِيرُ الْكَوَاكِبُ الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الشَّمَالِ أَبَدِيَّةَ الظُّهُورِ، وَالَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قُطْبِ الْجَنُوبِ أَبَدِيَّةَ الخفاء،
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم، وهاهنا يَبْطُلُ طُلُوعُ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَغُرُوبُهُمَا إِلَّا أَنَّهُمَا يُمَاسَّانِ الْأُفُقَ، وَحِينَئِذٍ يَمُرُّ فَلَكُ الْبُرُوجِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ، وَلَمْ تَمُرَّ الشَّمْسُ بِسَمْتِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي الِانْقِلَابِ الصَّيْفِيِّ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أن يزداد العرض على ذلك، وهاهنا يَبْطُلُ مُرُورُ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَالشَّمْسِ بِسَمْتِ الرَّأْسِ، وَيَصِيرُ الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ، وَالْآخَرُ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يصير العرض مثل تمام الميل، وهاهنا يَنْعَدِمُ غُرُوبُ الْمُنْقَلَبِ الصَّيْفِيِّ وَطُلُوعُ الشَّتْوِيِّ لَكِنَّهُمَا يَمَاسَّانِ الْأُفُقَ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ أُفُقَ الْمَشْرِقِ، وَالْخَرِيفِيِّ أُفُقَ الْمَغْرِبِ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ الصَّيْفِيُّ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ وَالشَّتْوِيُّ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ وَحِينَئِذٍ يَنْطَبِقُ فَلَكُ الْبُرُوجِ عَلَى الْأُفُقِ، ثُمَّ يَطْلَعُ مِنْ أَوَّلِ الْجَدْيِ، إِلَى أَوَّلِ السَّرَطَانِ دُفْعَةً، وَيَغْرُبُ مُقَابِلُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَأْخُذُ/ الْبُرُوجُ الطَّالِعَةُ فِي الْغُرُوبِ، وَالْغَارِبَةُ فِي الطُّلُوعِ، إِلَى أَنْ تَعُودَ الْحَالَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَيَنْعَدِمُ اللَّيْلُ هُنَاكَ في الانقلاب الصيفي، والنهار في الشَّتْوِيِّ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَزْدَادَ الْعَرْضُ عَلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْسٌ مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الصَّيْفِيَّ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُنْقَلَبُ فِي وَسَطِهَا، وَمُدَّةُ قَطْعُ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ نَهَارًا، وَيَصِيرُ مِثْلُهَا مِمَّا يَلِي الْمُنْقَلَبَ الشَّتْوِيَّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ، وَمُدَّةُ قَطْعِ الشَّمْسِ إِيَّاهَا يَكُونُ لَيْلًا، وَيَعْرِضُ هُنَاكَ لِبَعْضِ الْبُرُوجِ نُكُوسٌ، فَإِذَا وَافَى الْجَدْيُ نِصْفَ النَّهَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ، كَانَ أَوَّلُ السَّرَطَانِ عَلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَنُقْطَةُ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَنْ قَدْ طَلَعَ السَّرَطَانُ قَبْلَ الْجَوْزَاءِ، وَالْجَوْزَاءُ قَبْلَ الثَّوْرِ، وَالثَّوْرُ قَبْلَ الْحَمَلِ، ثُمَّ إِذَا تَحَرَّكَ الْفَلَكُ يَطْلَعُ بِالضَّرُورَةِ آخِرُ الْحُوتِ وَأَوَّلُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَكُلُّ جُزْءٍ يَطْلُعُ فَإِنَّهُ يَغِيبُ نَظِيرُهُ، فَالْبُرُوجُ الَّتِي تَطْلَعُ مَنْكُوسَةً يَغِيبُ نَظِيرُهَا كَذَلِكَ الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَصِيرَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ تِسْعِينَ دَرَجَةً، فَيَكُونُ هُنَاكَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ مُنْطَبِقًا عَلَى الْأُفُقِ، وَتَصِيرُ الْحَرَكَةُ رَحَوِيَّةً، وَيَبْطُلُ الطلوع والغروب أصلا، ويكون النصف الشمالي من فَلَكِ الْبُرُوجِ أَبَدِيَّ الظُّهُورِ، وَالنِّصْفُ الْجَنُوبِيُّ أَبَدِيَّ الْخَفَاءِ، وَيَصِيرُ نِصْفُ السَّنَةِ لَيْلًا وَنَصِفُهَا نَهَارًا.
السَّبَبُ الثَّانِي: لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهَا بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ: اعْلَمْ أَنَّ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ يَقْطَعُ الْأَرْضَ نِصْفَيْنِ: شَمَالِيٍّ وَجَنُوبِيٍّ، فَإِذَا فَرَضْتَ دَائِرَةً أُخْرَى عَظِيمَةً مُقَاطِعَةً لَهَا عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ، انْقَسَمَتْ كُرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا أَرْبَاعًا، وَالَّذِي وُجِدَ مَعْمُورًا مِنَ الْأَرْضِ أَحَدُ الرُّبْعَيْنِ الشَّمَالِيَّيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ، وَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ مَاءٌ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي طُولُهُ تِسْعُونَ دَرَجَةً عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، يُسَمَّى: قُبَّةَ الْأَرْضِ، وَيُحْكَى عَنِ الْهِنْدِ أَنَّ هُنَاكَ قَلْعَةً شَامِخَةً فِي جَزِيرَةٍ هِيَ مُسْتَقَرُّ الشَّيَاطِينِ، فَتُسَمَّى لِأَجْلِهَا:
قُبَّةً، ثُمَّ وُجِدَ طُولُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ الدَّوْرِ، وَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ، فَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهُوَ بَحْرُ أُوقْيَانُوسَ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُهُ مِنْ جَزَائِرَ وَغِلَةٍ فِيهِ تُسَمَّى: جَزَائِرَ الْخَالِدَاتِ، زَعَمَ الْأَوَائِلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَامِرَةً فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَبُعْدُهَا عَنِ السَّاحِلِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِي الِانْتِهَاءِ أَيْضًا، وَلَمْ يُوجَدْ عَرْضُ الْعِمَارَةِ إِلَّا إِلَى بُعْدِ
السَّبَبُ الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ، كَوْنُ بَعْضِهَا بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا، وَسَهْلِيًّا وَجَبَلِيًّا، وَصَخْرِيًّا وَرَمْلِيًّا وَفِي غَوْرٍ وَعَلَى نَجْدٍ وَيَتَرَكَّبُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِبَعْضٍ فَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: ٢٢] وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ أَنَّهَا كُرَةٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ امْتِدَادَ الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يُسَمَّى طُولًا وَامْتِدَادَهَا بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ يُسَمَّى عَرْضًا فَنَقُولُ: طُولُ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَ جَمِيعُ وَجْهِ الْأَرْضِ مُضِيئًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَصَارَ جَمِيعُهُ مُظْلِمًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ غَيْبَتِهَا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا اعْتَبَرْنَا مِنَ الْقَمَرِ خُسُوفًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَاعْتَبَرْنَا مَعَهُ حَالًا مَضْبُوطًا مِنْ أَحْوَالِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْكُسُوفِ وَتَمَامُهُ، وَأَوَّلُ انْجِلَائِهِ وَتَمَامُهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي البلاد المختلفة الطول في الوقت وَاحِدٍ وَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ فِي غَرْبِ الْمُقَعَّرِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي شَرْقِهِ ثَانِيًا وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ طُولَ الْأَرْضِ مُحَدَّبٌ، ثُمَّ هَذَا الْمُحَدَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُرِيًّا أَوْ عَدَسِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّا نَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الْخُسُوفِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ حَتَّى إِنَّ الْخُسُوفَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَشْرِقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، يُوجَدُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَثَبَتَ أَنَّهَا كُرَةٌ فِي الطُّولِ، فَأَمَّا عَرْضُ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَطَّحًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكَانَ السَّالِكُ مِنَ الْجَنُوبِ عَلَى سَمْتِ الْقُطْبِ لَا يَزْدَادُ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عَلَيْهِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْأَبَدِيَّةِ الظُّهُورِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِهَا، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَتِ الْأَبَدِيَّةُ الظُّهُورِ خَفِيَّةً عَنْهُ عَلَى دَوَامِ تَوَغُّلِهِ في ذلك المقعر، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا فِي بَيَانِ الْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِ الْبُلْدَانِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى حُسْنِ تَقْرِيرِهَا إِقْنَاعِيَّةٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظِلُّ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرَةً.
بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ انْخِسَافَ الْقَمَرِ نَفْسُ ظِلِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِانْخِسَافِهِ إِلَّا زَوَالُ النُّورِ عَنْ جَوْهَرِهِ عِنْدَ تَوَسُّطِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ نَقُولُ: وَانْخِسَافُ الْقَمَرِ مُسْتَدِيرٌ لِأَنَّا نُحِسُّ بِالْمِقْدَارِ الْمُنْخَسِفِ مِنْهُ مُسْتَدِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ يَكُونُ عَلَى شَكْلِ الْفَصْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُسْتَضِيئَةِ بِإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُظْلِمَةِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ الظِّلُّ مُسْتَدِيرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَصْلُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَكَّلَ كُلَّ الظِّلِّ مِثْلَ شَكْلِهِ مُسْتَدِيرًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ ثم إن هذا الْكَلَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجَانِبٍ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تنفق فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ فَلَكِ الْبُرُوجِ مَعَ أَنَّ شكل الخسوف أبدا على الاستدارة فإذن الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةُ الشَّكْلِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ.
أَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ لِتَكُونَ مُسْتَقَرًّا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ سَيَلَانُ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الْأَرْضِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْغَائِرَةِ مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ بَعْضُ جَوَانِبِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّضَارِيسَ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضَ عَنْ كَوْنِهَا كُرَةً، قَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا كُرَةً مِنْ خَشَبٍ قُطْرُهَا ذِرَاعٌ مَثَلًا، ثُمَّ أَثْبَتْنَا فِيهَا أَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَارُوسَاتٍ أَوْ شُعَيْرَاتٍ، وَقَوَّرْنَا فِيهَا كَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنِ الْكُرَيَّةِ وَنِسْبَةُ الْجِبَالِ وَالْغَيَرَانِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ نِسْبَةِ تِلْكَ الثَّابِتَاتِ إِلَى الْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ
اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَسْهَلُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ السموات عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّ اتصاف السموات بِمَقَادِيرِهَا وَأَحْيَازِهَا وَأَوْضَاعِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْمُؤَثِّرِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ تَغَيُّرَهَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا أَعْنِي حُصُولَهَا فِي أَحْيَازِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَطِبَاعِهَا وَنُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ الصُّمِّ يُمْكِنُ كَسْرُهَا وَإِزَالَتُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا وَجَعْلُ الْعَالِي سَافِلًا وَالسَّافِلِ عَالِيًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْقُرْبِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَالْبُعْدِ مِنْ بَعْضِهَا مُمْكِنُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَ تِلْكَ الْأَجْرَامِ بِصِفَاتِهَا أَمْرٌ جَائِزٌ وَجَبَ افْتِقَارُهَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ إِلَى مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ عَلِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ، وَإِذَا عَرَفْتَ مَأْخَذَ الْكَلَامِ سَهُلَ عَلَيْكَ التَّفْرِيعُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا لِلِاخْتِلَافِ تفسيرين. أحدها: أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ إِذَا ذَهَبَ الْأَوَّلُ وَجَاءَ الثَّانِي، فَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَعَاقُبُهُمَا فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: / فُلَانٌ يَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَجِيءُ مِنْ عِنْدِهِ فَذَهَابُهُ يَخْلُفُ مَجِيئَهُ وَمَجِيئُهُ يَخْلُفُ ذَهَابَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَجِيءُ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ خَلَفُهُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: ٦٢]. وَالثَّانِي: أَرَادَ اخْتِلَافَ
[المسألة الثانية] وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كَمَا يَخْتَلِفَانِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ فِي الْأَزْمِنَةِ، فَهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِالْأَمْكِنَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْأَرْضُ كُرَةٌ فَكُلُّ سَاعَةٍ عَيَّنْتَهَا فَتِلْكَ السَّاعَةُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ صُبْحٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وَفِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ عَصْرٌ، وَفِي رَابِعٍ مَغْرِبٌ، وَفِي خَامِسٍ عِشَاءٌ وَهَلُمَّ جَرًّا هَذَا إِذَا اعْتَبَرْنَا الْبِلَادَ الْمُخَالِفَةَ فِي الْأَطْوَالِ، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عَرْضُهُ الشَّمَالِيُّ أَكْثَرَ كَانَتْ أَيَّامُهُ الصَّيْفِيَّةُ أَطْوَلَ وَلَيَالِيهِ الصَّيْفِيَّةُ أَقْصَرَ وَأَيَّامُهُ الشَّتَوِيَّةُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَطْوَالِ الْبُلْدَانِ وَعَرْضِهَا أَمْرٌ مُخْتَلِفٌ عَجِيبٌ، وَلَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ مَالِكَ الْمُلْكِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد: ٦] وَقَالَ فِي الْقَصَصِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْقَصَصِ: ٧١- ٧٣] وَفِي الرُّومِ: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الرُّومِ: ٢٣] وَفِي لُقْمَانَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [لُقْمَانَ: ٢٩] وَفِي الْمَلَائِكَةِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [فَاطِرٍ: ١٣] وَفِي يس: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس: ٣٧] وَفِي الزُّمَرِ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الزُّمَرِ: ٥] وَفِي حم غَافِرٍ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [غَافِرٍ: ٦١] وَفِي عم: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: ١٠- ١١] وَالْآيَاتُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَثِيرَةٌ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُرْتَبِطٌ بِحَرَكَاتِ الشَّمْسِ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الثَّانِي: مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُولِ الْأَيَّامِ تَارَةً، وَطُولِ اللَّيَالِي أُخْرَى مِنِ اخْتِلَافِ الْفُصُولِ، وَهُوَ الرَّبِيعُ وَالصَّيْفُ وَالْخَرِيفُ وَالشِّتَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ انْتِظَامَ أَحْوَالِ الْعِبَادِ بِسَبَبِ طَلَبِ الْكَسْبِ وَالْمَعِيشَةِ فِي الْأَيَّامِ وَطَلَبِ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فِي اللَّيَالِي مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كَوْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّضَادِّ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَتَفَاسَدَا لَا أَنْ يَتَعَاوَنَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ. الْخَامِسُ: أَنَّ إِقْبَالَ الْخَلْقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ عَلَى النَّوْمِ يُشْبِهُ مَوْتَ الْخَلَائِقِ أَوَّلًا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى فِي الصُّورِ/ وَيَقَظَتَهُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ شَبِيهَةٌ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى الْآيَاتِ الْعِظَامِ. السَّادِسُ: أَنَّ انْشِقَاقَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِظُهُورِ الصُّبْحِ الْمُسْتَطِيلِ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَأَنَّهُ جَدْوَلُ مَاءٍ صَافٍ يَسِيلُ فِي بَحْرٍ كَدِرٍ بِحَيْثُ لَا يَتَكَدَّرُ الصَّافِي بِالْكَدِرِ وَلَا الْكَدِرُ بِالصَّافِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: ٩٦]. السَّابِعُ: أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالْمِقْدَارِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصَالِحِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَرِّكُ لِأَجْرَامِ السموات مَلِكٌ عَظِيمُ الْجُثَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الصَّانِعُ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيجَادِ، فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَدْ نَفَى أَبُو هَاشِمٍ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِالسَّمْعِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفَلَكُ أَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ فَلَكٌ، وفلك السماء اسم لأطوق سَبْعَةٍ تَجْرِي فِيهَا النُّجُومُ، وَفَلَكَتِ الْجَارِيَةُ إِذَا اسْتَدَارَ ثَدْيُهَا وَفَلْكَةُ الْمِغْزَلِ مِنْ هَذَا وَالسَّفِينَةُ سُمِّيَتْ فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُورُ بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوَرَانٍ قَالَ: وَالْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الواحد ذكر، وإذا أريد به الجمع أنت وَمِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: نَاقَةٌ هِجَانٌ وَنُوقٌ هِجَانٌ وَدِرْعٌ دِلَاصٌ وَدُرُوعٌ دِلَاصٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْفُلْكُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ فَضَمَّةُ الْفَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَّةِ بَاءِ بُرْدٍ وَخَاءِ خُرْجٍ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ فَضَمَّةُ الْفَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاءِ مِنْ حُمْرٍ وَالصَّادِ مِنْ صُفْرٍ فَالضَّمَّتَانِ وَإِنِ اتَّفَقَتَا فِي اللَّفْظِ فَهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه ويقال استجر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وَتَبَحَّرَ فُلَانٌ فِي الْمَالِ وَقَالَ غَيْرُهُ سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِأَنَّهُ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ الشَّقُّ وَمِنْهُ الْبُحَيْرَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَوَاضِعِ الْبُحُورِ أَنَّ الْبُحُورَ الْمَعْرُوفَةَ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: بَحْرُ الْهِنْدِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْضًا بَحْرُ الصِّينِ. وَالثَّانِي: بَحْرُ الْمَغْرِبِ. وَالثَّالِثُ: بَحْرُ الشَّامِ وَالرُّومِ وَمِصْرَ.
وَالرَّابِعُ: بَحْرُ نِيطَشَ. وَالْخَامِسُ: بَحْرُ جُرْجَانَ.
فَأَمَّا بَحْرُ الْهِنْدِ فَإِنَّهُ يَمْتَدُّ طُولُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، مِنْ أَقْصَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى أَقْصَى أَرْضِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ، يَكُونُ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ ألف ميل، وعرضه ألفي وَسَبْعُمِائَةِ مِيلٍ وَيُجَاوِزُ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مِيلٍ، وَخُلْجَانُ هَذَا الْبَحْرِ. الْأَوَّلُ: خَلِيجٌ عِنْدَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَيَمْتَدُّ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَرْبَرِ، وَيُسَمَّى الخليج البربري، طول مِقْدَارُ خَمْسُمِائَةِ مِيلٍ وَعَرْضُهُ مِائَةُ مِيلٍ. وَالثَّانِي: خَلِيجُ بَحْرِ أَيْلَةَ وَهُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ، طُولُهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سَبْعُمِائَةِ مِيلٍ، وَمُنْتَهَاهُ إِلَى الْبَحْرِ الَّذِي يُسَمَّى الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ، وَعَلَى طَرَفِهِ الْقُلْزُمُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ، وَعَلَى شَرْقِيِّهِ أَرْضُ الْيَمَنِ وَعَدَنٍ، وَعَلَى غَرْبِيِّهِ أَرْضُ الْحَبَشَةِ. الثَّالِثُ: خَلِيجُ بَحْرِ أَرْضِ فَارِسَ، وَيُسَمَّى:
الْخَلِيجَ الْفَارِسِيَّ، وَهُوَ بَحْرُ الْبَصْرَةِ وَفَارِسَ، الَّذِي عَلَى شَرْقِيِّهِ تِيزُ وَمَكْرَانُ، وَعَلَى غَرْبِيِّهِ عُمَانُ طُولُهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ خَمْسُمِائَةِ مَيْلٍ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْخَلِيجَيْنِ أَعْنِي خَلِيجَ أَيْلَةَ وَخَلِيجَ فَارِسَ أرض الحجاز
وَأَمَّا بَحْرُ الْمَغْرِبِ: فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْمُحِيطِ وَتُسَمِّيهِ الْيُونَانِيُّونَ: أُوقْيَانُوسَ، وَيَتَّصِلُ بِهِ بَحْرُ الْهِنْدِ وَلَا يُعْرَفُ طَرَفُهُ إِلَّا فِي نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَالشَّمَالِ، عِنْدَ مُحَاذَاةِ أَرْضِ الرُّوسِ وَالصَّقَالِبَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ أَقْصَى الْمُنْتَهَى فِي الْجَنُوبِ، مُحَاذِيًا لِأَرْضِ السُّودَانِ، مَارًّا عَلَى حُدُودِ السُّوسِ الْأَقْصَى وَطَنْجَةَ، وَتَاهَرْتَ، ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ، وَالْجَلَالِقَةِ وَالصَّقَالِبَةِ ثُمَّ يَمْتَدُّ مِنْ هُنَاكَ وَرَاءَ الْجِبَالِ غَيْرِ الْمَسْلُوكَةِ وَالْأَرَاضِي غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ نَحْوَ بَحْرِ الْمَشْرِقِ وَهَذَا الْبَحْرُ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَإِنَّمَا تَسْلُكُ بِالْقُرْبِ مِنْ سَوَاحِلِهِ وَفِيهِ سِتُّ جَزَائِرَ مُقَابِلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ تُسَمَّى: جَزَائِرَ الْخَالِدَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ خَلِيجٌ عَظِيمٌ فِي شَمَالِ الصَّقَالِبَةِ، وَيَمْتَدُّ هَذَا الْخَلِيجُ إِلَى أَرْضِ بُلْغَارِ الْمُسْلِمِينَ، طُولُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ وَعَرْضُهُ مِائَةُ مِيلٍ.
وَأَمَّا بَحْرُ الرُّومِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامِ: فَطُولُهُ مِقْدَارُ خَمْسَةِ آلَافِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةِ مِيلٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ خَلِيجٌ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ قَرِيبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ، طُولُهُ خَمْسُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ خَلِيجٌ آخَرُ إِلَى أَرْضِ سِرَّيْنِ، طُولُهُ مِائَتَا مِيلٍ، وَفِي هَذَا الْبَحْرِ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ/ وَسِتُّونَ جَزِيرَةً عَامِرَةً، مِنْهَا خَمْسُونَ جَزِيرَةً عِظَامٌ.
وَأَمَّا بَحْرُ نِيطَشَ فَإِنَّهُ يَمْتَدُّ مِنَ اللَّاذِقِيَّةِ إِلَى خَلْفِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فِي أَرْضِ الرُّوسِ وَالصَّقَالِبَةِ طُولُهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثُمَائَةِ مِيلٍ.
وَأَمَّا بَحْرُ جُرْجَانَ فَطُولُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ ثَلَاثُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمَائَةِ مِيلٍ، وَفِيهِ جَزِيرَتَانِ كَانَتَا عَامِرَتَيْنِ فِيمَنْ مَضَى مِنَ الزَّمَانِ وَيُعْرَفُ هَذَا الْبَحْرُ بِبَحْرِ آبُسْكُونَ، لِأَنَّهَا عَلَى فَرْضَتِهِ ثُمَّ يَمْتَدُّ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَالدَّيْلَمِ، وَالنَّهْرَوَانِ، وَبَابِ الْأَبْوَابِ، وَنَاحِيَةِ أَرَانَ، وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِبَحْرٍ آخَرَ، فَهَذِهِ هِيَ الْبُحُورُ الْعِظَامُ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَبُحَيْرَاتٌ وَبَطَائِحُ، كَبُحَيْرَةِ خَوَارِزْمَ، وَبُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ.
وَحُكِيَ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ: أَنَّ بَحْرَ أُوقْيَانُوسَ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمِنْطَقَةِ لَهَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُخْتَصَرُ فِي أَمْرِ الْبُحُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِجَرَيَانِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ السُّفُنَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تَرْكِيبِ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْآلَاتَ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ تَرْكِيبُ هَذِهِ السُّفُنِ، فَلَوْلَا خَلْقُهُ لَهَا لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لَوْلَا الرِّيَاحُ الْمُعِينَةُ عَلَى تَحْرِيكِهَا لَمَا تَكَامَلَ النَّفْعُ بِهَا.
وَثَالِثُهَا: لَوْلَا هَذِهِ الرِّيَاحُ وَعَدَمُ عَصْفِهَا لَمَا بَقِيَتْ وَلَمَا سَلِمَتْ. وَرَابِعُهَا: لَوْلَا تَقْوِيَةُ قُلُوبِ مَنْ يَرْكَبُ هَذِهِ السُّفُنَ لَمَا تَمَّ الْغَرَضُ فَصَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَطَرِيقًا لِمَنَافِعِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْعَالَمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَأَحْوَجَ الْكُلَّ إِلَى الْكُلِّ فَصَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اقْتِحَامِهِمْ
مَا فِي الْبِحَارِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَلِّصُ السُّفُنَ عَنْهَا، وَيُوَصِّلُهَا إِلَى سَوَاحِلِ السَّلَامَةِ.
وَتَاسِعُهَا: مَا فِي الْبِحَارِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: ١٩- ٢٠] وَقَالَ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فَاطِرٍ: ١٢] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ يَحْفَظُ الْبَعْضَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالْبَعْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُرْشِدُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ إِلَى افْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرٍ يَحْفَظُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْفُلْكِ: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ عَلَى إِبَاحَةِ رُكُوبِهَا، وَعَلَى إِبَاحَةِ الِاكْتِسَابِ وَالتِّجَارَةِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِاللَّذَّاتِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْبَقَرَةِ: ١٦٤].
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ، وَمَا قَامَ بِهَا مِنْ صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلْقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْمُلْكِ: ٣٠]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَكْثَرِ مَنَافِعِهِ قَالَ تَعَالَى:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٨، ٦٩] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠]. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، جَعَلَهُ سَبَبًا لِرِزْقِهِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٢٢]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ السَّحَابَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي تَسِيلُ مِنْهَا الْأَوْدِيَةُ الْعِظَامُ تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ نُزُولَهَا عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدرا بِمِقْدَارِ النَّفْعِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [نُوحٍ: ١٠، ١١]. وَسَادِسُهَا:
مَا قَالَ: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فَاطِرٍ: ٩] وَقَالَ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الْحَجِّ: ٥] فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ: إِنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ مِنَ السَّحَابِ أَوْ تُجَوِّزُونَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا أَبْخِرَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْجَوِّ الْبَارِدِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَنَزَلَتْ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، فَاتَّصَلَتْ فَتَوَلَّدَتْ مِنِ اتِّصَالِ بَعْضِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بِالْبَعْضِ قَطَرَاتٌ هِيَ قَطَرَاتُ الْمَطَرِ.
قُلْنَا: بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي السَّحَابِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُمْسِكَهُ فِي السَّمَاءِ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ فَهَذَا مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقِدَمِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا
أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْجَاثِيَةِ: ٥] فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مِنْ جِهَاتٍ. أَحَدُهَا: ظُهُورُ النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ الْكَلَأُ وَالْعُشْبُ وَمَا شَاكَلَهُمَا، مِمَّا لَوْلَاهُ لَمَا عَاشَتْ دَوَابُّ الْأَرْضِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَتِ الْأَقْوَاتُ لِلْعِبَادِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُنْبِتُ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْحَيَوَانَاتِ، بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: ٦]. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمَلَابِسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ. وَخَامِسُهَا: يَحْصُلُ لِلْأَرْضِ بِسَبَبِ النَّبَاتِ حُسْنٌ وَنَضْرَةٌ وَرِوَاءٌ وَرَوْنَقٌ فَذَلِكَ هُوَ الْحَيَاةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ لا تصح إلى عَلَى مَنْ يُدْرِكُ وَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ، إِلَّا أَنَّ الْجِسْمَ إِذَا صَارَ حَيًّا حَصَلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَسَنِ وَالنَّضْرَةِ وَالْبَهَاءِ، وَالنُّشُورِ وَالنَّمَاءِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْحَيَاةِ عَلَى حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ الَّذِي عَلَى اخْتِصَارِهِ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: نَفْسُ الزَّرْعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ أَحَدٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: اخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكَادُ يُحَدُّ وَيُحْصَى. وَثَالِثُهَا:
اخْتِلَافُ طُعُومِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ. وَرَابِعُهَا: اسْتِمْرَارُ الْعَادَاتِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ الْآيَاتِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] وَنَظِيرُهُ جَمِيعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاءِ: ١].
وَاعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ الْحَيَوَانَاتِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّوْلِيدِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّوَالُدِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَلْنُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي النَّاسِ ثُمَّ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ.
أَمَّا الْإِنْسَانُ فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ فِي حُدُوثِهِ إِلَى الصَّانِعِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: يُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا قَالَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَلَوْ لَعِبَ الْإِنْسَانُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ مَرَّتَانِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطاب هاهنا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ مِقْدَارَ الْوَجْهِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، ثُمَّ إِنَّ مَوْضِعَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي فِيهَا كَالْحَاجِبَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ، لَا يَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ ثُمَّ إِنَّكَ لَا تَرَى شَخْصَيْنِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يَشْتَبِهَانِ، فَمَا أَعْظَمَ تِلْكَ الْقُدْرَةَ وَالْحِكْمَةَ الَّتِي أَظْهَرَتْ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ الصَّغِيرَةِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النُّطْفَةِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِي تَصْوِيرِ النُّطْفَةِ وَتَشْكِيلِهَا قُوَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي النُّطْفَةِ أَوْ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيهَا فَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْمُصَوَّرَةُ فِيهَا، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا شُعُورٌ وَإِدْرَاكٌ وَعِلْمٌ وَحِكْمَةٌ حَتَّى تَمَكَّنَتْ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ الْعَجِيبِ، وَأَمَّا أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الْقُوَّةُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ وَالْعِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ اسْتِكْمَالِهِ أَكْثَرُ عِلْمًا وَقُدْرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ حَالَ كَمَالِهِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُغِيِّرَ شَعْرَةً عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَحَالُ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ مُؤَثِّرَةً بِالطَّبْعِ، فَهَذَا الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ، فَإِنْ كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فَالْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي الْمَادَّةِ الْبَسِيطَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُرَ
وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ،
وَمِنْ عَجَائِبِ الْأَمْرِ/ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ أَهْلَ الطَّبَائِعِ قَالُوا: أَعْلَى الْعَنَاصِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّارَ، لِأَنَّهَا حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَأَدْوَنُ مِنْهَا فِي اللَّطَافَةِ الْهَوَاءُ، ثُمَّ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْكُلِّ لِثِقَلِهَا وَكَثَافَتِهَا وَيُبْسِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَلَبُوا هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي تَرْكِيبِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ أَعْلَى الْأَعْضَاءِ مِنْهُ عَظْمُ الْقِحْفِ وَالْعَظْمُ بَارِدٌ يَابِسٌ عَلَى طَبِيعَةِ الْأَرْضِ، وَتَحْتَهُ الدِّمَاغُ وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ عَلَى طَبْعِ الْمَاءِ، وَتَحْتَهُ النَّفَسُ وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ عَلَى طَبْعِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَ الْكُلِّ: الْقَلْبُ، وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ عَلَى طَبْعِ النَّارِ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ قَلْبُ الطَّبَائِعِ يُرَتِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُرَكِّبُهَا كَيْفَ أَرَادَ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ صَانِعٍ يَأْتِي بِنَقْشٍ لَطِيفٍ فَإِنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ التُّرَابِ كَيْ لَا يُكَدِّرَهُ وَعَنِ الْمَاءِ كَيْ لَا يَمْحُوَهُ، وَعَنِ الْهَوَاءِ كَيْ لَا يُزِيلَ طَرَاوَتَهُ وَلَطَافَتَهُ، وَعَنِ النَّارِ كَيْلَا تَحْرِقَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ نَقْشَ خِلْقَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠] وَقَالَ فِي الْهَوَاءِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: ١٢] وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها [الْمَائِدَةِ: ١١٠] وَقَالَ:
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] وَقَالَ فِي النَّارِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَنِ: ١٥] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُنْعَهُ بِخِلَافِ صُنْعِ كُلِّ أَحَدٍ. وَخَامِسُهَا: انْظُرْ إِلَى الطِّفْلِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنَ الْأُمِّ، فَإِنَّكَ لَوْ وَضَعْتَ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ ثَوْبًا يَقْطَعُ نَفَسَهُ لَمَاتَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَقِيَ فِي الرَّحِمِ الضَّيِّقِ مُدَّةً مَدِيدَةً، مَعَ تَعَذُّرِ النَّفَسِ هُنَاكَ وَلَمْ يَمُتْ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْفَهْمِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ، وَبَيْنَ الْمُؤْذِي وَالْمُلِذِّ، وَبَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْفَهْمِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ أَكْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطِيَّةِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالطَّبْعِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ كَانَ أَذْكَى فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، كَانَ أَكْثَرَ فَهْمًا وَقْتَ الِاسْتِكْمَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عَطِيَّةِ اللَّهِ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ. وَسَادِسُهَا:
اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَاخْتِلَافُ طَبَائِعِهِمْ، وَاخْتِلَافُ أَمْزِجَتِهِمْ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المتشابهة بَعْضَهَا بِالْبَعْضِ، وَنَرَى النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ جِدًّا فِي الصُّورَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَّتِ الْمَعِيشَةُ، وَلَاشْتَبَهَ كُلُّ أَحَدٍ بِأَحَدٍ، فَمَا كَانَ يَتَمَيَّزُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ، وَفِيهِ فَسَادُ الْمَعِيشَةِ، وَاسْتِقْصَاءُ الْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَا مَطْمَعَ فِيهِ لِأَنَّهُ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ.
النَّوْعُ السَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَقْبَلُ التَّصْرِيفَ، وَهُوَ الرِّقَّةُ وَاللَّطَافَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ
سُبْحَانَ مَنْ خَصَّ الْقَلِيلَ بِعِزِّهِ | وَالنَّاسُ مُسْتَغْنُونَ عَنْ أَجْنَاسِهِ |
وَأَذَلَّ أَنْفَاسَ الْهَوَاءِ وَكُلُّ ذِي | نَفْسٍ لَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْفَاسِهِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أَرَادَ وَتَصْرِيفَهُ الرِّيَاحَ فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ كَثِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرِّيَاحُ جَمْعُ الرِّيحِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرِّيحُ اسْمٌ عَلَى فِعْلٍ وَالْعَيْنُ مِنْهُ وَاوٌ انْقَلَبَتْ فِي الْوَاحِدِ لِلْكَسْرَةِ يَاءً فَإِنَّهُ فِي الْجَمْعِ الْقَلِيلِ أَرْوَاحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ يُوجِبُ الْإِعْلَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ سُكُونَ الرَّاءِ لَا يُوجِبُ الْإِعْلَالَ، كَالْوَاوِ فِي قَوْمٍ وَقَوْلٍ، وَفِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ رِيَاحٌ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِلْكَسْرَةِ الَّتِي قَبْلَهَا نَحْوَ دِيمَةٍ وَدِيَمٍ وَحِيلَةٍ وَحِيَلٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الرِّيحُ رِيحًا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا فِي هُبُوبِهَا الْمَجِيءُ بِالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَانْقِطَاعَ هُبُوبِهَا يَكْسِبُ الْكَرْبَ وَالْغَمَّ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّوْحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا الْوَاوُ قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ أَرْوَاحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: الرِّيَاحُ أَرْبَعٌ، الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَالصَّبَا وَالدَّبُورُ، فَالشَّمَالُ مِنْ نُقْطَةِ الشَّمَالِ، وَالْجَنُوبُ مِنْ نُقْطَةِ الْجَنُوبِ، وَالصَّبَا مَشْرِقِيَّةٌ، وَالدَّبُورُ مَغْرِبِيَّةٌ وَتُسَمَّى الصَّبَا قَبُولًا لِأَنَّهَا اسْتَقْبَلَتِ الدَّبُورَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَهَابِّ فَهِيَ نَكْبَاءُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الرِّيَاحِ فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ الرِّياحِ عَلَى الْجَمْعِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْحِجْرِ، وَالْكَهْفِ، وَالْفُرْقَانِ وَالنَّمْلِ وَالرُّومِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْجَاثِيَةِ وَفَاطِرٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا هَذِهِ الْعَشْرَةِ وَفِي إِبْرَاهِيمَ: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ [إِبْرَاهِيمَ: ١٨] وَفِي حم
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ واحدة مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ مِثْلُ الْأُخْرَى فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ وَحَّدَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ، كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّيحِ الْجِنْسُ كَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ وَحَّدَ كَقِرَاءَةِ مَنْ جَمَعَ، فَأَمَّا مَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا»
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ الرَّحْمَةِ بِالْجَمْعِ أَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الرُّومِ: ٤٦] وَإِنَّمَا يُبَشِّرُ بِالرَّحْمَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعِ الْإِفْرَادِ: فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيَاتِ: ٤١] وَقَدْ يَخْتَصُّ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ فَيَكُونُ أَمَارَةً لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] وَمَا كَانَ مِنْ لَفْظِ أَدْرَاكَ فَإِنَّهُ مُفَسِّرٌ لِمُبْهَمٍ غَيْرِ معين كقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ... وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [الْقَارِعَةِ: ٣، ١٠] النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنَ الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [البقرة: ١٦٤] سُمِّيَ السَّحَابُ سَحَابًا لِانْسِحَابِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْنَى التَّسْخِيرِ التَّذْلِيلُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُسَخَّرًا لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ طَبْعَ الْمَاءِ ثَقِيلٌ يَقْتَضِي النُّزُولَ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَاسِرٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ بِالْمُسَخَّرِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا السَّحَابَ لَوْ دَامَ لَعَظُمَ ضَرَرُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَيُكْثِرُ الْأَمْطَارَ وَالِابْتِلَالَ، وَلَوِ انْقَطَعَ لَعَظُمَ ضَرَرُهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقَحْطَ وَعَدَمَ الْعُشْبِ وَالزِّرَاعَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ هو المصلحة فهو المسخر الله سُبْحَانَهُ يَأْتِي بِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيَرُدُّهُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ السَّحَابَ لَا يَقِفُ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ بَلْ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيَاحِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ وَشَاءَ فَذَلِكَ هُوَ التَّسْخِيرُ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: ٢٤] فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَآياتٍ لَفْظُ جَمْعٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْكُلِّ، أَيْ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا آيَاتٍ وَأَدِلَّةً وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّمَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَهِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ وُجِدَتْ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجِبًا لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ، فَمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّغَيُّرُ وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ دَلَّتْ عَلَى عِلْمِ الصَّانِعِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ حُدُوثَهَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ دَلَّتْ عَلَى إِرَادَةِ الصَّانِعِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الِاتِّسَاقِ وَالِانْتِظَامِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْفَسَادِ فِيهَا دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى/ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢]. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا لِأَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ الْخُلُوصَ فِي الشُّكْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الثَّمَانِيَةِ أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَقَاصَرُ الْحِسُّ وَالْوَهْمُ وَالْخَيَالُ عَنْ إِدْرَاكِهِ قَدْ حَصَلَ فِيهِ جَمِيعُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَادِثٌ، فكان
[المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَإِنَّمَا خَصَّ الْآيَاتِ بِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وَعَدْلِهِ وَحُكْمِهِ لِيَقُومُوا بِشُكْرِهِ، وَمَا يلزم عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَمَ عَلَى قِسْمَيْنِ نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَنِعَمٌ دِينِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي عَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَاقِلُ فِيهَا وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ صَارَتْ نِعَمًا دِينِيَّةً لَكِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَوَاسِّ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ فَكَذَا الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعَمٌ دِينِيَّةٌ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَانْفِتَاحِ بَصَرِ الْبَاطِنِ فَلِذَلِكَ قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قَالَ الْقَاضِيَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ يُدْرَكُ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجَرْيِ عَلَى الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَتِ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً وَحَاصِلَةً بِالْإِلْهَامِ لَمَا صَحَّ وَصْفُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَنَّهَا آيَاتٌ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى الْآيَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ سَائِرَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ فَهُوَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ كَوْنِهَا دَلَائِلَ وَبَيْنَ كَوْنِهَا نِعَمًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَوْفَرِ حَظٍّ وَنَصِيبٍ وَمَتَى كَانَتِ الدَّلَائِلُ كَذَلِكَ كَانَتْ أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
[في قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أندادا يحبونهم كحب الله] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ التَّوْحِيدَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْقَاطِعَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَقْبِيحِ مَا يُضَادُّ التَّوْحِيدَ لِأَنَّ تَقْبِيحَ ضِدِّ الشَّيْءِ مِمَّا يُؤَكِّدُ حُسْنَ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، وَقَالُوا أَيْضًا النِّعْمَةُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، وَالنَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا مَرِضُوا ثُمَّ عَادَتِ الصِّحَّةُ إِلَيْهِمْ عَرَفُوا قَدْرَهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ النِّعَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَرْدَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى التوحيد بهذه الآية، وهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا النِّدُّ فَهُوَ الْمِثْلُ الْمُنَازِعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢] وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْدَادِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا آلِهَةً لِتُقَرِّبَهَمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، ورجوا من عندها النفع والضرر، وَقَصَدُوهَا بِالْمَسَائِلِ، وَنَذَرُوا لَهَا النُّذُورَ، وَقَرَّبُوا لَهَا الْقَرَابِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْنَامُ أَنْدَادٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، أَيْ أَمْثَالٌ لَيْسَ إنها أندادا لله، أو المعنى: إنها أندادا لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ ظُنُونِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ السَّادَةُ الَّذِينَ كَانُوا
الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَحَبَّتِهِمُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
[الْبَقَرَةِ: ١٦٦] وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وَأَمْثَالًا لِلَّهِ تَعَالَى، يَلْتَزِمُونَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ، مَا يَلْتَزِمُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْأَنْدَادِ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ شَغَلْتَ قبلك بِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَلْتَهُ فِي قبلك نِدًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان: ٤٣].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مَحَبَّةَ ذَاتِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّونَ عَادَتَهُمْ أَوِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ وَالِانْقِيَادَ لَهُمْ، أَوْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: كَحُبِّ اللَّهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ فِيهِ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ، وَقِيلَ فِيهِ: كَالْحُبِّ اللَّازِمِ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ، وَقِيلَ فِيهِ: كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ هَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ أَمْ لا؟ فمن قال: كانوا يعرفون مَعَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عَارِفِينَ بِرَبِّهِمْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ إِمَّا كَالْحُبِّ اللَّازِمِ لَهُمْ أَوْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُحِبُّونَهُمْ/ كَحُبِّ اللَّهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَحُبِّ اللَّهِ يَقْتَضِي حُبًّا لِلَّهِ ثَابِتًا فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَنَبَّهَ عَلَى دَلَائِلِهِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ يُشْرِكُ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَاقِلُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِلْأَوْثَانِ كَحُبِّهِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ أَحْجَارٌ لَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَعْقِلُ، وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ صَانِعًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] وَمَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُمْ لِتِلْكَ الْأَوْثَانِ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ طلب مرضات اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يُعْقَلُ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحُبِّ مَعَ هَذَا الْقَوْلِ، قُلْنَا قَوْلُهُ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أَيْ فِي الطَّاعَةِ لَهَا، وَالتَّعْظِيمِ لَهَا، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَحَبَّةِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمُوهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَحْثِ عَنْ مَاهِيَّةِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، اعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَكَذَا الْأَخْبَارُ،
رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ جَاءَهُ لِقَبْضِ رُوحِهِ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يُمِيتُ خَلِيلَهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يَكْرَهُ لِقَاءَ خَلِيلِهِ؟ فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ الْآنَ فَاقْبِضْ،
وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟
فَقَالَ مَا أَعْدَدْتُ كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمَرْءُ مَعَ من
فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ،
وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَقَدْ نَحَلَتْ أَبْدَانُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى مَا أَرَى؟ فَقَالُوا: الْخَوْفُ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْخَائِفَ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ، فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ؟ قَالُوا الشَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ مَا تَرْجُونَ ثُمَّ تَرَكَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ فَإِذَا هُمْ أَشَدُّ نُحُولًا وَتَغَيُّرًا، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَرَايَا مِنَ النُّورِ، فَقَالَ: كَيْفَ بَلَغْتُمْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، قَالُوا: بِحُبِّ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
وَعِنْدَ السُّدِّيِّ قَالَ: تُدْعَى الْأُمَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْبِيَائِهَا، فَيُقَالُ: يَا أُمَّةَ مُوسَى، وَيَا أُمَّةَ عِيسَى، وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ الْمُحِبِّينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُنَادَوْنَ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ،
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: «عَبْدِي أَنَا وَحَقِّكَ لَكَ مُحِبٌّ فَبِحَقِّي عَلَيْكَ كُنْ لِي مُحِبًّا».
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ وَإِنِ اتَّفَقُوا فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ، فَيَسْتَحِيلُ/ تَعَلُّقُ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: نُحِبُّ اللَّهَ، فَمَعْنَاهُ نُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَخِدْمَتَهُ، أَوْ نُحِبُّ ثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ قَالُوا: الْعَبْدُ قَدْ يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى لِذَاتِهِ، وَأَمَّا حُبُّ خِدْمَتِهِ أَوْ حُبُّ ثَوَابِهِ فَدَرَجَةٌ نَازِلَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْكَمَالَ أَيْضًا مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا اللَّذَّةُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَنَا: لِمَ تَكْتَسِبُونَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ الْمَالَ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ تَطْلُبُونَ الْمَالَ؟ قُلْنَا: لِنَجِدَ بِهِ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَ تطلبون المأكول والمشروب؟ قلنا: لتحصيل اللذة ويندفع الألم، فإن قيل لنا: ولما تَطْلُبُونَ اللَّذَّةَ وَتَكْرَهُونَ الْأَلَمَ؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ إِنَّمَا كان مطلوبا أجل شيء آخر، لزم التَّسَلْسُلُ، وَإِمَّا الدَّوْرُ، وَهُمَا مُحَالَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يَكُونُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ مَطْلُوبَةُ الْحُصُولِ لِذَاتِهَا، وَالْأَلَمَ مَطْلُوبُ الدَّفْعِ لِذَاتِهِ، لَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَلِأَنَّا نُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَإِذَا سَمِعْنَا حِكَايَةَ بَعْضِ الشُّجْعَانِ مِثْلَ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، وَاطَّلَعْنَا عَلَى كَيْفِيَّةِ شَجَاعَتِهِمْ مَالَتْ قُلُوبُنَا إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ الْعَظِيمِ فِي تَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ، وَقَدْ يَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَرَةِ بِالرُّوحِ، وَكَوْنُ اللَّذَّةِ مَحْبُوبَةً لِذَاتِهَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْكَمَالِ محبوبا لذاته، إذا أثبت هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ حَمَلُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، أَوْ عَلَى مَحَبَّةِ ثَوَابِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّذَّةَ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، أَمَّا الْعَارِفُونَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ انْكَشَفَ لَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْكَامِلِينَ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ لِوُجُوبِ وُجُودِهِ: غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَكَمَالُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْمَلُ الْكَامِلِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِذَا كُنَّا نُحِبُّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ لِكَمَالِهِ فِي عِلْمِهِ وَالرَّجُلَ الشُّجَاعَ لِكَمَالِهِ فِي شَجَاعَتِهِ وَالرَّجُلَ الزَّاهِدَ لِبَرَاءَتِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ، فَكَيْفَ لَا نُحِبُّ اللَّهَ وَجَمِيعُ الْعُلُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمله كَالْعَدَمِ، وَجَمِيعُ الْقُدَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَالْعَدَمِ وجميع ما للخلق من البرءاة عَنِ النَّقَائِصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مَحْبُوبٌ فِي ذَاتِهِ وَلِذَاتِهِ، سَوَاءٌ أَحَبَّهُ غَيْرُهُ أَوْ مَا أَحَبَّهُ غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَمَّا وَقَفْتَ عَلَى النُّكْتَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَنَقُولُ: الْعَبْدُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً، بَلْ مَا لَمْ يَنْظُرْ
المسألة الثانية: في معنى الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، اعْلَمْ أَنَّ الشَّوْقَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ أُدْرِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُدْرَكْ مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا، فَلَا يُشْتَاقُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ شَخْصًا وَلَمْ يَسْمَعْ وَصْفَهُ، لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَشْتَاقَ إِلَيْهِ وَلَوْ أَدْرَكَ كَمَالَهُ لَا يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّوْقَ إِلَى الْمَعْشُوقِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَآهُ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ اشْتَاقَ إِلَى اسْتِكْمَالِ خَيَالِهِ بالرؤية. الثاني: أَنْ يَرَى وَجْهَ مَحْبُوبِهِ وَلَا يَرَى شَعْرَهُ، وَلَا سَائِرَ مَحَاسِنِهِ، فَيَشْتَاقُ إِلَى أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُ مَا لَمْ يَرَهُ قَطُّ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مُتَصَوَّرَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُمَا لَازِمَانِ بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ الْعَارِفِينَ، فَإِنَّ الَّذِي اتَّضَحَ لِلْعَارِفِينَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، مَشُوبٌ بِشَوَائِبِ الْخَيَالَاتِ، فَإِنَّ الْخَيَالَاتِ لَا تَفْتُرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَنِ الْمُحَاكَاةِ وَالتَّمْثِيلَاتِ، وَهِيَ مُدْرَكَاتٌ لِلْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّجَلِّي إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الشَّوْقِ لَا مَحَالَةَ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا أحد نوعي الشوق فبما اتَّضَحَ اتِّضَاحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضُهَا، وَتَبْقَى أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا غَامِضَةً، فَإِذَا عَلِمَ الْعَارِفُ أَنَّ مَا غَابَ عَنْ عَقْلِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حَضَرَ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُشْتَاقًا إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَالشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَنْتَهِي فِي دَارِ الْآخِرَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى رُؤْيَةً وَلِقَاءً وَمُشَاهَدَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الشَّوْقُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي فَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ، إِذْ نِهَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ جَلَالُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّوْقَ لَذِيذٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي التَّرَقِّي حَصَّلَ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْوِجْدَانِ، وَالْحِرْمَانِ، وَالْوُصُولِ، وَالصَّدِّ آلَامًا مَخْلُوطَةً بِلَذَّاتٍ، وَاللَّذَّاتُ مَحْفُوفَةٌ بِالْحِرْمَانِ وَالْفِقْدَانِ، كَانَتْ أَقْوَى، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ اللَّذَّاتِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، أَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: إِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ/ يكون من وجهين. أحدهما: أنه مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَالْمَدْحِ، وَالثَّنَاءِ وَالْعِبَادَةِ خَالِصَةٌ عَنِ الشِّرْكِ وَعَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الِاعْتِقَادِ وَمَحَبَّةُ غَيْرِهِمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ اقْتَرَنَ بِهِ الرَّجَاءُ وَالثَّوَابُ وَالرَّغْبَةُ فِي عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْأَخْذُ فِي طَرِيقِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُعَظِّمُهُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ أَشَدَّ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَالُوا: الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحُبَّ مِنْ لَوَازِمِ الْعِرْفَانِ فكلما كان عرفناهم أَتَمَّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُمْ أَشَدَّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى أَشَدُّ مَعَ أَنَّا نَرَى الْهُنُودَ يَأْتُونَ بِطَاعَاتٍ شَاقَّةٍ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَأْتُونَ بِهَا إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ حُبًّا لِلَّهِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَتَضَرَّعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، يَرْجِعُونَ إِلَى الْأَنْدَادِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦] إِلَى آخِرِهِ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُعْرِضُ عَنِ اللَّهِ فِي الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْكَافِرُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ رَبِّهِ، فَكَانَ حُبُّ الْمُؤْمِنِ أَقْوَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ رَضِيَ بِقَضَائِهِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ، فَأُولَئِكَ الْجُهَّالُ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ فِي الْجِهَادِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ، فَالَّذِي فَعَلُوهُ بَاطِلٌ. وَرَابِعُهَا:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ صَنَمًا، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ تَرَكُوا ذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَحْسَنِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُوَحِّدُونَ رَبَّهَمْ، وَالْكُفَّارَ يَعْبُدُونَ مَعَ الصَّنَمِ أَصْنَامًا فَتَنْقُصُ مَحَبَّةُ الْوَاحِدِ، أَمَّا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ فَتَنْضَمُّ مَحَبَّةُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْحَاثًا:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ: (وَلَوْ تَرَى) بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّنْ جَرَى ذِكْرُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمُوا قَدْرَ مَا يُشَاهِدُهُ الْكُفَّارُ، وَيُعَايِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الْمُتَوَعَّدُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، فَوَجَبَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي يَرَوْنَ فَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (يُرَوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى التَّعْدِيَةِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَالْبَاقُونَ (يَرَوْنَ) بِالْفَتْحِ عَلَى إِضَافَةِ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِمْ.
البحث الثالث: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ (إِنَّ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَأَمَّا الْقُرَّاءُ السَّبْعُ فَعَلَى فَتْحِ الْأَلِفِ فِيهَا.
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرَأَ وَلَوْ يَرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا يَرَوْنَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ: وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا شِدَّةَ عَذَابِ اللَّهِ وَقُوَّتَهُ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا فَعَلَى هَذَا جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَامِ: ٢٧]، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَامِ: ٩٣]، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١] وَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانَا وَالسِّيَاطُ تَأْخُذُ مِنْهُ، قَالُوا: وَهَذَا الْحَذْفُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ خَاطِرُ الْمُخَاطَبِ إِلَى كُلِّ ضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَيَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِمَّا إِذَا كَانَ عُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقْرَأَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَجْزَهُمْ حَالَ مُشَاهَدَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ لَقَالُوا: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَجْهُ فِيهِ تَكْرِيرُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظلموا إذا يَرَوْنَ الْعَذَابَ تَرَى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ جَيِّدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وَ (إِذْ) لِلْمَاضِي؟ قُلْنَا: إِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ وُقُوعَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: ٧٧] وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] وَكُلُّ مَا كَانَ قَرِيبَ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا وَقَعَ وَحَصَلَ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٤٤] وَقَوْلُ الْمُقِيمِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ إِيقَاعِهِ التَّحْرِيمَ لِلصَّلَاةِ لِقُرْبِ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الْأَنْعَامِ: ٢٧]، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ [سبأ: ٣١]، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا [سَبَأٍ: ٥١]، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى [الأنفال: ٥٠].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: ١٦٥] عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ زَادَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْنَوْا عُمْرَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَوْكَدُ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ فإنهم يتبرءون
٢٢] وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: ١٦٥].
الثَّانِي: أَنَّ عَامِلَ الْإِعْرَابِ فِي (إِذْ) مَعْنَى شَدِيدُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ يَعْنِي فِي وَقْتِ التَّبَرُّؤِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمَتْبُوعِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْأَتْبَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ عَجْزُهُمْ عَنْ تَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي رَأَوْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ سَبَبًا، وَالْآيِسُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْجُو بِهِ الْخَلَاصَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ وَبِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْبَلَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ السَّادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْ مُشْرِكِي الْإِنْسِ، عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَعَطَاءٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّذِينَ صَارُوا مَتْبُوعِينَ لِلْكُفَّارِ بِالْوَسْوَسَةِ عَنِ السُّدِّيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَرَابِعُهَا: الْأَوْثَانُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالْآلِهَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ فِي الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ مِنْهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُتَّبَعُوا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ، وَيَجِبُ أَيْضًا حَمْلُهُمْ عَلَى السَّادَةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ وَصْفُهُمْ مِنْ عِظَمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ دُونَ الشَّيَاطِينِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: ٦٧]، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ الْأَوَّلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ تَبَرَّأَ الْأَتْبَاعُ من الرؤساء.
المسألة الثالثة: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ التَّبَرُّؤِ وُجُوهًا. أَحَدَهَا: أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِهِمْ عَنْ أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ النَّدَمُ تَبَرُّؤًا وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أي يتبرؤون فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَزْدَادُ الْهَوْلُ وَالْخَوْفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى تَبَرَّأَ وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَسْبَابِ سَبْعَةَ أقوال. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عَلَيْهَا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ. الثَّانِي: الْأَرْحَامُ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاطَفُونَ بِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. الثَّالِثُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانُوا يَلْزَمُونَهَا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ. وَالرَّابِعُ: الْعُهُودُ وَالْحِلْفُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ يَتَوَادُّونَ عَلَيْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: مَا كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَكَانَ بِهَا انْقِطَاعُهُمْ عَنِ الْأَصَمِّ.
السَّادِسُ: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. السَّابِعُ: أَسْبَابُ النَّجَاةِ تَقَطَّعَتْ عَنْهُمْ وَالْأَظْهَرُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالنَّفْيِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَزَالَ عَنْهُمْ كُلُّ سَبَبٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وأنهم
المسألة الثانية: الباء في قوله: بِهِمُ الْأَسْبابُ بمعنى (عن) كقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفُرْقَانِ: ٥٩] أَيْ عَنْهُ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي | بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّبَبِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ قَالُوا: وَلَا يُدْعَى الْحَبْلُ سَبَبًا حَتَّى يَنْزِلَ وَيَصْعَدَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الْحَجِّ: ١٥] ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَصَلْتَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ حَاجَةٍ تُرِيدُهَا سَبَبٌ. يُقَالُ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ سَبَبٌ أَيْ رَحِمٌ وَمَوَدَّةٌ، وَقِيلَ لِلطَّرِيقِ: سَبَبٌ لِأَنَّكَ بِسُلُوكِهِ تَصِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُرِيدُهُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَتْبَعَ سَبَباً [الكهف: ٨٥] أي طريقا، وأسباب السموات: أَبْوَابُهَا لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى السَّمَاءِ يَكُونُ بِدُخُولِهَا، قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غَافِرٍ: ٣٦، ٣٧] قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا تَنَالُهُ | وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فَذَلِكَ تَمَنٍّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَإِلَى حَالِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ الاختيار إليهم حتى يتبرءون منهم في الدنيا كما تبرؤا مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَفْهُومُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُقَارِبُ الْعَذَابَ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَلَا يُخَلِّصُونَهُمْ وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَقْدِيرُهُ: فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَقَدْ دَهَمَهُمْ مِثْلُ هَذَا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: كَتَبَرُّؤِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. الثَّانِي: كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ، لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْأَعْمَالِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: الطَّاعَاتُ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ ضَيَّعُوهَا عَنِ السُّدِّيِّ. الثَّانِي:
الْمَعَاصِي وَأَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ عَنِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ عَمِلُوهَا. الثَّالِثُ: ثَوَابُ طَاعَاتِهِمُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا فَأَحْبَطُوهُ بِالْكُفْرِ عَنِ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْمَالُ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا السَّادَةَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَسْرَةً بِأَنْ رَأَوْهَا فِي صَحِيفَتِهِمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهَا وَالْعُدُولُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوهَا، وَفِي الثَّانِي مَجَازٌ بِمَعْنَى لَزِمَهُمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ حَتَّى يَبْقَى النَّادِمُ كَالْحَسِيرِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، يُقَالُ: حَسِرَ فُلَانٌ يَحْسِرُ حَسْرَةً وَحَسْرًا إِذَا اشْتَدَّ نَدَمُهُ عَلَى أَمْرٍ فَاتَهُ، وَأَصْلُ الْحَسْرِ الْكَشْفُ، يُقَالُ:
حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ أَيْ كَشَفَ وَالْحَسْرَةُ انْكِشَافٌ عَنْ حَالِ النَّدَامَةِ، وَالْحُسُورُ: الْإِعْيَاءُ لِأَنَّهُ انْكِشَافُ الْحَالِ عَمَّا أَوْجَبَهُ طُولُ السَّفَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] وَالْمِحْسَرَةُ الْمِكْنَسَةُ لِأَنَّهَا تَكْشِفُ عَنِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ تَنْحَسِرُ لِأَنَّهَا تَنْكَشِفُ بِذَهَابِ الرِّيشِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ وَما هُمْ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْخُرُوجِ مَخْصُوصًا بِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكْشِفُ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الانفطار: ١٤- ١٦] وثبت أن المراد بالفجار هاهنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.
تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس، وأوله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً
[تتمة سورة البقرة]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَدَلَائِلَهُ، وَمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الثَّوَابِ وَأَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الشِّرْكِ وَمَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، وَيَتَّبِعُ رؤساء الكفرة أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَأَنَّ مَعْصِيَةَ مَنْ عَصَاهُ وَكُفْرَ مَنْ كَفَرَ بِهِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي قَطْعِ إِحْسَانِهِ ونعمه عنهم، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ السَّوَائِبَ وَالْوَصَائِلَ وَالْبَحَائِرَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَلَالُ الْمُبَاحُ الَّذِي انْحَلَّتْ عُقْدَةُ الْحَظْرِ عَنْهُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَلِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْعَقْدِ وَمِنْهُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِ، لِأَنَّهُ حَلُّ شَدِّ الِارْتِحَالِ لِلنُّزُولِ وَحَلَّ الدَّيْنُ إِذَا وَجَبَ لِانْحِلَالِ الْعُقْدَةِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وحل من إحرامه، لأنه حل عقيدة الْإِحْرَامِ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، أَيْ وَجَبَتْ لِانْحِلَالِ الْعُقْدَةِ بِالْمَانِعَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحُلَّةُ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ، لِأَنَّهُ يُحَلُّ عَنِ الطَّيِّ لِلُّبْسِ، وَمِنْ هَذَا تَحِلَّةُ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ عُقْدَةُ الْيَمِينِ تَنْحَلُّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا لِخُبْثِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا لَا لِخُبْثِهِ، كَمِلْكِ الْغَيْرِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي أَكْلِهِ فَالْحَلَالُ هُوَ الْخَالِي عَنِ الْقَيْدَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حَلالًا طَيِّباً إِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الطَّيِّبُ فِي اللُّغَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وَالْحَلَالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، لِأَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَةِ: ١٠٠] وَالطَّيِّبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ مَا يستلذ به ويسطاب وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ فَلَا تَسْتَلِذُّهُ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مُسْتَلَذٍّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ يَزْجُرُ عَنْهُ وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّيِّبِ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمُسْتَلَذُّ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَلَالِ لَزِمَ التَّكْرَارُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ طَيِّبًا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُشْتَهَى لِأَنَّهُ إِنْ تَنَاوَلَ مَا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهِ عَادَ حَرَامًا وَإِنْ كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِلِ إِلَّا عِنْدَ شُبْهَةٍ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَاحُ وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَلالًا الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ حَلَالًا وَقَوْلُهُ طَيِّباً الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ وَإِنَّ اسْتِطَابَةَ الْآكِلِ فَمِنْ حَيْثُ يُفْضِي إِلَى الْعِقَابِ يَصِيرُ مَضَرَّةً وَلَا يَكُونُ مُسْتَطَابًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ خُطُواتِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ، أَمَّا مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ خُطْوَةٌ فَإِذَا جَمَعْتَ حَرَّكْتَ الْعَيْنَ لِلْجَمْعِ، كَمَا فُعِلَ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَزْنِ نَحْوَ غُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ لِلْجَمْعِ كَمَا فُعِلَ فِي نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ اسْمًا جَمَعْتَهُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ نَحْوَ تَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ وَغُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ وَشَهْوَةٍ وَشَهَوَاتٍ، وَمَا كَانَ نَعْتًا جُمِعَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ نَحْوَ ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ وَعَبْلَةٍ وَعَبْلَاتٍ، وَالْخُطْوَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ لَا مِنَ الصِّفَاتِ فَيُجْمَعُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّفَ الْعَيْنَ فَبَقَّاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَطَلَبَ الْخِفَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْجُبَّائِيُّ الْخَطْوَةُ وَالْخُطْوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ:
خَطَوْتُ خَطْوَةً وَالْخُطْوَةُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا يُقَالُ: حَثَوْتُ حَثْوَةً، وَالْحُثْوَةُ اسْمٌ لِمَا تَحَثَّيْتَ، وَكَذَلِكَ غَرَفْتُ غَرْفَةً وَالْغُرْفَةُ اسْمٌ لِمَا اغْتَرَفْتَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخُطْوَةُ الْمَكَانُ الْمُتَخَطَّى كَمَا أَنَّ الْغُرْفَةَ هِيَ الشَّيْءُ الْمُغْتَرَفُ بِالْكَفِّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعُوا سَبِيلَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ لِأَنَّ الْخُطْوَةَ اسْمُ مَكَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: خطوات الشيطان طرفه وَإِنْ جَعَلْتَ الْخَطْوَةَ بِمَعْنَى الْخُطْوَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَالتَّقْدِيرُ: لَا تَأْتَمُّوا بِهِ وَلَا تَقْفُوا أَثَرَهُ وَالْمَعْنَيَانِ مُقَارِبَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّقْدِيرَانِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَيْسَ مُرَادُ الله هاهنا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ احْذَرْ أَنْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَزَجْرُ الْمُكَلَّفِ بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ تَخَطِّي الْحَلَالِ إِلَى الشُّبَهِ كَمَا زَجَرَهُ عَنْ تَخَطِّيهِ إِلَى الْحَرَامِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَزَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي هَذَا/ التَّحْذِيرِ، وهو كونه عدوا مبنيا أَيْ مُتَظَاهِرٌ بِالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ الْتَزَمَ أُمُورًا سَبْعَةً فِي الْعَدَاوَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ١١٩] وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٦، ١٧] فَلَمَّا الْتَزَمَ الشَّيْطَانُ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَ عَدُوًّا مُتَظَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ فَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهَذَا كَالتَّفْصِيلِ لِجُمْلَةِ عَدَاوَتِهِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: السُّوءُ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ جَمِيعَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَثَانِيهَا: الْفَحْشَاءُ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ السُّوءِ، لِأَنَّهَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَعْظَمُ وَيُسْتَفْحَشُ من المعاصي وثالثها: أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَكَأَنَّهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْفَحْشَاءِ، لِأَنَّهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكَبَائِرِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بالله، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتَهُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي نَجِدُهَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: اخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّاتِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صُوَرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخَيُّلَاتُهَا هَلْ تُشْبِهُ هَذِهِ الْحُرُوفَ فِي كَوْنِهَا حُرُوفًا أَوْ لَا تُشْبِهُهَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَصُوَرُ الْحُرُوفِ حُرُوفٌ، فَعَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ أَصْوَاتٌ وَحُرُوفٌ خَفِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَكُنْ تَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ حُرُوفًا، لَكِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَرَتِّبَةً مُنْتَظِمَةً عَلَى حَسَبِ انْتِظَامِهَا فِي الْخَارِجِ، وَالْعَرَبِيُّ لَا يَتَكَلَّمُ فِي قَلْبِهِ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا الْعَجَمِيُّ، وَتَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَعَاقُبُهَا وَتَوَالِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُطَابَقَةِ تَعَاقُبِهَا وَتَوَالِيهَا فِي الْخَارِجِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ خَفِيَّةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مَنْ هُوَ؟ أَمَّا عَلَى أَصْلِنَا وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْحَوَادِثِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهَا مَا يَكُونُ كَذِبًا وَسُخْفًا، لَزِمَ كَوْنُ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَهَا هُوَ الْعَبْدُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكْرَهُ حُصُولَ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ، وَيَحْتَالُ فِي دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهَا الْبَتَّةَ لَا تَنْدَفِعُ، بَلْ يَنْجَرُّ الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ عَلَى سبيل الاتصال، / فإذن لا بد هاهنا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ إِمَّا الْمَلِكُ وَإِمَّا الشَّيْطَانُ، فَلَعَلَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي أَقْصَى الدِّمَاغِ، وَفِي أَقْصَى الْقَلْبِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّمَمِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْمَلِكَ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ الْبَتَّةَ، لَمْ يَبْعُدْ كَوْنُهَا قَادِرَةً عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ:
إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَوَلَّجُ بَوَاطِنَ الْبَشَرِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى بَوَاطِنِ الْبَشَرِ، وَلَا بَعُدَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لِغَايَةِ لَطَافَتِهَا تَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ فِي مَضَايِقِ بَاطِنِ الْبَشَرِ وَمَخَارِقِ جِسْمِهِ وَتُوصِلُ الْكَلَامَ إِلَى الأقصى قَلْبِهِ وَدِمَاغِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ لَطَافَتِهَا تَكُونُ مُسْتَحْكِمَةَ التَّرْكِيبِ، بِحَيْثُ يَكُونُ اتِّصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِالْبَعْضِ اتِّصَالًا لَا يَنْفَصِلُ، فَلَا جَرَمَ لَا يَقْتَضِي نُفُوذُهَا فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ وَالْمَخَارِقِ انْفِصَالَهَا وَتَفَرُّقَ أَجْزَائِهَا وَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا وَالْأَمْرُ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ بِالْخَيْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الْأَنْفَالِ: ١٢] أَيْ أَلْهِمُوهُمُ الثَّبَاتَ وَشَجِّعُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً»
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «إِذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ لِبَنِي آدَمَ قَرَنَ إِبْلِيسُ بِهِ شَيْطَانًا وَقَرَنَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا، فَالشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْأَيْسَرِ، وَالْمَلَكُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قلبه الأيمن فهما يدعوانه»
ومن صوفية والفلاسفة مَنْ فَسَّرَ الْمَلَكَ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَفَسَّرَ الشَّيْطَانَ الدَّاعِيَ إِلَى الشَّرِّ بِالْقُوَّةِ والشهوانية والغضبية.
المسألة الثاني: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْقَبَائِحِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ إِنَّما وَهِيَ لِلْحَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ لَكِنْ لِغَرَضِ أَنْ يَجُرَّهُ مِنْهُ إِلَى الشَّرِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ إِلَى الْفَاضِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى الشَّرِّ، وَإِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْفَاضِلِ الْأَسْهَلِ إِلَى الْأَفْضَلِ الْأَشَقِّ لِيَصِيرَ ازْدِيَادُ الْمَشَقَّةِ سَبَبًا لِحُصُولِ النُّفْرَةِ عَنِ الطَّاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ بل
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَتَى قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ بِمَا يَعْلَمُ لَا بِمَا لا يعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ:
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَةِ: ١٦٥] وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ. وَثَانِيهَا: يَعُودُ عَلَى «الناس» في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: ٢١] فَعَدَلَ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ ضَلَالِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعُقَلَاءِ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى مَاذَا يَقُولُونَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَهُمْ كانوا خير مِنَّا، وَأَعْلَمَ مِنَّا، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْكِنَايَةُ فِي لَهُمُ تَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْلُومِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى الْمَذْكُورِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِسَائِيُّ يُدْغِمُ لَامَ «هَلْ» وَ «بَلْ» فِي ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ: التَّاءُ كَقَوْلِهِ: بَلْ تُؤْثِرُونَ [الْأَعْلَى: ١٦] وَالنُّونُ بَلْ نَتَّبِعُ وَالثَّاءُ هَلْ ثُوِّبَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٣٦] وَالسِّينُ بَلْ سَوَّلَتْ [يُوسُفَ: ١٨] وَالزَّايُ بَلْ زُيِّنَ [الرَّعْدِ: ٣٣] وَالضَّادُ بَلْ ضَلُّوا [الْأَحْقَافِ: ٢٨] وَالظَّاءُ بَلْ ظَنَنْتُمْ وَالطَّاءُ بَلْ طَبَعَ [النِّسَاءِ: ١٥٥] وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْبَعْضِ، وَالْإِظْهَارُ هُوَ الْأَصْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلْفَيْنا بِمَعْنَى وَجَدْنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَانَ: ٢١] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ [يُوسُفَ: ٢٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ [الصَّافَّاتِ: ٦٩].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ فَهُمْ قَالُوا لَا نَتَّبِعُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا، فَكَأَنَّهُمْ عَارَضُوا الدَّلَالَةَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي أَوَلَوْ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْقُولَةُ إِلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّوْبِيخِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِشَيْءٍ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ فَضِيحَةً، كَمَا يَقْتَضِي الِاسْتِفْهَامُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ: هَلْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُحِقًّا أَمْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَرَفْتَ بِذَلِكَ لَمْ نَعْلَمْ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْرِفَ كَوْنَهُ مُحِقًّا، فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ مُحِقٌّ؟ وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِتَقْلِيدِ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِالْعَقْلِ فَذَاكَ كَافٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ قُلْتَ:
لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ أَنْ يُعْلَمَ/ كَوْنُهُ مُحِقًّا، فَإِذَنْ قَدْ جَوَّزْتَ تَقْلِيدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَإِذَنْ أَنْتَ عَلَى
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ الزَّجْرِ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُتَابَعَةِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ متابعة التَّقْلِيدِ، وَفِيهِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْكِ التَّعْوِيلِ عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْغَيْرُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً لَفْظٌ عَامٌّ، وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْعَامِّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَاصُّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَهْتَدُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى كَيْفِيَّةِ اكتسابه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَرَكُوا النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ، وَأَخْلَدُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، وَقَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: ١٧٠] ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ بِسَبَبِ تَرْكِ الْإِصْغَاءِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالدِّينِ، فَصَيَّرَهُمْ مِنْ هذا الوجه بمنزلة الْأَنْعَامِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَثَلِ يَزِيدُ السَّامِعَ مَعْرِفَةً بِأَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَيُحَقِّرُ إِلَى الْكَافِرِ نَفْسَهُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَسْرًا لِقَلْبِهِ، وَتَضْيِيقًا لِصَدْرِهِ، حَيْثُ صَيَّرَهُ كَالْبَهِيمَةِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ نِهَايَةُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ عَنْ أَنْ يَسْلُكَ مثل طريقه في التقليد، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَعَقَ الرَّاعِي بِالْغَنَمِ إِذَا صاح بها وأما نعق الْغُرَابُ فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: تَصْحِيحُ الْمَعْنَى بِالْإِضْمَارِ فِي الْآيَةِ وَالثَّانِي: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، أَمَّا الَّذِينَ أَضْمَرُوا فَذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَثَلُ مَنْ يَدْعُو الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْحَقِّ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، فَصَارَ النَّاعِقُ الَّذِي هُوَ الرَّاعِي بمنزل الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِرُ الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ وَصَارَ الْكُفَّارُ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَمِ الْمَنْعُوقِ بِهَا وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَفْهَمُ الْمُرَادَ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ كَانُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الرَّسُولِ وَأَلْفَاظَهُ، وَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَبِمَعَانِيهَا لَا جَرَمَ حَصَلَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ الثَّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دعاتهم آلِهَتَهُمْ مِنَ الْأَوْثَانِ كَمَثَلِ النَّاعِقِ فِي دُعَائِهِ مَا لَا يَسْمَعُ كَالْغَنَمِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْبَهَائِمُ لَا
الطَّرِيقُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ عَقْلِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأَوْثَانِ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى ذَلِكَ الرَّاعِي بِقِلَّةِ العقل، فكذا هاهنا الثَّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ آبَاءَهُمْ وَتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْبَهَائِمِ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، فَكَذَا التَّقْلِيدُ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ زَادَ فِي تَبْكِيتِهِمْ، فَقَالَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ فِي أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْبُكْمِ فِي أَنْ لَا يَسْتَجِيبُوا لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعُمْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّلَائِلِ فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوهَا، قَالَ النَّحْوِيُّونَ صُمٌّ أَيْ هُمْ صُمٌّ وَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الذَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَالْمُرَادُ الْعَقْلُ الِاكْتِسَابِيُّ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ قَالَ: الْعَقْلُ عَقْلَانِ مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ.
وَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا فَقَدُوا الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ وَلِهَذَا قيل: من فقد حسا فقد علما.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَبِيهَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَةِ: ١٦٨] ثُمَّ نَقُولُ:
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هاهنا فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتَقْصَى فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ هُنَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ، اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّيْفَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَكْلِ إِذَا انْفَرَدَ وَيَنْبَسِطُ فِي ذَلِكَ إِذَا سُوعِدَ، فَهَذَا الْأَكْلُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا خَلَا عَنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْعَوَارِضِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُسَمَّى الْأَكْلِ مُبَاحًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: كُلُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ بَلِ الْإِبَاحَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ فَإِنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الْحَلَالُ فَلَوْ كَانَ كُلُّ رِزْقٍ حَلَالًا لَكَانَ قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ مُحَلَّلَاتِ مَا أَحْلَلْنَا لَكُمْ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الطَّيِّبَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَلَذِّ الْمُسْتَطَابِ، وَلَعَلَّ أَقْوَامًا ظَنُّوا أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْ طَيِّبَاتِهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، كُلُوا مِنْ لَذَائِذِ مَا أَحْلَلْنَاهُ لَكُمْ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجوها. أَحَدُهَا: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَبِنِعَمِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ فَاشْكُرُوهُ، فَإِنَّ الشُّكْرَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. وَثَالِثُهَا: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيْ إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُقِرُّونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنْعِمُ لَا غَيْرُهُ،
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي»
. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُعَلَّقَ بِلَفْظِ: إِنْ، لَا يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ بِكَلِمَةِ «إن» على فعل العبادة، مَعَ أَنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ يجب عليه الشكر أيضا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
[الحكم الاول]
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَنَا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ بِتَنَاوُلِ الْحَلَالِ فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ الْحَرَامِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا عَلَى نَوْعَيْنِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ هذه الآية «فالنوع الأول» [أي ما يتعلق بالتفسير] [قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أحل به لغير الله] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَرْفًا وَاحِدًا، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا دَارِي دَارُكَ، وَإِنَّمَا مَالِي مَالُكَ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مَا) مُنْفَصِلَةً مِنْ: إِنَّ، وَتَكُونُ (مَا) بِمَعْنَى الَّذِي، كَقَوْلِكَ: إِنَّ مَا أَخَذْتَ مَالُكَ، وَإِنَّ مَا رَكِبْتَ دَابَّتُكَ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الأول فقوله: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ وإِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هُودٍ: ١٢] وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: ٦٩] وَلَوْ نَصَبْتَ كَيْدَ سَاحِرٍ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ «إِنَّمَا» حَرْفًا وَاحِدًا كَانَ صَوَابًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥] تَنْصِبُ الْمَوَدَّةَ وَتَرْفَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «إِنَّمَا» تُفِيدُ الْحَصْرَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ/ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاءِ: ١٧١]
وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى | وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ |
أَنَا الذَّائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا | يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِ أَنَا أَوْ مِثْلِي |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ حَرَّمَ على البناء للفاعل وحرم للبناء للمفعول وحرم بِوَزْنِ كَرُمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَيْتَةُ ما فارقته الروح من غير زكاة مِمَّا يُذْبَحُ، وَأَمَّا الدَّمُ فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَجْعَلُ الدَّمَ فِي الْمَبَاعِرِ وَتَشْوِيهَا ثُمَّ تَأْكُلُهَا، فَحَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ وَقَوْلُهُ: لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَرَادَ الْخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، لَكِنَّهُ خَصَّ اللَّحْمَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَكْلِ وَقَوْلُهُ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْإِهْلَالُ أَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فَكُلُّ رَافِعٍ صَوْتَهُ فَهُوَ مُهِلٌّ، وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
يهل بالفدفد رُكْبَانُهَا | كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ |
يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَّفْظِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا ذَبَحَ ذَبِيحَةً، وَقَصَدَ بِذَبْحِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ صَارَ مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَمَّا ذَبَائِحُ/ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَحِلُّ لَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٥].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: فَمَنِ اضْطُرَّ بِضَمِّ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، فَالضَّمُّ لِلْإِتْبَاعِ، وَالْكَسْرُ عَلَى أَصْلِ الْحَرَكَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اضْطُرَّ: أُحْوِجَ وَأُلْجِئَ، وَهُوَ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرَرِ، وَهُوَ الضِّيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الِاضْطِرَارَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإذن لا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فأكل فلا إثم عليه والحذف هاهنا كَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ:
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] أَيْ فَأَفْطَرَ فَحَذَفَ فَأَفْطَرَ وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦] وَمَعْنَاهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ الْحَذْفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْحَذْفِ، وَلِدَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ باغٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قال الفراء غَيْرَ هاهنا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ غير هاهنا بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا لَا لِأَنَّهَا في معنى: لا، وهي هاهنا حال للمضطر، كأنك قلت: فمن اضطر بَاغِيًا، وَلَا عَادِيًا فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ الْفَسَادُ، وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ قَالَ اللَّيْثُ: الْبَغْيُ فِي عَدْوِ الْفَرَسِ اخْتِيَالٌ وَمُرُوحٌ، وَأَنَّهُ يَبْغِي فِي عَدْوِهِ وَلَا يُقَالُ: فَرَسٌ بَاغٍ، وَالْبَغْيُ الظُّلْمُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشُّورَى: ٣٩] وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: بَغَى الْجُرْحُ يَبْغِي بَغْيًا، إِذَا بَدَأَ بِالْفَسَادِ، وَبَغَتِ السَّمَاءُ، إِذَا كَثُرَ مَطَرُهَا حَتَّى تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَبَغَى الْجُرْحُ وَالْبَحْرُ وَالسَّحَابُ إِذَا طَغَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عادٍ فَالْعَدْوُ هُوَ التَّعَدِّي فِي الْأُمُورِ، وَتَجَاوُزُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، يُقَالُ عَدَا عَلَيْهِ عَدْوًا، وَعُدْوَانًا، وَاعْتِدَاءً وَتَعَدِّيًا، إِذَا ظَلَمَهُ ظُلْمًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ، وَعَدَا طَوْرَهُ: جَاوَزَ قَدْرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ، غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ مُخْتَصًّا بِالْأَكْلِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ/ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: غَيْرَ باغٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجِدَ حَلَالًا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، فَعَدَلَ إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ اللَّذِيذِ وَلا عادٍ أَيْ مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الرُّخْصَةِ الثَّانِي: غَيْرَ بَاغٍ لِلَذَّةِ أَيْ طَالِبٍ لَهَا، وَلَا عَادٍ مُتَجَاوِزِ سَدِّ الْجَوْعَةِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ الثَّالِثُ: غَيْرُ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عَادٍ فِي سَدِّ الْجَوْعَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى غَيْرَ بَاغٍ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مِنَ الْبَغْيِ، وَلَا عَادٍ بِالْمَعْصِيَةِ أَيْ مُجَاوِزٍ طَرِيقَةَ الْمُحِقِّينَ، وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ سَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُضْطَرَّ كَالْمُلْجَأِ إِلَى الْفِعْلِ وَالْمُلْجَأُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَةِ: ١٥٨] أَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَائِعَ إِنْ حَصَلَتْ فِيهِ شَهْوَةُ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُلْجَأً إِلَى تَنَاوُلِ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ كَمَا يَصِيرُ مُلْجَأً إِلَى
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عند حصول الإثم.
والجواب: من وجوه أحدها: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُرْمَةِ قَائِمٌ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، إِلَّا أَنَّهُ زَالَتِ الْحُرْمَةُ لِقِيَامِ الْمُعَارِضِ، فَلَمَّا كَانَ تَنَاوُلُهُ تَنَاوُلًا لِمَا حَصَلَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ رَحِيمٌ، يَعْنِي لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ عَلَيْكُمْ أَبَحْتُ لَكُمْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْمُضْطَرَّ يَزِيدُ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَفُورٌ بِأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبَهُ فِي تَنَاوُلِ الزِّيَادَةِ، رَحِيمٌ حَيْثُ أَبَاحَ فِي تَنَاوُلِ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَقَّبَهَا بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا لِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا تَابُوا، رَحِيمٌ بِالْمُطِيعِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى نَهْجِ حُكْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْهَا وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ
وَالْكَلَامُ فِيهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَقَاصِدَ:
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَعْيَانِ، هَلْ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ؟ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِمَا إِلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِنَا فِيهَا، وَلَيْسَتْ جَمِيعُ أَفْعَالِنَا فِيهَا مُحَرَّمَةً لِأَنَّ تَبْعِيدَهَا عَنِ النَّفْسِ وَعَمَّا يُجَاوِزُ الْمَكَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى فِعْلٍ خَاصٍّ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ صَيْرُورَةُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ فِي الْعُرْفِ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ كَمَا أَنَّ الذَّوَاتِ لَا تُمَلَّكُ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ التَّصَرُّفَاتُ فِيهَا، فَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ يَمْلِكُ جَارِيَةً فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا فكذا هنا، وقد استقصينا الكلام فيه في كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا ثَبَتَ الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَجَبَ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالْأَكْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٥٧] وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِ شَاةِ مَيْمُونَةَ، إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَجِبُ قَصْرُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَجِبُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ظاهر القرآن
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَيْتَةُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا مِنْ دُونِ نَقْضٍ بِنِيَّةٍ وَلِذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَيِّتِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَهُوَ غَيْرُ الْمُذَكَّى إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ أَوْ أَنَّهُ ذُبِحَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [الْمَائِدَةِ: ٣] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُذَكَّى مِنْهُ مَا هُوَ مَيْتَةٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا لَعَلَّ الْأَمْرَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الشَّرْعِ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَالْمَيْتَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْمَقَاصِدُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا أَخْرَجُوهُ عَنِ الْآيَةِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهَا وَالثَّانِي: مَا أَدْخَلُوهُ فِيهَا وَهُوَ خارج عنها.
أما القسم الأول [أي ما خرجوه عن الآية] : فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِهِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَعَظْمِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِعَظْمِهَا خَاصَّةً وَجُلُّ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَيْتَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا مَيْتَةٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَعُمُّ الشَّعْرَ وَالْعَظْمَ وَالْكُلَّ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَظْمَ ميتة خاصة فقوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] فَثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَصِيرُ مَيْتَةً وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ اعْتَرَضَ الْمُخَالِفُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ لَا حَيَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَيَاةِ الْإِدْرَاكُ وَالشُّعُورُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الشَّعْرِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى تَنْجِيسِ الْعِظَامِ دُونَ الشُّعُورِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تعالى: كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: ٥٠] وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»
وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، بَلْ عَنْ كَوْنِ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ صَحِيحًا فِي مِزَاجِهِ مُعْتَدِلًا فِي حَالِهِ غَيْرَ معترض لِلْفَسَادِ وَالتَّعَفُّنِ وَالتَّفَرُّقِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [النَّحْلِ: ٨٠] حَيْثُ ذَكَرَهَا فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، والامتنان لا يقع بالجنس الَّذِي لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا»
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ جُلُودَ الثَّعَالِبِ، وَيَجْعَلُونَ مِنْهَا الْقَلَانِسَ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ: كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِجُلُودِ السِّبَاعِ وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ بَأْسًا، وَمَا خَصُّوا حَالَ الشَّعْرِ وَعَدَمَهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: كَانُوا إِشَارَةٌ إِلَى الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الثَّعْلَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلَالٌ، فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي هَذِهِ الثَّعَالِبِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَالْعِظَامَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمْ يُفْسِدِ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَاحْتَجُّوا لِلشَّافِعِيِّ، بِأَنَّهَا حَيَوَانَاتٌ فَإِذَا مَاتَتْ صَارَتْ مَيْتَةً فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَإِذَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهَا بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي/ وَقَعَتْ هِيَ فِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ نَجِسَةً، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَجَاسَتِهَا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ثُمَّ انْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً»
وَأَمَرَ بِالْمَقْلِ فَرُبَّمَا كَانَ الطَّعَامُ حَارًّا فَيَمُوتُ الذُّبَابُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّنْجِيسِ لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْفُقَهَاءِ مَذَاهِبُ سَبْعَةٌ فِي أَمْرِ الدِّبَاغِ، فَأَوْسَعُ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا الزُّهْرِيُّ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ الْجُلُودِ بِأَسْرِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ دَاوُدُ فَإِنَّهُ قَالَ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ، وَيَلِيهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، وَيَلِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ كُلُّهَا إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ يَطْهُرُ الْكُلُّ إِلَّا جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَلِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: يَطْهُرُ جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَطْ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَطْهُرُ مِنْهَا شَيْءٌ بِالدِّبَاغِ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَةِ: ٣] أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ وَمَا قَيَّدَهُ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ حَكِيمٍ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ، بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وبالقياس جائز، وقد وجدا هاهنا خَبَرَ الْوَاحِدِ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أن الدباغ يعود الْجِلْدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَ الْحَيَاةِ وَكَمَا كَانَ حَالُ الْحَيَاةِ طَاهِرًا كَذَلِكَ بَعْدَ الدِّبَاغِ وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالْخَبَرُ هُمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ، بِإِطْعَامِ الْبَازِي وَالْبَهِيمَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْبَازِي ذَلِكَ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ فَأَمَّا إِذَا أَقْدَمَ الْبَازِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَنْعُهُ أَمْ لَا فِيهِ احْتِمَالَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي دُهْنِ الْمَيْتَةِ وَوَدَكِهَا هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَمْ لَا، وَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ، أَوْ فِي جُمْلَتِهِ مَا هُوَ هَذَا حَالُهُ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ سِوَى الظَّاهِرِ،
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الْأَوْدَاكَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجْمَعُ الْأَوْدَاكَ وَهِيَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِلْأَدِيمِ وَالسُّفُنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»
فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا كَمَا أَوْجَبَ تحريم أكلها.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالنُّونُ/ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ»
وَعَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ: أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إِلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٍ تُطْعِمُونِي،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ
ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حِلُّ السَّمَكِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّمَكِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلَا نَأْكُلُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي أَيُّوبَ إِبَاحَتُهُ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام قال: «ما ألقى البحر أو جرد عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ»
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِ احْتَجَّ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَةِ: ٩٦] وَهَذَا السَّمَكُ الطَّافِي مِنْ طَعَامِ الْبَحْرِ فَوَجَبَ حِلُّهُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أحلت لنا ميتتان السم وَالْجَرَادُ»
وَهَذَا مُطْلَقٌ،
وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»
وَهَذَا عَامٌّ
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «كُلُّ مَا طَفَا عَلَى الْبَحْرِ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَرَادِ كُلِّهِ مَا أَخَذْتَهُ وَمَا وَجَدْتَهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَا وُجِدَ مَيِّتًا لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا مَا أُخِذَ حَيًّا ثُمَّ قُطِعَ رَأْسُهُ وَشُوِيَ أُكِلَ، وَمَا أُخِذَ حَيًّا فَغُفِلَ عَنْهُ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ يُؤْكَلْ حُجَّةُ مَالِكٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»
فَوَجَبَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ رَأْسِهِ إِنْ جُعِلَ لَهُ ذَكَاةً فَهُوَ كَالشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَيْتَةً، فَلَا يَكُونُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ»
فَائِدَةٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي أَوْفَى:
غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ وَلَا نَأْكُلُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَيْتَةٍ وَبَيْنَ مَقْتُولَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحَ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ:
إِنَّهُ يُؤْكَلُ وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ،
وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ، وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يحرم، قال الشافعي، خصص هَذَا الْعُمُومَ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُذَكَّى مُبَاحٌ وَهَذَا مذكى، لما
روى عن أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: / «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كَوْنَ الذَّكَاةِ سَبَبًا لِلْإِبَاحَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ حَاصِلَةً شَرْعًا بِتَحْصِيلِ ذَكَاةِ أُمِّهِ، أَجَابَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِيجَابَ تَذْكِيَتِهِ كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: ١٣٣] ومعناه كعرض السموات والأرض، كقول الْقَائِلِ: قَوْلِي قَوْلُكَ، وَمَذْهَبِي مَذْهَبُكَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: قَوْلِي كَقَوْلِكَ، وَمَذْهَبِي كَمَذْهَبِكَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ إِيجَابَ تَذْكِيَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ غَيْرُ مُذَكًّى فِي نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُبِيحُ أَكْلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ الْأَمْرِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُوَافِقِ لِلْآيَةِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَنِينًا إِلَّا حَالَ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَتَى وُلِدَ لَا يُسَمَّى جَنِينًا، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الذَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِ جَنِينًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُذَكًّى بِذَكَاتِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِيجَابِ ذَكَاتِهِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا تَسْقُطُ فَائِدَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَبْلَ وُرُودِهِ وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنِ الْجَنِينِ يَخْرُجُ مَيِّتًا، قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ،
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فمن وجوه أحدهما: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ضُرِبَ بَطْنُ امرأته فماتت وألقيت جَنِينًا مَيِّتًا، لَمْ يَنْفَرِدِ الْجَنِينُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، وَلَوْ خَرَجَ الْوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ دُونَ أُمِّهِ فِي إِيجَابِ الْغِرَّةِ، فَكَذَلِكَ جَنَيْنُ الْحَيَوَانِ إِذَا مَاتَ عَنْ ذَبْحِ أَمِّهِ وَخَرَجَ مَيِّتًا، كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي الذَّكَاةِ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى يُذَكَّى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَنِينَ حَالَ اتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ بِذَكَاتِهَا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا: الْوَاجِبُ فِي الْوَلَدِ أَنْ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الذَّكَاةِ، كَمَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: مَا قُطِعَ مِنَ الْحَيِّ مِنَ الْأَبْعَاضِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ»
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ كَانَ حَيًّا لِأَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلَمَ وَاللَّذَّةَ، وَبِالْقَطْعِ زَالَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فَصَارَ مَيِّتًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَةِ: ٣] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَبْحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ هَلْ يَسْتَعْقِبُ طَهَارَةَ الْجِلْدِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا يَسْتَعْقِبُهُ، لِأَنَّ هَذَا الذَّبْحَ لَا يَسْتَعْقِبُ حِلَّ الْأَكْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَعْقِبَ الطَّهَارَةَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَعْقِبُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مِمَّا دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ عَيْنِ الْمَيْتَةِ، وَمَا جَاوَرَ الْمَيْتَةَ فَلَا يُسَمَّى مَيْتَةً، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ، كَالسَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فيه فأوة وَمَاتَتْ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا، هَذَا الظَّاهِرُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ تَدُورُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَمَّا الَّذِي يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَتِهِ الْمَيْتَةَ فَيَحْرُمُ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَنْجُسُ فَلَا يَحْرُمُ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَنْجُسُ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى تَطْهِيرِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ طَائِرٍ وَقَعَ فِي قِدْرٍ مَطْبُوخٍ فَمَاتَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِيهَا؟ فَذَكَرُوا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن اللحم يؤكل بعد ما يُغْسَلُ وَيُرَاقُ الْمَرَقُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا نَقُولُ عَلَى شَرِيطَةِ إِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا كَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي حَالِ غَلَيَانِهَا: لَمْ
هَذَا زرين، بِالْفَارِسِيَّةِ يَعْنِي الْمَذْهَبَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِثْلَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَبَنُ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَأَنْفِحَتُهَا طَاهِرَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: لَا يَحِلُّ هَذَا اللَّبَنُ وَالْأَنْفِحَةُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيْتَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَتَمَسَّكُ فِي هَذِهِ المسألة بظاهر قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَمُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَجْمُوعًا فِي إِنَاءٍ فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ يَنْجُسُ فَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ وَهُوَ فِي ضَرْعِهَا، وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْأَنْفِحَةِ، أَمَّا الْبَيْضُ إِذَا أُخْرِجَ مِنْ جَوْفِ الدَّجَاجِ فَهُوَ طَاهِرٌ إِذَا غُسِلَ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ فَتَحِلُّ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْبَيْضَةُ غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ لَحَرُمَتْ.
وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْفَصْلَ بِمَسَائِلَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَيْتَةَ هَلْ تَكُونُ مَيْتَةً بِمَعْنَى الْمَوْتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْمَوْتَ بِمَعْنًى مُضَادٍّ لِلْحَيَاةِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَ الْحَيَاةَ وَهَذَا أَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ هَلْ تَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ حُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لَا تقتضي النجاسة، لأن لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَيَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِمَا جَاوَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةٌ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْرِيمِ الدَّمِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الدِّمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَهَذَا دَمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأُمُورَ، فَالدَّمُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْفُوحًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَرَّمًا بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ فَإِذَنْ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْلِيلِ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ لَهُ إِلَّا تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا عَدَاهَا، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِتَحْرِيمِ الدَّمِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرْمَةِ جَمِيعِ الدِّمَاءِ وَنَجَاسَتِهَا فَتَجِبُ إِزَالَةُ الدَّمِ عَنِ اللَّحْمِ مَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الطِّحَالُ وَالْكَبِدُ»
هَلْ يُطْلَقُ اسْمُ الدَّمِ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَبِدَ يَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ وَكَذَا الطِّحَالُ وَإِنَّمَا يُوصَفَانِ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ كَالدَّمِ الْجَامِدِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْخِنْزِيرِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَهُ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهو كَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الْجُمُعَةِ:
٩] فَخُصَّ الْبَيْعُ بِالنَّهْيِ لَمَّا كَانَ هُوَ أَعْظَمَ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا شَعْرُ الْخِنْزِيرِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَتَنْجِيسِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرَزِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أكره الخزر بِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّا نَرَى الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ الْأَسَاكِفَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ/ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ، إِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الثَّوْبَ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ فَهَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي شَعْرِ الْخِنْزِيرِ إِذَا خُرِزَ بِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُؤْكَلُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَةِ: ٩٦] وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا خِنْزِيرٌ فَيَحْرُمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [الْمَائِدَةِ: ٣] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخِنْزِيرُ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ خِنْزِيرُ الْبَرِّ لَا خِنْزِيرُ الْبَحْرِ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ إِذَا أُطْلِقَ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ لَحْمُ غَيْرِ السَّمَكِ لَا لَحْمُ السَّمَكِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ خِنْزِيرَ الْمَاءِ لَا يُسَمَّى خِنْزِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يُسَمَّى خِنْزِيرَ الْمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ: فِي أَنَّهُ هَلْ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وَلْغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا؟ أَحَدُهَا:
نَعَمْ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْكَلْبِ وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّ ذَلِكَ التَّشْدِيدَ إِنَّمَا كَانَ فَطْمًا لَهُمْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكِلَابِ وَهُمْ مَا كَانُوا يُخَالِطُونَ الْخِنْزِيرَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي تَحْرِيمِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذَبَائِحُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَوْثَانِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الْمَائِدَةِ: ٣] وَأَجَازُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ إِذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ مذهب عطاء
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوا وَإِذَا لَمْ تَسْمَعُوهُمْ فَكُلُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ،
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٥] وَهَذَا عَامٌّ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ الثَّالِثُ:
أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْمَسِيحَ فَإِذَا كَانَتْ إِرَادَتُهُ لِذَلِكَ لَمْ تَمْنَعْ حِلَّ ذَبِيحَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يُهِلُّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يُضْمِرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ الْمَسِيحَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ عَامٌّ وَقَوْلَهُ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَعَنِ/ الثَّالِثِ: أَنَّا إِنَّمَا كَلَّفَنَا بِالظَّاهِرِ لَا بِالْبَاطِنِ، فَإِذَا ذَبَحَهُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْبَاطِنِ.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَرِّمُ سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي الشَّرْعِ أَشْيَاءَ أُخَرَ سِوَاهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَتَصِيرُ كَلِمَةُ «إِنَّمَا» مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ فِي الْعَمَلِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي «الْمُضْطَرِّ»
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُضْطَرًّا وَلَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْبَغْيِ، وَلَا بِصِفَةِ الْعُدْوَانِ الْبَتَّةَ فَأَكَلَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَخَصَّصَ صِفَةَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِالْأَكْلِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ هَلْ يَتَرَخَّصُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَتَرَخَّصُ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعُدْوَانِ فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بَلْ يَتَرَخَّصُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْكُلِّ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [الْمَائِدَةِ: ٣] ثُمَّ أَبَاحَهَا لِلْمُضْطَرِّ الَّذِي يَكُونُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ غَيْرُ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ قولنا: فلان ليس بمعتد نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: فُلَانٌ مُتَعَدٍّ وَيَكْفِي فِي صِدْقِهِ كَوْنُهُ مُتَعَدِّيًا فِي أَمْرٍ مَا مِنَ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ، أَوْ فِي الْأَكْلِ، أَوْ فِي غَيْرِهِمَا، وَإِذَا كَانَ اسْمُ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لَا يَصْدُقُ إِلَّا إِذَا انْتَفَى عَنْهُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ نَفْيُ الْعُدْوَانِ بِالسَّفَرِ ضِمْنًا، وَلَا نَقُولُ: اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِالْأَكْلِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْأَكْلِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ حَالٌ مِنَ الِاضْطِرَارِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَصْفُ الِاضْطِرَارِ بَاقِيًا مَعَ بَقَاءِ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي الْأَكْلِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى وَصْفُ الِاضْطِرَارَ مَعَهُ لِأَنَّ حَالَ الْأَكْلِ لا يبق وَصْفَ الِاضْطِرَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفِرُ بِطَبْعِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْهُ فَصَرْفُ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى التَّعَدِّي فِي الْأَكْلِ يُخْرِجُ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ يُفِيدُ نَفْيَ مَاهِيَّةِ الْبَغْيِ وَنَفْيَ مَاهِيَّةِ الْعُدْوَانِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَالْعُدْوَانُ فِي الْأَكْلِ أَحَدُ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَكَذَا الْعُدْوَانُ فِي السَّفَرِ فَرْدٌ آخَرُ مِنْ أَفْرَادِهَا فَإِذَنْ نَفْيُ الْعُدْوَانِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعُدْوَانِ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَكْلِ غَيْرَ جَائِزٍ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَصِّصُهُ بِنَفْيِ الْعُدْوَانِ فِي السَّفَرِ بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ نَفْيُ الْعُدْوَانِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعُدْوَانِ فِي السَّفَرِ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَأَيِّدٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [الْمَائِدَةِ: ٣] وَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الْأَنْعَامِ:
١١٩] وَهَذَا الشَّخْصُ مُضْطَرٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاءِ: ٢٩] وَقَالَ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٩٥] وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَكْلِ سَعْيٌ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ وَثَالِثُهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً،
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَأَشْرَفَ عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ لِإِنْجَائِهِ مِنَ الْغَرَقِ أَوِ الْحَرْقِ فَلَأَنْ/ يَجِبَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَسْعَى فِي إِنْقَاذِ الْمُهْجَةِ أَوْلَى وَخَامِسُهَا: أَنْ يَدْفَعَ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ، كَالْفِيلِ، وَالْجَمَلِ الصَّئُولِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هاهنا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ إِذَا اضْطُرَّ فَلَوْ أَبَاحَ لَهُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَا هاهنا وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي دَفْعِ ضَرَرِ النَّاسِ أَعْظَمُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ كُلِّ مَا يَدْفَعُ الْمَرْءَ مِنَ الْمَضَارِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ يَدْفَعُ ضَرَرَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذَا الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَثَامِنُهَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ تَنَاوُلَ طَعَامِ الْغَيْرِ مِنْ دُونِ الرِّضَا بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا هاهنا أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ بِأَنَّ دَلِيلَنَا النَّافِيَ لِلتَّرَخُّصِ أَخَصُّ مِنْ دَلَائِلِهِمُ الْمُرَخِّصَةِ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَعَنِ الْوُجُوهِ الْقِيَاسِيَّةِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى اسْتِبَاحَةِ هَذِهِ الرُّخَصِ بِالتَّوْبَةِ وَإِذَا لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَارَضَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِوَجْهٍ قَوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الرُّخْصَةَ إِعَانَةٌ عَلَى السَّفَرِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً كَانَتِ الرُّخْصَةُ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا وَالْإِعَانَةُ سَعْيٌ فِي تَحْصِيلِهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: يَأْكُلُ مِنْهَا مَا يَسُدُّ جُوعَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ، فَإِنْ وَجَدَ غِنًى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَالْأَقْرَبُ في دلالة الآية ما ذكرناه أو لا لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ إِذَا كَانَ الْإِلْجَاءَ فَمَتَى ارْتَفَعَ الْإِلْجَاءُ ارْتَفَعَتِ الرُّخْصَةُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْحَلَالَ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لِارْتِفَاعِ الْإِلْجَاءِ إِلَى أَكْلِهَا لِوُجُودِ الْحَلَالِ، فَكَذَلِكَ إِذَا زَالَ الِاضْطِرَارُ بِأَكْلِ قَدْرٍ مِنْهُ فَالزَّائِدُ مُحَرَّمٌ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِسَدِّ الْجَوْعَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ، لِأَنَّ الْجَوْعَةَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضررًا بتركه، فكذا هاهنا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ مِقْدَارُ مَا إِذَا أَكَلَهُ أَمْسَكَ رَمَقَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، فَإِذَا أَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَزَالَ خَوْفُ التَّلَفِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، فَكَذَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا زَالَ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُضْطَرِّ إِذَا وَجَدَ كُلَّ مَا يُعَدُّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ خَيَّرُوهُ بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالِاضْطِرَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الْكُلِّ وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أولى من قول من أوجب أن يتناول الْمَيْتَةَ دُونَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَعْظَمُ شَأْنًا فِي التَّحْرِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى الشُّرْبِ إِذَا وَجَدَ خَمْرًا، أَوْ مَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً يُسِيغُهُ وَوَجَدَ الْخَمْرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إِبْقَاءً لِلنَّفْسِ وَدَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، / وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ عَطَشًا وَجُوعًا وَيُذْهِبُ عَقْلَهُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَزِيدُهُ إِلَّا عَطَشًا وَجُوعًا مُكَابَرَةٌ، وَقَوْلُهُ: يُزِيلُ الْعَقْلَ فَكَلَامُنَا فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَتِ الْمَيْتَةُ يُحْتَاجُ إِلَى تَنَاوُلِهَا لِلْعِلَاجِ إِمَّا بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِوُقُوعِهَا فِي بعض
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ»
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ التَّدَاوِي إِنِ انْتَهَتْ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الخامسة:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٤]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
الحكم الثاني
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، كَانُوا يَأْخُذُونَ/ مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الْهَدَايَا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافُوا انْقِطَاعَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، فَكَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْرَ شَرَائِعِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ أَيَّ شَيْءٍ كَانُوا يَكْتُمُونَ؟ فَقِيلَ: كَانُوا يَكْتُمُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ وَالْبِشَارَةَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَتَمُوا الْأَحْكَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْكِتْمَانِ، فَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحَرِّفِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُمَا كَانَا كِتَابَيْنِ بَلَغَا فِي الشُّهْرَةِ وَالتَّوَاتُرِ إِلَى حَيْثُ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيهِمَا، بَلْ كَانُوا يَكْتُمُونَ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةً، وَيَصْرِفُونَهَا عَنْ مَحَامِلِهَا الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِنَايَةُ فِي: بِهِ، يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْكِتْمَانِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمَكْتُومِ.
٤١] وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكِتْمَانِ: أَخْذَ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنِ اشْتِرَائِهِمْ بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ قَلِيلًا إِمَّا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قَلِيلٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ قَلِيلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكِتْمَانِ أَخْذَ الْأَمْوَالِ مِنْ عَوَامِّهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَخْذَهُمُ الْأَمْوَالَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا نَاصِرِينَ لِذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَكْثَرُ مِنِ اشْتِرَائِهِمْ بِذَلِكَ الْكِتْمَانِ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَنْ طَمِعُوا فِيهِ وَأَخَذُوا مِنْهُ، فَالْكَلَامُ مُجْمَلٌ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ الطَّمَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْجَهْلُ، وَقِلَّةُ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْمَالِ وَالشُّحُّ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي الدِّينِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَا يَلْتَمِسُ مِنْهُ فَهَذَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ ذَكَرَ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بعضهم: ذكر البطن هاهنا زِيَادَةُ بَيَانٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلَ فُلَانٌ الْمَالَ إِذَا بَدَرَهُ وَأَفْسَدَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ يُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: إِنَّ أَكْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ طَيِّبًا فِي الْحَالِ فَعَاقِبَتُهُ النَّارُ فَوُصِفَ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠] عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ مَا يُوجِبُ النَّارَ فَكَأَنَّهُ أَكَلَ النَّارَ، كَمَا
رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «الشَّارِبُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ»
وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُفَ: ٣٦] أي عنباً فسماه باسم ما يؤول إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَأْكُلُونَ النَّارَ لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثانيها: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَصْلًا لَكِنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الْوَعِيدِ فُهِمَ مِنْهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ لَهُمْ، وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكلمهم، وذلك قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ٩٢، ٩٣] وقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: ٦] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَسْأَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالسُّؤَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ فَقَالُوا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُهُمْ بِتَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَعْظَمُ عِنْدَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ من المناقشة والمساءلة وبقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٨] الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لا يكلمهم وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ: ٩٢] فَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ تَكْلِيمِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَذْكُورًا فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُكَلِّمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ كُلَّ الْخَلَائِقِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَيَظْهَرُ عِنْدَ كَلَامِهِ السُّرُورُ فِي أَوْلِيَائِهِ، وَضِدُّهُ فِي أَعْدَائِهِ، وَيَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَعِيدِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ لِأَنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ يُعْرِضُونَ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ كَمَا أَنَّهُمْ عِنْدَ الرِّضَا يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ بِالْوَجْهِ وَالْحَدِيثِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا يَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّزْكِيَةِ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ الثاني: لا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ قَالُوا: الْعِقَابُ هُوَ الْمَضَرَّةُ الْخَالِصَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْإِهَانَةِ فَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَضَرَّةِ وَقَدَّمَ الْإِهَانَةَ عَلَى الْمَضَرَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِهَانَةَ أَشَقُّ وَأَصْعَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ لِكُلِّ عِلْمٍ فِي بَابِ الدِّينِ يَجِبُ إِظْهَارُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ بَابِ الدِّينِ يَجِبُ إِظْهَارُهُ فَتَصْلُحُ لِأَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَا الْقَاطِعُونَ بِوَعِيدِ أَصْحَابِ الكبائر والله اعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ وَعَظَّمَ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَصَفَ ذَلِكَ الْجُرْمِ لِيُعْلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِنَّمَا عَظُمَ لِهَذَا الْجُرْمِ الْعَظِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَأَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ الِاهْتِدَاءُ وَالْعِلْمُ وَأَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ الضَّلَالُ وَالْجَهْلُ فَلَمَّا تَرَكُوا الْهُدَى وَالْعِلْمَ فِي الدُّنْيَا، وَرَضُوا بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، فَلَا شَكَّ أنهم في نهاية الخيانة فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ الْمَغْفِرَةُ، وَأَخْسَرُهَا الْعَذَابُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْمَغْفِرَةَ وَرَضُوا بِالْعَذَابِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي نِهَايَةِ الْخَسَارَةِ فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا كَانَتْ صِفَتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، كَانُوا لَا مَحَالَةَ أَعْظَمَ النَّاسِ خَسَارًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِي إِظْهَارِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ أَعْظَمَ الثواب، وفي إخفائه وإلقائه الشُّبْهَةِ فِيهِ أَعْظَمَ الْعِقَابِ، فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى إِخْفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ كَانُوا بَائِعِينَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ في هذه اللفظة قولان أَحَدُهُمَا: أَنَّ «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مَعْنَاهُ: مَا الَّذِي أَصْبَرَهُمْ وَأَيُّ شَيْءٍ صَبَّرَهَمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ يَكُونُ أَصْبَرَ بِمَعْنَى صَبَّرَ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى فَعَّلَ نَحْوُ أَكْرَمَ وَكَرَّمَ، وَأَخْبَرَ وَخَبَّرَ الثَّانِي:
أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّاضِيَ بِمُوجِبِ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِمَعْلُولِهِ وَلَازِمِهِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ اللُّزُومَ فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى مَا يُوجِبُ النَّارَ وَيَقْتَضِي عَذَابَ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ صَارُوا كَالرَّاضِينَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَهُوَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا يُوجِبُ غَضَبَ السُّلْطَانِ مَا أَصْبَرَكَ عَلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ عَلَى حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ/ ذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ، وَفِي حَالِ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَقَالَ الْأَصَمُّ:
الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٨] فَهُمْ يَسْكُتُونَ وَيَصْبِرُونَ عَلَى النَّارِ لِلْيَأْسِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ التَّعَجُّبِ وَفِي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعَجُّبِ: وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِ حُصُولِ عِظَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَمَا لَمْ يُوجَدِ الْمَعْنَيَانِ لَا يَحْصُلُ التَّعَجُّبُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ التَّعَجُّبِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءِ السَّبَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَظَمَةِ سَبَبُ حُصُولٍ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ شُرَيْحٌ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٢] بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَجِبْتُ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ خَفَاءَ شَيْءٍ مَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ قَالَ النَّخَعِيُّ:
مَعْنَى التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدُ الِاسْتِعْظَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا بُدَّ مَعَ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِضَافَةُ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّعَجُّبِ صِيغَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا أَفْعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَفْعِلْ بِهِ كَقَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَمَ: ٣٨] أَمَّا الْعِبَارَةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُهُمْ مَا أَصْبَرَهُ فَفِيهَا مَذَاهِبُ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ «مَا» اسْمٌ مُبْهَمٌ يَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَحْسَنَ فِعْلٌ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَزَيْدًا مَفْعُولٌ وَتَقْدِيرُهُ: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا أَيْ صَيَّرَهُ حَسَنًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ الكوفيين فاسداً وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا أَكْرَمَ اللَّهَ، وَمَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْلَمَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: شَيْءٌ جَعَلَ اللَّهَ كَرِيمًا وَعَظِيمًا وَعَالِمًا، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ. هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِذَا أُطْلِقَتْ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِعْظَامُ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِهِ وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ شَطْرَيْهِ وَهُوَ الِاسْتِعْظَامُ فَحَسْبُ، قُلْنَا:
إِذَا قُلْنَا مَا أعظم الله فكلمة «ما» هاهنا لَيْسَتْ بِمَعْنَى شَيْءٍ فَلَا تَكُونُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ خَبَرًا عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِنَا. مَا أَحْسَنَ زَيْدًا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا، لَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ إِذَا صَرَّحْنَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَالْهَذَيَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ قَوْلِنَا: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا بِقَوْلِنَا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الَّذِي حَسَّنَ زَيْدًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أَوْلَى، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّا لَوْ قُلْنَا مَنْ أَحْسَنَ زَيْدًا أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عَلِمْنَا فَسَادَ مَا قَالُوهُ.
الْحُجَّةُ الرابعة: أن على التفسير الذي قالوه لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ زَيْدًا ضَرَبَ عَمْرًا فَكَمَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعَجُّبٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلشَّيْءِ فَثُبُوتُهَا لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَشَيْءٌ صَيَّرَهُ حَسَنًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ،
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُبْتَدَأُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نكرة فكيف جعلوا هاهنا أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ تَنْكِيرًا مُبْتَدَأً؟
وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ كَاتِبٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا رَجُلًا كَاتِبًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مُفِيدًا:
وَكَذَا كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا مَا هُوَ الَّذِي حَسَّنَ زَيْدًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ؟
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: دُخُولُ التَّصْغِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْأَسْمَاءِ فِي قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، فَإِنْ قِيلَ:
جَوَازُ دُخُولِ التَّصْغِيرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ قَدْ لَزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً، فَصَارَ مشابهاً للاسم فأخذ خاصية وَهُوَ التَّصْغِيرُ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ لِلْفِعْلِ مَاهِيَّةً وَلِلتَّصْغِيرِ مَاهِيَّةً فَهَاتَانِ الْمَاهِيَّتَانِ: إِمَّا أَنْ يكونا متنافيتين، أو لا يكون مُتَنَافِيَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَنَافِيَتَيْنِ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي كل المواضع فحيث اجتماعهما هاهنا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُتَنَافِيَتَيْنِ وَجَبَ صِحَّةُ تَطَرُّقِ التَّصْغِيرِ إِلَى كُلِّ الْأَفْعَالِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: تَصْحِيحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَإِبْطَالُ إِعْلَالِهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي التَّعَجُّبِ: مَا أَقْوَمَ زَيْدًا بِتَصْحِيحِ الْوَاوِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَقْوَمُ مِنْ عَمْرٍو، وَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكَانَتْ وَاوُهُ أَلِفًا لِفَتْحَةِ مَا قَبْلَهَا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: أَقَامَ يُقِيمُ فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمَّا لَزِمَتْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّ الْإِعْلَالَ فِي الْأَفْعَالِ مَا كَانَ لِعِلَّةِ كَوْنِهَا فِعْلًا وَلَا التَّصْحِيحَ فِي الْأَسْمَاءِ لِعِلَّةِ الِاسْمِيَّةِ، بَلْ كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَفْعَالِ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ عِنْدَ وُجُوبِ كَثْرَةِ التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُ الْإِعْلَالِ فِي الْأَسْمَاءِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ وَهَذَا الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ فِي عِلَّةِ التَّصْحِيحِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِعْلَالِ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَفْعَالِ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ خَفِيفًا ثُمَّ يُتْرُكَ عَلَى خِفَّتِهِ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ قَوْلَكَ: أَحْسَنَ لَوْ كَانَ فِعْلًا، وَقَوْلَكَ: زَيْدًا مَفْعُولًا لَجَازَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا/ بِالظَّرْفِ، فَيُقَالُ: مَا أَحْسَنَ عِنْدَكَ زَيْدًا، وَمَا أَجْمَلَ الْيَوْمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَالرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَبَطَلَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ التَّعَجُّبُ بِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ مُجَرَّدًا كَانَ أَوْ مَزِيدًا، ثُلَاثِيًّا كَانَ أَوْ رُبَاعِيًّا، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ فِي قَوْلِنَا، مَا أَحْسَنَ زَيْدًا فِعْلٌ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: بِأَنَّ أَحْسَنَ فِعْلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَنَحْنُ عَلَى فِعْلِيَّتِهِ إِلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ الصَّارِفِ عَنْهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَحْسَنَ مَفْتُوحُ الْآخِرِ، وَلَوْ كَانَ اسْمًا لَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ إِذَا كَانَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ وَثَالِثُهَا: الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلًا اتِّصَالُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُكَ: مَا أَحْسَنَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ أَحْسَنَ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، فَهُوَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ اسْمًا، حِينَ مَا يَكُونُ كَلِمَةَ تَفْضِيلٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنَا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَأَنْتُمْ مَا طَلَبْتُمُونَا إِلَّا بِالدَّلَالَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا سَنَذْكُرُ الْعِلَّةَ فِي لُزُومِ الْفَتْحَةِ لِآخِرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِكَ: لَعَلِّي وَلَيْتَنِي، وَالْعَجَبُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالتَّصْغِيرِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَلِمَةِ «مَا» وَهُوَ قَوْلُكَ: أَحْسَنَ صِلَةً لِمَا، وَيَكُونُ خَبَرُ «مَا» مُضْمَرًا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَكْثَرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْهَا أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الَّذِي أَحْسَنَ زَيْدًا لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ مُنْتَظِمٍ، وَقَوْلُكَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ كَلِمَةَ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَفْعَلَ اسْمٌ، وَهُوَ لِلتَّفْضِيلِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ مِنْ عَمْرٍو، وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَحْتَهُ إِنْكَارٌ أَنَّهُ وُجِدَ شَيْءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ إِنْسَانٍ فَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ فَيَقُولُ هَذَا الْمُخْبِرُ: وَمَنْ أَعْلَمُ مِنْ فُلَانٍ؟ إِظْهَارًا مِنْهُ مَا يَدَّعِيهِ مُنَازِعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَنْ لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَيَظْهَرُ عَجْزُهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مُطَالَبَتِي إِيَّاهُ بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ قَوْلُكَ أَحْسَنُ وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ أَحْسَنِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، إِلَّا أَنَّهُ نُصِبَ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ هَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ مَعْنَى قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ أَيُّ عُضْوٍ مِنْ زَيْدٍ أَحْسَنُ، وَفِي هَذَا مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْعَالَمِ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ كَمَا تَرَى، وَاخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَالنَّصْبُ قَوْلُنَا زَيْدًا أَيْضًا لِلْفَرْقِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ خَفْضٌ/ لِأَنَّهُ أُضِيفَ أَحْسَنُ إِلَيْهِ، وَنُصِبَ هنا للفرق، وأيضاً ففي كل تفصيل مَعْنَى الْفِعْلِ، وَفِي كُلِّ مَا فُضِّلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو، أَنَّ زَيْدًا جَاوَزَ عَمْرًا فِي الْعِلْمِ، فَجُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَرْقِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ إِنَّ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَحْسَنُ فِعْلٌ كَمَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ، مَعْنَاهُ: أَيُّ شَيْءٍ حَسَّنَ زَيْدًا، كَأَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ هَذَا الْحُسْنِ عَلَى كَمَالِ فَاعِلِ هَذَا الْحُسْنِ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّ عَقْلِي لَا يُحِيطُ بِكُنْهِ كَمَالِهِ، فَتَسْأَلُ غَيْرَكَ أَنَّ يَشْرَحَ لَكَ كَمَالَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي أَفْعِلْ بِهِ فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: ٣٨].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْبَيِّنَاتِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ يُخْفُونَهُ وَيُوقِعُونَ الشُّبْهَةَ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي وَعِيدِهِمْ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ وَثَانِيهَا: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُهُمْ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مجموعها.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، أَمَّا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَلَا مَحَالَةَ لَهُ خَبَرٌ، وَذَلِكَ الْخَبَرُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ/ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، فَبَيَّنَ فِيهِ وَعِيدَ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ مَعْلُومًا لَهُمْ لَا مَحَالَةَ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ:
ذَلِكَ الْعَذَابُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَكَفَرُوا بِهِ فَيَكُونُ الْبَاءُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالْخَبَرِيَّةِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَهُمْ قَدْ حَرَّفُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَى بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْمَعْنَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ وَتَحْرِيفِهِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ الْمَعْنَى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ بِالصِّدْقِ، وَقِيلَ بِبَيَانِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا قِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ أَجْمَعُ اخْتَلَفُوا فِي القرآن، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل الذين ذُكِرَتِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَكَتَمُوهُ وَحَرَّفُوا تَأْوِيلَهُ، فَإِذَا أَوْرَدَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ دُونَ الْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا عَرَفُوهُ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِصِحَّةِ كِتَابِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ فقيل: بالصدق، وقيل: ببيان الحق، [المسألة الثانية] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فَاعْلَمْ أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْقُرْآنُ، كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُ كَهَانَةٌ، وَآخَرُونَ قَالُوا: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَثَالِثٌ قَالَ: رِجْزٌ، وَرَابِعٌ قَالَ: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَخَامِسٌ قَالَ: إِنَّهُ كَلَامٌ مَنْقُولٌ مُخْتَلَقٌ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاًأحدها: أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي دَلَالَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْحِ فِي عِيسَى وَالنَّصَارَى قَالُوا إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ تَأْوِيلًا آخَرَ فَاسِدًا لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا وَاجِبَ الْقَبُولِ بَلْ كَانَ مُتَكَلَّفًا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ صَاحِبِهِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الِاخْتِلَافَ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ: اخْتَلَفُوا مِنْ بَابِ افْتَعَلَ الَّذِي يَكُونُ مَكَانَ فَعَلَ، كَمَا يُقَالُ: كَسَبَ وَاكْتَسَبَ، وَعَمِلَ وَاعْتَمَلَ، وَكَتَبَ وَاكْتَتَبَ، وَفَعَلَ وَافْتَعَلَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ الَّذِينَ خَلَفُوا فِيهِ أَيْ تَوَارَثُوهُ وَصَارُوا خُلَفَاءَ فِيهِ كَقَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الْأَعْرَافِ: ١٦٩] وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [يُونُسَ: ٦] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يَأْتِي خَلْفَ الْآخَرِ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الْفُرْقَانِ: ٦٢] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسَ/ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
أَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَجْلِ عَدَاوَتِكَ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَمُنَازَعَةٍ شَدِيدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْعَدَاوَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُؤَالَفَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى عَدَاوَتِكَ وَغَايَةِ الْمُشَاقَّةِ لَكَ فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيفِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُكَذِّبُ صَاحِبَهُ وَيُشَاقُّهُ وَيُنَازِعُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَذِبِهِمْ بِقَوْلِهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْحُهُمْ فِيكَ قَادِحًا فيك ألبتة، والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
الحكم الثالث
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَّا شَدَّدُوا فِي الثَّبَاتِ عَلَى التَّوَجُّهِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مُخَاطَبَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ نَالُوا الْبُغْيَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يُحِبُّونَ ذَلِكَ فَخُوطِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ وَتَحْوِيلِهَا حَصَلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الِاغْتِبَاطُ بِهَذِهِ الْقِبْلَةِ وَحَصَلَ مِنْهُمُ التَّشَدُّدُ فِي تِلْكَ الْقِبْلَةِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَإِنَّمَا الْبِرُّ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ إِذْ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هُوَ أَمْرَ الْقِبْلَةِ، بَلِ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي عَدَّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ «لَيْسَ» فِعْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرِّفَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِعْلٌ اتِّصَالُ الضَّمَائِرِ بِهَا الَّتِي لَا تَتَّصِلُ إِلَّا بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِكَ: لَسْتُ وَلَسْنَا وَلَسْتُمْ وَالْقَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَنْقُوضَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي وَلَيْتَنِي وَلَعَلَّ وَحُجَّةُ الْمُنْكِرِينَ أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكَانَتْ مَاضِيًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِعْلٌ قَالَ: إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْيِ الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَكَانَ لِنَفْيِ الْمَاضِي لَا لِنَفْيِ الْحَالِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ، وَالْفِعْلُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ «لَيْسَ» دَاخِلٌ عَلَى ضَمِيرِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ جاز
لَيْسَ زَيْدٌ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَقُولَ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ «لَيْسَ» لَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَانَ «مَا» فِعْلًا وَهَذَا بَاطِلٌ، فَذَاكَ بَاطِلٌ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ «لَيْسَ» لو كان فعلًا لكان ذلك لدلالة عَلَى حُصُولِ مَعْنَى السَّلْبِ مَقْرُونًا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَالُ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي «مَا» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ «مَا» فِعْلًا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِعْلًا فَكَذَا الْقَوْلُ ذَلِكَ، أَوْ نَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَنَقُولُ: «لَيْسَ» كَلِمَةٌ جَامِدَةٌ وُضِعَتْ لِنَفْيِ الْحَالِ فَأَشْبَهَتْ «مَا» فِي نَفْيِ الْفِعْلِيَّةِ وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ تَصِلُ «مَا» بالأفعال الماضية فتقول: ما أحسن زيد وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ «مَا» بِلَيْسَ فَلَا تقول ما ليس زيد يذكرك وسادسها: أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ أَوْزَانِ الْفِعْلِ لِأَنَّ فَعْلَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَبْنِيَةِ الْفِعْلِ، فَكَانَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِثْبَاتُ مَا لَيْسَ مِنْ أَوْزَانِ الْفِعْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ لَيْسَ مِثْلَ صَيْدِ الْبَعِيرِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَّفُوهُ وَأَلْزَمُوهُ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ/ لِلُزُومِهِ حَالَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَبْنِيَةُ الْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عليها، وجعلوا للبناء الَّذِي خَصُّوهُ بِهِ مَاضِيًا، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْأَبْنِيَةِ.
قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ التَّصَرُّفُ، فَلَمَّا مَنَعُوهُ التَّصَرُّفَ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُبْقُوهُ عَلَى بِنَائِهِ الْأَصْلِيِّ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِ النُّقْصَانَاتُ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَنْعُ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ عِلَّةً لِتَغَيُّرِ الْبِنَاءِ الَّذِي هُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ فَذَاكَ فَاسِدٌ جِدًّا وَسَابِعُهَا: ذَكَرَ الْقُتَيْبِيُّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ النَّافِي الَّذِي هُوَ لَا، وَ: أَيْسَ، أَيْ مَوْجُودٌ قَالَ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: أَخْرَجَهُ مِنَ اللَّيْسِيَّةِ إِلَى الْأَيْسِيَّةِ أَيْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَأَيَسْتُهُ أَيْ وَجَدْتُهُ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، قَالَ وَذَكَرَ الْخَلِيلُ أَنَّ «لَيْسَ» كَلِمَةُ جَحُودٍ مَعْنَاهَا:
لَا أَيْسَ، فَطُرِحَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي فِي الْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْعَرَبِ: ائْتِنِي بِهِ مِنْ حَيْثُ أَيْسَ وَلَيْسَ، وَمَعْنَاهُ: مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَا هُوَ وَثَامِنُهَا: الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُوضَعُ لِإِثْبَاتِ المصدر، وهذا إنما يفيد السلب أو لا يَكُونُ فِعْلًا، فَإِنْ قِيلَ: يَنْتَقِضُ قَوْلُكُمْ بِقَوْلِهِ: نَفَى زَيْدًا وَأَعْدَمَهُ، قُلْنَا: قَوْلُكَ نَفَى زَيْدًا مُشْتَقٌّ مِنَ النَّفْيِ فَقَوْلُكَ نَفَى دَلَّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى النَّفْيِ فَكَانَتِ الصِّيغَةُ الْفِعْلِيَّةُ دَالَّةً تُحَقِّقُ مَصْدَرَهَا، فَلَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ وَارِدًا، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ «لَيْسَ» فِعْلٌ فَقَدْ تَكَلَّفُوا فِي الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ «لَيْسَ» قَدْ يَجِيءُ لِنَفْيِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِمْ: جَاءَنِي الْقَوْمُ لَيْسَ زَيْدًا، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِمْ: أَخَذَ يفعل كذاو عن الثَّالِثِ: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الْمُشَابَهَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَا تقتضي المماثلة وعن الخامس: أن لك إِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ: مَا، لِلْحَالِ وليس لِلْمَاضِي، فَلَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَعَنِ السَّادِسِ:
أَنَّ تَغَيُّرَ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بما ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ وَعَنِ السَّابِعِ: أَنِ اللَّيْسِيَّةَ اسْمٌ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ لَيْسَ اسْمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَيْسَ وَلَيْسَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يَجِبُ كَوْنُهُ اسْمًا، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ وَعَنِ الثَّامِنِ: أَنَّ «لَيْسَ» مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّيْسِيَّةِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَقْرِيرِ مَعْنَى اللَّيْسِيَّةِ، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَوَابَاتُ مُخْتَلِفَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَسَنٌ لِأَنَّ اسْمَ «لَيْسَ» وَخَبَرَهَا اجْتَمَعَا فِي التَّعْرِيفِ فَاسْتَوَيَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمًا، وَالْآخَرِ خَبَرًا، وَحُجَّةُ مَنْ رَفَعَ الْبِرُّ أَنَّ اسْمَ لَيْسَ مُشَبَّهٌ بِالْفَاعِلِ، وَخَبَرَهَا بِالْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ بِأَنْ يلي
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلطَّاعَاتِ، وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هَذَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الِانْفِطَارِ: ١٣- ١٤] فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْفُجُورِ وَقَالَ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَةِ: ٢] فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْإِثْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَمِنْهُ الْبَرُّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْبَحْرِ لِاتِّسَاعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ قِيلَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ، وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَغْرِبَ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صِفَةَ الْبِرِّ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ مَجْمُوعِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم:
بِالتَّجْسِيمِ وَلِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَقَوْلُهُمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُخْلِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨١] وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهَذَا الْإِيمَانِ حيث قالوا: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: ٨٠] وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا ذَلِكَ حَيْثُ أَظْهَرُوا عَدَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: ٨٥] وَخَامِسُهَا: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: ٦١] وَحَيْثُ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَادِسُهَا: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الله سبحانه واليهود وأخلوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ لِطَلَبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ كما قال وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ١٨٧] وَسَابِعُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتُ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهَا وَثَامِنُهَا: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوا العهد حيث قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:
٤٠] وهاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ مَجْمُوعُ أُمُورٍ أَحَدُهَا الصَّلَاةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالٍ فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ:
لَيْسَ الْبِرَّ نَفْيٌ لِكَمَالِ الْبِرِّ وَلَيْسَ نَفْيًا لِأَصْلِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْبِرَّ كُلَّهُ هُوَ هَذَا، الْبِرُّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ/ تَمَامَ الْبِرِّ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا نَفْيًا لِأَصْلِ كَوْنِهِ بِرًّا، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ خَطَأً فِي وَقْتِ النَّفْيِ حِينَ مَا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ إثماً وفجوراً
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ كَثُرَ الْخَوْضُ فِي نَسْخِهَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا هَذَا الْخَوْضُ الشَّدِيدُ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فِيهِ حَذْفٌ وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَةِ: ٩٣] أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ، وَيَقُولُونَ: الْجُودُ حَاتِمٌ وَالشِّعْرُ زُهَيْرٌ، وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَقُطْرُبٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَةِ: ١٩] ثُمَّ قَالَ كَمَنْ آمَنَ [التَّوْبَةِ: ١٩] وَتَقْدِيرُهُ، أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ كَمَنْ آمَنَ، أَوْ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ لِيَقَعَ التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين، إذا لَا يَقَعُ التَّمْثِيلُ بَيْنَ مَصْدَرٍ وَفَاعِلٍ وَثَانِيهَا: قال أبو عبيدة البر هاهنا بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِ:
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢] أَيْ لِلْمُتَّقِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الْمُلْكِ: ٣٠] أَيْ غَائِرًا، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أَيْ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ مَعًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ فَحُذِفَ كَقَوْلِهِمْ: هم درجات عند الله أي ذووا دَرَجَاتٍ عَنِ الزَّجَّاجِ وَرَابِعُهَا: التَّقْدِيرُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ وَكَذَا وَكَذَا عَنِ الْمُفَصَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الَّذِي هُوَ كُلُّ الْبِرِّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَتِهِ لَقَرَأْتُ وَلكِنَّ الْبِرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَلَكِنِ مُخَفَّفَةً الْبِرُّ بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ لكِنَّ مُشَدَّدَةً الْبِرَّ بِالنَّصْبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراًالأول: الْإِيمَانُ بِأُمُورٍ خَمْسَةٍ أَوَّلُهَا:
الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَالْعِلْمُ بِالْأُصُولِ الَّتِي عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الممكنات/ حياً مريداً سمعياً بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهَذَا الْإِيمَانُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّا مَا لَمْ نَعْلِمْ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَمْ نَعْلَمْ قُدْرَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ صِحَّةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَرَابِعُهَا: الإيمان بالكتب وخامسها: الإيمان بالرسل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا إِلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكُتُبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ صِدْقِ الرُّسُلِ
الجواب: أن الأمل وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا، إِلَّا أَنَّ تَرْتِيبَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَاعَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، لَا تَرْتِيبُ الِاعْتِبَارِ الذِّهْنِيِّ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خُصَّ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ مَا يلزم أن صدق بِهِ، فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: مَعْرِفَتُهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْيَوْمِ الْآخِرِ: الْمَعْرِفَةُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَعَادِ، إِلَى سَائِرِ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْمَلَائِكَةِ مَا يَتَّصِلُ بِأَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُؤَدِّيَهَا إِلَيْنَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَخَلَ تَحْتَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَجَمِيعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ النَّبِيِّينَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِمْ، وَصِحَّةِ شَرَائِعِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِلَّا دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ مَبْدَأً وَوَسَطًا وَنِهَايَةً، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات، هو الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَنَفْسِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إليه وهي الرَّسُولُ؟
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قُدِّمَ هَذَا الْإِيمَانُ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ إِيتَاءُ الْمَالِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ.
الْجَوَابُ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ مُسَمَّى البر قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ:
وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ:
وَهُوَ أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى/ الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ:
لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَالَ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عِنْدَ الصِّحَّةِ يَحْصُلُ ظَنُّ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ وَعِنْدَ ظَنِّ قُرْبِ الْمَوْتِ يَحْصُلُ ظَنُّ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَالِ، وَبَذْلُ الشَّيْءِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ أَدَلُّ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ بَذْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢] وَثَانِيهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ من إعطاءه حَالَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِعْطَاءَهُ حَالَ الصِّحَّةِ أَشَقُّ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا قِيَاسًا عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْفَقِيرُ مِنْ جُهْدِ الْمُقِلِّ فَإِنَّهُ يَزِيدُ ثَوَابُهُ عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْغَنِيُّ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مَالُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَوَهَبَهُ مِنْ أَحَدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ لم يهبه منه لَضَاعَ فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ ضَيَاعِ الْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ طَائِعًا وَرَاغِبًا فكذا هاهنا وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢] وَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: ٨٠] أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ،
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما شبع».
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي يُعْطُونَ الْمَالَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِيتَاءِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا الزَّكَاةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَغَايَرَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ أَوْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِثْلُ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الْوُجُوبِ النَّصُّ والمعقول، أما النص
فقوله عليه الصلاة والسلام «لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَنْبِهِ»
وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ تَلَتْ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ فَأَدَّى زَكَاتَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَصِلُ الْقَرَابَةَ، وَيُعْطِي السَّائِلَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الضَّرُورَةِ، وَجَبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُعْطُوهُ مِقْدَارَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ/ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَلَوِ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِعْطَاءِ جَازَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ قَهْرًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ»
وَقَوْلُ الرَّسُولِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الثَّانِي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الزَّكَاةَ بِالْكَمَالِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتِ الْحُقُوقَ الْمُقَدَّرَةَ، أَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَلْزَمُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ جَامِعًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ أَوْكَدِ الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِرْثَ وَيَحْجُرُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَصِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي الثُّلْثِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [آل عمران: ١٨٠] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ قَدَّمَ ذَا الْقُرْبَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِالْيَتَامَى، لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا كَاسِبَ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ إِذْ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ رَغْبَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَرْءِ بِشِدَّةِ حَاجَةِ هَذِهِ الْفِرَقِ تَقْوَى وَتَضْعُفُ، فَرَتَّبَ تَعَالَى ذِكْرَ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِشِدَّةِ حَاجَةِ مَنْ يَقْرُبُ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، ثُمَّ بِحَاجَةِ الْأَيْتَامِ، ثُمَّ بِحَاجَةِ
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بإيتاء الماء مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِلْإِبِلِ قَالَ: «إِنَّ فِيهَا حَقًّا»
هُوَ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى إِطْرَاقِ الْفَحْلِ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالسَّائِلُ وَالْمُكَاتِبُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِيتَاءَ الْمَالِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِالزَّكَاةِ، وَهَذَا/ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
المسألة الثالثة: أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ النَّفْلِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِلْمُعْطِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمْ بِهِ أَخَصُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النُّورِ: ٢٢] وَاعْلَمْ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمُ الَّذِينَ يَقْرُبُونَ مِنْهُ بِوِلَادَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بِوِلَادَةِ الْجَدَّيْنِ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، أَمَّا الْيَتَامَى فَفِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَظِّهِ، وَتَكُونُ الصَّدَقَةُ مِنْ بَابِ مَا يُؤَكَلُ وَيُلْبَسُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْيَتِيمِ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْيَتِيمُ هُوَ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ مَعَ الصِّغَرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاسْمُ قد يقع على الصغر وَعَلَى الْبَالِغِ وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاءِ: ٢٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَ الْمَالَ إِلَّا إِذَا بَلَغُوا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى:
يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْيَتِيمُ بَالِغًا دُفِعَ الْمَالُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيُدْفَعُ إِلَى وَلِيِّهِ، وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَالَّذِي نَقُولُهُ هُنَا: إِنَّ الْمَسَاكِينَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، ثُمَّ هُمْ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُفُّ عَنِ السؤال وهو المراد هاهنا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ وَيَنْبَسِطُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَظْهَرُ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمَسْكَنَةُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ يَعْرِفُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الضَّيْفُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ السَّبِيلِ، وَالْأَوَّلُ أشبه لأن السبيل لِلطَّرِيقِ وَجُعِلَ الْمُسَافِرُ ابْنًا لَهُ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ الْمَاءِ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الْأَيَّامِ. وَلِلشُّجْعَانِ: بَنُو الْحَرْبِ. وَلِلنَّاسِ: بَنُو الزَّمَانِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَرَدْتُ عِشَاءً وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا | عَلَى قمة الرأس ابن ماء ملحق |
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لِلسَّائِلِ حق ولو جاء على فرس»
وقال تعالى: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الْمَعَارِجِ: ٢٤، ٢٥].
أَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرِّقابِ جَمْعُ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرُ أَصْلِ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ/ وَلَا يُقَالُ أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ وَلَدُهَا: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُؤْتِي الْمَالَ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ، وَمَنْ يَكُونُ مُكَاتِبُهَا فَيُعِينُهُ عَلَى أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، فَهَؤُلَاءِ أَجَازُوا شِرَاءَ الرِّقَابِ مِنَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتِبِينَ، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى فِيهِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا قَطْعًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ فِدَاءُ الْأُسَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ الصَّدَقَاتِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تحقق ماهية البر قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي رَفْعِ وَالْمُوفُونَ قَوْلَانِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ مَنْ آمَنَ تَقْدِيرُهُ لَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ الثَّانِي: رَفْعٌ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
وَهُمُ الْمُوفُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَهْدِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْعُهُودِ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِمْ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَقَبِلَ الْعِبَادُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِهَا فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] فَكَانَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَعَ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، لَا كَمَا نَقَضَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِيثَاقَ اللَّهِ وَمَا وَفَّوْا بِعُهُودِهِ فَجَحَدُوا أَنْبِيَاءَهُ وَقَتَلُوهُمْ وَكَذَّبُوا بِكِتَابِهِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذَا الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذا عاهَدُوا فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى مَا سَيَكُونُ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى.
الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَلْزَمَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَكِنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ قَبِلُوا ذَلِكَ الْإِلْزَامَ وَالْتَزَمُوهُ، فَصَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ.
الْأَمْرُ الْخَامِسُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ الْبِرِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ الصَّابِرِينَ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبى كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالصَّابِرِينَ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ يَصِيرُ هَكَذَا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالصَّابِرِينَ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَالصَّابِرِينَ مِنْ صِلَةِ مَنْ قَوْلُهُ:
وَالْمُوفُونَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالصَّابِرِينَ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَنْ فَحِينَئِذٍ قَدْ عَطَفْتَ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ صِلَتِهِ شَيْئًا، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ الصِّلَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ الِاسْمُ أَوْ يُؤَكَّدَ أَوْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ وَانْقِضَائِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، أَمَّا إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَالْمُوفُونَ رَفْعًا عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَلْ هَذَا أَشْنَعُ لِأَنَّ الْمَدْحَ جُمْلَةٌ فَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْفَصْلُ بِالْمُفْرَدِ فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ بِالْجُمْلَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ زَيْدًا فَافْهَمْ مَا أَقُولُ رَجُلٌ عَالِمٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الْكَهْفِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ:
أُولئِكَ فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا لَا نُضِيعُ قُلْنَا: الْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالتَّعَلُّقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا أَشَدُّ مِنَ التَّعَلُّقِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ مَنْ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْمُوفُونَ وَنَصَبَ الصَّابِرِينَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِالْمَدْحِ، وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى الذَّمِّ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ بِالنَّسَقِ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمْ |
[المسألة الثانية قوله تعالى في قراءة والموفين، والصابرين] وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ وَالْمُوفِينَ... ، وَالصَّابِرِينَ ومنهم من قرأ وَالْمُوفُونَ، والصابرون [المسألة الثالثة قوله: تعالى في البأساء والضراء] أما قَوْلُهُ: فِي الْبَأْساءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْفَقْرَ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ: يُرِيدُ بِهِ الْمَرَضَ، وَهُمَا اسْمَانِ عَلَى فَعْلَاءَ وَلَا أَفْعَلَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِنَعْتَيْنِ وَحِينَ الْبَأْسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُرِيدُ الْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادَ، وَمَعْنَى الْبَأْسِ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ يُقَالُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ فِي هَذَا، أَيْ لَا شِدَّةَ بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: ١٦٥] شَدِيدٍ ثُمَّ تُسَمَّى الْحَرْبُ بَأْسًا لِمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْعَذَابُ يُسَمَّى بَأْسًا لِشِدَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٤] فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [الْأَنْبِيَاءِ: ١٢] فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غَافِرٍ: ٢٩].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةً وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْوَاوَاتُ فِي الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْجَمْعِ، فَمِنْ شَرَائِطِ الْبِرِّ وَتَمَامِ شَرْطِ الْبَارِّ أَنَّ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ، وَمَنْ قَامَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَصْفَ بِالْبِرِّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّ الْمُوفِيَ بِعَهْدِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَامَ بِالْبِرِّ وَكَذَا الصَّابِرُ فِي الْبَأْسَاءِ بَلْ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْبِرِّ، إِلَّا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الصِّفَةُ خَاصَّةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بالله عليه توكلت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إِزَالَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ فَقَطْ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يُوجِبُونَ الْعَفْوَ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَتَارَةً كَانُوا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ، وَأُخْرَى يُوجِبُونَ الدِّيَةَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ التَّعَدِّيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْأُخْرَى، فَالْأَشْرَافُ كَانُوا يَقُولُونَ: لَنَقْتُلَنَّ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْهُمْ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَ جِرَاحَاتِ خُصُومِهِمْ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا يُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا قَتَلَ إِنْسَانًا مِنَ الْأَشْرَافِ، فَاجْتَمَعَ أَقَارِبُ الْقَاتِلِ عِنْدَ وَالِدِ الْمَقْتُولِ، وَقَالُوا: مَاذَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ إِحْدَى ثَلَاثٍ قَالُوا: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: إِمَّا تُحْيُونَ وَلَدِي، أَوْ تملأون دَارِي مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ تَدْفَعُوا إِلَيَّ جُمْلَةَ قَوْمِكُمْ حَتَّى أَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ لَا أَرَى أَنِّي أَخَذْتُ عِوَضًا.
وَأَمَّا الظُّلْمُ فِي أَمْرِ الدِّيَةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوا دِيَةَ الشَّرِيفِ أَضْعَافَ دِيَةِ الرَّجُلِ الْخَسِيسِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ رِعَايَةَ الْعَدْلِ وَسَوَّى بَيْنِ عِبَادِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: إِنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ كَانُوا مَعَ تَدَيُّنِهِمْ بِالْكِتَابِ سَلَكُوا طَرِيقَةَ الْعَرَبِ فِي التَّعَدِّي.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةِ قَتْلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: مَا نَقَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَرَوَاهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَالذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ يَقَعُ الْقِصَاصُ وَيَكْفِي ذَلِكَ فَقَطْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ لِلْعَبْدِ حُرًّا، أَوْ لِلْحُرِّ عَبْدًا فَإِنَّهُ يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ التَّرَاجُعُ، وَأَمَّا حُرٌّ قَتَلَ عَبْدًا فَهُوَ قَوَدُهُ، فَإِنْ شَاءَ مَوَالِي الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلُوا الْحُرَّ قَتَلُوهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْقِطُوا ثَمَنَ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَيَرُدُّوا إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ بقية ديته، وإن قتل عبدا حُرًّا فَهُوَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلُوا الْعَبْدَ وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَأَدَّوْا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ بَقِيَّةَ دِيَتِهِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا كُلَّ الدِّيَةِ وَتَرَكُوا قَتْلَ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ قَتَلُوهُ وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فَهِيَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الرَّجُلِ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أُعْطُوا كُلَّ الدِّيَةِ وَتَرَكُوهَا، قَالُوا فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْقِصَاصِ مَشْرُوعٌ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَيْنِ فأما عند إخلاف الْجِنْسِ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْقِصَاصِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ إِذَا عَرَفْنَا سَبَبَ النُّزُولِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ فَمَعْنَاهُ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وَقَالَ:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٠] وَقَدْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً وَمِنْهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ أَيِ الْمُفْرَدَاتُ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ كُتِبْنَ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ»
وَالثَّانِي: لَفْظَةُ عَلَيْكُمُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُجُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَأَمَّا الْقِصَاصُ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي الْقَتْلى أَيْ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى، لِأَنَّ كَلِمَةَ «فِي» قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلسَّبَبِيَّةِ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى، فَدَلَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ قَتْلِ جَمِيعِ الْقَتْلَى، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَاتِلِ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ وَأَمَّا الْقَاتِلُ فَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ أَيْضًا فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ إِذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالسَّيِّدُ عَبْدَهُ وَفِيمَا إِذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا أَوْ مُعَاهَدًا، وَفِيمَا إذا قتل مسلم خَطَأً إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ/ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ إِمَّا عَلَى الْقَاتِلِ، أَوْ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ، أَوْ عَلَى ثَالِثٍ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى وَلِيِّ الدَّمِ لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى التَّرْكِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَالثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَالْأَجْنَبِيُّ عَنِ الشَّيْءِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقِصَاصَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ فَكَانَ مَفْهُومُ الْآيَةِ إِيجَابَ التَّسْوِيَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِيجَابِ الْقَتْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَتْلِ الَّذِي يَكُونُ مَشْرُوعًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَسْقُطُ دلالة على كون القتل مشرعا بِسَبَبِ الْقَتْلِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ إِيجَابُ إِقَامَةِ الْقِصَاصِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَوَدِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْقَوَدَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الْأَئِمَّةُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ اسْتِيفَاءَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْقَاتِلِ وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاتِلَ ليس له أن يمتنع هاهنا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ، بَلْ لِلزَّانِي وَالسَّارِقِ الْهَرَبُ مِنَ الْحَدِّ وَلَهُمَا أَيْضًا أَنْ يَسْتَتِرَا بِسِتْرِ اللَّهِ وَلَا يُقِرَّا، وَالْفَرْقُ أَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِيجَابَ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْقَتْلِ صِفَةُ الْقَتْلِ وَإِيجَابُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي إِيجَابَ الذَّاتِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً لِإِيجَابِ الْقَتْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى مُوجِبِ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ إِمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ هُوَ الْإِمَامَ أَوْ وَلِيَّ الدَّمِ فَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ يُرِيدُ الْقَتْلَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَابِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَاعَى جِهَةُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَتَلَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ قُطِعَتْ يَدُ الْقَاتِلِ فَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا/ حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْرِقَ الْأَوَّلُ بِالنَّارِ أُحْرِقَ الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ تَنَاوُلُ النَّفْسِ بِأَرْجَى مَا يُمْكِنُ فَعَلَى هَذَا لَا اقْتِصَاصَ إِلَّا بِالسَّيْفِ بِحَزِّ الرَّقَبَةِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّسْوِيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُتِبَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْقَتْلَى إِلَّا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَدَخَلَ هَذَا عَلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْقَتْلِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ النَّصِّ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَلَوْ حَكَمْنَا فِيهَا بِالْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً، لَكِنَّهَا بِمَا صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالتَّخْصِيصُ أَهْوَنُ مِنَ الْإِجْمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَوْ لَمْ تُفِدْ إِلَّا الْإِيجَابَ لِلتَّسْوِيَةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا شَيْئَيْنِ إِلَّا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجوب التَّسْوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِسَائِرِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: ٤٠] ثُمَّ تَأَكَّدَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ
بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ»
وَمِمَّا
يُرْوَى أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ فَقَتَلَهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْضَخَ رَأْسُ الْيَهُودِيِّ بِالْحِجَارَةِ،
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَلَغَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَمَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَبْلَغًا قَوِيًّا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ»
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا»
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمَّا تَعَارَضَتْ بَقِيَتْ دَلَالَةُ الْآيَاتِ خَالِيَةً عَنِ الْمُعَارَضَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَائِبًا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: ٢٥] وَإِذَا صَارَتِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى التَّائِبُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ،
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ»
فَثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ التَّائِبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً ثُمَّ عِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيَكُونَ لُطْفًا بِهِ ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا تَكَلُّفَ بَعْدَ الْقَتْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَتْلُ لُطْفًا بِهِ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ التَّشَفِّي وَمَنْفَعَةٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ يَزْجُرُ سَائِرَ النَّاسِ عَنِ الْقَتْلِ، وَمَنْفَعَةٌ لِلْقَاتِلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْتَلَ صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ وَالتَّمَرُّدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَفِيهِ قَوْلَانِ:
وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْحُرُّ تُفِيدُ الْعُمُومَ فَقَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يُفِيدُ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ حُرٍّ بِالْحُرِّ، فَلَوْ كَانَ قَتْلُ حُرٍّ بِعَبْدٍ مَشْرُوعًا لَكَانَ ذَلِكَ الْحُرُّ مَقْتُولًا لَا بِالْحُرِّ وَذَلِكَ يُنَافِي إِيجَابَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْحُرِّ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا لَا مَحَالَةَ بِفِعْلٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْخَبَرِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْحُرِّ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَ حُرٍّ مَقْتُولًا بِالْعَبْدِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فَلَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ التَّسْوِيَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ إِهْمَالٌ لِرِعَايَةِ التَّسْوِيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا فَإِنِ احْتَجَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] فَجَوَابُنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ شَرْعٌ لِمَنْ قَبْلَنَا، وَالْآيَةُ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا شَرْعٌ لَنَا وَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْعَنَا أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامِ النُّفُوسِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّخْصِيصِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَبْدُ إِلَّا بِالْعَبْدِ، وَأَنْ لَا تُقْتَلَ الْأُنْثَى إِلَّا بِالْأُنْثَى، إِلَّا أَنَّا خَالَفْنَا هَذَا الظَّاهِرَ لِدَلَالَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَلِلْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ نَسَقِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي قَتْلِ الحر بالعبد، فوجب أن يبقى هاهنا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَلَأَنْ يَقْتُلَ بِالْحُرِّ وَهُوَ فَوْقَهُ كَانَ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ بِالْحُرِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَتْلِ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، فَأَمَّا قَتْلُ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِجْمَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ الْبَتَّةَ، بَلْ يُفِيدُ شَرْعَ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى يَقْتَضِي قِصَاصَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِالْمَرْأَةِ الرَّقِيقَةِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَقَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِالذِّكْرِ وَإِذَا تَقَدَّمَ/ ذِكْرُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجُزْئِيَّاتِ بَلْ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِفَوَائِدَ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ سَائِرِ الصُّوَرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْفَائِدَةِ فَذَكَرُوا فِيهَا وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ بَيَانُ إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا رُوِّينَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ بِالْعَبْدِ مِنْهُمُ الْحُرَّ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، فَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسَاوَاةِ، وَقَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ رِعَايَةُ الْمُسَاوَاةِ لِأَنَّهُ
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ مَا
نَقَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ هِيَ الَّتِي يُكْتَفَى فِيهَا بِالْقِصَاصِ، أَمَّا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاقِعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهُنَاكَ لَا يُكْتَفَى بِالْقِصَاصِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاجُعِ،
وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّظَرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ وَلَا تَرَاجُعَ، فَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَلَا تَرَاجُعَ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ نِهَايَةُ مَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ غَيْرِهِ مَعَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:
مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَافِيًا ومعفوا عنه، وليس هاهنا إِلَّا وَلِيُّ الدَّمِ وَالْقَاتِلُ، فَيَكُونُ الْعَافِي أَحَدَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَفْوِ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنَ الْوَلِيِّ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى القتل، فصار تقدير الآية: فإذا عفي وَلِيُّ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ، وَقَوْلُهُ: شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِذَا حَصَلَ الْعَفْوُ لِلْقَاتِلِ عَنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ الْعَافِيَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ مَالًا بِإِحْسَانٍ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجِبُ أَدَاءُ غَيْرِ الدِّيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ/ ذَلِكَ الْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا عِنْدَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
أَيْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لَكُمْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْيَهُودِ حَتْمُ الْقِصَاصِ وَالْحُكْمَ فِي النَّصَارَى حتم العفو فخف عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَعَ لَهُمُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ قَدْ تَكُونُ الدِّيَةُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَوَدِ إدا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَوَدُ آثَرَ إِذَا كَانَ رَاغِبًا فِي التَّشَفِّي وَدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَعَلَ الْخِيَرَةَ لَهُ فِيمَا أَحَبَّهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ وَقَوْلُهُ الْعَفْوُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِوَلِيِّ الدَّمِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أَيْ فَمَنْ سَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، يُقَالُ: أَتَانِي هَذَا الْمَالُ عَفْوًا صَفْوًا، أَيْ سَهْلًا، وَيُقَالُ: خُذْ مَا عَفَا، أَيْ مَا سَهُلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ وَسَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ الَّذِي هُوَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ فَلْيَتْبَعْ وَلِيُّ الدَّمِ ذَلِكَ الْقَاتِلَ فِي مُطَالَبَةِ ذَلِكَ الْمَالِ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ ذَلِكَ الْمَالَ بالإحسان من
سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَيَعْفُو أَحَدُهُمَا فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الشَّرِيكَ السَّاكِتَ بِاتِّبَاعِ الْقَاتِلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَ الْقَاتِلَ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِرِضَا الْقَاتِلِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ رِضَا الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كُلِّ عَامِلٍ أَنَّهُ يَبْذُلُ كُلَّ الدُّنْيَا لِغَرَضِ دَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا قُتِلَ لَا يَبْقَى لَهُ لَا النَّفْسُ وَلَا الْمَالُ أَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فَفِيهِ إِحْيَاءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرِّضَا حَاصِلًا فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لَا جَرَمَ تَرَكَ ذكره وإن كان معتبرا في النفس الْأَمْرِ.
وَالْجَوَابُ: حَمْلُ لَفْظِ الْعَفْوِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْقَاتِلُ الْمَالَ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى كَانَ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: شَيْءٌ لَفْظٌ مُبْهَمٌ/ وَحَمْلُ هَذَا الْمُبْهَمِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ أَوْلَى الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكَانَ قَوْلُهُ: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ عَبَثًا لِأَنَّ بَعْدَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَيْهِ بِالسُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا حَاجَةَ بِذَلِكَ الْمُعْطِي إِلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ الْمَالِ بِالْإِحْسَانِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَمَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتَمَشَّى بِفَرْضِ صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ حَقُّ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ الْمُفِيدَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ:
وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْعَافِي، فَوَجَبَ أَدَاءُ هَذَا الْمَالِ إِلَى الْعَافِي، وَعَلَى قَوْلِكُمْ: يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَى غَيْرِ الْعَافِي فَكَانَ قَوْلُكُمْ بَاطِلًا.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ أَنَّ شَرْطَ الرِّضَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ، أَوْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكِنَةُ أَخْذِ الدِّيَةِ ثَابِتَةً لِوَلِيِّ الدَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ كَانَ تَقْيِيدُ اللَّفْظِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَةً لِلظَّاهِرِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَمَّا تَلَخَّصَ هَذَا الْبَحْثُ فَنَقُولُ: الْآيَةُ بَقِيَتْ فِيهَا أَبْحَاثٌ لَفْظِيَّةٌ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.
الْجَوَابُ: تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: سِيرَ بِزَيْدٍ بَعْضُ السَّيْرِ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّيْرِ الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ عُفِيَ يَتَعَدَّى بِعَنْ لَا بِاللَّامِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الْجَوَابُ: أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنْبِ، فَيُقَالُ عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ وَعَنْ ذَنْبِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى: عَفَا
[التَّوْبَةِ: ٤٣] فَإِذَا تَعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ قِيلَ: عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ عَمَّا جَنَى، كَمَا تَقُولُ: عَفَوْتُ لَهُ عَنْ ذَنْبِهِ، وَتَجَاوَزْتُ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجِنَايَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِمَ قِيلَ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ؟
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُشْكِلُ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الْقَوَدَ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ: الْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: شَيْءٌ فَائِدَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ إِمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الْمَالُ كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ مُتَبَعِّضًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ تَنْكِيرَ الشَّيْءِ يُفِيدُ فَائِدَةً عَظِيمَةً، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يُؤَثِّرُ/ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَفْوًا عَنْ جَمِيعِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ جُزْئِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ كُلِّهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ حَقِّهِ، كَعَفْوِ جَمِيعِهِمْ عَنْ خَلْقِهِمْ، فَلَوْ عَرَّفَ الشَّيْءَ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَكَّرَهُ صَارَ هَذَا الْمَعْنَى مَفْهُومًا مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: بِأَيِّ مَعْنًى أَثْبَتَ اللَّهُ وَصْفَ الْأُخُوَّةِ.
وَالْجَوَابُ: قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ تَكُونُ بِسَبَبِ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٥] فَلَوْلَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَاقٍ مَعَ الْفِسْقِ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَتِ الْأُخُوَّةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالنَّدْبُ إِلَى الْعَفْوِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى هُمُ الْأَئِمَّةُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ هُمُ الْقَاتِلُونَ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَاتِلَ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ مُؤْمِنًا، فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ يَتُوبُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُؤْمِنًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ فِيهِ غَيْرَ التَّائِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ذِكْرُ الْأُخُوَّةِ، فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ وَالثَّانِي: الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاسِقَ يَتُوبُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ أَخًا لَهُ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُهُ أَخًا لَهُ فِي النَّسَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: ٦٥] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ تَعَلُّقٌ وَاخْتِصَاصٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأُخُوَّةِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ، قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَدْنَى تَعَلُّقٍ وَالْخَامِسُ: ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأُخُوَّةِ لِيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنْسِيَّةِ فِي الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِقَادِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْأُخُوَّةِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ أبحاث:
الْبَحْثُ الثَّانِي: قِيلَ: عَلَى الْعَافِي الِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ، وَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ أَدَاءٌ بِإِحْسَانٍ، عَنِ ابْنِ/ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: هُمَا عَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُتْبِعُ عَفْوَ الْعَافِي بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْرُوفَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُشَدِّدَ بِالْمُطَالَبَةِ، بَلْ يَجْرِي فِيهَا عَلَى الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالنَّظِرَةُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لَعِينِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِغَيْرِ الْمَالِ الْوَاجِبِ، فَالْإِمْهَالُ إِلَى أَنْ يَبْتَاعَ وَيَسْتَبْدِلَ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَهُ بِسَبَبِ الِاتِّبَاعِ عَنْ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَأَمَّا الْأَدَاءُ بِإِحْسَانٍ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْإِعْدَامَ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُؤَخِّرَهُ مَعَ الْوُجُودِ، وَلَا يُقَدِّمَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى بِشْرٍ وَطَلَاقَةٍ وَقَوْلٍ جَمِيلٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَيِ الْحُكْمُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ تَخْفِيفٌ فِي حَقِّكُمْ، لِأَنَّ الْعَفْوَ وَأَخْذَ الدِّيَةَ مُحَرَّمَانِ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْقِصَاصُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمُ الْبَتَّةَ وَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ مُحَرَّمَانِ عَلَى أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَالْعَفْوُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التَّخْفِيفُ يَعْنِي جَاوَزَ الْحَدَّ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: الْمُرَادُ أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَفَوْا وَأَخَذُوا الدِّيَةَ، ثُمَّ ظَفِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقَاتِلِ قَتَلُوهُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قَاتَلِهِ أَوْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَمِيعِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ شَدِيدُ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ لَا مَحَالَةَ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ وَلَا يُقْبَلَ الدِّيَةُ مِنْهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ»
وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوَدَ تَارَةً يَكُونُ عَذَابًا وَتَارَةً يَكُونُ امْتِحَانًا، كَمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَذَابِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَنْ لَا يُمَكَّنَ وَلِيُّ الدَّمِ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ وَلِيِّ الدَّمِ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ قِيَاسًا عَلَى تَمَكُّنِهِ من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٩]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقِصَاصَ وَكَانَ الْقِصَاصُ مِنْ بَابِ الْإِيلَامِ تَوَجَّهَ فِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ إِيلَامُ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ؟ فَلِأَجْلِ دَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ حِكْمَةَ شَرْعِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نَفْسَ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إِزَالَةٌ لِلْحَيَاةِ وَإِزَالَةُ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ نَفْسَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يُفْضِي إِلَى الْحَيَاةِ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا، وَفِي حَقِّ مَنْ يُرَادُ جَعْلُهُ مَقْتُولًا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا أَيْضًا، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا فَلِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ قُتِلَ تَرَكَ الْقَتْلَ فَلَا يَقْتُلُ فَيَبْقَى حَيًّا، وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يُرَادُ جَعْلُهُ مَقْتُولًا فَلِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ إِذَا خَافَ مِنَ الْقِصَاصِ تَرَكَ قَتْلَهُ فَيَبْقَى غَيْرَ مَقْتُولٍ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلِأَنَّ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ بَقَاءَ مَنْ هَمَّ بِالْقَتْلِ، أَوْ مَنْ يَهُمُّ بِهِ وَفِي بَقَائِهِمَا بَقَاءُ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُمَا، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تَعْظُمُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ فَتُؤَدِّي إِلَى الْمُحَارَبَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى قَتْلِ عَالَمٍ مِنَ النَّاسِ وَفِي تَصَوُّرِ كَوْنِ الْقِصَاصِ مَشْرُوعًا زَوَالُ كُلِّ ذَلِكَ وَفِي زَوَالِهِ حَيَاةُ الْكُلِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ نَفْسَ الْقِصَاصِ سَبَبُ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَافِكَ الدَّمِ إِذَا أُقِيدَ مِنْهُ ارْتَدَعَ مَنْ كَانَ يَهُمُّ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يَقْتُلْ، فَكَانَ الْقِصَاصُ نَفْسُهُ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ، يَدْخَلُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْجَوَارِحِ وَالشِّجَاجِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ جَرَحَ عَدُوَّهُ اقْتُصَّ مِنْهُ زَجَرَهُ ذَلِكَ عَنِ الْإِقْدَامِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِبَقَائِهِمَا لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ الْجَارِحُ إِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالشَّجَّةُ وَالْجِرَاحَةُ الَّتِي لَا قَوَدَ فِيهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْآيَةِ لِأَنَّ الْجَارِحَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تُؤَدِّيَ جِرَاحَتُهُ إِلَى زُهُوقِ النَّفْسِ فَيَلْزَمُ الْقَوَدُ، فَخَوْفُ الْقِصَاصِ حَاصِلٌ فِي النَّفْسِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقِصَاصِ إِيجَابُ التَّسْوِيَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ فِي إِيجَابِ التَّسْوِيَةِ حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَيْ فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ وَقِيلَ: الْقِصاصُ الْقُرْآنُ، أَيْ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كقوله: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَالِ: ٤٢] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْإِيجَازِ مَعَ جَمْعِ الْمَعَانِي بِاللُّغَةِ بَالِغَةٌ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كَقَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ، وَقَوْلُ آخَرِينَ: أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ، وَأَجْوَدُ الْأَلْفَاظِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ أَفْصَحُ مِنْ هَذَا، وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ لَا يَدْخُلُ فِي/ هَذَا الْبَابِ، إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:
قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَوْلَهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ مَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَاةَ مُنَكَّرَةً، بَلْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فِيهِ تَكْرَارٌ لِلَفْظِ الْقَتْلِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. لَا يُفِيدُ إِلَّا الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ
يُفِيدُ الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ وَعَنِ الْجَرْحِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ أَجْمَعُ لِلْفَوَائِدِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ مَطْلُوبٌ تَبَعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ وَهُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا قَتْلٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْقَتْلِ، إِنَّمَا النَّافِي لِوُقُوعِ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ بَاطِلٌ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا، فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ كَلَامِ الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَوَجَبَ أَنْ يَمُوتَ. فَقَالُوا إِذَا كَانَ الَّذِي يُقْتَلُ يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ، فَهَبْ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَزْجُرُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ هَذَا الْقَاتِلُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ شَرْعُ الْقِصَاصِ مُفْضِيًا إِلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّا إِنَّمَا نَقُولُ فِيمَنْ قُتِلَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ كَانَ يَمُوتُ لَا فِيمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ وَلَمْ يُقْتَلْ فَلَا يَلْزَمُ مَا قُلْتُمْ، قُلْنَا أَلَيْسَ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ قُتِلَ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ فَإِذَا قُلْتُمْ: كَانَ يَمُوتُ فَقَدْ حَكَمْتُمْ فِي أَنَّ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَقْتٍ صَحَّ وُقُوعُ قَتْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ كَقَتْلِهِ، وَذَلِكَ يُصَحِّحُ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِكُمُ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لو لم يقتله إما لأن مَنَعَهُ مَانِعٌ عَنِ الْقَتْلِ، أَوْ بِأَنْ خَافَ قَتْلَهُ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ وَفِي ذَلِكَ صِحَّةُ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ، هَذَا كُلُّهُ أَلْفَاظُ الْقَاضِي أَمَّا قوله تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ يَعَرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، فَإِذَا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى قتل أعداءهم، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ بِالْقَوَدِ صَارَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ إِتْلَافَ غَيْرِهِ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ فَإِذَا خَافَ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُ سَبَبًا لِلْكَفِّ وَالِامْتِنَاعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْخَوْفَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْفِكْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ يَهْدِيهِ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يَهْدِيهِ إِلَى هَذَا الْفِكْرِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْخَوْفُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْخِطَابِ أُولِي الْأَلْبَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظَةُ «لَعَلَّ» لِلتَّرَجِّي، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ التَّقْوَى، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ لَا يَتَّقُونَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ أَيْضًا فِي تِلْكَ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ أَنَّ الْمُرَادَ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ نَفْسَ الْقَتْلِ بِخَوْفِ الْقِصَاصِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّقْوَى مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِلتَّقْوَى، فَحَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ أَوْلَى: وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ عَلَى الْعِبَادِ الْأُمُورَ الشَّاقَّةَ مِنَ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَّقُوا النَّارَ بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَيَكُفُّوا عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٠]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)الحكم الخامس
[في قَوْلُهُ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُعَايَنَةَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ عَاجِزًا عَنِ الْإِيصَاءِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ حُضُورُ أَمَارَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ فِيمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَارَبَ الْبَلَدَ إِنَّهُ قَدْ وَصَلَ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْأَصَمِّ إِنَّ الْمُرَادَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بِأَنْ تَقُولُوا: إِذَا حَضَرَنَا الْمَوْتُ فَافْعَلُوا كَذَا قَالَ الْقَاضِي:
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوصِيَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي وَصِيَّتِهِ الْمَوْتَ جَازَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ الْمَالُ هاهنا وَالْخَيْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ/ كَقَوْلِهِ:
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [الْعَادِيَاتِ: ٨] مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وإذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَالْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيمَا إِذَا تَرَكَ خَيْرًا، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ خَيْرٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: ٢٤] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْخَيْرَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ خَيْرًا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ فِيمَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَمْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاءِ: ٧] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ خَيْرًا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو مَالٍ، فَإِنَّمَا يُرَادُ تَعْظِيمُ مَالِهِ وَمُجَاوَزَتُهُ حَدَّ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَالِ قَدْ يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ:
فُلَانٌ فِي نِعْمَةٍ، وَفِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ. فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَكْثِيرُ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا بَابٌ مِنَ الْمَجَازِ مَشْهُورٌ وَهُوَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنِ الشَّيْءِ لِنَقْصِهِ، كَمَا
قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ»
وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ من باب شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ»
وَنَحْوِ هَذَا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مَا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا، لَمَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ:
إِنْ تَرَكَ خَيْراً كَلَامًا مُفِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مَا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَمُوتُ عُرْيَانًا وَلَا يَبْقَى مَعَهُ كسرة خبر، وَلَا قَدْرٌ مِنَ الْكِرْبَاسِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أن المراد هاهنا مِنَ الْخَيْرِ الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَذَاكَ الْمَالُ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَحْدُودٍ أَمْ لَا فيه قولان:
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُمْ فِي الْمَوْتِ، وَلَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ أَوَلَا أُوصِي، قَالَ: لَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ،
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قال لها: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ، قَالَتْ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، قَالَتْ: كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ قَالَتْ: قَالَ اللَّهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا تَرَكَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يُوصِي فَإِنْ بَلَغَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْصَى وَعَنْ قَتَادَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غير مقدر بمقدار معين. بل يختلف دلك بِاخْتِلَافِ حَالِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ/ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ يُوصَفُ الْمَرْءُ بِأَنَّهُ غَنِيٌّ، وَبِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُوصَفُ غَيْرُهُ بِالْغِنَى لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْعِيَالِ وَكَثْرَةِ النَّفَقَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْإِيجَابِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمِقْدَارٍ مُقَدَّرٍ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ فَقْدَ الْبَيَانِ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجِبْ فِيهَا قَطُّ بِأَنْ يَقُولَ لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَالُ الْوَاجِبُ فِيهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: الْوَصِيَّةُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: كُتِبَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ الْإِيصَاءَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الضمير في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٨١] وَأَيْضًا إِنَّمَا ذُكِرَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا طَالَ كَانَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ، كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ، فَيُذَكِّرُونَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَفْعُ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَالثَّانِي: عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَلِلْوَالِدَيْنِ الْخَبَرُ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكُتِبَ، كَمَا تَقُولُ قِيلَ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ، فَقَوْلُكَ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقِيلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَاجِبَةٌ، بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَنْ فَقَالَ:
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُوصُونَ لِلْأَبْعَدِينَ طَلَبًا لِلْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَيَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الْوَصِيَّةَ لِهَؤُلَاءِ مَنْعًا لِلْقَوْمِ عَمَّا كَانُوا اعْتَادُوهُ وَهَذَا بَيِّنٌ الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ إِنَّ إِيجَابَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا كَانَ قَبْلَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، جَعَلَ اللَّهُ الْخِيَارَ إِلَى الْمُوصِي فِي مَالِهِ وَأَلْزَمَهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِي إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان وَالْأَقْرَبِينَ فَيَكُونُ وَاصِلًا إِلَيْهِمْ بِتَمْلِيكِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلِذَلِكَ
لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
فَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ وَاصِلًا إِلَيْهِمْ بِعَطِيَّةِ الْمُوصِي، فَأَمَّا الْآنَ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَنَّ عَطِيَّةَ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ عَطِيَّةِ الْمُوصِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ الْبَتَّةَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ قَبْلُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَقْرَبِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: هُمُ الْأَوْلَادُ فَعَلَى هَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْقَرَابَاتِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ لِلْقَرَابَةِ، ثُمَّ رَآهَا مَنْسُوخَةً.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: هُمْ مَنْ لَا يَرِثُونَ مِنَ الرَّجُلِ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَأَمَّا الْوَارِثُونَ فَهُمْ خَارِجُونَ عَنِ اللَّفْظِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُوصِي بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَمْيِيزَ مَنْ يُوصَى لَهُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مِمَّنْ لَا يُوصَى، لِأَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الْجَمِيلَةَ، فَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَهُمْ، فَبِالْمَعْرُوفِ وَإِذَا سَوَّى فَكَمِثْلٍ، وَإِذَا حَرَمَ الْبَعْضَ فَكَمِثْلٍ لِأَنَّهُ لَوْ حَرَمَ الْفَقِيرَ وَأَوْصَى لِلْغَنِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، وَلَوْ سَوَّى بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ عِظَمِ حَقِّهِمَا وَبَيْنَ بَنِي الْعَمِّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ الْجَدِّ الْبَعِيدِ مَعَ حُضُورِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَكُنْ مَا يَأْتِيهِ مَعْرُوفًا فَاللَّهُ تَعَالَى كَلَفَّهُ الْوَصِيَّةَ عَلَى طَرِيقَةٍ جَمِيلَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ شَوَائِبِ الْإِيحَاشِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لَمْ يَشْتَرِطْ تَعَالَى فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَزِيَادَةٌ فِي تَوْكِيدِ وُجُوبِهِ، فَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا التَّكْلِيفِ بِالْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أَنَّهُ لَازِمٌ لِمَنْ آثَرَ التَّقْوَى، وَتَحَرَّاهُ وَجَعَلَهُ طَرِيقَةً لَهُ وَمَذْهَبًا فَيَدْخُلُ الْكُلُّ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالتَّكَالِيفَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَدْخُلُ الْكُلُّ تَحْتَ هَذَا التَّكْلِيفِ فَهَذَا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية.
[البحث حول أدلة الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً] وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ وَاجِبَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ نَدْبًا وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ وَبِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ يُنْبِئُ عَنِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ الْإِيجَابَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَتَقْرِيرُ قَوْلِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا هِيَ مُخَالِفَةً لِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَعْنَاهَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] أو كتب على المختصر أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ لِلْأَقْرِبَاءِ مَعَ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ بِالْمِيرَاثِ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَصِيَّةُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَالْوَارِثُ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَثَالِثُهَا: لَوْ قَدَّرْنَا حُصُولَ الْمُنَافَاةِ لَكَانَ يُمْكِنُ جَعْلُ آيَةِ الْمِيرَاثِ مُخَصِّصَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ آيَةُ الْمِيرَاثِ تُخْرِجُ الْقَرِيبَ الْوَارِثَ وَيَبْقَى الْقَرِيبُ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ مَنْ يَرِثُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرِثُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالرِّقِّ وَالْقَتْلِ وَمِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي فَرِيضَةِ مَنْ لا يرث بهذه الأسباب الحاجة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ/ فِي حَالٍ وَيَثْبُتُ فِي حَالٍ، إِذَا كَانَ فِي الْوَاقِعَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ فِي كُلِّ حَالٍ إِذَا
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النَّحْلِ: ٩٠] فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَيَتَوَجَّهُ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا بِأَيِّ دَلِيلٍ صَارَتْ مَنْسُوخَةً؟ وَذَكَرُوا وجوها أحدهما: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِإِعْطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الْمَوَارِيثِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَقَطْ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ قَدْرٍ مِنَ الْحَقِّ بِالْمِيرَاثِ وُجُوبُ قَدْرٍ آخَرَ بِالْوَصِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ لَا النَّسْخُ بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ منسوخة فيمن لم يختلف إِلَّا الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ يَصِيرُ كُلُّ الْمَالُ حَقًّا لَهُمَا بِسَبَبِ الْإِرْثِ فَلَا يَبْقَى لِلْوَصِيَّةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّ الْإِشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَالْتَحَقَ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُدَّعَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِصِحَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدَّلِيلُ النَّاسِخُ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بالإجماع من ذِكْرِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ هَذَا النَّسْخِ فَكَيْفَ يُدَّعَى انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُصُولِ النَّسْخِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلِيلٍ قِيَاسِيٍّ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَوْ كانت واجبة لكان عند ما لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ التي لا توجد الوصية بها لكن عند ما لَمْ تُوجَدِ الْوَصِيَّةُ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاءِ: ١١] وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ وَلَا دَيْنٌ، فَالْمَالُ أَجْمَعُ مَصْرُوفٌ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ مَنْ يَرِثُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِيمَنْ يَرِثُ ثَابِتَةٌ فِيمَنْ لَا يَرِثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ/ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَطَاوُسٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصِيَ لِأَقْرِبَائِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ، وَقَالَ طَاوُسٌ: إِنْ أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ وَتَرَكَ الْأَقَارِبَ نُزِعَ مِنْهُمْ وَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَقِيَتْ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْقَرِيبِ، إِمَّا بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَإِمَّا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «ألا لا وصية الوارث»
أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وهاهنا الْإِجْمَاعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وارثا.
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْأَقَارِبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْوَاجِبَةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَقَارِبِ، وَصَارَتِ السُّنَّةُ مُؤَكِّدَةً لِلْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا فَأَجْوَدُ مَا لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَهُ فِيمَا قَبْلُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لِلْأَفْقَرِ فَالْأَفْقَرِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُمْ الأغنياء سَوَاءٌ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَخَالِدِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ يُوصِي لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَلَهُ قُرَابَةٌ لَا تَرِثُهُ: يَجْعَلُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ لِذَوِي الْقَرَابَةِ وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ الْأَقَارِبَ إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ انْتُزِعَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبَهَا، وَعِظَمَ أَمْرِهَا، أَتْبَعَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعِيدِ فِي تَغْيِيرِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْمُبَدِّلُ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ هُوَ الْوَصِيُّ/ أَوِ الشَّاهِدُ أَوْ سَائِرُ النَّاسِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ إِمَّا فِي الْكِتَابَةِ وَإِمَّا فِي قِسْمَةِ الْحُقُوقِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ شَهَادَةً أَوْ يَكْتُمَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَصِيِّ وَالشَّاهِدُ فبأن يمنعوا من وصول ذَلِكَ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ التَّغْيِيرِ هُوَ الْمُوصِي نَهَى عَنْ تَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوصُونَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ فِي الْجُوعِ وَالضُّرِّ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ زَجَرَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدٌ إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكورة وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥] أَيْ وَعْظٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ مَا قَالَهُ الْمَيِّتُ، أَوْ مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ سَمِعَهُ عَنْهُ وَثَانِيهَا:
قِيلَ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ وَالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةً وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِالْحَقِيقِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى عَنْهَا بِكِنَايَةِ الْمُذَكَّرِ.
أما قوله: بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ أَوْ يَعْظُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلسَّمَاعِ لَوْ لَمْ يَقَعِ الْعِلْمُ بِهِ، فَصَارَ إِثْبَاتُ سَمَاعِهِ كَإِثْبَاتِ عِلْمِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِثْمُهُ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ لَا يُعَذَّبُ عَلَى كُفْرِ أَبِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَرَ الْوَارِثَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَارِثَ قَصَّرَ فِيهِ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ دَيْنَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ ذَلِكَ الْوَارِثِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجُهَّالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِثْمَ التَّبْدِيلِ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَى الْمُبَدِّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَتَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [الجاثية: ١٥، فُصِّلَتْ: ٤٦] لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ:
٢٨٦].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ، وَفِي الْأَقَارِبِ مَنْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَغْيِيرُ الْوَصِيَّةِ أَمَّا مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، / فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَصَرَفَ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْأَجَانِبِ كَانَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ أَحَقَّ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُنْقَضُ ذَلِكَ وَيُرَدُّ إِلَى الْأَقْرَبِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، أَمَّا مَنْ لَا يُوجِبُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَرِثُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ بِالثُّلُثِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَحَبِّ، فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْمُسْتَحَبُّ هُوَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»
فَنَدَبَ إِلَى النُّقْصَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الثُّلُثُ مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَالثَّوَابُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الْمَيِّتِ وَحَالَ الْوَرَثَةِ وَقَدْرَ التَّرِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلْثِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِ الْوَرَثَةِ، وَالْتِمَاسِ الرِّضَا مِنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِ الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ إِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ وَيَكُونُ عَطِيَّةً مِنَ الْمَيِّتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَكُونُ كَابْتِدَاءِ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَارِثِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِلْوَصِيَّةِ عَلَى حَدِّهَا، وَيَعْلَمُهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ الْوَاقِعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٢]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مَنْ يُبَدِّلُ الْوَصِيَّةَ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّبْدِيلِ أَنْ يُبَدِّلَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، أَمَّا إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ عَلَى طَرِيقِ الْإِصْلَاحِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فَذَكَرَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ أَوْجَبَ الْإِثْمَ فِي الْأَوَّلِ وَأَزَالَهُ عَنِ الثَّانِي بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا تَبْدِيلَيْنِ وَتَغْيِيرَيْنِ، لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي هَذَا الباب، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُوصٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ: وَصَّى وَأَوْصَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ فِي الْأُمُورِ، وَأَصْلُهُ الْعُدُولُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، يُقَالُ: جَنِفَ يَجْنَفُ بِكَسْرِ النُّونِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْخَوْفُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَالْوَصِيَّةُ وَقَعَتْ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِالْخَوْفِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْمُصْلِحَ إِذَا شَاهَدَ الْمُوصِيَ يُوصِي فَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ الَّذِي هُوَ الْمَيْلُ عَنْ طَرِيقَةِ الْحَقِّ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْجَهَالَةِ، أَوْ مَعَ التَّأْوِيلِ أَوْ شَاهَدَ مِنْهُ تَعَمُّدًا بِأَنْ يَزِيدَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ يَنْقُصَ الْمُسْتَحِقَّ حَقَّهُ، أَوْ يَعْدِلَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ، فَعِنْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ ذَلِكَ وَقَبْلَ تَحْقِيقِ الْوَصِيَّةِ يَأْخُذُ فِي الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْأَمْرِ عند ظهور أمارت فَسَادِهِ وَقَبْلَ تَقْرِيرِ فَسَادِهِ يَكُونُ أَسْهَلَ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ تَعَالَى بِالْخَوْفِ مِنْ دُونِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّ الْمُوصِيَ يَقُولُ وَقَدْ حَضَرَ الْوَصِيُّ وَالشَّاهِدُ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ، أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ لِلْأَبَاعِدِ دُونَ الْأَقَارِبِ وَأَنْ أَزِيدَ فُلَانًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْقُصَ فُلَانًا مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلزِّيَادَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ السَّامِعُ خائفا من جنف وَإِثْمٍ لَا قَاطِعًا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً فَعَلَّقَهُ بِالْخَوْفِ الَّذِي هُوَ الظَّنُّ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْعِلْمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ الْمُوصِي عَلَى تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بَلْ يَفْسَخُهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمِرَّ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا لَمْ يَمُتْ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ وَتَغْيِيرُهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِرِ الْجَنَفُ وَالْإِثْمُ مَعْلُومَيْنِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ فَسْخِهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهُ بِالْخَوْفِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَسْتَقِرَّ الْوَصِيَّةُ وَمَاتَ الْمُوصِي، فَمِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصِي لَهُمْ مُصَالَحَةٌ عَلَى وَجْهِ تَرْكِ الْمَيْلِ وَالْخَطَأِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُنْتَظَرًا لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْجَنَفِ وَالْإِثْمِ مَاضِيًا مُسْتَقِرًّا، فَصَحَّ أَنْ يُعَلِّقَهُ تَعَالَى بِالْخَوْفِ وَزَوَالِ الْيَقِينِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ يُمْكِنُ أَنْ تُذْكَرَ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ أَيْ فَمَنْ عَلِمَ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ ظَنٍّ مَخْصُوصٍ وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَبَيْنَ الظَّنِّ مُشَابَهَةٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَلِهَذَا صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا أَخْطَأَ فِي وَصِيَّتِهِ أَوْ جَارَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيَرُدَّهُ إِلَى الصَّلَاحِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَنَفَ هُوَ الْخَطَأُ وَالْإِثْمَ هُوَ الْعَمْدُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَطَأَ فِي حَقِّ/ الْغَيْرِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ إِبْطَالُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمْدِ فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَوَّى عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْمُصْلِحُ مَنْ هُوَ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الْوَصِيُّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الشَّاهِدُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَالٍ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ. فَكُلُّ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ فَمَا ذَلِكَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ؟
وَجَوَابُهُ: أَنْ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ مُوصٍ دَلَّ عَلَى مَنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فَصَلَحَ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَقَالَ الْقَائِلُونَ: الْمُرَادُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُوصِي فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْمُصْلِحُ يُصْلِحُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَالْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُوصِي إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ لَا يَدْخُلُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالرِّضَا صَارَ ذِكْرُهُ كَلَا ذِكْرٍ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِهِ إِلَى إِصْلَاحٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بيان كيفية هذا الإصلاح وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، فَنَقُولُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ كَانَ إِمَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ بِعُدُولٍ فَإِصْلَاحُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِإِزَالَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَرَدِّ كُلِّ حَقٍّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم هاهنا يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَاوِلُ مَنْعَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ، إِمَّا بِذِكْرِ إِقْرَارٍ، أَوْ بِالْتِزَامِ عَقْدٍ، فَهَهُنَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ لِلْأَبَاعِدِ وَفِي الْأَقَارِبِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمُصْلِحُ قَدْ أَتَى بِطَاعَةٍ عَظِيمَةٍ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ وَهُوَ/ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِثْمَ الْمُبَدِّلِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يَنْقُصُ الْوَصَايَا وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُوهِمُ فِيهِ إِثْمًا أَزَالَ الشُّبْهَةَ وَقَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: بَيَّنَ أَنَّ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَتَحَتَّمُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَتَى غَيَّرَ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ خَالَفَ الْوَصِيَّةَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي وَصَرْفٌ لِمَالِهِ عَمَّنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ كَرِهَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ الْقُبْحَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ وَيَخَافُ فِيهِ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُصْلِحِ فِي هَذَا الْجِنْسِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ فِي الْإِصْلَاحِ جَمِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشرع.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
الحكم السادس
اعْلَمْ أَنَّ الصِّيَامَ مَصْدَرُ صَامَ كَالْقِيَامِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّرْكُ لَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ/ لِلصَّمْتِ: صَوْمٌ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مَرْيَمَ: ٢٦] وَصَوْمُ النَّهَارِ إِذَا اعْتَدَلَ وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَعْهَا وَسَلِّ الهم عنها بحسرة | ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا |
حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ
وَصَامَتِ الرِّيحُ إِذَا رَكَدَتْ، وَصَامَ الْفَرَسُ إِذَا قَامَ عَلَى غَيْرِ اعْتِلَافٍ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ | تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا |
وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ
وَمَصَامُ الشَّمْسِ حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ مَصَامُ النَّجْمِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في فصامها | بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا التَّشْبِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَصْلِ إِيجَابِ الصَّوْمِ، يَعْنِي هَذِهِ الْعِبَادَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى عَهْدِكُمْ، مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنْ إِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَفْرِضُهَا عَلَيْكُمْ وَحْدَكُمْ وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ إِذَا عَمَّ سَهُلَ تحمله.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] يُفِيدُ نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ، فَهَذَا الْحُكْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا هَذَا التَّشْبِيهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْبِيهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَشْبِيهِ صَوْمِنَا بِصَوْمِهِمْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُمْ مُخْتَصًّا بِرَمَضَانَ، وَأَنْ يَكُونَ صَوْمُهُمْ مُقَدَّرًا بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِمَّا يُنَفِّرُ مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ إِذَا عَلِمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَوْنَهُ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَوْضِعِ كَما ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ مَوْضِعُ كَما نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فُرِضَ عَلَيْكُمْ فَرْضًا كَالَّذِي فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الصِّيَامِ يُرَادُ بِهَا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ مُشَبَّهًا وَمُمَثَّلًا بِمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كِتَابَةً كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَحُذِفَ الْمَصْدَرُ وَأُقِيمَ نَعْتُهُ مَقَامَهُ قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْحَذْفِ قَوْلُهُمْ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ، وَيُرِيدُونَ أَنْتِ ذَاتُ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ وَأُقِيمَ صِفَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ (لَعَلَّ) فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ يُورِثُ التَّقْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ الشَّهْوَةِ وَانْقِمَاعِ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَرْدَعُ عَنِ الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْفَوَاحِشِ ويهون لذات الدنيا ورئاستها، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَإِنَّمَا يَسْعَى النَّاسُ لِهَذَيْنِ، كَمَا قِيلَ فِي المثل السائر: المرء يسعى لعارية بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، فَمَنْ أَكْثَرَ الصَّوْمَ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذَيْنِ وَخَفَّتْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمُهَوِّنًا عَلَيْهِ أَمْرَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ التَّقْوَى فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَرَضْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ لِتَكُونُوا بِهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَثْنَيْتُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِي، وَأَعْلَمْتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هَدًى لَهُمْ وَلَمَّا اخْتُصَّ الصَّوْمُ بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِيجَابِهَا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مِنْهَا بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ وُجُوبِهِ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى يَنْبَغِي لَكُمْ بِالصَّوْمِ أَنْ يَقْوَى وِجَاؤُكُمْ فِي
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ أَيَّاماً أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فِي أَيَّامٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: نَوَيْتُ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ خَبْرُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِهِمْ: أُعْطِيَ زَيْدٌ مَالًا وَالثَّالِثُ: عَلَى التَّفْسِيرِ وَالرَّابِعُ: بِإِضْمَارٍ أَيْ فَصُومُوا أَيَّامًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا غَيْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ، وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، عَنْ قَتَادَةَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا ثُمَّ فُرِضَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ وَاجِبًا وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ،
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَبْلَ وُجُوبِ رَمَضَانَ كَانَ صَوْمًا آخَرَ وَاجِبًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُمَا أَيْضًا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّوْمُ هُوَ صَوْمَ رَمَضَانَ، لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، يَعْنِي: إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْفِدْيَةَ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ غَيْرَ صَوْمِ رَمَضَانَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ/ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ: شَهْرُ رَمَضَانَ قَالُوا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِيَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ وَأَيَّامٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَزَالَ بَعْضُ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُمْكِنُ جَعْلُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِعَيْنِهَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِثْبَاتِ النَّسْخِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ.
أَمَّا تَمَسُّكُهُمْ أَوَّلًا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ».
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ نَسَخَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ كُلَّ صَوْمٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسَخَ كُلَّ
سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ صَوْمًا ثَبَتَ فِي شَرْعِهِ، وَلَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِصِيَامٍ وَجَبَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا حُجَّتُهُمُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ لَوْ كَانَتْ هِيَ شَهْرَ رَمَضَانَ، لَكَانَ حُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مُكَرَّرًا.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَرُخِّصَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرُ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ دُونَ الْقَضَاءِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُفَارِقُ بِهَا الْمُقِيمَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعِيدًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِفْطَارَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فِي الْحُكْمِ خِلَافُ التَّخْيِيرِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَأَلْزَمَهُ بِالصَّوْمِ حَتْمًا، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ حُكْمَ الصَّوْمِ لَمَّا انْتَقَلَ عَنِ التَّخْيِيرِ إِلَى التَّضْيِيقِ حُكْمٌ يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى يَكُونَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الصَّوْمِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ثَابِتٌ فِي رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَحَالِهَا أَوَّلًا، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ حُكْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، لَا لِأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ سِوَى شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا حُجَّتُهُمُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ مُعَيَّنٌ.
فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ صَارَ مُعَيَّنًا، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ/ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] نَاسِخًا لِلتَّخْيِيرِ مَعَ اتِّصَالِهِ بِالْمَنْسُوخِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الِاتِّصَالَ فِي التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ الِاتِّصَالَ فِي النُّزُولِ وَهَذَا كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي التِّلَاوَةِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ وَهَذَا ضِدُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التِّلَاوَةِ أَمَّا فِي الْإِنْزَالِ فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ فَصَحَّ كَوْنُهَا نَاسِخَةً وَكَذَلِكَ نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَكِّيَّةً مُتَأَخِّرَةً في التلاوة عن الآية المدينة وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: مَعْدُوداتٍ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُقَدَّرَاتٍ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ وَثَانِيهِمَا: قَلَائِلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يُوسُفَ: ٢٠] وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَالَ الْقَلِيلَ يُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ وَيُحْتَاطُ فِي مَعْرِفَةِ تَقْدِيرِهِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَإِنَّهُ يُصَبُّ صَبًّا وَيُحْثَى وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: إِنِّي رَحِمْتُكُمْ وَخَفَّفْتُ عَنْكُمْ حِينَ لَمْ أَفْرِضْ عَلَيْكُمْ صِيَامَ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَلَا صِيَامَ أَكْثَرِهِ، وَلَوْ شِئْتُ لَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي رَحِمْتُكُمْ وَمَا أَوْجَبْتُ الصَّوْمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْأَصِحَّاءَ الْمُقِيمِينَ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَهُ تَأْخِيرُ الصَّوْمِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى أَيَّامٍ أُخَرَ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: انْظُرُوا إِلَى عَجِيبِ مَا نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أُسْوَةً بِالْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأُمُورَ الشَّاقَّةَ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ، ثُمَّ ثَانِيًا بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ التَّقْوَى، فَلَوْ لَمْ يَفْرِضِ الصَّوْمَ لَفَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الشَّرِيفُ، ثُمَّ ثَالِثًا: بَيَّنَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ أَبَدًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ بَيَّنَ رَابِعًا: أَنَّهُ خَصَّهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِالشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الشُّهُورِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ خَامِسًا: إِزَالَةَ الْمَشَقَّةِ فِي إِلْزَامِهِ فَأَبَاحَ تَأْخِيرَهُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَرْضَى إِلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالسُّكُونِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَاعَى فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ هَذِهِ/ الْوُجُوهَ مِنَ الرَّحْمَةِ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ كَثِيرًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً إِلَى قَوْلِهِ: أُخَرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ، وَإِذَا قَدَّرْتَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانَ الِاسْتِقْبَالَ لَا الْمَاضِيَ، كَمَا تَقُولُ: مَنْ أَتَانِي أَتَيْتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْحَيِّ بِالْحَالَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصُدُورِ أَفْعَالِهِ سَلِيمَةً سَلَامَةً تَلِيقُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَيَّ مَرِيضٍ كَانَ، وَأَيَّ مُسَافِرٍ كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ تَنْزِيلًا لِلَفْظِهِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَقَلِّ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، يُرْوَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَاعْتَلَّ بِوَجَعِ أُصْبُعِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَرِيضِ الَّذِي لَوْ صَامَ لَوَقَعَ فِي مَشَقَّةٍ وَجُهْدٍ، وَبِالْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَرَضَ الْمُبِيحَ لِلْفِطْرِ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرِ النَّفْسِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْعِلَّةِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْفِعْلِ بَيْنَ مَا يُخَافُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَا يُخَافُ مِنْهُ كَالْمَحْمُومِ إِذَا خَافَ أَنَّهُ لَوْ صَامَ تَشْتَدُّ حُمَّاهُ، وَصَاحِبُ وَجَعِ الْعَيْنِ يَخَافُ إِنْ صَامَ أَنْ يَشْتَدَّ وَجَعُ عَيْنِهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَرَضٍ مُرَخِّصٍ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِي الْأَمْرَاضِ مَا يَنْقُصُهُ الصَّوْمُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ مِنْهُ مَا يُؤَثِّرُ الصَّوْمُ فِي تَقْوِيَتِهِ، ثُمَّ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ فِيمَنْ لَيْسَ بِمَرِيضٍ أَيْضًا، فَإِذَنْ يَجِبُ فِي تَأْثِيرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّفَرِ مِنَ الْكَشْفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالْمِسْفَرَةُ الْمِكْنَسَةُ، لِأَنَّهَا تُسْفِرُ التُّرَابَ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّفِيرُ الدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلصُّلْحِ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ الْمَكْرُوهَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِمَا، وَالْمُسْفِرُ الْمُضِيءُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ وَالسِّفْرُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنِ الْمَعَانِي
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ: وَهُوَ مَا
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ،
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَكُلُّ بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ فَيَكُونُ مَجْمُوعُهُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّ عَطَاءً قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إِلَى عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: لَا.
فَقَالَ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ؟ فَقَالَ: لَا. وَلَكِنِ اقْصُرْ إِلَى جُدَّةَ وَعُسْفَانَ وَالطَّائِفِ، قَالَ مَالِكٌ: بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَعُسْفَانَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ:
١٨٥] يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ عَدَلْنَا عَنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِسَبَبِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُرَخِّصٌ، وَالْأَقَلُّ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ الصَّوْمِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ»
دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى تَتَقَدَّرَ مُدَّةُ السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ السَّفَرَ عِلَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَجَعَلَ هَذَا الْمَسْحَ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ فَإِنْ رَجَّحُوا جَانِبَهُمْ بِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْلَى، رَجَّحْنَا جَانِبَنَا بِأَنَّ التَّخْفِيفَ فِي رُخَصِ السَّفَرِ مَطْلُوبُ الشَّرْعِ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا مِنْهُ صَدَقَتَهُ»
وَالتَّرْجِيحُ لِهَذَا الْجَانِبِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً»
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْإِقَامَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ سَاعَةً صَارَ مُقِيمًا فَكَذَا
قَوْلُهُ: «وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»
لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَحْصُلَ السَّفَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: رِعَايَةُ اللَّفْظِ تَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا وَلَمْ يَقُلْ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعِدَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْعَدِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ النَّاسِ عِدَّةٌ وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَعِدَّةٌ عَلَى التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَقُلْ فَعِدَّتُهَا أَيْ فَعِدَّةُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ.
قُلْنَا: لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ فَأَمَرَ بِأَنْ يَصُومَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً مَكَانَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَعِدَّةٌ قُرِئَتْ مَرْفُوعَةً وَمَنْصُوبَةً، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى مَعْنَى فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَأَمَّا إِضْمَارُ «عَلَيْهِ» فَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْفَاءِ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى مَعْنَى: فَلْيَصُمْ عِدَّةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَا وَيَصُومَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِعْلَامِ التَّنْزِيلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ فَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْقُرْآنُ فمن وجهين الأول: أنا إن قرأنا فعدة بِالنَّصْبِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَهَذَا لِلْإِيجَابِ، وَلَوْ أَنَّا قَرَأْنَا بِالرَّفْعِ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِيجَابَ صَوْمِ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاجِبًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَمْعِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهَا يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ يُسْرٌ إِلَّا أَنَّهُ أُذِنَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عُسْرٌ إِلَّا كَوْنَهُمَا صَائِمَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مِنْكُمُ الْإِفْطَارَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكُمُ الصَّوْمَ فَذَلِكَ تَقْرِيرُ قَوْلِنَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَاثْنَانِ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
لَا يُقَالُ هَذَا الْخَبَرُ وَارِدٌ عَنْ سَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ تَحْتَ مِظَلَّةٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا صَائِمٌ أَجْهَدَهُ الْعَطَشُ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»
لِأَنَّا نَقُولُ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّائِمُ فِي/ السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ».
أَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: فَهِيَ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِضْمَارًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي كَلَامِ اللَّهِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ على وقوعه هاهنا أَمَّا بَيَانُ الْجَوَازِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: ٦٠] وَالتَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا
إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: ١٩٦] أي فلحق فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضْمَارَ جَائِزٌ، أَمَّا إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ فَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا ضَعِيفٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا أَجْرَيْنَا ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] عَلَى الْعُمُومِ لَزِمَنَا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ كَانَ تَحَمُّلُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَصُمْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَيْنًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّهِمَا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ أَجْرَيْنَا قَوْلَهَ تَعَالَى فَعَلَيْهِ: عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ، فَقَالَ: الْقَضَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ الْقَضَاءَ وَالْقَضَاءُ مَسْبُوقٌ بِالْفِطْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْإِفْطَارِ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَلْ قَالَ: فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْإِفْطَارِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَصُومُ عَلَى السَّفَرِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صُمْ إِنْ شِئْتَ وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ»
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، فَرَفْعُ هَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ جَائِزٍ إِذَا ثَبَتَ ضَعْفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَالِاعْتِمَادُ فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الصَّوْمَ جَائِزٌ فَرْعَانِ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ أَمِ الْفِطْرَ؟ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الصَّوْمُ أَفْضَلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ الْفِطْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهُمَا عَلَى الْمَرْءِ.
حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْطَارُ أَفْضَلَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى مَشْغُولَةً بِقَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ إِذَا قَصَرَهَا وَالثَّانِي: أَنَّ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ تَفُوتُ بِالْفِطْرِ وَلَا تَفُوتُ بِالْقَصْرِ.
حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ صَامَ وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ أَفْطَرَ.
التَّتَابُعُ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ فَرَّقَ جَازَ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ نَظِيرُ الْأَدَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْأَدَاءُ مُتَتَابِعًا، فَكَذَا الْقَضَاءُ.
حُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِصَوْمِ أَيَّامٍ عَلَى عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالتَّتَابُعِ مُخَالِفًا لِهَذَا التَّعْمِيمِ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ فِي فِطْرِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْكُمْ فِي قَضَائِهِ، إِنْ شِئْتَ فَوَاتِرْ وَإِنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَيَجْزِينِي أَنْ أَقْضِيَهَا مُتَفَرِّقًا فَقَالَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَمَا كَانَ يَجْزِيكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أُخَرَ لَا يَنْصَرِفُ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ سَبَبَانِ الْجَمْعُ وَالْعَدْلُ أَمَّا الْجَمْعُ فَلِأَنَّهَا جَمْعُ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّهَا جَمْعُ أُخْرَى، وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ، وَآخَرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَعَ «مِنْ» أَوْ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، يُقَالُ: زِيدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ الْأَفْضَلُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ رَجُلٌ آخَرُ من زيد كما تقول قدم أمن عَمْرٍو، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا لَفْظَ «مِنْ» لِأَنَّ لَفْظَهُ اقْتَضَى مَعْنَى «مِنْ» فَأَسْقَطُوا «مِنْ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُنَافِيَانِ «مِنْ» فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ صَارَ أُخَرُ وَآخَرُ وَأُخْرَى مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ اسْتُعْمِلَتَا فِيهَا ثُمَّ حَذَفَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ يُطِيقُونَهُ وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَطَاءٌ يُطِيقُونَهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَ: / ابْنُ جِنِّي: أَمَّا عَيْنُ الطَّاقَةِ فَوَاوٌ كَقَوْلِهِمْ: لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا طَوْقَ لِي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: يُجَشَّمُونَهُ.
أَيْ يُكَلَّفُونَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمَا مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ وَمِنْهُمَا مَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَهُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ، فَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمُسَافِرِ حَالَتَيْنِ فِي إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُفْطِرَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهِيَ حَالُ الْجُهْدِ الشَّدِيدِ لَوْ صَامَ وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُطِيقًا لِلصَّوْمِ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الْفِدْيَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ فَخَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بَيْنَ هَذَيْنِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَيْهِ مُضَيِّقًا مُعَيِّنًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَعَلَى الَّذِينَ يُجَشَّمُونَهُ وَيُكَلَّفُونَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرَمُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً،
يُرْوَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ يُفْطِرُ وَلَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشَّيْخَ الْهَرَمَ وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خافتا على نفسهما وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا فَقَالَ: فَأَيُّ مَرَضٍ أَشَدُّ مِنَ الْحَمْلِ تُفْطِرُ وَتَقْضِي.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرَمَ إِذَا أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، أَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا فَهَلْ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيْهِمَا الفدية، فقال أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهَ:
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ والمرض، وَأَيْضًا الْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ/ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً أَيْضًا عَلَيْهِمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْهَرَمُ لَا يُمْكِنُ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، أَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ عَلَيْهِمَا أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ، فَهَذَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصَمِّ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرَضَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرَضُ الذي يكون في الغاية، وَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُهُ، أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ مَا يُسَمَّى مَرَضًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَاتِ لَهَا مَرَاتِبٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إِلَى مَا تَحْتَهَا قَوِيَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ مَعَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ هُوَ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى صَيْرُورَةِ الْآيَةِ مُجْمَلَةً.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَوَّلُ الْآيَةِ دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَحْوَالَ الْمَعْذُورِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَعْذُورُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطِيقُهُ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِحُكْمِ الْقِسْمِ الثَّانِي.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِلْقَادِرِ الْقَوِيِّ: إِنَّهُ يُطِيقُ هَذَا الْفِعْلَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عَلَى أَقْوَالِكُمْ لَا بُدَّ مِنْ إِيقَاعِ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى قَوْلِنَا لَا يَجِبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَاسِخَهَا آيَةُ شُهُودِ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ تِلْكَ الْآيَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِهَذَا لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ أَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، وَرَفَعَ وَجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، فَكَانَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْيُسْرِ وَإِثْبَاتًا لِلْعُسْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَسَادِ قَوْلِ الْأَصَمِّ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْأَصَمِّ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ هُمَا اللَّذَانِ لَا يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمُ الْبَتَّةَ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمَ، فَكَانَتِ الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةً فَثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصَمُّ لَيْسَ بِضَعِيفٍ، أَمَّا إِذَا وَافَقْنَا الْجُمْهُورَ وَسَلَّمْنَا فَسَادَهُ بَقِيَ الْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرَمُ لَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَوْ تَحَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشَقَّ كَانَتْ أَكْثَرَ ثَوَابًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِدْيَةُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ طَعَامِ بِالْكَسْرِ مُضَافًا إِلَيْهِ مَسَاكِينَ جَمْعًا، وَالْبَاقُونَ فِدْيَةٌ مُنَوَّنَةٌ طَعامُ بِالرَّفْعِ مِسْكِينٍ مَخْفُوضٌ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَفِيهَا بَحْثَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا مَعْنَى إِضَافَةُ فِدْيَةٍ إِلَى طَعَامٍ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَهَا ذَاتٌ وَصِفَتُهَا أَنَّهَا طَعَامٌ، فَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَمْقَاءِ وَالثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفِدْيَةُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَالطَّعَامُ اسْمٌ يَعُمُّ الْفِدْيَةَ وَغَيْرَهَا، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنَ الْإِضَافَةِ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى «مِنْ» كَقَوْلِكَ: ثَوْبُ خَزٍّ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ، وَالْمَعْنَى: ثَوْبٌ مِنْ خَزٍّ وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فكذا هاهنا التَّقْدِيرُ: فِدْيَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَأُضِيفَتِ الْفِدْيَةُ إِلَى الطَّعَامِ مَعَ أَنَّكَ تُطْلِقُ عَلَى الْفِدْيَةِ اسْمَ الطَّعَامِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمَعُوا الْمَسَاكِينَ لِأَنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ جَمَاعَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ مِسْكِينٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ فِدْيَةٌ بِالتَّنْوِينِ فَجَعَلُوا مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرًا لَهُ وَوَحَّدُوا الْمِسْكِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِدْيَةُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْبَدَلِ الْقَائِمِ عَلَى الشَّيْءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُدَّانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الفعل
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضمير عائد إِلَى الْفِدْيَةِ؟
قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ مُذَكَّرٌ وَالْفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا قُلْنَا: كَانَتْ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْحَقَائِقُ لَا تَتَغَيَّرُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا أَوْ أَكْثَرَ وَالثَّانِي:
أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ أَكْثَرَ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَالثَّالِثُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ صَامَ مَعَ الْفِدْيَةِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَقَطْ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَنْ تَصُومُوا أَيُّهَا الْمُطِيقُونَ أَوِ الْمُطَوَّقُونَ وَتَحَمَّلْتُمُ الْمَشَقَّةَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، أَعْنِي الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ وَالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّصَالِهِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخْتَصًّا بِهِمْ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَلَا مُنَافَاةَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَعِنْدَ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عَطْفًا عَلَيْهِ عَلَى أَوَّلِ الْآيَةِ فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا صِدْقَ قَوْلِنَا وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ الثَّانِي: أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِهَا وَالتَّقْدِيرُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِي الصَّوْمِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُوَرِّثَةِ لِلتَّقْوَى وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] فَذَكَرَ الْعِلْمَ وَالْمُرَادُ الْخَشْيَةُ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ يُرَاعِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي فِعْلِ الصَّوْمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اللَّهَ حَتَّى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّهْرَةِ يُقَالُ، شَهَرَ الشَّيْءُ يَشْهَرُ شُهْرَةً وَشَهْرًا إِذَا ظَهَرَ، وَسُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاجَاتِ النَّاسِ مَاسَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِسَبَبِ أَوْقَاتِ دُيُونِهِمْ، وَقَضَاءِ نُسُكِهِمْ في صومهم
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي رَمَضَانَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: شَهْرُ رَمَضَانَ أَيْ شَهْرُ اللَّهِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى».
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا نُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَطَرٌ يَأْتِي قَبْلَ الْخَرِيفِ يُطَهِّرُ وَجْهَ الْأَرْضِ عَنِ الْغُبَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَمَا يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَطَرُ وَجْهَ الْأَرْضِ وَيُطَهِّرُهَا فَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ يَغْسِلُ أَبْدَانَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُطَهِّرُ قُلُوبَهُمْ الثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمَضِ وَهُوَ حَرُّ الْحِجَارَةِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ، وَالِاسْمُ الرَّمْضَاءُ، فَسُمِّيَ هَذَا الشَّهْرُ بِهَذَا الِاسْمِ إِمَّا لِارْتِمَاضِهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنْ حَرِّ الْجُوعِ أَوْ مُقَاسَاةِ شِدَّتِهِ، كَمَا سَمُّوهُ تَابِعًا لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُهُمْ أَيْ يُزْعِجُهُمْ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْرُ أَيَّامَ رَمَضِ الْحَرِّ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ أَيْ يَحْرِقُهَا،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ»
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ:
رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمِضُهُ رَمْضًا إِذَا دَفَعْتَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَرِقَّ، وَنَصْلٌ رَمِيضٌ وَمَرْمُوضٌ، فَسُمِّيَ هَذَا الشَّهْرُ: رَمَضَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمِضُونَ فِيهِ أَسْلِحَتَهُمْ لِيَقْضُوا مِنْهَا أَوْطَارَهُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنِ الْأَزْهَرِيِّ الرَّابِعُ: لَوْ صَحَّ قَوْلُهُمْ: إِنَّ رَمَضَانَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الشَّهْرُ أَيْضًا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تَتَلَاشَى فِي جَنْبِ رَحْمَةِ اللَّهِ حَتَّى كَأَنَّهَا احْتَرَقَتْ، وَهَذَا الشَّهْرُ أَيْضًا رَمَضَانُ بِمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تَحْتَرِقُ في جنب بركته.
المسألة الثالثة: قرى شَهْرُ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ ارْتَفَعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَّاماً كَأَنَّهُ قِيلَ: هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ/ قَوْلَهُ: شَهْرُ رَمَضانَ تَفْسِيرٌ لِلْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَتَبْيِينٌ لَهَا الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] قِيلَ فِيمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الصِّيَامِ شَهْرُ رَمَضَانَ أَيْ صِيَامُهُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ الَّذِي مَعَ صِلَتِهِ كَقَوْلِهِ زَيْدٌ الَّذِي فِي الدَّارِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي وَصْفًا لِيَكُونَ لَفْظُ الْقُرْآنِ نَصًّا فِي الْأَمْرِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، لِأَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَهُ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ شَهْرُ رَمَضَانَ مَنْصُوصًا عَلَى صَوْمِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِنَّمَا يَكُونُ مُخْبَرًا عَنْهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَأَيْضًا إِذَا جَعَلْتَ الَّذِي وَصْفًا كَانَ حَقُّ النَّظْمِ أَنْ يُكَنَّى عَنِ الشَّهْرِ لَا أَنْ يَظْهَرَ كَقَوْلِكَ. شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَفِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ:
صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَثَانِيهَا: عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولُ وَأَنْ تَصُومُوا وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ النَّظْمُ: وأن تصوموا رمضان الذين أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْكَلَامِ الْكَثِيرِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ جَارِيَانِ مَجْرَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَإِيقَاعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ هَذَا الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ بَيَّنَ الْعِلَّةَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّهُ بِأَعْظَمِ آيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِنَوْعٍ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى مَلَكُوتِ السموات»
فَثَبَتَ أَنَّ بَيْنَ الصَّوْمِ وَبَيْنَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَاسِبَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشَّهْرُ مُخْتَصًّا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالصَّوْمِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَسْرَارٌ كَثِيرَةٌ وَالْقَدْرُ الَّذِي أشرنا إليه كاف هاهنا، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نزل صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَ والقرآن لأربع وعشرين»
وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُفْعَةً، وَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُنَجَّمًا مُبَعَّضًا، وَكَمَا نَزَلَ بَعْضُهُ فِي رَمَضَانَ نَزَلَ بَعْضُهُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصُ إِنْزَالِهِ بِرَمَضَانَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا، وَإِنَّمَا جَرَتِ الْحَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا عَلِمَهُ تَعَالَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ فِي إِنْزَالِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَوَقُّعِ الْوَحْيِ مِنْ أَقْرَبِ الْجِهَاتِ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِنْزَالِهِ وَتَأْدِيَتِهِ، أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا فَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ:
٣٢].
الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَبَادِئَ الْمِلَلِ وَالدُّوَلِ هِيَ الَّتِي يُؤَرَّخُ بِهَا لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الْأَوْقَاتِ وَلِأَنَّهَا أَيْضًا أَوْقَاتٌ مَضْبُوطَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تحمل شيء من المجاز وهاهنا يُحْتَاجُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنْ حَمْلِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَقْسَامِهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: ٣].
وَالْجَوَابُ: رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِذَا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ كَانَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إنزالا له فِي رَمَضَانَ، وَهَذَا كَمَنْ يَقُولُ: لَقِيتُ فُلَانًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَيُقَالُ لَهُ. فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْهُ فَيَقُولُ يَوْمَ كَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تفسيرا للكلام الأول فكذا هاهنا.
إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ يُنْزِلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتَهُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا دَامَ فَأَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ.
الْجَوَابُ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الشَّخْصَ، وَهُوَ رَمَضَانُ مُعَيَّنٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّوْعَ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلًا صَالِحًا وَجَبَ التَّوَقُّفُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ مَعْنَاهُ أُنْزِلَ فِي فَضْلِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: وَمِثْلُهُ أَنْ يُقَالَ: أُنْزِلَ فِي الصِّدِّيقِ كَذَا/ آيَةً: يُرِيدُونَ فِي فَضْلِهِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أُنْزِلَ فِي إِيجَابِ صَوْمِهِ عَلَى الخلق القرآن، كأن يَقُولُ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا يُرِيدُ فِي إِيجَابِهَا وَأَنْزَلَ فِي الْخَمْرِ كَذَا يُرِيدُ فِي تَحْرِيمِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ، فَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ قَرَأْتُ وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَ وَيُهْمَزُ قِرَاءَةً وَلَا يُهْمَزُ الْقُرْآنُ كَمَا يَقُولُ:
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الْإِسْرَاءِ: ٤٥] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ يُشْبِهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَهْمِزُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْمِزُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَلَهُمْ فِيهِ اشْتِقَاقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا ضَمَمْتَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنَ وَالِاسْمُ قُرَانٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، فَسُمِّيَ الْقُرَانُ قُرَانًا إِمَّا لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ السُّورِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ يَقْتَرِنُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَعْنِي اشْتِمَالَهُ عَلَى جِهَاتِ الْفَصَاحَةِ وَعَلَى الْأُسْلُوبِ الْغَرِيبِ، وَعَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَعَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنَ وَالِاسْمُ قُرَانٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَثَانِيهُمَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَظُنُّ أَنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] فَهِيَ قَرَائِنُ، وَأَمَّا الَّذِينَ هَمَزُوا فَلَهُمْ وُجُوهٌ أَحُدُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرُ القراءة يقال: قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وَقِرَاءَةً وَقُرْآنًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِثْلُ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَادِرِ: الرُّجْحَانُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ وَالْغُفْرَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَحُّوا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ | يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا |
هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا
أَيْ لَمْ تَجْمَعْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا، وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ: قُرْءُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ أَيَّامُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي رَحِمِهَا، فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ وَيَضُمُّهَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُ قُطْرُبٍ وَهُوَ أَنَّهُ سُمِّيَ قُرْآنًا، لِأَنَّ الْقَارِئَ يَكْتُبُهُ، وَعِنْدَ الْقِرَاءَةِ كَأَنَّهُ يُلْقِيهِ مِنْ فِيهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ سَلًى قَطُّ، أَيْ مَا رَمَتْ بِوَلَدٍ وَمَا أَسْقَطَتْ وَلَدًا قَطُّ وَمَا طَرَحَتْ، وَسُمِّيَ الْحَيْضُ، قرأ لِهَذَا التَّأْوِيلِ، فَالْقُرْآنُ/ يَلْفِظُهُ الْقَارِئُ مِنْ فِيهِ وَيُلْقِيهِ فَسُمِّيَ قُرْآنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَةِ: ٢٣] أَنَّ التَّنْزِيلَ مُخْتَصٌّ بِالنُّزُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَالْإِنْزَالُ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ:
لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ هاهنا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ دُونَ التَّنْزِيلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِحٌ عَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢].
وَالسُّؤَالُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ فِي تلك الآية هدى للمتقين، وهاهنا جَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ، فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أُنْزِلَ وَهُوَ هِدَايَةٌ لِلنَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ مَكْشُوفَاتٌ مِمَّا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ هُدًى، ثُمَّ الْهُدَى عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ كَوْنُهُ هُدًى لِلنَّاسِ بَيِّنًا جَلِيًّا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ هُدًى لِأَنَّهُ هُوَ الْبَيِّنُ مِنَ الْهُدَى، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ مَا يُذْكَرُ الْجِنْسُ وَيُعْطَفُ نَوْعُهُ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا هُدًى، وَهَذَا بَيِّنٌ مَنِ الْهُدَى، وَهَذَا بَيِّنَاتٌ مِنَ الْهُدَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْمُبَالَغَاتِ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ هَدًى فِي نَفْسِهِ، وَمَعَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا بَيِّنَاتٌ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آلِ عمران: ٣ و ٤] وَقَالَ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٥٣] وَقَالَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٨] فَبَيَّنَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَعَ كَوْنِهِ هُدًى فِي نَفْسِهِ فَفِيهِ أَيْضًا هُدًى مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ هُدًى وَفُرْقَانٌ الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَالْهُدَى الثَّانِي عَلَى فُرُوعِ الدِّينِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ التَّكْرَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ زَائِدَةٌ، قَالَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاءَ قَدْ تَدْخُلُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْجَزَاءِ/ أَوْ تَكُونُ زَائِدَةً، وَلَيْسَ للعطف والجزاء هاهنا وَجْهٌ، وَمِنْ زِيَادَةِ الْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ [الْجُمُعَةِ: ٨].
وَأَقُولُ يمكن أن يقال الفاء هاهنا لِلْجَزَاءِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَ رَمَضَانَ مُخْتَصًّا بِالْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ سَائِرُ الشُّهُورِ فِيهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِتِلْكَ الْفَضِيلَةِ يُنَاسِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وَجْهٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا عُلِمَ اخْتِصَاصُ هَذَا الشَّهْرِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ فَأَنْتُمْ أَيْضًا خُصُّوهُ بِهَذِهِ العبادة، أما قوله تعالى: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ الْفَاءُ فِيهِ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَأَيْضًا بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الضِّدِّ بِالضِّدِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: لما فروا من الموت فجزائهم أَنْ يَقْرُبَ الْمَوْتُ مِنْهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يُغْنِي الْحَذَرُ عَنِ الْقَدَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَهِدَ أي حضر والشهود الحضور، ثم هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَفْعُولَ شَهِدَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْبَلَدَ أَوْ بَيْتَهُ بِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَقَوْلُهُ: الشَّهْرَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَفْعُولُ شَهِدَ هُوَ الشَّهْرَ وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ بِعَقْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَلْيَصُمْهُ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ:
شَهِدْتُ عَصْرَ فُلَانٍ، وَأَدْرَكْتُ زَمَانَ فُلَانٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ بِإِضْمَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَيُوجِبُ دُخُولَ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شُهُودَ الشَّهْرِ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمُ الصَّوْمُ إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا فِي أصول الفقه أنه متى أنه وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَمَّا الْتَزَمْنَا الْإِضْمَارَ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ الْتِزَامِ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْمَرِيضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَهِدَ الشَّهْرَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ بَلِ الْمُسَافِرُ لَا يَدْخُلُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ فِيهِ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا مَعَ الْتِزَامِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَتَمَشَّى بِمُجَرَّدِ الْتِزَامِ التَّخْصِيصِ فَكَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى هَذَا مَا عِنْدِي فِيهِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ كَالْوَاحِدِيِّ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ذَهَبُوا إِلَى الْأَوَّلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ [النُّورِ: ١٣] أَيْ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ فَالشَّرْطُ هُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ وَمَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ بِتَمَامِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَشُهُودُ الشَّهْرِ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْجَزَاءِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ شُهُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ/ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُنْقَضِي وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَلِهَذَا الدَّلِيلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الشَّهْرِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فِي جانب الشرط فيصير تقريره: من شهد جزأ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ كُلَّ الشَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا: مَنْ شَهِدَ هِلَالَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ آخِرَ الشَّهْرِ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ
نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّهْرُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَصُومَ الْكُلَّ،
لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ الشَّهْرِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَقُولُونَ: أن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ كُلَّهُ إِلَّا أَنَّهُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْمُسَافِرُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ شهوة الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْإِفْطَارُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَعَمَ أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءَ مَا مَضَى، قَالَ: لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أدرك جزأ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صَوْمُ كُلِّ رَمَضَانَ وَالْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَقَدْ شَهِدَ جزأ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ صَوْمُ كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صِيَامُ مَا تَقَدَّمَ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يَسْتَدْعِي بَحْثَيْنِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ شُهُودَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ: إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ وَإِمَّا بِالسَّمَاعِ، أَمَّا الرُّؤْيَةُ فَنَقُولُ: إِذَا رَأَى إِنْسَانٌ هِلَالَ رَمَضَانَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَا فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَا يَرُدَّهَا، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِالرُّؤْيَةِ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ، لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ شُهُودُ الشَّهْرِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَأَمَّا إِنِ انْفَرَدَ بِالرُّؤْيَةِ وَقَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا كَلَامَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا السَّمَاعُ فَنَقُولُ إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ حُكِمَ بِهِ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ جَمِيعًا، وَإِذَا شَهِدَ عَدْلٌ وَاحِدٌ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُحْكَمُ بِهِ وَإِذَا شَهِدَ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ/ يُحْكَمُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الصَّوْمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هِلَالِ شَوَّالٍ أَنَّ هِلَالَ رَمَضَانَ لِلدُّخُولِ فِي الْعِبَادَةِ وَهِلَالَ شَوَّالٍ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ الْعِبَادَةِ يُقْبَلُ، أَمَّا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْعِبَادَةِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الِاثْنَيْنِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّا إِنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ لِكَيْ يَصُومُوا وَلَا يُفْطِرُوا احْتِيَاطًا فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِكَيْ يَصُومُوا وَلَا يُفْطِرُوا احْتِيَاطًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي فِي الصَّوْمِ: فَنَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى حِينِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مَعَ النِّيَّةِ وَفِي الْحَدِّ قُيُودٌ:
الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: الْإِمْسَاكُ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَوْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ إِلَى حَلْقِهِ، أَوْ وَصَلَ غُبَارُ الطَّرِيقِ إِلَى بَطْنِهِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ شَاقٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي آيَةِ الصَّوْمِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
وَالثَّانِي: لَوْ صُبَّ الطَّعَامُ أَوِ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ كَرْهًا أَوْ حَالَ نَوْمٍ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالِامْتِنَاعُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ.
الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُنَا عَنِ الْمُفْطِرَاتِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: دُخُولُ دَاخِلٍ، وَخُرُوجُ خَارِجٍ، وَالْجِمَاعُ، وَحَدُّ الدُّخُولِ كُلُّ عَيْنٍ وَصَلَ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْبَاطِنِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ إِلَى الْبَاطِنِ إِمَّا الدِّمَاغِ أَوِ الْبَطْنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْمَثَانَةِ، أَمَّا الدِّمَاغُ فَيَحْصُلُ الْفِطْرُ بِالسَّعُوطِ وَأَمَّا الْبَطْنُ فَيَحْصُلُ الْفِطْرُ بِالْحُقْنَةِ وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَالْقَيْءُ بِالِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِمْنَاءُ يُبْطِلَانِ الصَّوْمَ، وَأَمَّا الْجِمَاعُ فَالْإِيلَاجُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ.
الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُنَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِمًا فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَبْطُلُ.
الْقَيْدُ الرَّابِعُ: قَوْلُنَا مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَكَلِمَةُ «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَكَانَ الْأَعْمَشُ يَقُولُ: أَوَّلُ وَقْتِهِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ يُبِيحُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ انْتِهَاءَ الْيَوْمِ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَذَا ابْتِدَاؤُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ طُلُوعِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إِنَّكَ لَثَقِيلٌ عَلَى قَلْبِي وَأَنْتَ فِي بَيْتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا زُرْتَنِي! فَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قِيلَ لَهُ: لِمَ سَكَتَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ مَا صَامَ وَمَا صَلَّى فِي دَهْرِهِ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَعْدَ الْفَجْرِ الثَّانِي قَبْلَ الشَّمْسِ فَلَا صَوْمَ لَهُ وَكَانَ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْإِنْزَالِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ.
الْقَيْدُ الْخَامِسُ: قَوْلُنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَدَلِيلُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الْإِفْطَارِ عِنْدَ غُرُوبِ ضَوْءِ/ الشَّمْسِ، قَاسَ هَذَا الطَّرَفَ عَلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ.
الْقَيْدُ السَّادِسُ: قَوْلُنَا مَعَ النِّيَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا حَاجَةَ لِصَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقَدْ وُجِدَ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لَكُنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَمَلٌ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّوْمُ»
وَالْعَمَلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النِّيَّةِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقِيمَ الصَّحِيحَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الْفِدْيَةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهَا وأبو مسلم الأصفهاني والأصم ينكرون ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ جَائِزٌ، لِأَنَّ إِيجَابَ الصَّوْمِ عَلَى التَّعْيِينِ أَثْقَلُ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي التَّكْرِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الكلام إنما يحسن ذكره هاهنا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيُسْرُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ السُّهُولَةُ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْغِنَى وَالسَّعَةِ الْيَسَارُ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ بِهِ الْأُمُورُ وَالْيَدُ الْيُسْرَى قِيلَ تَلِي الْفِعَالَ بِالْيُسْرِ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَتَسَهَّلُ الْأَمْرُ بِمَعُونَتِهَا الْيُمْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ مَا تَيَسَّرَ دُونَ مَا تَعَسَّرَ فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْيُسْرَ وَالْعُسْرَ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ قَدْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فَنَصْرِفُهُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّوْمِ حَتَّى أَجْهَدَهُ، لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ مَا لَا يُرِيدُهُ الله منه إذا كَانَ لَا يُرِيدُ الْعُسْرَ الْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا فِيهِ عُسْرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُرِيدُ مِنْهُ الْعُسْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْأَمْرَ قَدْ يَثْبُتُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ فَلَوْ أَرَادَ بِهِمْ أَنْ يَكْفُرُوا فَيَصِيرُوا إِلَى النَّارِ، وَخَلَقَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ لَائِقًا بِهِ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ/ بِكُمُ الْعُسْرَ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْعِلْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ:
أَكْمَلْتُ وَكَمَّلْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عَلَى مَاذَا عَلَّقَ؟
جَوَابُنَا: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ:
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، فِعْلُ جُمْلَةِ لما ذُكِرَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِصَوْمِ الْعِدَّةِ، وَتَعْلِيمُ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالرُّخْصَةُ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ ذَكَرَ عَقِيبَهَا أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً، فَقَوْلُهُ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ وَلِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ مَا عَلِمْتُمْ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عِلَّةُ التَّرَخُّصِ وَالتَّسْهِيلِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَذْفِ الْفِعْلِ الْمُنَبِّهِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥] أَيْ أَرَيْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْلِيفِ عَلَى الْمُقِيمِ صَحِيحٌ وَالرُّخْصَةُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ مَعَ الطَّاقَةِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَمَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ يَسْهُلُ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ بِالْقَضَاءِ، فَلَا يَكُونُ عُسْرًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ عَسِيرًا،
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ دَخَلَ تَحْتَهُ عِدَّةُ أَيَّامِ الشَّهْرِ وَأَيَّامِ الْقَضَاءِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا جَمِيعًا وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْقَضَاءِ مَثَلًا لِعَدَدِ الْمَقْضِيِّ، وَلَوْ قَالَ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْأَدَاءِ فَقَطْ وَلَمْ يَدْخُلْ حُكْمُ الْقَضَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّكْبِيرُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ إِظْهَارَ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ غَدَاةَ الْفِطْرِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَقَالَ: مَعْنَاهُ وَلِتُكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي أَنَّ أَيَّ الْعِيدَيْنِ أَوْكَدُ فِي التَّكْبِيرِ؟ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ النَّحْرِ أَوْكَدُ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ:
لَيْلَةُ الْفِطْرِ أَوْكَدُ لِوُرُودِ النَّصِّ/ فِيهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ وَقْتَ التَّكْبِيرِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُكَبَّرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَلَكِنَّهُ يُكَبَّرُ فِي يَوْمِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا غَدَا إِلَى الْمُصَلَّى حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ وَقَعَ مُعَلَّلًا بِحُصُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، لَكِنْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ تَحْصُلُ هَذِهِ الْهِدَايَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَثَالِثُهَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَ هَذَا التَّكْبِيرِ مُمْتَدٌّ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ، وَقِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي: إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَ إِلَى أَدْنَى الْمُصَلَّى تَرَكَ التَّكْبِيرَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى مَا وُفِّقَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ هَذَا التَّكْبِيرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ والاعتقاد والعمل أما القول: فالإقرار بصفاته العلي، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ نِدٍّ وَصَاحِبَةٍ وَوَلَدٍ وَشَبَهٍ بِالْخَلْقِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا الْعَمَلُ: فَالتَّعَبُّدُ بِالطَّاعَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَمَعَ كُلِّ الطَّاعَاتِ فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِهَذَا التَّكْبِيرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّكْبِيرُ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى التَّكْبِيرِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا هَداكُمْ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْعَامَ الْعَظِيمَ فِي الدُّنْيَا بِالْأَدِلَّةِ وَالتَّعْرِيفَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا بِخَلْقِ الطَّاعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» لِلتَّرَجِّي، وَالتَّرَجِّي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَالثَّانِي: الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ، وَهَذَانَ بحثان قد مر تقريرهما.
بقي هاهنا بَحْثٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ جَلَالَ الله وكبريائه وَعِزَّتَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَكَوْنَهُ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَصِلَ إليه عقول
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بعض إِيجَابِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] فَأَمَرَ العبد بعد التكبير الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَبِالشُّكْرِ، بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فَيَسْمَعُ نِدَاءَهُ، وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ رَغَّبَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ الدُّعَاءَ قَدَّمَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، فَقَالَ أَوَّلًا:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ:
٨٢] وَكُلُّ هَذَا ثَنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٣] فكذا هاهنا أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا الثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَامُوا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى عَصَوُا اللَّهَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، ثُمَّ نَدِمُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُخْبِرًا لَهُمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَنَسَخَ ذَلِكَ التَّشْدِيدَ بِسَبَبِ دُعَائِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيكَ، أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيكَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا نَكُونُ عَلَى حَالَةِ نَجِلُّكَ أَنْ نَذْكُرَكَ عَلَيْهَا مِنْ جَنَابَةٍ وَغَائِطٍ، قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ،
فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ رَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فِي ذِكْرِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَزْوَةٍ وَقَدْ رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا»
وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: كَيْفَ نَدْعُو رَبَّنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ
وَخَامِسُهَا: قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو اللَّهَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَسَادِسُهَا: مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّكَ دُعَاءَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَسَابِعُهَا:
قَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
وَثَامِنُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ١٨٣] لَمَّا اقْتَضَى تَحْرِيمَ الْأَكْلِ بَعْدَ/ النَّوْمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَلُوا ثُمَّ نَدِمُوا وَتَابُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
[المسألة الثالثة] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَإِنِّي قَرِيبٌ عَلِمْنَا أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَلِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ بَلِ السُّؤَالُ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ قَالَ:
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَهَذَا هُوَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ ليس المراد من هذا القريب بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ والحفظ، فيحتاج هاهنا إِلَى بَيَانِ مَطْلُوبَيْنِ:
الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أن هذا القريب لَيْسَ قُرْبًا بِحَسَبِ الْمَكَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ لَكَانَ مُنْقَسِمًا، إِذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ مِثْلَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ. وَلَوْ كَانَ مُنْقَسِمًا لَكَانَتْ مَاهِيَّتُهُ مُفْتَقِرَةً فِي تَحَقُّقِهَا إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمَفْرُوضَةِ وَجُزْءُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، فَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَمُحْدَثٌ وَمُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَالِقِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ فَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ بِالْمَكَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جِهَةٍ دُونِ جِهَةٍ، أَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ بُعْدٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ مُحَالٌ وَالثَّانِي: مُحَالٌ أَيْضًا/ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَاهِيًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَنَاهٍ لَكَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا الْجَانِبِ الْمُتَنَاهِي مُخَالِفَةً فِي الْمَاهِيَّةِ لِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْجِهَةِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قُرْبًا بِالْجِهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ، بَلْ كَانَ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَبَعِيدًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكَانَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَيْدٍ الَّذِي هُوَ بِالْمَشْرِقِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ عَمْرٍو الَّذِي هُوَ بِالْمَغْرِبِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قربا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ بِحُدُوثِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الدَّاعِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْعَالَمِ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ وَلَمْ يُخَيِّبْ رَجَاءَهُ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ فِيهِ سِرٌّ عَقْلِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّصَافَ مَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَاتِ بِوُجُودَاتِهَا إِنَّمَا كَانَ بِإِيجَادِ الصَّانِعِ، فَكَانَ إِيجَادُ الصَّانِعِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ مَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَبَيْنَ وُجُودَاتِهَا فَكَانَ الصَّانِعُ أَقْرَبَ إِلَى مَاهِيَّةِ كُلِّ مُمْكِنٍ من وجود تلك الماهية إليها، بل هاهنا كَلَامٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الصَّانِعَ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَتْ مَاهِيَّاتُ الْمُمَكَّنَاتِ مَوْجُودَةً فَهُوَ أَيْضًا لِأَجْلِهِ كَانَ الْجَوْهَرُ جَوْهَرًا/ وَالسَّوَادُ سَوَادًا وَالْعَقْلُ عَقْلًا وَالنَّفْسُ نَفْسًا، فَكَمَا أَنَّ بِتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ صَارَتِ الْمَاهِيَّاتُ مَوْجُودَةً فَكَذَلِكَ بِتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ صَارَتْ كُلُّ مَاهِيَّةٍ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ، فَعَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ كَانَ الصَّانِعُ أَقْرَبَ إِلَى كُلِّ مَاهِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ إِلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ قِيلَ: تَكْوِينُ الْمَاهِيَّةِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ جَعْلُ السَّوَادِ سَوَادًا فَنَقُولُ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوُجُودِ وُجُودًا لِأَنَّهُ مَاهِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَوْصُوفِيَّةِ دَالَّةً لِلْمَاهِيَّةِ فَإِذَنِ الْمَاهِيَّةُ لَيْسَتْ بِالْفَاعِلِ، وَالْوُجُودُ مَاهِيَّةٌ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ، وَمَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ هُوَ أَيْضًا مَاهِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ بِالْفَاعِلِ، فَإِذَنْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ الْبَتَّةَ بِالْفَاعِلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِذَنْ وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْكُلَّ بِالْفَاعِلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ الْكَلَامُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا فَالْأُولَى عَلَى الْوَصْلِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى التَّخْفِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: الدُّعَاءُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: دَعَوْتُ الشَّيْءَ أَدْعُوهُ دُعَاءً ثُمَّ أَقَامُوا الْمَصْدَرَ مَقَامَ الِاسْمِ تَقُولُ: سَمِعْتُ دُعَاءً كَمَا تَقُولُ سَمِعْتُ صَوْتًا وَقَدْ يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الِاسْمِ كَقَوْلِهِمْ:
رَجُلٌ عَدْلٌ. وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ اسْتِدْعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ الْعِنَايَةَ وَاسْتِمْدَادُهُ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ. وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ، فَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ الدُّعَاءُ شَيْءٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ كَانَ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِكَذَا وَكَذَا عَامًا
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا: الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ وَالْخَلْقُ وَالْخُلُقُ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: ١٩] فَأَيُّ حَاجَةٍ بِالدَّاعِي إِلَى الدُّعَاءِ؟ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ بَلَغَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْعَبْدِ فَالْجَوَادُ الْمُطْلَقُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَصَالِحِهِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ وَخَامِسُهَا: ثَبَتَ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَجَلَّ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ وَأَعْلَاهَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَتَرْجِيحٌ لِمُرَادِ النَّفْسِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبُهُ لِحِصَّةِ الْبَشَرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ سُوءُ أَدَبٍ وَسَابِعُهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ رِوَايَةً عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»
قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْأَوْلَى تَرَكُ الدُّعَاءِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ الدُّعَاءَ أَهَمُّ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، أَمَّا الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابُ فِي كِتَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أُصُولِيَّةٌ وَمِنْهَا فروعية، أما الأصولية فقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: ٨٥] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: ١٠٥] ويَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النَّازِعَاتِ: ٤٢] وَأَمَّا الْفُرُوعِيَّةُ فَمِنْهَا فِي البقرة على التوالي يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: ٢١٩] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة: ٢٢٠] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: ٢٢٢] وقال أيضا: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: ١] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الْكَهْفِ: ٨٣] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يُونُسَ: ٥٣] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النِّسَاءِ: ١٧٦].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ جَاءَتْ أَجْوِبَتُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ فَالْأَغْلَبُ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى السُّؤَالَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ سُؤَالٌ عَنْ قِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥] كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْحَالِ وَلَا تُؤَخِّرِ الْجَوَابَ فَإِنَّ الشَّكَّ فِيهِ كُفْرٌ ثُمَّ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْفَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَبَلِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا فِي الْكُلِّ وَجَوَازُ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ قِدَمِهِ، أَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَهِيَ فُرُوعِيَّةٌ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا فَاءَ التَّعْقِيبِ، أَمَّا الصُّورَةُ الثالثة وهي
فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لِلْعَبْدِ وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ: فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ: أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَفِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْقَادِرُ مِنْ أَنْ يَقْرُبَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَالْقُرْبُ مِنَ الحق إلى العبد/ لا من العبد إلا الْحَقِّ فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا لَهُ فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ صَارَ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْحَقِّ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَبْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُلَاحِظًا لِحَقِّهِ وَطَالِبًا لِنَصِيبِهِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْوَسَائِطُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ الْقُرْبُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ يَبْقَى الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إِلَى غَرَضِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ يَحْجُبُهُ عَنِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ يُفِيدُ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ الدُّعَاءُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي فَضْلِ الدُّعَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرِ: ٦٠].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بَلْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبْ فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ
[الْأَنْعَامِ: ٤٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
وَقَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
فَقَوْلُهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ،
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْحَجُّ عَرَفَةُ»
أَيِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: ٥٥] وقال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ [الْفُرْقَانِ: ٧٧] وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ فَمَنْ أَبْطَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ، لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِكُمْ بِإِبْطَالِ الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِنْكَارِكِمْ حَاجَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ: كَيْفِيَّةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَيْفِيَّةُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهُ غَائِبَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُعَلَّقًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَبَيْنَ الْخَوْفِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَحَّحْنَا الْقَوْلَ بِالتَّكَالِيفِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّ وَجَرَيَانِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكُلِّ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ
سَأَلَتِ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ أَعْمَالَنَا هَذِهِ أَشَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ أَمْرٌ يَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. فَقَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
فَانْظُرْ إِلَى لَطَائِفَ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ عليه السلام علقهم بين الأمرين فربهم سَابِقَ الْقَدَرِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ مُدْرَجَةُ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ يُعَطِّلْ ظَاهِرَ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِلْآخَرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَائِدَةَ الْعَمَلِ هُوَ الْمُقَدَّرُ الْمَفْرُوغُ مِنْهُ
فَقَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
يُرِيدُ أَنَّهُ مُيَسَّرٌ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ الْقَدَرُ قَبْلَ وُجُودِهِ، إِلَّا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ تعلم هاهنا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُيَسَّرِ وَالْمُسَخَّرِ فَتَأَهَّبْ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَابِ الْكَسْبِ وَالرِّزْقِ
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِعْلَامُ، بَلْ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالِانْكِسَارِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ مَصْلَحَةً بِحَسَبِ سَبْقِ الدُّعَاءِ وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ثُمَّ بَعْدُ رضى بما قدره الله وقضاء، فَذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الشُّبَهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ مُشْكِلٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تعالى قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وَكَذَلِكَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: ٦٢] ثُمَّ إِنَّا نَرَى الدَّاعِيَ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَلَا يُجَابُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ آيَةٌ أُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الْأَنْعَامِ: ٤١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَجِدَ مِنْ دُعَائِهِ عِوَضًا، إِمَّا إِسْعَافًا بِطَلَبَتِهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا دَعَا وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَ الْقَضَاءَ، فَإِذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ يُعْطَى سَكِينَةً فِي نَفْسِهِ، وَانْشِرَاحًا فِي صَدْرِهِ، وَصَبْرًا يَسْهُلُ مَعَهُ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ الْحَاضِرِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَعْدَمُ فَائِدَةً، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ وَثَانِيهَا: مَا
رَوَى الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لا ترد إلا لإحدى ثلاثة: مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، إِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِ مَا دَعَا».
وَهَذَا الْخَبَرُ تَمَامُ الْبَيَانِ فِي الْكَشْفِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ:
أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي الْحَالِ فَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُ وَلَوْ فِي الْآخِرَةِ كَانَ الْوَعْدُ صِدْقًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَارِفًا بِرَبِّهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لَهُ، بَلْ لِشَيْءٍ مُتَخَيَّلٍ لا وجود له ألبتة، فثبت أن الشرط الدَّاعِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِرَبِّهِ وَمِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلَّا مَا وَافَقَ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَعِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ صِفَةَ الرَّبِّ هَكَذَا اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ وَبِعَقْلِهِ: يَا رَبِّ أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ لَا مَحَالَةَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ: أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ وَحِكْمَتِكَ، وَعِنْدَ هَذَا يَصِيرُ الدُّعَاءُ الَّذِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ الرَّابِعُ أَنَّ لَفْظَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِ الْعَبْدِ: يَا اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَهَذَا إِنَّمَا سُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّكَ عَرَفْتَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ وَحَّدْتَهُ وَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ، فَهَذَا يُسَمَّى دُعَاءً بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَلَمَّا سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى دُعَاءً سُمِّي قَبُولُهُ إِجَابَةً لِتَجَانُسِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ كثير وقال ابن الأنباري: أُجِيبُ هاهنا بِمَعْنَى أَسْمَعُ لِأَنَّ بَيْنَ السَّمَاعِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ نَوْعُ مُلَازَمَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَقَوْلُنَا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ فكذا هاهنا قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ أَيْ أَسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ، فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَ الْإِشْكَالُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠] فظهر أن الدعاء هاهنا هُوَ الْعِبَادَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلدُّعَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَالَ: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشُّورَى: ٢٦] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ وَرَابِعُهَا: أَنَّ يُفَسَّرَ الدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ حَوَائِجَهُ فَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ إِنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا عَلَى التَّفْسِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ زَائِلٌ.
المسألة الرابعة: قال الْمُعْتَزِلَةُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ٨٢] وَذَلِكَ لِأَنَّ وَصْفَنَا الْإِنْسَانَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ، صِفَةُ مَدْحٍ وَتَعْظِيمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ حَالِ إِنْسَانٍ فِي الدِّينِ قُلْنَا إِنَّهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، وَالْفَاسِقُ وَاجِبُ الْإِهَانَةِ فِي الدِّينِ، ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا لِمَنْ لَا يَتَلَوَّثُ إِيمَانُهُ بِالْفِسْقِ، بَلِ الْفَاسِقُ قَدْ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَطْلُبُهُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ النَّاظِمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنَا أُجِيبُ دُعَاءَكَ مَعَ أَنِّي غَنِيٌّ عَنْكَ مُطْلَقًا، فَكُنْ أَنْتَ أَيْضًا مُجِيبًا لِدُعَائِي مَعَ أَنَّكَ مُحْتَاجٌ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الْكَرَمَ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لِلْعَبْدِ: أَجِبْ دُعَائِيَ حَتَّى أُجِيبَ دُعَاءَكَ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَصَارَ لِدُعَائِي، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ عَبْدَهُ فَضْلٌ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِطَاعَةِ الْعَبْدِ، وَأَنَّ إِجَابَةَ الرَّبِّ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى الْعَبْدِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى اشْتِغَالِ الْعَبْدِ بِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: قَالَ كَعْبُ الْغَنَوِيُّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ إِنْ كَانَتْ إِجَابَةً بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَذَاكَ هُوَ الْإِيمَانُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي تَكْرَارًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَتْ إِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عِبَارَةً عَنِ الطَّاعَاتِ كَانَ الْإِيمَانُ مُقَدَّمًا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَكَانَ حَقُّ النَّظْمِ أَنْ يَقُولَ: فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، فَلِمَ جَاءَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ؟
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِلُ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ يَرْشُدُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لِي وَآمَنُوا بِي: اهْتَدَوْا لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ الرَّشِيدَ هُوَ من كان كذلك،
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ فِي أَوَّلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ الصَّائِمُ إِذَا أَفْطَرَ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنَامَ وَأَنْ لَا يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ النَّصَارَى، وَاللَّهُ تَعَالَى نَسَخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِهِمْ، وَجَرَى فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَرْعِنَا نَسْخٌ الْبَتَّةَ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] يَقْتَضِي تَشْبِيهَ صَوْمِنَا بِصَوْمِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي صَوْمِهِمْ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً أَيْضًا فِي صَوْمِنَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمٍ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحِلُّ ثَابِتًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمْ فَائِدَةٌ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لَهُمْ لَمَا كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلَوْ كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْآنَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَائِدَةً.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: هِيَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، هَذَا مَجْمُوعُ دَلَائِلِ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ، أَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فَقَالَ:
أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ مُشَابَهَتُهُمَا فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَضَعِيفَةٌ أَيْضًا لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَقَوْلُهُ: أُحِلَّ
مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِكُمْ فَقَدْ أُحِلُّ لَكُمْ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثالثة: فضعيفة أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصَّوْمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي ذلك الإيجاب زَوَالَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَكَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي شَرْعِنَا مَا دَلَّ عَلَى زَوَالِهَا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَائِهَا، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الْوَهْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ/ مِنْ قَبْلِكُمْ فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ حُصُولُ الْمُشَابِهَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي هَذَا الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً قَوِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةً مُوهِمَةً فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فِي شَرْعِنَا، فَلَا جَرَمَ شَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وَأَرَادَ بِهِ تَعَالَى النَّظَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ لَهُمْ بِمَا لَوْ لَمْ تَتَبَيَّنِ الرُّخْصَةُ فِيهِ لَشَدَّدُوا وَأَمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَمَنَعُوهَا مِنَ الْمُرَادِ، وَأَصْلُ الْخِيَانَةِ النَّقْصُ، وَخَانَ وَاخْتَانَ وَتَخَوَّنُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: كَسَبَ وَاكْتَسَبَ وَتَكَسَّبُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ إِحْلَالُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ طُولَ اللَّيْلِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَنْقُصُونَ أَنْفُسَكُمْ شَهَوَاتِهَا وَتَمْنَعُونَهَا لَذَّاتِهَا وَمَصْلَحَتِهَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ النَّوْمِ كَسُنَّةِ النَّصَارَى.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْعِبَادِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَمِنَ اللَّهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ التَّجَاوُزُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْنَا بِتَخْفِيفِ مَا جَعَلَهُ ثَقِيلًا عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧].
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُمْتَنِعِينَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِحُكْمٍ كَانَ مَشْرُوعًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَابِ الْعَمَلِ وَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيهِ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِمَا فَعَلُوا عِنْدَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ هُوَ الْمُبَاشَرَةُ، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَهَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ يُحَلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، مَا لَمْ يَرْقُدِ الرَّجُلُ أَوْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْآتِيَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَشِيَّةً وَقَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: اسْمُهُ أَبُو صِرْمَةَ، وَقَالَ الْبَرَاءُ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وَقِيلَ:
صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ ضَعْفِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْتُ فِي النَّخْلِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ أَهْلِي لِتُطْعِمَنِي شَيْئًا فَأَبْطَأَتْ فَنِمْتُ فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ من مثله. رجعت إلى أهلي بعد ما صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَتَيْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
لَمْ تَكُنْ جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ ثُمَّ قَامَ رِجَالٌ فَاعْتَرَفُوا بِالَّذِي صَنَعُوا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ/ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَيْلَةَ الصِّيَامِ أَرَادَ لَيَالِيَ الصِّيَامِ فَوَقَعَ الْوَاحِدُ مَوْقِعَ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ | فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ |
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: الرَّفَثُ أَصْلُهُ قَوْلُ الْفُحْشِ، وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ:
ورب أسراب حجيج كقلم | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
وَهُنَّ يمشين بنا هميسا | أن يصدق الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا |
فإن قيل: لم كنى هاهنا عَنِ الْجِمَاعِ بِلَفْظِ الرَّفَثِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْقُبْحِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: ٢١] فَلَمَّا تَغَشَّاها [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: ٤٣] دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: ٢٣] فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة: ٢٢٣] مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٦] فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ [النِّسَاءِ: ٢٤] وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢].
جَوَابُهُ: السَّبَبُ فِيهِ اسْتِهْجَانُ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ قَبْلَ الإباحة كَمَا سَمَّاهُ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا عَدَّى الرَّفَثَ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ [النِّسَاءِ: ٢١].
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ يَقْتَضِي حُصُولَ الْحِلِّ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ لِأَنَّ «لَيْلَةَ» نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللَّيْلُ ظَرْفًا لِلرَّفَثِ لَوْ كَانَ اللَّيْلُ كُلُّهُ مَشْغُولًا بِالرَّفَثِ، وَإِلَّا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لأكله، فَعَلَى هَذَا النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَمَّا الذي بعده من قَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فَذَاكَ يَكُونُ كَالتَّأْكِيدِ لِهَذَا النَّسْخِ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ يُفِيدُ حِلَّ الرَّفَثِ فِي اللَّيْلِ، فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ النَّسْخِ بِهِ فَيَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ قَوْلُهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَشْبِيهِ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّبَاسِ وُجُوهًا أَحُدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ يَعْتَنِقَانِ،
جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا لِبَاسًا لِلرَّجُلِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَخُصُّهَا بِنَفْسِهِ، كَمَا يَخُصُّ لِبَاسَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَرَاهَا أَهْلًا لِأَنْ يُلَاقِيَ كُلُّ بَدَنِهِ كُلَّ بَدَنِهَا كَمَا يَعْمَلُهُ فِي اللِّبَاسِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَتْرُهُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبَيْتِ، لَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً، كَمَا يَسْتَتِرُ الْإِنْسَانُ بِلِبَاسِهِ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَخَامِسُهَا: ذَكَرَ الْأَصَمُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ كَاللِّبَاسِ السَّاتِرِ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْعَامِ عَلَيْنَا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى التَّسَتُّرِ بِهِنَّ فِي الْمَحْظُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا وَحَّدَ اللِّبَاسَ بَعْدَ قَوْلِهِ هُنَّ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَصْدَرِ، وَفِعَالٌ مِنْ مَصَادِرِ فَاعَلَ، وَتَأْوِيلُهُ: هُنَّ مُلَابِسَاتٌ لَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ فَنَقُولُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَالْبَيَانِ لِسَبَبِ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ مِثْلُ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ قَلَّ صَبْرُكُمْ عَنْهُنَّ، وَضَعُفَ عَلَيْكُمُ اجْتِنَابُهُنَّ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا وَخِيَانَةً إِذَا لَمْ يَفِ لَهُ، وَالسَّيْفُ إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرْبَةِ فَقَدْ خَانَكَ، وَخَانَهُ الدَّهْرُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ إِلَى الشَّرِّ، وَخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَنَاقِضُ الْعَهْدِ خَائِنٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يُنْتَظَرُ مِنْهُ الْوَفَاءُ فَغَدَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الْأَنْفَالِ: ٥٨] أَيْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمَدِينِ: إِنَّهُ خَائِنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِمَا يَلِيقُ بِدِينِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٢٧] وَقَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْفَالِ: ٧١] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَمَّى اللَّهُ الْمَعْصِيَةَ بِالْخِيَانَةِ، وَإِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى الْخِيَانَةِ، فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الِاخْتِيَانُ مِنَ الْخِيَانَةِ، كَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْكَسْبِ فِيهِ زِيَادَةٌ وَشِدَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تعالى ذكر هاهنا أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ تِلْكَ الْخِيَانَةَ كَانَتْ فِي مَاذَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ، وَالَّذِي تَأَخَّرَ قَوْلُهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ المراد بهذه/ الخيانة الجماع، ثم هاهنا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُسِرُّونَ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَتَرْكَبُونَ الْمُحَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ وَقَدْ خَانَ اللَّهَ، لِأَنَّهُ جَلَبَ إِلَيْهَا الْعِقَابَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَجَبَ فِي جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لَكَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّبْعِيضُ لِلْعَادَةِ وَالْإِخْبَارُ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنَّ يُقْطَعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْجِمَاعِ الْمَحْظُورِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمٍ سَابِقٍ وَعَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ بينا أن
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ دَامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ الشَّاقُّ لَوَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا وَقَعَتِ الْخِيَانَةُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِضْمَارِ الشَّرْطِ وَأَنْ يُقَالَ بَلِ الثَّانِي أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِنَسْخِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ دَامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ لَحَصَلَتِ الْخِيَانَةُ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لَنَسْخِ التَّكْلِيفِ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى لَا يَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَرَجَعَ عَلَيْكُمْ بِالْإِذْنِ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْكُمْ وَعَلَى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسَخِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ تَقْدِيرُهُ: تُبْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَفا عَنْكُمْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ أَنْ أَبَاحَ لَكُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْمُعَاشَرَةَ فِي كُلِّ اللَّيْلِ وَلَفْظُ الْعَفْوِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّوْسِعَةِ وَالتَّخْفِيفِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ»
وَقَالَ «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ»
وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْفِيفُ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَيُقَالُ: أَتَانِي هَذَا الْمَالُ عَفْوًا، أَيْ سَهْلًا فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْعَفْوِ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِسَبْقِ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسْخِ فَقَوْلُهُ: عَفا عَنْكُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: عَفَا عَنْ ذُنُوبِكُمْ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَيْضًا قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَتَفْسِيرَ مُثْبِتِي النَّسْخِ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا أَمْرٌ وارد عقب الخطر فالذين قالوا: الأمر الوارد عقيب الخطر/ لَيْسَ إِلَّا لِلْإِبَاحَةِ، كَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ قَالُوا إِنَّمَا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ وَعَرَفْنَا كَوْنَ هَذَا الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُبَاشَرَةُ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا الْجِمَاعُ، سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ وَانْضِمَامِهِمَا، وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ: إِنَّهُ الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ اخْتَلَفَ المفسرين فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ الْمُبَاشَرَاتِ وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى الْجِمَاعِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لَفْظَ الْمُبَاشَرَةِ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ تَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَكَذَا الْمُعَانَقَةُ وَالْمُلَامَسَةُ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْجِمَاعُ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ كَانَ وُقُوعُ الْجِمَاعِ مِنَ الْقَوْمِ، وَلِأَنَّ الرَّفَثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْجِمَاعُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِبَاحَةُ الْجِمَاعِ تَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ مَا دُونَهُ صَارَتْ إِبَاحَتُهُ دَالَّةً عَلَى إِبَاحَةِ مَا عداه، فصح هاهنا حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَطْ، وَلَمَّا كَانَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْعُ مِنَ الْجِمَاعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا دُونَهُ صَلَحَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا لَخَّصَهُ الْقَاضِي.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَيْ لَا تُبَاشِرُوا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَحْدَهَا، وَلَكِنْ لِابْتِغَاءِ مَا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ النِّكَاحَ مِنَ التَّنَاسُلِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا»
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْعَزْلِ، وَقَدْ رُوِيَتِ الْأَخْبَارُ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْزِلُ الرَّجُلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْأَمَةِ
وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْعَزْلَ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ابْتَغُوا الْمَحِلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَحَلَّلَهُ دُونَ مَا لَمْ يَكْتُبْ لَكُمْ مِنَ الْمَحِلِّ الْمُحَرَّمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢] وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ تَقْدِيرُهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَتَبَهَا لَكُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يَعْنِي هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَسَادِسُهَا: أَنَّ مُبَاشَرَةَ الزَّوْجَةِ قَدْ تَحْرُمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ فَقَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تُبَاشِرُوهُنَّ إِلَّا فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي أُذِنَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ وَسَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِذْنٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَقَوْلَهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تَبْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ إِلَّا مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي/ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: ٦] وَثَامِنُهَا: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ: يَعْنِي اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا إِنْ وَجَدْتُمُوهَا، وَجُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْوَجْهَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحُضُورِ، أَمَّا إِذَا قَضَى وَطَرَهُ وَصَارَ فَارِغًا مِنْ طَلَبِ الشَّهْوَةِ يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعُبُودِيَّةِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ حَتَّى تَتَخَلَّصُوا مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا تَخَلَّصْتُمْ مِنْهَا فَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُتِبَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُتِبَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِمَعْنَى جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] أَيْ جَعَلَ، وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٣] فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] أَيْ أَجْعَلُهَا وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ قَضَى اللَّهُ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التَّوْبَةِ: ٥١] أَيْ قَضَاهُ، وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] وَقَوْلِهِ: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٤] أَيْ قَضَى، وَثَالِثُهَا: أَصْلُهُ هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَرَابِعُهَا: هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبَاحَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْتَغُوا وقرأ الأعمش وَابْتَغُوا أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا أن تحريمهما وتحريم الجماع بالدليل بَعْدَ النَّوْمِ، لَمَّا تَقَدَّمَ احْتِيجَ فِي إِبَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ يَزُولُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ زَوَالُ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَقَرَنَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا لِتَتِمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَخَذْتُ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَكُنْتُ أَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَأَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ»،
وَإِنَّمَا
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا»
لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بَلَاهَةِ الرَّجُلِ، وَنَقُولُ: يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ بَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَسَوَادِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ بَيَاضَ الصُّبْحِ الْمُشَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ بَيَاضُ الصُّبْحِ الْكَاذِبُ، لِأَنَّهُ بَيَاضٌ مُسْتَطِيلٌ يُشْبِهُ الْخَيْطَ، فَأَمَّا بَيَاضُ الصُّبْحِ الصَّادِقُ فَهُوَ بَيَاضٌ مُسْتَدِيرٌ فِي الْأُفُقِ فَكَانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ/ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنَ الْفَجْرِ لَكَانَ السُّؤَالُ لَازِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَجْرَ إِنَّمَا يُسَمَّى فَجْرًا لِأَنَّهُ يَنْفَجِرُ مِنْهُ النُّورُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الصُّبْحِ الثَّانِي لَا فِي الصُّبْحِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ بَلِ الصُّبْحَ الصَّادِقَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُشَبَّهُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ بِالْخَيْطِ، مَعَ أَنَّ الصُّبْحَ الصَّادِقَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ وَالْخَيْطَ مُسْتَطِيلٌ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْقَدْرَ مِنَ الْبَيَاضِ الَّذِي يَحْرُمُ هُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَأَوَّلُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ لَا يَكُونُ مُنْتَشِرًا بَلْ يَكُونُ صَغِيرًا دَقِيقًا، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّبْحِ الْكَاذِبِ أَنَّ الصُّبْحَ الْكَاذِبَ يَطْلُعُ دَقِيقًا، وَالصَّادِقُ يَبْدُو دَقِيقًا، وَيَرْتَفِعُ مُسْتَطِيلًا فَزَالَ السُّؤَالُ، فَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَزَعَمَ أبو مسلم الأصفهاني لَا شَيْءَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ إِلَّا أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَيْءِ وَالْحُقْنَةِ وَالسُّعُوطِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِمُفْطِرٍ، قَالَ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الصَّائِمِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا مُفْطِرًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ وَالْحُقْنَةُ فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسُّعُوطُ نَادِرٌ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بن جني أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً إِلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الْأَعْمَشُ أَنَّهُ يَحِلُّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قِيَاسًا لِأَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى آخِرِهِ، فَكَمَا أَنَّ آخِرَهُ بِغُرُوبِ الْقُرْصِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ بِطُلُوعِ الْقُرْصِ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة لَيْسَ إِلَّا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي الشَّكْلِ مُرَادًا فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ ظُلْمَةَ الْأُفُقِ حَالَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لَا يُمْكِنُ تَشْبِيهُهَا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فِي الشَّكْلِ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هُوَ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ ثُمَّ لَمَّا بَحَثْنَا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَجْرِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: فَجَرْتُ الْمَاءَ أَفْجُرُهُ فَجْرًا، وَفَجَّرْتُهُ تَفْجِيرًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
الْفَجْرُ أَصْلُهُ الشَّقُّ، فَعَلَى هَذَا الْفَجْرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ هُوَ انْشِقَاقُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصبح، وأما في قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْفَجْرِ فَقِيلَ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَعْضُ الْفَجْرِ لَا كُلُّهُ، وَقِيلَ لِلتَّبْيِينِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي هُوَ الْفَجْرُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَحَلَّ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إِلَى غَايَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ، وَجَبَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ تَبَيُّنَ الصُّبْحِ مَا هُوَ؟ فَنَقُولُ: الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، أَمَّا الْقَطْعِيُّ فَبِأَنْ يُرَى طُلُوعُ الصُّبْحِ أَوْ يُتَيَقَّنَ أَنَّهُ مَضَى مِنَ الزَّمَانِ مَا يَجِبُ طُلُوعُ الصُّبْحِ عِنْدَهُ وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ ظَنٌّ أَنَّ الصُّبْحَ طَلَعَ فَيَحْرُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ فَإِنْ حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ مَا طَلَعَ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْوِقَاعُ مُبَاحًا، فَإِنْ أَكَلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ خَطَأٌ وَأَنَّ الصُّبْحَ كَانَ قَدْ طَلَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَكْلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ غَارِبَةً فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا قَضَاءَ فِي الصُّورَتَيْنِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الْغُرُوبِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ وَأَمَّا النَّاسِي فَعِنْدَ مَالِكٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ الَّذِينَ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا قَضَاءَ قَالُوا:
مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَاهُ عَنْهُ لِلنَّصِّ، وَهُوَ مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَطْعَمَكَ اللَّهُ وسقاك فأنت ضيف الله فتم صَوْمَكَ».
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي طُلُوعِ الصُّبْحِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِذَا أَخْطَأَ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ ثَابِتٍ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَالثَّابِتُ فِي اللَّيْلِ حِلُّ الْأَكْلِ، وَفِي النَّهَارِ حُرْمَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ لَا بَقَاءُ اللَّيْلِ وَلَا طُلُوعُ الصُّبْحِ، بَلْ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا فِي الْأَمْرَيْنِ، فَهَهُنَا يُكْرَهُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَلِمَةَ إِلى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَقْطَعًا وَمُنْتَهًى إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَجِيءُ/ هَذِهِ الكلمة لا للانتهاء كما قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْمَرافِقِ [الْمَائِدَةِ: ٦] إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ، فَيَكُونُ اللَّيْلُ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ النَّهَارِ، وَالْمَرَافِقُ مِنْ جِنْسِ الْيَدِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: سَبِيلٌ إِلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ، تَقُولُ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ إِلَى رَأْسِهَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّأْسُ دَاخِلًا فِي الْأَكْلِ وَخَارِجًا مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ أَنَّ اللَّيْلَ خَارِجٌ عَنِ الصَّوْمِ، إِذْ لَوْ كَانَ دَاخِلًا
رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي فِي هَذَا الْوَقْتِ.
فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ شَيْئًا، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، أَيْ كَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»،
وَقِيلَ فِيهِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَالثَّانِي:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنِّي عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنِّي لَوِ احْتَجْتُ إِلَى الطَّعَامِ أَطْعَمَنِي مُوَاصِلًا»،
وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَبِرَ جَعَلَهَا خَمْسًا، فَلَمَّا كَبِرَ جِدًّا جَعَلَهَا ثَلَاثًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَوْ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ، فَعَلَى ذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي الِاسْتِيفَاءِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْمَرْءُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي صَوْمِ الْمُسْتَأْنَفِ، أَوْ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الطَّعَامِ قَدْرًا يَزُولُ بِهِ هَذَا الْخَوْفُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّيْلَ مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: آخِرُ النَّهَارِ عَلَى أَوَّلِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي حُصُولِ اللَّيْلِ زَوَالَ آثَارِ الشَّمْسِ، كَمَا حَصَلَ اعْتِبَارُ زَوَالِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ آثَارِ الشَّمْسِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِزَوَالِ الْحُمْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ ظُهُورَ الظَّلَامِ التَّامِّ وَظُهُورَ الْكَوَاكِبِ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ عُمَرُ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ التَّبْيِيتَ وَالتَّعْيِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، قَالُوا:
الصَّوْمُ فِي اللغة هو الإمساك، وقد وجد هاهنا فَيَكُونُ صَائِمًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَعُسْرٌ وَهُوَ منفي بقوله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: ٧٨] وَقَوْلِهِ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّوْمِ الصَّحِيحِ فَيَبْقَى غَيْرُ الصَّحِيحِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ نَقُولُ: مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ، أَنْ يَصِحَّ صَوْمُ/ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: الْأَقَلُّ يَلْحَقُ بِالْأَغْلَبِ فَلَا جَرَمَ أَبْطَلْنَا الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ وَصَحَّحْنَا نِيَّتَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ يَجِبُ إِتْمَامُهُ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الصِّيَامَاتِ، وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ صَوْمِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمَ الْفَرْضِ.
الْحُكْمُ السَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الِاعْتِكَافُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الصَّوْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حُكْمِهِ تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ، كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ الصَّوْمِ فِي أَنَّ الْجِمَاعَ يَحْرُمُ فِيهِ نَهَارًا لَا لَيْلًا، فَبَيَّنَّ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ فِيهِ نَهَارًا وَلَيْلًا، فَقَالَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِاعْتِكَافُ اللُّغَوِيُّ مُلَازَمَةُ الْمَرْءِ لِلشَّيْءِ وَحَبْسُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، بِرًّا كَانَ أَوْ إِثْمًا، قَالَ تَعَالَى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] وَالِاعْتِكَافُ الشَّرْعِيُّ: الْمُكْثُ فِي بَيْتِ اللَّهِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى تَقْيِيدِ اسْمِ الْجِنْسِ بِالنَّوْعِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ القديمة، قال الله تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ جَازَ، لَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها كانت ترجل رأس رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، أَمَّا إِذَا لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِهَا اعْتِكَافُهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ إِذَا لَمْ يُنْزِلْ، احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْإِفْسَادِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي لَفْظِ الْمُبَاشَرَةِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ مَنَعَ مِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ وَسَائِرُ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ مُسَمَّى الْمُبَاشَرَةِ حَاصِلٌ فِي كُلِّهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَمَلْتُمُ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجِمَاعِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْجِمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ وَسَبَبُ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْجِمَاعُ، ثُمَّ لَمَّا أَذِنَ فِي الْجِمَاعِ كَانَ ذَلِكَ إِذْنًا فِيمَا دون الجماع بطريق الأولى، أما هاهنا فَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ، فَوَجَبَ إِبْقَاءُ لَفْظِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى مَوْضِعِهِ الْأَصْلِيِّ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ، / فَوَجَبَ أَنْ لَا تُفْسِدَ الِاعْتِكَافَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَيْسَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُمَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ لَيْسَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُمَيَّزٌ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بُنِيَ لِإِقَامَةِ الطَّاعَاتِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ
فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] فَعَيَّنَ ذَلِكَ الْبَيْتَ لِجَمِيعِ الْعَاكِفِينَ، وَلَوْ جَازَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ الْعُمُومُ وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، لِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي»
وَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَجُوزُ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا»
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْجَامِعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ وَمُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَفْضَلُ حَتَّى لَا يُحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَسَاجِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالصَّوْمِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ عَاكِفٌ وَاللَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْعَاكِفَ مِنْ مُبَاشَرَةِ المرأة ولو
رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ الله لَيْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَقْدِيرَ لِزَمَانِ الِاعْتِكَافِ فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ/ سَاعَةٍ يَنْعَقِدُ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُطْلَقًا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِاعْتِكَافِهِ سَاعَةً، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مُطْلَقًا تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجَوِّزُ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ تَقْدِيرُ الِاعْتِكَافِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ تَرْكُ التَّقْدِيرِ وَالرُّجُوعُ إِلَى أَقَلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُعْتَكِفُ عَمَّنْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تِلْكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى حُكْمِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ الْحُدُودَ جَمْعٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ آيَةِ الصوم إلى هاهنا عَلَى مَا سَبَقَ شَرْحُ مَسَائِلِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَاهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ مَحْدُودٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنِ الرِّزْقِ وَيُقَالُ لِلْبَوَّابِ: حَدَّادٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ وَحَدُّ الدَّارِ مَا يَمْنَعُ غَيْرَهَا مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَحُدُودُ اللَّهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ الْكَلَامَ الْجَامِعَ الْمَانِعَ: حَدًّا، وَسُمِّيَ الْحَدِيدُ: حَدِيدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ إِذَا عَرَفْتَ الِاشْتِقَاقَ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ مَحْدُودَاتُهُ أَيْ مَقْدُورَاتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطَةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقْرَبُوها فَفِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَالْأُمُورُ الْمُتَقَدِّمَةُ بَعْضُهَا إِبَاحَةٌ وَبَعْضُهَا حَظْرٌ فَكَيْفَ قَالَ فِي الْكُلِّ فَلا تَقْرَبُوها وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النِّسَاءِ: ١٤] وَقَالَ هاهنا: فَلا تَقْرَبُوها فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَالْأَقْوَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي حَيِّزِ الْحَقِّ، فَنُهِيَ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّ مَنْ تَعَدَّاهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ، ثُمَّ بُولِغَ فِي ذَلِكَ فَنُهِيَ أن
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»
الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا تَقْرَبُوهَا أَيْ لَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِالتَّغْيِيرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأسراء: ٣٤] الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا قَبْلُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّ أَقْرَبَهَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: / وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ وَقَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ، وَقَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مُوَاقَعَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَتَحْرِيمَ مُوَاقَعَتِهِمَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى وَتَحْرِيمَ مُوَاقَعَتِهِمَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبَاحَةُ الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ وَالْوِقَاعِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَكْثَرَهَا تَحْرِيمَاتٍ، لَا جَرَمَ غَلَبَ جَانِبُ التَّحْرِيمِ فَقَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها أَيْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي مُنِعْتُمْ عَنْهَا إِنَّمَا مُنِعْتُمْ عَنْهَا بِمَنْعِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ عَنْهَا فَلَا تَقْرَبُوهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَمَا بَيَّنَ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ أَدِلَّتِهِ عَلَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي بَيَّنَهَا كَمَا قَالَ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّورِ: ١] ثُمَّ فَسَّرَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّورِ: ٢] إِلَى سَائِرِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الزِّنَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِيَتَّقُوهُ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا لَزِمَ وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الصَّوْمِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ بَيَانًا شَافِيًا وَافِيًا، قَالَ بَعْدَهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ الْوَافِي الْوَاضِحِ الْكَامِلِ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ لِلنَّاسِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ حَالِ الْبَيَانِ وَتَعْظِيمُ رَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي ذِكْرِهِ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فقد مر شرحه غير مرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
الْحُكْمُ الثَّامِنُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة
: حكم الأموال [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِقَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١١] وَهَذَا مُخَالِفٌ لَهَا، لِأَنَّ أَكْلَهُ لِمَالِ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ أَكْلُهُ مَالَ غَيْرِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ: الْمَالُ إِنَّمَا يَحْرُمُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ أَوْ لِحَالٍ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ.
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحَرَامُ لِصِفَةٍ فِي عَيْنِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ مِنَ النَّبَاتِ، أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَمَّا الْمَعَادِنُ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ فَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَضُرُّ بِالْأَكْلِ، وَهُوَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّمِّ، وَأَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إلا
وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ فَتَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُؤْكَلُ وَإِلَى مَا لَا يُؤْكَلُ، وَمَا يَحِلُّ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا ذُبِحَ ذَبْحًا شَرْعِيًّا ثُمَّ إِذَا ذُبِحَتْ فَلَا تَحِلُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بَلْ يَحْرُمُ مِنْهَا الْفَرْثُ وَالدَّمُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ لِخَلَلٍ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: أَخْذُ الْمَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُتَمَلِّكِ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْإِرْثِ، وَالَّذِي بِاخْتِيَارِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مأخوذا من الْمَالِكِ كَأَخْذِ الْمَعَادِنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ مَالِكٍ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ قَهْرًا أو بالتراضي، والمأخوذ قهرا إما أن لِسُقُوطِ عِصْمَةِ الْمِلْكِ كَالْغَنَائِمِ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذِ كَزَكَوَاتِ الْمُمْتَنِعِينَ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَأْخُوذُ تَرَاضِيًا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصدق وَالْأُجْرَةِ، وَإِمَّا أَنَّ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَقْسَامٌ سِتَّةٌ الْأَوَّلُ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَنَيْلِ الْمَعَادِنِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِطَابِ، وَالِاسْتِقَاءِ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالِاحْتِشَاشِ، فَهَذَا حَلَالٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مُخْتَصًّا بِذِي حُرْمَةٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ الثَّانِي: الْمَأْخُوذُ قَهْرًا مِمَّنْ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وهو الفيء، والغنيمة، وسائر أموال الكفار والمحاربين، وَذَلِكَ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا أَخْرَجُوا مِنْهُ الْخُمْسَ، وَقَسَّمُوهُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْعَدْلِ، وَلَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ كَافِرٍ لَهُ حُرْمَةٌ وَأَمَانٌ وَعَهْدٌ وَالثَّالِثُ: مَا يُؤْخَذُ قَهْرًا بِاسْتِحِقَاقٍ عِنْدَ امْتِنَاعِ مَنْ عَلَيْهِ فَيُؤْخَذُ دُونَ رِضَاهُ، وَذَلِكَ حَلَالٌ إِذَا تَمَّ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَمَّ وَصْفُ الْمُسْتَحَقِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ الرَّابِعُ: مَا يُؤْخَذُ تَرَاضِيًا بِمُعَاوَضَةٍ وَذَلِكَ حَلَالٌ إِذَا رُوعِيَ شَرْطُ الْعِوَضَيْنِ وَشَرْطُ الْعَاقِدَيْنَ وَشَرْطُ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ مِمَّا يَعْتَدُّ الشَّرْعُ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ الْخَامِسُ: مَا يُؤْخَذُ بِالرِّضَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ إِذَا رُوعِيَ شَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَشَرْطُ الْعَاقِدَيْنِ، وَشَرْطُ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُؤَدِّ إِلَى ضَرَرٍ بِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ السَّادِسُ: مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْمِيرَاثِ، وَهُوَ حَلَالٌ إِذَا كَانَ الْمَوْرُوثُ قَدِ اكْتَسَبَ الْمَالَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهٍ حَلَالٍ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا، وَتَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، فَهَذَا مَجَامِعُ مَدَاخِلِ الْحَلَالِ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَفَاصِيلِهَا فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَالًا حَلَالًا، وَكُلُّ مَا كَانَ بِخِلَافِهِ كَانَ حَرَامًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَوْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِأَجْلِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فَأَكْلُهُ بِالْحَرَامِ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْقِمَارِ أَوْ إِلَى السَّرَفِ الْمُحَرَّمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: / وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ واعلم أن سُبْحَانَهُ كَرَّرَ هَذَا النَّهْيَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كتابه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ:
٢٩] وَقَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٨] ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩] ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩] ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥] جَعَلَ آكِلَ الرِّبَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُؤْذِنًا بِمُحَارَبَةِ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ مُتَعَرِّضًا لِلنَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَكْلَ خَاصَّةً، لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ كَالْأَكْلِ فِي هَذَا الْبَابِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَكْلُ وَقَعَ التَّعَارُفُ فِيمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْبَاطِلُ» فِي اللُّغَةِ الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، يُقَالُ: بَطَلَ الشَّيْءُ بُطُولًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَجَمْعُ الْبَاطِلِ بَوَاطِلُ، وَأَبَاطِيلُ جَمْعُ أُبْطُولَةٍ، وَيُقَالُ: بَطَلَ الْأَجِيرُ يَبْطُلُ بَطَالَةً إِذَا تَعَطَّلَ وَاتَّبَعَ اللَّهْوَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِدْلَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِدْلَاءِ الدَّلْوِ، وَهُوَ إِرْسَالُكَ إِيَّاهَا فِي الْبِئْرِ لِلِاسْتِقَاءِ يُقَالُ. أَدْلَيْتُ دَلْوِي أُدْلِيهَا إِدْلَاءً فَإِذَا اسْتَخْرَجْتَهَا قُلْتَ دَلَوْتُهَا قَالَ تَعَالَى: فَأَدْلى دَلْوَهُ [يُوسُفَ: ١٩]، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ إِلْقَاءِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إِدْلَاءً، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ: أَدْلَى بِحُجَّتِهِ، كَأَنَّهُ يُرْسِلُهَا لِيَصِيرَ إِلَى مُرَادِهِ كَإِدْلَاءِ الْمُسْتَقِي الْوَلَدَ لِيَصِلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنَ الْمَاءِ، وَفُلَانٌ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَحِمٍ، إِذَا كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَيْهِ فَيَطْلُبُ الْمِيرَاثَ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، طَلَبَ الْمُسْتَحِقِّ بِالدَّلْوِ الْمَاءَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَلَا تُدْلُوا إِلَى الْحُكَّامِ، أَيْ لَا تُرْشُوهَا إِلَيْهِمْ لِتَأْكُلُوا طَائِفَةً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفِي تَشْبِيهِ الرِّشْوَةِ بِالْإِدْلَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّشْوَةَ رِشَاءُ الْحَاجَةِ، فَكَمَا أَنَّ الدَّلْوَ الْمَمْلُوءَ مِنَ الْمَاءِ يَصِلُ مِنَ الْبَعِيدِ إِلَى الْقَرِيبِ بِوَاسِطَةِ الرِّشَاءِ فَالْمَقْصُودُ الْبَعِيدُ يَصِيرُ قَرِيبًا بِسَبَبِ الرِّشْوَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ بِسَبَبِ أَخْذِ الرِّشْوَةِ يَمْضِي فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ كَمُضِيِّ الدَّلْوِ فِي الْإِرْسَالِ، ثُمَّ الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَدَائِعُ وَمَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ مَالُ الْيَتِيمِ فِي يَدِ الْأَوْصِيَاءِ يَدْفَعُونَ بَعْضَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَبْقَى عَلَيْهِمْ بَعْضُهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ لِيُذْهِبَ حَقَّهُ وَخَامِسُهَا: هُوَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ رِشْوَةً، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا حمل اللفظ على الكل، لأنها بأسره أَكْلٌ بِالْبَاطِلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَالْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَبِيحِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ أَقْبَحُ، وَصَاحِبُهُ بِالتَّوْبِيخِ أَحَقُّ،
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ، اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَالِمٌ بِالْخُصُومَةِ وَجَاهِلٌ بِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَالِمِ، فَقَالَ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ: يَا رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي مُحِقٌّ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أُعَاوِدُهُ، فَعَاوَدَهُ فَقَضَى لِلْعَالِمِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلًا ثُمَّ عَاوَدَهُ ثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِخُصُومَتِهِ فَإِنَّمَا اقْتَطَعَ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»
فَقَالَ الْعَالِمُ الْمَقْضِيُّ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْحَقَّ حَقُّهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «من اقطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
الحكم التاسع
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
وَأَقُولُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُهَا: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] وَثَانِيهَا:
هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ بَعْدُ فِي سُورَةِ البقرة، فالمجموع ثمانية في هَذِهِ السُّورَةِ وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ المائدة: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ [الْمَائِدَةِ: ٤] وَالْعَاشِرُ: فِي سُورَةِ الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: ١] وَالْحَادِيَ عَشَرَ: فِي بَنِي إسرائيل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَالثَّانِي عَشَرَ:
فِي الْكَهْفِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الْكَهْفِ: ٨٣] وَالثَّالِثَ عَشَرَ: فِي طه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طَه:
١٠٥] وَالرَّابِعَ عَشَرَ: فِي النَّازِعَاتِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [النَّازِعَاتِ: ٤٢] وَلِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ:
اثْنَانِ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] وهذا سؤال عن الذات والثاني: قوله: يَسْئَلُونَكَ/ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَهَذَا سُؤَالٌ عَنْ صِفَةِ الْخَلَاقِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْهِلَالِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاثْنَانِ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ فِي شَرْحِ الْمَعَادِ أحدهما: قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ والثاني: قوله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: ١٨٧] وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أولهما: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: ٢١] أَحَدُهُمَا: فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ: وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سُورَةِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أُولَاهَا الْفَاتِحَةُ وثانيتها البقرة وثالثها آلُ عِمْرَانَ وَرَابِعَتُهَا النِّسَاءُ وَثَانِيَتُهُمَا: فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ وَهِيَ أَيْضًا السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سُوَرِ النِّصْفِ الثَّانِي أُولَاهَا مَرْيَمُ، وَثَانِيَتُهَا طه، وَثَالِثَتُهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَرَابِعَتُهَا الْحَجُّ، ثُمَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّتِي فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ تَشْتَمِلُ على شرح المبدأ فقال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء: ١] ويا أَيُّهَا النَّاسُ الَّتِي فِي النِّصْفِ الثَّانِي تَشْتَمِلُ على شرح المعاد فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: ١] فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَسْرَارٌ خَفِيَّةٌ، وَحِكَمٌ مَطْوِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ عَبِيدِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ بْنَ غَنْمٍ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ:
مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالشَّمْسِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلَتْ عَنِ الْأَهِلَّةِ.
وَاعْلَمْ أن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلُوا لَكِنَّ الْجَوَابَ كَالدَّالِّ عَلَى مَوْضِعِ السُّؤَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْفَائِدَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي تَغَيُّرِ حَالِ الْأَهِلَّةِ فِي النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، فَصَارَ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ مُتَطَابِقَيْنِ فِي أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَهِلَّةُ جَمْعُ هِلَالٍ وَهُوَ أَوَّلُ حَالِ الْقَمَرِ حِينَ يَرَاهُ النَّاسُ، يُقَالُ لَهُ: هِلَالُ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ يَكُونُ قَمَرًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: يُسَمَّى الْقَمَرُ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ هِلَالًا، وَكَذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، ثُمَّ يُسَمَّى مَا بَيْنَ ذَلِكَ قَمَرًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعَالٌ يُجْمَعُ فِي أَقَلِّ الْعَدَدِ عَلَى أَفْعِلَةٍ، نَحْوُ مِثَالٍ وَأَمْثِلَةٍ، وَحِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَفِي أَكْثَرِ الْعَدَدِ يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ مِثْلُ حُمُرٍ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا فِي التَّضْعِيفِ فُعَلَ، نَحْوَ هُلَلٍ وَخُلَلٍ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى جَمْعِ أَدْنَى الْعَدَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوَاقِيتُ جَمْعُ الْمِيقَاتِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ [الْأَعْرَافِ: ١٤٢] وَالْهِلَالُ مِيقَاتُ الشَّهْرِ، وَمَوَاضِعُ الْإِحْرَامِ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ يُنْتَهَى إِلَيْهَا، وَلَا تصرف مواقيت لأنها غاية المجموع، فَصَارَ كَأَنَّ الْجَمْعَ يُكَرَّرُ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ: لَمْ صُرِفَتْ قَوَارِيرُ؟ قِيلَ: لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَقَعَتْ فِي رَأْسِ آيَةٍ، فَنُوِّنَ لِيَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ/ الآيات، كما تنون القوافي، مثل قوله:
أقل اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَنْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الزَّمَانَ مُقَدَّرًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ، أَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الْحَاصِلِ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ مِنْ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْفَلَكِ بِحَرَكَتِهَا الْحَاصِلَةِ عَنْ خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ إِلَى أَنْ تَعُودَ إِلَى تِلْكَ النُّقْطَةِ بِعَيْنِهَا، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ النُّقْطَةَ نُقْطَةُ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ وَهُوَ أَوَّلُ الْحَمْلِ، وَأَمَّا الشَّهْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَرَكَةِ الْقَمَرِ مِنْ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ فَلَكِهِ الْخَاصِّ بِهِ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى تِلْكَ النُّقْطَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَشْهَرُ أَحْوَالِ الْقَمَرِ وَضْعَهُ مَعَ الشَّمْسِ، وَأَشْهَرُ أَوْضَاعِهِ مِنَ الشَّمْسِ هُوَ الْهِلَالُ الْعَرَبِيُّ، مَعَ أَنَّ الْقَمَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُشْبِهُ الْمَوْجُودَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَالْمَوْلُودَ الْخَارِجَ مِنَ الظُّلَمِ لَا جَرَمَ جَعَلُوا هَذَا الْوَقْتَ مُنْتَهًى لِلشَّهْرِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ نُقْطَةٍ مِنْ دَائِرَةِ مُعَدَّلِ النَّهَارِ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ الْأُفُقِ، أَوْ نُقْطَةً مِنْ دَائِرَةِ نِصْفِ النَّهَارِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهَا، فَالزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَجِّمِينَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَعْيِينِ دَائِرَةِ نصف النهار مبدأ لليوم بِلَيْلَتِهِ، أَمَّا أَكْثَرُ الْأُمَمِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مَبَادِئَ الْأَيَّامِ بِلَيَالِيهَا مِنْ مُفَارَقَةِ الشَّمْسِ أُفُقَ الْمَشْرِقِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدَاةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَهُمْ بِأَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا كَالْمَوْجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَجَعَلَهُ أَوَّلًا أَوْلَى، فَزَمَانُ النَّهَارِ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَزَمَانُ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ يَفْتَتِحُونَ النَّهَارَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعِنْدَ الْمُنَجِّمِينَ مُدَّةُ الصَّوْمِ فِي الشَّرْعِ هِيَ زَمَانُ النَّهَارِ كُلِّهِ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مَحْدُودَةِ الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَوِيَةٌ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَعْرِيفِ السَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا السَّنَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الشَّمْسِ فَتَحْدُثُ بِسَبَبِهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا حَصَلَتْ فِي الْحَمَلِ فَإِذَا تَرَكَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ، أَخَذَ الْهَوَاءُ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ شَيْئًا مِنَ السُّخُونَةِ لِقُرْبِهَا مِنْ مُسَامَتَةِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْإِسْخَانُ إِلَى أَنْ تَصِلَ أَوَّلَ السَّرَطَانِ، وَتَشْتَدُّ الْحَرَارَةُ وَيَزْدَادُ الْحَرُّ مَا دَامَتْ فِي السَّرَطَانِ وَالْأَسَدِ لِقُرْبِهَا مِنْ سَمْتِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْإِسْخَانُ، ثُمَّ يَنْعَكِسُ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْمِيزَانَ:
وَحِينَئِذٍ يَطِيبُ الْهَوَاءُ وَيَعْتَدِلُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْحَرُّ فِي النُّقْصَانِ وَالْبَرْدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَلَا يَزَالُ يَزْدَادُ الْبَرْدُ إِلَى أَنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إِلَى أَوَّلِ الْجَدْيِ، وَيَشْتَدُّ الْبَرْدُ حِينَئِذٍ لِبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرُّؤُوسِ، وَيَتَوَاتَرُ الْبَرْدُ ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَأْخُذُ فِي الصُّعُودِ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَمَا دَامَتْ فِي الْجَدْيِ وَالدَّلْوِ، فَالْبَرْدُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْحَمَلِ، فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ الْهَوَاءُ وَيَعْتَدِلُ، وَعَادَتِ الشَّمْسُ إِلَى مَبْدَأِ حَرَكَتِهَا وَانْتَهَى زَمَانُ السَّنَةِ نِهَايَتَهُ، وَحَصَلَتِ الْفُصُولُ/ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ الرَّبِيعُ وَالصَّيْفُ وَالْخَرِيفُ وَالشِّتَاءُ، وَمَنَافِعُ الْفُصُولِ الأربعة وتعاقبا ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكُتُبِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ فَهُوَ أَنَّ الْقَمَرَ جِسْمٌ، وَالْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُهَا فِي اللَّوَازِمِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ فَإِذَنْ حُصُولُ الضَّوْءِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَمْرٌ جَائِزٌ أَنْ يَحْصُلَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ وَعَلَى إعدامه، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إِلَى إِسْنَادِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي نُورِ الْقَمَرِ إِلَى قُرْبِهَا وَبُعْدِهَا مِنَ الشَّمْسِ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ حُصُولَ النُّورِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِيجَادِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَكَذَا الذي في جرم القمر.
بقي هاهنا أَنْ يُقَالَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَ خَصَّصَ الْقَمَرَ دُونَ الشَّمْسِ بِهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَنَقُولُ لِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِغَرَضٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ عَاجِزٌ وَثَانِيهَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا وُجُودِهِ فَهُوَ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ، مُسْتَكْمَلٌ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى لَهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لو كان فعله مُعَلَّلًا بِغَرَضٍ فَذَلِكَ الْغَرَضُ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِحْدَاثُهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْفِعْلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِهِ وأحكامه ألبتة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣].
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ سَلَّمُوا أَنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ قَاصِرَةٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى أَسْرَارِ/ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وهو قَوْلُهُ:
وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] وَقَالَ فِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الْإِسْرَاءِ: ١٢] وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الزَّمَانِ بِالشُّهُورِ فِيهِ مَنَافِعُ بَعْضُهَا مُتَّصِلٌ بِالدِّينِ وَبَعْضُهَا بِالدُّنْيَا، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالدِّينِ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّوْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَثَانِيهَا: الْحَجُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَثَالِثُهَا: عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
[الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] وَرَابِعُهَا: النُّذُورُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَوْقَاتِ، وَلِفَضَائِلِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالدُّنْيَا فَهُوَ كَالْمُدَايَنَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْمَوَاعِيدِ وَلِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ كَمَا قَالَ وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: ١٥] وَغَيْرِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْهُلُ ضَبْطُ أَوْقَاتِهَا إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي شَكْلِ الْقَمَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى حُصُولِ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِالسَّنَةِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الشَّمْسِ وَبِإِجْرَائِهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: كَلَّفَتْكُمْ بِالطَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، أَوْ فِي سُدُسِهَا، أَوْ نِصْفِهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ، وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِالْأَيَّامِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: كُلِّفْتُمْ بِالطَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ وَبَعْدَ خَمْسِينَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ، وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ تَقْدِيرِ الزَّمَانِ بِالسَّنَةِ وَبِالْيَوْمِ تَقْدِيرُهُ بِالْقَمَرِ لَكِنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةٍ مِنِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهَا مَرَّةً أُخْرَى هَذَا التَّقْدِيرُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي أَشْكَالِ نُورِهِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيرَ السَّنَةِ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ وإن لم يحصل فِي نُورِ الشَّمْسِ اخْتِلَافًا، فَكَذَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الشَّمْسِ بِحَرَكَةِ الْقَمَرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي نُورِ الْقَمَرِ اخْتِلَافٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنُورِ الْقَمَرِ مُخَالَفَةٌ بِحَالٍ وَلَا أَثَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُهُ بِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: إِنَّ مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّ إِحْصَاءَ الْأَهِلَّةِ أَيْسَرُ مِنْ إِحْصَاءِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالْأَيَّامَ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقْسِيمَ جُمْلَةِ الزَّمَانِ إِلَى السِّنِينَ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ سَنَةٍ إِلَى الشُّهُورِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَيَّامِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ يَوْمٍ إِلَى السَّاعَاتِ، ثُمَّ تَقْسِيمَ كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى الْأَنْفَاسِ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَبْطِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التَّوْبَةِ: ٣٦] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ الَّذِي يُرَاعِي حُسْنَ التَّرْتِيبِ يُقَسِّمُ تَصْنِيفَهُ إِلَى الْكُتُبِ، ثُمَّ كُلَّ كِتَابٍ إِلَى الْأَبْوَابِ، ثُمَّ كُلَّ بَابٍ إِلَى الْفُصُولِ ثُمَّ كُلَّ فَصْلٍ إِلَى المسائل فكذا هاهنا الْجَوَابُ عَنْهُ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْقَمَرُ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ، كَانَ مَعْرِفَةُ أَوَائِلِ الشُّهُورِ وَأَنْصَافِهَا وَأَوَاخِرِهَا أَسْهَلَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَأَخْبَرَ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّهُ دَبَّرَ الْأَهِلَّةَ هَذَا التَّدْبِيرَ الْعَجِيبَ لِمَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي قِوَامِ دُنْيَاهُمْ مَعَ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠] وَقَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفُرْقَانِ: ٦١] وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي جِرْمِ الْقَمَرِ هَذَا الِاخْتِلَافُ لَتَأَكَّدَتْ شُبَهُ الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ إِلَى أَحْوَالِهَا، فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى بِحِكْمَتِهِ الْقَاهِرَةِ أَبْقَى الشَّمْسَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَظْهَرَ الِاخْتِلَافَ فِي أَحْوَالِ الْقَمَرِ لِيَظْهَرَ لِلْعَاقِلِ أَنَّ بَقَاءَ الشَّمْسِ عَلَى أَحْوَالِهَا لَيْسَ إِلَّا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ وَتَغَيُّرَ الْقَمَرِ فِي أَشْكَالِهِ لَيْسَ إِلَّا بِتَغْيِيرِ اللَّهِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ شَاهِدًا عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤]. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَحْوَالِ الْقَمَرِ مَعُونَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا نَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّ تَعْدِيدَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْضِي إِلَى الْإِطْنَابِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحَجِّ فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ وَلِلْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِفْرَادُ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ مَوَاقِيتَ الْحَجِّ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»
وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ أَنَّ إِفْرَادَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْحَجِّ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ إِلَى أَشْهُرٍ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي النَّسِيءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا هَمَّ بِشَيْءٍ فَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ مِنْ بَابِهِ بَلْ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ وَيَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حَوْلًا كَامِلًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ تَطَيُّرًا، وَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّرِ، لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَلَمْ/ يَتَّقِ غَيْرَهُ وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا كَانَ يَتَطَيَّرُ بِهِ، بَلْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّقَاهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ لِتَفُوزُوا بِالْخَيْرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَقَوْلِهِ:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: ٢، ٣] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطَّلَاقِ: ٤] وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ خَائِبًا يُقَالُ: مَا أَفْلَحَ وَمَا أَنْجَحَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَاحُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ حَتَّى تَصِيرُوا مُفْلِحِينَ مُنْجِحِينَ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ،
وَقَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ»
وَقَالَ مَنْ «رَدَّهُ عَنْ سَفَرِهِ تَطِيرٌ فَقَدْ أَشْرَكَ»
أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَقَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النَّمْلِ: ٤٧].
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ نَقَبَ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَتَّخِذُ سُلَّمًا يَصْعَدُ مِنْهُ سَطْحَ دَارِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخِبَاءِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرُّ بِتَحَرُّجِكُمْ عَنْ دُخُولِ الْبَابِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ
أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ نَقَبَ خَلْفَ بَيْتِهِ أَوْ خَيْمَتِهِ نَقْبًا مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ إِلَّا الْحُمْسُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَخَيْثَمُ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهَؤُلَاءِ سُمُّوا حُمْسًا لِتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، الْحَمَاسَةُ الشِّدَّةُ، وَهَؤُلَاءِ مَتَى أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا يَسْتَظِلُّونَ الْوَبَرَ وَلَا يَأْكُلُونَ السَّمْنَ وَالْأَقِطَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُحْرِمًا وَرَجُلٌ آخَرُ كَانَ مُحْرِمًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا مِنْ بَابِ بُسْتَانٍ قَدْ خَرِبَ فَأَبْصَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُحْرِمًا فَاتَّبَعَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَنَحَّ عَنِّي، قَالَ:
وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: دَخَلْتَ الْبَابَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُ بِسُنَّتِكَ وَهَدْيِكَ وَقَدْ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ فَدَخَلْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِحْرَامِ لَيْسَ بِبِرٍّ وَلَكِنَّ البر من
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صَعُبَ الْكَلَامُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَغْيِيرِ نُورِ الْقَمَرِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فَأَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ نُورِ الْقَمَرِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَهِلَّةِ جَعْلُهَا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ/ وَالْحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها فِي الْحَجِّ لَا جَرَمَ تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَلَ قَوْلَهُ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ وُقُوعُ الْقِصَّتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَصَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ حَالِ الْأَهِلَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ: اتْرُكُوا السُّؤَالَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَعْنِيكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى مَا الْبَحْثُ عَنْهُ أَهَمُّ لَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا بِرٌّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمَعْلُومَ هُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَظْنُونِ عَلَى الْمَعْلُومِ فَذَاكَ عَكْسُ الْوَاجِبِ وَضِدُّ الْحَقِّ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ لِلْعَالِمِ صَانِعًا مُخْتَارًا حَكِيمًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ الْبَرِيءَ عَنِ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَمَتَى عَرَفْنَا ذَلِكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي النُّورِ مِنْ فِعْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَنَا بِهَذَا الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْحِكْمَةَ يُفِيدُنَا الْقَطْعَ بِأَنَّ فِيهِ حِكْمَةً، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِعَدَمِ عِلْمِنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ بِالْحَكِيمِ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الْمَعْلُومِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا لَمْ تَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ فِي اخْتِلَافِ نُورِ الْقَمَرِ صِرْتُمْ شَاكِّينَ فِي حِكْمَةِ الْخَالِقِ، فَقَدْ أَتَيْتُمُ الشَّيْءَ لَا مِنَ الْبِرِّ وَلَا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ إِنَّمَا الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فَتَسْتَدِلُّوا بِالْمَعْلُومِ الْمُتَيَقِّنِ وَهُوَ حِكْمَةُ خَالِقِهَا عَلَى هَذَا الْمَجْهُولِ فَتَقْطَعُوا بِأَنَّ فِيهِ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهَا، فَجَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كِنَايَةً عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَإِتْيَانَهَا مِنْ أَبْوَابِهَا كِنَايَةً عَنِ التَّمَسُّكِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذَا طَرِيقٌ مَشْهُورٌ فِي الْكِنَايَةِ فَإِنَّ مَنْ أَرْشَدَ غَيْرَهُ إِلَى الْوَجْهِ الصَّوَابِ يَقُولُ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَفِي ضِدِّهِ يُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ قَالَ تَعَالَى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] وَقَالَ:
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ [هُودٍ: ٩٢] فَلَمَّا كَانَ هَذَا طَرِيقًا مَشْهُورًا مُعْتَادًا فِي الْكِنَايَاتِ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تعالى هاهنا، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ تَفْسِيرَهَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَطْرُقُ إِلَى الْآيَةِ سُوءَ التَّرْتِيبِ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنَ النَّسِيءِ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى فَهُوَ/ كَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ الْبِيُوتَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ لِأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الْخُرُوجَ مِنْ ضَمَّةِ بَاءٍ إِلَى يَاءٍ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ عَلَى الْأَصْلِ وَلِلْقُرَّاءِ فِيهَا وَفِي نَظَائِرِهَا نَحْوِ بُيُوتٍ، وَعُيُونٍ، وَجُيُوبٍ: مَذَاهِبُ وَاخْتِلَافَاتٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَقَدْ بَيَّنَّا دُخُولَ كُلِّ وَاجِبٍ وَاجْتِنَابَ كُلِّ مُحَرَّمٍ تَحْتَهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لِكَيْ تُفْلِحُوا، وَالْفَلَاحُ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَعَالَى الْفَلَاحَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي الْآيَةِ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
الحكم العاشر ما يتعلق بالقتال
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالتَّقْوَى فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى فِي طَرِيقِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَالِاسْتِقَامَةُ عِلْمٌ، وَالتَّقْوَى عَمَلٌ، وَلَيْسَ التَّكْلِيفُ إِلَّا فِي هَذَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشَدِّ أَقْسَامِ التَّقْوَى وَأَشَقِّهَا عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ قَتْلُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ النُّزُولِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ:
قَالَ الرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَ، وَيَكُفُّ عَنْ قِتَالِ مَنْ تَرَكَهُ، وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى أَنَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: ٥].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ بِأَصْحَابِهِ لِإِرَادَةِ الْحَجِّ وَنَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ مَوْضِعٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ وَالْمَاءِ فَصَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ فَأَقَامَ شَهْرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَعُودَ إِلَيْهِمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَيَتْرُكُونَ لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَطُوفَ وَيَنْحَرَ الْهَدْيَ وَيَفْعَلَ مَا شَاءَ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، / ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ خَافَ أَصْحَابُهُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ لَا يَفُوا بِالْوَعْدِ وَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَكَانُوا كَارِهِينَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْمُقَاتَلَةِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا يُقَاتِلُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُرَادُ مِنْهُ: قَاتِلُوا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ إِمَّا عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمُقَاتَلَةِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا الْوَجْهُ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: قَاتِلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ وَأَهْلِيَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَاتَلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَأَهْلِيَّةٌ كَذَلِكَ سِوَى مَنْ جَنَحَ لِلسَّلْمِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الْأَنْفَالِ: ٦١] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ لِلْقِتَالِ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ وَالْمُتَأَهِّلُ لَهُ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُقَاتِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ قِتَالَ الْمُقَاتِلِينَ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ثُمَّ بَعْدَهُ: وَلَا تَعْتَدُوا هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَا يُقَاتِلُكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَانِعَةٌ مِنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] فَاقْتَضَى هَذَا حُصُولَ الْأَوَّلِ فِي قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، لَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا صَارَ مَنْسُوخًا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا فَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ سِوَى مَا ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤا فِي الْحَرَمِ بِقِتَالٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَعْتَدُوا بِقِتَالِ مَنْ نُهِيتُمْ عَنْ قِتَالِهِ مِنَ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ بِالْحِيلَةِ أَوْ بِالْمُفَاجَأَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ دَعْوَةٍ، أَوْ بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنْ مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَذِنَ فِي قِتَالِهِمْ سَوَاءً قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
قُلْنَا: لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ، فَكَانَ الصَّلَاحُ اسْتِعْمَالَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْمُجَامَلَةِ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ الْجَمْعُ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَتَكَرُّرِهَا/ عَلَيْهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَخْلِيقِهِ لَمَا صَحَّ هَذَا الكلام، وجوابه قد تقدم والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الثَّقْفُ وُجُودُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ وَالْغَلَبَةِ وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقِيفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ لِأَقْرَانِهِ، قَالَ:
فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي | فَمَنْ أُثْقَفَ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودٍ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٠] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثُمَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٣] وَهَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ/ تَقَدَّمَ إِبْطَالُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: ١٩٣] فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَا نُسِخَ بَلْ هُوَ بَاقٍ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ ضَعِيفٌ وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الْحَكِيمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَلَّفُوهُمُ الْخُرُوجَ قَهْرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَخْوِيفِهِمْ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْخُرُوجِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ صِيغَةَ «حَيْثُ» تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَخْرِجُوهُمْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ وَهُوَ مَكَّةُ وَالثَّانِي: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُخْرِجُوا أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مِنْ مَكَّةَ إِنْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنْهُ، لَكِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مُشْرِكٍ مِنَ الْحَرَمِ. ثُمَّ أَجْلَاهُمْ أَيْضًا مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفِتْنَةِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ بِالْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ يُؤَدِّي إِلَى الظُّلْمِ وَالْهَرْجِ، وَفِيهِ الْفِتْنَةُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْكُفْرَ أَعْظَمَ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ الْعِقَابَ الدَّائِمَ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْكُفْرُ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ بِهِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَكَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مِنَ الْقَتْلِ،
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فالمؤمنون عبوه عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
فَكَانَ الْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْظِمُوا الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ إِقْدَامَ الكفار على
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، / فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتُلُوهُمْ مِنْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ [التَّوْبَةِ: ٥٢] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفِتْنَةِ عَلَى الْعَذَابِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: ١٣] ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذَّارِيَاتِ: ١٤] أَيْ عَذَابَكُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْبُرُوجِ: ١٠] أَيْ عَذَّبُوهُمْ، وَقَالَ: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٠] أَيْ عَذَابَهُمْ كَعَذَابِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِتْنَتَهُمْ إِيَّاكُمْ بِصَدِّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَشَدَّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي مَا خُلِقَتِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ إِلَّا لَهَا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ ارْتِدَادَ الْمُؤْمِنِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ مُحِقًّا وَالْمَعْنَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ قُتِلْتُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِكُمْ وَأَسْهَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَنْ تَرْتَدُّوا عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَتَكَاسَلُوا فِي طَاعَةِ رَبِّكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ففيه مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا بَيَانٌ لِبَقَاءِ هَذَا الشَّرْطِ فِي قِتَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلُ شَرْطًا فِي كُلِّ الْقِتَالِ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ كُلَّهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَالْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْأَلْفِ، وَهُوَ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ كَذَلِكَ لِلْإِيجَازِ، كَمَا كُتِبَ: الرَّحْمَنُ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وكذلك: صالح، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِرَاءَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ إِذَا لَمْ يَتَنَافَ الْعَمَلُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا، كَمَا يُعْمَلُ بِالْآيَتَيْنِ إِذَا لَمْ يَتَنَافَ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ هَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ لَا تَنَافِيَ فِيهِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ فِيهِ، يُرْوَى أَنَّ الْأَعْمَشَ قَالَ لِحَمْزَةَ: أَرَأَيْتَ قِرَاءَتَكَ إِذَا صَارَ الرَّجُلُ مَقْتُولًا فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَصِيرُ قَاتِلًا لِغَيْرِهِ؟ فَقَالَ حَمْزَةُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا قُتِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَالُوا قُتِلْنَا، وَإِذَا ضُرِبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَالُوا ضُرِبْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ، وَقَالُوا: لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ جِنَايَةِ الْكُفْرِ فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ الْقَتْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الشِّرْكِ.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَنْعُ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا مَحْمُولًا عَلَى تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنَالُ غُفْرَانَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، بَلْ بِتَرْكِ الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكُفْرِ لَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّوْبَةُ وَالْآخَرُ التَّمَسُّكُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ أَظْهَرَ الشَّهَادَتَيْنِ: إِنَّهُ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ الدَّمِ فَقَطْ. أَمَّا الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْغُفْرَانِ والرحمة فَلَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مَقْبُولَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّوْبَةُ عَنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ خَطَأٌ، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْكَافِرِ فَقَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ جَمَعَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا كَوْنَهُ قَاتِلًا. فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ كُلِّ كَافِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ إِذَا كان قاتلا مقبولا والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَوْمُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُقَاتَلَةِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفَتْ حُرْمَتَهُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ عَامَّةٌ وَلَكِنْ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَامَّ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخَصَّصِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَخْصُوصًا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْفِتْنَةِ هاهنا وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، قَالُوا: كَانَتْ فِتْنَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ وَاظَبُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ إِثَارَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ وَيَرْجِعُوا كُفَّارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَلَا تَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَثَانِيهَا: قَالَ أبو مسلم: معنى الفتنة هاهنا الْجُرْمُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ/ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ الْقِتَالُ الَّذِي إِذَا بدءوا بِهِ كَانَ فِتْنَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يَخَافُونَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَضَارِّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يُزِيلُ الْكُفْرَ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَقًّا.
قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدَ قِتَالِهِمْ زَوَالُ الْكُفْرِ
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ قَاتِلُوهُمْ قَصْدًا مِنْكُمْ إِلَى زَوَالِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُقَاتِلِ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَذَا، وَلِذَلِكَ مَتَى ظَنَّ أَنَّ مَنْ يُقَاتِلُهُ يُقْلِعُ عَنِ الْكُفْرِ بِغَيْرِ الْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَمْلِ الْفِتْنَةِ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَاسِطَةٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ غَيْرُهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَزُولَ الْكُفْرُ وَيَثْبُتَ الْإِسْلَامُ، وَحَتَّى يَزُولَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعِقَابِ وَيَحْصُلَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الْفَتْحِ: ١٦] وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَالْمُرَادُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ إِمَّا كُفْرُهُمْ أَوْ قِتَالُهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ، أَيْ فَلَا قَتْلَ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ سُمِّيَ ذَلِكَ الْقَتْلُ عُدْوَانًا مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ؟.
قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ... فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [لقمان: ١٣] وَالثَّانِي: إِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْقِتَالِ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ظَالِمِينَ فَنُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ من يعتدي عليكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
[في قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ الْقِتَالَ وَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ فَقَالَ:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لِلْعُمْرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فَصَدَّهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَنْ أَنْ يَنْصَرِفَ ويعود في العالم الْقَابِلِ حَتَّى يَتْرُكُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
يَعْنِي أَنَّكَ دَخَلْتَ الْحَرَمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا صَدُّوكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ بِذَاكَ الشَّهْرِ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَمِعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَرَادُوا مُقَاتَلَتَهُ وَظَنُّوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
[الْبَقَرَةِ: ٢١٧] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَقَالَ:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاسْتَحِلُّوهُ فِيهِ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنْ مُقَاتَلَتِكُمْ، فَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ جَانِبِنَا، مُقَابَلٌ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ جَانِبِكُمْ، وَالْحَاصِلُ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ حُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، فَكَيْفَ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي أَنْ يَمْنَعَ لِلْقِتَالِ مِنْ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَالْحُرُمَاتُ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَالْحُرْمَةُ مَا مُنِعَ مِنِ انْتِهَاكِهِ وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُودُ تِلْكَ الْوُجُوهُ.
أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرُمَاتِ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله:
الْحُرُماتُ قِصاصٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَضَاعُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ في سنة ست فقد وقفتم حَتَّى قَضَيْتُمُوهُ عَلَى زَعْمِكُمْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى مُقَاتَلَتِكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَهِكُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ/ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] وَبِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: فَقَوْلُهُ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يَعْنِي حُرْمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهْرَيْنِ كَحُرْمَةِ الْآخَرِ فَهُمَا مِثْلَانِ، وَالْقِصَاصُ هُوَ الْمِثْلُ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنِ الْقِتَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِمَا يُقَابِلُ الِاعْتِدَاءَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَقَابِلُوهُ، وَالسَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِ اعْتِدَاءً قَدْ تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي مَكَانٍ إِذْ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْآخَرِ أَوْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ علوا كبيرا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
[قوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله] اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بِالْآلَاتِ وَأَدَوَاتٍ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذُو الْمَالِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ وَكَانَ الشُّجَاعُ الْقَادِرُ عَلَى الْقِتَالِ فَقِيرًا عَدِيمَ الْمَالِ، فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ بِأَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ وَالثَّانِي:
يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: ١٩٤] قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا زَادٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطْعِمُنَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْفَاقَ هُوَ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الْمُضَيِّعِ: إِنَّهُ مُنْفِقٌ فَإِذَا قَيَّدَ الْإِنْفَاقَ بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ به في طريق الدين، لأن السَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ دِينُهُ. فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْفَاقًا فِي حَجٍّ/ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ كَانَ جِهَادًا بِالنَّفْسِ، أَوْ تَجْهِيزًا لِلْغَيْرِ، أَوْ كَانَ إِنْفَاقًا فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ فِي الصَّدَقَاتِ أَوْ عَلَى الْعِيَالِ، أَوْ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَوْ عِمَارَةِ السَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجِهَادِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، بَلْ قَالَ:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ فَيَجِبُ إِنْفَاقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ اهْتَزَّ وَنَشِطَ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ الثَّانِي:
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ وَقْتَ ذَهَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعُمْرَةُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى الْقِتَالِ إِنْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَكَانَتْ عُمْرَةً وَجِهَادًا، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْفِقُوا فِي الْجِهَادِ وَالْعُمْرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ التَّهْلُكَةِ الْهَلَاكُ يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هَلَاكًا وَهَلَكًا وَتَهْلُكَةً: قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصْدَرًا عَلَى تَفْعُلَةٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ إِلَّا هَذَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ:
التَّنْصُرَةَ وَالتَّسْتُرَةَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمِثَالُ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ جَاءَ صِفَةً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَصْلُهُ التَّهْلِكَةُ، كَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّبْصِرَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ هَكَذَا فَأُبْدِلَتِ الضَّمَّةُ بِالْكَسْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْجُوَارُ فِي الْجِوَارِ.
وَأَقُولُ: إِنِّي لَأَتَعَجَّبُ كَثِيرًا مِنْ تَكَلُّفَاتِ هَؤُلَاءِ النَّحْوِيِّينَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا شِعْرًا مَجْهُولًا يَشْهَدُ لَمَا أَرَادُوهُ فَرِحُوا بِهِ، وَاتَّخَذُوهُ حُجَّةً قَوِيَّةً، فَوُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَشْهُودِ لَهُ مِنَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ بِالْفَصَاحَةِ، أَوْلَى بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاسْتِقَامَتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِأَيْدِيكُمْ تَقْتَضِي إِمَّا زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا فَقَالَ قَوْمٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَذَبْتُ الثَّوْبَ بِالثَّوْبِ، وَأَخَذْتُ الْقَلَمَ بِالْقَلَمِ فَهُمَا لُغَتَانِ مُسْتَعْمَلَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي الْأَنْفُسُ كَقَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: ١٠] أَوْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشُّورَى: ٣٠] فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بل هاهنا حَذْفٌ. وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ النَّفَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِهَا، أَمَّا الأولون فذكروا فيه وجوه الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُنْفِقُوا فِي مُهِمَّاتِ الْجِهَادِ أَمْوَالَهُمْ، فَيَسْتَوْلِيَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَيُهْلِكَهُمْ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إن كنت من رجال الدين فأنفق مَالَكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا/ فَأَنْفِقْ مَالَكَ فِي دَفْعِ الْهَلَاكِ وَالضَّرَرِ عَنْ نَفْسِكَ
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَأَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا: صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرْنَاهُ وَشَهِدْنَا مَعَهُ الْمَشَاهِدَ فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكَ الْجِهَادِ
وَالثَّانِي:
رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَكَ الْجَنَّةُ» فَانْغَمَسَ فِي جَمَاعَةِ الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ،
وَأَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَلْقَى دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَنَّةَ ثُمَّ انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ وَالثَّالِثُ:
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ تَخَلَّفَ عَنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ فَرَأَى الطَّيْرَ عُكُوفًا عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ سَأَتَقَدَّمُ إِلَى الْعَدُوِّ فَيَقْتُلُونَنِي وَلَا أَتَخَلَّفُ عَنْ مَشْهَدٍ قُتِلَ فِيهِ أَصْحَابِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا حَسَنًا
الرَّابِعُ: رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا حَاصَرُوا حِصْنًا، فَقَاتَلَ رَجُلٌ حَتَّى قُتِلَ فَقِيلَ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَذَبُوا أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٧] وَلِمَنْ نَصَرَ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَقُولَ:
إِنَّا إِنَّمَا حَرَّمْنَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ فِي صَفِّ الْعَدُوِّ إِذَا لَمْ يُتَوَقَّعْ إِيقَاعُ نِكَايَةٍ مِنْهُمْ، فَأَمَّا إِذَا تُوُقِّعَ فَنَحْنُ نُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] أَيْ فَإِنْ/ قَاتَلُوكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَاتِلُوهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْحُرُمَاتِ قِصَاصٌ، فَجَازُوا اعْتِدَاءَهُمْ عَلَيْكُمْ وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ عَلَى أَنْ تَسْتَسْلِمُوا لِمَنْ قَاتَلَكُمْ فَتَهْلِكُوا بِتَرْكِكُمُ الْقِتَالَ فَإِنَّكُمْ بِذَلِكَ تَكُونُونَ مُلْقِينَ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَقُولُوا إِنَّا نَخَافُ الْفَقْرَ إِنْ أَنْفَقْنَا فَنَهْلِكُ وَلَا يَبْقَى مَعَنَا شَيْءٌ، فَنُهُوا أَنْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ هَالِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ وَالْإِلْقَاءِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ جَعَلَ فُلَانٌ فُلَانًا هَالِكًا وَأَلْقَاهُ فِي الْهَلَاكِ إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَاكَ هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَرْكِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ الْوَجْهُ السَّادِسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ فِي التَّهْلُكَةِ وَالْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ فِعْلًا يُحْبِطُ ثَوَابَهُ إِمَّا بتذكير
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُحْسِنَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاذَا وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ الْحُسْنِ وَأَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَنْ يَنْفَعُ غَيْرَهُ بِنَفْعٍ حَسَنٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِحْسَانَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّرْبُ وَالْقَتْلُ إِذَا حَسُنَا كَانَ فَاعِلُهُمَا مُحْسِنًا الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَفَاعِلُ الْحُسْنِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا وَإِحْسَانًا مَعًا، فَالِاشْتِقَاقُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَحْسِنُوا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: أَحْسِنُوا فِي فَرَائِضِ اللَّهِ وَثَانِيهَا:
وَأَحْسِنُوا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ مُؤْنَتُهُ وَنَفَقَتُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ وَسَطًا فَلَا تُسْرِفُوا وَلَا تُقَتِّرُوا، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مرارا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: حَجَّ فُلَانٌ الشَّيْءَ إِذَا قَصَدَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَالْحِجَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ السَّنَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا حِجَّةٌ لِأَنَّ النَّاسَ يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهَا أَرْكَانٌ وَمِنْهَا أَبْعَاضٌ وَمِنْهَا هَيْئَاتٌ، فَالْأَرْكَانُ مَا لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ وَالْأَبْعَاضُ هِيَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي إِذَا تُرِكَ شَيْءٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَالْهَيْئَاتُ مَا لَا يَجِبُ الدَّمُ عَلَى تَرْكِهَا، وَالْأَرْكَانُ عِنْدَنَا خَمْسَةٌ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي حَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ نُسُكٌ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا الْأَبْعَاضُ فَهِيَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْمُقَامُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ فِي قَوْلٍ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فِي قَوْلٍ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمِنَى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ فِي قَوْلٍ وَرَمِيُ أَيَّامِهَا.
وَأَمَّا سَائِرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَهِيَ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَفِي الْحَلْقِ قَوْلَانِ، ثم المعتمر بعد ما فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ذَبَحَهُ ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ، وَهَلْ هَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ أَوْ مَشْرُوطٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ، ذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَشْرُوطٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِيهِ فَلْيُتِمَّهُ قَالُوا: وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ وَاجِبًا إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يَكُونُ إِتْمَامُهُ وَاجِبًا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وغير واجبة عن أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةُ أَصْحَابِنَا مِنْ وُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْإِتْمَامَ قَدْ يُرَادُ بِهِ فِعْلُ الشَّيْءِ كَامِلًا تَامًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِذَا شَرَعْتُمْ فِي الْفِعْلِ فَأَتِمُّوهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ أَنْ يكون المراد
فَإِنْ قِيلَ: قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا إِخْرَاجَ الْعُمْرَةِ عَنْ حُكْمِ الْحَجِّ فِي الْوُجُوبِ.
قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا ضَعْفًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عَطْفَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعُمْرَةَ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا، وَإِلَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ مَدْلُولِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ: وَالْعُمْرَةُ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمْرَةُ مَأْمُورًا بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [الْبَيِّنَةِ: ٥] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التَّوْبَةِ: ٣] يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حَجٍّ أَصْغَرَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَقِيقَةُ أَفْعَلَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْعُمْرَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُمْرَةَ حَجٌّ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَلِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا
أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُتَّفَقِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ جِبْرِيلَ
وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقال: إن أبي شيخ كفي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ، فَأَمَرَ بِهِمَا، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ،
وَمِنْهَا مَا
رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ»
وَمِنْهَا ما
روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَشْبَهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْحَجِّ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى:
قَصَدَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي سَأَلَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَالصَّوْمَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعْ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»
فَهَذِهِ أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا رَدُّهَا،
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سئل عن الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَا وَإِنْ تَعْتَمِرْ خَيْرٌ لَكَ،
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ».
وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ أَخْبَارٌ آحَادٌ فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ العمرة ما كانت واجبة عند ما ذَكَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ تَفْصِيلِ الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ حَجٌّ لِأَنَّهَا هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَلَا تَكُونُ هِيَ مُنَافِيَةً لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ فَقَالُوا: رِوَايَةُ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْإِفْرَادُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ، فَالْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَعْتَمِرُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، أَوْ يعتمر قبل أشهر الحج، ثُمَّ يَحُجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، / وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِأَنْ يَنْوِيَهُمَا بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ يَصِيرُ قِرَانًا، وَالتَّمَتُّعُ هُوَ أَنَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَأْتِي بِأَعْمَالِهَا ثُمَّ يَحُجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَمَتُّعًا لِأَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَالْمَرْوَزِيِّ
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ آتِيًا بِالْحَجِّ مَرَّةً، ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ فِي الْإِفْرَادِ أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُفْرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ، أَمَّا قَوْلُنَا: إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى،
فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ،
وَرَوَى جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ أَفْرَدَ،
وَأَمَّا
أَنَسٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا عِنْدَ جِرَانِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا»
ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: بِحَالِ الرُّوَاةِ، أَمَّا عَائِشَةُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً، وَمَعَ عِلْمِهَا كَانَتْ أَشَدَّ النَّاسِ الْتِصَاقًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَدَّ النَّاسِ وُقُوفًا عَلَى أَحْوَالِهِ، وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّهُ كَانَ أَقْدَمَ صُحْبَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَسٍ، وَإِنَّ أَنَسًا كَانَ صَغِيرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ فِقْهِهِ أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أُخْتَهُ حَفْصَةَ كَانَتْ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: أَنَّ عَدَمَ الْقِرَانِ مُتَأَكِّدٌ بِالِاسْتِصْحَابِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي تَكْثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَالْقِرَانَ يَقْتَضِي تَقْلِيلَهَا، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْإِفْرَادِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخْتَارُ الْأَفْضَلَ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ
قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»
أَيْ تَعَلَّمُوا مِنِّي.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْإِفْرَادَ يَقْتَضِي تَكْثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَالْقِرَانَ يَقْتَضِي تَقْلِيلَهَا، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيجَابَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يُفِيدُ الثَّانِي، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي أَفَادَ الْأَوَّلَ، فَكَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقِرَانَ جَمْعٌ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ فِي الْقِرَانِ مُسَارَعَةً إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ: وَسارِعُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٣].
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ دَلَالَةَ مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً عَلَى الْإِفْرَادِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَمُجَرَّدُ حُسْنِ ظَنٍّ حَيْثُ قُلْتُمْ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً أَوْلَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّرْجِيحُ لِقَوْلِنَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِنُ يَفْعَلُهُ الْمُفْرِدُ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْقِرَانَ كَانَ/ حِيلَةً فِي إِسْقَاطِ الطَّاعَةِ فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَخَّصًا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فَلَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَقُولُ إِنَّ الْحَجَّةَ الْمُفْرَدَةَ بِلَا عُمْرَةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ لَكِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَتَى بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِهَا فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْحَجَّةِ الْمَقْرُونَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ
وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ مَنَعَ الْكُفَّارُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ حَتَّى يُتِمَّ هَذَا الْفَرْضَ، وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَوُّعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَرْضَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ثُمَّ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُتِمُّوا الْآدَابَ الْمُعْتَبَرَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ فَقَالَ: الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْإِحْرَامِ ثَمَانِيَةٌ الْأَوَّلُ: فِي الْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَإِعْدَادِ النَّفَقَةِ لِكُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَيَرُدَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَيَسْتَصْحِبَ مِنَ الْمَالِ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَا يَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الزَّادِ وَالرِّفْقِ بِالْفُقَرَاءِ، وَيَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ دَابَّةً قَوِيَّةً عَلَى الْحَمْلِ أَوْ يَكْتَرِيَهَا، فَإِنِ اكْتَرَاهَا فَلْيُظْهِرْ لِلْمُكَارِي كُلَّ مَا يَحْصُلُ رِضَاهُ فِيهِ الثَّانِي: فِي الرَّفِيقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ رَفِيقًا صَالِحًا مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُعِينًا عَلَيْهِ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ سَاعَدَهُ، وَإِنْ جَبُنَ شَجَّعَهُ، وَإِنْ عَجَزَ قَوَّاهُ وَإِنْ ضَاقَ صَدْرُهُ صَبَّرَهُ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ وَالرُّفَقَاءُ الْمُقِيمُونَ فَيُوَدِّعُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ أَدْعِيَتَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي دُعَائِهِمْ خَيْرًا، وَالسُّنَّةُ فِي الْوَدَاعِ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ الثَّالِثُ: فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ، فَإِذَا هَمَّ بِالْخُرُوجِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بعد الفاتحة
١٢٤].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَفْرِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَفَرٍ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِالدَّلِيلِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ يُرْوَى مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ عُمَرُ يَتْرُكُ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ، وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فَرِّقُوا بَيْنَ حَجِّكِمْ وَعُمْرَتِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وابن كثير وأبو عامر وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ الْحَجَّ بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ بِالْكَسْرِ فِي آلِ عِمْرَانَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ:
وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَرَطْلٍ وَرِطْلٍ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَصْلُ الْحَصْرِ وَالْإِحْصَارِ: الْحَبْسُ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّذِي لَا يَبُوحُ بِسِرِّهِ: حَصَرَ. لِأَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ عَنِ الْبَوْحِ وَالْحَصْرُ احْتِبَاسُ الْغَائِطِ وَالْحَصِيرُ الْمَلِكُ لِأَنَّهُ كَالْمَحْبُوسِ بَيْنَ الْحُجَّابِ وَفِي شِعْرِ لَبِيَدٍ:
جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
وَالْحَصِيرُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِانْضِمَامِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ إِلَى بَعْضٍ تَشْبِيهًا بِاحْتِبَاسِ الشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَصْرِ مَخْصُوصٌ بِمَنْعِ الْعَدُوِّ إِذَا مَنَعَهُ عَنْ مُرَادِهِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَفْظُ الْإِحْصَارِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَرَضِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ السَّفَرِ وَقَالَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَارِ يُفِيدُ الْحَبْسَ وَالْمَنْعَ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ أَوْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ/ يَرُدُّونَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَ حَبْسِ الْعَدُوِّ ثَابِتٌ، وَهَلْ يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَسَائِرِ الْمَوَانِعِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَثْبُتُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا:
الَّذِينَ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مُخْتَصٌّ بِالْحَبْسِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَصًّا صَرِيحًا فِي أَنَّ إِحْصَارَ الْمَرَضِ يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا الْإِحْصَارُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْحَبْسِ سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوْ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ ظَاهِرَةً أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمَّى الْإِحْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عِنْدَ حُصُولِ الْإِحْصَارِ سَوَاءٌ حَصَلَ بِالْعَدُوِّ أَوْ بِالْمَرَضِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ الْإِحْصَارَ اسْمٌ لِلْمَنْعِ الْحَاصِلِ بِالْعَدُوِّ، فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَنَحْنُ نَقِيسُ الْمَرَضَ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَامِعِ دَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ ظَاهِرٌ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعُ الْعَدُوِّ فَقَطْ، وَالرِّوَايَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْلَى لِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَدْنَى فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِحْصَارَ إِفْعَالٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِفْعَالُ تَارَةً يَجِيءُ بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ نَحْوَ: ذَهَبَ زَيْدٌ وَأَذْهَبْتُهُ أَنَا، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى صَارَ ذَا كَذَا نَحْوَ: أَغَدَّ الْبَعِيرُ إِذَا صَارَ ذَا غُدَّةٍ، وَأَجْرَبَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا إِبِلٍ جَرْبَى وَيَجِيءُ بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ بِصِفَةِ كَذَا نَحْوَ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ أَيْ وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا وَالْإِحْصَارُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَوَجَبَ إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى الصَّيْرُورَةِ أَوْ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَارُوا مَحْصُورِينَ أَوْ وُجِدُوا مَحْصُورِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحْصُورَ هُوَ الْمَمْنُوعُ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِحْصَارِ هُوَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، أَوْ وُجِدُوا مَمْنُوعِينَ بِالْعَدُوِّ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَنَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَصْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ وَمَحْبُوسٌ عَنْ مُرَادِهِ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَهُ مَانِعٌ عَنْهُ، وَالْقُدْرَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ الْبَتَّةَ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَسْتَحِيلُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَانِعِ تَسْتَدْعِي حُصُولَ الْمُقْتَضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِالْعَدُوِّ فَهَهُنَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ حَاصِلَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْفِعْلُ لِأَجْلِ مُدَافَعَةِ العدو، فصح هاهنا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَدُوِّ، / وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْمَرَضِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُحْصِرْتُمْ أَيْ حُبِسْتُمْ وَمُنِعْتُمْ وَالْحَبْسُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَابِسٍ، وَالْمَنْعُ لَا بُدَّ
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْإِحْصَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصْرِ وَلَفْظُ الْحَصْرِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْمَرَضِ، فَلَفْظُ الْإِحْصَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْإِشْعَارِ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْمَرِيضَ، فَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ هُوَ الْمَرِيضُ أَوْ مَنْ يَكُونُ الْمَرَضُ دَاخِلًا فِيهِ، لَكَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ خَصَّ هَذَا الْمَرَضَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا خَاصًّا، وَهُوَ حَلْقُ الرَّأْسِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنْ مُنِعْتُمْ بِمَرَضٍ تَحَلَّلْتُمْ بِدَمٍ، وَإِنْ تَأَذَّى رَأْسُكُمْ بِمَرَضٍ حَلَقْتُمْ وَكَفَّرْتُمْ.
قُلْنَا: هَذَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا لِهَذَا الْغَرَضِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحْصَرُ مُفَسَّرًا بِالْمَرِيضِ، لَمْ يَلْزَمْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُحْصَرِ عَلَى غَيْرِ الْمَرِيضِ يُوجِبُ خُلُوَّ الْكَلَامِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَلَفْظُ الْأَمْنِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْمَرَضِ: شُفِيَ وَعُفِيَ وَلَا يُقَالُ أَمِنَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْنِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَمِنَ الْمَرِيضُ مِنَ الْهَلَاكِ وَأَيْضًا خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ أَوَّلِهَا.
قُلْنَا: لَفْظُ الْأَمْنِ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْأَمْنَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَقَوْلُهُ خُصُوصُ آخَرِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا.
قُلْنَا: بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مما ذا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْأَمْنِ مِنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الْإِحْصَارُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْصَارِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْنِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا فِي حَقِّ الْعَدُوِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِحْصَارِ مَنْعَ الْعَدُوِّ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِحْصَارَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ مَنْعُ الْعَدُوِّ فَقَطْ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْعُ الْمَرَضِ صَاحَبَهُ خَاصَّةً فَهُوَ بَاطِلٌ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَحْصَرُوا النَّبِيَّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّاسُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآيَةَ النَّازِلَةَ فِي سَبَبٍ هَلْ تَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ السَّبَبِ؟ إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ خَارِجًا عَنْهُ، فَلَوْ كَانَ الْإِحْصَارُ اسْمًا لِمَنْعِ الْمَرَضِ، لَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ خَارِجًا عَنْهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ مَنْعِ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ: إِنْ، شَرْطٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ عَنِ انْتِفَائِهِ ظَاهِرًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ إِلَّا فِي الْإِحْصَارِ الَّذِي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هَذَا الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ قِيَاسًا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، وَفِيهَا إِضْمَارٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَلَامٌ غَيْرُ تَامٍّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: مَحَلُّ، مَا: رَفْعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ نَصَبْتَ عَلَى مَعْنَى: اهْدُوا مَا تَيَسَّرَ كَانَ صَوَابًا، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَشْبَاهِهِ مَرْفُوعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَيْسَرَ بِمَعْنَى تَيَسَّرَ، وَمِثْلُهُ: اسْتَعْظَمَ، أَيْ تَعَظَّمَ وَاسْتَكْبَرَ: أَيْ تَكَبَّرَ، وَاسْتَصْعَبَ:
أَيْ تَصَعَّبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَدْيِ جَمْعُ هَدْيَةٍ، كَمَا تَقُولُ: تَمْرٌ وَتَمْرَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ الْهَدْيِ وَتَمِيمٌ تُثَقِّلُهُ، فَيَقُولُونَ: هَدِيَّةٌ، وَهَدِيٌّ وَمَطِيَّةٌ، وَمَطِيٌّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى | وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْهَدْيِ، هَلْ لَهُ بَدَلٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ؟ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، / وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْصَرِ الْهَدْيَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَا أَثْبَتَ لَهُ بَدَلًا وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ بَدَلًا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ أَوْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ لِلْمَشَقَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي فَفِيهِ اخْتِلَافَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَقْرَبُهَا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ الْهَدْيُ بِالدَّرَاهِمِ وَيُشْتَرَى بِهَا طَعَامٌ وَيُؤَدَّى، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْهَدْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ وَذَبَحَ، وَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَتَحَلَّلَ الْبَتَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعُمْرَةِ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا حُكْمُهَا فِي الْإِحْصَارِ كَحُكْمِ الْحَجِّ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَحَلَّلُ بِبُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ بَلْ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِالنَّحْرِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَيُنْحَرَ فَإِذَا نُحِرَ فَاحْلِقُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَجُوزُ إِرَاقَةُ دَمِ الْإِحْصَارِ لَا فِي الْحَرَمِ، بَلْ حَيْثُ حُبِسَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْمَحِلُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّحَلُّلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَنَحَرَ بِهَا، وَالْحُدَيْبِيَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ إِنَّمَا أُحْصِرَ فِي طَرَفِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ عَلَى طَرَفِ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نَحْرَ ذَلِكَ الْهَدْيِ مَا وَقَعَ فِي الْحَرَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الْفَتْحِ: ٢٥] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِبْلَاغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ الَّذِي كَانَ يُرِيدُهُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ نَحَرُوا ذَلِكَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُحْصَرَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِنَحْرِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مِنْ نَحْرِ الْهَدْيِ.
بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْصَرًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ/ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مَعْنَاهُ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهدي نحره وَاجِبٌ، أَوْ مَعْنَاهُ فَانْحَرُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ نَحْرَ الْهَدْيِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُحْصَرِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الذَّبْحُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِالشَّيْءِ أَوَّلُ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْصَرُ قَادِرًا عَلَى إِرَاقَةِ الدَّمِ حَيْثُ أُحْصِرَ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا مَكَّنَ الْمُحْصَرَ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالذَّبْحِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَخْلِيصِ النَّفْسِ عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ فِي الْحَالِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ النَّحْرُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَمَا لَمْ يَحْصُلِ النَّحْرُ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّحَلُّلُ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْمُوصِلَ لِلنَّحْرِ إِلَى الْحَرَمِ إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ نُفِيَ الْخَوْفُ، وَكَيْفَ يُؤْمَنُ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ قِيَامِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَقَدْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحِلَّ بِكَسْرِ عَيْنِ الْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَكَانِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ فَقَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ فِي الْحَالِ إِلَى مَكَانِ الْحِلِّ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ بَالِغٌ مَحِلَّهُ فِي الْحَالِ، جَوَابُهُ: الْمَحِلُّ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَأَنَّ مِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِهِ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ لَفْظَ
٣٣] وَفِي قَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: ٩٥] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحَرَمُ فَإِنَّ الْبَيْتَ عَيْنَهُ لَا يُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ.
جَوَابُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي مَالِهِ مِنْ بَدَنَةٍ وَجَزَاءِ هَدْيٍ فَلَا يُجْزِي إِلَّا فِي الْحَرَمِ لِمَسَاكِينِ أَهْلِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطَفَ فِي طَرِيقِهِ ذَبَحَهُ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَالثَّانِي: دَمُ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ حَيْثُ حُبِسَ، فَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الثَّالِثُ: قَالُوا: الْهَدْيُ سُمِّيَ هَدْيًا لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، وَالْهَدِيَّةُ لَا تَكُونُ هَدِيَّةً إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا الْمُهْدِي إِلَى دَارِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِجَعْلِ مَوْضِعِ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ.
جَوَابُهُ: هَذَا التَّمَسُّكُ بِالِاسْمِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الرَّابِعُ: أَنَّ سَائِرَ دِمَاءِ الْحَجِّ كُلِّهَا قُرْبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَكَذَا هَذَا.
جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ وَزَوَالُ الْخَوْفِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ أُحْصِرَ، أَمَّا لَوْ وَجَبَ إِرْسَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فَيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُنَاجُوا الرَّسُولَ إلا بعد تقديم الصدقة. فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ،
قَالَ كَعْبٌ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ فِي شَعْرِ رَأْسِي كَثِيرٌ مِنَ الْقَمْلِ وَالصِّئْبَانِ وَهُوَ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ احْلِقْ رَأْسَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا تَأَذَّى بِالْمَرَضِ أَوْ بِهَوَامِّ رَأْسِهِ أُبِيحَ لَهُ الْمُدَاوَاةُ وَالْحَلْقُ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِدْيَةٌ رُفِعَ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحْصَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ رُبَّمَا لَحِقَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ إِنْ صَبَرَ فَاللَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِشَرْطِ بَذْلِ الْفِدْيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ لِكُلِّ مُحْرِمٍ لَحِقَهُ الْمَرَضُ فِي بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى عِلَاجٍ أَوْ لَحِقَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُقَدِّمُ الْفِدْيَةَ ثُمَّ يَتَرَخَّصُ أَوْ يُؤَخِّرُ الْفِدْيَةَ عَنِ التَّرَخُّصِ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْفِدْيَةَ عَنِ التَّرَخُّصِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّرَخُّصِ كَالْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَلَا يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَإِذَنْ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْفِدْيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَالْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْفِدْيَةَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ: نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا كَالسَّبِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الْخَبَثِ، هَذَا أَصْلُ مَعْنَى النُّسُكِ، ثُمَّ قِيلَ لِلذَّبِيحَةِ: نسك مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا فِي النُّسُكِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ شَاةٌ، لِأَنَّ النُّسُكَ لَا يَتَأَدَّى إِلَّا بِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْجَمَلُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالشَّاةُ، وَلَمَّا كَانَ أَقَلُّهَا الشَّاةَ، لَا جَرَمَ كَانَ أَقَلُّ الْوَاجِبِ فِي النُّسُكِ هُوَ الشَّاةَ، أَمَّا الصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كِمِّيَّتِهِمَا وَكَيْفِيَّتِهِمَا، وَبِمَاذَا يَحْصُلُ بَيَانُهُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَصَلَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَهُوَ مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَرَأَى كَثْرَةَ الْهَوَامِّ فِي رَأْسِهِ، قَالَ لَهُ: احْلِقْ ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: الصِّيَامُ لِلْمُتَمَتِّعِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَالْإِطْعَامُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ لَمَّا كَانَا مُجْمَلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَجَبَ حَمْلُهُمَا عَلَى الْمُفَسَّرِ فِيمَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ بعذر، أم مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ، وَالْمَشْرُوطُ بِالشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنَ الْإِحْصَارِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّلَذُّذُ، يُقَالُ: تَمَتَّعَ بِالشَّيْءِ أَيْ تَلَذَّذَ بِهِ، وَالْمَتَاعُ: كُلُّ شَيْءٍ يُتَمَتَّعُ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَاتِعٌ أَيْ طَوِيلٌ، وَكُلُّ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَ الشَّيْءِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ بِهِ، وَالْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ هُوَ أَنْ يَقْدُمَ مَكَّةَ فَيَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُقِيمَ بِمَكَّةَ حَلَالًا يُنْشِئُ مِنْهَا الْحَجَّ، فَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِيمَا بَيْنَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ،
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ،
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ إِلَّا لِي خَاصَّةً، فَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَعُدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْطَالَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عَلَيْهِمْ بَالَغَ فِيهِ بِأَنْ نَقَلَهُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَهَذَا سَبَبٌ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ خَاصًّا بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ أَيْ فَمَنْ يَتَمَتَّعُ بِسَبَبِ الْعُمْرَةِ فَكَأَنَّهُ لَا يَتَمَتَّعُ بِالْعُمْرَةِ وَلَكِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ إِتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُنَا: لِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ خَمْسُ شَرَائِطَ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ وَالثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بشيء من الطواف وإن كان شرطا وَاحِدًا ثُمَّ أَكْمَلَ بَاقِيَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَى بِأَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي «الْأُمِّ» وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَمَا لَوْ طَافَ قَبْلَهُ، وَقَالَ فِي «الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ» : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَابْتِدَائِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِذَا أَتَى بِبَعْضِ الطَّوَافِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَكْثَرِهِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنْ حَجَّ فِي سَنَةٍ أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مُزَاحَمَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَهَذِهِ الْمَسَافَةُ تُعْتَبَرُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنَ الْحَرَمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ/ جَوْفِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ لِأَنَّ لُزُومَ الدَّمِ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَهَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي لُزُومِ دَمِ التَّمَتُّعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَمُ التَّمَتُّعِ دَمُ جُبْرَانِ الْإِسَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَيَأْكُلُ مِنْهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ التَّمَتُّعَ حَصَلَ فِيهِ خَلَلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ دَمَ جُبْرَانٍ، بَيَانُ حُصُولِ الْخَلَلِ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَمَدْتَ إِلَى رُخْصَةٍ بِسَبَبِ الْحَاجَةِ وَالْغُرْبَةِ،
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ نَقْصٍ فِيهَا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ تَمَتُّعًا، وَالتَّمَتُّعُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ وَالِارْتِفَاعِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشَقَّةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً نَوْعُ خَلَلٍ الثَّالِثُ: وَهُوَ بَيَانُ الْخَلَلِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ: أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ صَارَ السَّفَرُ لِلْعُمْرَةِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ لِلْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ هُوَ الْحَجُّ، وَأَيْضًا حَصَلَ التَّرَفُّهُ وَقْتَ الْإِحْلَالِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ خَلَلٌ، وَأَيْضًا كَانَ مِنْ حَقِّهِ جَعْلُ الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ، فَإِنَّهُ
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِنُسُكٍ أَصْلِيٍّ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَ بِهِمَا، وَكَمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا الدَّمَ لَيْسَ دَمَ نُسُكٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دَمَ جُبْرَانٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِلَا تَوْقِيتٍ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ لِأَنَّ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مُؤَقَّتَةٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ لِلصَّوْمِ فِيهِ مَدْخَلًا، وَدَمُ النُّسُكِ لَا يُبْدَلُ بِالصَّوْمِ، وَإِذَا عَرَفْتَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ الْمُكَلَّفَ إِتْمَامَ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ حَجَّ التَّمَتُّعِ غَيْرُ تَامٍّ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَمَتُّعَكُمْ يُوقِعُ نَقْصًا فِي حَجَّتِكُمْ فَاجْبُرُوهُ بِالْهَدْيِ لِتَكْمُلَ بِهِ حَجَّتُكُمْ فَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَهُوَ لَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِالتَّمَتُّعِ: دَمُ شَاةٍ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَوْ تَشَارَكَ سِتَّةٌ فِي بقرة أو بدنة جاز، ووقت وجوبه بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ عَقِيبَ التَّمَتُّعِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ، فلو ذبح بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ جَازَ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ عِنْدَنَا دَمُ جُبْرَانٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ، وَعِنْدَهُ دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَخْتَصُّ/ بِيَوْمِ النَّحْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فالمعنى أن التمتع إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَدَلَهُ مِنَ الصِّيَامِ، فَهَذَا الْهَدْيُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّيَامُ؟ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ أَفْضَلَ، لَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْبَدَلِ أَنَّهُ فِي الْكَمَالِ وَالثَّوَابِ كَالْهَدْيِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ نَصٌّ فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَالْفُقَهَاءُ قَاسُوا عَلَيْهِ مَا إِذَا وَجَدَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجِدْ ثَمَنَهُ، أَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، أَوْ يُبَاعُ بِثَمَنٍ غَالٍ فَهُنَا أَيْضًا يَعْدِلُ إِلَى الصَّوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَيْ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَقْتَ اشْتِغَالِهِ بِالْحَجِّ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ بَعْدَ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصِحُّ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يَجُوزُ كَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ قَبْلَهُ، وَكَمَا إِذَا صَامَ السَّبْعَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ الرُّجُوعِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَأَرَادَ بِهِ إِحْرَامَ الْحَجِّ، لِأَنَّ سَائِرَ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَا تَصْلُحُ طَرَفًا لِلصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامُ يَصْلُحُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْهَدْيِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ، فَكَذَا لَا يَكُونُ وَقْتًا لِلصَّوْمِ الَّذِي هُوَ بدله اعتبار بِسَائِرِ الْأُصُولِ وَالْإِبْدَالِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْبَدَلَ حَالَ عَدَمِ الْأَصْلِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ فِي
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ»
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ حَيْثُ يَكُونُ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ: إِذا رَجَعْتُمْ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي «الْجَدِيدِ» : هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْفَرَاغُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْأَخْذُ فِي الرُّجُوعِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا صَامَ الْأَيَّامَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ الْوَصِيَّةِ إِلَى بَيْتِهِ، لَا يُجْزِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُجْزِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:
إِذا رَجَعْتُمْ مَعْنَاهُ إِلَى الْوَطَنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ شَرْطًا وَمَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدِ الْمَشْرُوطُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْوَطَنِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَطَنِ فَقَبْلَهُ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْمَشْرُوطُ وَيَتَأَكَّدُ مَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْوَطَنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ الثَّانِي: مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا إِهَلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ» فَطُفْنَا/ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا فَرَغْنَا قَالَ: «عَلَيْكُمُ الْهَدْيَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ»
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ الصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ. فَصَوْمُ التَّمَتُّعِ أَخَفُّ شَأْنًا مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ سَبْعَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [الْبَلَدِ: ١٤، ١٥] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَقَدْ طَعَنَ الْمُلْحِدُونَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ فَذِكْرُهُ يَكُونُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كامِلَةٌ يُوهِمُ وُجُودَ عَشَرَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ فِي كَوْنِهَا عَشَرَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ لَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا فِي الْجَمْعِ بَلْ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النِّسَاءِ: ٣] وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسِ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ أَيْ جَالِسْ هَذَا أَوْ هَذَا، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ:
عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إِزَالَةً لِهَذَا الْوَهْمِ النَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ المبدل كما في اليتيم مَعَ الْمَاءِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَدَلَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُبْدَلِ لِيَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْهَدْيِ الْمُتَحَمِّلُ لِكُلْفَةِ الصَّوْمِ سَاكِنَ النَّفْسِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْكَامِلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذِكْرُ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ التَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كامِلَةٌ كَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: تِلْكَ كَامِلَةٌ، جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ السَّبْعَةِ، أَوِ السَّبْعَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ ذِكْرِ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كامِلَةٌ يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْكَمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي الْبَدَلِ عَنِ الْهَدْيِ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ ثَوَابَ صَاحِبِهِ كَامِلٌ مِثْلُ ثَوَابِ مَنْ يَأْتِي بِالْهَدْيِ مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ حَجَّ الْمُتَمَتِّعِ إِذَا أَتَى بِهَذَا الصِّيَامِ يَكُونُ كَامِلًا، مِثْلَ حَجِّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، فَلَوْ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَهَذَا يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُخَصَّصَ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ، فَتَكُونَ دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَاحْتِمَالُهُ لِلتَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ أَبْعَدَ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَعْدَادِ أَرْبَعَةٌ: آحَادٌ، وَعَشَرَاتٌ، وَمِئِينَ، وَأُلُوفٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا أَوْ مَكْسُورًا، وَكَوْنُ الْعَشَرَةُ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِالْكَمَالِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْرِيفِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّمَا أَوْجَبْتُ هَذَا الْعَدَدَ لِكَوْنِهِ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ خَالِيًا عَنِ الْكَسْرِ وَالتَّرْكِيبِ.
النَّوْعُ الخامس: ن التَّوْكِيدَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦] وَقَالَ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ وَيُعْرَفُ بِالصِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ، أَبْعَدُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الواحدة، فالتعبير بالعبادات الْكَثِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا، أَمَّا مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً مُهِمَّةً لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ التَّوْكِيدُ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْعَدَدِ فِي هَذَا الصَّوْمِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِهْمَالُهَا أَلْبَتَّةَ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: فِي بَيَانِ فَائِدَةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ حِسَابٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَهَذَا كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّهْرِ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَأَشَارَ مَرَّةً أُخْرَى وَأَمْسَكَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ مُنَبِّهًا بِالْإِشَارَةِ الْأُولَى عَلَى ثَلَاثِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ.
النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُزِيلُ الْإِبْهَامَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ تَصْحِيفِ الْخَطِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبْعَةً وَتِسْعَةً مُتَشَابِهَتَانِ فِي الْخَطِّ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الِاشْتِبَاهُ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ أَنْ يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، عَلَى أَنَّهُ يَحْسُبُ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، حَتَّى يَكُونَ الْبَاقِي عَلَيْهِ بَعْدُ مِنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةٌ سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا لَكِنَّ الْمَعْنَى أَمْرٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَلْتَكُنْ تِلْكَ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً لِأَنَّ الْحَجَّ الْمَأْمُورَ بِهِ حَجٌّ تَامٌّ عَلَى مَا قَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذِهِ الصِّيَامَاتُ جُبْرَانَاتٌ لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً حَتَّى يَكُونَ جَابِرًا لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ، الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا كَامِلًا، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ كَامِلَةً مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ تَامًّا، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُتَأَكَّدًا جِدًّا فَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْوُقُوعِ كِنَايَةً عَنْ تَأَكُّدِ الْأَمْرِ بِهِ، وَمُبَالَغَةِ الشَّرْعِ فِي إِيجَابِهِ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ، فَلَيْسَ
عَشَرَةٌ وَأَيَّةُ عَشَرَةٍ، عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ اشتمال هذه الكلمة على هذا الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ، وَسَقَطَ بِهَذَا الْبَيَانِ طَعْنُ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ذِكْرُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعُ مِنَ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُمْ ذِكْرُ تَمَتُّعِهِمْ. فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَقْرَبِ، وَهُوَ لُزُومُ الْهَدْيِ وَبَدَلِهِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْهَدْيَ إِنَّمَا لَزِمَ الْآفَاقِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ: فَلَمَّا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ عَنِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ عَنِ الْحَجِّ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ، فَقَدْ حَصَلَ هُنَاكَ الْخَلَلُ فَجُعِلَ مَجْبُورًا بِهَذَا الدَّمِ، وَالْمَكِّيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ لَا يُوقِعُ خَلَلًا فِي حَجِّهِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا بَدَلٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَهُوَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ، وَعِنْدَهُ لَا مُتْعَةَ وَلَا قِرَانَ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ هُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمِيُّ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ كِنَايَةٌ فَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَى الْمَذْكُورِ الْأَقْرَبِ، وَهُوَ وُجُوبُ/ الْهَدْيِ، وَإِذَا خَصَّ إِيجَادَ الْهَدْيِ بِالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي يَكُونُ آفَاقِيًّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ غَيْرَ الْآفَاقِيِّ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إِبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِمُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْرَادِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُتْعَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَدَنِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الْمَكِّيَّ
وَجَوَابُهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَوْدُهُ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْبَ سَبَبٌ لِلرُّجْحَانِ أَلَيْسَ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الْجُمَلِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنَّمَا تَمَيَّزَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ ذِي طُوًى قَالَ: فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِنًى أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ مِنْ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُمْ، ثُمَّ أَقَامُوا بِمَكَّةَ حَتَّى حَجُّوا كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ، وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْحَرَمِ أَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، قَالَ: نَعَمْ وَلَيْسَ هُمْ مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ فَقِيلَ لَهُ:
فَأَهْلُ مِنًى فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسُوا مِنَ الْحَاضِرِينَ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: حاضروا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ، وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ وَقَرْنٌ وَيَلَمْلَمُ وَذَاتُ الْعِرْقِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَهَا إِلَى مَكَّةَ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَذَا هُوَ تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ وَيَحْضُرُونَهُ، فَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: كَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ، قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لَا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: ٣٣] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُرَاقُ فِي الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: المراد من المسجد الحرام هاهنا مَا ذَكَرْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْحَاضِرُ ضِدُّ الْمُسَافِرِ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا كَانَ حَاضِرًا، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ السَّفَرِ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَكَانَ حَاضِرًا الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي أَهْلَ الْقُرَى: حَاضِرَةً وَحَاضِرِينَ، وَأَهْلَ الْبَرِّ: بَادِيَةً وَبَادِينَ وَمَشْهُورُ كَلَامِ النَّاسِ: أَهِلُ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ يُرَادُ بِهِمَا أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ ذَلِكَ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ الدَّمُ أَوِ الصَّوْمُ لَازِمٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»
أَيْ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُضُورَ الْأَهْلِ وَالْمُرَادُ حُضُورُ الْمُحْرِمِ لَا حُضُورُ الْأَهْلِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنَّهُ يَسْكُنُ حَيْثُ أَهْلُهُ سَاكِنُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ إِنَّمَا وُصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَرَامِ وَالْمَحْرُومِ الْمَمْنُوعُ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالشَّيْءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ مِنْ أَنْ يُفْعَلَ فِيهِ مَا مُنِعَ عَنْ فِعْلِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ حَرَامٌ وَحَرَمٌ مِثْلُ زَمَانٌ وَزَمَنٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لِمَنْ تَهَاوَنَ بِحُدُودِهِ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْعِقَابُ وَالْمُعَاقَبَةُ سِيَّانِ، وَهُوَ مُجَازَاةُ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ نَفْسَ الْأَشْهُرِ فَلَا بد هاهنا مِنْ تَأْوِيلٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: الْبَرْدُ شَهْرَانِ، أَيْ وَقْتُ الْبَرْدِ شَهْرَانِ وَالثَّانِي: التقدير الحج حج أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، أَيْ لَا حَجَّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَجِيزُونَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ، فَحَذَفَ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَشْهُرِ الثَّالِثُ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَشْهُرَ نَفْسَ الْحَجِّ لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهَا كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ قَائِمٌ، وَنَهَارٌ صَائِمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ شَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا بِكُلِّيَّتِهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، / وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التِّسْعَةُ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، حُجَّةُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الله تعالى ذكر الأشهر تلفظ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ يُفْعَلُ فِيهَا بَعْضُ مَا يَتَّصِلُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ فَقَدْ تُؤَخِّرُ الطَّوَافَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْعَشْرِ، وَمَذْهَبُ عُرْوَةَ جَوَازُ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَزَّلَ بَعْضَ الشَّهْرِ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُكَ سَنَةَ كَذَا إِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَةٍ مِنْهَا وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ حَجَّ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَالنَّحْرِ مِنْ إِحْرَامِهِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَالْحَائِضُ إِذَا طَافَتْ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ لَا فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ هِيَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَالثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتٌ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ فَائِتَةً مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهَا، فهذا تقرير هذه المذاهب.
بقي هاهنا إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: ١٨٩] فَجَعَلَ كُلَّ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ الثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَهَرَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرِمَ الْمَرْءُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَنْ بَعُدَ دَارُهُ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ بِالْحَجِّ إِلَّا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارِضُهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصحابة.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وَأَشْهَرٌ جَمْعُ تَقْلِيلٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ إِلَى عَشَرَةٍ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَ التَّنْكِيرِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَدْنَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَبَعْضٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ الثَّانِي: أَنَّ الْخُطْبَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظَّهْرِ، حُكْمًا فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الْإِحْرَامُ وَهُوَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا ذَهَبَ وَقْتُ الْحَجِّ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَلَأَنْ لَا يَنْعَقِدَ صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ الله عنه وجهان الأول: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الحج: ١٨٩] فَجَعَلَ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ فَثَبَتَ إِذَنْ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْإِحْرَامُ حَجًّا مَجَازًا كَمَا سُمِّيَ الْوَقْتُ حَجًّا فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ إِلَى الْحَجِّ أَقْرَبُ مِنَ الْوَقْتِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ الْتِزَامٌ لِلْحَجِّ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَالنُّذُرِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر لأداء وَالِاتِّصَالِ لِلنُّذُرِ بِالْأَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ الْتِزَامًا فَهُوَ أَيْضًا شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ وَعَقْدٌ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ افْتَقَرَ إِلَى الْوَقْتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى فَرَضَ فِي اللُّغَةِ أَلَزَمَ وَأَوْجَبَ، يُقَالُ: فَرَضْتُ عَلَيْكَ كَذَا أَيْ أَوْجَبْتُهُ وَأَصْلُ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْفَرْضُ الْحَزُّ فِي الْقَدَحِ وَفِي الْوَتِدِ وَفِي غَيْرِهِ، وَفُرْضَةُ الْقَوْسِ، الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَفُرْضَةُ الْوَتِدِ الْحَزُّ الَّذِي فِيهِ، وَمِنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ، كَلُزُومِ الْحَزِّ لِلْقَدَحِ، ففرض هاهنا بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: فَرَضَ بِمَعْنَى أَبَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النُّورِ: ١] بِالتَّخْفِيفِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التَّحْرِيمِ: ٢] وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ مَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا فَرَضَ شَيْئًا أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ فِيهِنَّ الْحَجَّ، وَالْمُرَادُ/ بِهَذَا الْفَرْضِ مَا بِهِ يَصِيرُ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَاجًّا إِلَّا بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، فَيَخْرُجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ وَاللُّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَالتَّغْطِيَةُ لِلرَّأْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلِأَجْلِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ سُمِّيَ مُحْرِمًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَرَّمَ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا سُمِّيَتِ الْبُقْعَةُ حَرَمًا لِأَنَّهُ يُحَرِّمُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِمَّا لَوْلَاهُ كَانَ لَا يَحْرُمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ يَصِيرُ حَاجًّا وَمُحْرِمًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَا هُوَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّلْبِيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهَا التَّلْبِيَةُ أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ مَنْ أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَوْ قَلَّدَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَلَّدَ أَوْ أَشْعَرَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ وَصَاحَبَهُ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَفَرْضُ الْحَجِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ لَا إِشْعَارَ أَلْبَتَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِكَوْنِهِ مُحْرِمًا لَا بِحَقِيقَةٍ وَلَا بِمَجَازٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْحَجِّ عِبَارَةً عَنِ النِّيَّةِ، وَفَرْضُ الْحَجِّ مُوجِبٌ لِانْعِقَادِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ كَافِيَةً فِي انْعِقَادِ الْحَجِّ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْقِيَاسُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجِّ كَفٌّ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ كَالصَّوْمِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إِلَّا مَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَلَا يَشْرَعُ فِيهِ إِلَّا بِنَفْسِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَلا جِدالَ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا الْكُلَّ بِالنَّصْبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَتَيْنِ الْأُولَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ اسْمٌ، فَجَوْهَرُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوْهَرِ الْمُسَمَّى، وَحَرَكَاتُ الِاسْمِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى، فَقَوْلُكَ: رَجُلٌ يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ، وَحَرَكَاتُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، أَعْنِي كَوْنَهَا مَنْصُوبَةً وَمَرْفُوعَةً وَمَجْرُورَةً، دَالٌّ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهِيَ الْمَفْعُولِيَّةُ وَالْفَاعِلِيَّةُ وَالْمُضَافِيَّةُ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ بِإِزَاءِ الْأَصْلِ، وَالصِّفَةُ بِإِزَاءِ الصِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ يَنْبَغِي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال:
رحل جِدَارْ حَجَرْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ/ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ لَمَّا وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسَمَّى فَحَيْثُ أُرِيدَ تَعْرِيفُ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ خَالِيًا عَنِ الْحَرَكَاتِ، فَإِنْ أُرِيدَ فِي
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَقَدْ نَفَيْتَ رَجُلًا مُنْكَرًا مُبْهَمًا، وَهَذَا بِوَصْفِهِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَكَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ أَدَلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَنَقُولُ: أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ثَلَاثَةً: بِالنَّصْبِ فَلَا إِشْكَالَ وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ الْجِدَالِ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفَثَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْجِدَالُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُجَادِلَ يَشْتَهِي تَمْشِيَةَ قَوْلِهِ، وَالْفُسُوقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُجَادِلُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْجِدَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُبْحِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَقَدْ حَمَلَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَحَمَلَ الثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، هَذَا مَا قَالُوهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانٌ أَنَّهُ لِمَ خُصَّ الْأَوَّلَانِ بِالنَّهْيِ وَخُصَّ الثَّالِثُ بِالنَّفْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الرَّفَثُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَالْمُرَادُ: الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَالرَّفَثُ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ الْمُجَامَعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالرَّفَثُ بِالْيَدِ اللَّمْسُ وَالْغَمْزُ، وَالرَّفَثُ بِالْفَرَجِ الْجِمَاعُ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهِ فِي غَيْبَةِ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْدُو بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَقُولُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هميسا | إن تصدق الطير ننك لميسا |
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ هاهنا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا قَوْلَ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَأَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ فِي الْمَنْطِقِ، يُقَالُ أَرْفَثَ الرَّجُلُ إِرْفَاثًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ.
أَمَّا الْفُسُوقُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ وَالْفُسُوقَ وَاحِدٌ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفَسَقَ يَفْسُقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ حَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ الْمَعَاصِي/ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْكُلِّ وَمُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: ٥٠] وَبِقَوْلِهِ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: ٧].
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السِّبَابُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
[الْحُجُرَاتِ: ١١] وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»
وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيذَاءُ والإفحاش، قال تعالى: لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي حَجِّهِمْ يَذْبَحُونَ لِأَجْلِ الْحَجِّ، وَلِأَجْلِ الْأَصْنَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ:
١٢١] وَقَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ الْعَاصِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مَعَ الْحَلِيلَةِ، وَالْفُسُوقُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ عَلَى سَبِيلِ الزِّنَا وَالسَّادِسُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّبَرِيِّ: الْفُسُوقُ، هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْحَجِّ إِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى تَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ.
وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ فِعَالٌ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي مِنَ الْقَتْلِ، يُقَالُ: زِمَامٌ مَجْدُولٌ وَجَدِيلٌ، أَيْ مَفْتُولٌ، وَالْجَدِيلُ اسْمُ الزِّمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْتُولًا، وَسُمِّيَتِ الْمُخَاصَمَةُ مُجَادَلَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرُومُ أَنْ يَفْتِلَ صَاحِبُهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي هَذَا الْجِدَالِ.
فَالْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْجِدَالُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْخُرُوجُ إِلَى السِّبَابِ وَالتَّكْذِيبِ وَالتَّجْهِيلِ.
وَالثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى، قَالَ بَعْضُهُمْ: حَجُّنَا أَتَمُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حَجُّنَا أَتَمُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ وَكَانَ غَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [الْحَجِّ: ٦٧، ٦٨] قَالَ مَالِكٌ هَذَا هُوَ الْجِدَالُ فِيمَا يُرْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالرَّابِعُ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ غَدًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا حِسَابَ الشُّهُورِ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ عَلَى الْعَدَدِ فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ الْعِيدِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بَلْ غَدًا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، / فَاسْتَقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُجَادِلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْخَامِسُ:
قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ مَا جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: نَرُوحُ إِلَى مِنًى وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» وَتَرَكُوا الْجِدَالَ حِينَئِذٍ.
السَّادِسُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: جِدَالُهُمْ فِي الْحَجِّ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّهِمُ الْمُصِيبُ فِي الْحَجِّ لِوَقْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
السَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي السِّنِينَ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الزَّمَانَ اسْتَدَارَ وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ»
فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي كَلَامًا حَسَنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ نَهْيًا كَقَوْلِهِ: لا رَيْبَ فِيهِ [السجدة: ٢] أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْخَبَرِ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَثْبُتُ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ بَلْ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ كَالضِّدِّ لَهَا وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ، وَيُحْمَلَ الْفُسُوقُ عَلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَيُحْمَلُ الْجِدَالُ عَلَى الشَّكِّ فِي الْحَجِّ وَوُجُوبِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كُفْرًا فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْحَجُّ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى يَصِحَّ خَبَرُ اللَّهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِيرُ الْحَجُّ فَاسِدًا وَيَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ بَاقِيًا مَعَهَا لَمْ يَصْدُقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ حُصُولُ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً وَتِلْكَ الْحَجَّةُ الصَّحِيحَةُ لَا تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تِلْكَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْجِدَالُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ عَمَلُ الْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَعَمَلُ الْحَجِّ مَشْرُوطٌ بِالْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق الجدال عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّهْيِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ وَقَوْلُ الْفُحْشِ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْفُسُوقِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، وَبِالْجِدَالِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهَا نَهْيًا عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْحَثِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، وَالِاحْتِرَازِ عَمَّا/ يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ هِيَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ قُوًى أَرْبَعَةٌ: قُوَّةٌ شَهْوَانِيَّةٌ بَهِيمِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ غَضَبِيَّةٌ سَبُعِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ وَهْمِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ قَهْرُ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الشَّهْوَانِيَّةَ، وَالْغَضَبِيَّةَ، وَالْوَهْمِيَّةَ، فَقَوْلُهُ فَلا رَفَثَ إشارة إلى قهر الشَّهْوَانِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلا فُسُوقَ إِشَارَةٌ إِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّمَرُّدَ وَالْغَضَبَ، وَقَوْلُهُ: وَلا جِدالَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْجِدَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَهِيَ الْبَاعِثَةُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى مُنَازَعَةِ النَّاسِ وَمُمَارَاتِهِمْ، وَالْمُخَاصِمَةِ مَعَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ الشَّرِّ مَحْصُورًا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أَيْ فَمَنْ قَصَدَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ، وَالِانْخِرَاطَ فِي سِلْكِ الْخَوَاصِّ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الأمور، وهذه أسرار نفسية هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَقْصَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ غَافِلًا عَنْهَا، وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ عَابَ الِاسْتِدْلَالَ وَالْبَحْثَ وَالنَّظَرَ وَالْجِدَالَ وَاحْتَجَّ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجِدَالِ، وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةً وَسَبِيلًا
٥٨] عَابَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَلَ مَذْمُومٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٦] نَهْيٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: ٣٢] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَالُ إِلَّا لِتَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَنَحْمِلُ الْجَدَلَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ، وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالْجَدَلَ الْمَمْدُوحَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: ١٩٧] فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَقَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦] وَقَالَ: فَمَنْ فَرَضَ/ فِيهِنَّ الْحَجَّ وَنَهَى عَمَّا هُوَ شَرٌّ وَمَعْصِيَةٌ فَقَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ عَقَّبَ الْكُلَّ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْخَيْرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لِفَوَائِدَ وَلَطَائِفَ أَحَدُهَا: إِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الْخَيْرَ ذَكَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ، وَإِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الشَّرَّ سَتَرْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ رَحْمَتِي بِكَ فِي الدُّنْيَا هَكَذَا، فَكَيْفَ فِي الْعُقْبَى وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: ١٥] مَعْنَاهُ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْعَبْدِ: مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلِمْتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي تَفْعَلُهُ مِنَ الشَّرِّ فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ أُخْفِيَهُ عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ الْمُطِيعِ: كُلُّ مَا تَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ وَالْخِدْمَةِ فِي حَقِّي فَأَنَا عَالِمٌ بِهِ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا وَعْدًا لَهُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ الْمُذْنِبِ الْمُتَمَرِّدِ كَانَ تَوَعُّدًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ وَرَابِعُهَا:
أَنَّ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
فَهَهُنَا بَيَّنَ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ يَرَاهُ وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ لِتَكُونَ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْخَادِمَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَخْدُومَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَحْوَالِهِ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى الْعَمَلِ وَأَكْثَرَ الْتِذَاذًا بِهِ وَأَقَلَّ نُفْرَةً عَنْهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْخَادِمَ إِذَا عَلِمَ اطِّلَاعَ الْمَخْدُومِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ كَانَ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ أَشَدَّ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَتْبَعَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَالنَّهْيَ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: وَتَزَوَّدُوا مِنَ التقوى،
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فَاشْتَغِلُوا بِتَقْوَايَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِحُكْمِ عَقْلِكُمْ وَلُبِّكُمْ أَنْ تَشْتَغِلُوا بِتَحْصِيلِ هذا الزاد لما فيه كَثْرَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى | وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا |
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ | وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُونِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَثْبَتَ أَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَلَالَةِ الْكَسْرِ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ فَاعْلَمْ أَنَّ لُبَابَ الشَّيْءِ وَلُبَّهُ هُوَ الْخَالِصُ مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الْبَهَائِمِ وَقَرُبَ مِنْ دَرَجَةِ
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ.
قُلْنَا: مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ كُنْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ وُجُوبُهَا عَلَيْكُمْ أَثْبَتَ وَإِعْرَاضُكُمْ عَنْهَا أَقْبَحَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا | كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ |
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا وَاللَّهُ أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن الشبهة كان حَاصِلَةً فِي حُرْمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ عَنِ الْجِدَالِ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتِّجَارَةُ كَثِيرَةُ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ فِي قِلَّةِ الْقِيمَةِ وَكَثْرَتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ مُحَرَّمَةً وَقْتَ الْحَجِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً وَقْتَ الْحَجِّ فِي دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ شَيْءٌ مُسْتَحْسَنٌ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْحَجِّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَلَطَّخَ هَذَا الْعَمَلُ مِنْهُ بِالْأَطْمَاعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالِاصْطِيَادِ وَالْمُبَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَجَّ لَمَّا صَارَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ اللُّبْسِ مَعَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَبِأَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التِّجَارَةِ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَانَ أَوْلَى وَرَابِعُهَا: عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُبَاحَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تَصْلُحُ أَنْ تَصِيرَ شُبْهَةً فِي تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْحَجِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ الله تعالى/ هاهنا أَنَّ التِّجَارَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التِّجَارَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْمُزَّمِلِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: ٧٣] ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إِنَّا قَوْمٌ نُكْرِي وَإِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَنَا، فَقَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فَدَعَاهُ وَقَالَ:
أَنْتُمْ حُجَّاجٌ
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا حَجَّ لِلتُّجَّارِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْجَمَّالِينَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عُكَاظَ وَمَجَنَّةَ وَذَا الْمَجَازِ كَانُوا يَتِّجِرُونَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِيهَا، وَكَانَتْ مَعَايِشُهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْحَجِّ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَبَايَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
إِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: أَكْثَرُ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى التِّجَارَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ، قَالَ وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقُونِ فِي كُلِّ أَفْعَالِ الْحَجِّ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: ١٠].
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الْفَضْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ التِّجَارَةِ فِي زَمَانِ الْحَجِّ/ وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا لَا عَلَى مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَلَّ الشُّبْهَةِ هُوَ التِّجَارَةُ فِي زَمَنِ الْحَجِّ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ حِلَّ التِّجَارَةِ.
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ قِيَاسِ الْحَجِّ عَلَى الصَّلَاةِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْمَالُهَا مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَصِحُّ فِي أَثْنَائِهَا التَّشَاغُلُ بِغَيْرِهَا، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْحَجِّ فَهِيَ مُتَفَرِّقَةٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَفِي خِلَالِهَا يَبْقَى الْمَرْءُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا لَا يُقَالُ: بَلْ حُكْمُ الْحَجِّ بَاقٍ فِي كُلِّ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُرْمَةَ التَّطَيُّبِ وَاللُّبْسِ وَأَمْثَالِهِمَا بَاقِيَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطًا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْإِنْسَانُ حَالَ كَوْنِهِ حَاجًّا أَعْمَالًا أُخْرَى تَكُونُ مُوجِبَةً لِاسْتِحْقَاقِ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مِثْلَ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ،
وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْمُبَاحَاتِ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي الْمُبَاحَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
[النساء: ١٠١] والقصر بالإنفاق مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ضَمَّ سَائِرِ الطَّاعَاتِ إِلَى الْحَجِّ يُوقِعُ خَلَلًا فِي الْحَجِّ وَنَقْصًا فِيهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الممتحنة: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التِّجَارَةَ إِذَا أَوْقَعَتْ نُقْصَانًا فِي الطَّاعَةِ لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً، أَمَّا إِنْ لَمْ تُوقِعْ نُقْصَانًا أَلْبَتَّةَ فِيهَا فَهِيَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي الْأَوْلَى تَرْكُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: ٥] وَالْإِخْلَاصُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَامِلٌ عَلَى الْفِعْلِ سِوَى كَوْنِهِ عِبَادَةً،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ جَارٍ مَجْرَى الرخص.
قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِفَاضَةُ الِانْدِفَاعُ فِي السَّيْرِ بِكَثْرَةٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَفَاضَ الْبَعِيرُ بِجَرَّتِهِ، إِذَا وَقَعَ بِهَا فَأَلْقَاهَا مُنْبَثَّةً، وَكَذَلِكَ أَفَاضَ الْأَقْدَاحَ فِي الْمَيْسِرِ، مَعْنَاهُ جَمَعَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا مُتَفَرِّقَةً، وَإِفَاضَةُ الْمَاءِ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا صُبَّ تَفَرَّقَ وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِإِكْثَارٍ وَتَصَرُّفٍ فِي وُجُوهِهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يُونُسَ: ٦١] وَمِنْهُ يُقَالُ لِلنَّاسِ: فَوْضٌ، وَأَيْضًا جَمْعُهُمْ فَوْضَى وَيُقَالُ: أَفَاضَتِ الْعَيْنُ دَمْعَهَا فَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الدَّفْعُ لِلشَّيْءِ حَتَّى يَتَفَرَّقَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَضْتُمْ أَيْ دَفَعْتُمْ بِكَثْرَةٍ، وَأَصْلُهُ أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ، كَمَا تَرَكَ فِي قَوْلِهِمْ: دَفَعُوا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَصَبُّوا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَزَلَ فِي وَادِي قَيْرَوَانَ وَهُوَ يَخْدِشُ بَعِيرَهُ بِمِحْجَنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَفاتٍ جُمَعُ عَرَفَةَ، سُمِّيَتْ بِهَا بُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ، وَأَرْضٌ سَبَاسِبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ عَرَفَةُ فَسُمِّيَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْقِطَعِ بِعَرَفَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ:
هَلَّا مُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ وَفِيهَا السَّبَبَانِ: التَّعْرِيفُ وَالتَّأْنِيثُ قُلْنَا: هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِقِطَعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُسَمَّاةٌ بِعَرَفَةَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ عَلَمًا ثُمَّ جُعِلَتْ عَلَمًا لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقِطَعِ فَتَرَكُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهَا فِي عَدَمِ الصَّرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيَوْمَ الثَّامِنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَالْيَوْمَ التَّاسِعَ مِنْهُ يُسَمَّى بِيَوْمِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الْمَخْصُوصُ سُمِّيَ بِعَرَفَاتٍ، وَذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وُجُوهًا أَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مِنْ رَوَى يَرْوِي تَرْوِيَةً، إِذَا تَفَكَّرَ وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ وَرَوِيَّتَهُ وَالثَّانِي: مِنْ رَوَاهُ مِنَ الْمَاءِ يَرْوِيهِ إِذَا سَقَاهُ مِنْ عَطَشٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا:
أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا بَنَاهُ تَفَكَّرَ فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ أَجْرًا فَمَا أَجْرِي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ؟ قَالَ: إِذَا طُفْتَ بِهِ غَفَرْتُ لَكَ ذُنُوبَكَ بِأَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِكَ، قَالَ:
يَا رَبِّ زِدْنِي قَالَ: أَغْفِرُ لِأَوْلَادِكَ إِذَا طَافُوا بِهِ، قَالَ: زِدْنِي قَالَ: أَغْفِرُ لِكُلِّ مَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الطَّائِفُونَ مِنْ مُوَحِّدِي أَوْلَادِكَ، قَالَ: حَسْبِي يَا رَبِّ حَسْبِي
وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى فِي مَنَامِهِ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ فَأَصْبَحَ مُفَكِّرًا هَلْ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَلَمَّا رَآهُ لَيْلَةَ عَرَفَةَ يُؤْمَرُ بِهِ أَصْبَحَ فَقَالَ: عَرَفْتُ يَا رَبِّ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى فَيَرْوُونَ فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يَذْكُرُوهَا فِي غَدِهِمْ بِعَرَفَاتٍ.
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «صِيَامُ عَشْرِ الْأَضْحَى كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَالشَّهْرِ، وَلِمَنْ يَصُومُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَنَةٌ، وَلِمَنْ يَصُومُ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَتَانِ»
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ ثَوَابِ أَيُّوبَ عَلَى بَلَائِهِ، وَمَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
وَأَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَهُ عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ، خَمْسَةٌ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَخَمْسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُولَى فَأَحَدُهَا: عَرَفَةُ، وَفِي اشْتِقَاقِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ الْتَقَيَا بِعَرَفَةَ فَعَرَفَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَسُمِّيَ/ الْيَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا أُهْبِطَا من الجنة وقع آدم بسر نديب، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ بِنِيسَانَ، وَالْحَيَّةُ بِأَصْفَهَانَ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ بِالْحَجِّ لَقِيَ حَوَّاءَ بِعَرَفَاتٍ فَتَعَارَفَا وَثَانِيهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَلَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَسُمِّيَ عَرَفَاتٍ وَثَالِثُهَا:
قَوْلُ عَلِيٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ: سُمِّيَ الْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَهَا حِينَ رَآهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ
وَرَابِعُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ عَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَنَاسِكَ، وَأَوْصَلَهُ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَقَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ كَيْفَ تَطُوفُ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَقِفُ؟ قَالَ نَعَمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَضَعَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ هَاجَرَ بِمَكَّةَ وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ وَلَمْ يَلْتَقِيَا سِنِينَ، ثُمَّ الْتَقَيَا يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مَنَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْحَاجَّ يَتَعَارَفُونَ فِيهِ بِعَرَفَاتٍ إِذَا وَقَفُوا وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَرَّفُ فِيهِ إِلَى الْحَاجِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي اشْتِقَاقِ عَرَفَةَ أَنَّهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ إِذَا وَقَفُوا فِي عَرَفَةَ اعْتَرَفُوا لِلْحَقِّ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَالصَّمَدِيَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَلِأَنْفُسِهِمْ بِالْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ وَيُقَالُ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا وَقَفَا بِعَرَفَاتٍ قَالَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآنَ عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنَ العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى: يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ٦] أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُذْنِبِينَ لَمَّا تَابُوا فِي عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَخَلَّصُوا عَنْ نَجَاسَاتِ الذُّنُوبِ، وَيَكْتَسِبُونَ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى رَائِحَةً طَيِّبَةً،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»
الثَّانِي: يَوْمُ إِيَاسِ الْكُفَّارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الثَّالِثُ: يَوْمُ إِكْمَالِ الدِّينِ الرَّابِعُ: يَوْمُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ الْخَامِسُ: يَوْمُ الرِّضْوَانِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣] الْآيَةَ،
قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فِي مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدِ اضْمَحَلَّ الْكُفْرُ، وَهُدِّمَ بُنْيَانُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَقَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ»
فَقَالَ يَهُودِيٌّ لِعُمَرَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عِيدَيْنِ، كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ ويوم
وفي الخبر «الحاج وقد اللَّهِ، وَالْحَاجُّ زُوَّارُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ الْكَرِيمِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ».
وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ الْخَمْسَةُ الْأُخْرَى لِيَوْمِ عَرَفَةَ فَأَحَدُهَا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التَّوْبَةِ: ٣] وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ، وَاخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَفَةُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ وَالْحَجُّ عَرَفَةُ إِذَا لَوْ أَدْرَكَهُ وَفَاتَهُ سَائِرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ أَجْزَأَ عَنْهَا الدَّمُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ الْحَسَنُ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْكُفَّارُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَنُودِيَ فِيهِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَهُ مُشْرِكٌ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَعْيَادُ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ أَكْثَرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ فَلَا يَجِبُ فِي الْيَوْمِ بَلْ يُجْزِئُ فِي اللَّيْلِ وَرُوِيَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: الشَّفْعُ وَثَالِثُهَا: الْوَتْرُ وَرَابِعُهَا: الشَّاهِدُ وَخَامِسُهَا:
الْمَشْهُودُ فِي قَوْلِهِ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [الْبُرُوجِ: ٣] وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَسَّرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَيَّامِ الْحَجِّ بِفَضَائِلَ، مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ صَوْمَهُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ»
وَعَنْ أَنَسٍ كَانَ يُقَالُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ: كُلُّ يَوْمٍ بِأَلْفٍ وَيَوْمُ عَرَفَةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ الْوَاقِفِ بِعَرَفَاتٍ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يَكُونَ وَقْتَ الدُّعَاءِ قَوِيَّ الْقَلْبِ حَاضِرَ النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ نُشِيرَ إِشَارَةً حَقِيقِيَّةً إِلَى تَرْتِيبِ أَعْمَالِ الْحَجِّ حَتَّى يَسْهُلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا فِي ذِي الْحِجَّةِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَأَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَتَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَأَقَامَ إِلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَحِينَئِذٍ يُحْرِمُ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِالْحَجِّ وَيَخْرُجُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالسُّنَّةُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ بمكة يوم السابع من ذي الحجة، بعد ما يُصَلِّي الظُّهْرَ خُطْبَةً وَاحِدَةً يَأْمُرُ النَّاسَ فِيهَا بالذهاب غدا بعد ما يُصَلُّونَ الصُّبْحَ إِلَى مِنًى وَيُعَلِّمُهُمْ/ تِلْكَ الْأَعْمَالَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ يَذْهَبُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى بِحَيْثُ يُوَافُونَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ لَا يُدْرَكُ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ فَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ وَمَوْضُوعِهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَذَلِكَ نِصْفُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِذَا حَضَرَ الْحَاجُّ هُنَاكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَحْظَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ كَفَى، وَقَالَ أَحْمَدُ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَأَخَّرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
وَفِي تَسْمِيَةِ الْمُزْدَلِفَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَقْرُبُونَ فِيهَا مِنْ مِنًى وَالِازْدِلَافُ الْقُرْبُ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا وَالِاجْتِمَاعُ الِازْدِلَافُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ يَتَقَرَّبُونَ بِالْوُقُوفِ وَيُقَالُ لِلْمُزْدَلِفَةِ:
جَمْعٌ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقِيلَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعَ حَوَّاءَ، وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا أَيْ دَنَا مِنْهَا، ثُمَّ إِذَا أَتَى الْإِمَامُ الْمُزْدَلِفَةَ: جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ يَبِيتُونَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّوْا صَلَاةَ الصُّبْحِ بغلس والتغليس بالفجر هاهنا أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَلَّوُا الصُّبْحَ أَخَذُوا مِنْهَا الْحَصَى لِلرَّمْيِ، يَأْخُذُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهَا سَبْعِينَ حَصَاةً، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ قُزَحُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَهَذَا الْجَبَلُ أَقْصَى الْمُزْدَلِفَةِ مِمَّا يَلِي مِنًى، فَيَرْقَى فَوْقَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، أَوْ وَقَفَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وبحمد الله تالي يُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَكْفِي الْمُرُورُ كَمَا فِي عَرَفَةَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ مِنْهُ إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ فَإِذَا بَلَغُوا بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ رَاكِبًا أَنْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ، وَمَنْ كَانَ مَاشِيًا أَنْ يَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ، / فَإِذَا أَتَوْا مِنًى رَمَوْا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا ابْتَدَأَ الرَّمْيَ، فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ذَبَحَ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَذَلِكَ سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مَعَهُ هَدْيٌ، ثم بعد ما ذَبَحَ الْهَدْيَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرُ وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَقْطَعَ أَطْرَافَ شُعُورِهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْحَلْقِ يَأْتِي مَكَّةَ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُودُونَ إِلَى مِنًى فِي بَقِيَّةِ يَوْمِ النَّحْرِ وَعَلَيْهِمُ الْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ فَقَدْ حَصَلَ التَّحَلُّلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحَلُّلِ حِلُّ اللُّبْسِ وَالتَّقْلِيمِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ عَنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام،
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالْحَجِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحَجَّ يَحْصُلُ عِنْدَ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ شَرْطٌ وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ قَامَ الْوُقُوفُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ مَقَامَهُ، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ يَدُلُّ أَنَّ الْحُصُولَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُرُورُ بِهِ كَمَا فِي عَرَفَةَ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ هُنَاكَ فَمَسْنُونٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ/ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا:
الْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَحُجَّتُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا ذِكْرَ لَهُ صَرِيحًا فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فِيهِ أَمْرُ جَزْمٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ»
قَالُوا:
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَمَرَ بِالذِّكْرِ لَا بِالْوُقُوفِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ تَبَعٌ لِلذِّكْرِ، وَلَيْسَ بِأَصْلٍ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَهُوَ أَصْلٌ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الذِّكْرِ بِعَرَفَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَشْعَرِ الْمَعْلَمُ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِكَ: شَعَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمْتَهُ، وَلَيْتَ شعري ما فعل فلان، أي ليت عِلْمِي بَلَغَهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَشِعَارُ الشَّيْءِ أَعْلَامُهُ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْمَقَامَ وَالْمَبِيتَ بِهِ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُ، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَصَحُّ أَنَّهُ قُزَحُ، وَهُوَ آخِرُ حَدِّ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يَحْصُلُ عَقِيبَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِالْبَيْتُوتَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فَلِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى وَاذْكُرُوهُ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا قِيَاسِيَّةٌ فَقَوْلُهُ أَوَّلًا: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِالذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ نَذْكُرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَذْكُرَهُ بِهَا، لَا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بِحَسَبِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا:
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَيْ وَافْعَلُوا مَا أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الذِّكْرِ كَمَا هَدَاكُمُ اللَّهُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكُمْ بِهَذَا الذِّكْرِ/ لِتَكُونُوا شَاكِرِينَ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّكْبِيرِ إِذَا أَكْمَلُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَقَالَ في «الأضاحي» : كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الحج: ٣٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَمَرَ بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَقَوْلَهُ ثَانِيًا: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أَمَرَ بِالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الذِّكْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: ذِكْرٌ هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي: الذِّكْرُ بِالْقَوْلِ، فَمَا هُوَ خِلَافُ النِّسْيَانِ قَوْلُهُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الْكَهْفِ: ٦٣] وَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [الْبَقَرَةِ: ٢٠٠] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٣] فَثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ وَارِدٌ بِالْمَعْنَيَيْنِ فَالْأَوَّلُ: مَحْمُولٌ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي: عَلَى الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، فَإِنَّ بِهِمَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ يَعْنِي اذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَمَا ذَكَرَكُمْ بِهِدَايَتِهِ وَخَامِسُهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ مُوَاصَلَةَ الذِّكْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: اذْكُرُوا اللَّهَ وَاذْكُرُوهُ أَيِ اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً بَعْدَ هداية، ويرجع حاصله إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: ٤١] وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَوْقِيفَ الذِّكْرِ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِيهِ إِقَامَةٌ لِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا قَرُبْتَ إِلَى مَرَاتِبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَلْبُكَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، بَلْ عَنْ مَنْ سِوَاهُ فَيَصِيرَ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ جَلَالِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، وَيَذْكُرَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لِهَذَا الذِّكْرِ وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يُعْطِيكَ نِسْبَةً شَرِيفَةً إِلَيْهِ بِكَوْنِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ فِي مَقَامِ الْعُرُوجِ ذَاكِرًا لَهُ وَمُشْتَغِلًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْأَوَّلِ وَثَنَّى بِالثَّانِي لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فِي مَقَامِ الْعُرُوجِ فَيَصْعَدُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ لَا يَشْرَحُهُ الْمَقَالُ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْخَيَالُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ، دُونَ السَّامِعِينَ للأثر ورابعها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ هُوَ ذِكْرَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الثَّانِي: الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ نَعْمَائِهِ، وَالشُّكْرُ مُشْتَمِلٌ أَيْضًا عَلَى
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: كَما هَداكُمْ؟
الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَمَا هَدَاكُمْ بِأَنْ رَدَّكُمْ فِي مَنَاسِكِ حَجِّكُمْ إِلَى سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟.
الْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْهَدْيِ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ هَدَاكُمْ مِنَ الضَّالِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ بِكِتَابِهِ الَّذِي بَيَّنَ لَكُمْ مَعَالِمَ دِينِهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ ذلك عَلَيْكُمْ مِنَ الضَّالِّينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ فَقَالَ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ إِلَّا الضَّالِّينَ وَالثَّانِي: قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الضَّالِّينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطَّارِقِ: ٤] وقوله: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء ١٨٦].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٩]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
[في قوله تعالى ثم أفيضوا] فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرٌ لِقُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا وَهُمُ الْحُمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمُزْدَلِفَةَ وَيَحْتَجُّونَ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَرَمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَرَفَّعُونَ عَلَى النَّاسِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا نُحِلُّ حَرَمَ اللَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَوْ سَلَّمُوا أَنَّ الْمَوْقِفَ هُوَ عَرَفَاتٌ لَا الْحَرَمُ، لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ نَقْصًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ذَلِكَ النَّقْصُ كَانَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ الْحُمْسُ لَا يَقِفُونَ إِلَّا فِي الْمُزْدَلِفَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرًا لَهُمْ بِأَنْ يَقِفُوا فِي عَرَفَاتٍ، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا كَمَا تَفْعَلُهُ سَائِرُ النَّاسِ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا فِي الْحَجِّ أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ النَّاسِ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ مَرَّ عَلَى الْحُمْسِ وَتَرَكَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِلَى أَيْنَ وَهَذَا مَقَامُ آبَائِكَ وَقَوْمِكَ فَلَا تَذْهَبْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَمَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا، وَأَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِالْوُقُوفِ بِهَا،
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يَعْنِي لِتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ سَائِرُ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَاقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الآية الإضافة مِنْ عَرَفَاتٍ مَنْ يَقُولُ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: / مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَيُخَالِفُ الْحُمْسَ،
وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ جَائِزٌ إِذَا كَانَ رَئِيسًا يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عِبَارَةً عَنْ تَقَادُمِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مِمَّا فَعَلَهُ النَّاسُ قَدِيمًا، فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمُ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَانُوا يُفِيضُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ تَكُونَ إِفَاضَتُهُمْ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ فِيهِ إِفَاضَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالًا:
أَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: ١٩٨] لِمَكَانِ ثُمَّ فَإِنَّهَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ كَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقَوْنِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْإِفَاضَةِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا.
قُلْنَا: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ إِلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْتِزَامِهِ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ مِنْ حَيْثُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عَلَى الزَّمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ.
أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: عَنْ ذَلِكَ السؤال بأن ثُمَّ هاهنا عَلَى مِثَالِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: / وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: ١٣- ١٧] أَيْ كَانَ مَعَ هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ كَذَا فَإِنَّ فَائِدَةَ كلمة ثُمَّ هاهنا تَأَخُّرُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَا تَأَخُّرُ هَذَا الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّاسِ إِمَّا الْوَاقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَقَالَ: هُوَ آدَمُ نَسِيَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَرَأَ النَّاسِ بِكَسْرِ السِّينِ اكْتِفَاءً بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة مع عَرَفَاتٍ شَرْعٌ قَدِيمٌ فَلَا تَتْرُكُوهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يُقَصِّرَ فِيمَا بَعْدُ، وَيَكُونَ غرضه في ذلك تحصيل مرضات اللَّهِ تَعَالَى لَا لِمَنَافِعِهِ الْعَاجِلَةِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا وَالْقَلْبُ حَاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَعْنَاهُمَا، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ فَهُوَ إِلَى الضَّرَرِ أَقْرَبُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَالِاسْتِغْفَارُ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْنِبْ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا تَدَارُكًا لِذَلِكَ الْخَلَلِ الْمُجَوَّزِ، وَإِنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ خَلَلٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَهَذَا كَالْمُمْتَنِعِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَيْنَ يُمْكِنُهُ هَذَا الْقَطْعُ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ فِي أَعْمَالِ كُلِّ الْعُمُرِ، إِلَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِمْكَانِهِ فَالِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَلِيقُ بِحَضْرَةِ الْخَالِقِ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، فَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ لَازِمًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً».
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ غَفُورًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَكَذَا الرَّحِيمُ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُذْنِبَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَثِيرُ الْغُفْرَانِ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لِذَلِكَ الْمُسْتَغْفِرِ، وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحَبْلِ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمَوْعُودَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى مِنًى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ يُحْمَلُ؟ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ الثَّانِي بِمَا
رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَالتَّبِعَاتُ عِوَضُهَا مِنْ عِنْدِهِ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَضْتَ بِنَا بِالْأَمْسِ كَئِيبًا حَزِينًا وَأَفَضْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَرِحًا مَسْرُورًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ بِفَضْلِكَ يَا أكرم الأكرمين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٠]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَجَّتِهِمْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى وَبَيْنَ الْجَبَلِ، وَيَذْكُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَضَائِلَ آبَائِهِ فِي السَّمَاحَةِ وَالْحَمَاسَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَتَنَاشَدُونَ فِيهَا الْأَشْعَارَ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمَنْثُورِ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ حُصُولَ الشُّهْرَةِ وَالتَّرَفُّعَ بِمَآثِرِ سَلَفِهِ، فَلَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ لِرَبِّهِمْ كَذِكْرِهِمْ لِآبَائِهِمْ،
وَرَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقُصْوَى يَوْمَ الْفَتْحِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَكُّكَهَا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ تَلَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الْحُجُرَاتِ: ١٣] أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ»
وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْعَرَبَ بِمِنًى بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَجِّ كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، عَظِيمَ الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَضَاءَ إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلِ النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِتْمَامُ وَالْفَرَاغُ، وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ، نَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتَ: ١٢]، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة: ١٠]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»
وَيُقَالُ فِي الْحَاكِمِ عِنْدَ فَصْلِ الْخُصُومَةِ قَضَى بَيْنَهُمَا، وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْلَامِ، فَالْمُرَادُ أَيْضًا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: ٤] يَعْنِي أَعْلَمْنَاهُمْ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْفَرَاغَ مِنْ جَمِيعِهِ خُصُوصًا وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَنَاسِكِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَاتٍ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا حَجَجْتَ فَطُفْ وَقِفْ بِعَرَفَةَ وَلَا يَعْنِي بِهِ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ بَلِ الدُّخُولَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ مُشْعِرٌ بِالْفَرَاغِ وَالْإِتْمَامِ مِنَ الْكُلِّ، وَهَذَا مُفَارِقٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا حَجَجْتَ فَقِفْ بِعَرَفَاتٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ هُنَاكَ الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ لَا الْفَرَاغُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْمَنَاسِكُ» جَمْعُ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ بِمَنْزِلَةِ النُّسُكِ، أَيْ إِذَا قَضَيْتُمْ عِبَادَاتِكُمُ التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلنها جَمْعَ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ أَعْمَالَ مَنَاسِكِكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْمَنَاسِكِ يُوجِبُ هَذَا الذِّكْرَ، فَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ أَيُّ ذِكْرٍ هُوَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذِّكْرِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وأيام التشويق، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْتِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، لِأَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ لَا ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ إِلَّا هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ تَحْوِيلُ الْقَوْمِ عَمَّا اعْتَادُوهُ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ ذِكْرِ التَّفَاخُرِ بِأَحْوَالِ الْآبَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الذَّمِيمَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ وَحَلَلْتُمْ فَتَوَفَّرُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ الْآبَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ يُوجِبُ الْإِقْبَالَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ تَحَمَّلَ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ وَإِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ، وَالْتِزَامَ الْمَشَاقِّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ فَحَقِيقٌ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالدَّعَوَاتِ الْكَثِيرَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ: قَهْرُ النَّفْسِ وَمَحْوُ آثَارِ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ ثُمَّ هَذَا الْعَزْمُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ تَزُولَ النُّقُوشُ الْبَاطِلَةُ عَنْ لَوْحِ الرُّوحِ حَتَّى يَتَجَلَّى فِيهِ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ وَأَزَلْتُمْ آثَارَ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَمَطْتُمُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ السُّلُوكِ فَاشْتَغِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِتَنْوِيرِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَالْأَوَّلُ نَفْيٌ وَالثَّانِي إِثْبَاتٌ وَالْأَوَّلُ إِزَالَةُ مَا دُونَ الْحَقِّ مِنْ سُنَنِ الْآثَارِ وَالثَّانِي اسْتِنَارَةُ/ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ يُبَالِغُونَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يَعْنِي تَوَفَّرُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُمْ تَتَوَفَّرُونَ عَلَى ذِكْرِ الْآبَاءِ وَابْذُلُوا جُهْدَكُمْ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَشَرْحِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ كَمَا بَذَلْتُمْ جُهْدَكُمْ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آبَائِكُمْ لِأَنَّ هَذَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ، فَإِنَّ ذِكْرَ مَفَاخِرِ الْآبَاءِ إِنْ كَانَ كَذِبًا فَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّنَاءَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُجْبَ وَالْكِبْرَ وَكَثْرَةَ الْغُرُورِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُهْلِكَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ اشْتِغَالَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْلَى مِنِ اشْتِغَالِكُمْ بِمَفَاخِرِ آبَائِكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْأَوْلَوِيَّةُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي وَثَانِيهَا: قَالَ الضحاك والربيع:
اذكروا الله كذكركم آبائكم وَأُمَّهَاتَكُمْ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْآبَاءِ عَنِ الْأُمَّهَاتِ كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ:
٨١] قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُفْصِحُ الْكَلَامَ أَبَهْ أَبَهْ، أَمَّهْ أَمَّهْ، أَيْ كُونُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا يَكُونُ الصَّبِيُّ فِي صِغَرِهِ مُوَاظِبًا عَلَى ذِكْرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: جَرَى ذِكْرُ الْآبَاءِ مَثَلًا لِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ كَمَا لَا يَنْسَى ذِكْرَ أَبِيهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَغْفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ أَكْثَرُ أَقْسَامِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْآبَاءِ كَقَوْلِهِ وَأَبِي وَأَبِيكُمْ وَجَدِّي وجدكم، فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمَذْكُورِينَ: الْمَعْنَى اذْكُرُوا اللَّهَ بالوحدانية كذكركم آبائكم بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ نُسِبَ إِلَى وَالِدَيْنِ لَتَأَذَّى وَاسْتَنْكَفَ مِنْهُ ثُمَّ كَانَ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ آلِهَةً فَقِيلَ لَهُمْ: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ كذكركم آبائكم بالوحدانية، بل المبالغة في التوحيد هاهنا أَوْلَى مِنْ هُنَاكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ
وَسَادِسُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ كَمَا يَرْجِعُ إِلَى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذكرا لَهُ بِالتَّعْظِيمِ، فَكُونُوا أَنْتُمْ فِي ذِكْرِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَسَابِعُهَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ لِيَتَوَسَّلُوا بِذِكْرِهِمْ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ آبَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِذْ أَفْعَالُهُمُ الْحَسَنَةُ صَارَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بَدَلَ ذَلِكَ تَعْدِيدَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَتَكْثِيرَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى تَوَاتُرِ النِّعَمِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَحْلِفُوا بِآبَائِهِمْ
فَقَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»
إِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ فَالْأَوْلَى تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَهَ غَيْرَهُ وَثَامِنُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ أَنْ تَغْضَبَ لِلَّهِ إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدِكَ إِذَا ذُكِرَ بِسُوءٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ دَائِمَ التَّعْظِيمِ لَهُ دَائِمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ/ فِي طَلَبِ مُهِمَّاتِهِ دَائِمَ الِانْقِطَاعِ عَمَّنْ سِوَاهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي أَشَدَّ قيل: الكاف، فيكون موضعه جرا وقيل: فَاذْكُرُوا فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرُوا اللَّهَ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَاذْكُرُوهُ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مَعْنَاهُ: بَلْ أَشَدُّ ذِكْرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَشَدَّ مِنِ اشْتِغَالِهِمْ بِذِكْرِ مَفَاخِرِ آبَائِهِمْ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَجَازُ اللُّغَةِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعْرُوفٌ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَذَا إِلَى شَهْرٍ أَوْ أَسْرَعَ مِنْهُ، لَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْكِيكَ، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ النَّقْلَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلًا تَفْصِيلَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهَا بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة: ١٩٨] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُقْتَصُرَ عَلَى ذِكْرِهِ فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ فَقَالَ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ لِكَسْرِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ ظُلُمَاتِهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِبَادَةِ لَا بُدَّ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَنْوِيرِ الْقَلْبِ وَتَجَلِّي نُورِ جَلَالِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَشْتَغِلُ الرَّجُلُ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالذِّكْرِ كَمَا حُكِيَ عَنْ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَجْمَعُونَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي التَّقْسِيمِ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ دُعَاؤُهُ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا ضَعِيفًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِآلَامِ الدُّنْيَا وَلَا بِمَشَاقِّ الْآخِرَةِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَبِّهِ مِنْ كُلِّ شُرُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
رَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ وَقَدْ أَنْهَكَهُ المرض، فقال: ما كنت تدعوا اللَّهَ بِهِ قَبْلَ هَذَا قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ. اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ تُعَاقِبُنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ أَلَا قَلْتَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [الشعراء: ٨٣] » قَالَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُفِيَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ سَلَّطَ الْأَلَمَ عَلَى عِرْقٍ وَاحِدٍ فِي الْبَدَنِ، أَوْ عَلَى مَنْبَتِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَشَوَّشَ الْأَمْرَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَصَارَ بِسَبَبِهِ مَحْرُومًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ إِمْدَادِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أُولَاهُ وَعُقْبَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ حَيْثُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ، وَأَهْمَلَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا مَنْ هُمْ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْكُفَّارُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا وَقَفُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً، وَمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ التَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَعَنْ أَنَسٍ كَانُوا يَقُولُونَ: اسْقِنَا الْمَطَرَ وَأَعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِيهَا مِنْ كَرَامَةٍ وَنَعِيمٍ وَثَوَابٍ، نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ النَّارِ يَسْتَغِيثُونَ ثُمَّ يَقُولُونَ: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، طَلَبًا لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَلَمَّا غَلَبَتْهُمْ شَهَوَاتُهُمُ افْتُضِحُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ لِدُنْيَاهُمْ، لَا لَأُخْرَاهُمْ وَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الذُّنُوبِ حَيْثُ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْظَمِ الْمَوَاقِفِ، وَأَشْرَفِ الْمَشَاهِدِ حُطَامَ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا الْفَانِيَ، مُعْرِضِينَ عَنْ سُؤَالِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُسْلِمًا، كَمَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إن الله يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ/
ثُمَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَالثَّانِي: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَخَلَاقِ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِآخِرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا خَلَاقَ لِمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ كَخَلَاقِ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حُذِفَ مَفْعُولُ آتِنا مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثٌ: رُوحَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ أَمَّا الرُّوحَانِيَّةُ فَاثْنَانِ: تَكْمِيلُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَتَكْمِيلُ الْقُوَّةِ العلمية بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَاثْنَانِ: الصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَأَمَّا الْخَارِجِيَّةُ فَاثْنَانِ: الْمَالُ،
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: ٦] وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مُجَابًا، لَكِنَّ تِلْكَ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ فِي الرِّزْقِ، وَمَا أَشْبَهَهُ «حَسَنَةً» فَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَةِ: ٥٠] وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: ٥٢] أَنَّهُمَا الظَّفَرُ وَالنُّصْرَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَأَمَّا الْحَسَنَةُ في الآخرة فهي الفوز بالثوب، وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَنَسٍ: ادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالُوا: زِدْنَا فَأَعَادَهَا قَالُوا زِدْنَا قَالَ مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَنَسٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ دَارٌ سِوَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا سَأَلَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَحَسَنَةَ الْآخِرَةِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سِوَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا الْعَمَلُ النَّافِعُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ اللَّذَّةُ الدَّائِمَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِ اللَّهِ/ وَبِالْأُنْسِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَالَ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه يَقُولُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا عَمَلًا صَالِحًا
وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَتِلْكَ الْقُرَّةُ هِيَ أَنْ يُشَاهِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ مُطِيعِينَ مُؤْمِنِينَ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ طَلَبُ الْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ، آتِنَا فِي الدُّنْيَا الْحَسَنَةَ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةَ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الحسنات، ولكنه قال: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مَا رَآهُ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ.
قُلْتُ: الَّذِي أَظُنُّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا مَصْلَحَةً لِي وَمُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ فَأَعْطِنِي ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا لَمَّا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ فَقَالَ أَعْطِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَسَنَةُ الَّتِي تَكُونُ مُوَافِقَةً لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَرِضَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُصُولِ الْيَقِينِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَقَطِ الَّذِينَ سَأَلُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَيْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ نَصِيبٌ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ مَا نواه، فمن أنكر البحث وَحَجَّ الْتِمَاسًا لِثَوَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ مِنْهُ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَاللَّهُ مُجَازِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا أُعْطِيَ نَصِيبٌ مِثْلُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠].
[المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ فَمَا الْمُرَادُ مِنْهُ؟
الْجَوَابُ: الْمُرَادُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فَقَوْلُهُ: «مِنْ» فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا كَسَبُوا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلتَّبْعِيضِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ؟
الْجَوَابُ: نَعَمْ. وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْوَعْدِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْكَسْبُ؟
الْجَوَابُ: الْكَسْبُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ كَسْبَهُ وَمُكْتَسَبَهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ فِي الْأَرْبَاحِ: إِنَّهَا كَسْبُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لَا يُرَادُ إِلَّا الرِّبْحُ، فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْخَلْقِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَرِيعُ فَاعِلٌ مِنَ السُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: سَرُعَ يَسْرُعُ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ والْحِسابِ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَمَعْنَى الْحِسَابِ فِي اللُّغَةِ الْعَدُّ يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسْبَةً وَحَسَبًا إِذَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الْحِسَابِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْلِمُهُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ وَكِمِّيَّاتِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، وَبِمَقَادِيرِ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، قَالُوا: وَوَجْهُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِحُصُولِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحِسَابِ عَلَى هَذَا الْإِعْلَامِ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَى الْخَلْقِ بَلْ يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ فِيهَا سَيِّئَاتُهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ سَيِّئَاتُكُمْ قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهَا ثُمَّ يُعْطَوْنَ حَسَنَاتِهِمْ وَيُقَالُ: هَذِهِ حَسَنَاتُكُمْ قَدْ ضَعَّفْتُهَا لَكُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً [الطَّلَاقِ: ٨] وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ جَائِزٌ، فَحَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّمُ العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ/ فَمَنْ قَالَ إِنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي أُذُنِ الْمُكَلَّفِ سَمْعًا يَسْمَعُ بِهِ كَلَامَهُ الْقَدِيمَ كَمَا أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي عَيْنِهِ رُؤْيَةً يَرَى بِهَا ذَاتَهُ الْقَدِيمَةَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ صَوْتٌ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ كَلَامًا يَسْمَعُهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ إِمَّا بِأَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أُذُنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ فِي جِسْمٍ يَقْرُبُ مِنْ أُذُنِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْلُغُ قُوَّةُ ذَلِكَ الصَّوْتِ أَنْ تَمَنْعَ الْغَيْرَ مِنْ فَهْمِ مَا كُلِّفَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعَ الْحِسَابِ وَجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً فِي قَلْبِ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِ وَمَقَادِيرِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا هُوَ حَقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ سَمْعًا فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ يَسْمَعُ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ صَوْتًا دَالًّا عَلَى مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمَّا كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ تَخْلِيقُهُ وَإِحْدَاثُهُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ ولا يشتغله شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ لَا جَرَمَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَمْحَةِ الْبَصَرِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي قَدَرِ حَلْبِ نَاقَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهُ تَعَالَى: سَرِيعُ الْحِسابِ أَنَّهُ سَرِيعُ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ يَسْأَلُهُ السَّائِلُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مَطْلُوبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَطَالَ الْعَدُّ وَاتَّصَلَ الْحِسَابُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ سُؤَالَاتِ السَّائِلِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ يَدٍ، وَلَا إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَهَذَا مَعْنَى
الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ «يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ»
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعُ الْحِسابِ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَاسَبَ إِنَّمَا
أَنَّ مُحَاسَبَةَ اللَّهِ سَرِيعَةٌ بِمَعْنَى آتية لا محالة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٣]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لَمْ يَذْكُرِ الرَّمْيَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَهُ وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الرَّمْيَ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ التَّكْبِيرُ عَلَى كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ فَقَالَ هُنَا:
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الْحَجِّ: ٢٨] فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَأَمَّا الْمَعْدُودَاتُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أيام التشريع بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْأَيَّامُ لَفْظُ جَمْعٍ فَيَكُونُ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي أَيَّامِ مِنًى وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْقَفَّالُ أَكَدَّ هَذَا بِمَا
رَوَى فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: «الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوَّلُهَا:
يَوْمُ النَّفْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَنْفُرُ النَّاسُ فِيهِ بِمِنًى وَالثَّانِي: يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلُ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْفُرُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ مِنًى وَالثَّالِثُ: يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مَعَ يَوْمِ النَّحْرِ كُلُّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ: الذِّكْرُ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَالذِّكْرُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَالنَّاسُ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعُتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الْمُقَيَّدَةَ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِعِيدِ الْأَضْحَى، ثُمَّ فِي ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا خِلَافٌ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُبْتَدَأُ مِنَ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى مَا بَعْدَ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ إِنَّمَا/ وَرَدَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ، قَالَ تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة: ٢٠٠] ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَمَانِي عَشْرَةَ صَلَاةً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أن يُبْتَدَأُ بِهَا مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهَا مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، كَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ بِالْبُلْدَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا
رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ، وَالتَّكْثِيرُ فِي التَّكْبِيرِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ:
٤١] الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَحْوَطُ، لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّكْبِيرَاتِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ تُنْسَبُ إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْتَى بِهَا إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ مُضَافَةٌ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَشْرُوعَةً يَوْمَ عَرَفَةَ.
قُلْنَا: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكَبِّرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، صَحَّ أَنْ يُضَافَ التَّكْبِيرُ إِلَيْهَا الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُسْتَحَبُّ فِي التَّكْبِيرَاتِ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا نَسَقًا أَيْ مُتَتَابِعًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يُكَبِّرُ مَرَّتَيْنِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الْأَئِمَّةَ يُكَبِّرُونَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي التَّكْبِيرِ، فَكَانَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَقُولُ بَعْدَ الثَّلَاثِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» ثُمَّ قَالَ: وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ/ اللَّهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَالَ فِي التَّلْبِيَةِ: وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ التَّلْبِيَةِ التَّكْرَارَ فَتَكْرَارُهَا أَوْلَى مِنْ ضَمِّ الزِّيَادَةِ إليها، وهاهنا يُكَبِّرُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ أَوْلَى مِنَ السُّكُوتِ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ عَلَى الْجِمَارِ
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فَمَنْ تَعَجَّلَ وَلَمْ يَقُلْ فَمَنْ عَجَّلَ؟.
الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَعَجَّلَ وَاسْتَعْجَلَ يَجِيئَانِ مُطَاوِعَيْنِ بِمَعْنَى عَجَّلَ، يُقَالُ: تَعَجَّلَ فِي
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى كُلَّ مَا يَلْزَمُهُ فِي تَمَامِ الْحَجِّ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا يُقَالُ فِي حَقِّ الْمُقَصِّرِ وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِتَمَامِ الْعَمَلِ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي التَّعَجُّلِ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ احْتَمَلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ قَوْمٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجَبِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: الْقَصْرُ عَزِيمَةٌ، وَالْإِتْمَامُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا، لَا جَرَمَ أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَعْجَلَ وَجَرَى عَلَى مُوجَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْتَعْجِلْ وَلَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجَبِ الرُّخْصَةِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَعَجَّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَعِيبُ عَلَى الْآخَرِ فِعْلَهُ، كَانَ الْمُتَأَخِّرُ يَرَى أَنَّ التَّعَجُّلَ مُخَالَفَةٌ لِسُّنَّةِ الْحَجِّ، وَكَانَ الْمُتَعَجِّلُ يَرَى أَنَّ التَّأَخُّرَ مُخَالَفَةٌ لِسُّنَّةِ الْحَجِّ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا عَيْبَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَلَا إِثْمَ، فَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَعَجَّلْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِزَالَةِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُتَأَخِّرِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ زَادَ عَلَى مَقَامِ الثَّلَاثِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ أَيَّامَ مِنًى الَّتِي يَنْبَغِي الْمُقَامُ بِهَا هِيَ ثَلَاثٌ، فَمَنْ نَقَصَ عَنْهَا فَتَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَتَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ فَلَمْ يَنْفُرْ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا ذُكِرَ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ سَبَبٌ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرِ الْآثَامِ وَهَذَا مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاوَلَ التِّرْيَاقَ، فَالطَّبِيبُ يَقُولُ لَهُ: الْآنَ إِنْ تَنَاوَلْتَ السُّمَّ فَلَا ضَرَرَ، وَإِنْ لَمْ تَتَنَاوَلْ فَلَا ضَرَرَ، مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا بَيَانُ أَنَّ التِّرْيَاقَ دَوَاءٌ كَامِلٌ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ، لَا بَيَانَ أَنَّ تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحد، فكذا هاهنا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ الْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ الْحَجِّ مُكَفِّرًا لِكُلِّ الذُّنُوبِ، لَا بَيَانُ أَنَّ التَّعَجُّلَ وَتَرْكَهُ سِيَّانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كونه الْحَجِّ سَبَبًا/ قَوِيًّا فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: الْجِوَارُ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاوَرَ الْحَرَمَ وَالْبَيْتَ سَقَطَ وَقْعُهُ عَنْ عَيْنِهِ، وَإِذَا كَانَ غَائِبًا ازْدَادَ شَوْقُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدِنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَحَالُهُ أَفْضَلُ ممن لم يتعجل، وأيضا من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى، ومن لَمْ يَتَعَجَّلْ فَقَدِ اخْتَارَ الْمَقَامَ بِمِنًى وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ فِي الطَّوَافِ فَلِهَذَا السَّبَبِ يَبْقَى فِي الْخَاطِرِ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ أَفْضَلُ أَمِ الْمُتَأَخِّرَ؟ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا حَرَجَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَادِسُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا قَالَ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِتَكُونَ اللَّفْظَةُ الْأُولَى مُوَافِقَةً لِلثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ وَالْعُدْوَانِ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ وَلَا بِعُدْوَانٍ، فَإِذَا حَمَلَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى، فَلِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ مَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَبْرُورَ الْمَأْجُورَ يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى نَفْيُ الْإِثْمِ عَنْهُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِقَامَةِ بِمِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ؟
الْجَوَابُ: نَعَمْ، كَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الْبَقَرَةِ: ١٩٨] دَلِيلٌ عَلَى وُقُوفِهِمْ بِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّقى فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ مَغْفُورًا لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ وَلَمْ يَرْتَكِبْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعَذَابَ، وَمَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعَ ذَلِكَ مُلَازَمَةَ التَّقْوَى وَمُجَانَبَةَ الِاغْتِرَارِ بِالْحَجِّ السَّابِقِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا قَبْلَ حَجِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٧] وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَنْفَعُهُ حَجُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ فِي الظَّاهِرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْحَجِّ، كَمَا
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ»
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْحَالِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْكُلِّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى مَا يَلْزَمُهُ التَّوَقِّي فِي الْحَجِّ عَنْهُ مَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْتَنِبْ ذَلِكَ صَارَ مَأْثُومًا، وَرُبَّمَا صَارَ عَمَلُهُ مُحْبَطًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلَّفْظِ الْمُطْلَقِ/ بِغَيْرِ دَلِيلٍ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يَصِحَّ إِلَّا إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ إِذَا رَمَى وَطَافَ وَحَلَقَ، فَقَدْ تَحَلَّلَ قَبْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّقَاءُ الصَّيْدِ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، لَكِنَّ ذَاكَ لَيْسَ لِلْإِحْرَامِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الِاتِّقَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَسَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحْرَّمَاتِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَبَعْثٌ عَلَى التَّشْدِيدِ فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَشْرٍ وَمُحَاسَبَةٍ وَمُسَاءَلَةٍ، وَأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا دَارَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي لَهُ إِلَى التَّقْوَى، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى انْتِهَاءِ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ كَوْنُهُمْ هُنَاكَ إِلَّا بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الإنفطار:
١٩].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ مَشَاعِرَ الْحَجِّ فَرِيقَانِ: كَافِرٌ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَمُسْلِمٌ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: ٢٠١] بَقِيَ الْمُنَافِقُ
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا حَسَنَ الْعَلَانِيَةِ خَبِيثَ الْبَاطِنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ هُوَ أَنَّ الْأَخْنَسَ أَشَارَ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ بِالرُّجُوعِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَإِنْ يَكُ كَاذِبًا كَفَاكُمُوهُ سَائِرُ النَّاسِ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ قَالُوا: نِعْمَ الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَإِذَا نُودِيَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ فَإِنِّي أَتَخَنَّسُ بِكُمْ فَاتَّبِعُونِي ثُمَّ خَنَسَ بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسُمِّيَ لِهَذَا السَّبَبِ أَخْنَسَ، وَكَانَ اسْمُهُ: أُبَيَّ بْنَ شَرِيقٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا يَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ أَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ بَعَثُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا فَابْعَثْ إِلَيْنَا نَفَرًا مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَنَزَلُوا بِبَطْنِ الرَّجِيعِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَرَكِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَاكِبًا وَأَحَاطُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ وَصَلَبُوهُمْ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَلِذَلِكَ عَقَبَهُ مِنْ بَعْدُ بِذِكْرِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ إِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ فِيمَنْ ذَكَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَيَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعَ، وَقَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ جَمْعٌ وَأَمَّا نُزُولُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْعُمُومِ، بَلْ نَقُولُ: فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، فَلَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا وَوَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِتِلْكَ الْمَذَمَّةِ هُوَ تِلْكَ الصِّفَاتُ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ/ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ زَجْرًا لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمَذْمُومَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وَأَمَّا إِذَا خَصَصْنَاهُ بِذَلِكَ الشَّخْصِ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بهذه
اللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمَذْكُورَ بِصِفَاتٍ خَمْسَةٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى: يَرُوقُكَ وَيَعْظُمُ فِي قَلْبِكَ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الْعَجِيبُ الَّذِي يَعْظُمُ فِي النَّفْسِ.
أَمَّا فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: يُعْجِبُنِي كَلَامُ فُلَانٍ فِي هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عند ما يَتَكَلَّمُ لِطَلَبِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ جَرِيءَ اللِّسَانِ حُلْوَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ تَعْتَرِيهِ اللُّكْنَةُ وَالِاحْتِبَاسُ خَوْفًا مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ وَقَهْرِ كِبْرِيَائِهِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَرِّرُ صِدْقَهُ فِي كَلَامِهِ وَدَعْوَاهُ/ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْتِشْهَادُ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ:
اللَّهُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُ، فَهَذَا يَكُونُ اسْتِشْهَادًا بِاللَّهِ وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَعَامَّةُ القراء يقرؤن وَيُشْهِدُ اللَّهَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ هَذَا الْقَائِلُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ قَلْبُهُ خِلَافُ مَا أَظْهَرُهُ.
فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرَائِيًا وَعَلَى أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ بَاطِلًا عَلَى نِفَاقِهِ وَرِيَائِهِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: فَلَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا، فَأَمَّا عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَشْهِدًا بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى عَلَى الذَّمِّ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلَدُّ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَلَدُّ، وَقَوْمٌ لُدٌّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
[مَرْيَمَ: ٩٧] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: ٥٨] يُقَالُ: مِنْهُ لَدَّ يَلَدُّ، بِفَتْحِ اللَّامِ فِي يَفْعَلُ مِنْهُ، فَهُوَ أَلَدُّ، إِذَا كَانَ خَصِمًا، وَلَدَدْتُ الرَّجُلَ أَلُدُّهُ بِضَمِّ اللَّامِ، إِذَا غَلَبْتَهُ بِالْخُصُومَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَدِيدَتَيِ الْعُنُقِ وَهُمَا صَفْحَتَاهُ، وَلَدِيدَيِ الْوَادِي، وَهُمَا جَانِبَاهُ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ فِي أَيِّ وَجْهٍ أَخْذَهُ خَصْمُهُ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ فِي أَبْوَابِ الْخُصُومَةِ غَلَبَ مَنْ خَاصَمَهُ.
وَأَمَّا الْخِصامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بِمَعْنَى الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُطَاعَنَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُخَاصَمَةِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى فِي وَالتَّقْدِيرُ: أَلَدُّ فِي الْخِصَامِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْخِصَامَ أَلَدَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِصَامَ جَمْعُ خَصْمٍ، كَصِعَابٍ وَصَعْبٍ، وَضِخَامٍ وَضَخْمٍ، وَالْمَعْنَى: وَهُوَ أَشَدُّ الْخُصُومِ خُصُومَةً، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ:
وَفِيهِ نَزَلَ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الْهُمَزَةِ: ١] وَقَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَمِ: ١٠، ١١] ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ أَلَدُّ الْخِصامِ
مَعْنَاهُ:
طَالِبٌ لَا يَسْتَقِيمُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَعْوَجُ الْخِصَامِ وَقَالَ قَتَادَةُ أَلَدُّ الْخِصَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، شَدِيدُ القصوة فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، عَالِمُ اللِّسَانِ جَاهِلُ الْعَمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الْمُنْكِرُونَ لِلنَّظَرِ وَالْجَدَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ بِكَوْنِهِ شَدِيدًا فِي الْجَدَلِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧].
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حُلْوُ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّرُ/ صِدْقَ قَوْلِهِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ أَلَدُّ الْخِصَامِ، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ فَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ وَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِكَ سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، ثُمَّ هَذَا الْفَسَادُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ بِالتَّخْرِيبِ وَالتَّحْرِيقِ وَالنَّهْبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ذَكَرُوا رِوَايَاتٍ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْنَسَ لَمَّا أَظْهَرَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَأَنَّهُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يُؤْمِنَ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ بَدْرٍ مَرَّ بِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَقِيفٍ خُصُومَةٌ فَبَيَّتَهُمْ لَيْلًا وَأَهْلَكَ مَوَاشِيَهُمْ وَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْفَسَادِ: أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَشْتَغِلُ بِإِدْخَالِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِاسْتِخْرَاجِ الْحِيَلِ فِي تَقْوِيَةِ الْكُفْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسَمَّى فَسَادًا، قَالَ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالُوا لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ١٢٧] أَيْ يَرُدُّوا قَوْمَكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ شَرِيعَتَهُمْ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: ٢٦] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ١١] مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الوجه،
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى وَإِذَا صَارَ وَالِيًا فَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ وُلَاةُ السُّوءِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَقِيلَ: يُظْهِرُ الظُّلْمَ حَتَّى يَمْنَعَ اللَّهُ بِشُؤْمِ ظُلْمِهِ الْقَطْرَ فَيَهْلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ نِفَاقِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحُضُورِ يَقُولُ الْكَلَامَ الْحَسَنَ وَيُظْهِرُ الْمَحَبَّةَ، وَعِنْدَ الْغَيْبَةِ يَسْعَى فِي إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: سَعى فِي الْأَرْضِ أَيِ اجْتَهَدَ فِي إِيقَاعِ الْقِتَالِ، وَأَصْلُ السَّعْيِ هُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعَارٌ لِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّخْرِيبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التَّوْبَةِ: ٤٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ فَسَّرَ الْفَسَادَ بِالتَّخْرِيبِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ ذَكَرَهُ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَمَنْ فَسَّرَ/ الْإِفْسَادَ بِإِلْقَاءِ الشبهة قال: كما أن الدين الحق أمر أن أَوَّلُهُمَا الْعِلْمُ، وَثَانِيهِمَا الْعَمَلُ، فَكَذَا الدِّينُ الْبَاطِلُ أَمْرَانِ أَوَّلُهُمَا الشُّبُهَاتُ، وَثَانِيهِمَا فِعْلُ الْمُنْكَرَاتِ، فَهَهُنَا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ اشْتِغَالَهُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِيُفْسِدَ فِيها ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا إِقْدَامَهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَوْلَى ثُمَّ مَنْ قَالَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَخْنَسَ مَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْحَرْثِ الزَّرْعُ، وَبِالنَّسْلِ تِلْكَ الْحُمُرُ، وَالْحَرْثُ هُوَ مَا يَكُونُ مِنْهُ الزَّرْعُ، قَالَ تَعَالَى:
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ [الْوَاقِعَةِ: ٦٣] وَهُوَ يَقَعُ على كل ما يحرث ويزرع مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَرْثَ هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِمَا يُشَقُّ بِهِ: مِحْرَثٌ، وَأَمَّا النَّسْلُ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ نَسْلُ الدَّوَابِّ، وَالنَّسْلُ فِي اللُّغَةِ: الْوَلَدُ، وَاشْتِقَاقُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَلَ يَنْسِلُهُ إِذَا خَرَجَ فَسَقَطَ، وَمِنْهُ نَسَلَ رِيشُ الطَّائِرِ، وَوَبَرَ الْبَعِيرُ، وَشَعَرَ الْحِمَارُ، إِذَا خَرَجَ فَسَقَطَ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهَا إِذَا سَقَطَتْ نُسَالَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] أَيْ يُسْرِعُونَ، لِأَنَّهُ أَسْرَعَ الْخُرُوجَ بِحِدَّةٍ، وَالنَّسْلُ الْوَلَدُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ظَهْرِ الْأَبِ وَبَطْنِ الْأُمِّ وَسُقُوطِهِ، وَالنَّاسُ نَسْلُ آدَمَ، وَأَصْلُ الْحَرْفِ مِنَ النُّسُولِ وَهُوَ الْخُرُوجُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ:
أَنَّ الْأَخْنَسَ بَيَّتَ عَلَى قَوْمِ ثَقِيفٍ وَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمْعًا، فَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ: إِمَّا النِّسْوَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٣] أَوِ الرِّجَالُ وَهُوَ قَوْلُ قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْحَرْثَ بِشَقِّ الْأَرْضِ، إِذِ الرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَشُقُّونَ أَرْضَ التَّوْلِيدِ، وَأَمَّا النَّسْلُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَسَادَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا أَعْظَمَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. إِهْلَاكُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: إِهْلَاكُ الْحَيَوَانِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ جِدًّا الدَّالَّةِ مَعَ اختصارها على
٧١] وَقَالَ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النَّازِعَاتِ: ٣١].
فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ؟
قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها دَلَّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ إِنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ هَكَذَا: سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَسَعَى لِيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَوَّلِ، دَلَّ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتِ الْأَخْبَارُ الْمَذْكُورَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَدْ وَقَعَتْ وَدَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَقَرَأَ/ الْحَسَنُ بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ يَهْلَكُ وَهِي لُغَةٌ نَحْوُ: أَبَى يَأْبَى، وَرُوِي عَنْهُ وَيُهْلِكَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْقَبَائِحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ قَالُوا: وَالْمَحَبَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِرَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ [النُّورِ: ١٩] وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ، وَأَيْضًا
نُقِلَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مِنْ وُلَاةِ أَمْرِكُمْ وَكَرِهَ لَكُمُ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»
فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ ضِدَّ الْمَحَبَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِرَادَةِ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْكَرَاهَةُ ضِدًّا لِلْإِرَادَةِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ غَيْرَ الْإِرَادَةِ لَصَحَّ أَنْ يُحِبَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَرِهَهُ، لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تُضَادُّ الْإِرَادَةَ دُونَ الْمَحَبَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ كَقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غَافِرٍ: ٣١] بَلْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ إِشَارَةً إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَقَعَ لَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ خَالِقًا لَهُ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِرَادَةِ وَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَصْحَابُ أَجَابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ بَلِ الْمَحَبَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَدْحِ الشَّيْءِ وَذِكْرِ تَعْظِيمِهِ وَالثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ ثُمَّ الَّذِي يَهْدِمُ قُوَّةَ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَدَاعِيَتَهُ صَالِحَةٌ لِلصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فترجع الْفَسَادُ عَلَى الصَّلَاحِ، إِنْ وَقَعَ لَا لِعِلَّةٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ وَقَعَ لِمُرَجِّحٍ فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُرَجِّحُ لِجَانِبِ الْفَسَادِ عَلَى جَانِبِ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَالِمٌ بِوُقُوعِ الْفَسَادِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَقَعَ الْفَسَادُ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْلِبَ عِلْمَ نَفْسِهِ جَهْلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ مَعْنَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَعَاهُ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَدَعَاهُ الْكِبَرُ وَالْأَنَفَةُ إِلَى الظلم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ جُمْلَةً مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ أَوَّلُهَا: اشْتِغَالُهُ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: اسْتِشْهَادُهُ بِاللَّهِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا وَثَالِثُهَا: لَجَاجُهُ فِي إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ وَرَابِعُهَا: سَعْيُهُ فِي الْفَسَادِ وَخَامِسُهَا: سَعْيُهُ فِي إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ فعل منكر قبيح وظاهر قوله:
إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَلَيْسَ بِأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اتَّقِ اللَّهَ فِي إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَفِي السَّعْيِ بِالْفَسَادِ، وَفِي اللَّجَاجِ الْبَاطِلِ، وَفِي الِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ كَذَلِكَ، وَفِي الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَيْسَ رُجُوعُ النَّهْيِ إِلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَخَذَتْ فُلَانًا بِأَنْ يَعْمَلَ كَذَا، أَيْ أَلْزَمَتْهُ ذَلِكَ وَحَكَمَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِأَنْ يَعْمَلَ الْإِثْمَ، وَذَلِكَ الْإِثْمُ هُوَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْوَاعِظِ وَعَدَمُ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أَيْ لَزِمَتْهُ يُقَالُ: أَخَذَتْهُ الْحُمَّى أَيْ لَزِمَتْهُ، وَأَخَذَهُ الْكِبَرُ، أَيِ اعْتَرَاهُ ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ لَزِمَتْهُ الْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ بالإثم الذين فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْعِزَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَعَدَمِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: ٢] والباء هاهنا فِي مَعْنَى اللَّامِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: فَعَلْتُ هَذَا بِسَبَبِكَ وَلِسَبَبِكَ، وَعَاقَبْتُهُ بِجِنَايَتِهِ وَلِجِنَايَتِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَافِيهِ جَهَنَّمُ جَزَاءً لَهُ وَعَذَابًا يُقَالُ: حَسْبُكَ دِرْهَمٌ أَيْ كَفَاكَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ، أَيْ كَافِينَا اللَّهُ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَقَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: هِيَ اسْمٌ لِلنَّارِ الَّتِي يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةٌ وَقَالَ آخَرُونَ. جَهَنَّمُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ سُمِّيتْ نَارُ الْآخِرَةِ بِهَا لِبُعْدِ قَعْرِهَا، حُكِيَ عن رؤية أنه قال: ركية جهنام بريد بَعِيدَةُ الْقَعْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمِهَادَ وَالتَّمْهِيدَ: التَّوْطِئَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَهْدِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٤٨] أَيِ الْمُوَطِّئُونَ الْمُمَكِّنُونَ، أَيْ جَعَلْنَاهَا سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً لَا تَمِيدُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَنْبُو عَنْهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الرُّومِ: ٤٤] أَيْ يَفْرِشُونَ وَيُمَكِّنُونَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ لَبِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ كَقَوْلِهِ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إِبْرَاهِيمَ:
٢٩] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمِهَادُ الْفِرَاشُ لِلنَّوْمِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُعَذَّبُ فِي النَّارِ يُلْقَى عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ جَعَلَ ذَلِكَ مهادا له وفراشا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ مَنْ يَبْذُلُ دِينَهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ مَنْ يَبْذُلُ دُنْيَاهُ وَنَفْسَهُ وَمَالَهُ لِطَلَبِ الدِّينِ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ أَحَدُهَا: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بن سنان
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَاتَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إِلَى الْغَارِ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَامَ عَلَى فِرَاشِهِ قَامَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَمِيكَائِيلُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَجِبْرِيلُ يُنَادِي: بَخٍ بَخٍ مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الشِّرَاءِ: الْبَيْعُ، قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يُوسُفَ: ٢٠] أَيْ بَاعُوهُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ بَاعَ نَفْسَهُ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهَذَا الْبَيْعُ هُوَ أَنَّهُ بَذَلَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، ثُمَّ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى وِجْدَانِ ثَوَابِ اللَّهِ، كَانَ مَا يَبْذُلُهُ مِنْ نَفْسِهِ كَالسِّلْعَةِ، وَصَارَ الْبَاذِلُ كَالْبَائِعِ، وَاللَّهُ كَالْمُشْتَرِي، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: ١١١] وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تِجَارَةً، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفِ:
١٠، ١١] وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ لَفْظَةِ الشِّرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوَسُّعِ/ فِي مَلَاذِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَقَعَ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ لَهُ، فَبِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَتْ حَقًّا لِلنَّارِ وَالْعَذَابِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ وَأَقَدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّارِ فَصَارَ حَالُ الْمُؤْمِنِ كَالْمُكَاتَبِ يَبْذُلُ دَارَهِمَ مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ أَنْفَاسًا مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ أَبَدًا لَكِنَّ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فَكَذَا الْمُكَلَّفُ لَا يَنْجُو عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ لَهُ نَفْسٌ وَاحِدٌ فِي الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: ٣١] وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: ٩٩].
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نَفْسَهُ مُشْتَرِيًا حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَةِ: ١١١] وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمُؤْمِنِ مُشْتَرِيًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا كُلُّ مَشَقَّةٍ يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ فِي طَلَبِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجَاهِدُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبَاذِلُ مُهْجَتَهُ الصَّابِرُ عَلَى الْقَتْلِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو عَمَّارٍ وَأُمُّهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْآبِقُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُشْتَرِي نَفْسَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَالِهِ كَمَا فَعَلَ صُهَيْبٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُظْهِرُ الدِّينَ وَالْحَقَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعَثَ جَيْشًا فَحَاصَرُوا قَصْرًا فَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتُمْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا فُلَانٍ، وَقَرَأَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ حَتَّى يَدْخُلَ بِسَبَبِهِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ فَهُوَ غَيْرُ داخل فيه بل بعد ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ نَحْوَ مَا إِذَا خَافَ التَّلَفَ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَفَعَلَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُمْ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ الْمُرَّاقِ مِنَ الدِّينِ وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمَّا رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَاتَلُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرَوْا أَنْفُسَهُمْ غَضَبًا لِلَّهِ وَجِهَادًا في سبيله.
المسألة الثالثة: يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لابتغاء مرضاة الله، ويَشْرِي بمعنى يشتري.
أما قوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدَّائِمَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِبْقَاءً عَلَى النَّفْسِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إِذَا تَابَ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ أَسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ الْعِقَابِ. / وَأَعْطَاهُ الثَّوَابَ الدَّائِمَ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّ النَّفْسَ لَهُ وَالْمَالَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنْهُ ورحمة وإحسانا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي شرائعه، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ السِّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الْأَنْفَالِ: ٦١] وَقَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّدٍ: ٣٥] وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رواية أبي بكر بن عياش السِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْكُلِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ، وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا وَبِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَنْفَالِ، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، مِثْلَ: رَطْلٍ وَرِطْلٍ وَجَسْرٍ وَجِسْرٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِفَتْحِ السين واللام.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا السِّلْمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمُ ادْخُلُوا بِكُلِّيَّتِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، أَيْ آثَارَ تَزْيِينِهِ وَغُرُورِهِ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى النِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ احْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ عَقِيبَ مَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [البقرة: ٢٠٤] الْآيَةَ فَلَمَّا وَصَفَ الْمُنَافِقَ بِمَا ذَكَرَ دَعَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْإِيمَانِ/ بِالْقَلْبِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامُوا بَعْدَهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَرَائِعِ مُوسَى، فَعَظَّمُوا السَّبْتَ، وَكَرِهُوا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: تَرْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَاجِبٌ فِي التَّوْرَاةِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا فَكَرِهَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَا يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي التَّمَسُّكِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَعَلُوا قَوْلَهُ: كَافَّةً من وصف المسلم، كَأَنَّهُ قِيلَ: ادْخُلُوا فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ وَاقِعًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بالنبي عليه السلام فقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ أَكْمِلُوا طَاعَتَكُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَلِكَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَكُتُبِهِ فَادْخُلُوا بِإِيمَانِكُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِكِتَابِهِ فِي السِّلْمِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي تَحْسِينِهِ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى دِينِ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ دِينٌ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ بِسَبَبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ: تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الشُّبُهَاتُ الَّتِي يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فِي بَقَاءِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ.
ورابعها: هذا الخطاب واقع على المسلمين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلْسِنَةِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ دُومُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا تَسْتَأْنِفُونَهُ مِنَ الْعُمُرِ وَلَا تَخْرُجُوا عَنْهُ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ، الشَّيْطانِ أَيْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُلْقِيهَا إِلَيْكُمْ أَصْحَابُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ:
هَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكَّدٌ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا، أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: دُومُوا عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ
فإن قيل: الموصوف بِالشَّيْءِ يُقَالُ لَهُ: دُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لَهُ: ادْخُلْ فِيهِ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
ادْخُلُوا.
قُلْنَا إِنَّ الْكَائِنَ فِي الدَّارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خُرُوجًا عَنْهَا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُؤْمَرَ بِدُخُولِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ كَائِنًا فِيهَا فِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَالَ كَوْنِهِ فِيهَا غَيْرُ الْحَالَةِ الَّتِي أُمِرَ أَنْ/ يَدْخُلَهَا، فَإِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي قَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا صَحَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِدُخُولِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَخْرُجُونَ عَنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ بِالنَّوْمِ وَالسَّهْوِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْوَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدُّخُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْإِسْلَامِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ السِّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ الصُّلْحُ وَتَرْكُ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ كُونُوا مُوَافِقِينَ وَمُجْتَمِعِينَ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَاحْتِمَالِ الْبَلْوَى فِيهِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ بِأَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْمُنَازَعَةِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: ٤٦] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آلِ عِمْرَانَ: ٢٠٠] وَقَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَرْضَى لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ»
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ فِي التَّأْوِيلِ ذَكَرَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَعِنْدِي فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ أحدها: أن قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَقَوْلَهُ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى تَرْكُهَا بِالسِّلْمِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ:
كُونُوا مُنْقَادِينَ لِلَّهِ فِي الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَاقٍ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاصِي وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّلْمِ كَوْنَ الْعَبْدِ رَاضِيًا وَلَمْ يَضْطَرِبْ قَلْبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «الرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْكَ الِانْتِقَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢] وَفِي قَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف:
١٩٩] فهذا هو كلام فِي وُجُوهِ تَأْوِيلَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ كَافَّةً يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَأْمُورِينَ بِالدُّخُولِ أَيِ ادْخُلُوا بِأَجْمَعِكُمْ فِي السِّلْمِ. وَلَا تَفَرَّقُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا، قَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: رَأَيْتُ الْقَوْمَ كَافَّةً وَكَافِّينَ وَرَأَيْتُ النِّسْوَةَ كَافَّاتٍ وَيَصْلُحُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَيِ ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كُلِّهِ أَيْ فِي كُلِّ شَرَائِعِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقِيَامِ بِهَا كُلِّهَا، وَمَعْنَى الْكَافَّةِ فِي اللُّغَةِ الْحَاجِزَةُ الْمَانِعَةُ يُقَالُ: كَفَفْتُ فَلَانًا عَنِ السُّوءِ أَيْ مَنَعْتُهُ، وَيُقَالُ: كَفَّ الْقَمِيصَ لِأَنَّهُ مَنَعَ الثَّوَابَ عَنِ الِانْتِشَارِ، وَقِيلَ لِطَرَفِ الْيَدِ: كَفٌّ لِأَنَّهُ يُكَفُّ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَرَجُلٌ مَكْفُوفٌ أَيْ كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْ يُبْصِرَ، فَالْكَافَّةُ مَعْنَاهَا الْمَانِعَةُ، ثُمَّ صَارَتِ اسْمًا لِلْجُمْلَةِ الْجَامِعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يَمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشُّذُوذِ، فَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيِ ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَتَكُفُّوا مِنْ أَنْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِنْ شَرَائِعِهِ، أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى ادْخُلُوا كُلُّكُمْ حَتَّى تَمْنَعُوا وَاحِدًا مِنْ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ مُبِينٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَلِيغِ الَّذِي يُعْرِبُ عَنْ ضَمِيرِهِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: ١، الدُّخَانِ:
١] وَلَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ مُبِينًا إِلَّا ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعَ أَنَّا لَا نَرَى ذَاتَهُ وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ.
قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَدَاوَتَهُ لِآدَمَ وَنَسْلِهِ فَلِذَلِكَ الْأَمْرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ وَمِثَالُهُ: مَنْ يُظْهِرُ عَدَاوَتَهُ لِرَجُلٍ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَلَانًا عَدُوٌّ مُبِينٌ لَكَ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ فِي الْحَالِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ وَالْبَيَانُ إِنَّمَا سُمِّيَ بَيَانًا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بَعْضَ الِاحْتِمَالَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَوَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِوَسْوَسَتِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضْوَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ الشَّيْطَانِ عدوا لنا إما أن يكون بسبب أنه يُقْصَدَ إِيصَالُ الْآلَامِ وَالْمَكَارِهِ إِلَيْنَا فِي الْحَالِ، أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَمْنَعُنَا عَنِ الدِّينِ وَالثَّوَابِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَوْقَعَنَا فِي الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينُ الْعَدَاوَةِ، وَالْحَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحَاوِلُ إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْنَا فَهُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَزْيِينَ الْمَعَاصِي وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْإِنْسَانِ فِي الْبَاطِلِ وَبِهِ يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الثَّوَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم جهات العداوة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٩]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ زَلَلْتُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَهُمَا لُغَتَانِ كَضَلَلْتُ وَضَلِلْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَلَّ يَزِلُّ زُلُولًا وَزِلْزَالًا إِذَا دَحَضَتْ قَدَمُهُ وَزَلَّ فِي الطِّينِ، وَيُقَالُ لِمَنْ زَلَّ فِي حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا: زَلَّتْ بِهِ الْحَالُ، وَيُسَمَّى الذَّنْبُ زَلَّةً، يُرِيدُونَ بِهِ الزَّلَّةَ لِلزَّوَالِ عَنِ الْوَاجِبِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ أَيْ أَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ وَتَعَدَّيْتُمُوهُ، وَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، فَمَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَكَذَا الثَّانِي، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَذَا/ الثَّانِي، وَقِسِ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ.
يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعُهُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بِالنِّقْمَةِ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا لَئِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنَتْرُكَنَّ كُلَّ كِتَابٍ غَيْرَ كتابك، فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: ١٣٦].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ يَعْنِي إِنِ انْحَرَفْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَبَائِرُ وَالصَّغَائِرُ فَإِنَّ الِانْحِرَافَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَثِيرِ يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ. فَتَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الزَّوَالِ عَنِ الْمِنْهَاجِ لِكَيْ يَتَحَرَّزَ الْمُؤْمِنُ عَنْ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُ الْعِقَابِ مُسْتَحِقًّا بِهِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ أَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الدَّلَائِلُ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا نَحْوَ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَافْتِقَارِهِ إِلَى صَانِعٍ يَكُونُ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كُلِّهَا، غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ كُلِّهَا، وَمِثْلَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ، وَالْعِلْمِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ السَّمْعِيَّةُ فَهِيَ الْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالسُّنَّةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُذْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَزُولُ عِنْدَ حُصُولِ كُلِّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالذَّنْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ، فَإِذَا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَحُصُولِهَا فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَحْصُلَ الْوَعِيدُ لِمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ أَصْلًا أَوْلَى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا الْقُدْرَةِ، وَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالْقُدْرَةِ مَعَ فَقْدِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ أَيْضًا:
دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حُصُولُ الْبَيِّنَاتِ لَا حُصُولُ الْيَقِينِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ كَالْعَارِفِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ وَيَعْرِفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ/ إشارة إلى أن ذَنْبِهِمْ وَجُرْمِهِمْ، فَكَيْفَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيزَ مَنْ لَا يُمْنَعُ عَنْ مُرَادِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَكَانَ عَزِيزًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْكُمْ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ عَنْكُمْ، فَلَا يَفُوتُهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْكُمْ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مِنْ ضُرُوبِ الْخَوْفِ مَا لَا يَجْمَعُهُ الْوَعِيدُ بِذِكْرِ الْعِقَابِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ: إِنْ عَصَيْتَنِي فَأَنْتَ عَارِفٌ بِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ قُدْرَتِي عَلَيْكَ وَشِدَّةَ سَطْوَتِي، فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي الزَّجْرِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ كَمَا أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ مِنْ حَيْثُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: حَكِيمٌ فَإِنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ فَكَمَا يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَى الْمُسِيءِ فَكَذَلِكَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ لِشَيْءٍ قَبْلَ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَفْظُ الْبَيِّناتُ لَفْظُ جَمْعٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِمَجِيءِ كُلِّ الْبَيِّنَاتِ وَقَبْلَ الشَّرْعِ لَمْ تَحْصُلْ كُلُّ الْبَيِّنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْوَعِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْكُفَّارِ: السَّفَاهَةَ وَالْكُفْرَ لَمَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ السَّفَهَ وَأَرَادَهُ كَانَ سَفِيهًا، وَالسَّفِيهُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ الْعَالِمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَرْجِعُ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى حَكِيمًا إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَمُرِيدًا لَهَا، بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ تَجْهِيلَ نَفْسِهِ فَقَالُوا: لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَكَانَ إِذَا أَمَرَ بِمَا عُلِمَ عَدَمُهُ فَقَدْ أَمَرَ بِتَجْهِيلِ نَفْسِهِ.
قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، قُلْنَا هَذَا عِنْدَنَا جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُحْكَى أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يَقُولُ كَذَا الْحَكِيمُ لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي لَفْظِ النَّظَرِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النَّمْلِ: ٣٥] فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ هُوَ الِانْتِظَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُعْتَبِرُونَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ شَيْئًا كَبِيرًا فَيَكُونُ أَحَدُ جَانِبَيْهِ مُغَايِرًا لِلْآخَرِ فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُرَكَّبَ يَكُونُ مُفْتَقِرًا فِي تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمُرَجِّحِ وَالْمُوجِدِ، فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
سَادِسُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَالْجِنْسَ وَالْجَوْهَرَ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى جِسْمًا مَوْصُوفًا بِالْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَيْسَ إِلَّا بِذِكْرِ الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ وَالْقَدْرِ: فَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [مريم: ٦٥] رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدُّخَانِ: ٨] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: ٩، الشُّعَرَاءِ: ٢٨] خَطَأً وَبَاطِلًا، وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْطِئَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الْجَوَابِ، وَتَصْوِيبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] وَلَمَّا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] وَالْأَحَدُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى جُزْأَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى أَحَدًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٥] أَيْ شَبِيهًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَابِهًا لِلْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ، إِنَّمَا الِاخْتِلَافُ يَحْصُلُ فِيمَا وَرَاءَ الْجِسْمِيَّةِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْعِظَمِ أَوْ بِالصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّاتِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِي الذَّاتِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مَثَلًا لِلْأَجْسَامِ وَثَامِنُهَا: لَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَارِكًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي عُمُومِ الْجِسْمِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فِي خُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِمَّا أن لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَعُمُومُ كَوْنِهِ جِسْمًا مُغَايِرٌ لِخُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا إِذَا وَصَفْنَا تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا الْجِسْمَ صِفَةً وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ ذَاتُ الصِّفَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْمَفْهُومِ مِنَ الْجِسْمِ، وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِهِ وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جِسْمًا لَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي خُصُوصِيَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَثَلًا لَهَا مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَيْهَا فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْسَامُ مُحْدَثَةً
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنْ عَيَّنَّا ذَلِكَ الْمُرَادَ لَمْ نَأْمَنِ الْخَطَأَ، فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنِ التَّأْوِيلِ، / وَتَفْوِيضُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ لِجَهَالَتِهِ، وَوَجْهٌ يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ وَيُفَسِّرُونَهُ وَوَجْهٌ نَعْرِفُهُ مِنْ قِبَلِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَطْ، وَوَجْهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ على سبيل الفصيل ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ آيَاتُ اللَّهِ فَجَعَلَ مَجِيءَ الْآيَاتِ مَجِيئًا لَهُ عَلَى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِ الْآيَاتِ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ الْمَلِكُ إِذَا جَاءَ جَيْشٌ عَظِيمٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: ٢٠٩] فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ يَصِحَّ الْمَجِيءُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ حُضُورِهِ سَبَبًا لِلتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْحُضُورِ كَمَا يَزْجُرُ الْكُفَّارُ وَيُعَاقِبُهُمْ، فَهُوَ يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَخُصُّهُمْ بِالتَّقْرِيبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحُضُورِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ، وَجَبَ أَنْ يُضْمَرَ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ الْهَيْبَةِ وَالْقَهْرِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمَتَى أَضْمَرْنَا ذَلِكَ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِعْلًا وَأَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا فَالْوَاجِبُ صَرْفُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ، كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ والمراد يحاربون أولياءه، وقال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَالْمُرَادُ: وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، فَكَذَا قَوْلُهُ: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ الْمُرَادُ بِهِ يَأْتِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفَجْرِ: ٢٢] الْمُرَادُ: جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ فُلَانًا، وَصَلَبَهُ، وَأَعْطَاهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُ تَوَلَّى ذَلِكَ الْعَمَلَ بِنَفَسِهِ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ هذا التأويل وجهان الأول: أن قوله هاهنا: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَقَوْلَهُ: وَجاءَ رَبُّكَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا في سورة النحل فقال: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
[النَّحْلِ: ٣٣] فَصَارَ هَذَا الْحُكْمُ مُفَسِّرًا لِذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا وَرَدَتْ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بعده: وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود:
٤٤، البقرة: ٢١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ جَرَى ذِكْرُ أَمْرٍ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الَّذِي أَضْمَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أَيْ يَأْتِيهِمْ أمر الله.
قُلْنَا: الْأَمْرُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا الْفِعْلُ وَالشَّأْنُ وَالطَّرِيقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: ٥٠] وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هُودٍ: ٩٧] وَفِي الْمَثَلِ: لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، لِأَمْرٍ مَا يَسُودُ مَنْ يسود فيحمل الأمر هاهنا عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ، وَهَذَا هُوَ التأويل الأول الذي ذكرناه، وأما إن حَمْلُنَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ هُوَ إِتْيَانُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَيْ مَعَ ظُلَلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ سَمَاعَ ذَلِكَ النِّدَاءِ وَوُصُولَ تِلْكَ الظُّلَلِ يَكُونُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ حُصُولَ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي تِلْكَ الْغَمَامَاتِ تَدُلُّ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ نُقُوشًا مَنْظُومَةً فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ لِشِدَّةِ بَيَاضِهَا وَسَوَادُ تِلْكَ الْكِتَابَةِ يُعْرَفُ بِهَا حَالُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَتَكُونُ فَائِدَةُ الظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَمَارَةً لِمَا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ بِالْقَوْمِ فَعِنْدَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ حَضَرَ وَقَرُبَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحِسَابِ، فَحَذَفَ مَا يَأْتِي بِهِ تَهْوِيلًا عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ ذَكَرَ مَا يَأْتِي بِهِ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ الْوَعِيدِ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ كَانَ أَبْلَغَ لِانْقِسَامِ خَوَاطِرِهِمْ، وَذَهَابِ فِكْرِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ، ومثله قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الْحَشْرِ: ٢] وَالْمَعْنَى أَتَاهُمُ اللَّهُ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ [النحل: ٢٦] فقوله: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِذَا سُمِعَ بِوِلَايَةِ جَائِرٍ: قَدْ جَاءَنَا فُلَانٌ بِجَوْرِهِ وَظُلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَحُرُوفُ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ الْبَعْضِ، وَتَقْدِيرُهُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ الْعَذَابُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي الْغَمَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا حَضَرُوا لِلْقَضَاءِ وَالْخُصُومَةِ، وَكَانَ الْقَاضِي فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ أَعْظَمَ السَّلَاطِينِ قَهْرًا وَأَكْبَرَهُمْ هَيْبَةً، فَهَؤُلَاءِ الْمُذْنِبُونَ لَا وَقْتَ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مَنْ وَقْتِ حُضُورِهِ لِفَصْلِ تِلْكَ الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِ اللَّهِ تَصْوِيرَ غَايَةِ الْهَيْبَةِ وَنِهَايَةِ الْفَزَعِ، وَنَظِيرُهُ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزُّمَرِ: ٦٧] مِنْ غَيْرِ تَصْوِيرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ لِتَمْثِيلِ الْخَفِيِّ بالجلي، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَوْضَحُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَلَفَ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: ٢٠٨] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
[البقرة: ٢٠٩] يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: ٢١٠] حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ دِينَكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعَ مُوسَى مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: ٥٥] وَإِذَا كَانَ هَذَا حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَمْنَعْ إِجْرَاءَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ التَّشْبِيهِ، وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الطَّوْرِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَطَلَبُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ حِكَايَةً عَنْ مُعْتَقَدِ الْيَهُودِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْبِيهِ، فَلَا يُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَا إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الِانْتِظَارِ أَوْ مُبْطِلُونَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
قُلْنَا: الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عِنَادَهُمْ وَتَوَقُّفَهُمْ فِي قَبُولِ الدِّينِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا حَكَاهُ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي الظُّلَلِ مُضَافٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ فَقَطْ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيَسْتَشْهِدُ فِي صِحَّتِهِ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَنْكَرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فَاعْلَمْ أَنَّ الظُّلَلَ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ اللَّهُ بِهِ، وَالْغَمَامُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُجْتَمِعًا مُتَرَاكِمًا، فَالظُّلَلُ مِنَ الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ قِطَعٍ مُتَفَرِّقَةٍ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا تَكُونُ فِي غَايَةِ الْكَثَافَةِ وَالْعِظَمِ، فَكُلُّ قِطْعَةٍ ظُلَّةٌ، وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ [لُقْمَانَ: ٣٢] وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الظِّلَالُ جَمْعَ ظُلَّةٍ، كَقِلَالٍ وَقُلَّةٍ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ ظِلٍّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْنَى مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ قَهْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فِي الْغَمَامِ؟
قُلْنَا: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا نَزَلَ مِنْهُ الْعَذَابُ كَانَ الْأَمْرُ أَفْظَعَ، لأن السر إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَهْوَلَ وَأَفْظَعَ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا فِي السُّرُورِ، فَكَيْفَ إِذَا جَاءَ الشَّرُّ مِنْ حَيْثُ يَحْتَسِبُ الْخَيْرَ، وَمِنْ هَذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: ٤٧] وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ الْغَمَامِ عَلَامَةٌ لِظُهُورِ مَا يَكُونُ أَشَدَّ الْأَهْوَالِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً
[الْفُرْقَانِ: ٢٥- ٢٦] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْغَمَامَ تَنْزِلُ عَنْهُ قَطَرَاتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلَا مَحْدُودَةٍ، فَكَذَا هَذَا الْغَمَامُ يَنْزِلُ عَنْهُ قَطَرَاتُ الْعَذَابِ نُزُولًا غَيْرَ مَحْصُورٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَلائِكَةُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْمَعْنَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَآيَاتُهُ وَالْمَلَائِكَةُ مَعَ ذَلِكَ يَأْتُونَ لِيَقُومُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ إِهَانَةٍ أَوْ تَعْذِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ فَرَغَ مَا كانوا يوعدون به فعند ذلك لا يقال لَهُمْ عَثْرَةٌ لَهُمْ وَلَا تُصْرَفُ عَنْهُمْ عُقُوبَةٌ وَلَا يَنْفَعُ فِي دَفْعِ مَا نَزَلِ بِهِمْ حِيلَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْنَاهُ: ويقتضي الْأَمْرَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَيَقْضِيَ الْأَمْرَ فَوَضَعَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَخُصُوصًا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهَا يَقَعُ كَثِيرًا بِالْمَاضِي، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [الْمَائِدَةِ: ١١٦] وَالسَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْمَجَازِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى قُرْبِ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَكَأَنَّ السَّاعَةَ قَدْ أَتَتْ وَوَقَعَ مَا يُرِيدُ اللَّهُ إِيقَاعَهُ وَالثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَصَارَ بِحُصُولِ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ بِوُقُوعِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ هاهنا هُوَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ. وَأَخْذُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا وَإِنْزَالُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ تُوجَدُ دُفْعَةً مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِقَضَائِهِ، دَافِعٌ، وَلَا لِحُكْمِهِ مَانِعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَقَضَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَرْفُوعِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْمُجَسِّمَةِ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ يُنْتَهَى إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَجَابَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَلَّكَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْآخِرَةِ فَلَا مَالِكَ لِلْحُكْمِ فِي الْعِبَادِ سواء كَمَا قَالَ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ:
١٩] وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: رَجَعَ أَمْرُنَا إِلَى الْأَمِيرِ إِذَا كَانَ هُوَ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: ٢٨] مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ السَّاعَةَ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ مَلَّكَ كُلَّ أَحَدٍ فِي دَارِ الِاخْتِبَارِ وَالْبَلْوَى أُمُورًا امْتِحَانًا فَإِذَا انْقَضَى أَمْرُ هَذِهِ الدَّارِ وَوَصَلْنَا إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُطَاعَ وَيَدْخُلَ فِي السِّلْمِ كَمَا أَمَرَ، وَيَحْتَرِزَ عَنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كَمَا نَهَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ تُرْجَعُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى تَرِدُ، يُقَالُ: رَجَعْتُهُ أَيْ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ بِضَمِّ التَّاءِ ثَلَاثُ مَعَانٍ أَحَدُهَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ يُرْجِعُهَا كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَهُوَ قَاضِيهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَوَاتِ الْخُلُقِ وَصِفَاتِهِمْ لَمَّا كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مُحْدَثُونَ مُحَاسَبُونَ، وَكَانُوا رَادِّينَ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ، فَقَوْلُهُ: تُرْجَعُ الْأُمُورُ أَيْ يَرُدُّهَا الْعِبَادُ إِلَيْهِ وَإِلَى حُكْمِهِ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجمعة: ١، التغابن: ١] فَإِنَّ هَذَا التَّسْبِيحَ بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْحَالِ، لَا بِحَسَبِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرَّعْدِ: ١٥] قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ طَوْعًا، وَيَسْجُدُ لَهُ الْكُفَّارُ كَرْهًا بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِبَادَ يَرُدُّونَ أُمُورَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِالْمَقَالِ، وَأَمَّا الكفار فبشهادة الحال.
تم الجزء الخامس، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ السَّادِسَ، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى:
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أعان الله على إكماله
[تتمة سورة البقرة]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَلْ كَانَ فِي الْأَصْلِ اسْأَلْ فَتُرِكَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ لِكَثْرَةِ الدَّوْرِ فِي الْكَلَامِ تَخْفِيفًا، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَعِنْدَ هَذَا التَّصْرِيفِ اسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ:
يُقَالُ سَأَلَ يَسْأَلُ مِثْلُ زَأَرَ الْأَسَدُ يَزْأَرُ، وَسَالَ يَسَالُ، مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ: سَلْ مِثْلُ خَفْ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ سَأَلَ سائِلٌ عَلَى وَزْنِ قَالَ، وَكَالَ، وَقَوْلُهُ: كَمْ هُوَ اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ مَوْضُوعٌ لِلْعَدَدِ، يُقَالُ إِنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِ كَافِ التَّشْبِيهِ مَعَ (مَا) ثُمَّ قُصِرَتْ (مَا) وَسُكِّنَتِ الْمِيمُ، وَبُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ لِتَضَمُّنِهَا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ تَارَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَتَارَةً فِي الِاسْتِفْهَامِ وَأَكْثَرُ لُغَةِ الْعَرَبِ الْجَرُّ بِهِ عِنْدَ الْخَبَرِ، وَالنَّصْبُ عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْصِبُ بِهِ فِي الْخَبَرِ، وَيَجُرُّ بِهِ في الاستفهام، وهي هاهنا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُخْبِرُوكَ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فَتَعْلَمَهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ هَذَا الكلام أنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٨] فَأَمَرَ بِالْإِسْلَامِ وَنَهَى عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيْ فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ هَذَا التَّكْلِيفِ/ صِرْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلتَّهْدِيدِ بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٩] ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الْبَقَرَةِ: ٢١٠] ثُمَّ ثَلَّثَ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ يَعْنِي سَلْ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ أَنَّا لَمَّا آتَيْنَا أَسْلَافَهُمْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَأَنْكَرُوهَا، لَا جَرَمَ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ زَلُّوا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ لَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ كَمَا وَقَعَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنْ يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسَفَ: ١١١] فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو فِي «سَلْ» بَيْنَ الِاتِّصَالِ بِوَاوٍ وَفَاءٍ وَبَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ، فقرأ سَلْهُمْ وسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ بغير همزة وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ، وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: ٣٢] بِالْهَمْزِ، وَسَوَّى الْكِسَائِيُّ بَيْنَ الْكُلِّ، وَقَرَأَ الْكُلَّ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَجْهُ الفرق الْفَرْقِ أَنَّ التَّخْفِيفَ فِي
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَحْوُ فَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَنَتْقِ الْجَبَلِ، وَتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّحَابِ، وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْيِينِ الْهُدَى مِنَ الْكُفْرِ لَهُمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى، كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ وَصِحَّةُ شَرِيعَتِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالتَّخْفِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَكَفَرُوا بِهَا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: في نعمة الله هاهنا قولان أحدهما: أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي تَبْدِيلِهِمْ إِيَّاهَا وَجْهَانِ فَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: الْمُرَادُ بِتَبْدِيلِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَهَا لِتَكُونَ أَسْبَابَ هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ تَبْدِيلِهَا تَحْرِيفُهَا وَإِدْخَالُ الشُّبْهَةِ فِيهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْكِفَايَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى/ هُوَ الَّذِي أَبْدَلَ النِّعْمَةَ بِالنِّقْمَةِ لَمَّا كَفَرُوا، وَلَكِنْ أَضَافَ التَّبْدِيلَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِمْ وَهُوَ تَرْكُ الْقِيَامِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنْ فَسَّرْنَا النِّعْمَةَ بِإِيتَاءِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا عَرَفَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٧٥] لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَكَأَنَّهَا غَائِبَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ فَسَّرْنَا النِّعْمَةَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْكِفَايَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ الشُّكْرُ أَوْجَبَ فَكَانَ الْكُفْرُ أَقْبَحَ، فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ إِضْمَارٌ، وَالْمَعْنَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُ، وَأَقُولُ: بَيَّنَ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» أَنَّ تَرْكَ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْوِيفُ بِكَوْنِهِ فِي ذَاتِهِ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ لِهَذَا أَوْ لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعِقَابُ عَذَابٌ يعقب الجرم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: زُيِّنَتْ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْإِحْيَاءَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أُنِّثَ فَعَلَى اللَّفْظِ، وَإِنْ ذُكِّرَ فَعَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥]، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: ٦٧] وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّ تَأْنِيثَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيَوَانًا بِإِزَائِهِ ذَكَرٌ، مِثْلُ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، وَنَاقَةٍ وَجَمَلٍ، بَلْ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْعَيْشِ وَالْبَقَاءِ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: زُيِّنَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْبَقَاءُ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: زُيِّنَتْ، لِأَنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ زُيِّنَ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِقَوْلِهِ:
لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَإِذَا فُصِلَ بَيْنَ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ الِاسْمِ/ بِفَاصِلٍ، حَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفَاصِلَ يُغْنِي عَنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا:
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضَّرَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي التَّنَعُّمِ وَالرَّاحَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعٍ، سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ، حَيْثُ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِهَا في جميعهم.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّزْيِينِ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُزَيِّنُ هُوَ غُوَاةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، زَيَّنُوا لِلْكُفَّارِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا، وَقَبَّحُوا أَمْرَ الْآخِرَةِ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَأَوْهَمُوا أَنْ لَا صِحَّةَ لِمَا يُقَالُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُنَغِّصُوا عِيشَتَكُمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ: وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُجَبِّرَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُزَيِّنَ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُسْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صادقا في ذلك التزين، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا زَيَّنَهُ حَسَنًا، فَيَكُونُ فَاعِلُهُ الْمُسْتَحْسِنُ لَهُ مُصِيبًا وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْكَافِرَ مُصِيبٌ فِي كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يُوثَقَ مِنْهُ تَعَالَى بَقَوْلٍ وَلَا خَبَرٍ، وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ، قَالَ: فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُزَيِّنَ هُوَ الشَّيْطَانُ، هَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ».
وَأَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ مُزَيِّنٌ، وَالْمُزَيِّنُ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ فِي زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ زَيَّنُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ لِمَنْ يبعد منهم: أين يذهب بل لَا يُرِيدُونَ أَنَّ ذَاهِبًا ذَهَبَ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيِ الْكَثِيرَةِ: أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: ٧٥، التوبة: ٣٠، المنافقون: ٤]، أَنَّى يُصْرَفُونَ [غَافِرٍ: ٦٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَكَّدَهُ بقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الْمُنَافِقُونَ: ٩] فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا لَمَّا كَانَا كَالسَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَحْمِلَ الْإِنْسَانَ عَلَى الْفِعْلِ قَهْرًا فَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِنَفْسِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: زُيِّنَ يَقْتَضِي أَنْ مُزَيِّنًا زَيَّنَهُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْمُزَيِّنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْكَهْفِ: ٧] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمُزَيِّنُ بِمَا أَظْهَرَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤] إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥] وَقَالَ أَيْضًا: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الْكَهْفِ: ٤٦] وَقَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَوَافِقَةٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَرَكَّبَ فِي الطِّبَاعِ الْمَيْلَ إِلَى اللَّذَّاتِ وَحُبِّ الشَّهَوَاتِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّحْبِيبِ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهَا عَنْهُ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ الِامْتِحَانُ، وَلِيُجَاهِدَ الْمُؤْمِنُ هَوَاهُ فَيُقْصِرَ نَفْسَهُ عَلَى الْمُبَاحِ وَيَكُفَّهَا عَنِ الْحَرَامِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّزْيِينِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ فِي طَلَبِهَا، فَهَذَا الْإِمْهَالُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّزْيِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا سُؤَالٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الزِّينَةِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَ الْمُحْدَثُ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ وَهَذَا مُحَالٌ ثُمَّ هَذَا التَّزْيِينُ الْحَاصِلُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ هَلْ رَجَّحَ جَانِبَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَوْ مَا رَجَّحَ فَإِنْ لَمْ يُرَجِّحِ أَلْبَتَّةَ بَلِ الْإِنْسَانُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الزِّينَةِ فِي قَلْبِهِ كَهُوَ لَا مَعَ حُصُولِهَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ تَزْيِينًا فِي قَلْبِهِ، وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هَذَا التَّزْيِينُ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ حُصُولَ هَذَا التَّزْيِينِ فِي قَلْبِهِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَقَدْ زَالَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ، فَحَالُ صَيْرُورَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ دُونَ الْمَحْظُورَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ الْإِشْكَالُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهَذَا التَّزْيِينِ الْكُفَّارَ، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّزْيِينِ تَزْيِينَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا يَكُونُ تَمَتُّعُهُ بِهَا مَعَ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ مِنَ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ وَجَاهُهُ فَعَيْشُهُ مُكَدَّرٌ مُنَغَّصٌ، وَأَكْثَرُ غَرَضِهِ أَجْرُ الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يَعُدُّ الدُّنْيَا كَالْوَسِيلَةِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قَلَّتْ ذَاتُ يَدِهِ فَسُرُورُهُ بِهَا يَكُونُ غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا كَمَالُ الْمَقْصُودِ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ صَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَزْيِينَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ تِلْكَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهِمُ اللَّذَّاتِ الْمَحْظُورَةَ، وَتَحَمُّلِهِمُ الْمَشَاقَّ الْوَاجِبَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ مَا وَقَعَ فِي الْمُبَاحَاتِ بَلْ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورَاتِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا التَّزْيِينَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي قَلْبِهِ إِرَادَةَ الْأَشْيَاءِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ خَلَقَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ وَالْأَحْوَالَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ رُوِّينَا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ السُّخْرِيَةِ وُجُوهًا مِنَ الرِّوَايَاتِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى زُيِّنَ، وَلَا يَبْعُدُ اسْتِئْنَافُ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْمَاضِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بزين وَهُوَ مَاضٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِفِعْلٍ يُدِيمُونَهُ فَقَالَ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَعْنَى هَذِهِ السُّخْرِيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ تَرَكُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَيَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ لِطَلَبِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْآخِرَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْمَعَادِ لَكَانَتْ هَذِهِ السُّخْرِيَةُ لَازِمَةً أَمَّا لَوْ ثبت القول بصحة المعاد لكانت السُّخْرِيَةُ مُنْقَلِبَةً عَلَيْهِمْ لَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْمُلْكِ الْأَبَدِيِّ بِسَبَبِ لَذَّاتٍ حَقِيرَةٍ فِي أَنْفَاسٍ مَعْدُودَةٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَلْقِ أَحَدٌ أَوْلَى بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ هُوَ الْحَزْمُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ إِنْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْآخِرَةِ لَمْ يَكُنِ الْفَائِتُ إِلَّا لَذَّاتٍ حَقِيرَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً وَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالْآخِرَةِ كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ أَمْرًا مُتَعَيَّنًا فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ السُّخْرِيَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً وَأَنَّ عَوْدَ السُّخْرِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا.
الْجَوَابُ: لِيُظْهِرَ بِهِ أَنَّ السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا للمؤمن التقي، وليكون بعثا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّقْوَى.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ؟
الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فَوْقَ فُلَانٍ فِي الْكَرَامَةِ، إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَزْيَدَ حَالًا مِنَ الْآخَرِ فِي تِلْكَ الْكَرَامَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ: الْمُؤْمِنُ فَوْقَهُ فِي الْكَرَامَةِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنَ مِنْ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ فَوْقَ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْكَافِرِينَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ فَوْقَهُمْ فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ رُبَّمَا كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرُدُّونَهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ بِمَدَدِ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَزُولُ الشُّبَهَاتُ، وَلَا تُؤَثِّرُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ- فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩- ٣٤] الْآيَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ سُخْرِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ سُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ سُخْرِيَةَ الْكَافِرِ بِالْمُؤْمِنِ بَاطِلَةٌ، وَهِيَ مَعَ بُطْلَانِهَا مُنْقَضِيَةٌ، وَسُخْرِيَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ حَقَّةٌ ومع حقيقتها هِيَ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفَسَادِ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِهَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ فَالَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةُ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
الْجَوَابُ: هَذَا تَمَسَّكٌ بِالْمَفْهُومِ، فَلَا يَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنَ الْعُمُومَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِدَلَائِلِ الْعَفْوِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يُعْطِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عَبِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى رِزْقِ الْآخِرَةِ احْتَمَلَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي/ الْآخِرَةِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ رِزْقًا وَاسِعًا رَغْدًا لَا فَنَاءَ لَهُ، وَلَا انْقِطَاعَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غَافِرٍ: ٤٠] فَإِنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ وَالْحَصْرِ وَالتَّقْدِيرِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَمَا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا كَانَ لَا مَحَالَةَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا ثَوَابٌ وَبَعْضُهَا تَفَضُّلٌ كَمَا قَالَ:
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: ١٧٣] فَالْفَضْلُ مِنْهُ بِلَا حِسَابٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَخَافُ نَفَادَهَا عِنْدَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُعْطِيَ إِنَّمَا يُحَاسِبُ لِيَعْلَمَ لِمِقْدَارِ مَا يُعْطِي وَمَا يَبْقَى، فَلَا يَتَجَاوَزُ فِي عَطَايَاهُ إِلَى مَا يُجْحِفُ بِهِ، وَاللَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ غَنِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا رِزْقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ إِذَا أَعْطَى شَيْئًا انْتَقَصَ قَدْرَ الْوَاجِبِ عَمَّا كَانَ، وَالثَّوَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَدْوَارِ وَالْأَعْصَارِ يَكُونُ الثَّوَابُ الْمُسْتَحَقُّ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْفَضْلِ بَاقِيًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَطَرَّقُ الْحِسَابُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الثَّوَابِ وَخَامِسُهَا: أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يُعْطَى لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا فِي الْخِزَانَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى فِي كُلِّ وَقْتٍ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا لَا مَحَالَةَ، وَالَّذِي فِي خِزَانَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِ اللَّهِ تعالى
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَعَطَايَا اللَّهِ لَهَا مُنْتَظِمَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا يُعْطِي فِي الدُّنْيَا أَصْنَافَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِحُصُولِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَيَحْرِمُونَ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ كَوْنِ الْمُعْطَى مُحِقًّا أَوْ مُبْطِلًا أَوْ مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى قَارُونَ، وَضَيَّقَهَا عَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِحُصُولِ مَتَاعِ الدُّنْيَا لَكُمْ وَعَدَمِ حُصُولِهَا لِفُقَرَاءِ المسلمين على كونهم مُحِقِّينَ وَكَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ، بَلِ الْكَافِرُ قَدْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِاسْتِدْرَاجِ، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا/ لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: ٣٣] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا مُطَالَبَةٍ، وَلَا تَبِعَةٍ، وَلَا سُؤَالِ سَائِلٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَقُولَ الْكَافِرُ: لَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْحَقِّ فَلِمَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؟ وَأَنْ لَا يَقُولَ الْمُؤْمِنُ إِنْ كان الكافر مبطلا فلم وسع عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؟ بَلِ الِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ، وَالْأَمْرُ أمره، والحكم حكمه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي تَقْدِيرِهِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي حِسَابِي، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لِفَقْرِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَلَعَلَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَأَغْنَاهُمْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَبِمَا فَتَحَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَيْدِي أَصْحَابِهِ حَتَّى مَلَكُوا كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ عَطاءً حِساباً [النَّبَأِ: ٣٦] أَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْمُنَاقِضِ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قُلْنَا: أَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: عَطاءً حِساباً عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِحَسَبِ الْوَعْدِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ إِذَا كَانَ يَتَشَابَهُ فِي الْأَوْقَاتِ وَيَتَمَاثَلُ، صَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَطَاءً حِسَابًا، وَلَا يَنْقُضُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ سَبَبَ إِصْرَارِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الزَّمَانِ، بَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالتَّحَاسُدِ وَالتَّنَازُعِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: الْأُمَّةُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِائْتِمَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهَا مَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْحَقِّ أَمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْحَقُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا حِينَ الِاخْتِلَافِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يُونُسَ: ١٩] وَيَتَأَكَّدُ أَيْضًا بِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ- إِلَى قَوْلِهِ- لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْثُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْكُفْرِ، لَكَانَتْ بَعْثَةُ الرُّسُلِ قَبْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا عند ما كَانَ بَعْضُهُمْ مُحِقًّا وَبَعْضُهُمْ مُبْطِلًا، فَلَأَنْ يُبْعَثُوا حين ما كَانُوا كُلُّهُمْ مُبْطِلِينَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَدْرَجَنَا فِيهِ فَاخْتَلَفُوا بِحَسَبِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَبِحَسَبِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بِقَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ثُمَّ حَكَمَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْبَغْيِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْبَاطِلَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ/ بِسَبَبِ الْبَغْيِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإنفاق الَّذِي كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِنَّمَا كَانَ فِي الْحَقِّ لَا فِي الْبَاطِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْحَقِّ لَا فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى أَوْلَادِهِ، فَالْكُلُّ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَحْدُثْ فِيمَا بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ، إِلَى أَنْ
وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالنَّظَرُ لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بِهَا إِلَى النَّتَائِجِ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ إِنْ كَانَتْ نَظَرِيَّةً افْتَقَرَتْ إِلَى مُقَدِّمَاتٍ أُخَرَ وَلَزِمَ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَوَجَبَ انْتِهَاءُ النَّظَرِيَّاتِ بِالْآخِرَةِ إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ فَتَرْتِيبُ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ انْتِهَاؤُهُ أَيْضًا إِلَى تَرْتِيبٍ تُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَإِلَى تَرْتِيبَاتٍ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ لَا يَغْلَطُ لَوْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ سَبَبٌ مِنْ خَارِجٍ، فَأَمَّا إِذَا عَرَضَ لَهُ سَبَبٌ خَارِجِيٌّ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْغَلَطُ فَثَبَتَ أَنَّ مَا بِالذَّاتِ هُوَ الصَّوَابُ وَمَا بِالْعَرَضِ هُوَ الْخَطَأُ، وَمَا بِالذَّاتِ أَقْدَمُ مِمَّا بِالْعَرَضِ بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِحَسَبِ الزَّمَانِ أَيْضًا، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْحَقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ وَهِيَ الْبَغْيُّ وَالْحَسَدُ، فَهَذَا دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُطَابِقٌ لَهُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هُودٍ: ١١٨، ١١٩].
قُلْنَا: الْمَعْنَى وَلِأَجْلِ أَنْ يَرْحَمَهُمْ خَلَقَهُمْ.
وَسَادِسُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ لَوْ تُرِكَ مَعَ فِطْرَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ لَمَا كَانَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ لِأَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ، وَهِيَ سَعْيُ الْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ وَحُصُولُ الْأَغْرَاضِ/ الْفَاسِدَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] فَذَلِكَ الْيَوْمَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الدِّينِ الْحَقٍّ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّ لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَبْحَاثًا كَثِيرَةً، وَلَا حَاجَةَ بِنَا فِي نُصْرَةِ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ تِلْكَ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا القول.
أما القول الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَهُوَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عربهم وعجمهم فبعثهم إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَاضِي: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِخِدْمَتِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَالِاجْتِنَابُ عَنِ الْقَبَائِحِ الْعَقْلِيَّةِ، كَالظُّلْمِ، وَالْكَذِبِ، وَالْجَهْلِ، وَالْعَبَثِ وَأَمْثَالِهَا.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّينَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَالِاسْتِغْرَاقَ، وَحَرْفُ الْفَاءِ يُفِيدُ التَّرَاخِي، فَقَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يُفِيدُ أَنَّ بَعْثَةَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ كَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً، فَتِلْكَ الْوَحْدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى بَعْثَةِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ وَحْدَةً فِي شَرْعِهِ غَيْرَ مُسْتَفَادَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي شَرِيعَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنَ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَطَاعَةُ الْخَالِقِ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَالْعَدْلُ، مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكُلِّ، وَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعَبَثِ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكُلِّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ مُنْفَصِلَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ:
أَلَيْسَ أَوَّلَ النَّاسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَكَيْفَ يَصِحُّ إِثْبَاتُ النَّاسِ مُكَلَّفِينَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَوْلَادِهِ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعَثَهُ إِلَى أَوْلَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ شَرْعُهُ مُنْدَرِسًا، فَالنَّاسُ رَجَعُوا إِلَى التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ إِثْبَاتِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَشْهُورٌ فِي الْأُصُولِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّاسِ هاهنا أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بما تقدم من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الْبَقَرَةِ: ٢٠٨] وَذَكَرْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى أُمَّةً وَاحِدَةً، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ، كَمَا بَعَثَ الزَّبُورَ إِلَى دَاوُدَ، وَالتَّوْرَاةَ إِلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ إِلَى عِيسَى، وَالْفُرْقَانَ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَكُونَ تِلْكَ الْكُتُبُ حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مُطَابِقٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ وَمُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَلِمَا بَعْدَهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِشْكَالٌ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ لَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ كَمَا تَكُونُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَقَدْ تَكُونُ أَيْضًا لِلْعَهْدِ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بهذه الآية.
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُبَشِّرِينَ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ مُنْذِرِينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النِّسَاءِ: ١٦٥] وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَجْرِي مَجْرَى حِفْظِ الصِّحَّةِ، وَالْإِنْذَارَ يَجْرِي مَجْرَى إِزَالَةِ الْمَرَضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَإِنْ قِيلَ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ يَكُونُ قَبْلَ وُصُولِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَوُصُولُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ فَلِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى إِنْزَالِ الْكُتُبِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: لِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مِنْهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الشَّرْعِ مُمْكِنٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْلِيَّاتِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا يَتَحَمَّلُ النَّظَرَ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزِ إِذَا خَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْظُرْ فَرُبَّمَا تَرَكَ الْحَقَّ فَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ، وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَقْوَى وَيَكْمُلُ عِنْدَ التَّبْشِيرِ/ وَالْإِنْذَارِ فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي الذِّكْرِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ إِلَّا مَعَهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ طَالَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَمْ قَصُرَ وَدُوِّنَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يُدَوِّنْ وَكَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُعْجِزًا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابِ مُنَزَّلًا مَعَهُمْ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فَاعْلَمْ أنه قَوْلَهُ: لِيَحْكُمَ فِعْلٌ فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، فَأَقْرَبُهَا إِلَى هَذَا اللَّفْظِ: الْكِتَابُ، ثُمَّ النَّبِيُّونَ، ثُمَّ اللَّهُ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِضْمَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَحِيحًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِيَحْكُمَ اللَّهُ، أَوِ النَّبِيُّ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ، أَوِ الْكِتَابُ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَخْتَصُّ بِوَجْهِ تَرْجِيحٍ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَمَّا اللَّهُ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَاكِمُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا الْكِتَابُ، وَأَمَّا النَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُظْهِرُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى الْكِتَابِ أَوْلَى، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ، فَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى الْكِتَابِ مَجَازٌ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: هَذَا الْمَجَازُ يَحْسُنُ تَحَمُّلُهُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ يُقَالُ: حَكَمَ الْكِتَابُ بِكَذَا، وَقَضَى كِتَابُ اللَّهِ بِكَذَا، وَرَضِيَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هُدًى وَشِفَاءً، جَازَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاءِ: ٩] وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ تَفْخِيمَ شَأْنِ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمَ حَالِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا، إِمَّا إِلَى الْكِتَابِ، وَإِمَّا إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمَا جَمِيعًا قَدْ تَقَدَّمَ، لَكِنَّ رُجُوعَهُ إِلَى الْحَقِّ أَوْلَى، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَكُونَ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَالْكِتَابُ حَاكِمٌ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَالْحَاكِمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ فَالْهَاءُ الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَقِّ وَالثَّانِيَةُ: إلى الكتاب
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ الْكِتَابَ كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ مُغَايِرَةً لَا مَحَالَةَ لِإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَاتُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِثْبَاتِ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ هِيَ الْبَيِّنَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى إِيتَاءِ اللَّهِ الْكُتُبَ إِيَّاهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَغْياً بَيْنَهُمْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الدَّلَائِلَ إِمَّا سَمْعِيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ. أَمَّا السَّمْعِيَّةُ فَقَدْ حَصَلَتْ بِإِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ حَصَلَتْ بِالْبَيِّنَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ تَمَّتِ الْبَيِّنَاتُ وَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُدُولِ عُذْرٌ وَلَا عِلَّةٌ، فَلَوْ حَصَلَ الْإِعْرَاضُ وَالْعُدُولُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بحسب الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: ٤].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ بَيَّنَ أَنَّ حَالَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ حَالِ أُولَئِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ عَنِ الزَّلَلِ وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ،
يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهُمْ فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هَدَانَا لَهُ، وَالنَّاسُ له فِيهِ تَبَعٌ وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَصَلَّتِ الْيَهُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْكَعْبَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، فَقُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى، فَالْيَهُودُ فَرَّطُوا، وَالنَّصَارَى أَفْرَطُوا، وَقُلْنَا الْقَوْلَ الْعَدْلَ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ: لِأَنَّ الهداية
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ غَيْرٌ، وَالِاهْتِدَاءَ غَيْرٌ، وَالَّذِي يدل هاهنا عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْإِيمَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْإِيمَانِ غَيْرُ/ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِإِذْنِهِ وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ هَذَا الْإِذْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَأْذَنَ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ لِيَصْرِفَ هَذَا الْإِذْنَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهِدَايَةُ مُغَايِرَةً لِلِاهْتِدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ بِهِدَايَاتٍ لَا يَفْعَلُهَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِالِاهْتِدَاءِ فَجَعَلَ هِدَايَةً لَهُمْ خَاصَّةً كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] ثُمَّ قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الثَّوَابِ وطريقة الْجَنَّةِ وَثَالِثُهَا: هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالْأَلْطَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعُودُونَ لِما قالُوا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] أَيْ إِلَى مَا قَالُوا وَيُقَالُ: هدايته الطَّرِيقَ وَلِلطَّرِيقِ وَإِلَى الطَّرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: هَدَاهُمْ لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا وَقَدَّمَ الِاخْتِلَافَ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الِاخْتِلَافِ لَهُمْ بَدَأَ بِهِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِمَنْ هَدَاهُ الثَّانِي:
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ فَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ فِيهِ وجهان أحدها: قَالَ الزَّجَّاجُ بِعِلْمِهِ الثَّانِي: هَدَاهُمْ بِأَمْرِهِ أَيْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاطِلِ وَبِالْأَمْرِ حَصَلَ التَّمْيِيزُ فَجُعِلَتِ الْهِدَايَةُ بِسَبَبِ إِذْنِهِ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: هَدَاهُمْ فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فاستدل الْأَصْحَابِ بِهِ مَعْلُومٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَجَابُوا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الْبَيَانُ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهِ اللُّطْفُ فَيَكُونُ خَاصًّا لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ قول أبي بكر الرازي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ وَطَلَبِ الْجَنَّةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي التَّكْلِيفِ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ ما بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ بعد تلك
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي لَفْظِ «أَمْ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة: ١٣٣] والذي نريده هاهنا أَنْ نَقُولَ «أَمْ» اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ كَمَا أَنَّ (هَلْ) اسْتِفْهَامٌ سَابِقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: هَلْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، أَعِنْدَكَ رَجُلٌ؟ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَمْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ أَوْ لَا يَكُونُ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَنْتَ رَجُلٌ لَا تُنْصِفُ، أَفَعَنْ جَهْلٍ تَفْعَلُ هَذَا أَمْ لَكَ سُلْطَانٌ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِالِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السَّجْدَةِ: ١- ٣] وَهَذَا الْقِسْمُ يَكُونُ فِي تَقْدِيرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟ فَكَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، فَصَبَرُوا عَلَى اسْتِهْزَاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أَفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهُمْ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ؟ هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ وَلَمْ يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا وَذَكَرَ الْكُوفِيُّونَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ أَنَّ (لَمَّا) إِنَّمَا هِيَ (لَمْ) وَ (مَا) زَائِدَةٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: (مَا) لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّ (لَمَّا) تَقَعُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَقَعُ فِيهَا (لَمْ) يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَقَدِمَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: (لَمَّا) وَلَا يَقُولُ: (لَمْ) مُفْرَدَةً، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَمْ يَأْتِنِي زَيْدٌ، فَهُوَ نَفْيٌ لِقَوْلِكَ أَتَاكَ زَيْدٌ وَإِذَا قَالَ: لَمَّا يَأْتِنِي فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي بَعْدُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُهُ قَالَ النَّابِغَةُ:
أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا | لَمَّا نزل بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، اشْتَدَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ أَمْ حَسِبْتُمْ
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْحَزَنِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: ١٠] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَى مَتَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَرْجُونَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْأَسْرَ وَالْقَتْلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي، دُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ بِكُلِّ مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ، وَابْتَلَاكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنَالُكُمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، وَمِنَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، ومكايدة الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ، كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْمَثَلُ هُوَ الْمِثْلُ وَهُوَ الشَّبَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مَثَلٌ ومثل كشبه وَشِبْهٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَثَلَ مُسْتَعَارٌ لِحَالَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ لَهَا شَأْنٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلِلَّهِ
[النَّحْلِ: ٦٠] أَيِ الصِّفَةُ الَّتِي لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ مِحْنَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: مَسَّتْهُمُ بَيَانٌ لِلْمَثَلِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ؟ فَقَالَ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا.
أَمَّا الْبَأْساءُ فَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَمِنْهُ يُقَالُ فُلَانٌ فِي بُؤْسٍ وَشِدَّةٍ.
وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَالْأَقْرَبُ فِيهِ أَنَّهُ وُرُودُ الْمَضَارِّ عَلَيْهِ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَضُرُوبِ الْخَوْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْبَأْسَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَضْيِيقِ جِهَاتِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّرَّاءُ عِبَارَةٌ عَنِ انْفِتَاحِ جِهَاتِ الشَّرِّ وَالْآفَةِ وَالْأَلَمِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ حُرِّكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الزَّلْزَلَةِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَزَالَ الشَّيْءَ عَنْ مَكَانِهِ فَإِذَا قُلْتَ: زَلْزَلْتُهُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّكَ كَرَّرْتَ تِلْكَ الْإِزَالَةَ فَضُوعِفَ لَفْظُهُ بِمُضَاعَفَةِ مَعْنَاهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ كُرِّرَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ، نَحْوُ صَرَّ، وَصَرْصَرَ، وَصَلَّ وَصَلْصَلَ، وَكَفَّ، وَكَفْكَفَ، وَأَقَلَّ الشَّيْءَ، أَيْ رَفَعَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، فإذا كرر قيل: قلقل، وفسر بعضهم زُلْزِلُوا هاهنا بِخُوِّفُوا، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَائِفَ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْخَوْفِ الْمُقِيمِ الْمُقْعِدِ، لِأَنَّهُ يُذْهِبُ السُّكُونَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ زلزلوا هاهنا مَجَازًا، وَالْمُرَادُ: خُوِّفُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُضْطَرِبِينَ لَا يَسْتَقِرُّونَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْخَوْفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الضُّرِّ/ وَالْبُؤْسِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَالَ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ وَضَبْطِ النَّفْسِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرٌ حَتَّى ضَجُّوا، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الشِّدَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ بِهِمُ الشِّدَّةُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ قِيلَ لَهُمْ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إِجَابَةً لَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ هَكَذَا: كَانَتْ حَالُهُمْ إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّهِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُمْ طُولُ الْبَلَاءِ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كُونُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَحَمَّلُوا الْأَذَى وَالْمَشَقَّةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فَإِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ آتٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ [الْعَنْكَبُوتِ: ١- ٣] وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنَالُهُمُ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَمَّا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ نَالَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مَا لَا يَخْفَى، فَعَزَّاهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ حَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي طَلَبِ الدِّينِ كَانَ كَذَلِكَ، وَالْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، وَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَمِنْ أَمْرِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَمِنْ أَمْرِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي مُصَابَرَتِهِمْ عَلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ مَا صَارَ ذَلِكَ فِي سَلْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَلْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَلَمْ يَصْرِفْهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ الْمِنْشَارُ فَيُشُقُّ فِلْقَتَيْنِ، وَيُمَشَّطُ الرَّجُلُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ الْعَظْمِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ وَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عن دينه، وأيم الله ليتمن هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخْشَى إِلَّا اللَّهَ والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ الْقَاطِعِ بِصِحَّةِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ مَتى نَصْرُ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ رَسُولًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَأَذَّى مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ، قَالَ تَعَالَى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الْحِجْرِ: ٩٧] وَقَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٣] وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ [يُوسَفَ: ١١٠] وَعَلَى هَذَا فَإِذَا ضَاقَ قَلْبُهُ وَقَلَّتْ حِيلَتُهُ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُ إِلَّا أَنَّهُ مَا عَيَّنَ لَهُ الْوَقْتَ فِي ذَلِكَ، قَالَ عِنْدَ ضِيقِ قَلْبِهِ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ حَتَّى إِنَّهُ إِنْ عَلِمَ قُرْبَ الْوَقْتِ زَالَ هَمُّهُ وَغَمُّهُ وَطَابَ قَلْبُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الْقُرْبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ الْقُرْبِ، وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ أَنَّهُ هَلْ يُوجَدُ النَّصْرُ أَمْ لَا؟ لَمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَوَجَبَ إِسْنَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْمَذْكُورِينَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قَالُوا وَلِهَذَا نَظِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: ٧٣] وَالْمَعْنَى: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ، وَأَمَّا مِنَ الشِّعْرِ فَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا | لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي |
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يُوجِبُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَحِقَهُ شِدَّةٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ سَيَظْفَرَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ.
قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي بَلَاءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَنْ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُضَيِّعُ حَقَّهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النَّصْرِ، وَإِنَّمَا جعله قريبا لأن الموت قريب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ طَلَبِ الْعَاجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الْآجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَبْذُلُ النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي ذَلِكَ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٣] لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ مُخْتَلِطًا بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَوِّيًا لِلْآخَرِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقَةِ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ
وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ عَطَاءٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أتى للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ إِنَّ لِي دِينَارًا فَقَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ قَالَ: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ قَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى خَادِمِكَ قَالَ: إِنَّ لِي أَرْبَعَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ قَالَ: إِنَّ لِي خَمْسَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قَالَ إِنَّ لِي سِتَّةً قَالَ: أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَحْسَنُهَا.
وَرَوَى الْكَلْبِيُّ/ عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا، وَهُوَ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعِنْدَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: مَاذَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَيْنَ نَضَعُهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلنَّحْوِيِّينَ فِي (مَاذَا) قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ الْمَوْضِعُ نصبا بينفقون، والدليل عليه أن العرب يقولون: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي (مَا) فَلَوْلَا أَنَّ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لَقَالُوا: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِحَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا حَذَفُوهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النَّبَأِ: ١] وَقَوْلُهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النَّازِعَاتِ: ٤٣] فَلَمَّا لَمْ يَحْذِفُوا الْأَلِفَ مِنْ آخِرِ (مَا) عَلِمْتَ أَنَّهُ مَعَ
غلاما قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ | كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ لَا عَمَّنْ تُصْرَفُ النَّفَقَةُ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ أَجَابَهُمْ بِهَذَا؟.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةً بِهَا يَكْمُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرُوفًا إِلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ تَكْمِيلًا لِلْبَيَانِ وَثَانِيهَا:
قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ وَارِدًا بِلَفْظِ (مَا) إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ: السُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ إِنْفَاقُ مَالٍ يَخْرُجُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمْ يَنْصَرِفِ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَإِذَا خَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالسُّؤَالِ أَنَّ مَصْرِفَهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا...
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ [الْبَقَرَةِ: ٧٠- ٧١] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَقَرَةَ هِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي شَأْنُهَا وَصِفَتُهَا كَذَا، فَقَوْلُهُ: مَا هِيَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا تَتَمَيَّزُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا هُوَ، وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاذَا يُنْفِقُونَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ طَلَبُ الْمَصْرِفِ فَلِهَذَا حَسُنَ الْجَوَابُ وَثَالِثُهَا:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا هَذَا/ السُّؤَالَ فَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: هذا السؤال فَاسِدٌ أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالًا حَلَالًا وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْمَصْرِفِ وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ صَحِيحَ الْمِزَاجِ لَا يَضُرُّهُ أَكْلُ أَيِّ طَعَامٍ كَانَ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: مَاذَا آكُلُ؟ فَيَقُولُ الطَّبِيبُ: كُلْ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، كَانَ الْمَعْنَى: كُلْ مَا شِئْتَ لَكِنْ بِهَذَا الشَّرْطِ كذا هاهنا الْمَعْنَى: أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى التَّرْتِيبَ فِي الْإِنْفَاقِ، فَقَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَالْمُخْرِجِ لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ رَبَّيَاهُ فِي الْحَالِ الَّذِي كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَكَانَ إِنْعَامُهُمَا عَلَى الِابْنِ أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَوْجَبُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْإِنْسَانَ من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والولدان هُمَا اللَّذَانِ أَخْرَجَاهُ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَقَّهُمَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلِهَذَا أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فِي رِعَايَةِ الْحُقُوقِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ الْأَقْرَبِينَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ جَمِيعِ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ هُوَ الْمَالُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: ٨] وَقَالَ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٠] فَالْمَعْنَى وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْإِنْفَاقَ وَسَائِرَ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، وَهَذَا أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إِلَيْهَا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ قُصُورِهِمَا عَنِ الْكَسْبِ وَالْمِلْكِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْرَبِينَ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَقَدْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ فَقْدِ الْمِلْكِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْمِيرَاثُ يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا فَمَا يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفَقَةٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ أَحَبَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ النَّفَقَةِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ فَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّطَوُّعَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُجُوبَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ حَيْثُ الْكِفَايَةُ وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِمَّا يَكُونُ زَكَاةً وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَا يَكُونُ بَعْثًا عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا يَصْرِفُهُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مَا يَخْلُصُ لِلصَّدَقَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الوجوه من غير نسخ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)الحكم الثاني فيما يتعلق بالقتال
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ فَلَمَّا هَاجَرَ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ الْجِهَادَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ عَلَى الْكُلِّ وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْبَيْتِ بِاللَّهِ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَطْ حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ يَقْتَضِيهِ أَيْضًا، وَالْخِطَابُ بِالْكَافِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ وَعَلَى مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣].
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ هَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ.
قُلْنَا: بَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكُمُ أَيْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حُجَّةُ عَطَاءٍ أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْخِطَابِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حَالُ الْمَوْجُودِينَ فِيهِ كَحَالِ مَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِدَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ وَهِيَ الْإِجْمَاعُ، وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ مفقودة هاهنا فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: ٩٥] وَلَوْ كَانَ الْقَاعِدُ مُضَيِّعًا فَرْضًا لَمَا كَانَ مَوْعُودًا بِالْحُسْنَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْفَرْضُ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ نُسِخَ، إِلَّا أَنَّ الْتِزَامَ الْقَوْمِ بِالنَّسْخِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: ١٢٢] وَالْقَوْلُ بِالنَّسْخِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ حِينَئِذٍ عَلَى الْكُلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْكَافِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ قَالَ:
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فَإِنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ كَارِهًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ سَاخِطًا لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، بَلْ يَرْضَى بِذَلِكَ وَيُحِبُّهُ وَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَاحُهُ وَفِي تَرْكِهِ فَسَادُهُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكُرْهِ، كَوْنَهُ شَاقًّا عَلَى النَّفْسِ، وَالْمُكَلَّفُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاحُهُ، لَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا شَاقًّا عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْزَامِ مَا فِي فِعْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ أَعْظَمَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ الْحَيَاةُ، / فَلِذَلِكَ أَشَقُّ الْأَشْيَاءِ على النفس
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكُرْهُ بِضَمِّ الْكَافِ هُوَ الْكَرَاهَةُ بِدَلِيلِ قوله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَضْعَ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْوَصْفِ مُبَالَغَةً كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةٌ لِفَرْطِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمَخْبُورِ أَيْ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالضَّعْفِ وَالضَّعَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَافِ: ١٥] وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكُرْهُ، بِالضَّمِّ مَا كَرِهْتَهُ مِمَّا لَمْ تُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بِالْإِكْرَاهِ فَبِالْفَتْحِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَسى فِعْلٌ دَرَجَ مُضَارِعُهُ وَبَقِيَ مَاضِيهِ فَيُقَالُ مِنْهُ، عَسَيْتُمَا وَعَسَيْتُمْ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] وَيَرْتَفِعُ الِاسْمُ بَعْدَهُ كَمَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَتَقُولُ: عَسَى زَيْدٌ. كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَمَعْنَاهُ: قَرُبَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النَّمْلِ: ٧٢] أَيْ قَرُبَ، فَقَوْلُكَ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ تَقْدِيرُهُ عَسَى قِيَامُ زَيْدٍ أَيْ قَرُبَ قِيَامُ زَيْدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ شَاقًّا عَلَيْكُمْ فِي الْحَالِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبِالضِّدِّ، وَلِأَجْلِهِ حَسُنَ شُرْبُ الدَّوَاءِ الْمُرِّ فِي الْحَالِ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الصِّحَّةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحَسُنَ تَحَمُّلُ الْأَخْطَارِ فِي الْأَسْفَارِ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الرِّبْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحَسُنَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِلْفَوْزِ بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وهاهنا كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ فِي الْحَالِ صَوْنَ النَّفْسِ عَنْ خَطَرِ الْقَتْلِ، وَصَوْنَ الْمَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَضَارِّ مِنْهَا: أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بِلَادَكُمْ وَحَاوَلَ قَتْلَكُمْ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَكُمْ وَيَسْتَبِيحَ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجُوا إِلَى قِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعْدَادِ آلَةٍ وَسِلَاحٍ، وَهَذَا يَكُونُ كَتَرْكِ مُدَاوَاةِ الْمَرَضِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ بِسَبَبِ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنْ تَحَمُّلِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا إِلَى تَحَمُّلِ أَضْعَافِ تِلْكَ النُّفْرَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِتَالَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِسَلَامَةِ الْوَقْتِ، وَمِنْهَا وِجْدَانُ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا/ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَكَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ إِذَا فَعَلَ الْجِهَادَ تَقَرُّبًا وَعِبَادَةً وَسَلَكَ طَرِيقَةَ الِاسْتِقَامَةِ فَلَمْ يُفْسِدْ مَا فَعَلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخْشَى عَدُوُّكُمْ أَنْ يَسْتَغْنِمَكُمْ فَلَا تَصْبِرُونَ عَلَى الْمِحْنَةِ فَتَرْتَدُّونَ عَنِ الدِّينِ، وَمِنْهَا أَنَّ عَدُوَّكُمْ إِذَا رَأَى جَدَّكُمْ فِي دِينِكُمْ وَبَذْلَكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فِي طَلَبِهِ مَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دِينِكُمْ فَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدِكُمْ صِرْتُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقِتَالِ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَدْ تَحَمَّلَ أَلَمَ الْقَتْلِ بِسَبَبِ طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يَصِرِ الرَّجُلُ مُتَيَقِّنًا بِفَضْلِ
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّبْعَ وَلَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْقِتَالَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَبِالضِّدِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مَتَى تَعَارَضَا فَالْأَكْثَرُ مَنْفَعَةً هُوَ الرَّاجِحُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّرُّ السُّوءُ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا بَسَطْتُهُ، يُقَالُ شَرَرْتُ اللَّحْمَ وَالثَّوْبَ إِذَا بَسَطْتُهُ لِيَجِفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَحَتَّى أُشِرَّتْ بِالْأَكُفِّ الْمَصَاحِفُ
وَالشَّرَرُ اللَّهَبُ لِانْبِسَاطِهِ فَعَلَى هَذَا الشَّرُّ انْبِسَاطُ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (عَسَى) تُوهِمُ الشَّكَّ مِثْلُ (لَعَلَّ) وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقِينٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُطَمِّعَةٌ، فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْقَائِلِ إِلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْمُسْتَمِعِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا بِمَعْنَى (لَعَلَّ) فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ هُوَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] قَالَ الْخَلِيلُ: (عَسَى) مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: ٥٢] وقد وجد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يُوسَفَ: ٨٣] وَقَدْ حَصَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي الْجِهَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ قُصُورَ عِلْمِ نَفْسِهِ، وَكَمَالَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ الْعَبْدَ إِلَّا بِمَا فِيهِ خَيْرَتُهُ وَمَصْلَحَتُهُ، عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ امْتِثَالُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ اعْلَمْ أَنَّ عِلْمِي أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِكَ فَكُنْ مُشْتَغِلًا بِطَاعَتِي وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مُقْتَضَى طَبْعِكَ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَوَابِ الملائكة إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا السَّائِلَ أَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرِيقَانِ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَ عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَعْظَمُ الْحُرْمَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَبْعُدْ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَيَحِلُّ لَنَا قِتَالُهُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ من المسلمين.
وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَبَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْتَحَهُ بَعْدَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَيَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ:
أَمَّا بَعْدُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنِ اتَّبَعَكَ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلٍ، فَتَرَصَّدَ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ لَعَلَّكَ أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْهُ بِخَيْرٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمْعًا/ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ مَعِي فَإِنِّي مَاضٍ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ التَّخَلُّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ فَمَضَى حَتَّى بَلَغَ بَطْنَ نَخْلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَثَلَاثَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَلَقُوا رَأْسَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَوْهَمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ عُمَّارٌ، ثُمَّ أَتَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنْظَلِيُّ وَهُوَ أَحَدُ مِنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَرَمَى عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَأَسَرُّوا اثْنَيْنِ وَسَاقُوا الْعِيرَ بِمَا فِيهِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَجَّتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، شَهْرٌ يَأْمَنُ فِيهِ الْخَائِفُ فَيَسْفِكُ فِيهِ الدِّمَاءَ، وَالْمُسْلِمُونَ أَيْضًا قَدِ اسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَتَلْنَا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، ثُمَّ أَمْسَيْنَا فَنَظَرْنَا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَلَا نَدْرِي أَفِي رَجَبٍ أَصَبْنَاهُ أَمْ فِي جُمَادَى فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأُسَارَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْغَنِيمَةَ،
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وهو خطاب مع المسلمين وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الْبَقَرَةِ: ٢١٩، ٢٢٠] وَثَالِثُهَا: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ كلهن في القرآن منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا: سَأَلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فَتَكُوا بِهِ وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكُفْرَ بِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قَوْلَهُ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْقِتَالَ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ جَائِزٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قِتالٍ فِيهِ خفض عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا يُسَمَّى بَدَلَ الِاشْتِمَالَ، كَقَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ وَنَفَعَنِي زَيْدٌ كَلَامُهُ وَسُرِقَ زَيْدٌ مَالُهُ، وَسُلِبَ زَيْدٌ ثَوَابُهُ، قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [الْبُرُوجِ: ٤، ٥] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْخَفْضُ فِي قِتَالٍ عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالرَّبِيعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الْأَعْرَافِ: ٧٥] وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ قَتْلٍ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نَكَّرَ الْقِتَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قِتالٍ فِيهِ وَمِنْ حَقِّ النَّكِرَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَنْ تَجِيءَ بِاللَّامِ حَتَّى يَكُونَ الْمَذْكُورُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْمَذْكُورُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: ٦].
قُلْنَا: نَعَمْ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَكَرَّرَ وَكَانَا نَكِرَتَيْنِ كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي إِذَنْ غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ذَلِكَ الْقِتَالَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ الَّذِي يَكُونُ كَبِيرًا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْقِتَالَ الَّذِي سَأَلْتُمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ قِتَالٌ آخَرُ لِأَنَّ هَذَا الْقِتَالَ كَانَ الْغَرَضُ بِهِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِنَّمَا الْقِتَالُ الْكَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ فِيهِ هَدْمَ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةَ الْكُفْرِ فَكَانَ اخْتِيَارُ التَّنْكِيرِ فِي اللَّفْظَيْنِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّحَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِئَلَّا تَضِيقَ قُلُوبُهُمْ بَلْ أَبْهَمَ الْكَلَامَ بِحَيْثُ يَكُونُ ظَاهِرُهُ كَالْمُوهِمِ لِمَا أَرَادُوهُ، وَبَاطِنُهُ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْحَقِّ، وَهَذَا إِنَّمَا حَصَلَ بِأَنْ ذَكَرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، وَلَوْ أَنَّهُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ سِرٌّ لَطِيفٌ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هَلْ بَقِيَ أَمْ نُسِخَ فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: حَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ الْغَزْوُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ،
رَوَى جَابِرٌ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هَلْ يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْكُفَّارَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ نَعَمْ،
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالنَّاسُ بِالثُّغُورِ الْيَوْمَ جَمِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَرَوْنَ الْغَزْوَ مُبَاحًا فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ يُنْكِرُهُ عليهم كذلك أحسب قَوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَالْحُجَّةُ فِي إِبَاحَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: ٥] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ فَرْدًا وَاحِدًا، وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَفْرَادِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ مُطْلَقًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلنَّحْوِيِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، أَنَّ قَوْلَهُ:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ كُلُّهَا مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِتَالَ الَّذِي سَأَلْتُمْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تَمْتَنِعُوا
وَاعْتَرَضُوا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِهِ وَعَمْرٍو، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَوْلُهُ: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صِلَةٌ لِلصَّدِّ، وَالصِّلَةُ وَالْمَوْصُولُ فِي حُكْمِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَإِيقَاعُ الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ جَائِزًا.
أُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ إِضْمَارُ حَرْفِ الْجَرِّ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَكُفْرٌ بِهِ وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْإِضْمَارُ فِي كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ، ثُمَّ يَتَأَكَّدُ هذا بقراءة حمزة تساءلون به والأرحام [النساء: ١] عَلَى سَبِيلِ الْخَفْضِ وَلَوْ أَنَّ حَمْزَةَ رَوَى هَذِهِ اللُّغَةَ لَكَانَ مَقْبُولًا بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا قَرَأَ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْقَوْلَ الثَّانِيَ قَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لا يجوز إلا أنا تحملناه هاهنا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْكُفْرَ بِهِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ لَا فَصْلَ الثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَّا أَنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِفَرْطِ الْعِنَايَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٤] كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَلَمْ يكن له أحد كفوا إِلَّا أَنَّ فَرْطَ الْعِنَايَةِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ فَكَذَا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عَطْفٌ بِالْوَاوِ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قِتالٍ فِيهِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: كَبِيرٌ/ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ خَبَرٌ بعد خبر، والتقدير: إن قتلا فِيهِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِأَنَّهُ كُفْرٌ بِاللَّهِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ جُمْلَةَ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَبِيرٌ وَكُفْرٌ بِهِ كَبِيرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو، تَقْدِيرُهُ: وَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، طَعَنَ الْبَصْرِيُّونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُكُمْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَا عَنِ الْقِتَالِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَطَعَنُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا بِاللَّهِ، وَهُوَ خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَطَعَنُوا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَكْبَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَقُولُ: لِلْفَرَّاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ مَنِ الَّذِي أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّهُ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الْمَسْجِدِ
كَالْآخَرِ فِي الْقُبْحِ عِنْدَ الْقَوْمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ جَمَعُوهُمَا فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا.
قُلْنَا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ قِتَالًا وَاحِدًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كُفْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ قِتَالٍ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنَ الْكُفْرِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ هُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّحَابَةُ، وَإِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِذْلَالِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كُفْرٌ وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا فَهُوَ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ جرم سابق وعرض لا حق وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ ظُلْمًا وَكُفْرًا، أَكْبَرُ وَأَقْبَحُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَكُونُ كُفْرًا وَحْدَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَقْرِيرِ قول الفراء.
الوجه الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ قِتَالًا فِيهِ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا الْخَفْضُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَهُوَ وَاوُ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ مَا أَقَامُوا لِهَذَا الْقَوْلِ وَزْنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَدٌّ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيهَا: صَدٌّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: / صَدٌّ الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ عُمْرَةِ الْبَيْتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الرِّوَايَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَقِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَالْوَاقِعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَهُوَ الْكُفْرُ بِكَوْنِهِ مُرْسِلًا لِلرُّسُلِ، مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَإِنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَكُفْرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ مَنْعُ النَّاسِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَالطَّوَافِ بِهِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا هُوَ السَّبَبُ فِي فَضِيلَتِهِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَدُّوا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعَ السُّجُودَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ، بَلْ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَهْلًا لَهُ إِذْ كَانُوا هُمُ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْبَيْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الْفَتْحِ: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَالِ: ٣٤] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا بِشِرْكِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَكَمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا أَكْبَرُ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرٌ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقِتَالِ وَالثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهُوَ مَا كَانَ قَاطِعًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ قَاطِعُونَ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، تَارَةً بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَارَةً بِالتَّعْذِيبِ، كَفِعْلِهِمْ بِبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِتْنَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِامْتِحَانِ، يُقَالُ فَتَنْتَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا أَدْخَلْتَهُ فِيهَا لِتُزِيلَ الْغِشَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التَّغَابُنِ: ١٥] أَيِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَفَكَّرَ فِي وَلَدِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ/ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ١، ٢] أَيْ لَا يُمْتَحَنُونَ فِي دِينِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَقَالَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طَهَ: ٤٠] وَإِنَّمَا هُوَ الِامْتِحَانُ بِالْبَلْوَى، وَقَالَ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٠] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [الْبُرُوجِ: ١٠] وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ آذُوهُمْ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى الْعَذَابِ لِيَمْتَحِنُوا ثَبَاتَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: ١٠١] وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ١٦٢، ١٦٣] وَقَالَ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] أَيِ الْمِحْنَةِ فِي الدِّينِ وَقَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْمَائِدَةِ: ٤٩] وَقَالَ: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: ٥] وَقَالَ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يُونُسَ: ٨٥] وَالْمَعْنَى أَنْ يُفْتَنُوا بِهَا عَنْ دِينِهِمْ فَيَتَزَيَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الكفر والظلم وقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَمِ: ٥، ٦] قِيلَ: الْمَفْتُونُ الْمَجْنُونُ، وَالْجُنُونُ فِتْنَةٌ، إِذْ هُوَ مِحْنَةٌ وَعُدُولٌ عَنْ سَبِيلِ أَهْلِ السَّلَامَةِ فِي الْعُقُولِ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِامْتِحَانُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ عَنِ الدِّينِ تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ الْكَثِيرِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، فَصَحَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَهُوَ قَتْلُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ صَاحِبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إِلَى مُؤْمِنِي مَكَّةَ: إِذَا عَيَّرَكُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَيِّرُوهُمْ أَنْتُمْ بِالْكُفْرِ وَإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ
قَالَ: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٢٠].
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا زَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ كَذَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا فِعْلٌ لَا مَصْدَرَ لَهُ، وَلَا يُقَالُ مِنْهُ: فَاعِلٌ وَلَا مَفْعُولٌ، وَمِثَالُهُ فِي الْأَفْعَالِ كَثِيرٌ نَحْوُ عَسَى لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ وَلَا مُضَارِعٌ وَكَذَلِكَ: ذُو، وَمَا فَتِئَ، وَهَلُمَّ، وَهَاكَ، وَهَاتِ، وَتَعَالَ، ومعنى: لا يَزالُونَ أَيْ يَدُومُونَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الزَّوَالَ يُفِيدُ النَّفْيَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَيْ إِلَى أَنْ يَرُدُّوكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لِيَرُدُّوكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطاعُوا اسْتِبْعَادٌ لِاسْتِطَاعَتِهِمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَدُوِّهِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِي فَلَا تُبْقِ عَلَيَّ وَهُوَ وَاثِقٌ بِأَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ أَظْهَرَ التَّضْعِيفَ مَعَ الْجَزْمِ لِسُكُونِ الْحَرْفِ الثَّانِي:
وَهُوَ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْإِدْغَامِ، وَقَوْلُهُ: فَيَمُتْ هُوَ جَزْمٌ بِالْعَطْفِ عَلَى يَرْتَدِدْ وَجَوَابُهُ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ هُوَ أَنْ يَرْتَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ دِينِهِمْ، ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدًا شَدِيدًا عَلَى الرِّدَّةِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ فِي النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الِارْتِدَادَ إِنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ إِذَا مَاتَ الْمُرْتَدُّ عَلَى الْكُفْرِ، أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ بَحْثٌ أُصُولِيٌّ وَبَحْثٌ فُرُوعِيٌّ، أَمَّا الْبَحْثُ الْأُصُولِيُّ فَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ حُصُولُ الْمُوَافَاةِ، فَالْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ كُفْرًا إِلَّا إِذَا مَاتَ الْكَافِرُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ إِيمَانًا فِي الْحَقِيقَةِ لَكَانَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْأَبَدِيَّ، ثُمَّ بَعْدَ كُفْرِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ الْأَبَدِيَّ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقَانِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّارِئَ يُزِيلُ السَّابِقَ وَهَذَا مُحَالٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُنَافَاةَ حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّابِقِ وَالطَّارِئِ، فَلَيْسَ كَوْنُ الطَّارِئِ مُزِيلًا لِلسَّابِقِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِ السَّابِقِ دَافِعًا لِلطَّارِئِ، بَلِ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُنَافَاةَ إِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَانَ شَرْطُ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالَ السَّابِقِ فَلَوْ عَلَّلْنَا زَوَالَ السَّابِقِ بِطَرَيَانِ الطَّارِئِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ السَّابِقِ وَعِقَابَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَزْيَدَ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا وَجَبَ أَنْ يَتَحَابَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى الْمُكَلَّفُ لَا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنِ ازْدَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلْنَفْرِضْ أَنَّ السَّابِقَ أَزْيَدُ، فَعِنْدَ طَرَيَانِ الطَّارِئِ لَا يَزُولُ إِلَّا مَا يُسَاوِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ بَعْضُ الِاسْتِحْقَاقَاتِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ كَوْنِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْمَاهِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، لِنَفْرِضْ أَنَّ السَّابِقَ أَقَلُّ فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّارِئُ الزَّائِدَ، يَكُونُ جُمْلَةُ أَجْزَائِهِ مُؤَثِّرَةً في إزالة السابق فحينئذ يجمع على الأثر الواحد مؤثرات يكون مُسْتَقِلَّةٌ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ السَّابِقِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الطَّارِئِ دُونَ الْبَعْضِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ تَرْجِيحًا لِلْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ، فَذَلِكَ الْإِيمَانُ السَّابِقُ، وَإِنْ كُنَّا نَظُنُّهُ إِيمَانًا إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ إِيمَانًا، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا، وَالْكُفْرِ كُفْرًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ
أَمَّا الْبَحْثُ الْفُرُوعِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا أَدَّى وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الشَّخْصُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الشَّرْطُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِيرَ عَمَلُهُ مُحْبَطًا، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: ٨٨] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥] لَا يُقَالُ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ، وَعَلَّقَهُ بِشَرْطِ أَنَّ الْحُكْمَ ينزل عند أيهما وجد، كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، أَنْتَ حُرٌّ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ: لَا يَبْطُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ لِمَجْمُوعِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ: الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي حَبْطِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ لَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَبِشَرْطَيْنِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ وَبِشَرْطَيْنِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْآخَرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ جَعَلْنَا مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الْحُبُوطِ لَمْ يَبْقَ لِلْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ أَثَرٌ فِي الْحُبُوطِ أَصْلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ وَبِشَرْطَيْنِ بَلْ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنَّمَا تُوجِبُ الْحُبُوطَ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ السُّؤَالُ سَاقِطٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الْحَبَطِ أَنْ تَأْكُلَ الْإِبِلُ شَيْئًا يَضُرُّهَا فَتَعْظُمَ بُطُونُهَا فَتَهْلِكَ
وَفِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ»
فَسَمَّى بُطْلَانَ الْأَعْمَالِ بِهَذَا لِأَنَّهُ كَفَسَادِ الشَّيْءِ بِسَبَبِ وُرُودِ الْمُفْسِدِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ لَيْسَ هُوَ إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وُجِدَ فَنِيَ وَزَالَ، وَإِعْدَامُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهِ، فَقَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ عِقَابَ الرِّدَّةِ الْحَادِثَةِ يُزِيلُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ السَّابِقِ، إِمَّا بِشَرْطِ الْمُوَازَنَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ من المعتزلة أولا بِشَرْطِ الْمُوَازَنَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلْإِحْبَاطِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْإِحْبَاطِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَتَى بِالرِّدَّةِ فَتِلْكَ الرِّدَّةُ عَمَلٌ مُحْبِطٌ لِأَنَّ الْآتِيَ بِالرِّدَّةِ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهَا بِعَمَلٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ ثَوَابًا فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْجَيِّدِ وَأَتَى بَدَلَهُ بِهَذَا الْعَمَلِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا حُبُوطُ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ وَيُقَاتَلُ إِلَى أَنْ يُظْفَرَ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُوَالَاةً وَلَا نَصْرًا وَلَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَتَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا أَنَّ مَا يُرِيدُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمُكَايَدَتِهِمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ دِينِهِمْ يَبْطُلُ كُلُّهُ، فَلَا يَحْصُلُونَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ لِإِعْزَازِ اللَّهِ الْإِسْلَامَ بِأَنْصَارِهِ فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا يَعْمَلُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا حُبُوطُ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْبَاطِ مَعْنَاهُ أَنَّ هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بِأَعْمَالِهِمُ السَّالِفَةِ، وَعِنْدَ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ تِلْكَ الرِّدَّةِ ثَوَابًا وَنَفْعًا فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا أَعْظَمَ الْمَضَارِّ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ لَا عِقَابَ فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا وَثَوَابًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَكَانَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ يَقُومُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ وَعِيدٌ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ وَعْدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هاجَرُوا أَيْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَلَامِ الْقَبِيحِ: هُجْرٌ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ، وَالْهَاجِرَةُ وَقْتٌ يُهْجَرُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَالْمُهَاجَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَحْبَابَ وَالْأَقَارِبَ هَجَرُوهُ بِسَبَبِ هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا هَجَرَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُهَاجَرَةً، وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ فَأَصْلُهَا مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ الْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يَضُمَّ جُهْدَهُ إِلَى جُهْدٍ آخَرَ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسَاعَدَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ الرَّجُلِ سَاعِدَهُ إِلَى سَاعِدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ التَّأْيِيدُ وَالْقُوَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد من المجاهدة بذل الجهة في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذَلِكَ فَتَصِيرُ مُفَاعَلَةً.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جُعِلَ الْوَعْدُ مُطْلَقًا بِالرَّجَاءِ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ؟.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، بَلْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلًا بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَلَكِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَا يَكْفُرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا مُتَيَقَّنٌ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الرَّجَاءَ لَا الْقَطْعَ وثالثها: أن المذكور هاهنا هُوَ الْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجُوَ أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لَهَا، كَمَا وَفَّقَهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا جَرَمَ عَلَّقَهُ عَلَى الرَّجَاءِ وَرَابِعُهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ شَكَّكَ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَ الدُّنْيَا مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، مُسْتَقْصِرِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَقْضُوا مَا يَلْزَمُهُمْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، فَيُقْدِمُونَ عَلَى اللَّهِ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٠].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرَّجَاءِ: الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ، وَالظَّنُّ إِنَّمَا دَخَلَ فِي كَمِّيَّتِهِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ قَرَّرْنَاهَا فِي تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَقِّقُ لَهُمْ رَجَاءَهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، غَفَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
الحكم الثالث في الخمر
اعلم أن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلُوا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِلِّ شُرْبِهِ وَحُرْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ بِذِكْرِ الْحُرْمَةِ دَلَّ تَخْصِيصُ الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السؤال كان وقعا عَنِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، نَزَلَ بِمَكَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْلِ: ٦٧] وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا وَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ، ثُمَّ إن عمر
وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ انْتِفَاعُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرًا، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ اسْتَعْمَلَ فِي التَّحْرِيمِ هَذَا التَّدْرِيجَ، وَهَذَا الرِّفْقَ، وَمِنَ/ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا مَعَ السُّكْرِ، فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الشُّرْبِ ضِمْنًا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَنَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هُوَ؟ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هو؟ [النوع الأول مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ] قال الشافعي رحمه الله: كل شراب مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الشَّدِيدِ الَّذِي قَذَفَ بِالزَّبَدِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَهِيَ تُتَّخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا كُلَّهَا خَمْرًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ يَوْمَ حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس، وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْحَقَ بِهَا كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ شَرَابٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، وَرِوَايَتُهُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَغَيَّرَهُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْبُرِّ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا»
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَعْلِيمَ اللُّغَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانَ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْخَمْرِ ثَابِتٌ فِيهَا، أَوِ الْحُكْمَ الْمَشْهُورَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْخَمْرَ هُوَ حُرْمَةُ الشُّرْبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَخْصِيصُ الْخَمْرِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهَا خُصُوصًا لِكَوْنِهَا مَعْهُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكُلُّ
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ»
دَلَّ عَلَى/ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا وُجِدَ مِنْهُ السُّكْرُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ كُلِّهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكَانَ مُسَمَّى الْخَمْرِ مَجْهُولًا لِلْقَوْمِ حَسُنَ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ أَنَّ هَذَا هُوَ مُسَمَّاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَضَعَ اسْمًا شَرْعِيًّا عَلَى سَبِيلِ الْإِحْدَاثِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا خَمْرٌ فَحَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ يُفِيدُ كَوْنَهُ فِي نَفْسِهِ خَمْرًا فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ مَجَازًا عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْحُكْمِ، الَّذِي هُوَ خَاصِّيَّةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ، فَقَالَ:
«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ»
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبِتْعُ شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْعَسَلِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ كُلِّ تَأْوِيلٍ يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ تَحْلِيلِ الْأَنْبِذَةِ، وَإِفْسَادٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرِ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ عَنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِتَحْرِيمِ الْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَمَقَادِيرِهِ لَذَكَرَهُ وَلَمْ يُهْمِلْهُ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ».
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ:
رُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «الْفَرَقُ» مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَفِيهِ أَبْيَنُ الْبَيَانِ أَنَّ الْحُرْمَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الشَّرَابِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُفَتِّرُ كُلُّ شَرَابٍ يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، وَهُوَ حَرَامٌ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ التَّمَسُّكُ بِالِاشْتِقَاقَاتِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ التَّغْطِيَةُ، سُمِّيَ الْخِمَارُ خِمَارًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي رَأْسَ الْمَرْأَةِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ وَهْدَةٍ وَأَكَمَةٍ، وَخَمَّرْتُ رَأْسَ الْإِنَاءِ أَيْ غَطَّيْتُهُ، وَالْخَامِرُ هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ، أَيْ تُخَالِطُهُ، يُقَالُ: خَامَرَهُ الدَّاءُ إِذَا خَالَطَهُ، وَأَنْشَدَ لِكُثَيِّرٍ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ
وَيُقَالُ خَامَرَ السِّقَامُ كَبِدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا خَالَطَ الشَّيْءَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ هُوَ الْمُسْكِرُ، أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْخَمْرِ ثلاثة، اثنان مِنْهَا وَرَدَا بِلَفْظِ الْخَمْرِ أَحَدُهُمَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّانِيَةُ: آيَةُ الْمَائِدَةِ وَالثَّالِثَةُ: وَرَدَتْ فِي السُّكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: ٤٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَمْرِ هُوَ الْمُسْكِرُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْحُجَّةِ أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ هُوَ أَنَّ عُمَرَ وَمُعَاذًا قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْخَمْرَ مُسْلِبَةٌ لِلْعَقْلِ، مُذْهِبَةٌ لِلْمَالِ، فَبَيِّنْ لَنَا فِيهِ، فَهُمَا إِنَّمَا طَلَبَا الْفَتْوَى مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِسَبَبِ كَوْنِ الْخَمْرِ مُذْهِبَةً لِلْعَقْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْخَمْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنَ الْحُجَّةِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [الْمَائِدَةِ: ٩١] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُعَلَّلَةٌ بِالسُّكْرِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقِينِيٌّ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَصًّا فِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةٌ بِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً، فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ الْعِنَادَ، عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْلِ: ٦٧] مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِاتِّخَاذِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سُكْرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لِأَنَّ الْمِنَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمُبَاحِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَى السِّقَايَةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: اسْقُونِي، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَا أَسْقِيكَ مِمَّا نَنْبِذُهُ فِي بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ: مَا تَسْقِي النَّاسَ، فَجَاءَهُ بِقَدَحٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَمَّهُ، فَقَطَّبَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْسَدْتَ عَلَى/ أَهْلِ مَكَّةَ شَرَابَهُمْ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ مِنْ زَمْزَمَ وَصَبَّ عَلَيْهِ وَشَرِبَ، وَقَالَ: إِذَا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متنها بِالْمَاءِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ التَّقْطِيبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الشَّدِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَزْجَ بِالْمَاءِ كَانَ لِقَطْعِ الشِّدَّةِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّ اغْتِلَامَ الشَّرَابِ شِدَّتُهُ، كَاغْتِلَامِ الْبَعِيرِ سُكْرُهُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بآثار الصحابة.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ النَّبِيذَ كَانَ مَاءً نُبِذَتْ تَمَرَاتٍ فِيهِ لِتَذْهَبَ الْمُلُوحَةُ فَتَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ قَلِيلًا إِلَى الْحُمُوضَةِ، وَطَبْعُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ طَبْعُهُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ الطَّعْمَ، فَلِذَلِكَ قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَأَيْضًا كَانَ الْمُرَادُ بِصَبِّ الْمَاءِ فيه إزالة ذلك القذر مِنَ الْحُمُوضَةِ أَوِ الرَّائِحَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الضَّعِيفِ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ مُتَدَافِعَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، فَوَجَبَ تَرْكُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْخَمْرِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِثْمِ، وَالْإِثْمُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الْأَعْرَافِ: ٣٣] فَكَانَ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعِقَابُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِقَابُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ إِلَّا الْمُحَرَّمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صَرَّحَ بِرُجْحَانِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ إِثْمٌ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، فَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ حَرَامٌ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَمَّا حَصَلَ فِيهِ ذَلِكَ الْإِثْمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا؟.
قُلْنَا: لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنْ مُطْلَقِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ لَازِمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، فَكَانَ شُرْبُ الْخَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مُحَرَّمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَالثَّانِي: / لَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَتِهَا فَلِمَ لَمْ يَقْنَعُوا بِهَا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ فِيهِمَا إِثْمًا كَبِيرًا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ الْكَبِيرَ يَكُونُ حَاصِلًا مَا دَامَا مَوْجُودَيْنِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِثْمُ الْكَبِيرُ سَبَبًا لِحُرْمَتِهَا لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ حُصُولَ النَّفْعِ الْعَاجِلِ فِيهِ فِي الدُّنْيَا لَا يمنع كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ النَّفْعِ فِيهِمَا مَانِعًا مِنْ حُرْمَتِهِمَا لِأَنَّ صِدْقَ الْخَاصِّ يُوجِبُ صِدْقَ الْعَامِّ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالتَّوَقُّفُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ الْكِبَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ نُزُولَ مَا هُوَ آكَدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ، كَمَا الْتَمَسَ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَزْدَادَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ لَا عَنِ الْمَاضِي، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْمَيْسِرِ فَنَقُولُ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، مَصْدَرٌ مِنْ يَسَرَ كَالْمَوْعِدِ وَالْمَرْجِعِ مِنْ فِعْلِهِمَا، يُقَالُ يَسَرْتُهُ إِذَا قَمَرْتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْيُسْرِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِ الرَّجُلِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: يَسِّرُوا لَنَا ثَمَنَ الْجَزُورِ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ يَسَارِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَيْسِرُ مِنَ التَّجْزِئَةِ وَالِاقْتِسَامِ، يُقَالُ: يَسَرُوا الشَّيْءَ، أَيِ اقْتَسَمُوهُ، فَالْجَزُورُ نَفْسُهُ يُسَمَّى مُيَسَّرًا لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ، لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ، ثُمَّ يقال لضاربين بالقدح والمتقاربين عَلَى الْجَزُورِ: إِنَّهُمْ يَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُجَزِّءُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَسَّرَ لِي هَذَا الشَّيْءَ يُيَسِّرُ يُسْرًا وَمَيْسِرًا إِذَا وَجَبَ، وَالْيَاسِرُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْقِدَاحِ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْمَيْسِرِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَانَتْ لَهُمْ عَشْرَةُ قِدَاحٍ، وَهِيَ الْأَزْلَامُ والأقلام الفذ، والتوأم، وَالرَّقِيبُ، وَالْحَلِسُ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالنَّافِسُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَصِيبٌ معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا إِلَّا ثلاثة، وهي: المنيح والسفيح، والوعد، وَلِبَعْضِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرٌ:
لِي فِي الدُّنْيَا سِهَامٌ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ... وسفيح ومنيح
فللفذ سهم، وللتوأم سَهْمَانِ، وَلِلرَّقِيبِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْحَلِسِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلنَّافِسِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُسْبِلِ/ سِتَّةٌ، وَلِلْمُعَلَّى سَبْعَةٌ، يَجْعَلُونَهَا فِي الرَّبَابَةِ، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ وَيَضَعُونَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ، ثُمَّ يُجَلْجِلُهَا وَيُدْخِلُ يَدَهُ فَيُخْرِجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنْهَا فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذوات الأنصباء أخذ النصب الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ لَا نَصِيبَ لَهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ ثَمَنَ الْجَزُورِ كُلِّهِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَيْسِرَ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْقِمَارِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا مِنْ مَيْسِرِ الْعَجَمِ»
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ، وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا خَلَا الشِّطْرَنْجُ عَنِ الرِّهَانِ، وَاللِّسَانُ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالصَّلَاةُ عَنِ النِّسْيَانِ، لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْسِرِ، لِأَنَّ الْمَيْسِرَ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْمَالِ، أَوْ أَخْذَ مَالٍ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ قِمَارًا وَلَا مَيْسِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَمَّا السَّبَقُ فِي الْخُفِّ وَالْحَافِرِ فَبِالِاتِّفَاقِ لَيْسَ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَشَرْحُهُ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِثْمُ الْكَبِيرُ، فِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ صِفَاتِهِ، وَالْخَمْرُ عَدُوُّ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ عَدُوَّ الْأَشْرَفِ فَهُوَ أَخَسُّ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُ الْخَمْرِ أَخَسَّ الْأُمُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَقْلَ إنما سمي
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا، وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي جَرَاءَتِكَ؟ فَقَالَ مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ قَوْمٍ وَأُمْسِيَ سَفِيهَهُمْ وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَثَالِثُهَا:
أَنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهُ بِهَا أَكْثَرَ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهَا أَتَمَّ كَانَ الْمَيْلُ إِلَيْهَا أَكْثَرَ وَقُوَّةُ النَّفْسِ عَلَيْهَا أَقْوَى بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، مِثْلُ الزَّانِي إِذَا فَعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَكُلَّمَا كَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَكْثَرَ كَانَ فُتُورُهُ أَكْثَرَ وَنُفْرَتُهُ أَتَمَّ، بِخِلَافِ الشُّرْبِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، كَانَ نَشَاطُهُ أَكْثَرَ، وَرَغْبَتُهُ فِيهِ أَتَمَّ. فَإِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ صَارَ الْإِنْسَانُ غَرِقًا فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، مُعْرِضًا عَنْ تَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى يَصِيرَ مِنَ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَمْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ/ حَصَلَتِ الْقَبَائِحُ بِأَسْرِهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ»
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَالْإِثْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَأَيْضًا لِمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الشَّتْمِ وَالْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَيْضًا يُورِثُ الْعَدَاوَةَ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا أَخَذَ مَالَهُ مَجَّانًا أَبْغَضَهُ جِدًّا، وَهُوَ أَيْضًا يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فَمَنَافِعُ الْخَمْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَغَالَوْنَ بِهَا إِذَا جَلَبُوهَا مِنَ النَّوَاحِي، وَكَانَ الْمُشْتَرِي إِذَا تَرَكَ الْمُمَاكَسَةَ فِي الثَّمَنِ كَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ فَضِيلَةً وَمَكْرُمَةً، فَكَانَ تَكْثُرُ أَرْبَاحُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقَوِّي الضَّعِيفَ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ وَيُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَيُسَلِّي الْمَحْزُونَ، وَيُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَيُسَخِّي الْبَخِيلَ وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُنْعِشُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَيَزِيدُ فِي الْهِمَّةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ «١» وَمِنْ مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ: التَّوْسِعَةُ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ لِأَنَّ مَنْ قَمَرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْجَزُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُفَرِّقُهُ فِي الْمُحْتَاجِينَ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ رُبَّمَا قَمَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ بَعِيرٍ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَالٌ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ، فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كَثِيرٌ بِالثَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِثْمِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الْمَائِدَةِ: ٩١] فَذَكَرَ أَعْدَادًا مِنَ الذُّنُوبِ فِيهِمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَشْرَةً بِسَبَبِ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِثْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِثْمَ في هذه الآية كالمضاد
والخمر: كما يشهد بذلك العقل والطب، تضعف القوى، وتعسر الهضم، وتتلف المعدة، وتضعف الباه، وإن دل ظاهرها على إذهاب الحزن، فهي جالبة للهم والغم والكدر، وتورث الشجاع الجبن والخور، وتحض الكريم على البخل، وتفسد الدم وتكدر اللون وتظهر غضون الوجه، وهي في جملتها مبعث لسائر الشرور والفجور والخصال الذميمة.
أما تأويل قوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فهو خاص بالمنافع الدنيوية الفانية والربح التجاري الزائل. انتهى مصححه.
٢] وَأَيْضًا الْقُرَّاءُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ مَا قُلْنَاهُ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ فِي الإنفاق
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هاهنا فَأُجِيبُ عَنْهُ بِذِكْرِ الْكَمِّيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ مَذْهَبِ رَجُلٍ وَخُلُقِهِ مَا فُلَانٌ هَذَا؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مَذْهَبِهِ كَذَا، وَمِنْ خُلُقِهِ كَذَا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَانَ النَّاسُ لَمَّا رَأَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَحُضَّانِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَيَدُلَّانِ عَلَى عَظِيمِ ثَوَابِهِ، سَأَلُوا عَنْ مِقْدَارِ مَا كُلِّفُوا بِهِ، هَلْ هُوَ كُلُّ الْمَالِ أَوْ بَعْضُهُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْعَفْوَ مَقْبُولٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ، قَالَ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩] أَيِ الزِّيَادَةَ، وَقَالَ أَيْضًا: حَتَّى عَفَوْا [الْأَعْرَافِ: ٩٥] أَيْ زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ الْقَفَّالُ: الْعَفْوُ مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ مِمَّا يَكُونُ فَاضِلًا عَنِ الْكِفَايَةِ يُقَالُ: خُذْ مَا عَفَا لَكَ، أَيْ مَا تَيَسَّرَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ رَاجِعًا إِلَى التَّيَسُّرِ وَالتَّسْهِيلِ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ»
مَعْنَاهُ التَّخْفِيفُ بِإِسْقَاطِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، وَيُقَالُ: أَعْفَى فُلَانٌ فُلَانًا بِحَقِّهِ إِذَا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاحٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّخْفِيفِ وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ كَذَا عَفْوًا صَفْوًا، إِذَا لَمْ يُكَدِّرْ عَلَيْهِ بِالْأَذَى، وَيُقَالُ: خُذْ مِنَ النَّاسِ مَا عَفَا لَكَ أَيْ مَا تَيَسَّرَ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: ١٩٩] أَيْ مَا سَهُلَ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ السَّهْلَةِ: الْعَفْوُ وَإِذَا كَانَ الْعَفْوُ هُوَ التَّيْسِيرُ فَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ مَؤُنَتُهُمْ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَفْوُ هُوَ الزِّيَادَةُ رَاجِعٌ إِلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَجُمْلَةُ التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبِ النَّاسَ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاءِ:
٢٦، ٢٧] وَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: ٦٧]
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ وَهَكَذَا وَهَكَذَا»
وَقَالَ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ»
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يا رسول الله خذها صدقة فو الله لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: هَاتِهَا مُغْضَبًا فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ حَذَفَهُ بِهَا حَيْثُ لَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى خُذْهَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: الْفَضِيلَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَالْإِنْفَاقُ الْكَثِيرُ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالتَّقْلِيلُ جِدًّا هُوَ التَّقْتِيرُ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ وَمَدَارُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَشَرْعُ الْيَهُودِ مَبْنَاهُ عَلَى الْخُشُونَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ النَّصَارَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّطٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْكُلِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (الْعَفْوُ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ (ذَا) بِمَعْنَى (الَّذِي) وَيُنْفِقُونَ صِلَتَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْعَفْوُ وَمَنْ نَصَبَ كَانَ التَّقْدِيرُ: مَا يُنْفِقُونَ وَجَوَابُهُ: يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، فَلَهُمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العفو هو الزكاة فجاء ذكرها هاهنا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا فَمَذْكُورَةٌ فِي السُّنَّةِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الصَّدَقَاتِ فَالنَّاسُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ يُنْفِقُوا الْبَاقِي، ثُمَّ صَارَ هَذَا مَنْسُوخًا بِآيَةِ الزَّكَاةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْرُوضًا لَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِ الْمُخَاطَبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
ما قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَمَعْنَاهُ أَنِّي بَيَّنْتُ لَكُمُ الْأَمْرَ فِيمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ وَمَصَارِفِهِ فَهَكَذَا أُبَيِّنُ لَكُمْ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكُمْ جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وَالثَّانِي: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَيُعَرِّفُكُمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا وَمَضَارٌّ فِي الْآخِرَةِ/ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا الثَّالِثُ: يُعَرِّفُكُمْ أَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْآخِرَةِ وَإِمْسَاكَهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَتَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا لِدَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)الحكم الخامس في اليتامى
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا الِانْتِفَاعَ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَرُبَّمَا تَزَوَّجُوا بِالْيَتِيمَةِ طَمَعًا فِي مَالِهَا أَوْ يُزَوِّجُهَا مِنِ ابْنٍ لَهُ لِئَلَّا يَخْرُجَ مَالُهَا مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠] وَأَنْزَلَ فِي الْآيَاتِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] وَقَوْلَهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً [النِّسَاءِ: ١٢٧] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الْأَنْعَامِ: ١٥٢] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرَكَ الْقَوْمُ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى، وَالْمُقَارَبَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَّتْ مَصَالِحُ الْيَتَامَى وَسَاءَتْ مَعِيشَتُهُمْ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَبَقَوْا مُتَحَيِّرِينَ إِنْ خَالَطُوهُمْ وَتَوَلَّوْا أَمْرَ أَمْوَالِهِمْ، اسْتَعَدُّوا لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَإِنْ تَرَكُوا وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ، اخْتَلَّتْ مَعِيشَةُ اليتامى، فتحير القوم عند ذلك.
ثم هاهنا يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الرَّسُولَ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، يحتمل أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ فِي قَلْبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ/ تَمَنَّوْا أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ اعْتَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى، وَاجْتَنَبُوا مُخَالَطَتَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى كَانَ يُوضَعُ لِلْيَتِيمِ طَعَامٌ فَيَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَتْرُكُونَهُ وَلَا يَأْكُلُونَهُ حَتَّى يَفْسَدَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْيَتِيمِ يُفْرِدُ لَهُ مَنْزِلًا وَطَعَامًا وَشَرَابًا فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عَبْدُ الله بن رواحة: يا رسول الله مالكنا مَنَازِلُ تَسْكُنُهَا الْأَيْتَامُ وَلَا كُلُّنَا يَجِدُ طَعَامًا وَشَرَابًا يُفْرِدُهُمَا لِلْيَتِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ النَّظَرَ فِي صَلَاحِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِهِمَا، لِكَيْ يَنْشَأَ عَلَى عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَفَضْلٍ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ حَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا إِصْلَاحُ مَالِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاءِ: ٢] وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
خَيْرٌ يَتَنَاوَلُ حَالَ الْمُتَكَفِّلِ، أَيْ هَذَا الْعَمَلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَيَتَنَاوَلُ حَالَ اليتيم
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ دُونَ مَالِهِمْ.
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى إِصْلَاحِ مَالِهِ بِالتَّنْمِيَةِ وَالزِّيَادَةِ يَكُونُ إِصْلَاحًا لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُ تَحْتَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْخَبَرُ عَائِدٌ إِلَى الولي، يعني إِصْلَاحَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا أُجْرَةٍ خَيْرٌ لِلْوَلِيِّ وَأَعْظَمُ أَجْرًا لَهُ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَائِدًا إِلَى الْيَتِيمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ التَّفَرُّدِ عَنْهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْخَيْرَاتِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْوَلِيِّ، وَإِلَى الْيَتِيمِ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَإِصْلَاحِ الْمَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْمُتَكَفِّلِ لِمَصَالِحِ الْيَتِيمِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ، وَالْيَتِيمِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهِ، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُخَالَطَةُ جَمْعٌ يَتَعَذَّرُ فِيهِ التَّمْيِيزُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجِمَاعِ: الْخِلَاطُ وَيُقَالُ: خُولِطَ الرَّجُلُ إِذَا جُنَّ، وَالْخِلَاطُ الْجُنُونُ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ عَلَى صَاحِبِهِ بِزَوَالِ عَقْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَسْكَنِ وَالْخَدَمِ فَإِخْوَانُكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ مَيَّزُوا طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِ أَنْفُسِهُمْ، وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِ أَنْفُسِهُمْ وَمَسْكَنَهُ عَنْ مَسْكَنِ أَنْفُسِهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ خَلْطَ الطَّعَامَيْنِ وَالشَّرَابَيْنِ، وَالِاجْتِمَاعَ/ فِي الْمَسْكَنِ الْوَاحِدِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِمَالِ وَلَدِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَدْخَلُ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ إِفْسَادَ أَمْوَالِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمُخَالَطَةِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِأَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ أَجْرُهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَطَلَبُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ فَقِيرًا فَقَالُوا إِنَّهُ يَأْكُلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَرُدُّهُ إِذَا أَيْسَرَ، فَإِنْ لَمْ يُوسِرْ تَحَلَّلَهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ: إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ قَرْضًا بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قَضَيْتُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَأَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَخْلِطُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى بِأَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ بِشَرْطِ رِعَايَةِ جِهَاتِ الْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ لِلصَّبِيِّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْطِ الْمُصَاهَرَةُ فِي النِّكَاحِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاءِ: ٣] وَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ١٢٧] قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ عَلَى غيره من
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ نَصَبْتَهُ كَانَ صَوَابًا، وَالْمَعْنَى فَإِخْوَانُكُمْ تُخَالِطُونَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَقِيلَ: الْمُفْسِدُ لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهَا، وَقِيلَ: يَعْلَمُ ضَمَائِرَ مَنْ أَرَادَ الْإِفْسَادَ وَالطَّمَعَ فِي مَالِهِمْ بِالنِّكَاحِ مِنَ الْمُصْلِحِ، يَعْنِي: أَنَّكُمْ إِذَا أَظْهَرْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ فَإِذَا لَمْ تُرِيدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ بَلْ كَانَ مُرَادُكُمْ مِنْهُ غَرَضًا آخَرَ فَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِكُمْ عَالِمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يُمْكِنُهُ رِعَايَةَ الغبطة لنفسه، وليس له/ أَحَدٌ يُرَاعِيهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بِمَصَالِحِهِ فَأَنَا ذَلِكَ الْمُتَكَفِّلُ وَأَنَا الْمُطَالِبُ لِوَلِيِّهِ، وَقِيلَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ الَّذِي يَلِي مِنْ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ وَيَعْلَمُ الْمُفْسِدَ الَّذِي لَا يَلِي مِنْ إِصْلَاحِ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ، فَاتَّقُوا أَنْ تَتَنَاوَلُوا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِصْلَاحٍ مِنْكُمْ لِمَالِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْإِعْنَاتُ» الْحَمْلُ عَلَى مَشَقَّةٍ لَا تُطَاقُ يُقَالُ: أَعْنَتَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَوْقَعَهُ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ وَتَعَنَّتَهُ تَعَنُّتًا إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ، وَعَنَتَ الْعَظْمُ الْمَجْبُورُ إِذَا انْكَسَرَ بَعْدَ الْجَبْرِ وَأَصْلُ الْعَنَتِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَأَكَمَةٌ عَنُوتٌ إِذَا كَانَتْ شَاقَّةً كَدُودًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ، وَيُقَالُ أَعْنَتَنِي فِي السُّؤَالِ أَيْ شَدَّدَ عَلَيَّ وَطَلَبَ عَنَتِي وَهُوَ الْإِضْرَارُ وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبَقًا وَقَالَ عَطَاءٌ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَدْخَلَ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةَ كَمَا أَدْخَلْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْكُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلِ الْإِعْنَاتَ وَالضِّيقَ فِي التَّكْلِيفِ، وَلَوْ كَانَ مُكَلِّفًا بِمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْإِعْنَاتِ وَحَدَّ الضِّيقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَيْضًا فَوَلِيُّ هَذَا الْيَتِيمِ قَدْ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خِلَافِ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ وَصْفُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْنَاتِ مَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ وَلِلنَّظَّامِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُعَلَّقٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِعْنَاتِ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّهِ تعالى، والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
الحكم السادس فيما يتعلق بالنكاح
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الْمُمْتَحِنَةِ: ١٠] وَقُرِئَ بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ لَا تُزَوِّجُوهُنَّ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُزَوِّجُونَهُنَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ وَشَرْعٍ، أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقِصَّةِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: ٢٢٠] وَأَرَادَ مُخَالَطَةَ النِّكَاحِ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَبْعَثُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْيَتَامَى، وَأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الْمُشْرِكَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَمَةً مُؤْمِنَةً خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَإِنْ بَلَغَتِ النِّهَايَةَ فِيمَا يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِيهَا، لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَبْعَثُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى، وَعَلَى تَزْوِيجِ الْأَيْتَامِ عِنْدَ الْبُلُوغِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي صَلَاحِهِمْ وَصَلَاحِ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَحُكْمُ الْآيَةِ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ إِلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا سِرًّا، فَعِنْدَ قُدُومِهِ جَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ خَلِيلَةٌ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَعْرَضَتْ عَنْهُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، فَالْتَمَسَتِ الْخَلْوَةَ، فَعَرَّفَهَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ وَعَدَهَا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَهُ مَا جَرَى فِي أَمْرِ عَنَاقَ، وَسَأَلَهُ هَلْ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى/ هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ النِّكَاحِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ»
وَقَفَ النِّكَاحَ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَالْمُتَوَقِّفُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ كَالْمُقَابِلِ لِلسِّفَاحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السِّفَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَطْءِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ اسْمًا لِلْوَطْءِ لَامْتَنَعَ كَوْنُ النِّكَاحِ مُقَابِلًا لِلسِّفَاحِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النُّورِ: ٣٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ أَنْكِحُوا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْعَقْدِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ الْأَعْشَى، أَنْشَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» :
فَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إِنَّ سِرَّهَا | عَلَيْكَ حرام فانكحن أو تأيما |
قَالَ: «لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً»
يَعْنِي مُقَارَبَتَهَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْرُمُ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ وَإِلَّا فَتَأَيَّمْ وَتَجَنَّبِ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] نَفْيُ الْحِلِّ مُمْتَدٌّ إِلَى غَايَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَنْتَهِي بِهِ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْوَطْءَ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ وَنَاكِحُ الْبَهِيمَةِ مَلْعُونٌ»
أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ عَدَمِ الْعَقْدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ وَالْوَطْءِ، يُقَالُ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا، وَنَكَحَ النُّعَاسُ عَيْنَهُ، وَفِي المثل أنكحنا الفرا فسترى، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ | وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا |
أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ | تَعَثَّرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا |
النِّكَاحُ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْعَقْدِ وَفِي الْوَطْءِ، فَيَحْسُنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِمَا جَمِيعًا، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَكَحَ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَرْقًا لَطِيفًا حَتَّى لَا يَحْصُلَ الِالْتِبَاسُ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً: أَرَادُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَعَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، لَمْ يُرِيدُوا غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَحْتَمِلِ الْكَلِمَةُ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، فَهَذَا تَمَامُ مَا فِي هَذَا/ اللَّفْظِ مِنَ الْبَحْثِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَلا تَنْكِحُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التَّوْبَةِ: ٣١] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أن اليهودي والنصراني مشرك وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ قَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ فَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لَيْسَ بِشِرْكٍ لَوَجَبَ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّرَ أَمِيرًا وَقَالَ: إِذَا لَقِيتَ عَدَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ،
سَمَّى مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ بِالْمُشْرِكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسَمَّى بِالْمُشْرِكِ وَخَامِسُهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ جَحَدَ رِسَالَتَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَكَانُوا مُنْكِرِينَ صُدُورَهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا يُضِيفُونَهَا إِلَى الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهَا: إِنَّهَا سِحْرٌ وَحَصَلَتْ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَالْقَوْمُ قَدْ أَثْبَتُوا شَرِيكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِلَهِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي فَقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا سَلَّمَ الْيَهُودِيُّ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ من الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، أَمَّا إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، كَمَا أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قَالَ: إِنَّ خَلْقَ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِ الْبَشَرِ ثُمَّ أَسْنَدَ خَلْقَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ إِلَى الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ كَانَ مُشْرِكًا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يَدْخُلَانِ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى فَصَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْحَجِّ: ١٧] وَقَالَ أَيْضًا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَةِ:
١٠٥] وَقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: ١] فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَصَلَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى كمال
هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مُعِينٌ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِهِ وَشَرِيكٌ وَنَظِيرٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْمُشْرِكِ عَلَى الْكَافِرِ لَيْسَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ انْدِرَاجُ كُلِّ كَافِرٍ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ/ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نَهْيٌ عَنْ نِكَاحِ الْوَثَنِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ قَالُوا: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ قَالُوا إِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ وَالْهَادِي وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: ٥] وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ قَطُّ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: مَنْ آمَنُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُنَّ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَمَنْ كُنَّ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
[البقرة: ١٠١] يُفِيدُ حُصُولَ هَذَا الْوَصْفِ فِي حَالَةِ الْإِبَاحَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِالْكِتَابِيَّاتِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ.
نُقِلَ أَنَّ حُذَيْفَةَ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟
فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّنِي أَخَافُ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا»
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ»
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَبَثًا، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أَوَّلُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَقَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ والنسخ خلاف
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَلَا آيَةَ التَّحْرِيمِ وَآيَةَ التَّحْلِيلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، فَلَمَّا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ تَسَاقَطَا، فَوَجَبَ بَقَاءُ/ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَمَّا سُئِلَ عُثْمَانُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَحَكَمْتُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا هاهنا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْرِيمَ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمُؤْمِنَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ كَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِأَثَرِ عُمَرَ: حُكِيَ أَنَّ طَلْحَةَ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَحُذَيْفَةُ نَصْرَانِيَّةً، فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَا: نَحْنُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَغْضَبْ، فَقَالَ: إِنْ حَلَّ طَلَاقُهُنَّ فَقَدْ حَلَّ نِكَاحُهُنَّ، وَلَكِنْ أَنْتَزِعُهُنَّ مِنْكُمْ.
أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى بِأَنَّ مَنْ قَالَ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ سَاقِطٌ، وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: ٥] أَخَصُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ ثُمَّ زَالَتْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ نَاسِخًا، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ جَعَلْنَاهُ مُخَصَّصًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ النَّسْخَ وَالتَّخْصِيصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا إِنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْوَثَنِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى النَّارِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الْكِتَابِيَّةِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكَةَ مُتَظَاهِرَةٌ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُنَاصَبَةِ، فَلَعَلَّ الزَّوْجَ يُحِبُّهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الذِّمِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ رَاضِيَةٌ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَلَا يُفْضِي حُصُولُ ذَلِكَ النِّكَاحِ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا إِنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ تَعَارَضَتَا، فَنَقُولُ: لَكِنَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ خَاصَّةٌ وَمُتَأَخِّرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ أَخَصُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَلَمْ يحصل سبب الترجيح فيه.
أما قوله هاهنا: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: ٥] أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ حُصُولُ التَّرْجِيحِ.
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥].
فَجَوَابُهُ: أَنَّا لَمَّا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي هَذَا الْحُكْمِ؟.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْمِنَّ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَةِ وَالْتِزَامُ/ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتِ الْكَرَّامِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقَالُوا إِنَّ الله تعالى جعل الإيمان هاهنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم هاهنا الْإِقْرَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: ٨] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الإقرار لكان قوله تعالى: ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ كَذِبًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الْحُجُرَاتِ: ١٤] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا كَذِبًا، ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْوِيجِ الْمُشْرِكَاتِ قَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُقْدِمِينَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ امْتَنَعَ وَصْفُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ يَجِبُ أَنْ يكون حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ فِي إِفَادَةِ التَّوْكِيدِ تُشْبِهُ لَامَ الْقَسَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن الشركة لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا لَأَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ وَالْمَالُ وَالْجَمَالُ وَالنَّسَبُ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّنْيَا وَالدِّينُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلِأَنَّ الدِّينَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَعِنْدَ التَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ فَتَكْمُلُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ بِحُسْنِهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حُرِّيَّتِهَا أَوْ نَسَبِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بِالْأَمَةِ لَكِنَّ الْوَاجِدَ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَاجِدًا لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ سَبَبَ التَّفَاوُتِ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بِقَدْرِ الْمَالِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ النِّكَاحِ، / فَيَلْزَمُ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ،
قُلْنَا: نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَنِكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالنَّفْعَانِ يَشْتَرِكَانِ في أصل كونهما نفعا، إلا أن نَفْعًا، إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا فَلَا خلاف هاهنا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ لَا يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْكَافِرِ أَلْبَتَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِرٍ: ٤١].
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّارِ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَيْهَا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمُوَافَقَةَ فِي الْمَطَالِبِ وَالْأَغْرَاضِ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْتِقَالِ الْمُسْلِمِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ مُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: احْتِمَالُ الْمَحَبَّةِ حَاصِلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الِاحْتِمَالَانِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاقَطَا، فَيَبْقَى أَصْلُ الْجَوَازِ.
قُلْنَا: إِنَّ الرُّجْحَانَ لِهَذَا الْجَانِبِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَافِرُ عَنْ كُفْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ بِهِ مَزِيدَ ثَوَابٍ وَدَرَجَةٍ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمُسْلِمُ عَنْ إِسْلَامِهِ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ مَزِيدُ نَفْعٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الضَّرَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ رَجَّحَ اللَّهُ تَعَالَى جَانِبَ الْمَنْعِ عَلَى جَانِبِ الْإِطْلَاقِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَالْعَذَابِ وَغَرَضُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تَحْمِلُ زَوْجَهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدِثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ/ النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الدعوة إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ حَيْثُ أَمَرَنَا بِتَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
أَمَّا قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْدَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يدور حول المشركات اللواتي هُنَّ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَنْكِحَ الْمُؤْمِنَاتُ فَإِنَّهُنَّ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَأَبَاحَ بَعْضَهَا
أَمَّا قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ فَالْمَعْنَى بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٠٠] وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٥] وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٠٢] وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ بِالرَّفْعِ أَيْ وَالْمَغْفِرَةُ حَاصِلَةٌ بِتَيْسِيرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فمعناه ظاهر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
الحكم السابع في المحيض
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِتَّةً مِنَ الْأَسْئِلَةِ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ بِالْوَاوِ، وَالسَّبَبُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْأُوَلِ وَقَعَ فِي أَحْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ سُؤَالٌ مُبْتَدَأٌ، / وَسَأَلُوا عَنِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَجْمَعُونَ لَكَ بَيْنَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمَجُوسَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي التَّبَاعُدِ عَنِ الْمَرْأَةِ حَالَ حَيْضِهَا، وَالنَّصَارَى كَانُوا يُجَامِعُونَهُنَّ، وَلَا يُبَالُونَ بِالْحَيْضِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَالِسُوهَا عَلَى فُرُشٍ وَلَمْ يُسَاكِنُوهَا فِي بَيْتٍ كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَأَخْرَجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَالثِّيَابُ قَلِيلَةٌ، فَإِنْ آثَرْنَاهُنَّ بِالثِّيَابِ هَلَكَ سَائِرُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِنِ اسْتَأْثَرْنَاهَا هَلَكَتِ الْحُيَّضُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتَهُنَّ إِذَا حِضْنَ، وَلَمْ آمُرْكُمْ بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنَ الْبُيُوتِ كَفِعْلِ الْأَعَاجِمِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْيَهُودُ ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ عَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ وَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ فِي الْمَحِيضِ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظننا أنه غضب عليها فَقَامَا، فَجَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الْحَيْضِ فِي اللُّغَةِ السَّيْلُ يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَوْضِ حَوْضٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ يَسِيلُ إِلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
فَاعْتَزِلُوا مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْآيَةِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ مَحْذُورًا وَعَلَى الْآخَرِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ، فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَا يُوجِبُ الْمَحْذُورَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَحِيضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الْمَصْدَرِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أن استعمال هذا اللفظ في موضع أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَحِيضِ الْحَيْضُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَذىً أَيِ الْمَحِيضُ أَذًى، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْمَوْضِعَ لَمَا صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ.
قُلْنَا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَحِيضُ عِبَارَةً عَنِ الْحَيْضِ، فَالْحَيْضُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْحَيْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّمِ الْمَخْصُوصِ، وَالْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ نَفْسَ الْعَرَضِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا:
الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيْضَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ أَذًى، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ لَنَا أَيْضًا أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ذُو أَذًى، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَيْضَ، وَمِنَ الْمَحِيضِ الثَّانِي مَوْضِعَ الْحَيْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذىً فَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ قَذَرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَذَى فِي اللُّغَةِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ الِاعْتِزَالُ التَّنَحِّي عَنِ الشَّيْءِ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْأَذَى، ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْأَذَى إِلَّا الدَّمَ وَهُوَ حَاصِلٌ وَقْتَ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ أَنَّ اعْتِزَالَ الْمَرْأَةِ فِي الِاسْتِحَاضَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَقَدِ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ.
قُلْنَا: الْعِلَّةُ غَيْرُ مَنْقُوضَةٍ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ فَاسِدٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةٍ تَدْفَعُهَا طَبِيعَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّحِمِ، وَلَوِ احْتَبَسَتْ تِلْكَ الْفَضْلَةُ لَمَرِضَتِ الْمَرْأَةُ، فَذَلِكَ الدَّمُ جَارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ دَمٌ صَالِحٌ يَسِيلُ مِنْ عُرُوقٍ تَنْفَجِرُ فِي عُمْقِ الرَّحِمِ فَلَا يَكُونُ أَذًى، هَذَا مَا عندي
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ فَأَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْبَعُ وَدَمُ الْحَيْضِ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ، وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ، لَكِنْ مِنْ عُرُوقٍ تَنْقَطِعُ فِي فَمِ الرَّحِمِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ»
وَهَذَا الْكَلَامُ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا فِي دفع للنقض/ عَنْ تَعْلِيلِ الْقُرْآنِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ صِفَاتِ دَمِ الْحَيْضِ: الصِّفَاتُ الَّتِي وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ الْحَيْضِ بِهَا أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَسْوَدُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَخِينٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحْتَدِمٌ وَهُوَ الْمُحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ الرابعة: أَنَّهُ يَخْرُجُ بِرِفْقٍ وَلَا يَسِيلُ سَيَلَانًا وَالْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَدْفَعُهَا الطَّبِيعَةُ السَّادِسَةُ:
أَنَّهُ بَحْرَانِيٌّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ وَقِيلَ: مَا تَحْصُلُ فِيهِ كُدُورَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ.
ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: دَمُ الْحَيْضِ يَتَمَيَّزُ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَكُلُّ دَمٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ، وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ، وَمَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ التَّكَالِيفِ وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ لِعَارِضِ الْحَيْضِ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُجُودِ بَقِيَتِ التَّكَالِيفُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى مَا كَانَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَإِيجَابُ التأمل في تلك الدماء وفي تلك الدماء وفي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي عُسْرًا وَمَشَقَّةً، فَالشَّارِعُ قَدَّرَ وَقْتًا مَضْبُوطًا مَتَى حَصَلَتِ الدِّمَاءُ فِيهِ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الدِّمَاءُ، وَمَتَى حَصَلَتْ خَارِجَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَيْضِ كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ تِلْكَ الدِّمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِسْقَاطُ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لِلْحَيْضِ هِيَ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاجْتِنَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْحَيْضِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ حَظْرُ الْجِمَاعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَهُوَ دَمٌ فَاسِدٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إِنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَرَكَهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَقْدِيرَ لِذَلِكَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ وُجِدَ سَاعَةً فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ وُجِدَ أَيَّامًا فَكَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَالِكٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ سَاقِطًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ هُوَ الدَّمُ الْمَوْجُودُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الدُّنْيَا مُسْتَحَاضَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ الدَّمِ يَكُونُ حَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ حَمْنَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَيْضٌ، بَلْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَيْضٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ،
فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يُمَيَّزُ دَمُ الْحَيْضِ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ بِالصِّفَاتِ
بِقَوْلِهِ: «دَمُ الْحَيْضِ هُوَ الْأَسْوَدُ الْمُحْتَدِمُ»
فَمَتَى كَانَ الدَّمُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْحَيْضُ حَاصِلًا، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَتَحْتَ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ».
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ذَكَرَ وَصْفَ كَوْنِهِ أَذًى فِي مَعْرِضِ بَيَانِ الْعِلَّةِ لِوُجُوبِ الِاعْتِزَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَذًى لِلرَّائِحَةِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي فِيهِ، وَاللَّوْنِ الْفَاسِدِ وَلِلْحِدَّةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي فِيهِ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ مُعَلَّلًا بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ قَوِيٌّ جِدًّا، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَاحْتَجَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَجْهَيْنِ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وُجِدَ دَمُ الْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ وَفِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَشَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ دَمَ الْحَيْضِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ مُحْتَدِمٌ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْحَيْضُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَرْكُنَا الْعَمَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي الْأَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي الْأَكْثَرِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَ النِّسْوَانَ بِنُقْصَانِ الدِّينِ، فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الطُّهْرُ أَيْضًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ الْحَيْضُ نِصْفَ عُمْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْحَيْضُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمَا وُجِدَتِ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي نِصْفَ عُمْرِهَا، أَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّطْرَ لَيْسَ هُوَ النِّصْفَ بَلْ هُوَ الْبَعْضُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ تَكُونُ حَائِضًا نِصْفَ عُمْرِهَا، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ عُمْرِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ هُوَ مِنْ عُمْرِهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ، يُقَالُ: شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ:
أَجْلِبُ جَلْبًا لَكَ شَطْرُهُ، أَيْ نِصْفُهُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لا تصلي»
إنما يتناول زمان هِيَ تُصَلِّي فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا زَمَانَ الْبُلُوغِ، وَاحْتَجَّ/ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: مَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَقَلُّ الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أَيَّامٍ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ لِأَحَدٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا الْحَيْضُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا ظَهَرَ عَنِ
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: «تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ»
مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضُ جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَهْرٍ هَذَا الْقَدْرَ خَالَفْنَا هَذَا الظَّاهِرَ فِي الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْهُنَّ، فَقِيلَ مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي لَا تُصَلِّي»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسم الأيام والليال، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَفْظُ الْأَيَّامِ، وَلَا يُقَالُ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَشَرَةِ أَيَّامٌ، بَلْ يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا أَمَّا الثَّلَاثَةُ إِلَى الْعَشَرَةِ فَيُقَالُ فِيهَا أَيَّامٌ، وَأَيْضًا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ
وَلَفْظُ الْأَيَّامِ مُخْتَصٌّ بِالثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ،
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ أَنَّهَا تُهْرِقُ الدَّمَ، فَقَالَ: لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتُصَلِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ حَيْضَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ كَانَ مُقَدَّرًا بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ.
قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا سَأَلَهَا عَنْ قَدْرِ حَيْضِهَا بَلْ حَكَمَ عَلَيْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ مُطْلَقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ مُطْلَقًا مُقَدَّرٌ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَيَّامِ وَأَيْضًا
قَالَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا،
وَذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ حُجَّةٌ ذَكَرَهَا الْجُبَّائِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ: إِنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَازِمٌ يَتَعَيَّنُ لِلْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على وجوبها تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَا فِي الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَوَجَبَ بَقَاؤُهَا عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ وَفَوْقَ الْعَشَرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ حَصَلَ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَفِيهِ أَيْضًا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فَلَمْ نَجْعَلْهُ حَيْضًا، فَأَمَّا مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا فَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُرْمَةِ الْجِمَاعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حَلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْأَةِ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ، فَنَقُولُ:
إِنْ فَسَّرْنَا الْمَحِيضَ بِمَوْضِعِ الْحَيْضِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا وَرَاءَهُ، بَلْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، يَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى حِلِّ مَا سِوَى الْجِمَاعِ، أَمَّا مَنْ يُفَسِّرُ الْمَحِيضَ بِالْحَيْضِ، كَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، ثُمَّ يَقُولُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْحُرْمَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ أَيْ وَلَا تُجَامِعُوهُنَّ، يُقَالُ قَرَبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لقوله تعالى:
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (حَتَّى يَطْهُرْنَ) خَفِيفَةً مِنَ الطَّهَارَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، فَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ زَوَالُ الدَّمِ لِأَنَّ يَطْهُرْنَ من طهرت امرأة مِنْ حَيْضِهَا، وَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ، فَالْمَعْنَى: لا تقربون حَتَّى يَزُولَ عَنْهُنَّ الدَّمُ، وَمَنْ قَرَأَ: يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى يَتَطَهَّرْنَ فَأَدْغَمَ كَقَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: ١]، ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرِ: ١] أَيِ الْمُتَزَمِّلُ وَالْمُتَدَثِّرُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ مُجَامَعَتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الطُّهْرَ دُونَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَقْرَبْهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ رَأَتْهُ لِعَشْرَةِ أَيَّامٍ جَازَ أَنْ يَقْرَبَهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا حَصَلَتْ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُرِئَ حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف وبالتثقيل ويطهرن بِالتَّخْفِيفِ عِبَارَةٌ عَنِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَبِالتَّثْقِيلِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنٌ، وَجَبَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا كَانَ وَجَبَ أَنْ لَا تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ عَلَّقَ الْإِتْيَانَ عَلَى التَّطَهُّرِ بِكَلِمَةِ إِذَا وَكَلِمَةُ إِذَا لِلشَّرْطِ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِتْيَانُ عِنْدَ عَدَمِ التَّطَهُّرِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ نَهَى عَنْ قُرْبَانِهِنَّ وَجَعَلَ غَايَةَ ذَلِكَ النَّهْيِ أَنْ يَطْهُرْنَ بِمَعْنَى يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ، وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الْحَيْضِ غَايَةً لِهَذَا النَّهْيِ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى هَذَا النَّهْيُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَطْهُرْنَ لَكَانَ مَا ذَكَرْتُمْ لَازِمًا، أَمَّا لَمَّا ضُمَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ صَارَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْغَايَةُ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَا تُكَلِّمْ فُلَانًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ فَإِذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَكَلِّمْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِبَاحَةُ كَلَامِهِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ مِنَ التَّطَهُّرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ التَّطَهُّرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: هو الاغتسال وقال بعضهم: هو غَسْلُ الْمَوْضِعِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ: هُوَ أَنْ تَغْسِلَ الْمَوْضِعَ وَتَتَوَضَّأَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ حُكْمٌ عَائِدٌ إِلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا التَّطَهُّرُ فِي كُلِّ بَدَنِهَا لَا فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ بَدَنِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّطَهُّرِ الَّذِي يَخْتَصُّ الْحَيْضُ بِوُجُوبِهِ أَوْلَى مِنَ التَّطَهُّرِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الِاسْتِحَاضَةِ كَثُبُوتِهِ فِي الْحَيْضِ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالُ وَإِذَا أَمْكَنَ بِوُجُودِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ: فَأْتُوهُنَّ فِي الْمَأْتَى فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا تُؤْتُوهُنَّ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩] أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحِلُّ لَكُمْ غِشْيَانُهُنَّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ، وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ، وَلَا مُحْرِمَاتٍ الثَّالِثُ: وهو قول محمد بن الْحَنَفِيَّةِ فَأْتُوهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ دُونَ الْفُجُورِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَةَ «حَيْثُ» حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فَلَا نُعِيدُهُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: التَّوَّابُ هُوَ الْمُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ مَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ يُكْثِرُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ تَكْثِيرَ التَّوْبَةِ مُطْلَقًا وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُذْنِبِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا وَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ مِنْهُ التَّوْبَةُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَأْمَنُ أَلْبَتَّةَ مِنَ التَّقْصِيرِ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ دَفْعًا لِذَلِكَ التَّقْصِيرِ الْمُجَوَّزِ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ التَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ مَحْمُودٌ اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الرُّجُوعِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلَ فِي الْمَاضِي، وَالتَّرْكِ فِي الْحَاضِرِ، وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَيَقُولُ:
مُرَادِي مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ اللَّفْظُ وَسَلِمَ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حَمَلْتُهُ عَلَى التَّوْبَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ الطَّعْنُ وَالسُّؤَالُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْزِيهُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَالْمُتَطَهِّرُ هُوَ الَّذِي مَا فَعَلَهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ الذَّنْبَ نَجَاسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] فَتَرْكُهُ يَكُونُ طَهَارَةً رُوحَانِيَّةً، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهَّرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالْقَبَائِحِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الذَّيْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَأْتِيهَا فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَأَنْ لَا يَأْتِيَهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى عَلَى مَا قَالَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ: هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَا قَبْلَ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٨٢] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ تَرْكَ الْإِتْيَانِ فِي الْأَدْبَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَنَا بِالتَّطَهُّرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَلَا جَرَمَ مَدَحَ الْمُتَطَهِّرَ فَقَالَ:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٣]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
الحكم الثامن
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا أَحَدُهَا:
رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ مُخَبَّلًا، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبَتِ الْيَهُودُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَثَانِيهَا:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، وَحَكَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْأَنْصَارُ تُنْكِرُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَكَانُوا أَخَذُوا ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَتِ الْأَنْصَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَرْثٌ لَكُمْ أَيْ مَزْرَعٌ وَمَنْبَتٌ لِلْوَلَدِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، فَفَرْجُ الْمَرْأَةِ كَالْأَرْضِ، وَالنُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ، وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ الْخَارِجِ، وَالْحَرْثُ مَصْدَرٌ، وَلِهَذَا وَحَّدَ الْحَرْثَ فَكَانَ الْمَعْنَى نِسَاؤُكُمْ ذَوَاتُ حَرْثٍ لَكُمْ فِيهِنَّ تَحْرُثُونَ لِلْوَلَدِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَيْضًا قَدْ يُسَمَّى مَوْضِعُ الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ:
فإنما هي إقبالي وَإِدْبَارُ وَيُقَالُ: هَذَا أَمْرُ اللَّهِ، أَيْ مَأْمُورُهُ، وَهَذَا شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ، فَكَذَلِكَ حَرْثُ الرَّجُلِ مَحْرَثُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَقَوْلُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَجْوِيزُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَسَائِرُ النَّاسِ كَذَّبُوا نَافِعًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ السَّيِّدِ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ، وَالْمُرْتَضَى رَوَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةِ الْمَحِيضِ: قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:
٢٢٢] جَعَلَ قِيَامَ الْأَذَى عِلَّةً لِحُرْمَةِ إِتْيَانِ مَوْضِعِ الْأَذَى، وَلَا مَعْنَى لِلْأَذَى إِلَّا مَا يَتَأَذَّى الإنسان منه وهاهنا يَتَأَذَّى الْإِنْسَانُ بِنَتَنِ رَوَائِحِ ذَلِكَ الدَّمِ وَحُصُولُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ أَظْهَرُ فَإِذَا كانت تلك العلة قائمة هاهنا وَجَبَ حُصُولُ الْحُرْمَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: ٢٢٢] وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ إِتْيَانِهِنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَتَى الْمَرْأَةَ
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَلَالٌ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ فِي أَيِّ الْخَرِبَتَيْنِ، أَوْ فِي أَيِّ الخرزتين، أو في أي الخصفتين، أو من قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ: «لَا تؤتوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ»
وَأَرَادَ بِخَرِبَتِهَا مَسْلَكَهَا، وَأَصْلُ الْخَرِبَةِ عُرْوَةُ الْمَزَادَةِ شَبَّهَ الثُّقْبَ بِهَا، وَالْخَرَزَةُ هِيَ الَّتِي يَثْقُبُهَا الْخَرَّازُ، كَنَى بِهِ عَنِ الْمَأْتَى، وَكَذَلِكَ الْخَصْفَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَصَفْتُ الْجِلْدَ إِذَا خَرَزْتُهُ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَرْثَ اسْمًا لِلْمَرْأَةِ فَقَالَ:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ لَا لِلْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كَانَ الْمُرَادُ فَأْتُوا نِسَاءَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فَيَكُونُ هَذَا إِطْلَاقًا فِي إِتْيَانِهِنَّ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «أَنَّى» مَعْنَاهَا أَيْنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَيْنَ شِئْتُمْ وَكَلِمَةُ: أَيْنَ شِئْتُمْ، تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الأمكنة: اجْلِسْ أَيْنَ شِئْتَ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيرًا بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، أَوْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَكَانَ وَاحِدٌ، وَالتَّعْدَادُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي طَرِيقِ الْإِتْيَانِ، وَاللَّفْظُ اللَّائِقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ كَيْفَ شئتم فلما لم يكن المذكور هاهنا لَفْظَةَ: كَيْفَ، بَلْ لَفْظَةُ «أَنَّى» وَيَثْبُتُ أَنَّ لَفْظَةَ «أَنَّى» مُشْعِرَةٌ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ:
٦] تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الذُّكُورِ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ النِّسْوَانِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ دُبُرِهَا حَلَالًا لَهُ، هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ.
أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذِهِ الْآيَةِ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَرْثَ اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْحِرَاثَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لَيْسَتْ مَوْضِعًا لِلْحِرَاثَةِ، فَامْتَنَعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، وَيَقْتَضِي هَذَا الدليل أن لا يُطْلَقَ لَفْظُ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ هاهنا بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى ذَاتِ الْمَرْأَةِ، فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ مِنْ تَسْمِيَةِ كُلِّ الشَّيْءِ بِاسْمِ جُزْئِهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَفْقُودَةٌ فِي قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فوجب حمل الحرث هاهنا عَلَى/ مَوْضِعِ الْحِرَاثَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا إِلَّا عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَأْتَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الرِّوَايَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِتْيَانُهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلَةً لِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَتَى حَمَلْنَاهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَمْلِهَا عَلَى الصُّورَةِ الْأُخْرَى فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَعِنْدَ هَذَا نَبْحَثُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ مَعْنَاهُ: فَأْتُوا مَوْضِعَ الْحَرْثِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرْثِ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَنَّى شِئْتُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي مَكَانٍ، وَعِنْدَ هَذَا يُضْمِرُ فِيهِ زِيَادَةً، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّى شِئْتُمْ فَيُضْمِرُ لَفْظَةَ: مَنْ، لَا يُقَالُ لَيْسَ حَمْلُ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْتِزَامُ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى الْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، حَتَّى لَا يُلْزِمَنَا هَذَا الْإِضْمَارُ لِأَنْ نَقُولَ: بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] عَامٌّ، وَدَلَائِلُنَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إِنَّمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِحِلِّ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: يَدُكِ طَالِقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَنَّى شِئْتُمْ وَالْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، وَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الْحِلَّ: يَعْنِي إِذَا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيَّةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ صَائِمَةً، أَوْ حَائِضًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَهَا قَائِمَةً أَوْ بَارِكَةً، أَوْ مُضْطَجِعَةً، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْجِ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى إن شاء، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْزِلْ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْخَامِسُ: مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُخْتَارُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ؟.
قُلْنَا: قَدْ ظَهَرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ أَتَى/ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِتَكْذِيبِ قَوْلِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ «أَنَّى» يَكُونُ بِمَعْنَى مَتَّى وَيَكُونُ بِمَعْنَى كَيْفَ وَأَمَّا الْعَزْلُ وَخِلَافُهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ «أَنَّى» لِأَنَّ حَالَ الْجِمَاعِ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى مَا قُلْنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَمَعْنَاهُ: افْعَلُوا مَا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدِّمْ لِنَفْسِكَ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَنَظِيرُ لفظ
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ؟.
قُلْنَا: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ جَارٍ مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ النِّسْوَانُ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ وَطْئِهِنَّ لَكُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُنَّ حَرْثٌ لَكُمْ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ الْوَلَدُ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا لَكُمْ حُصُولَ الْحَرْثِ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا غَيْرَ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ دَلِيلًا عَلَى الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَنْعِ عَنِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، لَا جَرَمَ قَالَ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ لَا تَكُونُوا فِي قَيْدِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ كُونُوا فِي قَيْدِ تَقْدِيمِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ ثُمَّ أَكَّدَهُ ثَالِثًا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَهَذِهِ التَّهْدِيدَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالنَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ لَذِيذٍ مُشْتَهًى، فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْوَى قَدْ تَقَدَّمَ، وَالْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ أَوَّلُهَا: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنِّي إِنَّمَا كَلَّفْتُكُمْ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَجْلِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحِسَابِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ الْيَوْمُ لَكَانَ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ عَبَثًا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، ثُمَّ قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْقُرْآنِ/ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ كُلِّ وَعِيدٍ وَعْدًا وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فَحَذَفَ ذِكْرَهُمَا لِمَا أَنَّهُمَا كَالْمَعْلُومِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب:
٤٧].
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
الحكم التاسع في الأيمان
وَالْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَجْوَدُ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نَهَى عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ شَيْءٍ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَدْ جَعَلَهُ عُرْضَةً لَهُ يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ جَعَلْتَنِي عُرْضَةً لِلَوْمِكَ،
وَلَا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَمِ: ١٠] وَقَالَ تَعَالَى:
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] وَالْعَرَبُ كَانُوا يَمْدَحُونَ الْإِنْسَانَ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ | وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ |
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْ تَبَرُّوا فَهُوَ عِلَّةٌ لِهَذَا النَّهْيِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا أَيْ إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذَا لِمَا أَنَّ تَوَقِّيَ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَتَكُونُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَلِفِ حُصُولُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؟.
قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَلِفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ فِي/ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَخَسَائِسِ مَطَالِبِ الْحَلِفِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَأَمَّا مَعْنَى التَّقْوَى فَظَاهِرٌ أَنَّهُ اتَّقَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَتَى اعْتَقَدُوا فِي صِدْقِ لَهْجَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ فَيَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: قَالُوا: الْعُرْضَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَانِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَرَدْتُ أَفْعَلُ كَذَا فَعَرَضَ لِي أَمْرُ كَذَا، وَاعْتَرَضَ أَيْ تَحَامَى ذَلِكَ فَمَنَعَنِي مِنْهُ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُرْضِ الطَّرِيقِ فَيَصِيرُ مَانِعًا لِلنَّاسِ مِنَ السُّلُوكِ وَالْمُرُورِ وَيُقَالُ: اعْتَرَضَ فُلَانٌ عَلَى كَلَامِ فُلَانٍ، وَجَعَلَ كَلَامَهُ مُعَارِضًا لِكَلَامٍ آخَرَ، أَيْ ذَكَرَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَثْبِيتِ كَلَامِهِ، إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ فَالْعُرْضَةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْقُبْضَةِ، وَالْغُرْفَةِ، فَيَكُونُ اسْمًا لِمَا يُجْعَلُ مُعْرَضًا دُونَ الشَّيْءِ، وَمَانِعًا مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعُرْضَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَانِعِ، وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَيْمانِكُمْ فَهُوَ لِلتَّعْلِيلِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مَانِعًا بِسَبَبِ أَيْمَانِكُمْ مِنْ أَنْ تَبَرُّوا أَوْ فِي أَنْ تَبَرُّوا، فَأُسْقِطَ حَرْفُ الْجَرِّ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِسَبَبِ ظُهُورِهِ، قَالُوا: وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرَاتِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى أَحَدِ أَدْعِيَائِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي فَيَتْرُكُ الْبِرَّ إِرَادَةَ الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ فَقِيلَ: لَا تَجْعَلُوا ذِكْرَ اللَّهِ مَانِعًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى هَذَا أَجْوَدُ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَقَدْ طَوَّلُوا فِي كَلِمَاتٍ أُخَرَ، وَلَكِنْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: إِنْ حَلَفْتُمْ يَسْمَعُ، وَإِنْ تَرَكْتُمُ الْحَلِفَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَإِجْلَالًا لَهُ مِنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ فِي الْأَعْرَاضِ الْعَاجِلَةِ فَهُوَ عَلِيمٌ عَالِمٌ بِمَا في قلوبكم ونيتكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٥]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّغْوُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا وُرُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْكَلَامِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالرِّوَايَةُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَصِ:
٥٥] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً [الْوَاقِعَةِ: ٢٥] وَقَوْلُهُ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ/ وَالْغَوْا فِيهِ [فُصِّلَتْ: ٢٦] وقوله: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: ١١] أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢] فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ لَغْوًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ لَغْوًا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَاحِبِهِ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَا».
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَيُقَالُ: لَغَا الطَّائِرُ يَلْغُو لَغْوًا إِذَا صَوَّتَ، وَلَغْوُ الطَّائِرِ تَصْوِيتُهُ، وَأَمَّا وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْكَلَامِ، فَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ لِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ: لَغْوٌ، قَالَ جَرِيرٌ:
يَعُدُّ النَّاسِبُونَ بَنِي تَمِيمٍ | بُيُوتَ الْمَجْدِ أَرْبَعَةً كِبَارَا |
وَتُخْرِجُ مِنْهُمُ الْمَرْئِيَّ لَغْوًا | كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا |
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، مِمَّا يُؤَكِّدُونَ بِهِ كَلَامَهُمْ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمُ الْحَلِفُ، وَلَوْ قِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: سَمِعْتُكَ الْيَوْمَ تَحْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَلْفَ مَرَّةٍ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ: لَا وَاللَّهِ أَلْفَ مَرَّةٍ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا هُوَ اللَّغْوُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ وَيُوجِبُهَا فِيمَا إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْكُمُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَمَكْحُولٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِهِ وُجُوُهٌ الْأَوَّلُ: مَا
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَلَا وَاللَّهِ»
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَنْتَضِلُونَ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَرَمَى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَنِثَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أَيْمَانِ الرُّمَاةِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا عُقُوبَةَ»
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَيْمَانُ اللَّغْوِ مَا كَانَ فِي الْهَزْلِ وَالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَةِ الَّتِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ، وَأَثَرُ الصَّحَابِيِّ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ حُجَّةٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يَدُلُّ
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: ٢٢٤] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ الْحَلِفَ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْحَلِفَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ فِي الْكَلَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ إِلَى الْحَلِفِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ إِيجَابَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ يُفْضِي إِمَّا إِلَى أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ يَلْزَمَهُمْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ كَفَّارَةٌ وَكِلَاهُمَا حَرَجٌ فِي الدِّينِ فَظَهَرَ أَنَّ تَفْسِيرَ اللَّغْوِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَ الْآيَةِ، فَأَمَّا الَّذِي قال أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ فَكَانَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»
الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَانِثِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُجِدِّ وَالْهَازِلِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْيَمِينَ مَعْنًى لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ يُوجِبَانِ الْكَفَّارَةَ فِي قَوْلِ النَّاسِ: لَا وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ، إِذَا حَصَلَ الْحِنْثُ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْيَمِينَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ |
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ، أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، / فَهَذَا هُوَ يَمِينُ اللَّغْوِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَصِ: ٥٥] فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ بِإِقَامَتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُنَافٍ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ»
وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتْ مُفَسَّرَةً فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ [الْمَائِدَةِ:
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ: أَنَّهَا الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ سُمِّيَتْ لَغْوًا لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَسْقَطَتِ الْإِثْمَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ إِذَا كَفَّرْتُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ سَهْوًا غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ إِذَا تَعَمَّدْتُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ هُوَ السَّهْوُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَقْدَ الْقَلْبِ بِهِ، وَلِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ الَّذِي يُضَادُّ الْحَلَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَاهُنَا قَوْلَهُ: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا، وَلَمْ يُبَيِّن أَنَّ تِلْكَ الْمُؤَاخَذَةَ مَا هِيَ، وَبَيَّنَهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفَسِّرَةً لِلْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ، وَحَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَرَبْطِ الْقَلْبِ، فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ كَذَلِكَ فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً فِيهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ: الْغَفُورَ، مُبَالَغَةٌ فِي سَتْرِ الذُّنُوبِ، وَفِي إِسْقَاطِ عُقُوبَتِهَا، وَأَمَّا: الْحَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحِلْمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَنَاةُ وَالسُّكُونُ، يُقَالُ: ضَعِ الْهَوْدَجَ عَلَى أَحْلَمِ الْجِمَالِ، أَيْ عَلَى أَشَدِّهَا تُؤَدَةً فِي السَّيْرِ، وَمِنْهُ الْحُلْمُ لِأَنَّهُ يُرَى فِي حَالِ السُّكُونِ، وَحَلَمَةُ الثَّدْيِ، وَمَعْنَى:
الْحَلِيمِ، فِي صِفَةِ اللَّهِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آلَى يُؤَالِي إِيلَاءً، وَتَأَلَّى يَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى يَأْتَلِي ائْتِلَاءً، وَالِاسْمُ مِنْهُ أَلِيَّةٌ وَأَلُوَّةٌ، كِلَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَحَكَى أبو عبيدة ألوة وألوة وألوة ثلاثة لُغَاتٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَلِيَّةُ وَالْقَسَمُ وَالْيَمِينُ، وَالْحَلِفُ، كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «آلَيْتُ أَفْعَلُ خِلَافَ الْمُقَدِّرِينَ»
وقال كثير:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ | فَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتِ |
وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ، وَلَا أُبَاضِعُكِ، وَلَا أَقْرَبُكِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ أَنْ يَعْتَزِلُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَأَنَا أَقُولُ: هَذَا الْإِضْمَارُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ الْإِيلَاءِ عَلَى الْمَعْهُودِ اللُّغَوِيِّ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَلَاقًا
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ الرَّجُلُ لَا يُرِيدُ الْمَرْأَةَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا، فَكَانَ يَتْرُكُهَا بِذَلِكَ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مُضَارَّةُ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَمْهَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّةً حَتَّى يَتَرَوَّى وَيَتَأَمَّلَ، فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْمُضَارَّةِ فَعَلَهَا، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُفَارَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ فَارَقَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ آلَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقْسِمُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ: الْمُتَعَارَفُ أَنْ يُقَالَ: حَلَفَ فُلَانٌ عَلَى/ كَذَا أَوْ آلَى عَلَى كَذَا، فَلِمَ أُبْدِلَتْ لَفْظَةُ عَلَى هَاهُنَا بِلَفْظَةِ (مِنْ) ؟.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا يُقَالُ: لِي مِنْكَ كَذَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَّنَ فِي هَذَا الْقَسَمِ مَعْنَى الْبُعْدِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَبْعُدُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مُوَلِّينَ أَوْ مُقْسِمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَبُّصَ التَّلَبُّثُ وَالِانْتِظَارُ يُقَالُ: تَرَبَّصْتُ الشَّيْءَ تَرَبُّصًا، وَيُقَالُ: مَا لِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ رُبْصَةٌ، أَيْ تَلَبُّثٌ، وَإِضَافَةُ التَّرَبُّصِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ يَوْمٍ، أَيْ مَسِيرَةٌ فِي يَوْمٍ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
أما قوله: فَإِنْ فاؤُ فَمَعْنَاهُ فَإِنْ رَجَعُوا، وَالْفَيْءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ رُجُوعُ الشَّيْءِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِمَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ مِنَ الظِّلِّ ثُمَّ يَعُودُ: فَيْءٌ، وَفَرَّقَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالظِّلِّ، فَقَالُوا: الْفَيْءُ مَا كَانَ بِالْعَشِيِّ، لِأَنَّهُ الَّذِي نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ وَالظِّلُّ مَا كَانَ بِالْغَدَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْسَخْهُ الشَّمْسُ وَفِي الْجَنَّةِ ظِلٌّ وَلَيْسَ فِيهَا فَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا شَمْسَ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَةِ: ٣٠] وَأَنْشَدُوا:
فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى يَسْتَطِيعُهُ | وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ يَذُوقُ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزْمَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ يقال عزم على الشيء يغرم عَزْمًا وَعَزِيمَةً، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، أَيْ أَقْسَمْتُ، وَالطَّلَاقُ مَصْدَرُ طَلَّقْتُ الْمَرْأَةَ أُطَلِّقُ طَلَاقًا، وَقَالَ اللَّيْثُ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ مِنَ الطَّلَاقِ أَجْوَدُ، وَمَعْنَى الطَّلَاقِ هُوَ حَلُّ عَقْدِ النِّكَاحِ بِمَا يَكُونُ حَلَالًا فِي الشَّرْعِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الِانْطِلَاقِ، وَهُوَ الذَّهَابُ، فَالطَّلَاقُ عِبَارَةٌ عَنِ
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَكَثِيرَةٌ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا بَعْضَ مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ زَوْجٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِقَاعُ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاءُ، وَهَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا. أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ إِيلَاؤُهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ الْأَوَّلُ: يَصِحُّ إِيلَاءُ الذِّمِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيَصِحُّ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهَذَا الْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُدَّةُ الْإِيلَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ بِرِقِّ الرَّجُلِ، كَمَا قَالَا فِي الطَّلَاقِ لَنَا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَالتَّخْصِيصُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الْجِبِلَّةِ وَالطَّبْعِ، وَهُوَ قِلَّةُ الصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالرَّقِيقُ، كَالْحَيْضِ، وَمُدَّةِ الرَّضَاعِ وَمُدَّةِ الْعُنَّةِ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَالِ الْغَضَبِ لَنَا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ: يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنَ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، أَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ دَخَلَتْ تَحْتَ الْآيَةِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ.
أَمَّا عَكْسُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِقَاعُ لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ، فَفِيهِ حُكْمَانِ:
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: إِيلَاءُ الْخَصِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ يُجَامِعُ كَمَا يُجَامِعُ الْفَحْلُ، إِنَّمَا الْمَفْقُودُ فِي حَقِّهِ الْإِنْزَالُ وَذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: الْمَجْبُوبُ إِنْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ بِهِ صَحَّ إِيلَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ بِالْيَمِينِ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ.
الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَوْجًا، فَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: ٦] أَيْ لَكُمْ لَا لِغَيْرِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَحْلُوفُ بِهِ وَالْحَلِفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ بِاللَّهِ كَانَ مُولِيًا ثُمَّ إِنْ جَامَعَهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ خَرَجَ عَنِ الْإِيلَاءِ، وَهَلْ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ إِذَا فَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ،
أَمَّا قَوْلُهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعِقَابِ، لَكِنْ عَدَمُ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْفِعْلِ، كَمَا أَنَّ التَّائِبَ عَنِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَلِفُ فِي الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ الله كما إذا قال: إن وطأتك فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ ضَرَّتُكِ طَالِقٌ، أَوْ أَلْزَمَ أَمْرًا فِي الذِّمَّةِ، فَقَالَ: إن وطأتك فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ صَلَاةٌ، فَهَلْ يَكُونُ مُولِيًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دَلِيلُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مَعْهُودٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْهُودُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَأَيْضًا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ،
فَمُطْلَقُ الْحَلِفِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيلَاءِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَيْنِ فَيَمِينُهُ مُنْعَقِدَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ بِهِ عِتْقًا أَوْ طَلَاقًا، فَإِذَا وَطِئَهَا يَقَعُ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْتِزَامَ قُرْبَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَيْهِ مَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، وَفَائِدَةُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فَبَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ مُولِيًا لَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا أَبَدًا وَالثَّانِي: قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِسْحَاقَ: إِنَّ أَيَّ مُدَّةٍ حَلِفَ عَلَيْهَا كَانَ مُولِيًا وَإِنْ كَانَتْ يَوْمًا، وَهَذَانَ الْمَذْهَبَانِ فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يحلف على أنه لَا يَطَأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ فِيمَا زَادَ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُوِلِيًا حَتَّى تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِذَا آلَى مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُجِّلَ أَرْبَعَةً، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَكُونُ حَقًّا لِلزَّوْجِ، فَإِذَا مَضَتْ تُطَالِبُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ بِالْفَيْئَةِ أَوْ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا طَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر يقع الطلاق بنفسه، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْفَاءَ في قوله: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ/ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوعَيْنِ مُتَرَاخِيًا عَنِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ فاؤُ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَالتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ الْمُفَصَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُمْ هَذَا الشَّهْرَ فَإِنْ أَكْرَمْتُمُونِي بَقِيتُ مَعَكُمْ وَإِلَّا تَرَحَّلْتُ عَنْكُمْ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِيلَاءُ الطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الْإِيلَاءُ الْمُتَقَدِّمُ.
قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَإِنْ عَزَمَ الَّذِينَ يُؤْلُونَ الطَّلَاقَ، فَجَعَلَ الْمُؤْلِي عَازِمًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ وَالْعَزْمُ قَدِ اجْتَمَعَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ، وَمُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ، فَإِذًا الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِيلَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْعَزْمِ أَوْ مُتَقَدِّمًا، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الزَّوْجِ شَيْءٌ يَكُونُ مَسْمُوعًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ وَطَلَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكَلَامِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ.
قُلْنَا: هَذَا يَبْعُدُ لِأَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى نَفْسِ الْإِيلَاءِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَهْدِيدًا عَلَيْهِ.
الحجة الرابعة: أن قوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ... وَإِنْ عَزَمُوا ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ ثُبُوتِهِمَا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْجِمَاعِ/ مُدَّةً مَخْصُوصَةً إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتْرُكُ جِمَاعَ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ لَا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ قَصِيرًا، فَأَمَّا تَرْكُ الْجِمَاعِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الطُّولُ وَالْقِصَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْرًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، بَيَّنَ تَعَالَى حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ تَبَيَّنَ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْبَتَّةَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، بَلِ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ عِنْدَ ظُهُورِ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ إِمَّا بِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَوْ بِتَخْلِيصِهَا مِنْ قَيْدِ الْإِيلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا قُلْنَا فِي ضَرْبِ الْأَجَلِ فِي مُدَّةِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود قرأ، فإن فاؤ فِيهِنَّ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْآنًا وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِالتَّوَاتُرِ فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ قَطَعْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الْحَرْفِ تَمَسَّكَ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
الحكم الحادي عشر في الطلاق
قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً لِلطَّلَاقِ:
فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ لِلطَّلَاقِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَّلَقَةَ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي أُوقِعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَنْكُوحَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَإِذَا أُوقِعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهِيَ مُطَلَّقَةٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهَا غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ بِحَسَبِ عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالْعِدَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا لَمْ تَجِبِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الْأَحْزَابِ: ٤٩] وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا بِالْأَقْرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: ٤] وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ/ الْحَيْضُ مُمْكِنًا فِي حَقِّهَا أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا إِمَّا لِلصِّغَرِ الْمُفْرِطِ، أَوْ لِلْكِبَرِ الْمُفْرِطِ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ لَا بِالْأَقْرَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطَّلَاقِ: ٤] وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَيْضُ فِي حَقِّهَا مُمْكِنًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَقِيقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً كَانَتْ عِدَّتُهَا بِقُرْأَيْنِ لَا بِثَلَاثَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةً، وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً بَعْدَ الدُّخُولِ، وَكَانَتْ حَائِلًا، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَكَانَتْ حُرَّةً، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْعَامُّ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَخْصِيصُهُ إِذَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْغَالِبِ، يُقَالُ فِي الثَّوْبِ: إِنَّهُ أَسْوَدُ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّوَادُ، أَوْ حَصَلَ فِيهِ بَيَاضٌ قَلِيلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْبَيَاضُ، وَكَانَ السَّوَادُ قَلِيلًا، كَانَ انْطِلَاقُ لَفْظِ الْأَسْوَدِ عَلَيْهِ كَذِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ مَخْصُوصًا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّكُمْ أَخْرَجْتُمْ مِنْ عُمُومِهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ وَتَرَكْتُمْ قِسْمًا وَاحِدًا، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَامِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَجْنَبِيَّةُ فَخَارِجَةٌ عَنِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا يُقَالُ فِيهَا: إِنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ لَا شَكَّ أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِذَا شَرَعْتَ فِيهَا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ أَدَاءَ التَّكْلِيفِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا التَّكْلِيفَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ زَالَ ذَلِكَ الْوَهْمُ، وَعُرِفَ أَنَّهُ مَهْمَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، سَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَسَوَاءٌ شَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْغَضَبِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : التَّعْبِيرُ عَنِ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَكَ اللَّهُ أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ ثِقَةً بِالْإِجَابَةِ كَأَنَّهَا وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَوْ قَالَ يَتَرَبَّصُ الْمُطَّلَقَاتُ: لَكَانَ ذَلِكَ جُمْلَةً مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَجَعْلِ الْمُطَلَّقَاتِ مُبْتَدَأً، ثُمَّ قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ إسناد الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، ثُمَّ جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ.
الْجَوَابُ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» : إِنَّكَ إِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَقُلْتَ: زَيْدٌ فَعَلَ فَهَذَا يُفِيدُ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْقُوَّةِ مَا لَا يُفِيدُهُ قَوْلُكَ: فَعَلَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِكَ: أَنَا أَكْتُبُ فِي الْمُهِمِّ الْفُلَانِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَى الْإِنْسَانِ الِانْفِرَادَ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثِ كَذَا لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ لَا يُرِيدُ الْحَصْرَ، بَلْ أَنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ إِعْطَاءَ الْجَزِيلِ دَأْبُهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْلِ: ٢٠] لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الْمَخْلُوقِيَّةِ وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [الْمَائِدَةِ: ٦١] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
هُمَا يَلْبَسَانِ الْمَجْدَ أَحْسَنَ لُبْسَةٍ | شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كِلَاهُمَا |
الْجَوَابُ: فِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ تَهْيِيجٌ لَهُنَّ عَلَى التَّرَبُّصِ وَزِيَادَةُ بَعْثٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَا يَسْتَنْكِفْنَ مِنْهُ فَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَرَبَّصْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْفُسَ النِّسَاءِ طَوَامِحُ إِلَى الرِّجَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَقْمَعْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَيَغْلِبْنَهَا على الطموح ويخبرنها عَلَى التَّرَبُّصِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَفْظُ أَنْفُسٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، مَعَ أَنَّهُنَّ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ، وَالْقُرُوءُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَلِمَ ذَكَرَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الْقُرُوءُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ قَلِيلَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، أَوْ لَعَلَّ الْقُرُوءَ كَانَتْ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِي جَمْعِ قُرْءٍ مِنَ الْأَقْرَاءِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: ثَلَاثَ قُرُوءٍ، كَمَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ حِيَضٍ.
الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ اتَّبَعَ تَذْكِيرَ اللَّفْظِ ولفظ القروء مُذَكَّرٌ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْقُرُوءِ، فَنَقُولُ: الْقُرُوءُ جَمْعُ قَرْءٍ وَقُرْءٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَقْرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ فِي كَلَامِ/ الْعَرَبِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا كَالشَّفَقِ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ جَمِيعًا، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ، مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ، وَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِحَيْثِيَّةِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ، ثُمَّ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ يَجْتَمِعُ الدَّمُ فِي الرَّحِمِ، وَفِي وَقْتَ الطُّهْرِ يَجْتَمِعُ الدَّمُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ، يُقَالُ: أَقْرَأَتِ النُّجُومُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَقْرَأَتْ إِذَا أَفَلَتْ، وَيُقَالُ: هَذَا قَارِئُ الرِّيَاحِ لِوَقْتِ هُبُوبِهَا، وَأَنْشَدُوا لِلْهُذَلِيِّ:
إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ دَخَلَ فِيهِ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا مُعَيَّنًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُطَلَّقَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ تُسَمَّى ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ إِنْ تَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا الْأَطْهَارُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَمَالِكٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رِوَايَةٍ،
وَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ هِيَ الْحِيَضُ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ مُدَّةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَقْصَرُ، وَعِنْدَهُمْ أَطْوَلُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا فِي حَالِ الطُّهْرِ يُحْسَبُ بَقِيَّةُ الطُّهْرِ قُرْءًا وَإِنْ حَاضَتْ عَقِيبَهُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا شَرَعَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الطُّهْرِ، وَمِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الْحَيْضِ لَا يُحْكَمُ
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: ١] وَمَعْنَاهُ فِي وَقْتِ عِدَّتِهِنَّ، لَكِنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْعِدَّةِ غَيْرَ زَمَانِ الْحَيْضِ، أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ فَقَالَ بِمَعْنَى مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، كَمَا يَقُولُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، يُرِيدُ مُسْتَقْبِلًا لِثَلَاثٍ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ يُقَوِّي اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْنَاهُ لِزَمَانٍ يَقَعُ الشُّرُوعُ فِي الثَّلَاثِ عَقِيبَهُ، فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ مَعْنَاهُ طَلِّقُوهُنَّ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِي الْعِدَّةِ عَقِيبَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ حَاصِلًا بِالتَّطْلِيقِ فِي جَمِيعِ زَمَانِ الطُّهْرِ وَجَبَ أَنْ/ يَكُونَ الطُّهْرُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ زَمَانِ التَّطْلِيقِ مِنَ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: هل تدرون الْأَقْرَاءُ؟ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالنِّسَاءُ بِهَذَا أَعْلَمُ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ النِّسَاءُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْقُرْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، يُقَالُ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ نَسْلًا قَطُّ، أَيْ مَا جَمَعَتْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا قَطُّ وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ يُقَالُ: مَا قَرَأَتْ حَيْضَةً، أَيْ مَا ضَمَّتْ رَحِمَهَا عَلَى حَيْضَةٍ، وَسُمِّيَ الْحَوْضُ مَقْرَأَةً لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَأَقْرَأَتِ النُّجُومُ إِذَا اجْتَمَعَتْ لِلْغُرُوبِ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ، وَقَرَأَ الْقَارِئُ أَيْ جَمَعَ الْحُرُوفَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَقْتُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ إِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْتَمِعُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي الْبَدَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ زَمَانُ الْحَيْضِ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ الدَّمَ يَجْتَمِعُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الرَّحِمِ.
قُلْنَا: الدِّمَاءُ لَا تَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ الْبَتَّةَ بَلْ تَنْفَصِلُ قَطْرَةً قَطْرَةً أَمَّا وَقْتُ الطُّهْرِ فَالْكُلُّ مُجْتَمِعٌ فِي الْبَدَنِ فَكَانَ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ أَتَمَّ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ لَمَّا دَلَّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَأَكْثَرُ أَحْوَالِ الرَّحِمِ اجْتِمَاعًا وَاشْتِمَالًا فِي الدَّمِ آخِرُ الطُّهْرِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَمْتَلِئْ بِذَلِكَ الْفَائِضِ لَمَا سَالَتْ إِلَى الخارج، فمن أولى الطُّهْرِ يَأْخُذُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِازْدِيَادِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْآخَرُ هُوَ حَالُ كَمَالِ الِاجْتِمَاعِ فَكَانَ آخِرُ الطُّهْرِ هُوَ الْقُرْءَ فِي الْحَقِيقَةِ وَهَذَا كَلَامٌ بين.
الحجة الرابعة: أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ حَقُّ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُسَمَّى بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْأَطْهَارُ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَطْهَارِ أَقَلُّ زَمَانًا مِنْ الِاعْتِدَادِ بِالْحِيَضِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَثْبَتْنَا الْأَقَلَّ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَطَرَحْنَا الْأَكْثَرَ وَفَاءً بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ قُدْرَةُ الحبس والمنع.
الحجة الخامسة: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ تُسَمَّى أَقْرَاءً أَنْ تَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ صَرْفُ الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَى الْحَيْضِ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ حِيَضٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بِكَمَالِهَا لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَلْزَمُهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِزَوَالِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ طُهْرٌ يَجْعَلُهَا خَارِجَةً مِنَ الْعِدَّةِ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ قُرْءًا فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تُكْمِلُ الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقَ بِالظَّاهِرِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الحج: ١٩٧] وَالْأَشْهُرُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ إِنَّا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ هُوَ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَبَعْضُ ذُو الْحِجَّةِ، فَكَذَا هَاهُنَا جَازَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَى طُهْرَيْنِ وَبَعْضِ طُهْرٍ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا تَرَكْنَا الظَّاهِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَتْرُكَ الظَّاهِرَ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالثَّانِي: أَنْ فِي الْعِدَّةِ تَرَبُّصًا مُتَّصِلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ مُتَّصِلٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الْأَشْهُرُ وَقْتُ الْحَجِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَأَجَابَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَمَا أَنَّ حَمْلَ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْأَطْهَارِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحِيَضِ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّهْرِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَتَحْصُلُ الزِّيَادَةُ وَعُذْرُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ لَأَمَرْنَاهُ بِالطَّلَاقِ فِي آخِرِ الْحَيْضِ حَتَّى تَعْتَدَّ بِأَطْهَارٍ كَامِلَةٍ، وَإِذَا اخْتَصَّ الطَّلَاقُ بِالطَّاهِرِ صَارَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَحَمَّلَةً لِلضَّرُورَةِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَقُولُ: لَمَّا صَارَتِ الْأَقْرَاءُ مُفَسَّرَةً بِالْأَطْهَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ، صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ طُهْرُ الطَّلَاقِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ لِلِاجْتِمَاعِ وَكَمَالُ الِاجْتِمَاعِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ قُرْءًا تَامًّا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ النُّقْصَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْءِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ إِلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ فَقَالَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطَّلَاقِ: ٤] فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مُقَامَ الحيض دون الأطهار وأيضا لما كان الْأَشْهُرُ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنِ الْأَقْرَاءِ وَالْبَدَلُ يُعْتَبَرُ بِتَمَامِهَا، فَإِنَّ الْأَشْهُرَ لَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهَا وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُبْدَلِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ الْكَامِلَةُ هِيَ الْحِيَضَ، / أَمَّا الْأَطْهَارُ فَالْوَاجِبُ فِيهَا قُرْءَانِ وَبَعْضٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: لَهُمْ:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ هِيَ الحيض.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَهُمْ: أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ هُوَ الَّذِي تُسْتَبْرَأُ بِهِ الْأَرْحَامُ دُونَ الطُّهْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَيْضَ دُونَ الطُّهْرِ.
الْحُجَّةُ السابعة: لهم: أن القول بأل الْقُرُوءَ هِيَ الْحِيَضُ احْتِيَاطٌ وَتَغْلِيبٌ لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّ الْمُطَّلَقَةَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ الطُّهْرِ وَطَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ جَعْلَنَا الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضَ، فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ لِلْغَيْرِ التَّزَوُّجُ بِهَا، وَإِنْ جَعَلْنَا الْقُرْءَ طُهْرًا، فَحِينَئِذٍ يَحِلُّ لِلْغَيْرِ التَّزَوُّجُ بِهَا، وَجَانِبُ التَّحْرِيمِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَكَانَ أَوْلَى
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَضْعُفُ التَّرْجِيحَاتُ، وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ فَاعْلَمْ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرْءِ فِي حق ذوات الأقراء، وضع الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ، وَكَانَ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ مُتَعَذِّرًا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ أَمِينَةً فِي الْعِدَّةِ، وَجُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ قُرْئِهَا فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ، لِأَنَّ أَمْرَهَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا طُلِّقَتْ طَاهِرَةً فَحَاضَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ، ثُمَّ حَاضَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ، ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ أَقَلُّ الطُّهْرِ، مَرَّةً أُخْرَى يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِحُصُولِ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَمَتَى ادَّعَتْ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا قُبِلَ قَوْلُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحَبَلُ وَالْحَيْضُ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ فِي كِتْمَانِهِمَا، أَمَّا كِتْمَانُ الْحَبَلِ فَإِنَّ غَرَضَهَا فِيهِ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ أَقَلُّ زَمَانًا مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِذَا كَتَمَتِ الْحَبَلَ قَصُرَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا فَتُزَوَّجُ بِسُرْعَةٍ، وَرُبَّمَا كَرِهَتْ مُرَاجَعَةَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا أَحَبَّتِ التَّزَوُّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ/ أَوْ أَحَبَّتْ أَنْ يَلْتَحِقَ وَلَدُهَا بِالزَّوْجِ الثَّانِي، فَلِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ تَكْتُمُ الْحَبَلَ، وَأَمَّا كِتْمَانُ الْحَيْضِ فَغَرَضُهَا فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَقَدْ تُحِبُّ تَطْوِيلَ عِدَّتِهَا لِكَيْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تُحِبُّ تَقْصِيرَ عِدَّتِهَا لِتَبْطِيلِ رَجْعَتِهِ وَلَا يَتِمُّ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا بِكِتْمَانِ بَعْضِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهَا إِذَا حَاضَتْ أَوَّلًا فَكَتَمَتْهُ، ثُمَّ أَظْهَرَتْ عِنْدَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ حَيْضِهَا فَقَدْ طَوَّلَتِ الْعِدَّةَ، وَإِذَا كَتَمَتْ أَنَّ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وُجِدَتْ فكمثل، وَإِذَا كَتَمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا بَاقٍ فَقَدْ قَطَعَتِ الرَّجْعَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ لَهَا غَرَضًا فِي كِتْمَانِ الْحَبَلِ، فَكَذَلِكَ فِي كِتْمَانِ الْحَيْضِ، فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الْحَمْلِ فَقَطْ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٦] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَيْضَ خَارِجٌ عَنِ الرَّحِمِ لَا أَنَّهُ
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْأَقْرَاءِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُخْلَقُ فِي الرَّحِمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً، بَلْ هَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَظْلِمُ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْ، تُرِيدُ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَكَ إِيمَانُكَ عَنْ ظُلْمِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى النِّسَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَقَالَ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ جُعِلَ أَمِينًا فِي شَيْءٍ فخان فيه فأمره عند الله شديد.
قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي لِلطَّلَاقِ وَهُوَ الرَّجْعِيَّةُ، وَفِي الْبُعُولَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ بَعْلٍ، كَالْفُحُولَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْجُدُودَةِ وَالْعُمُومَةِ، وَهَذِهِ الْهَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا فِي كُلِّ جَمْعٍ بَلْ فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَنِ الْعَرَبِ، فَلَا يُقَالُ فِي كَعْبٍ: كُعُوبَةٌ، وَلَا فِي كَلْبٍ: كِلَابَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْبَعْلِ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ بَعْلَةٌ، كَمَا يُقَالُ لَهَا زَوْجَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَزَوْجٌ فِي أَفْصَحِ اللُّغَاتِ فَهُمَا بَعْلَانِ، كَمَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ، وَأَصْلُ الْبَعْلِ السَّيِّدُ الْمَالِكُ فِيمَا قِيلَ، يُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ النَّاقَةِ؟ كَمَا يُقَالُ: مَنْ رَبُّهَا، وَبَعْلٌ اسْمُ صَنَمٍ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ رَبًّا، وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَدْعُونَ أَزْوَاجَهُنَّ بِالسُّؤْدَدِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُعُولَةَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ بُعُولَةً، إِذَا صَارَ بَعْلًا، وَبَاعَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «إنها أيام أكل وشرب وبعال»
وامرأته حَسَنَةُ الْبَعْلِ إِذَا كَانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ بِبَعْلِ أَزْوَاجِكُنَّ»
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَهْلُ بُعُولَتِهِنَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ فَالْمَعْنَى: أَحَقُّ بِرَجْعَتِهِنَّ فِي مُدَّةِ ذَلِكَ التَّرَبُّصِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: أَحَقُّ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ.
الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ زَوْجٌ آخَرُ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ عُلِمَ خِلَافُهُ فَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ الْآخَرِ فِي الْعِدَّةِ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَهَا فِي مُضِيِّ الْعِدَّةِ حَقُّ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ فَلَمَّا كَانَ لَهُنَّ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا بِسَبَبِ الرَّجْعَةِ مَا هُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِدَّةِ.
الْجَوَابُ: يُقَالُ: رَدَدْتُهُ أَيْ رَجَعْتُهُ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الْكَهْفِ: ٣٦] وَفِي مَوْضِعٍ آخر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى الرَّدِّ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ؟ وَهِيَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ زَوْجَتُهُ كَمَا كَانَتْ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الرَّدَّ وَالرَّجْعَةَ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ التَّرَبُّصِ وَالتَّحَرِّي فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ ما دامت في العدة كأنه كَانَتْ جَارِيَةً فِي إِبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ وَبِالرَّجْعَةِ يَبْطُلُ ذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتِ الرَّجْعَةُ رَدًّا، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، فَفِي الرَّدِّ عَلَى مَذْهَبِهِ شَيْئَانِ/ أَحَدُهُمَا: رَدُّهَا مِنَ التَّرَبُّصِ إِلَى خِلَافِهِ الثَّانِي: رَدُّهَا مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الْحِلِّ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي ذلِكَ.
الْجَوَابُ: أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ التَّرَبُّصِ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الرَّدَّةِ وَالرَّجْعَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً فَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ إِنْ أَرَادُوا الْإِصْلَاحَ وَمَا أَرَادُوا الْمُضَارَّةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة: ٢٣١] وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَرْجِعُونَ الْمُطَلَّقَاتِ، وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِهِنَّ لِيُطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، حَتَّى تَحْتَاجَ الْمَرْأَةُ إِلَى أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةً حَادِثَةً، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الشَّرْطَ فِي حِلِّ الْمُرَاجَعَةِ إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «إِنْ» لِلشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، فَيَلْزَمُ إِذَا لَمْ تُوجَدْ إِرَادَةُ الْإِصْلَاحِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الرَّجْعَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ بَاطِنَةٌ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهَا، فَالشَّرْعُ لَمْ يُوقِفْ صِحَّةَ الْمُرَاجَعَةِ عَلَيْهَا، بَلْ جَوَازُهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مَوْقُوفٌ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا لِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ اسْتَحَقَّ الْإِثْمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِصْلَاحَ حَالِهَا، لَا إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْهَا بَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حَقًّا عَلَى الْآخَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَاعِيًا حَقَّ الْآخَرِ، وَتِلْكَ الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ كَثِيرَةٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا فَأَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ كَالْأَمِيرِ وَالرَّاعِي، وَالزَّوْجَةَ كَالْمَأْمُورِ وَالرَّعِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أَمِيرًا وَرَاعِيًا أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهَا وَمَصَالِحِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ إِظْهَارُ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ وَثَانِيهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَتَزَيَّنُ لِامْرَأَتِي كَمَا تَتَزَيَّنُ لِي» لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ وَثَالِثُهَا: وَلَهُنَّ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ، مِثْلُ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَهَذَا أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: رَجُلٌ بَيِّنُ الرَّجْلَةِ، أَيِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ أَيْ أَقْوَاهُمَا، وَفَرَسٌ رَجِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ، وَالرَّجُلُ مَعْرُوفٌ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ، وَارْتَجَلَ الْكَلَامَ أَيْ قَوِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَتَرَجَّلَ النَّهَارُ قَوِيَ ضِيَاؤُهُ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ فَهِيَ الْمَنْزِلَةُ وَأَصْلُهَا/ مِنْ دَرَجْتُ الشَّيْءَ أَدْرُجُهُ دَرْجًا، وَأَدْرَجْتُهُ إِدْرَاجًا إِذَا طَوَيْتَهُ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَيْ فَنُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ طَوَوْا عُمُرَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْمَدْرَجَةُ قَارِعَةُ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهَا تَطْوِي مَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، وَالدَّرَجَةُ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ أَزْيَدُ فِي الْفَضِيلَةِ مِنَ النِّسَاءِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْعَقْلُ وَالثَّانِي: فِي الدِّيَةِ وَالثَّالِثُ: فِي الْمَوَارِيثِ وَالرَّابِعُ: فِي صَلَاحِيَةِ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْخَامِسُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجِ وَالسَّادِسُ: أَنَّ نَصِيبَ الزَّوْجِ فِي الْمِيرَاثِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِهَا فِي الْمِيرَاثِ مِنْهُ وَالسَّابِعُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى تَطْلِيقِهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا، شَاءَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ أَبَتْ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى تَطْلِيقِ الزَّوْجِ، وَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ وَلَا تَقْدِرُ أَيْضًا عَلَى أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالثَّامِنُ: أَنَّ نَصِيبَ الرَّجُلِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، ظَهَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالْأَسِيرِ الْعَاجِزِ فِي يَدِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ»
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ»،
وَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لِأَجْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِلرِّجَالِ مِنَ الدَّرَجَةِ عَلَيْهِنَّ فِي الِاقْتِدَارِ كَانُوا مَنْدُوبِينَ إِلَى أَنْ يُوَفُّوا مِنْ حُقُوقِهِنَّ أَكْثَرَ، فَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ كَالتَّهْدِيدِ لِلرِّجَالِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُضَارَّتِهِنَّ وَإِيذَائِهِنَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ، كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَقْبَحَ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلزَّجْرِ أَشَدَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولُ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ السَّكَنُ وَالْأُلْفَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَاشْتِبَاكُ الْأَنْسَابِ وَاسْتِكْثَارُ الْأَعْوَانِ وَالْأَحْبَابِ وَحُصُولُ اللَّذَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ فِيهَا أَوْفَرُ، ثُمَّ إِنَّ الزَّوْجَ اخْتُصَّ بِأَنْوَاعٍ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهَا، وَمَنْعُهَا عَنْ مَوَاقِعِ الْآفَاتِ، فَكَانَ قِيَامُ الْمَرْأَةِ بِخِدْمَةِ الرَّجُلِ آكَدَ وُجُوبًا، رِعَايَةً لِهَذِهِ الْحُقُوقِ الزَّائِدَةِ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النِّسَاءِ: ٣٤]
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ بِالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا»
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ غَالِبٌ لَا يُمْنَعُ، مُصِيبٌ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا احْتِمَالُ الْعَبَثِ والسفه والغلط والباطل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتَةً لَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَشَكَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا يُضَارُّهَا بِذَلِكَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّطْلِيقَ الشَّرْعِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَطْلِيقَةً بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا لَمْ يَكُونَا لِلْمَعْهُودِ أَفَادَا الِاسْتِغْرَاقَ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كُلُّ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ، وَمَرَّةٌ ثَالِثَةٌ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَأَفَادَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَشْرُوعَ مُتَفَرِّقٌ، لِأَنَّ الْمَرَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَفَرُّقٍ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ الْمَسْنُونِ، وَعِنْدِي الْجَمْعُ مُبَاحٌ لَا مَسْنُونٌ.
قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ صِفَةِ السُّنَّةِ، بَلْ كَانَ تَفْسِيرُ الْأَصْلِ الطَّلَاقَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْأَمْرُ، أَيْ طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ يَعْنِي دَفْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وقع العدول عن لفظ الأمر إلى الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَعْنَى الْأَمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ، وَعَلَى التَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ:
وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ، أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقَعُ إِلَّا الْوَاحِدَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَقْيَسُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَالْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ سَعْيٌ فِي إِدْخَالِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا إِلَّا أَنَّهُ يَقَعُ، وَهَذَا/ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُبْتَدَأً، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ ثَابِتٌ دَائِمًا أَوْ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُبَيِّنِ، أَوْ كَالْعَامِّ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُخَصِّصِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذلك الطلاق
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] إِنْ كَانَ لِكُلِّ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُخَصِّصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَهُوَ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الشَّرْطِ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّجْعَةِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَانَ الْمُخَصِّصُ حَاصِلًا مَعَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَوْ كَانَ الْبَيَانُ حَاصِلًا مَعَ الْمُجْمَلِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا إِلَّا أَنَّ الْأَرْجَحَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً، كَانَ قَوْلُهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ يَقْتَضِي حَصْرَ كُلِّ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وَمَرَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ لَا بِقَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَلِأَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا التَّسْرِيحَ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا رُوِّينَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ شَكَتْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ زَوْجَهَا يُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا كَثِيرًا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ تَنْزِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ تَنْزِيلِهَا عَلَى حُكْمٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِمْسَاكُ خِلَافُ الْإِطْلَاقِ وَالْمِسَاكُ وَالْمُسْكَةُ اسْمَانِ مِنْهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَذُو مُسْكَةٍ وَمِسَاكَةٍ إِذَا كَانَ بَخِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَسَاكِ غِلْمَانِهِ، وَفِيهِ مِسَاكَةٌ مِنْ جَبْرٍ، أَيْ قُوَّةٌ، وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَتَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُكَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَسَرَّحَ الْمَاشِيَةَ إِذَا أَرْسَلَهَا تَرْعَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ ذَلِكَ الطَّلَاقُ الَّذِي حَكَمْنَا فِيهِ بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ، هُوَ أَنْ يُوجَدَ مَرَّتَانِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَا عَلَى قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، بَلْ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِنْفَاعِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوقَعَ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ،
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قِيلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُرَاجَعَةَ حَتَّى تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ الْأَقْرَبُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها [البقرة: ٢٣٠] تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلْقَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ التَّسْرِيحِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْرِيحِ هُوَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا التَّسْرِيحَ عَلَى تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ كَانَتِ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَوْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِحْسَانِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا أَدَّى إِلَيْهَا حُقُوقَهَا الْمَالِيَّةَ، وَلَا يَذْكُرُهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ بِسُوءٍ وَلَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَكُونُ مَعَ صَاحِبِهِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ تَشُقُّ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ أَوْ لَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ مَانِعَةً مِنَ الرُّجُوعِ لَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَظْهَرَ الْمَحَبَّةُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ كَمَالُ التَّجْرِبَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَا جَرَمَ أَثْبَتَ تَعَالَى حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ جَرَّبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْمُفَارَقَةِ وَعَرَفَ حَالَ قَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ إِمْسَاكَهَا رَاجَعَهَا وَأَمْسَكَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُ تَسْرِيحَهَا سَرَّحَهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بعبده.
[قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إلى قوله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
واعلم أن هذا الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بَيَانُ الْخُلْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْإِحْسَانِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالثِّيَابِ وَسَائِرِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ بُضْعَهَا، وَاسْتَمْتَعَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَعْطَاهَا، فَلَا يَجُوزُ أن يأخذ منها شيئا، ويدل فِي هَذَا النَّهْيِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا لِيُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النِّسَاءِ: ١٩] وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ هُوَ كَقَوْلِهِ هُنَاكَ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْبَذَاءِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطَّلَاقِ: ١] فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ الْبَذَاءُ عَلَى أَحْمَائِهَا وَقَالَ أَيْضًا: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: ٢٠] فَعَظَّمَ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْضَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَنِ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا فَإِنْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَمْ يُطَابِقْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَإِنْ قُلْتَ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا.
قُلْنَا: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ غَرِيبٍ فِي الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِيتَاءِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْآخِذُونَ وَالْمُؤْتُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَفِي زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا أَشَدَّ الْحُبِّ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ: فَرِّقْ بيني وبينه فإني أبعضه، وَلَقَدْ رَفَعْتُ طَرَفَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ يَجِيءُ فِي أَقْوَامٍ فَكَانَ أَقْصَرَهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، وَإِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْهَا فَلْتَرُدَّ عَلَيَّ الْحَدِيقَةَ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَأَزِيدُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِثَابِتٍ: خُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُجْتَهِدِينَ قَالُوا: يَجُوزُ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالْغَضَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا يُبَاحُ الْخُلْعُ إِلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ وَقَعَ الْخُلْعُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْخُلْعُ فَاسِدٌ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ طَلَاقِهَا شَيْئًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَكَانَتِ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالُوا: الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] فَإِذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ لِنَفْسِهَا شَيْئًا بِإِزَاءِ مَا بُذِلَ كَانَ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ الَّذِي تَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَالِكَةً لِنَفْسِهَا أَوْلَى، وَأَمَّا كَلِمَةُ (إِلَّا) فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا فِي قوله تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: ٩٢] أَيْ لَكِنْ إِنْ كَانَ خَطَأً فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النِّسَاءِ: ٩٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَوْفِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْإِشْفَاقُ مِمَّا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّنِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَسَبَبُ حُصُولِهَا ظَنُّ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ مَكْرُوهٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ اسْمَ الْخَوْفِ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ خَرَجَ غُلَامُكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، فَتَقُولُ: قَدْ خِفْتُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى ظَنَنْتُهُ وَتَوَهَّمْتُهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ | تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا |
وَلَا تدفنني فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي | أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ، وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ مَزِيدِ بَحْثٍ، فَنَقُولُ: الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حاصلا
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ نَاشِزَةً مُبْغِضَةً للزوج، فههنا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَمِيلَةَ مَعَ ثَابِتٍ، لِأَنَّهَا أَظْهَرَتِ الْبُغْضَ فَجَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا الْخُلْعَ وَلِثَابِتٍ الْأَخْذَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَطَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفَهُمَا مَعًا، فَكَيْفَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَكْفِي حُصُولُ الْخَوْفِ مِنْهَا فَقَطْ.
قُلْنَا: سَبَبُ هَذَا الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ الْحَاصِلُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ فِي أَمْرِ الزَّوْجِ، وَهُوَ يَخَافُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُطِعْهُ فَإِنَّهُ يَضْرِبُهَا وَيَشْتُمُهَا، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ مِنْهَا لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ مُصَاحَبَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ لِفَقْرِهِ أَوْ لِقُبْحِ وَجْهِهِ، أَوْ لِمَرَضٍ مُنَفِّرٍ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ خَائِفَةً مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي أَنْ لَا تُطِيعَ الزَّوْجَ، وَيَكُونُ الزَّوْجُ خَائِفًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي بَعْضِ حُقُوقِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، بِأَنْ يَضْرِبَهَا وَيُؤْذِيَهَا، حَتَّى تَلْتَزِمَ الْفِدْيَةَ فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ بِدَلِيلِ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِدَلِيلِ سَائِرِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النِّسَاءِ: ١٩، ٢٠] وَهَذَا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ: إِنَّ هَذَا الْخُلْعَ جَائِزٌ، وَالْمَالَ الْمَأْخُوذَ حَلَالٌ، وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ حَرَامٌ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِهِمَا مَعًا، فَهَذَا الْمَالُ حَرَامٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ إِذَا كَانَ السَّبَبُ حَاصِلًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِقَيْدِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِذَلِكَ أَمْ لَا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ لِهَذَا الْقِسْمِ آيَةً أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النِّسَاءِ: ٣٥] الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَعَالَى حِلَّ أَخْذِ الْمَالِ، فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ جَائِزٌ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: إِلَّا أَنْ يَخافا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» / وَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ إِبْدَالُ أَنْ لَا يُقِيمَا مِنْ أَلِفِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: خِيفَ زَيْدٌ تَرْكُهُ إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكَّدٌ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ: خَافَا، فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِهِمَا، وَجْهُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ إِضَافَةُ الْخَوْفِ إِلَيْهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ الْفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَالزَّوْجَ يَخَافُ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تُطِعْهُ يَعْتَدِي عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخُلْعُ بِهِ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَلْ مَا دُونُ مَا أَعْطَاهَا حَتَّى يَكُونَ الْفَضْلُ لَهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْمُخَالَعَةَ بالأزيد والأقل
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي إِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَدْرُ مَا آتَاهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
رُوِّينَا أَنَّ ثَابِتًا لَمَّا طَلَبَ مِنْ جَمِيلَةَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ جَمِيلَةُ وَأَزِيدُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ،
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِالزَّائِدِ جَائِزًا لَمَا جَازَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ بَعْضَهَا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَزْيَدَ مِمَّا دَفَعَ إِلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ إحجافا بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقًا لِلضَّرَرِ بِهَا، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْخُلْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَقَيَّدَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْضَى عِنْدَ النِّكَاحِ إِلَّا بِالصَّدَاقِ الْكَثِيرِ، فَكَذَا لِلزَّوْجِ أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الْكَثِيرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَظْهَرَتْ الِاسْتِخْفَافَ بِالزَّوْجِ، حَيْثُ أَظْهَرَتْ بُغْضَهُ وَكَرَاهَتَهُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَتْ إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحسبها فِي بَيْتِ الزِّبْلِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كَيْفَ حَالُكِ؟ فَقَالَتْ: مَا بِتُّ أَطْيَبَ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْلَعْهَا وَلَوْ بِقُرْطِهَا،
وَالْمُرَادُ اخْلَعْهَا حَتَّى بِقُرْطِهَا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ قَدِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ ثَوْبٍ عَلَيْهَا إِلَّا دِرْعَهَا، فلم ينكر عليها.
المسألة السابعة:
الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَلَاقٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ فَسْخًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا صَحَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُسَمَّى: كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا فَإِذَا خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْرَ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، كَالْإِقَالَةِ، / فَإِنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ رَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي مُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ حَصَلَ الْجِمَاعُ فِيهِ حَرَامٌ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْحَالَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِفْ بَلْ أَمَرَهُ بِالْخُلْعِ مُطْلَقًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً لَمْ يَقْتَصِرْ لَهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ قَاطِعَةٌ لِحَقِّ الرَّجْعَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] إِشَارَةٌ إِلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ طَلَّقَها تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مَعَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٢٩] وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَإِذَا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً وَجَبَ تَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عِبَارَةً عَنِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ كُنَّا قَدْ صَرَفْنَا لَفْظَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَأَهْمَلْنَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كَالشَّيْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَنَظْمُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ النَّظْمُ الصَّحِيحُ هُوَ هَذَا فَمَا السَّبَبُ فِي إِيقَاعِ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟.
قُلْنَا: السَّبَبُ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ لَا يَصِحَّانِ إِلَّا قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، أَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْكُلِّ حُكْمَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا كَالْخَاتِمَةِ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بِالثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إِلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ:
تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَتَعْقِدُ لِلثَّانِي، وَيَطَؤُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَحِلُّ
وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الدَّلِيلِ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ:
نَكَحَ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةَ، أَرَادُوا أَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَالُوا:
نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَرَادُوا بِهِ الْمُجَامَعَةَ، وَأَقُولُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ كَلَامٌ مُحَقَّقٌ بِحَسَبَ الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ/ الْمُضَافَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ: نَكَحَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ، فَهَذَا النِّكَاحُ أَمْرٌ حَاصِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَهَذَا النِّكَاحُ مُغَايِرٌ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ بِحَسَبَ ذَاتِهَا بَلِ اسْمًا لِتِلْكَ الذَّاتِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِالزَّوْجِيَّةِ، فَالزَّوْجَةُ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الذَّاتِ وَمِنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْمُرَكَّبِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قُلْنَا نَكَحَ فُلَانٌ زوجته، فالناكح مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا زَوْجَةٌ، تَقَدُّمَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُرَكَّبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ غَيْرُ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النِّكَاحُ غَيْرَ الزَّوْجِيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ الْوَطْءُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوَطْءِ، فَقَوْلُهُ: تَنْكِحَ يَدُلُّ عَلَى الْوَطْءِ، وَقَوْلُهُ: زَوْجاً يَدُلُّ عَلَى الْعَقْدِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْوَطْءُ بِالسُّنَّةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحِلِّ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ وَمَا كَانَ غَايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَلْزَمُ انْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقْدِ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ، فَكَانَ رَفْعُهَا بِالْخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، وَحَمَلْنَا قَوْلَهُ: زَوْجاً عَلَى الْعَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْإِشْكَالُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي السُّنَّةِ فَمَا
رُوِيَ أَنَّ تَمِيمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَتِيكٍ الْقُرَظِيِّ ابْنِ عَمِّهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيِّ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَإِنَّهُ طَلَّقَنِي قَبْلَ أَنْ يَمَسَّنِي أَفَأَرْجِعُ إِلَى ابْنِ عَمِّي؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَالْمُرَادُ بِالْعُسَيْلَةِ الْجِمَاعُ شَبَّهَ اللَّذَّةَ فِيهِ بِالْعَسَلِ، فَلَبِثَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنْ زَوْجِي مَسَّنِي فَكَذَّبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: كَذَبْتِ فِي الْأَوَّلِ فَلَنْ أُصَدِّقَكِ فِي الْآخَرِ، فَلَبِثَتْ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ أَبَا بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَتْ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعِي إِلَيْهِ فَلَبِثَتْ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، فَأَتَتْ عُمَرَ فَاسْتَأْذَنَتْ فَقَالَ لَئِنْ رَجَعْتِ إِلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكِ، وَفِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ نَزَلَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
أَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَوْقِيفِ حُصُولِ الْحَلِّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ زَجْرُ الزَّوْجِ عَنِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَنْكِرُ أَنْ يَفْتَرِشَ زَوْجَتَهُ رَجُلٌ آخَرُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ أَنْ يَنْكِحْنَ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَضَاضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّجْرَ إِنَّمَا يَحْصُلُ/ بِتَوْقِيفِ الْحِلِّ عَلَى الدُّخُولِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ نَفْرَةٍ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مانعا وزاجرا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلْغَيْرِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ بِأَنْ أَصَابَهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحُ مُتْعَةٍ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا مُعْتَقِدًا بِأَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا طَلَّقَهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَأْثَمُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَهِي بِوَطْءٍ مَسْبُوقٍ بِعَقْدٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ، فَوَطِئَهَا هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَالْمَعْنَى: إِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ... فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَذَكَرَ لَفْظَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّرَاجُعِ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً بَيْنَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَنَاكَحَا فَقَدْ تَرَاجَعَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ، فَهَذَا تَرَاجُعٌ لُغَوِيٌّ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ عند ما يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَحِلُّ الْمُرَاجَعَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ هَاهُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي أَنَّ التَّحْلِيلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَكَانَتِ الْعِدَّةُ وَاجِبَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ، لَأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُرَاجَعَةِ حَاصِلٌ عَقِيبَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ مَا قَدَّمْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَالْكِسَائِيُّ: مَوْضِعُ أَنْ يَتَراجَعا خَفْضٌ بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ، تَقْدِيرُهُ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ ظَنَّا أَيْ إِنْ عَلِمَا وَأَيْقَنَا أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّكَ لَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْقَدَرِ وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: ٢٢٨] فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ الظَّنُّ فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الظَّنِّ، أَيْ مَتَى حَصَلَ هَذَا الظَّنُّ، وَحَصَلَ لَهُمَا الْعَزْمُ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، حَسُنَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ «إِنْ» فِي اللُّغَةِ لِلشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عُدْمِ الشَّرْطِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الظَّنُّ لَمْ يَحْصُلْ جَوَازُ الْمُرَاجَعَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ جَوَازَ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الظَّنُّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْمُرَاجَعَةِ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ بِالنِّكَاحِ الْجَدِيدِ رِعَايَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَصْدُ الْإِقَامَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما بينها مِنَ التَّكَالِيفِ، وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُها إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَكْثَرُهَا عَامَّةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْمُخَصِّصَاتِ إِنَّمَا عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ حُدُودُ اللَّهِ وَسَيُبَيِّنُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَ الْبَيَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: ٤٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبَانٍ نُبَيِّنُهَا بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ التَّعْظِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْبَيَانِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ فَغَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] والثاني: أنه خصصهم بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَالثَّالِثُ: يَعْنِي بِهِ الْعَرَبَ لِعِلْمِهِمْ بِاللِّسَانِ وَالرَّابِعُ: يُرِيدُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَعِلْمٌ، كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٣] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا عَاقِلًا عَالِمًا بِمَا يُكَلِّفُهُ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أُزِيحَ عُذْرُ الْمُكَلَّفِ والخامس: أن قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ يُبَيِّنُهَا اللَّهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَوَّلُ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قوله:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] فَتَكُونُ إِعَادَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْآيَةِ تَكْرِيرًا لِكَلَامٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ هُوَ التَّفْرِيقُ، فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْهُمْ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّجْعَةِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ إِلَّا بِكَلَامٍ، لَمْ تَكُنِ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِكَلَامٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ نَوَى الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ كَانَتْ رَجْعَةً وَإِلَّا فَلَا.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا
رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا»
حَتَّى تَطْهُرَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالمراجعة مطلقا، وقيل: دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا بِالْمُرَاجَعَةِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَمَا كَانَ مَأْذُونًا بِالْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ رَجْعَةً وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَمَرَ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا وَطِئَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا، أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : هُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا إِلَّا إِذَا عَرَفَهُ الْغَيْرُ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِرْفَانُ غَيْرِ الشَّاهِدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِرْفَانُ الشَّاهِدِ وَاجِبًا وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُرَاعَاةُ وَإِيصَالُ الْخَيْرِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ، وَبُلُوغُ الْأَجَلِ عِبَارَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ مُشَارَفَةُ الْبُلُوغِ لَا نَفْسُ الْبُلُوغِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الَّذِي يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِذَا قَارَبَ الْبَلَدَ: قَدْ بَلَغْنَا الثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِلزَّمَانِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ آخِرُ زَمَانٍ يُمْكِنُ إِيقَاعُ الرَّجْعَةِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ إِذَا فَاتَ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ مُكْنَةُ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمَجَازِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ففيه مسألتان:
وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ، أَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ، فَلَعَلَّهُ يُمْسِكُهَا بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ فِي قَلْبِهِ أَنْ يُضَارَّهَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً انْدَفَعَتِ الشُّبُهَاتُ وَزَالَتْ الِاحْتِمَالَاتُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الضِّرَارُ هُوَ الْمُضَارَّةُ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التَّوْبَةِ:
١٠٧] أَيِ اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِيُضَارُّوا الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَاهُ رَجَعَ إِلَى إِثَارَةِ الْعَدَاوَةِ وَإِزَالَةِ الْأُلْفَةِ وَإِيقَاعِ الْوَحْشَةِ، وَمُوجِبَاتِ النَّفْرَةِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الضِّرَارِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَّلِقُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ يَدَعُهَا، فَإِذَا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْقُرْءِ الثَّالِثِ رَاجَعَهَا، وَهَكَذَا يَفْعَلُ بِهَا حَتَّى تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ
وَالثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الضِّرَارِ سُوءُ الْعِشْرَةِ وَالثَّالِثُ: تَضْيِيقُ النَّفَقَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ رَجَاءَ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ مِنْهُ بِمَالِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعْتَدُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تُضَارُّوهُنَّ فَتَكُونُوا مُعْتَدِينَ، يَعْنِي فَتَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] أَيْ فَكَانَ لَهُمْ وَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تُضَارُّوهُنَّ عَلَى قصد الاعتداء عليهن، فحينئذ تصيرون عصاة الله، وَتَكُونُونَ مُتَعَمِّدِينَ قَاصِدِينَ لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: ظَلَمَ نَفْسَهُ بِتَعْرِيضِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ فَوَّتَ عَلَيْهَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَهَرَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْقَبِيحَةِ لَا يَرْغَبُ فِي التَّزَوُّجِ بِهِ وَلَا مُعَامَلَتِهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدِّينِ فَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ عَلَى الِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ نَسِيَ فَلَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَ أَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ مَنْ يُطِيعُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَيَلْعَبُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ فَلَا يَتَشَمَّرُ لِأَدَائِهَا، كَانَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِهَا، وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ: وَلَا تَتَسَامَحُوا فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ كَمَا يُتَسَامَحُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْهَزْلِ وَالْعَبَثِ وَالثَّالِثُ:
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَقُولُ: طَلَّقْتُ وَأَنَا لَاعِبٌ، وَيُعْتِقُ وَيَنْكِحُ، وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ فَهُوَ جَدٌّ»
وَالرَّابِعُ: قَالَ عَطَاءٌ:
الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مِثْلِهِ، كَانَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً تَهْدِيدٌ، وَالتَّهْدِيدُ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّكَالِيفِ كَانَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ تَهْدِيدًا عَلَى تَرْكِهَا، لَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ/ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي أَدَاءِ التَّكَالِيفِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّهْدِيدِ، رَغَّبَهُمْ أَيْضًا فِي أَدَائِهَا بِأَنَّ ذَكَّرَهُمْ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِهَا عَلَى سَبِيلِ الإجمال فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ السَّادِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ حُكْمُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمٍ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَدِمَ فَجَاءَ يَخْطِبُهَا لِنَفْسِهِ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا مَعْقِلٌ: إِنَّهُ طَلَّقَكِ ثُمَّ تُرِيدِينَ مُرَاجَعَتَهُ وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ إِنْ رَاجَعْتِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ مَعْقِلٌ: رَغِمَ أَنْفِي لِأَمْرِ رَبِّي، اللَّهُمَّ رَضِيتُ وَسَلَّمْتُ لِأَمْرِكَ، وَأَنْكَحَ أُخْتَهُ زَوْجَهَا
وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ رَجَعَتْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَأَبَى جَابِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ الْمَنْعُ، يُقَالُ: عَضَلَ فُلَانٌ ابْنَتَهُ، إِذَا مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، فَهُوَ يَعْضُلُهَا وَيَعْضِلُهَا، بِضَمِّ الضَّادِ وَبِكَسْرِهَا وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش:
وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي | كَرَائِمَ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ |
تَرَى الْأَرْضَ مِنَّا بِالْفَضَاءِ مَرِيضَةً | مُعَضِّلَةً مِنَّا بِجَيْشِ عَرَمْرَمِ |
دَاءٌ عُضَالٌ، لِلْأَمْرِ إِذَا اشْتَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسٍ:
وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي | يَذُمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلَا |
وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا | وَصَاحِبُكَ الْأَدْنَى إِذَا الْأَمْرُ أَعْضَلَا |
مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا، وَالتَّرْتِيبُ مُسْتَقِيمًا، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَسَنِ اللَّطِيفِ، فَكَانَ صَرْفُ الْخِطَابِ إِلَى الْأَزْوَاجِ أَوْلَى.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْكُبْرَى: أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَا مَعَ الْأَزْوَاجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَبَيْنَ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ خِطَابًا مَعَ الْأَزْوَاجِ لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خِطَابًا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ مَعَ انْقِضَائِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْآيَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَانَ تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَنَهَى عَنِ الْعَضْلِ حَالَ/ حُصُولِ التَّرَاضِي، وَلَا يَحْصُلُ التَّرَاضِي بِالنِّكَاحِ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٥] وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ قُدْرَةٌ عَلَى عَضْلِ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ هَذَا النَّهْيُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَشْتَدُّ نَدَمُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَتَلْحَقُهُ الْغَيْرَةُ إِذَا رَأَى مَنْ يَخْطُبُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعْضُلُهَا عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ إِمَّا بِأَنْ يَجْحَدَ الطَّلَاقَ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَدُسَّ إِلَى مَنْ يَخْطُبُهَا بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَوْ يُسِيءَ الْقَوْلَ فِيهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا إِلَى أُمُورٍ تُنَفِّرُ الرَّجُلَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَزْكَى لَهُمْ وَأَطْهَرُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْتَظِمُ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُنَّ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ فَيَكُونُونَ أَزْوَاجًا وَالْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرٍ وَلِيٍّ لَا يَجُوزُ وَبَنَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إِلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهَا أَوْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهَا لَمَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى عَضْلِهَا مِنَ النِّكَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرِ الْوَلِيُّ عَلَى هَذَا الْعَضَلِ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْعَضْلِ، وَحَيْثُ نَهَاهُ عَنِ الْعَضْلِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ، وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُتَمَكِّنَةً مِنَ النِّكَاحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هذا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ مَحْمُولٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَوْ كَانَتْ عِدَّتُهَا قَدِ انْقَضَتْ لَمَا قَالَ:
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا قَالَ: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَكُونُ مُسَرَّحَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَسْرِيحِهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ عَضْلِهِنَّ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْأَزْوَاجِ، وَهَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ بِالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرَاضِي وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا وَافَقَ الشَّرْعَ مِنْ عَقْدٍ حَلَالٍ وَمَهْرٍ جَائِزٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يُضَادُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: ٢٣١] فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لِصَاحِبِهِ، حَتَّى تَحْصُلَ الصُّحْبَةُ الْجَمِيلَةُ، وَتَدُومَ الْأُلْفَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرَاضِي بِالْمَعْرُوفِ، هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ أَنَّهَا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا نُقْصَانًا فَاحِشًا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النُّقْصَانِ عَنِ الْمَهْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذلك.
وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ وَحَّدَ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مَعَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً؟.
وَالْجَوَابُ: هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَالتَّثْنِيَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ تَعَالَى: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يُوسُفَ: ٣٧] وَقَالَ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُفَ: ٣٢] وَقَالَ: يُوعَظُ بِهِ وَقَالَ:
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٢].
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّصَ هَذَا الْوَعْظَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ؟.
الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُنْتَفِعَ بِهِ حَسُنَ تَخْصِيصُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ هُدًى لِلْكُلِّ، كَمَا قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥]، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ كَمَا قَالَ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١] وَثَانِيهَا: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الدِّينِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ عَامٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَيَانَ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَعْظًا مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّكَالِيفَ إِنَّمَا تُوجَبُ عَلَى الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ إِثْبَاتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاهِرِ الْمُلْزِمِ الْمُعْجِزِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُقِرُّ بِحَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تُذْكَرُ لَهُ وَتُشْرَحُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالتَّحْذِيرِ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا فَقَوْلُهُ: أَزْكى لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَقَوْلُهُ:
وَأَطْهَرُ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَكُونُ حُصُولُهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِقَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وَجْهَ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ وَنَهَى بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَبِحَسَبِ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ بِهَا وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)الحكم الثاني عشر في الرضاع
[قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ إلى قوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما.
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا أَشْعَرَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَهُوَ جَمِيعُ الْوَالِدَاتِ، سَوَاءٌ كُنَّ مُزَوَّجَاتٍ أَوْ مُطَلَّقَاتٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَمَا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَوَجَبَ تَرْكُهُ عَلَى عُمُومِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ: الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ وَجْهَانِ أَحَدُهَا:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ آيَةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةَ تِلْكَ الْآيَاتِ ظَاهِرًا، وَسَبَبُ التَّعْلِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ حَصَلَ التَّبَاغُضُ وَالتَّعَادِي، وَذَلِكَ يَحْمِلُ الْمَرْأَةَ عَلَى إِيذَاءِ الْوَلَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيذَاءَ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا رُبَّمَا رَغِبَتْ فِي التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِقْدَامَهَا عَلَى إِهْمَالِ أَمْرِ الطِّفْلِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا لَا جَرَمَ نَدَبَ اللَّهُ الْوَالِدَاتِ الْمُطَّلَقَاتِ إِلَى رِعَايَةِ جَانِبِ الْأَطْفَالِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ، فَقَالَ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وَالْمُرَادُ الْمُطَلَّقَاتُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، قَالَ: الْمُرَادُ بِالْوَالِدَاتِ الْمُطَّلَقَاتُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ ذَلِكَ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ لَا لِأَجْلِ الرَّضَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ تَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَعَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَسْتَحِقَّ/ الْمَرْأَةُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ لِمَكَانِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَدْرًا آخَرَ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الزَّوْجَاتِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةُ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ تُرْضِعْ فَمَا وَجْهُ تَعْلِيقِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ بِالْإِرْضَاعِ.
قُلْنَا: النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ يَجِبَانِ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ، فَإِذَا أُشْغِلَتْ بِالْحَضَانَةِ وَالْإِرْضَاعِ لَمْ تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا تَسْقُطُ بِالْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي خِدْمَةِ الزَّوْجِ فَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِإِيجَابِ الرِّزْقِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ خَبَرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى أَمْرٌ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ:
تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يُرْضِعْنَ: لِيُرْضِعْنَ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ ذَلِكَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْكَلَامِ مَعَ زَوَالِ الْإِيهَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطَّلَاقِ: ٦] وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ لَمَا اسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطَّلَاقِ: ٦] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة: ٢٣٣] وَالْوَالِدَةُ قَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَةً فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ رِزْقِهَا عَلَى الْوَالِدِ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِرْضَاعِ، فَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا عَلَيْهَا لَمَا وَجَبَ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْبَحْثُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِرْضَاعَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمِّ فَهَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَرْبِيَةَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ الْأُمِّ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَلْبَانِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ شَفَقَةَ الْأُمِّ عَلَيْهِ أَتَمُّ مِنْ شَفَقَةِ غَيْرِهَا هَذَا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَالُ فِي الْوَلَدِ إِلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُ الْأُمِّ، أَوْ لَا يَرْضَعَ الطِّفْلُ إِلَّا مِنْهَا، فَوَاجِبٌ عَلَيْهَا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْضِعَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُوَاسَاةُ الْمُضْطَرِّ فِي الطَّعَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ الْحَوْلِ مِنْ حَالَ الشَّيْءُ يَحُولُ إِذَا انْقَلَبَ فَالْحَوْلُ مُنْقَلِبٌ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْكَمَالُ لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ أَقَامَ فُلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا حَوْلَيْنِ أَوْ شَهْرَيْنِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ حَوْلًا وَبَعْضَ الْآخَرِ، وَيَقُولُونَ: الْيَوْمُ يَوْمَانِ مُذْ لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ/ يَوْمًا وَبَعْضَ الْيَوْمِ الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ التَّحْدِيدُ بِالْحَوْلَيْنِ تَحْدِيدَ إِيجَابٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فَلَمَّا عَلَّقَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِإِرَادَتِنَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِتْمَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا التَّحْدِيدِ إِيجَابَ هَذَا الْمِقْدَارِ، بَلْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ قَطْعُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا تَنَازَعَا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَوْلَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَا إِلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَفْطِمَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ تَرْضَ الْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يَفْطِمَا الْوَلَدَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَلَهُمَا ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا التَّحْدِيدِ هُوَ أَنَّ لِلرِّضَاعِ حُكْمًا خَاصًّا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا التَّحْدِيدِ بَيَانُ أَنَّ الِارْتِضَاعَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَا يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شهرا.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ هُوَ التَّمَامُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الصَّبِيِّ إِلَى ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَمَا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّبَنِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، فَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِضَعْفٍ فِي تَرْكِيبِهِ لِأَنَّ الْأَطْفَالَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّمَامِ هَذَا الْمَعْنَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّضَاعِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّضَاعِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْإِرْضَاعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ»
وَقَالَ تَعَالَى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لُقْمَانَ: ١٤].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ».
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْمَقْصُودِ من هذا التحديد ما روى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِلَّتِي تَضَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِنَّهَا تُرْضِعُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فَإِنْ وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَوْلَانِ هَذَا الْحَدُّ فِي رَضَاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ:
١٥] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ زَمَانَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ/ الزَّمَانِ، فَكَمَا ازْدَادَ فِي مُدَّةِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ انْتَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْحَالَةِ الْأُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ جَارِيَةً بِكْرًا وَمَا رَأَيْتُ بِهَا رِيبَةً، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَقَالَ تَعَالَى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ الْوَلَدُ وَلَدُكَ،
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَشَاوَرَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ خَصَمْتُكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُمَا أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ وَقُرِئَ الرِّضَاعَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: هَذَا الْحُكْمُ لِمَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ الرَّضَاعَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، ثُمَّ أَنْزَلَ الْيُسْرَ وَالتَّخْفِيفَ فَقَالَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَوَّزَ النُّقْصَانَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: يُرْضِعْنَ كَمَا تَقُولُ: أَرْضَعَتْ فُلَانَةُ لِفُلَانٍ وَلَدَهُ، أَيْ يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْإِرْضَاعَ مِنَ الْآبَاءِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِرْضَاعُ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوْلُودِ لَهُ هُوَ الْوَالِدُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ صاحب
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ | مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ |
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»
فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ لِلرَّجُلِ وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِهِ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ وَاللَّحَاقِ مُجَرَّدُ هَذَا الْقَدْرِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قيل في تفسير قوله: ابْنَ أُمَ
[طه: ٩٤] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْأُمَّ مُشْفِقَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ الْأُمِّ تَذْكِيرُ الشَّفَقَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا ذَكَرَ الْوَالِدَ بِلَفْظِ الْمَوْلُودِ لَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إِنَّمَا وُلِدَ لِأَجْلِ الْأَبِ، فَكَانَ نَقْصُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَرِعَايَةُ مَصَالِحِهِ لَازِمَةً لَهُ، كَمَا قِيلَ: كَلِمَةٌ لَكَ، وَكَلِمَةٌ عَلَيْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الطِّفْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الْأُمِّ حَتَّى تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى رِعَايَةِ/ مَصْلَحَةِ الطِّفْلِ فَأَمَرَهُ بِرِزْقِهَا وَكِسْوَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا بِشَرْطٍ وَعَقْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَحْدُودٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ بِمَا يَكْفِيهَا فِي طَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا، فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ لَحِقَهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فَضَرَرُهَا يَتَعَدَّى إِلَى الْوَلَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ الطِّفْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَتِهِ ثَانِيًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ احْتِيَاجَ الطِّفْلِ إِلَى رِعَايَةِ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى رِعَايَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ رِعَايَةِ الْأُمِّ وَاسِطَةٌ الْبَتَّةَ، أَمَّا رِعَايَةُ الْأَبِ فَإِنَّمَا تَصِلُ إِلَى الطِّفْلِ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَحَضَانَتِهِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّ الْأَبِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُطَابِقَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّكْلِيفُ: الْإِلْزَامُ، يُقَالُ: كَلَّفَهُ الْأَمْرَ فَتَكَلَّفَ وَكُلِّفَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْكَلْفِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ السَّوَادِ، فَمَعْنَى تَكَلَّفَ الْأَمْرَ اجْتَهَدَ أَنْ يُبَيِّنَ فِيهِ أَثَرَهُ وَكَلَّفَهُ أَلْزَمَهُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ، وَالْوُسْعُ مَا يَسَعُ الإنسان فيطيقه أَخْذَهُ، مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ أَيِ الْعَرَضِ، وَلَوْ ضَاقَ لَعَجَزَ عَنْهُ، وَالسِّعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ أَبَ هَذَا الصَّبِيِّ لَا يُكَلَّفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، لِأَنَّ الْوُسْعَ فِي اللُّغَةِ مَا تَتَّسِعُ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَلَا يَبْلُغُ اسْتِغْرَاقَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِلَّا ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ثُمَّ بَيَّنَ فِي النَّفَقَةِ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ إِمْكَانِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطَّلَاقِ: ٦، ٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ إِلَّا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، فَبِأَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ لَا تُضَارَّ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ إِنَّهُ نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّسَقَ بلا إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجُ الثَّانِي مِمَّا دَخَلَ فِيهِ الْأَوَّلُ نَحْوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا لَا عَمْرًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ زَيْدٌ لَا يَقْعُدُ عَمْرٌو، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّسَقِ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي النَّهْيِ كَمَا يُقَالُ: لَا يَضْرِبُ زَيْدٌ لَا تَقْتُلْ عُمْرًا وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فَأُدْغِمَتِ/ الرَّاءُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَفُتِحَتِ الثَّانِيَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ:
يُضَارِرُ رَجُلٌ زَيْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ التَّضْعِيفُ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى الرَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، فَصَارَ لَا تُضَارَّ، كَمَا تَقُولُ: لَا تَرْدُدْ ثُمَّ تُدْغِمُ فَتَقُولُ: لَا تَرُدَّ بالفتح قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا تُضَارَّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَرَأَ أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ (لا تضارر) مطهرة الرَّاءِ مَكْسُورَةً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ نَظَرًا لِحَالِ الْإِدْغَامِ الْوَاقِعِ فِي تُضَارَّ أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون أصله لا تضار بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْفَاعِلَةَ لِلضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا تُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَفْعُولَةَ بِهَا الضِّرَارُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ إِيصَالِ الضِّرَارِ إِلَى الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَمْتَنِعَ الْمَرْأَةُ مِنْ إِرْضَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْأَبَ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، فَتُلْقِي الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَعْنَاهُ: لَا تُضَارَرْ، أَيْ لَا يَفْعَلُ الْأَبُ الضِّرَارَ بِالْأُمِّ فَيَنْزِعَ الْوَلَدَ مِنْهَا مَعَ رغبتها في إمساكها وَشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا لَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أَيْ: وَلَا تَفْعَلُ الْأُمُّ الضِّرَارَ بِالْأَبِ بِأَنْ تُلْقِيَ الْوَلَدَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَيَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَغِيظَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ تُضَارَّ وَالْفِعْلُ لِوَاحِدٍ؟.
قُلْنَا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّ إِيذَاءَ مَنْ يُؤْذِيكَ أَقْوَى مِنْ إِيذَاءِ مَنْ لَا يُؤْذِيكَ وَالثَّانِي: لَا يُضَارُّ الْأُمُّ وَالْأَبُ بِأَنْ لَا تُرْضِعَ الْأُمُّ أَوْ يَمْنَعَهَا الْأَبُ وَيَنْزِعَهُ مِنْهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِضْرَارِ الْوَلَدِ إِضْرَارُ الْآخَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَارَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ إِسَاءَتَهَا إِلَى الْوَلَدِ بِتَرْكِ الرَّضَاعِ، وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ وَالْحِفْظِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَضَارِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْنَعَ الْوَالِدَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ وَهِيَ بِهِ أَرْأَفُ وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ أَوْ بِأَنْ يُسِيءَ الْعِشْرَةَ فَيَحْمِلَهَا ذَلِكَ عَلَى إِضْرَارِهَا بِالْوَلَدِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّهْيِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَلَدِ وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَذِكْرُ الْوَالِدَاتِ احْتَمَلَ فِي الْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ لَمْ يَدَعُوا وَجْهًا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا وَقَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ/ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْلُودَ لَهُ إِنْ مَاتَ فَعَلَى وَارِثِهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، يَعْنِي إِنْ مَاتَ الْمَوْلُودُ لَهُ لَزِمَ وَارِثَهُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي أَنْ يَرْزُقَهَا وَيَكْسُوَهَا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الْمَعْرُوفِ وَتَجَنُّبُ الضِّرَارِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى وَارِثِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ أَيْضًا وَارِثُهُ، أَدَّى إِلَى وُجُوبِ نفقته على غيره، حال ماله مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ وَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ مَالًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِتَعَهُّدِهِ وَيُنْفِقُ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْفَعُ الضِّرَارَ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُمْكِنُ إِيجَابُهَا عَلَى وَارِثِ الْأَبِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ كُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَاضِي، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ أَيُّ وَارِثٍ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْعَصَبَاتُ دُونَ الْأُمِّ، وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسُفْيَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالُوا: النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَقِيلَ: الْوَارِثُ مِمَّنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَضْلَ بَيْنَ وَارِثٍ وَوَارِثٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ اللَّفْظَ فَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيدَ كَالْقَرِيبِ، وَالنِّسَاءَ كَالرِّجَالِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأُمَّ خَرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مَرَّ ذِكْرُهَا بِإِيجَابِ الْحَقِّ لَهَا، لَصَحَّ أَيْضًا دُخُولُهَا تَحْتَ الْكَلَامِ، لأنها قد تكون وارث كَغَيْرِهَا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْوَارِثِ الْبَاقِي مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَجَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ: وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، أَيِ الْبَاقِيَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَجَمَاعَةٍ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَرَادَ بِالْوَارِثِ الصَّبِيَّ نَفْسَهُ الَّذِي هُوَ وَارِثُ أَبِيهِ الْمُتَوَفَّى فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَجَبَ أَجْرُ الرَّضَاعَةِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُجْبِرَتْ أُمُّهُ عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّبِيِّ إِلَّا الْوَالِدَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِثْلُ ذلِكَ فَقِيلَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مِنْ تَرْكِ الْإِضْرَارِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَقِيلَ: مِنْهُمَا عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفِصَالِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْفِطَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: ١٥] وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفِطَامُ بِالْفِصَالِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَنْفَصِلُ عَنْ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ فُصِلَ الْوَلَدُ عَنِ الْأُمِّ فَصْلًا وَفِصَالًا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ وَالْفِصَالُ/ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ إِذَا انْفَصَلَ مِنْ أُمِّهِ فَقَدِ انْفَصَلَتْ مِنْهُ، فَبَيْنَهُمَا فِصَالٌ نَحْوُ الْقِتَالِ وَالضِّرَابِ، وَسُمِّيَ الْفَصِيلُ فَصِيلًا لِأَنَّهُ مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ، وَيُقَالُ: فَصَلَ مِنَ الْبَلَدِ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ وَفَارَقَهُ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ [الْبَقَرَةِ:
٢٤٩] وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الْفِصَالِ هَاهُنَا عَلَى الْفِطَامِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ جَائِزٌ، وَبَعْدَهُ أَيْضًا جَائِزٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ لَمَّا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ كَانَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ.
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى الرَّضَاعِ وَيَضُرُّ بِهِ فَطْمُهُ كَمَا يَضُرُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ حُصُولَ الْمَضَرَّةِ فِي الْفِطَامِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ نَادِرٌ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْهُودِ وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
القول الثاني: في تفسير الفصال، وهو أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِصَالِ إِيقَاعُ الْمُفَاصَلَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ إِذَا حَصَلَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ إِلَى الْوَلَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّشَاوُرُ فِي اللُّغَةِ: اسْتِجْمَاعُ الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ وَالْمَشُورَةُ مَفُعْلَةٌ مِنْهُ كَالْمَعُونَةِ، وَشُرْتُ الْعَسَلَ اسْتَخْرَجْتُهُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَأَشَرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، وَالشَّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ، وَقَالُوا: شَوَّرْتُهُ فَتَشَوَّرَ، أَيْ خَجَّلْتُهُ، وَالشَّارَةُ هَيْئَةُ الرَّجُلِ، لِأَنَّهُ مَا يَظْهَرُ مِنْ زِيِّهِ وَيَبْدُو مِنْ زِينَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ، وَإِظْهَارُهُ لِلْمُخَاطَبِ بِالنُّطْقِ وَبِغَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ فِي أَقَلَّ مِنْ حَوْلَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَعِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ مَعَ أَرْبَابِ التَّجَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَمَلُّ مِنَ الرَّضَاعِ فَتُحَاوِلُ الْفِطَامَ وَالْأَبُ أَيْضًا قَدْ يَمَلُّ مِنْ إِعْطَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَقَدْ يُحَاوِلُ الْفِطَامَ دَفْعًا لِذَلِكَ، لَكِنَّهُمَا قَلَّمَا يَتَوَافَقَانِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ لِغَرَضِ النَّفْسِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ تَوَافُقِهِمَا اعْتُبِرَ الْمُشَاوَرَةُ مَعَ غَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَبْعُدُ أَنْ تَحْصُلَ مُوَافَقَةُ الْكُلِّ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْوَلَدِ، فَعِنْدَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَضُرُّهُ الْبَتَّةَ فَانْظُرْ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمْ شَرَطَ فِي جَوَازِ إِفْطَامِهِ مِنَ الشَّرَائِطِ دَفْعًا لِلْمَضَارِّ عَنْهُ، ثُمَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ كُلِّ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَمْ يُصَرِّحْ بالإذن/ بل قال: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ ضَعْفًا كَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ معه أكثر وعناية به أشد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الْأُمِّ وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِالرَّضَاعِ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِهَا ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَرْضَعَ مَنْقُولٌ مِنْ أَرْضَعَ، يُقَالُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ وَاسْتَرْضَعَهَا الصَّبِيُّ، فَتُعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْجَحَ الْحَاجَةَ وَاسْتَنْجَحَتْهُ الْحَاجَةُ وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَنْجَحْتُ الْحَاجَةَ وَلَا تَذْكُرُ مَنِ اسْتَنْجَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ آخِرُهُمَا عِبَارَةً عَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ وَحَذَفَ اللَّامَ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَوْلَادِ، وَلَا يَجُوزُ دَعَوْتُ زَيْدًا وَأَنْتَ تُرِيدُ لِزَيْدٍ، لِأَنَّهُ تَلْبِيسٌ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي الِاسْتِرْضَاعِ، وَنَظِيرُ حَذْفِ اللَّامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ [الْمُطَفِّفِينَ: ٣] أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاعِ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، مِنْهَا مَا إِذَا تَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَقِيَامُهَا بِحَقِّ ذَلِكَ الزَّوْجِ يَمْنَعُهَا عَنِ الرَّضَاعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَكْرَهُ الرَّضَاعَ حَتَّى يَتَزَوَّجَ بِهَا زَوْجٌ آخر، ومنها أن تأتي الْمَرْأَةُ قَبُولَ الْوَلَدِ إِيذَاءً لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَإِيحَاشًا لَهُ، وَمِنْهَا أَنْ تَمْرَضَ أَوْ يَنْقَطِعَ لَبَنُهَا، فَعِنْدَ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِذَا وَجَدْنَا مُرْضِعَةً أُخْرَى وَقَبِلَ الطِّفْلُ لَبَنَهَا جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ نَجِدْ مُرْضِعَةً أُخْرَى، أَوْ وَجَدْنَاهَا وَلَكِنَّ الطِّفْلَ لَا يقبل لبنها فههنا الْإِرْضَاعُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ مَا آتَيْتُمْ مَقْصُورَةَ الْأَلِفِ، وَالْبَاقُونَ مَا آتَيْتُمْ مَمْدُودَةَ الْأَلِفِ، أَمَّا الْمَدُّ فَتَقْدِيرُهُ: مَا آتَيْتُمُوهُ الْمَرْأَةَ أَيْ أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ وَأَمَّا الْقَصْرُ فَتَقْدِيرُهُ: مَا آتيتم/ به، فحذف المفعولان فِي الْأَوَّلِ وَحَذَفَ لَفْظَةَ بِهِ فِي الثَّانِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ مَا آتَاكُمُ اللَّهُ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الْحَدِيدِ: ٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ التَّسْلِيمُ شَرْطًا لِلْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ إِلَى الْأَوْلَى وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَسْلِيمَ الْأُجْرَةِ إِلَى الْمُرْضِعَةِ يَدًا بِيَدٍ حَتَّى تَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ رَاضِيَةً فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِصَلَاحِ حَالِ الصَّبِيِّ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي مَصَالِحِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّحْذِيرِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
الحكم الثالث عشر عدة الوفاة
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُتَوَفَّوْنَ مَعْنَاهُ يَمُوتُونَ وَيُقْبَضُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ:
٤٢] وَأَصْلُ التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا كَامِلًا، فَمَنْ مَاتَ فَقَدْ وَجَدَ عُمُرَهُ وَافِيًا كَامِلًا، وَيُقَالُ: تُوُفِّيَ فُلَانٌ، وَتَوَفَّى إِذَا مَاتَ، فَمَنْ قَالَ: تُوُفِّيَ كَانَ مَعْنَاهُ قُبِضَ وَأُخِذَ وَمَنْ قَالَ: تَوَفَّى. كَانَ مَعْنَاهُ تَوَفَّى أجله واستوفى أكله وَعُمُرَهُ وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَفَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ مَعْنَاهُ: يَتْرُكُونَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَاضِي وَلَا الْمَصْدَرُ اسْتِغْنَاءً عنه يترك تركا،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَبَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي خَبَرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُضَافَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ وَالثَّانِي: وَهُوَ/ قَوْلُ الْأَخْفَشِ التَّقْدِيرُ:
يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ أُسْقِطَ لِظُهُورِهِ كَقَوْلِهِ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشُّورَى: ٤٣] وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُوَن أَزْوَاجًا، أَزْوَاجُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ، قَالَ: وَإِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: ٧٢] يَعْنِي هُوَ النَّارُ، وَقَوْلُهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُفَ: ١٨].
فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ هَاهُنَا مُبْتَدَأً مُضَافًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا بَلْ شَيْئَانِ، وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُ الْمُضْمَرُ فِيهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ.
قُلْنَا: كَمَا وَرَدَ إِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ الْمُفْرَدِ، فَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا إِضْمَارُ الْمُبْتَدَأِ الْمُضَافِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٦، ١٩٧] وَالْمَعْنَى: تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ مُبْتَدَأٌ، إِلَّا أَنَّ الْغَرَضَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ هَاهُنَا بِبَيَانِ حُكْمٍ عَائِدٍ إِلَيْهِمْ، بَلْ بِبَيَانِ حُكْمٍ عَائِدٍ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ خَبَرًا، وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَجِيءَ الْمُبْتَدَأِ بِدُونِ الْخَبَرِ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّرَبُّصِ، وَبَيَّنَّا الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِنَّ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ خَبَرًا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الْأَمْرُ، وَبَيِّنَّا الْفَائِدَةَ فِي العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَشْراً مَذْكُورٌ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَذَكَرُوا فِي الْعُذْرِ عَنْهُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: تَغْلِيبُ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ وَذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّهْرِ يَكُونُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيَالِي هِيَ الْأَوَائِلَ غُلِّبَتْ، لِأَنَّ الْأَوَائِلَ أَقْوَى مِنَ الثَّوَانِي، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يَقُولُونَ صُمْنَا خَمْسًا مِنَ الشَّهْرِ، فَيُغَلِّبُونَ اللَّيَالِيَ عَلَى الْأَيَّامِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرُوا الْأَيَّامَ، فَإِذَا أَظْهَرُوا الْأَيَّامَ قَالُوا صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ تُسَمَّى بِاللَّيَالِي عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِمْ: خَرَجْنَا لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، وَجِئْنَا لَيَالِيَ إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُدَّةُ، مَعْنَاهُ وَعَشْرُ مُدَدٍ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ كُلُّ مُدَّةٍ مِنْهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٍ الرَّابِعُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِذَا انْقَضَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، فَيَتَأَوَّلُ الْعَشَرَةَ بِاللَّيَالِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَدَّ الْعِدَّةَ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زوجها إلا في صورتين أحدهما: أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَتَمَسَّكَ
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَمْلَ حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ بِسَاعَةٍ،
وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَتَرَبَّصُ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: ٤] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ لَا يُتَوَفَّى، كَمَا أَنَّ الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا وَقَدْ لَا تَكُونُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ جَعْلُ إحدى الآيتين مخصصة للأخرى الثاني: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ إِنَّمَا وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: هِيَ فِي الْمُطَلَّقَةِ لَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. فَلِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ لَمْ يُعَوِّلِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ أن سبيعة بنت الحرث الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، فَلَمَّا طَهُرَتْ مِنْ دَمِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ النَّاسِ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، فَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي،
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الأصل فههنا تَفَارِيعُ الْأَوَّلُ: لَا فَرْقَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهَذَا قَوْلٌ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: إِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَرَ عَادَتَهَا مِنَ الْحَيْضِ فِيهَا وَقَالَ مَالِكٌ:
لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَرَى عَادَتَهَا مِنَ الْحَيْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، مَثَلًا إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَعَلَيْهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَرْبَعُ حِيَضٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ مَرَّةً فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً فَعَلَيْهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ مرة فههنا تَكْفِيهَا الشُّهُورُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزيد عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا إِنِ ارْتَابَتِ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ لَوِ ارْتَابَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَاطَ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ شَهْرِ الْوَفَاةِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَالشَّهْرُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يُؤْخَذُ بِالْأَهِلَّةِ سَوَاءٌ خَرَجَتْ كَامِلَةً أَوْ نَاقِصَةً، ثُمَّ تُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْخَامِسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَضُمُّ إِلَيْهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ اعْتُبِرَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَهِلَّةِ وَكُمِّلَ الْعَشْرُ مِنَ الشَّهْرِ السَّادِسِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَإِنَّهُ أَبَى نَسْخَهَا، وَسَنَذْكُرُ كَلَامَهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّقَدُّمُ فِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ سَبَبُهَا الْوَفَاةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْوَفَاةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَمْ تَعْلَمْ بِوَفَاةِ زَوْجِهَا لَا تَعْتَدُّ بِانْقِضَاءِ الْأَيَّامِ فِي الْعِدَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ هَذَا التَّرَبُّصَ، وَالْقَصْدُ إِلَى التَّرَبُّصِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا السَّبَبُ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ أَكْثَرُهَا ثُمَّ بَلَغَهَا خَبَرُ وَفَاةِ الزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِمَا انْقَضَى، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا يَكْفِي فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا انْقِضَاءُ هَذِهِ الْمُدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ تَرَبُّصِهَا بِنَفْسِهَا الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فِيهِ: وَالِامْتِنَاعُ عَنِ التَّزَيُّنِ وَهَذَا اللَّفْظُ كَالْمُجْمَلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ فِي أَيِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ فَوَاجِبٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا تَرْكُ التَّزَيُّنِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لِمَا
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي حِلَّ الْإِحْدَادِ لَا وُجُوبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَلَبَّثِي ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ».
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْعَامِلِينَ بِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَالْمَعْنَى إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ الَّتِي هِيَ أَجَلُ الْعِدَّةِ فَلَا جُنَاحَ/ عَلَيْكُمْ قِيلَ الْخِطَابُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْعَقْدَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ إِنْ تَزَوَّجْنَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُنَّ عَنْ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ، فَإِنْ عَجَزَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالسُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اشْتِمَالُ فَرْجِهَا عَلَى مَاءِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ: لَا جُنَاحَ عَلَى النِّسَاءِ وَعَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ مَا يَحْسُنُ عَقْلًا وَشَرْعًا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَلَالُ مِنَ التَّزَوُّجِ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّهْدِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا تَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ بِفِعْلِهِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْغَيْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَتِمُّ بِالْمَرْأَةِ وَحْدَهَا مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّطَيُّبِ وَغَيْرِهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، قَالُوا: إِنَّهَا إِذَا زوجت
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
الحكم الرابع عشر في خطبة النساء
[قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إلى قوله إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّعْرِيضُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُضَمِّنَ كَلَامَهُ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ/ عَلَى مَقْصُودِهِ وَيَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى غَيْرِ مَقْصُودِهِ إِلَّا أَنَّ إِشْعَارَهُ بِجَانِبِ الْمَقْصُودِ أَتَمُّ وَأَرْجَحُ وَأَصْلُهُ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ كَأَنَّهُ يَحُومُ حَوْلَهُ وَلَا يُظْهِرُهُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَلِذَلِكَ قَالُوا:
وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا
وَالتَّعْرِيضُ قَدْ يُسَمَّى تَلْوِيحًا لِأَنَّهُ يَلُوحُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ، كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا يَحْتَمِلُ مَقْصُودَكَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ مَقْصُودِكَ إِلَّا أَنَّ قَرَائِنَ أَحْوَالِكَ تُؤَكِّدُ حَمْلَهُ عَلَى مَقْصُودِكَ، وَأَمَّا الْخِطْبَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطْبَةُ مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْخَطْبِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ: إنه لحسن الْقَعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ تُرِيدُ الْقُعُودَ وَالْجُلُوسَ وَفِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَطْبَ هُوَ الْأَمْرُ، وَالشَّأْنُ يُقَالُ: مَا خَطْبُكَ، أَيْ مَا شَأْنُكَ، فَقَوْلُهُمْ: خَطَبَ فُلَانٌ فُلَانَةَ، أَيْ سَأَلَهَا أَمْرًا وَشَأْنًا فِي نَفْسِهَا الثَّانِي: أَصْلُ الْخِطْبَةِ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خِطْبَةً لِأَنَّهُ خَاطِبٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَخَطَبَ خُطْبَةً أَيْ خَاطَبَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعْظِ وَالْخَطْبُ: الْأَمْرُ الْعَظِيمُ، لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى خِطَابٍ كَثِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النِّسَاءُ فِي حُكْمِ الْخِطْبَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: الَّتِي تَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالْعِدَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَيْفَ لَا تَجُوزُ خِطْبَتُهَا، بَلْ يُسْتَثْنَى عَنْهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَا
رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَخْطُبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»
ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا لَكِنْ فِيهِ ثلاثة أحوال.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحُ الْإِجَابَةِ وَلَا صَرِيحُ الرَّدِّ لِلشَّافِعِيِّ هَاهُنَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ خِطْبَتُهَا، لِأَنَّ السُّكُوتَ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَقَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ السُّكُوتَ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّضَا لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ الرَّغْبَةُ حَاصِلَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْخِطْبَةُ الثَّانِيَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الرَّغْبَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّتِي لَا تَجُوزُ خِطْبَتُهَا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ لِأَنَّ خِطْبَتَهُ إِيَّاهَا رُبَّمَا صَارَتْ سَبَبًا لِتَشْوِيشِ الْأَمْرِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَلِمَتْ رَغْبَةَ الْخَاطِبِ فَرُبَّمَا حَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَأْدِيَةِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، وَالتَّسَبُّبُ إِلَى هذا حرام، وكذا/ الرجعة فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَنْكُوحَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهَا وَظِهَارُهَا وَلِعَانُهَا، وَتَعْتَدُّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَيَتَوَارَثَانِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُفَصَّلَ فِي حَقِّهَا بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ وَهِيَ الْمُعْتَدَّةُ غَيْرُ الرَّجْعِيَّةِ وَهِيَ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الَّتِي تَكُونُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَتَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، أَمَّا جَوَازُ التَّعْرِيضِ فَلِقَوْلِهِ تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا خَصَّصَ التَّعْرِيضَ بِعَدَمِ الْجُنَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ النِّكَاحِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهَا الْحِرْصُ عَلَى النِّكَاحِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَوَانِهَا بِخِلَافِ التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَدْعُوهَا ذَلِكَ إِلَى الْكَذِبِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُعْتَدَّةُ عَنِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْأُمِّ» : وَلَا أُحِبُّ التَّعْرِيضَ لِخِطْبَتِهَا، وَقَالَ فِي «الْقَدِيمِ» وَ «الْإِمْلَاءِ» : يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي النِّكَاحِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُعْتَدَّةَ عَنِ الْوَفَاةِ وَجْهُ الْمَنْعِ هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنِ الْوَفَاةِ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْخِطْبَةِ الْخِيَانَةُ فِي أَمْرِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِالْأَشْهُرِ أَمَّا هَاهُنَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الْخِيَانَةُ بِسَبَبِ رَغْبَتِهَا فِي هَذَا الْخَاطِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْخِيَانَةِ هِيَ أَنْ تُخْبِرَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَائِنُ الَّتِي يَحِلُّ لِزَوْجِهَا نِكَاحُهَا فِي عِدَّتِهَا، وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالَّتِي انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِعَيْبٍ أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لِزَوْجِهَا التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ فَالتَّصْرِيحُ أَوْلَى وَأَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّصْرِيحُ وَفِي التَّعْرِيضِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا فَلَمْ يَحِلَّ التَّعْرِيضُ لَهَا كَالرَّجْعِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالتَّعْرِيضُ كَثِيرٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، أَوْ مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟ أَوْ لَسْتِ بِأَيِّمٍ وإذا حَلَلْتِ فَأَدْرِينِي، وَذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ: إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ وَإِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، وَإِنَّكِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِكْنَانَ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ قَالَ الْفَرَّاءُ: لِلْعَرَبِ فِي أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ سَتَرْتُهُ لُغَتَانِ: كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ فِي الْكِنِّ وَفِي النفس بمعنى، ومنه: ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ [النمل:
٧٤]، وبَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٩] وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: كَنَنْتُ الشَّيْءَ إِذَا صُنْتَهُ حَتَّى لَا تُصِيبَهُ آفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا يُقَالُ: دُرٌّ مَكْنُونٌ، وَجَارِيَةٌ مَكْنُونَةٌ، وَبَيْضٌ مَكْنُونٌ، مَصُونٌ عَنِ التَّدَحْرُجِ وَأَمَّا أَكْنَنْتُ فَمَعْنَاهُ أَضْمَرْتُ، وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ وَيَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، / وَهُوَ ضِدُّ أَعْلَنْتُ وَأَظْهَرْتُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ لِلْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَا فِيمَا يُضْمِرُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا فَلَمَّا قَدَّمَ جَوَازَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ جَارِيًا مَجْرَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ.
قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَ التَّعْرِيضَ وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى إِبَاحَةٌ لِلتَّعْرِيضِ فِي الْحَالِ، وَتَحْرِيمٌ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَالِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ إِبَاحَةٌ لِأَنْ يَعْقِدَ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَبَاحَ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ إِذَا حَصَلَتْ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَكَادُ يَخْلُو ذَلِكَ الْمُشْتَهِي مِنَ الْعَزْمِ وَالتَّمَنِّي، فَلَمَّا كَانَ دَفْعُ هَذَا الْخَاطِرِ كَالشَّيْءِ الشَّاقِّ أَسْقَطَ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا الْحَرَجَ وَأَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَيْنَ الْمُسْتَدْرَكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا الْجَوَابُ: هُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ سَتَذْكُرُونَهُنَّ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى السِّرِّ؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ السِّرَّ ضِدُّ الْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السر هاهنا صفة المواعدة على معنى: وَلَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعَدَةً سِرِّيَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى مَعْنَى وَلَا تُواعِدُوهُنَّ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ مَوْصُوفًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ سِرًّا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَظْهَرُ التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْمُوَاقَعَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهِ السِّرِّ لَا تَنْفَكُّ ظَاهِرًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُوَاعَدَةً بِشَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَهَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُوَاعِدَهَا فِي السِّرِّ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذْنٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَآخِرَ الْآيَةِ مَنْعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ الثَّانِي:
أَنْ يُوَاعِدَهَا بِذِكْرِ الْجِمَاعِ وَالرَّفَثِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ تَعَالَى لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الْأَحْزَابِ: ٣٢] أَيْ لَا تَقُلْنَ مِنْ أَمْرِ الرَّفَثِ شَيْئًا فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الْأَحْزَابِ: ٣٢] الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا بِالزِّنَا طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُوَاعَدَةَ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِطْلَاقِ فحمل الكلام مَا يُخَصُّ بِهِ الْخَاطِبُ حَالَ الْعِدَّةِ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ: رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهُوَ يُعَرِّضُ بِالنِّكَاحِ فَيَقُولُ لَهَا: دَعِينِي أُجَامِعْكِ فَإِذَا أَتْمَمْتِ عِدَّتَكِ أَظْهَرْتُ نِكَاحَكِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ/ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُسَارَّ الرَّجُلُ
أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا السِّرَّ عَلَى الْمَوْعُودِ بِهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: السِّرُّ الْجِمَاعُ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَأَنْ لَا يَشْهَدَ السِّرَّ أَمْثَالِي
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مَوَانِعُ لِلْأَسْرَارِ إِلَّا مِنْ أَهْلِهَا | وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الْغَيُورُ الْمُشْغَفُ |
الْمُرَادُ لَا يَصِفُ نَفْسَهُ لَهَا فَيَقُولُ: آتِيكِ الْأَرْبَعَةَ وَالْخَمْسَةَ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السِّرِّ النِّكَاحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُسَمَّى سِرًّا وَالنِّكَاحُ سَبَبُهُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ جَائِزٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بِأَيِّ شَيْءٍ عَلَّقَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْمُسَارَّةِ مَعَهَا دفعا للريبة والغيبة استثنى عنه أَنْ يُسَارِرَهَا بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعِدَهَا فِي السِّرِّ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا، وَالتَّكَفُّلِ بِمَصَالِحِهَا، حَتَّى يَصِيرَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْجَمِيلَةِ مؤكدا لذلك التعريض والله أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
اعلم أن لَفْظِ الْعَزْمِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَزْمًا عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ بِحَرْفِ عَلَى فَيُقَالُ: فُلَانٌ عَزَمَ عَلَى كَذَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْحَذْفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَاسُ، فَعَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ أَنْ تُقَدِّرُوهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعَزْمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْعَزْمِ فَلَأَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُتَأَكَّدًا عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَزْمُ عِبَارَةً عَنِ الْإِيجَابِ، يُقَالُ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ، أَيْ أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ وَيُقَالُ:
هَذَا مِنْ بَابِ الْعَزَائِمِ لَا مِنْ بَابِ الرُّخَصِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا»
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعَزْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِيجَابُ سَبَبُ الْوُجُودِ ظَاهِرًا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَفَادَ لَفْظُ الْعَزْمِ فِي الْوُجُودِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أَيْ لَا تُحَقِّقُوا ذَلِكَ وَلَا تُنْشِئُوهُ، وَلَا تَفْرَغُوا مِنْهُ فِعْلًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عُقْدَةَ النِّكاحِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ الشَّدُّ، وَالْعُهُودُ وَالْأَنْكِحَةُ تُسَمَّى عُقُودًا لِأَنَّهَا تُعْقَدُ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ فَفِي الْكِتَابِ وَجْهَانِ الْأَوَّل: الْمُرَادُ مِنْهُ: الْمَكْتُوبُ وَالْمَعْنَى:
تَبْلُغُ الْعِدَّةُ الْمَفْرُوضَةُ آخِرَهَا، وَصَارَتْ مُنْقَضِيَةً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ نَفْسُهُ فِي مَعْنَى الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] فَيَكُونُ الْمَعْنَى حَتَّى يَبْلُغَ هَذَا التَّكْلِيفُ آخِرَهُ وَنِهَايَتَه، وَإِنَّمَا حَسُنَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى: فَرَضَ، بِلَفْظِ كَتَبَ لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ يَقَعُ فِي النُّفُوسِ أَنَّهُ أَثْبَتُ وَآكَدُ وَقَوْلُهُ: حَتَّى هُوَ غَايَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُفِيدَ ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضُرِبَتْ لِلْحَظْرِ أَنْ تَقْتَضِيَ زَوَالَهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَجَبَ الْحَذَرُ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْوَعِيدِ الْوَعْدَ، فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
الْحُكْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ
اعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: الْمُطَلَّقَةُ الَّتِي تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَمَدْخُولًا بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ أَحْكَامَ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُنَّ عَلَى الْفِرَاقِ شَيْءٌ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُنَّ كَمَالَ الْمَهْرِ، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَا لَا يَكُونُ مَفْرُوضًا وَلَا مَدْخُولًا بِهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، وَأَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ بِالْمَعْرُوفِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ: الَّتِي يَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ عِدَّةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ، فَقَالَ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ [الْأَحْزَابِ: ٤٩].
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ: الَّتِي تَكُونُ مَدْخُولًا بِهَا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النِّسَاءِ: ٢٤] أَيْضًا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ دَالٌّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِالشُّبْهَةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَالْمَوْطُوءَةُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ، فَهَذَا
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ جَائِزٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ/ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّلَاثِ مِنْهَا فَيُقَالُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إِلَّا إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْجُنَاحُ، قَالُوا: وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، أَعْنِي حَالَ الْإِفْرَادِ وَحَالَ الْجَمْعِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَنَقُولُ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صَلِّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ وَصُمْ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُمَاسُّوهُنَّ بِالْأَلْفِ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْزَابِ وَالْبَاقُونَ تَمَسُّوهُنَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ بَدَنَ كُلِّ وَاحِدٍ يَمَسُّ بَدَنَ صَاحِبِهِ وَيَتَمَاسَّانِ جَمِيعًا وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] وَهُوَ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ:
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ عَلَى الْمَعْنَى بِفِعْلٍ دُونَ فَاعِلٍ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [الرَّحْمَنِ: ٥٦] وَكَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَسِّ: الْغِشْيَانُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الرَّجُلِ، وَيَدُلُّ في الآية الثانية على الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمَسِّ الْغِشْيَانُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الظِّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاسَّةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْجِمَاعِ وَهِيَ حَرَامٌ فِي الظِّهَارِ، وَبَعْضُ مَنْ قَرَأَ: تُمَاسُّوهُنَّ قَالَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى تَمَسُّوهُنَّ لأن فَاعَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ فَعَلَ، كَقَوْلِهِ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَهُوَ كَثِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ نَفْيَ الْجَنَاحِ عَنِ الْمُطَلِّقِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْمَسِيسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ الْمَسِيسِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ ثَابِتٍ
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بِمَعْنَى الَّذِي وَالتَّقْدِيرُ:
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تسموهن، إِلَّا أَنَّ (مَا) اسْمٌ جَامِدٌ لَا يَنْصَرِفُ، / وَلَا يَبِينُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَلَا الْعَدَدُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لَفْظُ (مَا) شَرْطًا، فَزَالَ السُّؤَالُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ مَا يَدُورُ حَوْلَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أَقُولُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجُنَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا مَهْرَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، بِمَعْنَى: لَا يَجِبُ الْمَهْرُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا فُقِدَا جَمِيعًا لَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ إِلَّا أَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ مَعْنَاهُ لَا مَهْرَ، فَنَقُولُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجُنَاحِ عَلَى الْمَهْرِ مُحْتَمَلٌ، وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْجَنَاحِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثِّقَلُ، يُقَالُ:
أَجْنَحَتِ السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ لِثِقَلِهَا وَالذَّنْبُ يُسَمَّى جَنَاحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٣] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنَاحَ هُوَ الثِّقَلُ، وَلُزُومُ أَدَاءِ الْمَالِ ثِقَلٌ فَكَانَ جُنَاحًا، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً نَفَى الْجُنَاحَ مَحْدُودًا إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ إِمَّا الْمَسِيسُ أَوِ الْفَرْضُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْجُنَاحُ عِنْدَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ إِنَّ الْجُنَاحَ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْجُنَاحَ الْمَنْفِيَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ الثَّانِي: أَنَّ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ قَبْلَ الْمَسِيسِ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ التقدير الْمَهْرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] ثُمَّ إِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَوْجَبَ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْمُقَابِلِ لِذَلِكَ الْقِسْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ الْمُثْبَتَ هَاهُنَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُثْبَتُ هَاهُنَا هُوَ لُزُومَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ هُوَ لُزُومُ الْمَهْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْسَامَ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا مَهْرَ إِلَّا عِنْدَ الْمَسِيسِ أَوْ عِنْدَ التَّقْدِيرِ، عُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا مَفْرُوضًا لَهَا لَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ، وَعُرِفَ أَنَّ الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَلَا تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَالَّتِي تَكُونُ مَفْرُوضًا لَهَا وَلَا تَكُونُ مَمْسُوسَةً يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمَهْرُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ مَمْسُوسَةً وَمَفْرُوضًا لَهَا، فَبَيَانُ حُكْمِهِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِالتَّمَامِ وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْكَلِمَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ جائز،
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِيسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدُّخُولُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا كَنَّى تَعَالَى بِقَوْلِهِ: تَمَسُّوهُنَّ عَنِ الْمُجَامَعَةِ تَأْدِيبًا لِلْعِبَادِ فِي اخْتِيَارِ أَحْسَنِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَتَخَاطَبُونَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَالْمَعْنَى يُقَدِّرُ لَهَا مِقْدَارًا مِنَ الْمَهْرِ يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ (أَوْ) هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيُرِيدُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيمَا لَخَّصْنَاهُ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مُتَكَلَّفٌ، بَلْ خَطَأٌ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَهْرَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَالتَّقْدِيرِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَهَا وَاجِبَةٌ، وَتَفْسِيرُ لَفْظِ الْمُتْعَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦].
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُطَلَّقَاتُ قِسْمَانِ، مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُنْظَرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَهَا الْمُتْعَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَا مُتْعَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَقِّهَا نِصْفَ الْمَهْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتْعَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَحَسْبُهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فُرِضَ لَهَا أَوْ لَمْ يُفْرَضْ، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ، فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي «الْقَدِيمِ» وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَالَ فِي «الْجَدِيدِ» :
بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَهُوَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَابْنِ عُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤١] وَقَالَ تَعَالَى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الْأَحْزَابِ: ٢٨] وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِسَاءٍ دَخَلَ بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ لَا بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ عِوَضٍ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْمُتْعَةَ وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ لِلْإِيحَاشِ بِالْفِرَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ/ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَتِّعُوهُنَّ وَظَاهِرُ الأمر للإيجاب، وقال: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ فَجَعَلَ مِلْكًا لَهُنَّ أَوْ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا الْفِعْلُ إِحْسَانٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دَيْنٍ فَأَدَّاهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: ٩١] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَدَلُّ عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فذكره بكلمة (على) هي لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: هَذَا حَقٌّ عَلَى فُلَانٍ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ النَّدْبُ بَلِ الْوُجُوبُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُوسِعِ الْغَنِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي سَعَةٍ مِنْ غِنَاهُ، يُقَالُ: أَوْسَعَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ مَالُهُ، وَاتَّسَعَتْ حَالُهُ، وَيُقَالُ: أَوْسَعَهُ كَذَا أَيْ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٤٧] وَقَوْلُهُ: قَدَرُهُ أَيْ قدر إمكانه وطلاقته، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْمُقْتِرُ الَّذِي فِي ضِيقٍ مِنْ فَقْرِهِ وَهُوَ الْمُقِلُّ الْفَقِيرُ، وَأَقْتَرَ إِذَا افْتَقَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَدَرُهُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَالْبَاقُونَ قَدَرُهُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقَدْرِ، يُقَالُ: قَدَّرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يُقَدِّرُونَهُ قَدْرًا، وَهَذَا قَدْرُ هَذَا، وَاحْمِلْ عَلَى رَأْسِكَ قَدْرَ مَا تُطِيقُ، وَقَدَّرَ اللَّهُ الرِّزْقَ يُقَدِّرُهُ وَيَقْدُرُهُ قَدْرًا، وَقَدَّرْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أُقَدِّرُهُ قَدْرًا، وَقَدَرْتُ عَلَى الْأَمْرِ أَقْدِرُ عَلَيْهِ قُدْرَةً، كُلُّ هَذَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْرِيكُ وَالتَّسْكِينُ، يُقَالُ: هُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدْرِ وَالْقَدَرِ، وَخَدَمْتُهُ بِقَدْرِ كَذَا وَبِقَدَرِ كَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرَّعْدِ: ١٧] وَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَلَوْ حُرِّكَ لَكَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الرَّعْدِ: ١٧] وَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَلَوْ حُرِّكَ لَكَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: ٤٩] وَلَوْ خُفِّفَ جَازَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُتْعَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهَا كَالنَّفَقَةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوسِعَ يُخَالِفُ الْمُقْتِرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ عَلَى الْمُوسِعِ خَادِمٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُقْتِرِ مِقْنَعَةٌ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ الْمُتْعَةِ خَادِمٌ وَأَقَلُّهَا مِقْنَعَةٌ، وَأَيُّ قَدْرٍ أَدَّى جَازَ فِي جَانِبَيِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُتْعَةُ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، قَالَ: لِأَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ أَحْسَنُ مِنْ حَالِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الزَّوْجِ فَقَطْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُتْعَةِ:
يُعْتَبَرُ حَالُ الرَّجُلِ، وَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ حَالُهَا، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حَالِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَتاعاً تَأْكِيدٌ لِمَتِّعُوهُنَّ، يَعْنِي: مَتِّعُوهُنَّ تمتعا بالمعروف وحَقًّا صِفَةٌ لِمَتَاعًا أَيْ:
مَتَاعًا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، أَوْ حُقَّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَدَرُهُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَفِي سَبَبِ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْسِنَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بهذا
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، تَكَلَّمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ/ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ، وَيَعْنِي بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ: أَنْ يَخْلُوَ بِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ حِسِّيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ، فَالْحِسِّيُّ نَحْوُ: الرَّتْقُ وَالْقَرْنُ وَالْمَرَضُ، أَوْ يَكُونُ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا، وَالشَّرْعِيُّ نَحْوُ، الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ يُوجِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ وَهَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ.
بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَيْسَ كَلَامًا تَامًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ آخَرَ لِيَتِمَّ الْكَلَامُ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ سَاقِطٌ، أَوْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ إِنْ عُدِمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ظَاهِرًا، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ قَبْلَهُ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى السُّقُوطِ، عَمِلْنَا بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ قَبْلَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ ثُبُوتِ النِّصْفِ قَائِمَةً لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ الْكُلِّ مُقْتَضٍ أَيْضًا لِوُجُوبِ النِّصْفِ إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَيَانُ سُقُوطِ النِّصْفِ، لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْكُلِّ كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ وُجُوبَ الْكُلِّ، فَكَانَ سُقُوطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى بَيَانِ السُّقُوطِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى بَيَانِ الْوُجُوبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ إِيتَاءِ كُلِّ الْمَهْرِ قَدْ تَقَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: ١٢٩] فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وُجُوبِ النِّصْفِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَبْلَ الْمَسِيسِ يُنَاسِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُنَاسِبُ وُجُوبَ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَا يُنَاسِبُ السُّقُوطَ، لَا مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَانَ إِضْمَارُ السُّقُوطِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ:
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ وَاجِبٌ، وَتَخْصِيصُ النِّصْفِ بِالْوُجُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ الْآخَرِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَانَ غَرَضُنَا مِنْ هَذَا الِاسْتِقْصَاءِ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ.
بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ أَنَّ هَاهُنَا وُجِدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ إِمَّا حقيقة المس
وَجَوَابُنَا عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا عَامَّةٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وَالتَّقْدِيرُ: طَلَّقْتُمُوهُنَّ حَالَ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ مِنْ يَعْفُونَ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ (أَنْ) النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ لِأَنَّ يَعْفُونَ فِعْلُ النِّسَاءِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْجَزْمُ، وَالنُّونُ فِي يَعْفُونَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى النِّسَاءِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الرِّجَالِ فَالنُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، كَمَا لَمْ تَسْقُطِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَالسَّاقِطُ فِي يَعْفُونَ إِذَا كَانَ لِلرِّجَالِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فِي يَعْفُونَ لَا الْوَاوُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُطَالِبْنَهُمْ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ:
مَا رَآنِي وَلَا خَدَمْتُهُ، وَلَا اسْتَمْتَعَ بِي فَكَيْفَ آخُذُ مِنْهُ شيئا.
أما قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ وَعَلْقَمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنَّ يَهَبَ مَهْرَ مُوَلِّيَتِهِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي بِيَدِ الْوَلِيِّ هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، فَإِذَا عُقِدَ حَصَلَتِ الْعُقْدَةُ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْفُعْلَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالْأُكْلَةِ وَاللُّقْمَةِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَالْعَقْدُ كَالْأَكْلِ وَاللَّقْمِ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُقْدَةَ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي يَدِ الزَّوْجِ لَا فِي يَدِ الْوَلِيِّ وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مَعْنَاهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ نِكَاحٍ ثَابِتٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: ٤٠] أَيْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى الثَّابِتِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَانَتِ الْجَنَّةُ ثَابِتَةً لَهُ، فَتَكُونُ مَأْوَاهُ الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَأَكْمَلَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ الْعَفْوَ الصَّادِرَ مِنَ الزَّوْجِ.
أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَلِيُّ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ صُدُورَ الْعَفْوِ عَنِ الزَّوْجِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ مُطْلَقًا وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْعَفْوَ الصَّادِرَ عَنِ الْمَرْأَةِ هُوَ الْإِبْرَاءُ وَهَذَا عَفْوٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَّا الصَّادِرُ عَنِ الرَّجُلِ مَحْضُ الْهِبَةِ فَكَيْفَ يُسَمَّى عَفْوًا؟.
وَأَجَابُوا عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ هُوَ التَّسْهِيلَ لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَهَّلَ عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا يُقَالُ إِنَّهُ عَفَا عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَلِيُّ هُوَ أَنَّ ذِكْرَ الزَّوْجِ قَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَلَوْ كَانَ المراد بقوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هُوَ الزَّوْجَ، لَقَالَ: أَوْ تَعْفُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ الزَّوْجِ.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ سَبَبَ الْعُدُولِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ يَرْغَبُ الزَّوْجُ فِي الْعَفْوِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ الَّذِي حَبَسَهَا بِأَنْ مَلَكَ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا سَبَبٌ فِي الْفِرَاقِ وَإِنَّمَا فَارَقَهَا الزَّوْجُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَنْقُصَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَيُكْمِلَ لَهَا صَدَاقَهَا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ هُوَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِيَدِهِ الْبَتَّةَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ النِّكَاحِ كَانَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْكَاحِهَا الْبَتَّةَ وَأَمَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَقَدْ حَصَلَ النِّكَاحُ ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ النِّكَاحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْعَفْوَ لِمَنْ فِي يَدِهِ وَفِي قُدْرَتِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ لَهُ يَدٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ الزَّوْجَ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْكَاحِهَا، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْوَلِيَّ لَا الزَّوْجُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنْ دَلَائِلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هُوَ الزَّوْجُ.
أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَإِنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ تَارَةً عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَأُخْرَى عِنْدَ/ السَّبَبِ يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّسَاءَ إِنَّمَا يَرْجِعْنَ فِي مُهِمَّاتِهِنَّ وَفِي مَعْرِفَةِ مَصَالِحِهِنَّ إِلَى أَقْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ التَّزَوُّجِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخُوضُ فِيهِ، بَلْ تُفَوِّضُهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى رَأْيِ الْوَلِيِّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ حُصُولُ الْعَفْوِ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَبِسَعْيِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ أُضِيفَ الْعَفْوُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الَّذِي بِيَدِ الْوَلِيِّ عَقْدُ النِّكَاحِ لَا عُقْدَةُ النِّكَاحِ، قُلْنَا: الْعُقْدَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْعَقْدُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُقْدَةَ هِيَ الْمَعْقُودَةُ لَكِنَّ تِلْكَ الْمَعْقُودَةَ إِنَّمَا حصلت
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: فُلَانٌ فِي يَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالرَّفْعُ وَالْخَفْضُ فَلَا يراد به أن الذي في يده الأمر نَفْسِهِ وَنَهْيُ نَفْسِهِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ فِي يَدِهِ أَمْرَ غَيْرِهِ وَنَهْيَ غَيْرِهِ فَكَذَا هَاهُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا بِالْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أن المراد من قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ إِمَّا الزَّوْجُ، وَإِمَّا الْوَلِيُّ، وَبَطَلَ حَمْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الزَّوْجَ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَلِيِّ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ [الْكَافِرُونَ: ٦] أَيْ لَا لِغَيْرِكُمْ، فَكَذَا هَاهُنَا بِيَدِ الْوَلِيِّ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ الْغَلَبَةَ لِلذُّكُورِ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ الْإِنَاثِ، وَسَبَبُ التَّغْلِيبِ أَنَّ الذُّكُورَةَ أَصْلٌ وَالتَّأْنِيثَ فَرْعٌ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْمَعْنَى أَمَّا فِي اللَّفْظِ فَلِأَنَّكَ تَقُولُ: قَائِمٌ. ثُمَّ تُرِيدُ التَّأْنِيثَ فَتَقُولُ: قَائِمَةٌ. فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُذَكَّرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالدَّالُّ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْكَمَالَ لِلذُّكُورِ وَالنُّقْصَانَ لِلْإِنَاثِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَتَى اجْتَمَعَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَانَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ مُغَلَّبًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ (أَنْ) رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: عَفْوُ بَعْضِكُمْ عَنْ بَعْضٍ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ مَعْنَى التَّقْوَى وَإِنَّمَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ سَمَحَ بِتَرْكِ حَقِّهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَنْ كَانَ مُحْسِنًا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ نَفَى بِذَلِكَ الثَّوَابِ مَا هُوَ دُونَهُ من العقاب وأزاله والثاني: أن هذه الصُّنْعَ يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ مَنْ سَمَحَ بِحَقِّهِ وَهُوَ لَهُ مُعْرَضٌ تَقَرُّبًا إِلَى رَبِّهِ كَانَ أبعد من أن يظلم غيره يأخذ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنِ النِّسْيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْوُسْعِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْكُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَتْرُكُوا الْفَضْلَ وَالْإِفْضَالَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمَرْأَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِهِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأَذِّيهَا مِنْهُ، وَأَيْضًا إِذَا كُلِّفَ الرَّجُلُ أَنْ يَبْذُلَ لَهَا مَهْرًا مِنْ غَيْرِ أَنِ انْتَفَعَ بِهَا الْبَتَّةَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأَذِّيهِ مِنْهَا، فَنَدَبَ تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فِعْلٍ يُزِيلُ ذَلِكَ التَّأَذِّيَ عَنْ قَلْبِ الْآخَرِ، فَنَدَبَ الزَّوْجَ إِلَى أَنْ يُطَيِّبَ قَلْبَهَا بِأَنْ يُسَلِّمَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَنَدَبَ الْمَرْأَةَ إِلَى تَرْكِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)الْحُكْمُ السَّادِسَ عَشَرَ حُكْمُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصلاة الوسطى
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلْمُكَلَّفِينَ مَا بَيَّنَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِهِ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ شَرْعِهِ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ تُفِيدُ انْكِسَارَ الْقَلْبِ مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزَوَالَ التَّمَرُّدِ عَنِ الطَّبْعِ، وَحُصُولَ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْتِهَاءَ عَنْ مَنَاهِيهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ جَلَالَةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذِلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ وَأَمْرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الِانْقِيَادُ لِلطَّاعَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: ٤٥] وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ اشْتِغَالٌ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مَصَالِحُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ يَدُلُّ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَزْيَدَ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، / وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الزَّائِدُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةً، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهَا وُسْطَى، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ عَدَدٌ آخَرُ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَجْمُوعِ وَسَطٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةً، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوُسْطَى مَا تَكُونُ وُسْطَى فِي الْعَدَدِ لَا مَا تَكُونُ وُسْطَى بِسَبَبِ الْفَضِيلَةِ وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ أَرْبَعٌ:
الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الرُّومِ: ١٧، ١٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ آيَاتِ الْمَوَاقِيتِ فَقَوْلُهُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ أَيْ سَبِّحُوا اللَّهَ مَعْنَاهُ صَلُّوا لِلَّهِ حِينَ تُمْسُونَ، أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَحِينَ تُصْبِحُونَ أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَعَشِيًّا أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةَ الظُّهْرِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] أَرَادَ بِالدُّلُوكِ زَوَالَهَا فَدَخَلَ فِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، والعشاء، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: ١٣٠] فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَ غُرُوبِهَا، فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ دَاخِلَانِ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: ١١٤] فَالْمُرَادُ بِطَرَفَيِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِطِهَا، أَعْنِي طَهَارَةَ الْبَدَنِ، وَالثَّوْبِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ جَمِيعِ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَأَهَمُّ الْأُمُورِ فِي الصَّلَاةِ، رِعَايَةُ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] فَمَنْ أَدَّى الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَاةِ وَإِلَّا فَلَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَافَظَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، كَالْمُخَاصَمَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ، فَكَيْفَ الْمَعْنَى هَاهُنَا؟
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُحَافَظَةَ تَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: احْفَظِ الصَّلَاةَ لِيَحْفَظَكَ الْإِلَهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِالصَّلَاةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢]
وَفِي الْحَدِيثِ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظِ الصَّلَاةَ/ حَتَّى تَحْفَظَكَ الصَّلَاةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ الصَّلَاةِ لِلْمُصَلِّي عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] فَمَنْ حَفِظَ الصَّلَاةَ حَفِظَتْهُ الصَّلَاةُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالثَّانِي:
أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ، قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٣] وَقَالَ تَعَالَى:
وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ [الْمَائِدَةِ: ١٢] وَمَعْنَاهُ: إِنِّي مَعَكُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ إِنْ كُنْتُمْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُ صَاحِبَهَا وَتَشْفَعُ لِمُصَلِّيهَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٠] وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ، وَالْقُرْآنُ يَشْفَعُ لِقَارِئِهِ، وَهُوَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ
وَفِي الْخَبَرِ: «إِنَّهُ تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا عمامتان فَيَشْهَدَانِ وَيَشْفَعَانِ»
وَأَيْضًا
فِي الْخَبَرِ «سُورَةُ الْمُلْكِ تَصْرِفُ عَنِ الْمُتَهَجِّدِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَتُجَادِلُ عَنْهُ فِي الْحَشْرِ وَتَقِفُ فِي الصِّرَاطِ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَتَقُولُ لِلنَّارِ لَا سَبِيلَ لَكِ عَلَيْهِ»
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى سَبْعَةِ مَذَاهِبَ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَهَا بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيَانٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ قَاطِعٍ، أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ حَاصِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عَدَدَ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ لِأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا هِيَ الْوُسْطَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَيَانٌ حَصَلَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ، وَأَمَّا بَيَانُهُ بِالطَّرِيقِ الظَّنِّيِّ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُفِيدَ لِلظَّنِّ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى مَا هِيَ ثُمَّ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّهَا بِمَزِيدِ التَّوْكِيدِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْهَا جَوَّزَ الْمَرْءُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُؤَدِّيهَا أَنَّهَا هِيَ الْوُسْطَى فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى أَدَاءِ الْكُلِّ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَأَخْفَى
لَا قَالَ الرَّبِيعُ: فَإِنْ حَافَظْتَ عَلَيْهِنَّ فَقَدْ حَافَظْتَ عَلَى الْوُسْطَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: هِيَ مَجْمُوعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ هِيَ الْوُسْطَى مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ دَرَجَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ دُونَ الْإِيمَانِ وَفَوْقَ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَعُمْرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُصَلَّى فِي الْغَلَسِ فَأَوَّلُهَا يَقَعُ فِي الظَّلَامِ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَآخِرُهَا يَقَعُ فِي الضَّوْءِ فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ النَّهَارِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُؤَدَّى بَعْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ فِيهِ تَامَّةً، وَلَا يَكُونُ الضَّوْءُ أَيْضًا تَامًّا، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي النَّهَارِ التَّامِّ صَلَاتَانِ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَفِي اللَّيْلِ صَلَاتَانِ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ صَلَاتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَعَانِي حَاصِلَةٌ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قُلْنَا: إِنَّا نُرَجِّحُ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَلَى الْمَغْرِبِ بِكَثْرَةِ فَضَائِلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يُجْمَعَانِ بِعَرَفَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي السَّفَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا وَاحِدًا وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتًا وَاحِدًا، وَوَقْتُ الْفَجْرِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَحْقِيقُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ وَسَطٌ، إِذَا لَمْ يَمِلْ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، فَكَانَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مَشْهُودًا لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِحَضْرَةِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةِ النَّهَارِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالذِّكْرِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى مَزِيدِ فَضْلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا أَفْضَلُ بِتِلْكَ الْآيَةِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَ بِالتَّأْكِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَعَاقَبُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَا تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ قَدْ أَخَذَتْ بِطَرَفَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَكَانَتْ كَالشَّيْءِ الْمُتَوَسِّطِ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَرَنَ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِذِكْرِ الْقُنُوتِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَلَاةٌ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ الْقُنُوتُ فِيهَا إِلَّا الصُّبْحُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ السَّابِعُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَحْوَجُ/ الصَّلَوَاتِ إِلَى التَّأْكِيدِ، إِذْ ليس في
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى «لَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ»
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَثَانِيهَا: مَا
رُوِيَ فِيهَا أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى مِنْهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَذَانِ مَرَّتَيْنِ:
مَرَّةً قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَرَّةً أُخْرَى بَعْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى إِيقَاظُ النَّاسِ حَتَّى يَقُومُوا وَيَتَشَمَّرُوا لِلْوُضُوءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِأَسْمَاءٍ، فَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ:
٧٨] وَقَالَ فِي النُّورِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النُّورِ: ٥٨] وَقَالَ فِي الرُّومِ: وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطُّورِ: ٤٩] صَلَاةُ الْفَجْرِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ فَقَالَ: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الْفَجْرِ: ١، ٢] وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ١، ٢] فَإِنَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَسَمُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لَكِنْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ تأكيد، وهو قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: ١١٤] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَصْرِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا، ثُمَّ صَارَ مَوْجُودًا، أَوْ كَانَ مَيِّتًا، ثُمَّ صَارَ حَيًّا، بَلْ كَأَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا فِي اللَّيْلِ كُلُّهُمْ أَمْوَاتًا، فَصَارُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَنَامِهِمْ وَشَاهَدُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ حَيْثُ أَزَالَ عَنْهُمْ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَظُلْمَةَ العجز والخيرة، وَأَبْدَلَ الْكُلَّ بِالْإِحْسَانِ، فَمَلَأَ الْعَالَمَ مِنَ النُّورِ، وَالْأَبْدَانَ مِنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يَشْتَغِلَ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ حَمْلُ الْوُسْطَى عَلَيْهَا أَوْلَى التَّاسِعُ: مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهَا الْفَجْرُ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ/ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْعَاشِرُ: أَنَّ سُنَنَ الصُّبْحِ آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ فَفَرْضُهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ فَصَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَيْهَا أَوْلَى، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الظُّهْرَ كَانَ شَاقًّا عَلَيْهِمْ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ فَصَرْفُ الْمُبَالَغَةِ إِلَيْهِ أَوْلَى،
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
وَالثَّانِي: صَلَاةُ الظُّهْرِ تَقَعُ وَسَطَ النَّهَارِ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ صَلَاةٌ تَقَعُ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ غَيْرُهَا وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ نَهَارِيَّتَيْنِ: الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ الرَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةٌ بَيْنَ الْبَرْدَيْنِ: بَرْدُ الْغَدَاةِ وَبَرْدُ الْعَشِيِّ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
صَلَّيْتُ مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغُوا سَأَلْتُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالُوا الَّتِي صَلَّيْتَهَا السَّادِسُ:
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا عَطَفَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ، وَالَّتِي قَبْلَ الْعَصْرِ هِيَ الظَّهْرُ السَّابِعُ: رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَأَلُوهُ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَانَتْ تُقَامُ فِي الْهَاجِرَةِ الثَّامِنُ:
رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَوَّلَ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ،
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا أَشْرَفُ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَيْهَا أَوْلَى التَّاسِعُ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ هِيَ أَشْرَفُ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَصَرْفُ الْمُبَالَغَةِ إِلَيْهَا أَوْلَى.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ:
إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا
رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ عَظِيمُ الْوَقْعِ فِي الْمَسْأَلَةِ،
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ»
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: الْعَصْرُ وَسَطٌ، وَلَكِنْ ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صَلَاتَانِ وَسَطِيَّانِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَأَحَدُهُمَا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ وَالْآخَرُ بِالسُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَرَمَ حَرَمَانِ: حَرَمُ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُتَكَلَّفٌ/ جِدًّا الثَّانِي: قَالُوا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا لَمْ يُرْوَ فِي غَيْرِهَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»
وَأَيْضًا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَقَالَ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ١، ٢] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَحَبُّ السَّاعَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَصْرَ بِالتَّأْكِيدِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى سَائِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ أَخَفُّ وَأَسْهَلُ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَخْفَى الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّ دُخُولَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ ضوؤه، وَدُخُولَ الظُّهْرِ بِظُهُورِ الزَّوَالِ، وَدُخُولَ الْمَغْرِبِ بِغُرُوبِ الْقُرْصِ وَدُخُولَ الْعِشَاءِ بِغُرُوبِ الشَّفَقِ، أَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُ وَقْتِهَا إِلَّا بِنَظَرٍ دَقِيقٍ وَتَأَمُّلٍ عَظِيمٍ فِي حَالِ الظِّلِّ، فَلَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ أَشَقَّ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْفَضِيلَةُ فِيهَا أَكْثَرَ الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عِنْدَ الْعَصْرِ يَكُونُونَ مُشْتَغِلِينَ بِالْمُهِمَّاتِ، فَكَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ أَشَقَّ، فَكَانَ صَرْفُ التَّأْكِيدِ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنَّ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ أَشْبَهُ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاةٍ هِيَ شَفْعٌ، وَبَيْنَ صَلَاةٍ هِيَ وَتْرٌ، أَمَّا الشَّفْعُ فَالظُّهْرُ، وَأَمَّا الْوَتْرُ فَالْمَغْرِبُ، إِلَّا أَنَّ الْعِشَاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَبْلَهَا الْمَغْرِبَ وَهِيَ وَتْرٌ، وَبَعْدَهَا الصُّبْحُ وَهُوَ شَفْعٌ وَثَانِيهَا: الْعَصْرُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاةٍ نَهَارِيَّةٍ وَهِيَ الظُّهْرُ، وَلَيْلِيَّةٍ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَصْرَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِاللَّيْلِ وَصَلَاتَيْنِ بِالنَّهَارِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ تُسَمَّى بِالصَّلَاةِ الْأُولَى، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بإمامة فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الظُّهْرُ أَوَّلَ الصَّلَوَاتِ كَانَ الْوُسْطَى هِيَ الْمَغْرِبَ لَا مَحَالَةَ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ، قَالُوا لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا يُقْصَرَانِ، الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ،
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ»
فَهَذَا مَجْمُوعُ دَلَائِلِ النَّاسِ وَأَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَرَكْتُ تَرْجِيحَ بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا عَظِيمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ: الْوِتْرُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا وُسْطَى، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْوُسْطَى لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْوُسْطَى فِي الْعَدَدِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْوُسْطَى الْفَضِيلَةُ قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] أَيْ عُدُولًا وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [الْقَلَمِ: ٢٨] أَيْ أَعْدَلُهُمْ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذَا الِاشْتِقَاقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الْمِقْدَارِ كَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِ، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُسْطَى فِي الصِّفَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي وَقْتٍ لَيْسَ بِغَايَةٍ فِي الظُّلْمَةِ وَلَا غَايَةٍ فِي الضَّوْءِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْخُلُقَ الْفَاضِلَ إِنَّمَا يُسَمَّى وَسَطًا لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خُلُقٌ فَاضِلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ هُمَا طَرَفَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِثْلُ الشَّجَاعَةِ فَإِنَّهَا خُلُقٌ فَاضِلٌ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْوَسَطِ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَكُونُ وَسَطًا بِحَسَبَ الْعَدَدِ وَمَجَازٌ فِي الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكُونُ وَسَطًا فِي الزَّمَانِ وَهُوَ الظُّهْرُ.
فَجَوَابُهُ: إِنَّ الظُّهْرَ لَيْسَتْ بِوَسَطٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُنَا قَدْ زَالَ الْوَسَطُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَحْمِلُهُ عَلَى الصُّبْحِ لِكَوْنِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَسَطًا بَيْنَ وَقْتِ الظُّلْمَةِ وَبَيْنَ وَقْتِ النُّورِ، أَوْ عَلَى الْمَغْرِبِ لِكَوْنِ عَدَدِهَا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ.
فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبَ الْإِمْكَانِ والله أعلم.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قانِتِينَ أَيْ مُطِيعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّاعَةُ»
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: ٣٤] وَقَالَ فِي كُلِّ النِّسَاءِ: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ [النِّسَاءِ: ٣٤] / فَالْقُنُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ إِكْمَالِ الطَّاعَةِ وَإِتْمَامِهَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ إِيقَاعِ الْخَلَلِ فِي أَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، وَهُوَ زَجْرٌ لِمَنْ لَمْ يُبَالِ كَيْفَ صَلَّى فَخَفَّفَ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُجْزِئُ وَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِلَّهِ إِلَى صَلَاةِ الْعِبَادِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ رَأْسًا، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكَثِيرِ مِنْ عِبَادَتِنَا، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَلِيلِ وَقَدْ صَلَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرُّسُلُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ فَأَطَالُوا وَأَظْهَرُوا الْخُشُوعَ وَالِاسْتِكَانَةَ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قانِتِينَ سَاكِتِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَيُسَلِّمُ الرَّجُلُ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُهُمْ: كَمْ صَلَّيْتُمْ؟ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَزَّلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: الْقُنُوتُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُشُوعِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ وَسُكُونِ الْأَطْرَافِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ رَبَّهُ فَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يقلب الحصى، ولا يبعث بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْصَرِفَ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: الْقُنُوتُ هُوَ الْقِيَامُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ
بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ»
يُرِيدُ طُولَ الْقِيَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَإِلَّا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: وَقُومُوا لِلَّهِ مُدِيمِينَ لِذَلِكَ الْقِيَامِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقُنُوتُ مُفَسَّرًا بِالْإِدَامَةِ لَا بِالْقِيَامِ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى: أَنَّ الْقُنُوتَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ صَارَ مُخْتَصًّا بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَقُومُوا لِلَّهِ مُدِيمِينَ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي أَوْقَاتِ وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى فَرِجالًا بِضَمِّ الرَّاءِ ورجالا بالتشديد ورجلا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ عَدُوًّا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَإِنْ كَانَ بِكُمْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاتَ الْوَقْتِ إِنْ أَخَّرْتُمُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ تَفْرُغُوا مِنْ حَرْبِكُمْ فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ فَرْضِ الْوَقْتِ حَتَّى يُتَرَخَّصَ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرِّجَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: رِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ مِثْلَ تِجَارٍ وَتَاجِرٍ وَصِحَابٍ وَصَاحِبٍ وَالرَّاجِلُ هُوَ الْكَائِنُ عَلَى رِجْلِهِ مَاشِيًا كَانَ أَوْ وَاقِفًا وَيُقَالُ فِي جَمْعِ رَاجِلٍ: رَجُلٌ وَرِجَالَةٌ وَرِجَّالَةٌ وَرِجَالٌ وَرِجَّالٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ الْجَمْعِ، لِأَنَّ رَاجِلًا يُجْمَعُ عَلَى رَاجِلٍ، ثُمَّ يُجْمَعُ رَجُلٌ عَلَى رِجَالٍ، وَالرُّكَبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ، مِثْلُ فُرْسَانٍ وَفَارِسٍ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ رَاكِبٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى جَمَلٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَارِسٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رِجَالًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: صَلَاةُ الْخَوْفِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي:
فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النِّسَاءِ: ١٠٢] وَفِي سِيَاقِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الْقِتَالِ لِأَحَدٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ رُكْبَانًا عَلَى دَوَابِّهِمْ وَمُشَاةً عَلَى أَقْدَامِهِمْ إِلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الصَّيْحَاتِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلِّي الْمَاشِي بَلْ يُؤَخِّرُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَعْنِي مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ الَّذِي تَجُوزُ مَعَهُ الصَّلَاةُ مَعَ التَّرَجُّلِ وَالْمَشْيِ وَمَعَ الرُّكُوبِ وَالرَّكْضِ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، فَصَارَ قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَدُلُّ عَلَى التَّرَخُّصِ/ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَخُّصِ فِي تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ لِأَنَّ مَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ وَقَفَ فِي مَكَانِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِيمَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلْنَتَكَلَّمْ فِيمَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَفِيمَا لَا يَسْقُطُ، فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: فِعْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَالُ الْخَوْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: فِعْلُ اللِّسَانِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَوَجَبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ أَيْضًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَبْلُغِ الْخَوْفُ هَذَا الْحَدَّ وَمَعَ ذلك فإنه صلى الله عليه وسلّم أخرى الصَّلَاةَ فَعَلِمْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِذَلِكَ الْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْخَوْفِ الَّذِي يُفِيدُ هَذِهِ الرُّخْصَةَ وَطَرِيقُ الضَّبْطِ أَنْ نَقُولَ: الْخَوْفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقِتَالِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، أَمَّا الْخَوْفُ فِي الْقِتَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي قِتَالٍ وَاجِبٍ، أَوْ مُبَاحٍ، أَوْ مَحْظُورٍ، أَمَّا الْقِتَالُ الْوَاجِبُ فَهُوَ كَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ، قَالَ تَعَالَى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمُبَاحُ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَحَاسِنِ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ: إِنَّ دَفْعَ الْإِنْسَانِ عَنْ نَفْسِهِ مُبَاحٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَصَدَ الْكَافِرُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ لِئَلَّا يَكُونَ إِخْلَالًا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِتَالُ فِي الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ وَفِي الدَّفْعِ عَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، أَمَّا قَصْدُ أَخْذِ مَالِهِ، أَوْ إِتْلَافِ حَالِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ/ الْخَوْفِ، فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنْ يَجُوزَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ عَنِ الْمَالِ كَالدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزَّوْجِ أَعْظَمُ، أَمَّا الْقِتَالُ الْمَحْظُورُ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ هَذَا رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ إِعَانَةٌ وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْإِعَانَةَ، أَمَّا الْخَوْفُ الْحَاصِلُ لَا فِي الْقِتَالِ، كَالْهَارِبِ مِنَ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالسَّبُعِ وَكَذَا الْمُطَالِبِ بِالدِّينِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا خَائِفًا مِنَ الْحَبْسِ، عَاجِزًا عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ حَالَ الْمُقَاتَلَةِ.
قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ هُنَاكَ دفعا للضرر، وهذا المعنى قائم هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَشْرُوعًا وَاللَّهُ أعلم.
المسألة السابعة: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمُ الصَّلَاةَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْخَوْفِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَتْرُوكٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ فَاشْكُرُوهُ لِأَجْلِ إِنْعَامِهِ عَلَيْكُمْ بِالْأَمْنِ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الذِّكْرَ لَمَّا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ حُصُولُ الْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى ذِكْرٍ يَلْزَمُ مَعَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ جَمِيعًا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعَ الْخَوْفِ يَلْزَمُ الشُّكْرُ، كَمَا يَلْزَمُ مَعَ الْأَمْنِ، لِأَنَّ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ نِعْمَةَ الله تعالى متصلة، والخوف هاهنا مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، فَالْوَاجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عَلَى ذِكْرٍ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ الصَّلَاةُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الشُّكْرِ مُحَدَّدٌ يَلْزَمُ فِعْلُهُ مَعَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما عَلَّمَكُمْ فَبَيَانُ إِنْعَامِهِ عَلَيْنَا بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعْرِيفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُ لَمْ نَصِلْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا فَسَّرُوا هَذَا التَّعْلِيمَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَسُّرُوهُ بِوَضْعِ الدَّلَائِلِ، وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم من زمان الجهالة والضلالة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
الحكم السابع عشر الوفاة
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَصِيَّةٌ بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَصِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ: لِأَزْواجِهِمْ خَبَرٌ، وَحَسُنَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ، لِأَنَّهَا مُتَخَصِّصَةٌ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْمَوْضِعِ، كَمَا حَسُنَ قَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مُبْتَدَأً، وَيُضْمَرُ لَهُ خَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧]، فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ [النِّسَاءِ: ٩٢]، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: الْأَمْرُ وَصِيَّةٌ، أَوِ الْمَفْرُوضُ، أَوِ الْحُكْمُ وَصِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ وَالرَّابِعُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ وَصِيَّةٌ وَالْخَامِسُ: تَقْدِيرُهُ: لِيَكُونَ مِنْكُمْ وَصِيَّةٌ وَالسَّادِسُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَوَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَصِيَّةٌ إِلَى الْحَوْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ حَسَنَةٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَفِيهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَلْيُوصُوا
أَلْزَمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَتاعاً فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
فَلْيُوصُوا لَهُنَّ وَصِيَّةً، وَلْيُمَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَتِّعُوهُنَّ مُقِيمَاتٍ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ وَالثَّانِي: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَرَادَ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالُوا:
كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ لِامْرَأَتِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ إِلَّا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى سَنَةً، وَكَانَ الْحَوْلُ عَزِيمَةً عَلَيْهَا فِي الصَّبْرِ عَنِ التَّزَوُّجِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُخَيَّرَةً فِي أَنْ تَعْتَدَّ إِنْ شَاءَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ، لَكِنَّهَا مَتَى خَرَجَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّا إِنْ قَرَأْنَا وَصِيَّةً بِالرَّفْعِ، كَانَ الْمَعْنَى: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، وَإِنْ قَرَأْنَاهَا بِالنَّصْبِ، كَانَ الْمَعْنَى: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمَتَاعُ وَالنَّفَقَةُ إِلَى الْحَوْلِ وَالثَّانِي: السُّكْنَى إِلَى الْحَوْلِ، ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالَى أَنَّهُنَّ إِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ مَالِ الزَّوْجِ سَنَةً وَالثَّانِي: وُجُوبُ الِاعْتِدَادِ سَنَةً، لِأَنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ سَنَةً تُوجِبُ الْمَنْعَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ لَهَا، وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، فَصَارَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْحَوْلِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ فِي الْحَوْلِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَالْأُخْرَى: هَذِهِ الْآيَةُ، فَوَجَبَ تَنْزِيلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ فَنَقُولُ: إِنَّهَا إِنْ لَمْ تَخْتَرِ السُّكْنَى فِي دَارِ زَوْجِهَا وَلَمْ تَأْخُذِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، كَانَتْ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَتِ السُّكْنَى فِي دَارِ زَوْجِهَا، وَالْأَخْذَ مِنْ مَالِهِ وَتَرِكَتِهِ، فَعِدَّتُهَا هِيَ الْحَوْلُ، وَتَنْزِيلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ أَوْلَى، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْمُولًا بِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يُتَوَفَّى مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، وَقَدْ وَصَّوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ بِنَفَقَةِ الْحَوْلِ وَسُكْنَى الْحَوْلِ فَإِنْ خَرَجْنَ قَبْلَ ذَلِكَ وَخَالَفْنَ وَصِيَّةَ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ يُقِمْنَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فَلَا حَرَجَ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّ إِقَامَتَهُنَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، قَالَ: وَالسَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُوصُونَ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ زَائِلٌ، وَاحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ النَّسْخَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى عَدَمِهِ بِقَدْرِ الإمكان الثاني:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وهاهنا إِنْ خَصَّصْنَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْحَالَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ انْدَفَعَ النَّسْخُ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَوْلَى مِنِ الْتِزَامِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَالْكَلَامُ أَظْهَرُ، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، فَأَنْتُمْ تُضِيفُونَ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبُو مُسْلِمٍ يَقُولُ: بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَلَهُمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: وَقَدْ أَوْصَوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، فَهُوَ يُضِيفُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فَلَيْسَ إِضْمَارُكُمْ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِهِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِضْمَارُ مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إِلَى الْآيَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّ إِضْمَارَ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِكُمْ، وَأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا النَّسْخِ الْتِزَامٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَعَ مَا فِي الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا كَلَامٌ وَاضِحٌ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً شَرْطِيَّةً، فَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَهَذَا كُلُّهُ شَرْطٌ، وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فُرْقَةِ الْوَفَاةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ، حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا،
وَعَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا لَا نَفَقَةَ لَهَا حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ، وَهَلْ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا:
لَا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالثَّانِي: تَسْتَحِقُّ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَبِنَاءُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى
خَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قُتِلَ زَوْجُهَا قَالَتْ: فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي مَا تَرَكَنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ فانصرفت حين إِذَا كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْحُجْرَةِ دَعَانِي فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ،
وَاخْتَلَفُوا فِي تَنْزِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قِيلَ لَمْ يُوجِبْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ أَوْجَبَ فَصَارَ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا، وَقِيلَ: أَمَرَهَا بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا أَمْرًا عَلَى سَبِيلِ/ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا، فَقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّ الْمِلْكَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ السُّكْنَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ نَفَقَةٌ وَسُكْنَى مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ وَسُكْنَاهُمْ، لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، فَكَذَا هاهنا.
أَجَابَ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ السُّكْنَى عَلَى النَّفَقَةِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى بِكُلِّ حَالٍ وَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِنَفْسِهَا عِنْدَ الْمُزَنِيِّ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ من الاستمتاع ولا يمكن هاهنا،
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، أَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَةِ فَقَدْ صَارَ مَنْسُوخًا، وَأَمَّا وُجُوبُ السُّكْنَى فَهَلْ صَارَ مَنْسُوخًا أَمْ لَا؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ سُؤَالًا فَقَالُوا: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَفَاةَ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْوَصِيَّةِ، فَكَيْفَ يُوصِي الْمُتَوَفَّى؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالَّذِينَ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ يَنْبَغِي أَنَّ يَفْعَلُوا هَذَا فَالْوَفَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَمْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِأَزْوَاجِهِمْ، كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: ١١] وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فَالْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ يَا أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَفِي رَفْعِ الْجُنَاحِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا جُنَاحَ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَالثَّانِي: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ، لِأَنَّ مُقَامَهَا حَوْلًا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عليها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤١ الى ٢٤٢]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
الحكم الثامن عشر في المطلقات
يُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٦] قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ أَرَدْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ لَمْ أَفْعَلْ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يَعْنِي عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنِ الْكُفْرِ، وَاعْلَمْ أن المراد من المتاع هاهنا فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْمُتْعَةُ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ هَذِهِ الْمُتْعَةِ لِكُلِّ الْمُطَلَّقَاتِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ الْمُتْعَةَ لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا الْمَسِيسُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٦].
فَإِنْ قِيلَ: لم أعيد هاهنا ذِكْرُ الْمُتْعَةِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَهَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ.
قُلْنَا: هُنَاكَ ذَكَرَ حُكْمًا خَاصًّا، وهاهنا ذَكَرَ حُكْمًا عَامًّا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
القصة الأولى من قصص بني إسرائيل
اعْلَمْ أَنَّ عَادَتَهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْقِصَصَ لِيُفِيدَ الِاعْتِبَارَ لِلسَّامِعِ، وَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ عَلَى تَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ، وَمَزِيدِ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَمَّا قَوْلُهُ:
أَلَمْ تَرَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْقَلْبِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ: وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَةِ: ١٢٨] مَعْنَاهُ: عَلِّمْنَا، وَقَالَ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاءِ:
١٠٥] أَيْ عَلَّمَكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْمُخَاطَبِ الْعِلْمُ بِهِ، وَفِيمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ تَعْرِيفَهُ ابْتِدَاءً: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ، فَيَكُونُ هَذَا ابْتِدَاءَ تَعْرِيفٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: كَانَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ وَأُمَّتَهُ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِالْخِطَابِ معه، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاقِ: ١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دُخُولُ لَفْظَةِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ (إِلَى) عِنْدَهُمْ حَرْفٌ لِلِانْتِهَاءِ كَقَوْلِكَ: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، فَمَنْ عَلِمَ بِتَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَلِّمَ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّمَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْلُومِ وَأَنْهَاهُ إِلَيْهِ، فَحَسُنَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دُخُولُ حَرْفِ (إِلَى) فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الْفُرْقَانِ: ٤٥].
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فَفِيهِ رِوَايَاتٌ أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ قَرْيَةٌ وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ وَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَالَّذِينَ بَقُوا مَاتَ أَكْثَرُهُمْ، وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي الْمَرَضِ وَالْبَلَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَرَضِ وَالطَّاعُونِ رَجَعَ الَّذِينَ هَرَبُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَرْضَى: هَؤُلَاءِ أَحْرَصُ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا مَا صَنَعُوا لَنَجَوْنَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيًا خَرَجْنَا فَوَقَعَ وَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، نَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا، فَهَلَكُوا وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يقال له حزقيل، فلما رآهما وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَتَفَكَّرَ فِيهِمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ: نَادِ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بعضها
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ مَلِكَا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَ عَسْكَرَهُ بِالْقِتَالِ، فَخَافُوا الْقِتَالَ وَقَالُوا لِمَلِكِهِمْ: إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي نَذْهَبُ إِلَيْهَا فِيهَا الْوَبَاءُ، فَنَحْنُ لَا نَذْهَبُ إِلَيْهَا حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ الْوَبَاءُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَسْرِهِمْ، وَبَقُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا، وَبَلَغَ بَنِي/ إِسْرَائِيلَ مَوْتُهُمْ، فَخَرَجُوا لِدَفْنِهِمْ، فَعَجَزُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ، فَحَظَّرُوا عَلَيْهِمْ حَظَائِرَ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ الثَّمَانِيَةِ، وَبَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ النَّتَنِ وَبَقِيَ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِهِمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٤].
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدَبَ قَوْمَهُ إِلَى الْجِهَادِ فَكَرِهُوا وَجَبُنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَلَمَّا كَثُرَ فِيهِمْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، فَلَمَّا رَأَى حِزْقِيلُ ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَهَ يَعْقُوبَ وَإِلَهَ مُوسَى تَرَى مَعْصِيَةَ عِبَادِكَ فَأَرِهِمْ آيَةً فِي أَنْفُسِهِمْ تَدُلُّهُمْ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَتِكَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَاقَ صَدْرُهُ بِسَبَبِ مَوْتِهِمْ، فَدَعَا مَرَّةً أُخْرَى فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ أُلُوفٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ الْعَدَدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ عَدَدِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَكُونُوا دُونَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَلَا فَوْقَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَالْوَجْهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّ الْأُلُوفَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ، وَلَا يُقَالُ فِي عَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا أُلُوفٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُلُوفَ جَمْعُ آلَافٍ كَقُعُودٍ وَقَاعِدٍ، وَجُلُوسٍ وَجَالِسٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْتَلِفِي الْقُلُوبِ، قَالَ الْقَاضِي: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ يُفِيدُ مَزِيدَ اعْتِبَارٍ بِحَالِهِمْ، لِأَنَّ مَوْتَ جَمْعٍ عَظِيمٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَتَّفِقُ وُقُوعُهُ يُفِيدُ اعْتِبَارًا عَظِيمًا، فَأَمَّا وُرُودُ الْمَوْتِ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمُ ائْتِلَافٌ وَمَحَبَّةٌ، كَوُرُودِهِ وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وَجْهَ الِاعْتِبَارِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْتَلِفُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْمُرَادَ كَونُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آلِفًا لِحَيَاتِهِ، مُحِبًّا لِهَذِهِ الدُّنْيَا فَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: ٩٦] ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ غَايَةِ حُبِّهِمْ لِلْحَيَاةِ وَأُلْفِهِمْ بِهَا، أَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلَكَهُمْ، لِيَعْلَمَ أَنَّ حِرْصَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَاةِ لَا يَعْصِمُهُ مِنَ الْمَوْتِ فَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: حَذَرَ الْمَوْتِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لِحَذَرِ الْمَوْتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْذَرُ الْمَوْتَ، فَلَمَّا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ، عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ كَانَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَكْثَرَ، إِمَّا لِأَجْلِ غَلَبَةِ الطَّاعُونِ أَوْ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمُقَاتَلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ففي تفسير جار اللَّهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِثْبَاتَ قَوْلٍ، بَلِ الْمُرَادُ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مُوتُوا، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْإِحْيَاءِ مَا رُوِّينَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَحْياهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ تَرَكُّبَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الشَّكْلِ الْمَخْصُوصِ مُمْكِنٌ، وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَاحْتِمَالُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لِلْحَيَاةِ مُمْكِنٌ وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ، وَأَمَّا إِنَّ الصَّادِقَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَتَى أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ وُقُوعِ مَا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إظهاره إلا عند ما يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، إِذْ لَوْ جَازَ ظُهُورُهُ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ لَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِكَرَامَةِ الْوَلِيِّ، وَلِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَكَانَ هَذَا الْحَصْرُ بَاطِلًا، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ:
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي زَمَانِ حِزْقِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ببركة دعائه،
وهذا يتحقق مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا لِيَكُوَنَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقِيلَ: حِزْقِيلُ هُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِشَأْنِ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ مَوْتَى فَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِيهِمْ مُتَعَجِّبًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنْ أَرَدْتَ أَحْيَيْتُهُمْ وَجَعَلْتُ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ آيَةً لَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدُعَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ مَعَارِفَ الْمُكَلَّفِينَ تَصِيرُ ضَرُورِيَّةً عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ: وَعِنْدَ مُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ عَايَنُوا الْأَهْوَالَ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي مَعَهَا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً، وَإِمَّا مَا شَاهَدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى أَمَاتَهُمْ بَغْتَةً، كَالنَّوْمِ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ كان الحق هو الأول، فعند ما أَحْيَاهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ نَسُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَنَسُوا مَا عَرَفُوا بِهِ رَبَّهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَظِيمَةَ لَا يَجُوزُ نِسْيَانُهَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبْقَى تِلْكَ الْمَعَارِفُ الضَّرُورِيَّةُ مَعَهُمْ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَبَقَاءُ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَبْقَى التَّكْلِيفُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ بَقُوا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَاتَهُمْ مَا أَرَاهُمْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَصِيرُ مَعَارِفُهُمْ عِنْدَهَا ضَرُورِيَّةً، وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَوْتُ كَمَوْتِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ الْأَهْوَالَ عِنْدَ/ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الذين
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُحْيُوا، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُمْ بِسَبَبِ أَنْ كَرِهُوا الْجِهَادَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ قَاتِلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْحَاضِرِينَ، يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدَّمَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ذِكْرَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ لِئَلَّا يُنْكَصَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِحُبِّ الْحَيَاةِ بِسَبَبِ خَوْفِ الْمَوْتِ، وليعلم كل أحد أنه يترك الْقِتَالِ لَا يَثِقُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ:
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: ١٦] فَشَجَّعَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ وَعَدَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا فِي الْعَاجِلِ الظُّهُورُ عَلَى الْعَدُوِّ، أَوْ فِي الْآجِلِ الْفَوْزُ بِالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ، وَالْوُصُولُ إِلَى مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَالسَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَاتُ سَبِيلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى/ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْلُكُهَا، وَيَتَوَصَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ تَقْوِيَةٌ لِلدِّينِ، فَكَانَ طَاعَةً، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْمُجَاهِدُ مُقَاتِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ هُوَ يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ فِي تَرْغِيبِ الْغَيْرِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي تَنْفِيرِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَعَلِيمٌ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْبَوَاعِثِ وَالْأَغْرَاضِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ لِغَرَضِ الدِّينِ أو لعاجل الدنيا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْقَرْضُ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، فَنَدَبَ الْعَاجِزَ عَنِ الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَمَرَ الْقَادِرَ عَلَى الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، ثُمَّ أكد تعالى ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنِ اعْتِمَادِهِ عَلَى مَالِهِ وَذَلِكَ يَدْعُوهُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْبُخْلِ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ إِنْفَاقُ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إِلَّا تَبَرُّعًا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ فَإِنْ تَصَدَّقْتُ بِإِحْدَاهُمَا فَهَلْ لِي مِثْلَاهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ مَعِي؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالصِّبْيَةُ معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى أَهْلِهِ وَكَانُوا فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا اشْتَرَيْتَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا وَسَلَّمُوهَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَمْ مِنْ نَخْلَةٍ رَدَاحٍ، تُدْلِي عُرُوقَهَا فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ.
إِذَا عَرَفْتَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَرْضِ مَا كَانَ تَبَرُّعًا لَا وَاجِبًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كِلَا الْقِسْمَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ شَيْءٌ سِوَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، قَالُوا: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَاضِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الصِّحَّةِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَأَنْفَقَ وَأَعْطَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ النِّيَّةُ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِنْفَاقِ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَرْضِ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ كُلُّ مَا يُفْعَلُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ، تَقُولُ العرب: لك عندي قرض حسن وسيء، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي يُجَازَى عَلَيْهِ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا | أَوْ سَيِّئًا أَوْ مَدِينًا كَالَّذِي دَانَا |
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ هاهنا مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وهاهنا الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَلَهُ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ الْقَرْضِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْقَرْضِ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلَ، وَفِي هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الضِّعْفُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لا يكون ملكا له وهاهنا هَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِلْكٌ لِلَّهِ، ثُمَّ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْفُرُوقِ سَمَّاهُ اللَّهُ قَرْضًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ الْقَرْضَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فَكَذَا الثَّوَابُ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ وَاصِلٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ لَا مَحَالَةَ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا الْقَرْضَ،
وَهَذَا الْكَلَامُ لَائِقٌ بِجَهْلِهِمْ وَحُمْقِهِمْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ التَّشْبِيهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَعْبُودَهُمْ شَيْخٌ، قَالَ الْقَاضِيَ: مَنْ يَقُولُ فِي مَعْبُودِهِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ/ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْفَقْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَلِأَيِّ فَائِدَةٍ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ.
قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْفِعْلِ أَقْرَبُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَرْضاً حَسَناً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ ذَلِكَ إِقْرَاضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ حَلَالًا خَالِصًا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ الْحَرَامُ، لِأَنَّ مَعَ الشُّبْهَةِ يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ، وَمَعَ الِاخْتِلَاطِ رُبَّمَا قَبُحَ الْفِعْلُ وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُتْبِعَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ مَنًّا وَلَا أَذًى وَثَالِثُهَا:
أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فَيُضاعِفَهُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَيُضاعِفَهُ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ وَالثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فَيُضاعِفَهُ بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فَيُضَعِّفُهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ بِلَا أَلِفٍ وَالرَّابِعُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَيُضَعِّفَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فَهُمَا لُغَتَانِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ الْعَطْفُ عَلَى يُقْرِضُ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرْضًا فَيُضَاعِفُهُ، وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا رَفْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّضْعِيفُ وَالْإِضْعَافُ وَالْمُضَاعَفَةُ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبْلُغَ مِثْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَأَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] فَيُقَالُ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتِيَارُ السُّدِّيِّ: أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا هُوَ وَكَمْ هُوَ؟ وَإِنَّمَا أَبْهَمَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُبْهَمِ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ الْمَحْدُودِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ فَفِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا كَيْفَ يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ هُوَ الْقَابِضَ الْبَاسِطَ، فَإِنْ كَانَ تَقْدِيرُ هَذَا الَّذِي أُمِرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ الْفَقْرَ فَلْيُنْفِقِ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ سَوَاءٌ أَنَفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيرُهُ الْغِنَى فَلْيُنْفِقْ فَإِنَّهُ سَوَاءٌ أَنَفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْغِنَى وَالسَّعَةُ وَبَسْطُ الْيَدِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ بِاللَّهِ انْقَطَعَ نَظَرُهُ عَنْ مَالِ الدُّنْيَا، وَبَقِيَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَسِّعُ عَنْ عِبَادِهِ وَيَقْتُرُ، فَلَا تَبْخَلُوا عَلَيْهِ بِمَا وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، لِئَلَّا يُبَدِّلَ السَّعَةَ الْحَاصِلَةَ لَكُمْ بِالضِّيقِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وإعانته، فقال: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ يَعْنِي يَقْبِضُ الْقُلُوبَ حَتَّى لَا تُقْدِمَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَالْمُرَادُ بِهِ إِلَى حَيْثُ لَا حَاكِمَ وَلَا مُدَبِّرَ سواه، والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
القصة الثانية قصة طالوت
الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمُ الْجَمَاعَةِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَالَ لَهَا الْأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ | وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٤] ثُمَّ أَمَرَنَا بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ لِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي كَمَالِ الْمُرَادِ بِالْقِتَالِ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حَاصِلٌ، سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَأَ مَنْ كَانُوا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّرْغِيبُ فِي بَابِ الْجِهَادِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ وَمَنْ ذَلِكَ الْمَلَأُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَايِمَ بْنِ يُوسُفَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مُوسى وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى كَمَا يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ يَحْتَمِلُ الْحُصُولَ مِنْ بَعْدِ زَمَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ اسْمُ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَشْمُوِيلَ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَاسْمُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ شَمْعُونُ، سَمَّتْهُ أُمُّهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهَا، فَسَمَّتْهُ شَمْعُونَ، يَعْنِي سَمِعَ دُعَاءَهَا فِيهِ، وَالسِّينُ تَصِيرُ شِينًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ وَهْبٌ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ كَثُرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْخَطَايَا عَظُمَتْ فِيهِمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ لَهُمْ فَسَبَى كَثِيرًا مِنْ ذَرَارِيهِمْ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمْ مَلِكًا تَنْتَظِمُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ وَيَجْتَمِعُ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ حَالُهُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَقِيلَ تَغَلَّبَ جَالُوتُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قِوَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَلِكٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ يُجَاهِدُ الْأَعْدَاءَ، وَيُجْرِي الْأَحْكَامَ، وَنَبِيٍّ يُطِيعُهُ الْمَلِكُ، وَيُقِيمُ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيَأْتِيهِمْ بِالْخَبَرِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ نُقاتِلْ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَبِالنُّونِ وَالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيِ ابْعَثْهُ لَنَا مُقَدِّرِينَ الْقِتَالَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْمَلِكِ، / قَالُوا نُقَاتِلُ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: مَلِكاً أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السين هاهنا، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ فَتْحُهَا وَوَجْهُ قِرَاءَةِ نَافِعٍ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ عَسِيٌّ بِكَذَا وَهَذَا يُقَوِّي عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَسِيٌّ بِكَذَا، مِثْلُ حَرِيٍّ وَشَحِيحٍ وَطَعَنَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ عَسى رَبُّكُمْ أَجَابَ أَصْحَابُ نَافِعٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَاءَ إِذَا سَكَنَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا حَصَلَ فِي التَّلَفُّظِ بِهَا نَوْعُ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ مِنْ (عَسِيٌّ) كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكِتَابَةِ يَاءً إِلَّا أَنَّهَا فِي اللَّفْظِ مَدَّةٌ، وَهِيَ خَفِيفَةٌ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى خِفَّةٍ أُخْرَى.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَ عَسى رَبُّكُمْ إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِاللُّغَتَيْنِ فَيَسْتَعْمِلَ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعٍ وَالْأُخْرَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: خبر هَلْ عَسَيْتُمْ وهو قَوْلُهُ: أَلَّا تُقاتِلُوا وَالشَّرْطُ فَاصِلٌ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى هَلْ قَارَبْتُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا بِمَعْنَى أَتَوَقَّعُ جُبْنَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ فَأَدْخَلَ (هَلْ) مُسْتَفْهِمًا عَمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَهُ وَمَظْنُونٌ، وَأَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرَ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُتَوَقَّعَ كَائِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ صَائِبٌ فِي تَوَقُّعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تعالى ذكر أنه الْقَوْمَ قَالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
فَإِنْ قِيلَ: المشهور أنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا؟ قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: ١٣] وَقَالَ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيدِ: ٨].
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّ (مَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَحْدٌ لَا اسْتِفْهَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَنَا نَتْرُكُ الْقِتَالَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَزُولُ السُّؤَالُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ أن (ما) هاهنا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ الأول: قال الأخفش:
أن هاهنا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الزِّيَادَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَلَامُ هاهنا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَكَ: مَا لَكَ لَا تُقَاتِلُ مَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُقَاتِلَ؟ فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ حَسُنَ إِدْخَالُ أَنْ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: ٧٥] وَقَالَ: مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: ٣٢] الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَى وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ أَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي تَرْكِ الْقِتَالِ؟ ثُمَّ سَقَطَتْ كَلِمَةُ فِي وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، قَوْلَ/ الْكِسَائِيِّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نُقَاتِلَ، إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ يَبْقَى اللَّفْظُ مَعَ هَذَا الْإِضْمَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا يَبْقَى، فَكَانَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى وَأَقْوَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فَبَعَثَ لَهُمْ مَلِكًا وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ فَتَوَلَّوْا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا مِنْهُمُ النَّهَرَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ هَذَا الْقَلِيلِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حِينَ خَالَفَ رَبَّهُ وَلَمْ يَفِ بِمَا قِيلَ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْجِهَادِ وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الظَّالِمُ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي كَوْنِهِ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي كَوْنِهِ بَعْثًا عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَلَّوْا فَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا تَوَلَّوْا إِنْكَارُهُمْ إِمْرَةَ طَالُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَالُوتُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، كَجَالُوتَ، ودَاوُدَ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِتَعْرِيفِهِ وَعُجْمَتِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنَ الطُّولِ لِمَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ، وَوَزْنُهُ إِنْ كَانَ مِنَ الطُّولِ فَعَلُوتُ، وَأَصْلُهُ
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَحَقُّ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْتَ.
قُلْنَا: الْأُولَى لِلْحَالِ، وَالثَّانِيَةُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَتَمَلَّكُ عَلَيْنَا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ للملك من مال يعتضد به، [وجوه التي أجاب الله تعالى في هذه الآية بأنه لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بالملك، وأن طالوت فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ لِلْمَلِكِ مِنْ مَالٍ يَعْتَضِدُ بِهِ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، كَانَ إِخْبَارُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ حُجَّةً قَاطِعَةً فِي ثُبُوتِ الْمُلْكِ لَهُ لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِ نَبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَلِكًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ وَكَانَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ سَاقِطَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اصْطَفاهُ أَيْ أَخَذَ الْمُلْكَ مِنْ غَيْرِهِ صَافِيًا لَهُ، وَاصْطَفَاهُ، وَاسْتَصْفَاهُ بِمَعْنَى الِاسْتِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ خَالِصًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ اصْتَفَى بِالتَّاءِ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لِيَسْهُلَ النُّطْقُ بِهَا بَعْدَ الصَّادِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الِاشْتِقَاقُ فَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَى الرُّسُلَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمُ: الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارَ وَوَصَفَ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَةَ مَوْرُوثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَلِكُهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا سَاقِطٌ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَتَقْرِيرُ/ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُلْكِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُلْكِ الثَّانِي: أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلْكِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ وَصْفَانِ أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالثَّانِي: الْقُدْرَةُ، وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمُلْكَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ باب الكمالات
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ الْحَاصِلَةَ لِلْخَلْقِ، إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْعَقْلَ وَنَصَبَ الدَّلَائِلَ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِضَافَةِ الْمُبَاشَرَةُ دُونَ التَّسَبُّبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ طُولُ الْقَامَةِ، وَكَانَ يَفُوقُ النَّاسَ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَالُوتَ لِطُولِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ الْجَمَالُ، وَكَانَ أَجْمَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقُوَّةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ فِي دَفْعِ الْأَعْدَاءِ هُوَ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، لَا الطُّولُ وَالْجَمَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْبَسْطَةَ فِي الْعِلْمِ، عَلَى الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ، وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْفَضَائِلَ النَّفْسَانِيَّةَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَكْمَلُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْجِسْمَانِيَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَالْعَبِيدَ لِلَّهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمْ طَعَنْتُمْ فِي طَالُوتَ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا فَوَّضَ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا بِالْمَالِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الرِّزْقِ وَالسَّعَةِ فِي الْمَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاسِعٌ، بِمَعْنَى مُوَسِّعٌ، أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ نِعَمِهِ، وَتَعَلُّقُهُ بِمَا/ قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاسِعٌ بِمَعْنَى ذُو سَعَةٍ، وَيَجِيءُ فَاعِلٌ وَمَعْنَاهُ ذُو كَذَا، كَقَوْلِهِ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٢١] أَيْ ذَاتِ رِضًا، وَهَمٌّ نَاصِبٌ ذُو نَصَبٍ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِغْنَاءِ الْفَقِيرِ عَالِمٌ بِمَقَادِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَدْبِيرِ الْمُلْكِ، وَعَالِمٌ بِحَالِ ذَلِكَ الْمُلْكِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَيَخْتَارُ لِعِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْعَوَاقِبِ مَا هُوَ مَصْلَحَتُهُ فِي قِيَامِهِ بأمر الملك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٨ الى ٢٤٩]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَجِيءَ ذَلِكَ التَّابُوتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ آيَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، دَالَّةً عَلَى صِدْقِ تِلْكَ الدَّعْوَى، ثُمَّ
قَالَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابُوتًا فِيهِ صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَتَوَارَثَهُ أَوْلَادُ آدَمَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى يَعْقُوبَ، ثُمَّ بَقِيَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ قَدَّمُوهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ فَوْقَ الْعَسْكَرِ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ التَّابُوتِ صَيْحَةً اسْتَيْقَنُوا بِالنُّصْرَةِ، فَلَمَّا عَصَوْا وَفَسَدُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى التَّابُوتِ وَسَلَبُوهُ، فَلَمَّا سَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُلْكِ طَالُوتَ، قَالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنَّكُمْ تَجِدُونَ التَّابُوتَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ سَلَبُوا ذَلِكَ التَّابُوتَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْبَلَاءَ حَتَّى إِنَّ كُلَّ مَنْ بَالَ عِنْدَهُ أَوْ تَغَوَّطَ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَوَاسِيرِ، فَعَلِمَ الْكُفَّارُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالتَّابُوتِ، فَأَخْرَجُوهُ وَوَضَعُوهُ عَلَى ثَوْرَيْنِ فَأَقْبَلَ الثَّوْرَانِ يَسِيرَانِ وَوَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلَ طَالُوتَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَ ذَلِكَ النَّبِيِّ رَأَوُا التَّابُوتَ عِنْدَ طَالُوتَ، فَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَلِكًا لَهُمْ، فذلك هو قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ
وَالْإِتْيَانُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ وَلَمْ يَأْتِ هُوَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ تَوَسُّعًا، كَمَا يُقَالُ: رَبِحَتِ الدَّرَاهِمُ، وَخَسِرَتِ التِّجَارَةُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّابُوتَ صُنْدُوقٌ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضَعُ التَّوْرَاةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ خَشَبٍ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بَعْدَ مَا قَبَضَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسُخْطِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ ذَلِكَ الْقَوْمِ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِ طَالُوتَ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ لَمْ تَحْمِلْهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا الثَّوْرَانِ، بَلْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَحْفَظُونَهُ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ طَالُوتَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ حَقِيقَةٌ فِي التَّابُوتِ، وَأُضِيفُ الْحَمْلُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ شَيْئًا فِي/ الطَّرِيقِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ:
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِتْيَانَ التَّابُوتِ مُعْجِزَةً، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ التَّابُوتِ مُعْجِزًا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ التَّابُوتُ مُعْجِزًا، بَلْ يَكُونُ مَا فِيهِ هُوَ الْمُعْجِزَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشَاهِدُوا التَّابُوتَ خَالِيًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَضَعُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقَوْمِ فِي بَيْتٍ وَيُغْلِقُوا الْبَيْتَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَاقِعَتِنَا، فَإِذَا فَتَحُوا بَابَ الْبَيْتِ وَنَظَرُوا فِي التَّابُوتِ رَأَوْا فِيهِ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلِكَهُمْ هُوَ طَالُوتُ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَهَذَا يَكُونُ مُعْجِزًا قَاطِعًا دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ يَحْتَمِلُ هَذَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي التَّابُوتِ هَذَا الْمُعْجِزَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِاسْتِقْرَارِ قَلْبِهِمْ وَاطْمِئْنَانِ أَنْفُسِهِمْ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَزْنُ التَّابُوتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعْلُوتًا أَوْ فَاعُولًا، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظٌ يَكُونُ فَاؤُهُ وَلَامُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، نَحْوُ: سَلَسٌ وَقَلَقٌ، فَلَا يُقَالُ: تَابُوتٌ مِنْ تَبَتَ قِيَاسًا عَلَى مَا نُقِلَ، وَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ فَعْلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ يُوضَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ، ويودع فيه فلا يزول يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَصَاحِبُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُودَعَاتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْكُلُّ: التَّابُوتُ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ التَّابُوهُ بِالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ طَالُوتَ كَانَ نَبِيًّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَبِيًّا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا كَانَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ أَنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي، وَهَذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدِّي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْكَرَامَاتِ.
وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً قَاطِعَةً فِي ثُبُوتِ مُلْكِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَفِيهِ مسائل:
المسألة الأولى: السكينة فعلية مِنَ السُّكُونِ، وَهُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ وَهِيَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ، نَحْوُ:
الْقَضِيَّةُ وَالْبَقِيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّكِينَةِ، وَضَبْطُ الْأَقْوَالِ فِيهَا أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ شَيْئًا حَاصِلًا فِي التَّابُوتِ أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ تَسْكُنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهِ وَتُقِرُّونَ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَتَزُولُ نَفْرَتُكُمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَتَى جَاءَهُمُ التَّابُوتُ مِنَ السَّمَاءِ وَشَاهَدُوا تِلْكَ الْحَالَةَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ وَتَزُولَ نَفْرَتُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّكِينَةِ شَيْءٌ كَانَ مَوْضُوعًا فِي التَّابُوتِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّابُوتِ بِشَارَاتٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ، وَيُزِيلُ خَوْفَ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ الثَّانِي: وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ لَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ السَّكِينَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّكِينَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْأَمْنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْغَارِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: ٢٦] فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنَاهُ الْأَمْنُ وَالسُّكُونُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَصَلَ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ سَكِينَةٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّابُوتِ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى
فَكَمَا أَنَّ التَّابُوتَ كَانَ ظَرْفًا لِلْبَقِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كَلِمَةَ فِي كَمَا تَكُونُ لِلظَّرْفِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِيَّةِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»
وَقَالَ: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ»
أَيْ بِسَبَبِهِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فِيهِ سَكِينَةٌ أَيْ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ السَّكِينَةُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقِيَّةً مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِ هَذَا التَّابُوتِ يَنْتَظِمُ أَمْرُ مَا بَقِيَ من دينها وَشَرِيعَتِهِمَا.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَقِيَّةِ شَيْءٌ كَانَ مَوْضُوعًا فِي التَّابُوتِ فَقَالُوا: الْبَقِيَّةُ هِيَ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَعَصَا مُوسَى وَثِيَابُهُ وَشَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَفِيزٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ هُوَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْفُسَهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»
وَأَرَادَ بِهِ دَاوُدَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آلِ دَاوُدَ مِنَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ مِثْلَ مَا كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّابُوتَ قَدْ تَدَاوَلَتْهُ الْقُرُونُ بَعْدَهُمَا إِلَى وَقْتِ طَالُوتَ، وَمَا فِي التَّابُوتِ أَشْيَاءُ تَوَارَثَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَيَكُونُ الْآلُ هُمُ الْأَتْبَاعُ، قَالَ تَعَالَى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: ٤٦].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَظْهَرُ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاقِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمْ بِآيَةِ التَّابُوتِ أَذْعَنُوا لَهُ، وَأَجَابُوا إِلَى الْمَسِيرِ تَحْتَ رَايَتِهِ. فَلَمَّا فَصَلَ بِهِمْ أَيْ فَارَقَ بِهِمْ حَدَّ بَلَدِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ، وَمَعْنَى الْفَصْلِ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَوْلٌ فَصْلٌ، إِذَا كَانَ يَقْطَعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفَصَلْتُ اللحم عن
فَصَلَ عَنْ مَوْضِعِ كَذَا أَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ لِأَجْلِ الْكَثْرَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَمَا يُقَالُ انْفَصَلَ وَالْجُنُودُ جَمْعُ جُنْدٍ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلْقِ جُنْدٌ عَلَى حِدَةٍ، يُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرَةِ إِنَّهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مَعِي رَجُلٌ يَبْنِي بِنَاءً لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ وَلَا تَاجِرٌ مُشْتَغِلٌ بِالتِّجَارَةِ، وَلَا مُتَزَوِّجٌ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا وَلَا أَبْغِي إِلَّا الشَّابَّ النَّشِيطَ الْفَارِغَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِمَّنِ اخْتَارَ ثَمَانُونَ أَلْفًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مَنْ كَانَ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ هُوَ طَالُوتُ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ طَالُوتُ، ثُمَّ عَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مِنْ طَالُوتَ لَكِنَّهُ تَحَمَّلَهُ مِنْ نَبِيِّ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ طَالُوتُ نَبِيًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وَحْيٍ أَتَاهُ عَنْ رَبِّهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ الْمُلْكِ كَانَ نَبِيًّا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ النَّبِيُّ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ وَنَبِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ أَشْمُوِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكْمَةِ هَذَا الِابْتِلَاءِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: كَانَ مَشْهُورًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُلُوكَ مَعَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِظْهَارَ عَلَامَةٍ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ يَتَمَيَّزُ بِهَا مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ لَا يُؤَثِّرُ كَتَأْثِيرِهِ حَالَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الصَّلَاحَ قَبْلَ مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَاهُمْ لِيَتَعَوَّدُوا الصَّبْرَ عَلَى الشَّدَائِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي النَّهَرِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ، أَنَّهُ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ وَالثَّانِي:
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُ نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَرَ الْمُمْتَدَّ مِنْ بَلَدٍ قَدْ يُضَافُ إِلَى أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ الْوَقْتَ كَانَ قَيْظًا فَسَلَكُوا مَفَازَةً فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهَرًا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِمَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ النَّهَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أَيْ مُمْتَحِنُكُمُ امْتِحَانَ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَانِ: ٢] وَلَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ الشَّيْءِ، وثبت أن الله تعالى لا يثبت، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَى عِلْمِهِ، إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّكْلِيفِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ التَّكْلِيفُ ابْتِلَاءً، وَفِيهِ لُغَتَانِ بَلَا يَبْلُو، وَابْتَلَى يَبْتَلِي، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي | وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ |
كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِنْ حَجَرٍ | فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنَّدَى عَمَلُ |
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وَفِي بَحَرٍ | مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ |
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَلَيْسَ مِنِّي كَالزَّجْرِ، يَعْنِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِي وَطَاعَتِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ هَذَا:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَأَيْضًا نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا»
أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا وَمَذْهَبِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَطْعَمْهُ أَيْ لَمْ يَذُقْهُ، وَهُوَ مِنَ الطَّعْمِ، وَهُوَ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ/ وَالشَّرَابِ هَذَا مَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعِنْدِي إِنَّمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِوَجْهَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَطِشَ جِدًّا، ثُمَّ شَرِبَ الْمَاءَ وَأَرَادَ وَصْفَ ذَلِكَ الْمَاءِ بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَاءَ كَأَنَّهُ الْجُلَّابُ، وَكَأَنَّهُ عَسَلٌ فَيَصِفُهُ بِالطُّعُومِ اللَّذِيذَةِ، فَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ الْعَطَشُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي فَمِهِ كَالْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الطُّعُومِ الطَّيِّبَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ وَتَمَضْمَضَ بِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْفَمِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَاقَهُ وَطَعِمَهُ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهُ، فَلَوْ قَالَ:
وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي كَانَ الْمَنْعُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ كَانَ الْمَنْعُ حَاصِلًا فِي الشُّرْبِ وَفِي الْمَضْمَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ أَشَقُّ، وَأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ إِذَا تَمَضْمَضَ بِهِ وَجَدَ نَوْعَ خِفَّةٍ وَرَاحَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْ مِنْهُ لِيَكُونَ آخِرُ الْآيَةِ مُطَابِقًا أَوَّلَهَا، إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اللَّفْظَ، وَاخْتِيرَ هَذَا لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهَرِ كَيْفَ يَحْنَثُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ إِلَّا إِذَا كَرَعَ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوِ اغْتَرَفَ بِالْكُوزِ مَاءً مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ شُرْبِهِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَشْرَبَ مِنَ النَّهْرِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ إِذَا اغْتَرَفَ الْمَاءَ بِالْكُوزِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ بِالْكُوزِ وَشَرِبَهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ فِي اللَّفْظِ الثَّانِي مَا يُزِيلُ هَذَا الْإِبْهَامَ، فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَضَافَ الطَّعْمَ وَالشُّرْبَ إِلَى الْمَاءِ لَا إِلَى النَّهْرِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْإِبْهَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو غُرْفَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، وقرأ عاصم
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الذِّكْرِ لِلْعِنَايَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ، وَيَحْمِلُ مِنْهَا.
وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَاءِ مَا شَاءَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِغُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، بِحَيْثُ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَكْفِيهِ وَلِدَوَابِّهِ وَخَدَمِهِ، وَلِأَنْ يَحْمِلَهُ مَعَ نَفْسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْقَلِيلَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْبَرَكَةَ فِيهِ حَتَّى يَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرْوِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الْمَعْنَى، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَشَرِبُوا مِنْهُ فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، لَا جَرَمَ حَمَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الصِّدِّيقُ عَنِ الزِّنْدِيقِ، وَالْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِهَذَا الْقِتَالِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِمْ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ، لَا جَرَمَ أَقْدَمُوا عَلَى الشُّرْبِ، فَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَالصَّدِيقُ عَنِ الْعَدُوِّ، وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ طَالُوتَ لَمَّا هَجَمُوا عَلَى النَّهْرِ بَعْدَ عَطَشٍ شَدِيدٍ، وَقَعَ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّهْرِ، وَأَكْثَرُوا الشُّرْبَ، وَأَطَاعَ قَوْمُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الِاغْتِرَافِ، وَأَمَّا الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَاسْوَدَّتْ شِفَاهُهُمْ وَغَلَبَهُمُ الْعَطَشُ وَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَجَبُنُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوِيَ قَلْبُهُمْ وَصَحَّ إِيمَانُهُمْ، وَعَبَرُوا النَّهْرَ سَالِمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَلِيلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَالْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ حِينَ عَبَرُوا النَّهَرَ وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ،
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَشَرِبُوا مِنَ النَّهْرِ رَجَعُوا إِلَى بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهُ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي بَابِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ كَانَ قَبْلَ عُبُورِ النَّهْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا عَبَرَ مَعَهُ إِلَّا الْمُطِيعُ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأُمُورٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِأَنَّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا عَبَرَ النَّهْرَ أَحَدٌ إِلَّا الْمُطِيعِينَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ طَالُوتَ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي فِي سَفَرِي، كَالرَّجُلِ الَّذِي يَقُولُ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ أَنْتَ مِنَّا فِي هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: وَمَعْنَى فَشَرِبُوا مِنْهُ أَيْ لِيَتَسَبَّبُوا بِهِ إِلَى الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دِينِهِمْ وَقَلْبِهِمْ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُتَمَرِّدِ، حَتَّى يَصْرِفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرُدَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدُّوا عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَرَفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا أَذِنَ لَهُمْ فِي عُبُورِ النَّهْرِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ كُلَّ جُنُودِهِ وَكُلُّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ وَاعْتَمَدُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ طَالُوتَ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُنْقَادِ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِ أَوِ الْفَاسِقِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، وَبَيَانُ ضَعْفِهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى مُجَاوَزَةِ النَّهْرِ وَتَخَلَّفَ الْأَكْثَرُونَ ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفُونَ أَنَّ عُذْرَنَا فِي هَذَا التَّخَلُّفِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ فَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي هَذَا التَّخَلُّفِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاوَزَهُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاوَزُوا النَّهْرَ وَرَأَوُا الْقَوْمَ تَخَلَّفُوا وَمَا جَاوَزُوهُ، سَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ، وَمَا كَانَ النَّهْرُ فِي الْعِظَمِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُجَاوَزَةِ قُرْبَ حُصُولِ الْمُجَاوَزَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ أَيْضًا زَائِلٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَبَرُوا النَّهْرَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يُحِبُّ الْحَيَاةَ وَيَكْرَهُ الْمَوْتَ وَكَانَ الْخَوْفُ وَالْجَزَعُ غَالِبًا عَلَى طَبْعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شُجَاعًا قَوِيَّ الْقَلْبِ لَا يُبَالِي بِالْمَوْتِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا شَاهَدُوا قِلَّةَ عَسْكَرِهِمْ قَالُوا: / لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ نُوَطِّنَ أَنْفُسَنَا عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفِرَارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَالُوا: لَا نُوَطِّنُ أَنْفُسَنَا بَلْ نَرْجُو مِنَ اللَّهِ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكَانَ غَرَضُ الْأَوَّلِينَ التَّرْغِيبَ فِي الشهادة والفوز
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّاقَةُ مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِطَاقَةِ، يُقَالُ: أَطَقْتُ الشَّيْءَ إِطَاقَةً وَطَاقَةً، وَمِثْلُهَا أَطَاعَ إِطَاعَةً، وَالِاسْمُ الطَّاعَةُ، وَأَغَارَ يُغِيرُ إِغَارَةً وَالِاسْمُ الْغَارَةُ، وَأَجَابَ يُجِيبُ إِجَابَةً وَالِاسْمُ الْجَابَةُ وَفِي الْمَثَلِ: أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ جَابَةً، أَيْ جَوَابًا.
أَمَّا قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لِمَ جَعَلَهُمْ ظَانِّينَ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ حَازِمِينَ؟
وَجَوَابُهُ: أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أُمُورٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ الْمَوْتُ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»
وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ لَمَّا وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، وَغَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْمَوْتِ، لَا جَرَمَ قِيلَ في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقوا ثَوَابِ اللَّهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا رَاجِيًا وَإِنْ بَلَغَ فِي الطَّاعَةِ أَبْلَغَ الْأَمْرِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ حَسَنٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَالَ الذين يظنون أنهم ملاقوا طَاعَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا بِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَهُ طَاعَةٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَتَى فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَكُونُ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ طَاعَةً، إِنَّمَا الْمُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى نَعْتِ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكِينَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ فِي التَّابُوتِ كُتُبٌ إِلَهِيَّةٌ نَازِلَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ لِطَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ يَحْصُلُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَوْ بعدها، فقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وَعْدِ اللَّهِ بِالظَّفَرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ ظَنًّا لَا يَقِينًا لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعًا إِلَّا أَنَّ حُصُولَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا كَانَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الظَّنِّ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بقوله: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيُوقِنُونَ، إِلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الظَّنِّ عَلَى الْيَقِينِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِمَا بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ مِنَ الْمُشَابَهَةِ فِي تَأَكُّدِ الِاعْتِقَادِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ قُلُوبِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ إِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ، وَالنَّصْرِ السَّمَاوِيِّ، فَإِذَا جَاءَتِ الدَّوْلَةُ فَلَا مَضَرَّةَ فِي الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْمِحْنَةُ فَلَا مَنْفَعَةَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ فَاءَ إِلَى بَعْضٍ فَصَارُوا جَمَاعَةً، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْفِئَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَفَأَيْتُ إِذَا قَطَعْتَ، فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَعُونَةُ وَالنُّصْرَةُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا لِلَّذِينِ قَالُوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٠]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُبَارَزَةُ فِي الْحُرُوبِ، هِيَ أَنْ يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ وَقْتَ الْقِتَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الْأَرْضَ الْفَضَاءَ الَّتِي لَا حِجَابَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا الْبَرَازُ، فَكَانَ الْبُرُوزُ عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْضِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَرَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَرَى صَاحِبَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَقْوِيَاءَ مِنْ عَسْكَرِ طَالُوتَ لَمَّا قَرَّرُوا مَعَ الْعَوَامِّ وَالضُّعَفَاءِ أَنَّهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَوْضَحُوا أَنَّ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، لَا جَرَمَ لَمَّا بَرَزَ عَسْكَرُ طَالُوتَ إِلَى عَسْكَرِ جَالُوتَ وَرَأَوُا الْقِلَّةَ فِي جَانِبِهِمْ، وَالْكَثْرَةَ فِي جَانِبِ عَدُوِّهِمْ، لَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَنَظِيرُهُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ الِالْتِقَاءِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦] / إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٧] وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ،
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي وَيَسْتَنْجِزُ مِنَ اللَّهِ وَعْدَهُ، وَكَانَ مَتَى لَقِيَ عَدُوًّا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَبِكَ أَجُولُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِفْرَاغُ الصَّبُّ، يُقَالُ: أَفْرَغْتُ الْإِنَاءَ إِذَا صَبَبْتَ مَا فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرَاغِ، يُقَالُ: فُلَانٌ فَارِغٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالٍ مِمَّا يَشْغَلُهُ، وَالْإِفْرَاغُ إِخْلَاءُ الْإِنَاءِ مِمَّا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَخْلُو بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ الصَّبْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ إِذَا صَبَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ فَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالثَّانِي: أَنَّ إِفْرَاغَ الْإِنَاءِ هُوَ إِخْلَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِصَبِّ كُلِّ مَا فِيهِ، فَمَعْنَى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا: أَيِ اصْبُبْ عَلَيْنَا أَتَمَّ صَبٍّ وَأَبْلَغَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَطْلُوبَةَ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ صَبُورًا عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمَخَاوِفِ وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْلَى لِلْمُحَارِبِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جَبَانًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودٌ أَصْلًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَدَ مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالِاتِّفَاقَاتِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَقِفَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَصِيرَ مُلْجَأً إِلَى الْفِرَارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَزْدَادَ قُوَّتُهُ عَلَى قُوَّةِ عَدُوِّهِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَقْهَرَ العدو.
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَالثَّالِثَةُ: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّبْرِ إِلَّا الْقَصْدُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِلثَّبَاتِ إِلَّا السُّكُونُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ الْمُسَمَّى بِالصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَعَلَى أَنَّ الثَّبَاتَ وَالسُّكُونَ الْحَاصِلَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَيْضًا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَبِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّبْرِ وَتَثْبِيتِ الْقَدَمِ تَحْصِيلُ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، وَأَسْبَابِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ، وَتِلْكَ الْأَسْبَابُ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْجُبْنَ مِنْهُمْ فَيَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْهُمُ الِاضْطِرَابُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَيَصِيرَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَرْكِ الِانْهِزَامِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَلْطُفَ بِبَعْضِ أَعْدَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَيَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ وَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْدِثَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ مِنَ/ الْبَلَاءِ مِثْلَ الْمَوْتِ وَالْوَبَاءِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَفَرَّغُونَ حِينَئِذٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِمَرَضٍ وَضَعْفٍ يَعُمُّهُمْ أَوْ يَعُمُّ أَكْثَرَهُمْ، أَوْ يَمُوتَ رَئِيسُهُمْ وَمَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ فَيَعْرِفَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ قُلُوبِهِمْ، وَمُوجِبًا لِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى السُّكُوتِ وَالثَّبَاتَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْعَبْدِ وَمُرَادَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْرِفُونَ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَحْمِلُونَهُ عَلَى أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَثَبَاتِ الْأَقْدَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي سَلَّمْتُمْ أَنَّهَا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَتْ وَوُجِدَتْ فَهَلْ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ الدَّاعِي أَوْ لَيْسَ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِهَا مِنَ اللَّهِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ فَعِنْدَ صُدُورِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجَّحَةِ مِنَ اللَّهِ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، وَعِنْدَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ يَمْتَنِعُ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ، فَيَجِبُ حُصُولُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النقيض وهو المطلوب والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥١]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَأَفْرَغَ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَحَقَّقَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ مَنْ قَالَ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وفَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَصْلُ الْهَزْمِ فِي اللُّغَةِ الْكَسْرُ، يُقَالُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ إِذَا تَشَقَّقَ مَعَ جَفَافٍ، وَهَزَمْتُ الْعَظْمَ أَوِ الْقَصَبَةَ هَزْمًا، وَالْهَزْمَةُ نُقْرَةٌ فِي الْجَبَلِ، أَوْ فِي الصَّخْرَةِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي زَمْزَمَ: هِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ يُرِيدُ هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَيُقَالُ: سَمِعْتُ هَزْمَةَ/ الرَّعْدِ كَأَنَّهُ صَوْتٌ فِيهِ تَشَقُّقٌ، وَيُقَالُ لِلسَّحَابِ: هَزِيمٌ، لِأَنَّهُ يَتَشَقَّقُ بِالْمَطَرِ، وَهَزَمَ الضَّرْعَ وَهَزْمُهُ مَا يُكْسَرُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ وتوفيقه
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَزِيمَةَ عَسْكَرِ جَالُوتَ كَانَتْ مِنْ طَالُوتَ وَإِنْ كَانَ قَتْلُ جَالُوتَ مَا كَانَ إِلَّا مِنْ دَاوُدَ وَلَا دَلَالَةَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّ انْهِزَامَ الْعَسْكَرِ كَانَ قَبْلَ قَتْلِ جَالُوتَ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَحَمُّلِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُهَا جَزَاءً عَلَى الطَّاعَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ [الدُّخَانِ: ٣٢، ٣٣] وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَتَلَ جَالُوتَ، قَالَ بَعْدَهُ: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَالسُّلْطَانُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ قَامُوا بِخِدْمَةٍ شَاقَّةٍ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْخِدْمَةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ النُّبُوَّةَ لَا يَجُوزُ جَعْلُهَا جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ، بَلْ ذَلِكَ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِنْعَامِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: ٧٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ حِينَ قَتَلَ جَالُوتَ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ عَقِيبَ ذِكْرِهِ لِقَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَبَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا قَتَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَصْمِ الْعَظِيمِ بِالْمِقْلَاعِ وَالْحَجَرِ، كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَعَلَّقَتِ الْأَحْجَارُ مَعَهُ وَقَالَتْ: خُذْنَا فَإِنَّكَ تَقْتُلُ جَالُوتَ بِنَا، فَظُهُورُ الْمُعْجِزِ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا الْمُلْكُ فَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا مِنْهُ قَهْرَ ذَلِكَ الْعَدُوِّ الْعَظِيمِ الْمَهِيبِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُلْكِ لَهُ ظَاهِرًا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ حُصُولَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ لَهُ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِسَبْعِ سِنِينَ عَلَى مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، قَالُوا وَالرِّوَايَاتُ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ عَيَّنَ طَالُوتَ لِلْمُلْكِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْمُلْكِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَشْمُويِلَ، وَمَلِكُ ذَلِكَ الزَّمَانِ طَالُوتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَشْمُويِلُ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى النُّبُوَّةَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ، وَكَمَالُ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هاهنا النُّبُوَّةَ، قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٥٤] وَقَالَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦].
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَلِمَ قَدَّمَ الْمُلْكَ عَلَى الْحِكْمَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ تَرَقِّي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي، فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ تَأَخُّرًا فِي الذِّكْرِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَعْظَمَ رُتْبَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٠] وَقَالَ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سَبَأٍ: ١٠، ١١] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ كَلَامُ الطَّيْرِ وَالنَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْلِ: ١٦] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا وَضَبْطِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ مَا وَرِثَ الْمُلْكَ مِنْ آبَائِهِ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُلُوكًا بَلْ كَانُوا رُعَاةً وَرَابِعُهَا: عِلْمُ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النِّسَاءِ: ١٦٣] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَخَامِسُهَا: الْأَلْحَانُ الطَّيِّبَةُ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَقَدْ دَخَلَ الْعِلْمُ فِي ذلك، فلم ذكر بعده عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَطُّ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعَلُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ زَالَ بِمَا كَانَ مِنْ طَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَبِمَا كَانَ مِنْ دَاوُدَ مِنْ قَتْلِ جَالُوتَ بَيَّنَ عَقِيبَ ذَلِكَ جُمْلَةً تَشْتَمِلُ كُلَّ تَفْصِيلٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَدْفَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِكَيْ لَا تَفْسُدَ الْأَرْضُ، فَقَالَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ [الْحَجِّ: ٤٠] وقرءا جميعا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: ٣٨] بِغَيْرِ أَلِفٍ وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيُّ عَلَى دَفْعِ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ قَرَءُوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَلَوْلَا دِفَاعُ الله وإِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بِالْأَلِفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ
كتبته كتبا وكتابا، قالوا: وفعال كثيرا يَجِيءُ مَصْدَرًا لِلثُّلَاثِيِّ مِنْ فَعَلَ وَفَعِلَ، تَقُولُ: جَمَحَ جِمَاحًا، وَطَمَحَ طِمَاحًا، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ لِقَاءً، وَقُمْتُ قِيَامًا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ مَعْنَاهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ جَعَلَ دِفَاعُ مِنْ دَافَعَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَكُفُّ الظَّلَمَةَ وَالْعُصَاةَ عَنْ ظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَيْدِي أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَئِمَّةِ دِينِهِ وَكَانَ يَقَعُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْمُحِقِّينَ وَأُولَئِكَ الْمُبْطِلِينَ مُدَافَعَاتٌ وَمُكَافَحَاتٌ، فَحَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُدَافَعَةِ، كَمَا قَالَ: يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: ٣٣]، واقُّوا اللَّهَ
[الْأَنْفَالِ: ١٣] وَكَمَا قَالَ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: ٣٠] وَنَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدْفُوعَ وَالْمَدْفُوعَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ، وَقَوْلُهُ: بِبَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ بِهِ، فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ عَنْهُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ، فَتِلْكَ الشُّرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ بِهَا إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ إِلَى الْفِسْقِ، أَوْ إِلَيْهِمَا، فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ.
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ بِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْبَيِّنَاتِ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: ١].
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ: الْأَئِمَّةُ الْمَنْصُوبُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: ٩٦] وفي موضع آخر: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرَّعْدِ: ٢٢].
الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّافِعِينَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ وَالْمُلُوكُ الذَّابُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِمْ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْبِزْ هَذَا لِذَاكَ وَلَا يَطْحَنُ ذَاكَ لِهَذَا، وَلَا يَبْنِي هَذَا لِذَاكَ، وَلَا يَنْسِجُ ذَاكَ لِهَذَا، لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْإِنْسَانُ مَدَّنِيٌّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ إِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُخَاصَمَةِ أَوَّلًا، وَالْمُقَاتَلَةِ ثَانِيًا، فَلَا بُدَّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ وَضْعِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ الْخَلْقِ، لِتَكُونَ الشَّرِيعَةُ قَاطِعَةً لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ أُوتُوا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ هُمُ الَّذِينَ دفع الله بسببهم وبسبب شريعهم الْآفَاتِ عَنِ الْخَلْقِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام «الإسلام والسلطان أخوان توأمان»
وَقَالَ أَيْضًا: «الْإِسْلَامُ أَمِيرٌ، وَالسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فَمَا لَا أَمِيرَ لَهُ فَهُوَ مُنْهَزِمٌ، وَمَا لَا حَارِسَ لَهُ فَهُوَ ضَائِعٌ»
وَلِهَذَا يَدْفَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْوَاعَ شُرُورِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ وَضْعِ الشَّرَائِعِ وَبِسَبَبِ نَصْبِ الْمُلُوكِ وَتَقْوِيَتِهِمْ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَغَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ الْقَتْلُ وَالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يُسَمَّى فَسَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٥] وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَصِ: ١٩] وَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غَافِرٍ: ٢٦] وَقَالَ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ١٢٧] وَقَالَ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الرُّومِ: ٤١] وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الْحَجِّ: ٤٠].
الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَهَلَكَتْ بِمَنْ فِيهَا، وَتَصْدِيقُ هَذَا مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُدْفَعُ بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ/ أُمَّتِي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي، وَبِمَنْ يَصُومُ عَمَّنْ لَا يَصُومُ، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُجَاهِدُ عَمَّنْ لَا يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَنْظَرَهُمُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الْكَهْفِ: ٨٢] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ [الْفَتْحِ: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْحِ: ٢٥] وَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣] وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَيْ لَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَهَا لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ.
وَالِاحْتِمَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ دَخَلَتِ الْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ خَلْقِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ لِدِفَاعِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِ الْفَسَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِمُ الْفَسَادَ إِنَّمَا لَا يَقَعُ بِسَبَبِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْلُقُهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الْفَسَادِ، فَإِذَا صَحَّ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْفَسَادَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَمِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْفَسَادِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ دَفْعَ الْفَسَادِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِنْعَامٌ يعم الناس
فَإِنْ قَالُوا: يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ وَالْأَمْرِ.
قُلْنَا: كُلُّ ذَلِكَ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الدَّفْعُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْنَا إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ نَفْسِ ذَلِكَ الدَّفْعِ وذلك يوجب قولنا والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ حَدِيثِ الْأُلُوفِ وَإِمَاتَتِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ وَتَمْلِيكِ طَالُوتَ، وَإِظْهَارِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ نُزُولُ التَّابُوتِ مِنَ السَّمَاءِ، وَغَلَبِ الْجَبَابِرَةِ عَلَى يَدِ دَاوُدَ وَهُوَ صَبِيٌّ فَقِيرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ آيَاتٌ بَاهِرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: تِلْكَ وَلَمْ يَقُلْ: (هَذِهِ) مَعَ أَنَّ تِلْكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى غَائِبٍ لَا إِلَى حَاضِرٍ؟.
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ٢] أَنَّ تِلْكَ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى هَذِهِ وَهَذَا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْقِصَصُ لَمَّا ذُكِرَتْ صَارَتْ بَعْدَ ذِكْرِهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي انْقَضَى وَمَضَى، فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: تِلْكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَتْلُوها يَعْنِي يَتْلُوهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ لَكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلَاوَةً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠].
أَمَّا قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْتَبِرَ بِهَا أُمَّتُهُ فِي احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ فِي الْجِهَادِ، كَمَا احْتَمَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَثَانِيهَا: بِالْحَقِّ أَيْ بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا وَثَالِثُهَا: إِنَّا أَنْزَلَنَا هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ دَالَّةً فِي نُبُوَّتِكَ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَرَابِعُهَا: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أَيْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ، وَلَا بِسَبَبِ تَحْرِيفِ الْكَهَنَةِ وَالسَّحَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا دِرَاسَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَهَا وَعَرَفَهَا بِسَبَبِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَا جَرَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَالرَّدِّ لِقَوْلِهِمْ، فَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ بِكَ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْكَ، لِأَنَّكَ مِثْلُهُمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ الْكُلَّ لِتَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ وَلِامْتِثَالِ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّطَوُّعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ، فَلَا عُتْبَ عَلَيْكَ فِي
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تِلْكَ ابْتِدَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: تِلْكَ وَلَمْ يَقُلْ أُولَئِكَ الرُّسُلُ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الرُّسُلُ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِتِلْكَ وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ، كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَأَشْمُوِيلَ وَدَاوُدَ وَطَالُوتَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ:
تِلْكَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِدَفْعِ الْفَسَادِ، الَّذِينَ إِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: ٢٥١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْهُ تَعْلِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْبَأَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَعَ قَوْمِهِمْ، كَسُؤَالِ قَوْمِ مُوسَى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: ١٥٣] وَقَوْلِهِمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] وَكَقَوْمِ عِيسَى بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مِنْهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَذَّبُوهُ وَرَامُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فَرِيقٌ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَفَرِيقٌ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَادَّعَتْ عَلَى الْيَهُودِ مَنْ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ مَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَسَدُوا طَالُوتَ وَدَفَعُوا مُلْكَهُ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مَنْ أَمْرِ النَّهْرِ، فَعَزَّى اللَّهُ رَسُولَهُ عَمَّا/ رَأَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْحَسَدِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُمْ، وَرَفَعَ الْبَاقِينَ دَرَجَاتٍ وَأَيَّدَ عِيسَى بِرُوحِ الْقُدُسِ، قَدْ نَالَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَنْتَ رَسُولٌ مِثْلُهُمْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا تَرَى مِنْ قَوْمِكَ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ تَخْتَلِفُوا أَنْتُمْ وَأُولَئِكَ، وَلَكِنْ مَا قَضَى اللَّهُ فَهُوَ كَائِنٌ، وَمَا قَدَّرَهُ فَهُوَ وَاقِعٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِهِ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَعَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْكُلِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٧] فَلَمَّا كَانَ رَحْمَةً لِكُلِّ الْعَالَمِينَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فَقِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَرَنَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ بِذِكْرِهِ فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَفِي الْأَذَانِ وَفِي التَّشَهُّدِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ.
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [الْمُنَافِقُونَ: ٨] وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ فَقَالَ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] وإجابته بإجابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَالِ: ٢٤].
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا بِأَنْ يَتَحَدَّى بِكُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] وَأَقْصَرُ السُّوَرِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ تَحَدَّاهُمْ بكل ثلاثة آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ الْقُرْآنِ سِتَّةَ آلَافِ آيَةٍ، وَكَذَا آيَةٍ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْجِزُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا وَاحِدًا بَلْ يَكُونُ أَلْفَيْ مُعْجِزَةٍ وَأَزْيَدَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسَى بِتِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَلِأَنْ يَحْصُلَ التَّشْرِيفُ لِمُحَمَّدٍ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَانَ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ مُعْجِزَةَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُنَا أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
بَيَانُ الْأَوَّلِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْقُرْآنُ فِي الْكَلَامِ كَآدَمَ فِي الْمَوْجُودَاتِ».
بَيَانُ الثَّانِي أَنَّ الْخِلْعَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشْرَفَ كَانَ صَاحِبُهَا أَكْرَمَ عِنْدَ الْمَلِكِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ مُعْجِزَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جِنْسِ الْأُمُورِ الْبَاقِيَةِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مُعْجِزَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاقِيَةً إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَانِيَةً مُنْقَضِيَةً.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا حَكَى أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ/ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: ٩٠] فَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، أَوْ فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ سَائِرَ الشَّرَائِعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّا أَطْلَعْنَاكَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَاخْتَرْ أَنْتَ مِنْهَا أَجْوَدَهَا وَأَحْسَنَهَا وَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي كُلِّهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْمَرْضِيَّةِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَشَقَّتُهُ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، أَمَّا إِنَّهُ بُعِثَ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: ٢٨] وَأَمَّا إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَشَقَّتُهُ أَكْثَرَ فَلِأَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا فَرْدًا مِنْ غَيْرِ مَالٍ وَلَا أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ، فَإِذَا قَالَ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ صَارَ الْكُلُّ أَعْدَاءً لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ خَائِفًا مِنَ الْكُلِّ، فَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ عَظِيمَةً، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُوَ مَا كَانَ يَخَافُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْكُلُّ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قِيلَ لَهُ: هَذَا الْبَلَدُ الْخَالِي عَنِ الصَّدِيقِ وَالرَّفِيقِ فِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ ذُو قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ فَاذْهَبْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَحِيدًا وَبَلِّغْ إِلَيْهِ خبرا يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما مسحت نَفْسُهُ بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا».
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ نَاسِخًا لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالنَّاسِخُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الدِّينُ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا، كَانَ وَاضِعُهُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ وَاضِعِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] بَيَانُ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِنَّمَا/ نَالَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَفَضِيلَةُ التَّابِعِ تُوجِبُ فَضِيلَةَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، لِأَنَّ لِكَثْرَةِ الْمُسْتَجِيبِينَ أَثَرًا فِي عُلُوِّ شَأْنِ الْمَتْبُوعِ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، لِأَنَّ نَسْخَ الْفَاضِلِ بِالْمَفْضُولِ قَبِيحٌ فِي الْمَعْقُولِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ يَكُونُ لِأُمُورٍ مِنْهَا: كَثْرَةُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي هِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَمُوجِبَةٌ لِتَشْرِيفِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَفْضُلُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ، كَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَإِرْوَائِهِمْ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي ذَاتِهِ بِالْفَضَائِلِ، نَحْوُ كَوْنِهِ أَشْرَفَ نَسَبًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَأَيْضًا كَانَ فِي غَايَةِ الشَّجَاعَةِ، كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَمْرِو بْنِ وُدٍّ: كَيْفَ وَجَدْتَ نَفْسَكَ يَا عَلِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُهَا لَوْ كَانَ كُلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي جَانِبٍ وَأَنَا فِي جَانِبٍ لَقَدَرْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَأَهَّبْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْوَادِي فَتًى يُقَاتِلُكَ، الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ
وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْهَا فِي خُلُقِهِ وَحِلْمِهِ وَوَفَائِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَسَخَائِهِ، وَكُتُبُ الْحَدِيثِ نَاطِقَةٌ بِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ وَمِنْ كُلِّ أَوْلَادِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي»
وَرَوَى أنس قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ:
فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَحُجَّتَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَا أَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ الْجَنَّةِ فَيُفْتَحُ لِي فَأَدْخُلُهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» أَنَّهُ ظَهَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَسْتَ أَنْتَ سَيِّدُ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ وَهُوَ سَيِّدُ الْعَرَبِ،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَكَانَ النَّبِيُّ قَبْلِي يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَادَّخَرْتُهَا لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا»
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ عَلَى غَيْرِهِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى: إِنَّ كُلَّ أَمِيرٍ فَإِنَّهُ تَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَى قَدْرِ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي تَكُونُ إِمَارَتُهُ عَلَى قَرْيَةٍ تَكُونُ مُؤْنَتُهُ بِقَدْرِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَمَنْ مَلَكَ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ احْتَاجَ إِلَى أَمْوَالٍ وَذَخَائِرَ أَكْثَرَ مِنْ أَمْوَالِ أَمِيرِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَكَذَلِكَ كُلُّ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ فَأُعْطِيَ مِنْ كُنُوزِ التَّوْحِيدِ وَجَوَاهِرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَدْرِ مَا حَمَلَ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَالْمُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ فِي طَرَفٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْأَرْضِ إِنَّمَا يُعْطَى مِنْ هَذِهِ الْكُنُوزِ الرُّوحَانِيَّةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْمُرْسَلُ إِلَى كُلِّ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعْطَى مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِسَعْيِهِ بِأُمُورِ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ نِسْبَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةِ كُلِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى مُلْكِ بَعْضِ الْبِلَادِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أُعْطِيَ مِنْ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَلَا جَرَمَ بَلَغَ فِي الْعِلْمِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمِ: ١٠] وَفِي الْفَصَاحَةِ إِلَى أَنْ
قَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»
وَصَارَ كِتَابُهُ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ وَصَارَتْ أُمَّتُهُ خَيْرَ الْأُمَمِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عشرة:
روى محمد بن الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ «النَّوَادِرِ» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمُوسَى نَجِيًّا، وَاتَّخَذَنِي حَبِيبًا، ثُمَّ قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُوثِرَنَّ حَبِيبِي عَلَى خَلِيلِي وَنَجِيِّي».
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا،
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا نَادَى نَبِيًّا فِي الْقُرْآنِ نَادَاهُ باسمه يا آدَمُ اسْكُنْ [البقرة: ٣٥]، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [الصافات: ١٠٤]، يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: ١٠، ١١] وَأَمَّا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السلام فإنه ناداه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْفَضْلَ.
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُلْقِيَ فِي النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ فَانْقَلَبَتْ رَوْحًا وَرَيْحَانًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوتِيَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَمُحَمَّدٌ مَا كَانَ لَهُ مِثْلُهَا، وَدَاوُدُ لَانَ لَهُ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرِينَ لَهُ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيسَى أَنْطَقَهُ اللَّهُ فِي الطُّفُولِيَّةِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى إِبْرَاهِيمَ فِي كِتَابِهِ خَلِيلًا، فَقَالَ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ:
١٢٥] وَقَالَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: ١٦٤] وَقَالَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيمِ: ١٢] وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى»
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ».
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا فِي الْمَسْجِدِ نَتَذَاكَرُ فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرْنَا نُوحًا بِطُولِ عِبَادَتِهِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِخُلَّتِهِ، وَمُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَعِيسَى بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقُلْنَا رَسُولُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟
فَذَكَرْنَا لَهُ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا» وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً قَطُّ وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَقَالَ: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ»
وَنُقِلَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِرِكَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى صَلَّى بِنَفْسِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِسُجُودِ آدَمَ تَأْدِيبًا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبًا وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً الثَّالِثُ:
أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ إِنَّمَا تَوَلَّاهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا تَوَلَّاهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ/ لِآدَمَ لِأَجْلِ أَنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبْهَةِ آدَمَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ آدَمَ بِالْعِلْمِ، فَقَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي حَقِّهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَقَالَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: ٧] وَأَيْضًا فَمُعَلِّمُ آدَمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ وَمُعَلِّمُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ جِبْرِيلُ
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي عِلْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي»
وَقَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ٢]
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: (أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ)
وَقَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وبين قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى فَذَاكَ بِحَسَبِ التَّلْقِينِ، وَأَمَّا التَّعْلِيمُ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ: ٤٢].
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١١٤] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُلُقَ نُوحٍ أَحْسَنُ.
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نُوحٍ: ١] فَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ الْعَذَابَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ فِيهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ:
١٠٧]، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] إِلَى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَكَانَ عَاقِبَةُ نُوحٍ أَنْ قَالَ:
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَعَاقِبَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّفَاعَةَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٩] وَأَمَّا سَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي «كُتُبِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزَةٌ أَفْضَلُ مِنْهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْكِتَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد منه مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْهَاءُ تُحْذَفُ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: ٧١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ كَلَّمَ اللَّهَ بِالنَّصْبِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَدَلُّ عَلَى الْفَضْلِ، لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُ اللَّهَ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُصَلِّي مُنَاجٍ رَبَّهُ»
إِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَأَ اليماني:
كالم الله من المكالمة، ويدل على قَوْلُهُمْ: كَلِيمُ اللَّهِ بِمَعْنَى مُكَالِمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ فَالْمَسْمُوعُ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ أَمْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ: الْمَسْمُوعُ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ رُؤْيَةُ مَا لَيْسَ بِمُكَيَّفٍ، فَكَذَا لَا يُسْتَبْعَدُ سَمَاعُ مَا لَيْسَ بِمُكَيَّفٍ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: سَمَاعُ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا الْمَسْمُوعُ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَالُوا وَقَدْ سَمِعَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى السَبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَهَلْ سَمِعَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمِ: ١٠].
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ غَايَةِ مَنْقَبَةِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَلَّمَ اللَّهُ
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قِصَّةَ إِبْلِيسَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَعَلَّ الْوَاسِطَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مَرَاتِبَ الرُّسُلِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِثْلَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَجَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَسَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ وَالرِّيحَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَاصِلًا لِأَبِيهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَبِأَنَّ شَرْعَهُ نَاسِخٌ لِكُلِّ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا إِنْ حَمَلْنَا الدَّرَجَاتِ عَلَى الْمَنَاصِبِ وَالْمَرَاتِبِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُوتِيَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ لَائِقًا بِزَمَانِهِ فَمُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، كَانَ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ وَهُوَ السِّحْرُ، وَمُعْجِزَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى، كَانَتْ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ، وَهُوَ الطِّبُّ، وَمُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الْقُرْآنُ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْخُطَبِ وَالْأَشْعَارِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْجِزَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَبِالْبَقَاءِ وَعَدَمِ الْبَقَاءِ، وَبِالْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَقُوَّةُ الدَّوْلَةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ عَلِمْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلْكُلِّ فَمَنْصِبُهُ أَعْلَى وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْقَى وَأَقْوَى وَقَوْمُهُ أَكْثَرُ وَدَوْلَتُهُ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالرَّمْزِ كَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا عَظِيمًا فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا/ فَيَقُولُ أَحَدُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَخَامَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كَلَامٌ كُلِّيٌّ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ شُرُوعٌ فِي تفضيل تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إِعَادَةٌ لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعَادَةَ الْكَلَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْصِيلِ جُزْئِيَّاتِهِ يَكُونُ مُسْتَدْرَكًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ تَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ حَصَلَ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ فلم يكن تكريرا.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ثُمَّ عَدَلَ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ثُمَّ عَدَلَ مِنَ الْمُغَايَبَةِ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ ثُمَّ عَنْهَا إِلَى الْمُخَاطَبَةِ مَرَّةً أُخْرَى؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَهْيَبُ وَأَكْثَرُ وَقْعًا مِنْ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمْنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فَلِهَذَا الْمَقْصُودِ اخْتَارَ لَفْظَةَ الْغَيْبَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ فَإِنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْمُخَاطَبَةِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا ضَمِيرُ التَّعْظِيمِ وَتَعْظِيمُ الْمُؤْتَى يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْإِيتَاءِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ مُوسَى وَعِيسَى مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذِّكْرِ؟ وَهَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا؟.
وَالْجَوَابُ: سَبَبُ التَّخْصِيصِ أَنَّ مُعْجِزَاتِهِمَا أَبَرُّ وَأَقْوَى مِنْ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِمَا وَأَيْضًا فَأُمَّتُهُمَا مَوْجُودُونَ حَاضِرُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأُمَمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسُوا مَوْجُودِينَ فَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي أُمَّتِهِمَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَانِ الرَّسُولَانِ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا وَكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِهِمَا لَمْ يَحْصُلِ الِانْقِيَادُ مِنْ أُمَّتِهِمَا، بَلْ نَازَعُوا وَخَالَفُوا، وَعَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِهِمَا أعرضوا.
السؤال الثالث: تخصيص عيسى بن مَرْيَمَ بِإِيتَاءِ الْبَيِّنَاتِ، يَدُلُّ أَوْ يُوهِمُ أَنَّ إِيتَاءَ الْبَيِّنَاتِ مَا حَصَلَ فِي غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أن ذلك غير جائز فإن قلتم: إِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ/ أَقْوَى؟ فَنَقُولُ: إِنَّ بَيِّنَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ بَيِّنَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ.
الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قُبْحِ أَفْعَالِ الْيَهُودِ، حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ اللَّائِحَةِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الْبَيِّنَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقُدُسُ تُثَقِّلُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَتَخَفِّفُهُ تَمِيمٌ.
المسألة الثانية: في تفسيره أقوال لأول: قَالَ الْحَسَنُ: الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَالْمَعْنَى أَعَنَّاهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَفِي وَسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ، أَمَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فلقوله: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: ١٢] وَأَمَّا فِي وَسَطِهِ فَلِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْعُلُومَ، وَحَفِظَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَحِينَ أَرَادَتِ الْيَهُودُ قَتْلَهُ أَعَانَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: ١٠٢].
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي أُيِّدَ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّوحَ الطَّاهِرَةَ الَّتِي نَفَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَأَبَانَهُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ خُلِقَ مِنِ اجْتِمَاعِ نُطْفَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا هو أن الرسل بعد ما جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَوَضَحَتْ لَهُمُ الدَّلَائِلُ وَالْبَرَاهِينُ، اخْتَلَفَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ تَقَاتَلُوا وَتَحَارَبُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ الْحَوَادِثِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْتَتِلُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَازِمٌ لِمَشِيئَةِ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، فَحَيْثُ وُجِدَ الِاقْتِتَالُ عَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَةَ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ مَفْقُودَةٌ، بَلْ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ مَشِيئَةَ الِاقْتِتَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِتَالَ مَعْصِيَةٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَالْعِصْيَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَعَلَى أَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَقِتَالَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالُوا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قَتَلُوا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَلَبَةٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَسَلَبَ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مِنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ جَبْرًا وَقَسْرًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَوْ شَاءَ الْإِمَامُ لَمْ يَعْبُدِ الْمَجُوسُ النَّارَ فِي مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ تَشْرَبِ النَّصَارَى الْخَمْرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَا هاهنا، ثُمَّ أَكَّدَ الْقَاضِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ تَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ وَتَنْتَفِي عَلَى وُجُوهٍ لَمْ يَكُنْ فِي الظَّاهِرِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ مُتَبَايِنَةٌ مُتَنَافِيَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَشِيئَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَبَايَنَتْ إِلَّا أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي عُمُومِ كَوْنِهَا مَشِيئَةً، وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ هُوَ الْمَشِيئَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُسَمَّى حَاصِلًا، وَتَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِمَّا مَشِيئَةُ الْهَلَاكِ، أَوْ مَشِيئَةُ سَلْبِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، أَوْ مَشِيئَةُ الْقَهْرِ وَالْإِجْبَارِ، تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ، وَالْعِلْمُ بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ حَالَ عَدَمِ وُقُوعِ الِاقْتِتَالِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَبَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، فَحَالُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاقْتِتَالِ لَوْ أَرَادَ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَلَا جَرَمَ اقْتَتَلُوا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ يَسْتَلْزِمُ التَّقَاتُلَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ،
ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟.
قُلْنَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ وَتَكْذِيبًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ قَضَاءٌ وَلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ/ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْخَصْمَ يُسَاعِدُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَيْضًا لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ فَلَوْ كَانَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ لَفَعَلَ فِيهِمُ الْإِيمَانَ، وَلَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُعْتَزِلَةُ يُقَيِّدُونَ الْمُطْلَقَ وَيَقُولُونَ: الْمُرَادُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ تَصِيرُ الْآيَةُ بَيَانًا لِلْوَاضِحَاتِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قدرته وعلو مرتبته والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
اعْلَمْ أَنَّ أَصْعَبَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي الْإِنْفَاقِ فَلَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، وَأَيْضًا فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٤] ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَكَّدَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ طَالُوتَ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا.
إِذَا عَرَفْتَ وَجْهَ النَّظْمِ فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ فَنَقُولُ:
اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا مَا كَانَ حَرَامًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ حَرَامًا، وَالْأَصْحَابُ قَالُوا: ظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا إِلَّا أَنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْأَمْرَ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا حَلَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْفِقُوا مُخْتَصٌّ بِالْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ كَالزَّكَاةِ أَمْ هُوَ عَامٌّ/ فِي كُلِّ الْإِنْفَاقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْأَمْرُ مُخْتَصٌّ بِالزَّكَاةِ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ
كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى الْوَاجِبِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ:
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَا بَيْعَ، وَلَا خُلَّةَ، وَلَا شَفَاعَةَ بِالنَّصْبِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣١] وَفِي الطُّورِ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطُّورِ: ٢٣] وَالْبَاقُونَ جَمِيعًا بِالرَّفْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ [الْبَقَرَةِ:
١٩٧].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِيءُ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِمَّا حَصَّلَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠].
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا بَيْعٌ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أن البيع هاهنا بِمَعْنَى الْفِدْيَةِ، كَمَا قَالَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيدِ: ١٥] وَقَالَ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَةِ: ١٢٣] وَقَالَ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَامِ: ٧] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تِجَارَةَ فِيهِ فَتَكْتَسِبَ مَا تَفْتَدِي بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي هُوَ فِي مِلْكِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ تِجَارَةٌ وَلَا مُبَايَعَةٌ حَتَّى يُكْتَسَبَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا خُلَّةٌ فَالْمُرَادُ الْمَوَدَّةُ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] وَقَالَ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: ١٦٦] وقال: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥] وَقَالَ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٠] وَقَالَ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٠] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا شَفاعَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ الشَّفَاعَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨١] لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٤٨].
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَكُونُ مَشْغُولًا بِنَفْسِهِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: ٣٧] وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، عَلَى مَا قَالَ: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
[الْحَجِّ: ٢] وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ صَارَ/ مُبَغِّضًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا صَارَ مُبَغِّضًا لَهُمَا صَارَ مُبَغِّضًا لِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِمَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَنُقِلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ:
وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً تَطَرَّقَ الْخُلْفُ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَأَنَّ غَيْرَ الْكَافِرِينَ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا، أَمَّا إِذَا عَلَّقْنَاهُ بِمَا تَقَدَّمَ زَالَ الْإِشْكَالُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِمَا قَبْلَهُ.
التأويل الثاني: أن الكافرون إِذَا دَخَلُوا النَّارَ عَجَزُوا عَنِ التَّخَلُّصِ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ اخْتَارُوا الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ حَتَّى صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذَا الْعَذَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ: ٤٩].
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ حَيْثُ تَرَكُوا تَقْدِيمَ الْخَيْرَاتِ لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْحَاضِرُونَ لَا تَقْتَدُوا بِهِمْ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ الرَّدِيءِ، وَلَكِنْ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَا تَجْعَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدْيَةً لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِوَضْعِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، لِتَوَقُّعِهِمُ الشَّفَاعَةَ مِمَّنْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ في الأوثان: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨]، وَقَالُوا أَيْضًا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] فَمَنْ عَبَدَ جَمَادًا وَتَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حَيْثُ توقع الخبر مِمَّنْ لَا يَجُوزُ التَّوَقُّعُ مِنْهُ.
وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ، قَالَ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ:
٣٣] أَيْ أَعْطَتْ وَلَمْ تَمْنَعْ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ وَالْكَافِرُونَ التَّارِكُونَ لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ الْبَالِغُونَ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ فَكَذَا هاهنا، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ الله والله أعلم.
تم الجزء السادس، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أعان الله على إكماله
[تتمة سورة البقرة]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ عَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ يَخْلِطُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ بَعْضَهَا بِالْبَعْضِ، أَعْنِي عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَعِلْمَ الْأَحْكَامِ، وَعِلْمَ الْقَصَصِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْقَصَصِ إِمَّا تَقْرِيرُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَإِمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي إِلْزَامِ الْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَحْسَنُ لَا إِبْقَاءُ الْإِنْسَانِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَلَالَ، فَأَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَكَأَنَّهُ يَشْرَحُ بِهِ الصَّدْرَ وَيُفْرِحُ بِهِ الْقَلْبَ، فَكَأَنَّهُ سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَانْتَقَلَ مِنْ بُسْتَانٍ إِلَى بُسْتَانٍ آخَرَ، وَانْتَقَلَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ لَذِيذٍ إِلَى تَنَاوُلِ نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ أَلَذَّ وَأَشْهَى، وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَمِنْ عِلْمِ الْقَصَصِ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً ذَكَرَ الْآنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: / «مَا قُرِئَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَارٍ إِلَّا اهْتَجَرَتْهَا الشَّيَاطِينُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ عَلَى أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَلَا يُوَاظِبُ عَلَيْهَا إِلَّا صِدِّيقٌ أَوْ عَابِدٌ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ وَالْأَبْيَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ»
وَتَذَاكَرَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ الْبَشَرِ آدَمُ، وَسَيِّدُ الْعَرَبِ مُحَمَّدٌ وَلَا فَخْرَ، وَسَيِّدُ الْكَلَامِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَسَيِّدُ الْبَقَرَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ»
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ، قَالَ فَجِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، فَلَا أَزَالُ أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ وَأَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ يَتْبَعَانِ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْلُومَ فَكُلَّمَا كَانَ الْمَذْكُورُ وَالْمَعْلُومُ أَشْرَفَ كَانَ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ أَشْرَفَ، وَأَشْرَفُ الْمَذْكُورَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَوْعَ مُجَانَسَةٍ وَمُشَاكَلَةٍ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ مُجَانَسَةِ مَا سِوَاهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كُلُّ كَلَامٍ اشْتَمَلَ عَلَى نُعُوتِ جَلَالِهِ وَصِفَاتِ كِبْرِيَائِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَالِغَةً فِي الشَّرَفِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَبْلَغِ النِّهَايَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَةِ اللَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ قَدْ تَقَدَّمَ
رَوَيْنَا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَزِيدُ عَلَى ذِكْرِهِ فِي السُّجُودِ يَوْمَ بَدْرٍ
يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الِاسْمِ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ، وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَعْضُهَا مُمْكِنَةً وَبَعْضُهَا وَاجِبَةً لَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَجْمُوعٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْمَجْمُوعِ مُمْكِنٌ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ مُمْكِنٌ بِذَاتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجَّحٍ مُغَايِرٍ لَهُ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ مُفْتَقِرٌ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مَجْمُوعًا وَبِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ إلى مرجح مغاير له وكل وما كَانَ مُغَايِرًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا فَقَدْ وُجِدَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَوْجُودَاتُ بِأَسْرِهَا وَاجِبَةٌ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ/ وُجُودَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ لَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوُجُوبِ بِالذَّاتِ وَمُتَغَايِرَيْنِ بِالنَّفْيِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ مُغَايِرٌ لِمَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي الْوُجُوبِ الَّذِي بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِنَ الْغَيْرِ الَّذِي بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِهِ وَجُزْءِ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَمَا كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الْوُجُودِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي مَجْمُوعِ الْمَوْجُودَاتِ مَوْجُودٌ وَاحِدٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ لِذَاتِهِ وَبِذَاتِهِ، وَمُسْتَغْنٍ فِي وُجُودِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا كُلُّ مَا سِوَاهُ فَمُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ وَمَاهِيَّتِهِ إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَسَبَبٌ لِتَقَوُّمِ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَفِي وَجُودِهِ، فَهُوَ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، فَالْقَيُّومُ هُوَ الْمُتَقَوِّمُ بِذَاتِهِ، الْمُقَوِّمُ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَوُجُودِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ هُوَ الْقَيُّومَ الْحَقَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الْعِلْيَةِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الْفِعْلِ وَالِاخْتِيَارِ: لَا جَرَمَ أَزَالَ وَهْمَ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا بِالْعِلْيَةِ وَالْإِيجَابِ بِقَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَإِنَّ الْحَيَّ هُوَ الدَّرَّاكُ الْفَعَّالُ، فَبِقَوْلِهِ الْحَيُّ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا، وَبِقَوْلِهِ الْقَيُّومُ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَمُقَوِّمًا لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ تَتَشَعَّبُ جَمِيعُ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ.
فَأَوَّلُهَا: أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَاهِيَّتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَبُرْهَانُهُ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُتَقَوِّمٌ بِغَيْرِهِ، وَالْمُتَقَوِّمُ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ قَيُّومًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ قَيُّومٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ، فهذا الأصل له لازمان أحدها: أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَاحِدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْئَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ إِذْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعَيُّنِ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُبَايَنَةُ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ واحد منهما في ذاته مركباً من جز أين، وَقَدْ بَيَّنَّا بَيَانَ أَنَّهُ مُحَالٌ.
اللَّازِمُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي حَقِيقَتِهِ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ جُزْأَيْنِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا، لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَيُّومًا كَانَ قائماً بذاته، وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور:
اللَّازِمُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَرَضًا فِي مَوْضُوعٍ، وَلَا صُورَةً فِي مَادَّةٍ، وَلَا حَالًا فِي مَحَلٍّ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَالَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمَحَلِّ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ قَيُّومًا بِذَاتِهِ.
وَاللَّازِمُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ إِلَّا حُضُورُ حَقِيقَةِ الْمَعْلُومِ لِلْعَالِمِ، فَإِذَا كَانَ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ حَاضِرَةً عِنْدَ ذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ إِلَّا هَذَا الْحُضُورُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ مَعْلُومَةً لِذَاتِهِ فَإِذَنْ ذَاتُهُ مَعْلُومَةٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَأْثِيرِهِ، وَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَيُّومٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ التَّأْثِيرُ إِنْ كَانَ بِالِاخْتِيَارِ فَالْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شُعُورٌ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ بِالْإِيجَابِ لَزِمَ أَيْضًا كَوْنُهُ عَالِمًا بِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِأَنَّ ذَاتَهُ مُوجِبَةٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالنَّفْسِ لِذَاتِهِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِذَاتِهِ، وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، فَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَيُّومًا كَوْنُهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَثَالِثُهَا: لَمَّا كَانَ قَيُّومًا لِكُلِّ مَا سِوَاهُ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا، لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَقْوِيمِ ذَلِكَ الْغَيْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَالَ بَقَاءِ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَهُوَ إِمَّا حَالُ عَدَمِهِ وَإِمَّا حَالُ حُدُوثِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُحْدَثًا.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَيُّومًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ اسْتَنَدَتْ كُلُّ الْمُمْكِنَاتِ إِلَيْهِ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ حَقًّا، وَهَذَا مِمَّا قَدْ فَصَّلْنَاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فَأَنْتَ إِنْ سَاعَدَكَ التَّوْفِيقُ وَتَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَعَاقِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ تَعَالَى حَيًّا قَيُّومًا فَلَا جَرَمَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ هَذَا، وَأَمَّا سَائِرُ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَةِ: ١٦٣] وَقَوْلِهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨] فَفِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَأَمَّا قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الصمد: ١] فَفِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَبِمَعْنَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] فَفِيهِ بَيَانُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ وَحْدَةِ الْحَقِيقَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَيُّومًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ بِمَعْنَى نَفْيِ الْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ بِمَعْنَى نَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَيَقْتَضِي نَفْيَ التَّحَيُّزِ وَبِوَاسِطَتِهِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْجِهَةِ، وَأَيْضًا كَوْنُهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ مَا سِوَاهُ جِسْمًا كَانَ أَوْ رُوحًا عَقْلًا كَانَ أَوْ نَفْسًا، وَيَقْتَضِي اسْتِنَادَ الْكُلِّ إِلَيْهِ وَانْتِهَاءَ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَالْمُحِيطَيْنِ بِجَمِيعِ مَبَاحِثِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا جَرَمَ بَلَغَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الشَّرَفِ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَاسْتَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَا ذَكَرْنَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامٌ أَكْمَلَ، وَلَا بُرْهَانٌ أَوْضَحَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهُوَ خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ، وَمَا كَانَ مَعْبُودًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ مَعْبُودًا سِوَاهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْبِيَاءِ:
٩٨] بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ الْحَيُّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَيُّ أَصْلُهُ حَيِيٌ كَقَوْلِهِ: حَذِرٌ وَطَمِعٌ فَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُهُ الْحَيْوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْحَيِّ هُوَ أَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ، وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَمْدَحَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ.
وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَيَّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الصِّحَّةِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ كَامِلًا فِي جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ تُسَمَّى: إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ، وَقَالَ تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرُّومِ: ٥٠] وَقَالَ: إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ [فَاطِرٍ:
٩] وَالصِّفَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ، إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْجِسْمِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ حَيَاةً وكمال حال الأشجار أن لا تَكُونَ مُورِقَةً خَضِرَةً فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَيَاةً وَكَمَالُ الْأَرْضِ أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَيَاةً فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْأَصْلِيَّ مِنْ لَفْظِ الْحَيِّ كَوْنُهُ وَاقِعًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَيِّ هُوَ الْكَامِلُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِأَنَّهُ كَامِلٌ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَقَوْلُهُ الْحَيُّ يُفِيدُ كَوْنَهُ كَامِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْكَامِلُ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَابِلًا لِلْعَدَمِ، لَا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة وَلَا فِي صِفَاتِهِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، ثُمَّ عِنْدَ هَذَا إِنْ خَصَّصْنَا الْقَيُّومَ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا لِتَقْوِيمِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا بِذَاتِهِ، وَكَوْنِهِ قَيُّومًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْقَيُّومَ اسْمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ/ يَتَنَاوَلُ الْمُتَقَوِّمَ بِذَاتِهِ وَالْمُقَوِّمَ لِغَيْرِهِ كَانَ لَفْظُ الْقَيُّومِ مُفِيدًا فَائِدَةَ لَفْظِ الْحَيِّ مَعَ زِيَادَةٍ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْقَيُّومُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَيُّومُ فِي اللُّغَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَائِمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ ثُمَّ كَانَ السَّابِقُ سَاكِنًا جُعِلَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَعُّولٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ قَوُّومًا، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: قَيُّومٌ، وَقَيَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبْرِيَّةٌ لَا عَرَبِيَّةٌ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: حَيًّا قَيُّومًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ، وَمِثْلُهُ مَا فِي الدَّارِ دَيَّارٌ وَدَيُّورٌ، وَدَيِّرٌ، وَهُوَ مِنَ الدَّوَرَانِ، أَيْ مَا بِهَا خَلْقٌ يَدُورُ، يَعْنِي: يَجِيءُ وَيَذْهَبُ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ فِي إِيجَادِهِمْ، وَفِي أَرْزَاقِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
[الرَّعْدِ: ٣٣] وَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: ١٨] إلى قوله قائِماً بِالْقِسْطِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فَاطِرٍ:
٤١] وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الْوُجُودِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ، وَأَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِهِ وَفِي وُجُودِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَوْلَهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.
أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السِّنَةُ مَا يَتَقَدَّمُ مِنَ الْفُتُورِ الَّذِي يُسَمَّى النعاس.
فإن قيل: إذ كَانَتِ السِّنَةُ عِبَارَةً عَنْ مُقَدِّمَةِ النُّوَّمِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ نَوْمٌ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ تَكْرِيرًا.
قُلْنَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ النَّوْمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ وَالسَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ مُحَالَاتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَاتٍ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ، أَوْ عَنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَجَوَازُ طَرَيَانِهَا يَقْتَضِي جَوَازَ زَوَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ ذَاتُهُ تَعَالَى بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، وَيَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا، فَحِينَئِذٍ يَفْتَقِرُ حُصُولُ صِفَةِ الْعِلْمِ لَهُ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَنْ يَكُونُ عِلْمُهُ صِفَةً وَاجِبَةَ الثُّبُوتِ مُمْتَنِعَةَ الزَّوَالِ، / وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّوْمُ وَالْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ عَلَيْهِ مُحَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
يُرْوَى عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْ لَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَرَهُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِمَا، وَكَانَ يَتَحَرَّزُ بِجُهْدِهِ إِلَى أَنْ نَامَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مَثَلًا لَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حفظ السموات وَالْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ مَنْ جَوَّزَ النَّوْمَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَانَ شَاكًّا فِي جَوَازِهِ كَانَ كَافِرًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى مُوسَى، بَلْ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ،. فَالْوَاجِبُ نِسْبَةُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى جُهَّالِ قَوْمِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ إِضَافَةُ الْخَلْقِ وَالْمُلْكِ، وَتَقْدِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَاحِدًا كَانَ مَا عَدَاهُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وَكُلُّ مَا لَهُ مُؤَثِّرٌ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَإِذَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُحْدَثٌ بِإِحْدَاثِهِ مُبْدَعٌ بِإِبْدَاعِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ الْمُلْكِ وَالْإِيجَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَلَمْ يَقُلْ: لَهُ مَنْ في السموات؟.
قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ إِضَافَةَ مَا سِوَاهُ إِلَيْهِ بِالْمَخْلُوقِيَّةِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْقِلُ أَجْرَى الْغَالِبَ مَجْرَى الْكُلِّ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ مَا وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَهِيَ مِنْ حيث إنها
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلُهُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يتناول كل ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُنْتَسِبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى انْتِسَابَ الْمِلْكِ وَالْخَلْقِ، وَكَمَا أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْعَقْلُ يُؤَكِّدُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِتَأْثِيرٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَرَجُّحُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالنَّفْيُ، أَيْ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] وَقَوْلُهُمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٨] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى/ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ هَذَا الْمَطْلُوبَ. فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يُونُسَ: ١٨] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ عِنْدَهُ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: ٣٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ الْمُطِيعِينَ، إِذْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَطَوَّلَ فِي تَقْرِيرِهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَفَّالَ عَظِيمُ الرَّغْبَةِ فِي الِاعْتِزَالِ حَسَنُ الِاعْتِقَادِ فِي كَلِمَاتِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ قَلِيلَ الْإِحَاطَةِ بِأُصُولِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ، إِلَّا أَنَّ السَّمْعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ الْعَقْلِيُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ خَطَأً عَلَى قَوْلِهِمْ، بَلْ عَلَى مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمَعَاصِي قَبِيحٌ عَقْلًا، فَإِنْ كَانَ الْقَفَّالُ عَلَى مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ يَرُدُّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ ذَكَرَهُ الْبَصْرِيُّونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْكَعْبِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَهُوَ جَهْلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ وَإِطْعَامِ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْمُرَادَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَكَيْفَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَالْمُطِيعُ لَا يَكُونُ لَهُ جَزَعٌ، وَلَا يَكُونُ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَالْمُذْنِبُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ النَّارَ وَيَتَأَلَّمُ مُدَّةً، ثُمَّ يُخَلِّصُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِشَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَفَّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ حَسَنَ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ دَقِيقَ النَّظَرِ فِي تَأْوِيلَاتِ الْأَلْفَاظِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْحَظِّ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ قَلِيلَ النَّصِيبِ مِنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضمير لما في السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ فِيهِمُ الْعُقَلَاءَ، أَوْ لِمَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَما خَلْفَهُمْ مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ مَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي الْآخِرَةَ لِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا وَما خَلْفَهُمْ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَالثَّالِثُ: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَما خَلْفَهُمْ يُرِيدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالرَّابِعُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ مَا كَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَالْخَامِسُ: مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَالشُّفَعَاءُ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَظِيمَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ أَذِنَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَقْتَ وَالزَّجْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةَ، وَسَائِرَ مَنْ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: المراد بالعلم هاهنا كَمَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ وَإِذَا ظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، قِيلَ: هَذِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، أَيْ مَقْدُورُهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدًا لَا يُحِيطُ بِمَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ داخلة هاهنا عَلَى الْعِلْمِ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ نَفْسَ الصِّفَةِ لَزِمَ دُخُولُ التَّبْعِيضِ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ بِما شاءَ لَا يَأْتِي فِي الْعِلْمِ إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْمَعْلُومِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وقع هاهنا فِي الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْخَلْقُ لَا يَعْلَمُونَ كُلَّ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَزَ شَيْئًا، أَوْ بَلَغَ عِلْمُهُ أَقْصَاهُ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وذلك لأنه عَلِمَ بِأَوَّلِ الشَّيْءِ وَآخِرِهِ بِتَمَامِهِ صَارَ الْعِلْمُ كَالْمُحِيطِ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا بِما شاءَ ففيه قولان أحدها: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ إِلَّا مَا شَاءَ هُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا عِنْدَ إِطْلَاعِ اللَّهِ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ، كما قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَسِعَ فَلَانًا الشَّيْءُ يَسَعُهُ سَعَةً إِذَا احْتَمَلَهُ وَأَطَاقَهُ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ، ولا يسعك هذا، أي لا تطبقه وَلَا تَحْتَمِلُهُ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»
أَيْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَرَكُّبِ الشَّيْءِ بَعْضِهِ على
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جِسْمٌ عظيم يسع السموات وَالْأَرْضَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْكُرْسِيُّ هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، لِأَنَّ السَّرِيرَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرْشٌ، وَبِأَنَّهُ كُرْسِيٌّ، لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَصِحُّ التَّمَكُّنُ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دُونَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ السُّدِّيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْكُرْسِيِّ وَرَدَ فِي الْآيَةِ وَجَاءَ
فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْقَوْلِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَقُولَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْضِعُ قَدَمَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَوَجَبَ رَدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الْأَعْظَمِ أَوْ مَلَكٍ آخَرَ عَظِيمِ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكُرْسِيِّ السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمُلْكُ، ثُمَّ تَارَةً يُقَالُ: الْإِلَهِيَّةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكُرْسِيَّ وَتَارَةً يُسَمَّى الْمُلْكُ بِالْكُرْسِيِّ، لِأَنَّ الْمَلِكَ يَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَيُسَمَّى الْمَلِكُ بَاسِمِ مَكَانِ الْمُلْكِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعِلْمُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مَوْضِعُ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ فَسَمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالْكُرْسِيُّ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: كَرَاسِي، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُقَالُ لَهُمْ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْخَلْقَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِمَا اعْتَادُوهُ فِي مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْتًا لَهُ يَطُوفُ النَّاسُ بِهِ كَمَا يَطُوفُونَ بِبِيُوتِ مُلُوكِهِمْ وَأَمَرَ النَّاسَ بِزِيَارَتِهِ كَمَا يَزُورُ النَّاسُ بُيُوتَ مُلُوكِهِمْ وَذَكَرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ مَوْضِعًا لِلتَّقْبِيلِ كَمَا يُقَبِّلُ النَّاسُ أَيْدِي مُلُوكِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ فِي مُحَاسَبَةِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا، فَقَالَ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ثُمَّ وَصَفَ عَرْشَهُ فَقَالَ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: ٧] ثُمَّ قَالَ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ/ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزُّمَرِ: ٧٥] وَقَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧] وَقَالَ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غَافِرٍ: ٧] ثُمَّ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كُرْسِيًّا فَقَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ فِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، فَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهَا بَلْ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْكَعْبَةِ وَالطَّوَافِ وَتَقْبِيلِ الحجر، ولما توافقنا هاهنا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ مع
أَمَّا قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فاعلم أنه يقال: آده يؤده: إِذَا أَثْقَلَهُ وَأَجْهَدَهُ، وَأُدْتُ الْعُودَ أَوْدًا، وَذَلِكَ إِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ بِالثِّقْلِ حَتَّى أَمَلْتَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَثْقُلُهُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا أَيْ حفظ السموات وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كثيرة، ونزيد هاهنا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، كَانَ الْجُزْءُ الْمَفْرُوضُ فَوْقَهُ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ بُعْدٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ بَاطِلٌ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَا بُعْدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، لَافْتُرِضَ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ نُقَطٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي تِلْكَ النُّقَطِ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُفْتَرَضُ فَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتِ النُّقْطَةُ طَرَفًا لِذَلِكَ الْبُعْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبُعْدُ مُتَنَاهِيًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نُقْطَةٌ إِلَّا وَفَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ النُّقَطِ الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ سُفْلًا، وَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يَكُونُ فَوْقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنَ النفقات الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يَنْفِي صِفَةَ الْعُلْوِيَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ جَانِبٍ يَفْرِضُ عُلُوًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الْأَرْضِ يَكُونُ سُفْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَنْقَلِبُ غَايَةُ الْعُلُوِّ غَايَةَ السُّفْلِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِذَاتِهِ، وَلِلْآخَرِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الذَّاتِيِّ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَفِي الْعَرَضِيِّ أَقَلَّ وَأَضْعَفَ، فَلَوْ كَانَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الْمَكَانِ لَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ الَّذِي بِسَبَبِهِ حَصَلَ هَذَا الْعُلُوُّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً، وَلَكَانَ حُصُولُ هَذَا الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى حُصُولًا بِتَبَعِيَّةِ حُصُولِهِ فِي الْمَكَانِ، فَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ عُلُوِّ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ عُلُوُّ اللَّهِ نَاقِصًا وَعُلُوُّ غَيْرِهِ كَامِلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَاطِعَةٌ فِي أَنَّ عُلُوَّ اللَّهِ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْجِهَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢] قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: ١٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ وَأَمَّا عَظَمَتُهُ فَهِيَ أَيْضًا بِالْمَهَابَةِ وَالْقَهْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ الْمِقْدَارِ وَالْحَجْمِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَدَمُ إِثْبَاتِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ كَانَتِ الْأَحْيَازُ الْمُحِيطَةُ بِذَلِكَ الْمُتَنَاهِي أَعْظَمَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظالمون علواً كبيراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)[في قوله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي الدِّينِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَامُ الْعَهْدِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: ٤١] أَيْ مَأْوَاهُ، وَالْمُرَادُ فِي دِينِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَفَّالِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا بَنَى أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، ثُمَّ احْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِيضَاحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ لِلْكَافِرِ عُذْرٌ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَقْسِرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الِابْتِلَاءِ، إِذْ فِي الْقَهْرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بُطْلَانُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٣، ٤] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا/ الْقَوْلَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَعْنِي ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ، وَوَضَحَتِ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إِلَّا طَرِيقُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفَ فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ: إِنْ آمَنَتْ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَقَالَ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أَمَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ، فَلِأَنَّهُمْ إِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا سَائِرُ الْكُفَّارِ فَإِذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ إِذَا قَبِلَ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ كَانَ قَوْلُهُ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ عَامًّا فِي كُلِّ الْكُفَّارِ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ إِذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ لَا إِكْراهَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْحَرْبِ إِنَّهُ دَخَلَ مُكْرَهًا، لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَصَحَّ إِسْلَامُهُ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوهُمْ إِلَى الْإِكْرَاهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: ٩٤].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ إِذَا ظَهَرَ وَوَضَحَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ: قَدْ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْإِيضَاحَ وَالتَّعْرِيفَ إِنَّمَا سُمِّيَ بَيَانًا لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْفَصْلَ وَالْبَيْنُونَةَ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ، وَالرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ إِصَابَةُ الْخَيْرِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: رُشْدٌ وَرَشَدٌ وَالرَّشَادُ مَصْدَرٌ أَيْضًا كَالرُّشْدِ، وَالْغَيُّ نَقِيضُ الرُّشْدِ، يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا وَغَوَايَةً، إِذَا سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الرُّشْدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: الطَّاغُوتُ وَزْنُهُ فَعَلُوتُ، نَحْوُ جَبَرُوتٍ، وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ طَغَا، وَتَقْدِيرُهُ طَغَوُوتُ، إِلَّا أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ قُلِبَتْ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ كَعَادَتِهِمْ فِي الْقَلْبِ، نَحْوَ: الصَّاقِعَةُ وَالصَّاعِقَةُ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ حَرَكَةِ وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الطَّاغُوتِ: الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنَّهُ جَمْعٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْمَلَكُوتِ، فَكَمَا/ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ آحَادٌ كَذَلِكَ هَذَا الِاسْمُ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ بِجَمْعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مصدر مفرد قوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فَأُفْرِدَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ: هُمْ رضاهم عَدْلٌ، قَالُوا: وَهَذَا اللَّفْظُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، أَمَّا فِي الْوَاحِدِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاءِ: ٦٠] وَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] وَقَالُوا: الْأَصْلُ فِيهِ التَّذْكِيرُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزُّمَرِ: ١٧] فَإِنَّمَا أُنِّثَتْ إِرَادَةُ الْآلِهَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَالَ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُوَ الشَّيْطَانُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْكَاهِنُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ السَّاحِرُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَصْنَامُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكُلُّ مَا يَطْغَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَسْبَابًا لِلطُّغْيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦].
أَمَّا قَوْلُهُ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَتُوبَ أَوَّلًا عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يُؤْمِنَ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَمْسَكَ بِالشَّيْءِ إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَالْعُرْوَةُ جَمْعُهَا عُرًا نَحْوَ عُرْوَةِ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَلَّقُ بِهِ وَالْوُثْقَى تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِعُرْوَتِهِ، فَكَذَا هاهنا مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ هَذَا الدِّينِ تَعَلَّقَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ دَلَائِلُ الْإِسْلَامِ أَقْوَى الدَّلَائِلِ وَأَوْضَحَهَا، لَا جَرَمَ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى.
أَمَّا قَوْلُهُ لَا انْفِصامَ لَها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَصْمُ كَسْرُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ، وَالِانْفِصَامُ مُطَاوِعُ الْفَصْمِ فَصَمْتُهُ فَانْفَصَمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا انْفِصَامٌ، فَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا انْقِطَاعٌ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: نَظْمُ الْآيَةِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَالْعَرَبُ تُضْمِرُ (الَّتِي) وَ (الَّذِي) وَ (مَنْ) وَتَكْتَفِي بِصَلَاتِهَا مِنْهَا، قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
وَالْعَادِيَاتُ أَسَامِي لِلدِّمَاءِ بِهَا | كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أنصاب ترحيب |
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أُرَاهَا فُجَاءَةً | فَأُبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ |
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِنَا ظَاهِرٌ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ لِلْحِجَاجِ وَلِلْحَقِّ كَمَا يَهْدِي الْمُؤْمِنَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَعْجِزَ وَيَنْقَطِعَ.
وَأَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِلْحِجَاجِ، إِنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يَكُونُ الْحِجَاجُ مَوْجُودًا وَلَا حِجَاجَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهَا/ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِزِيَادَاتِ الْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَأَقُولُ: هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ إِذَا كَانَتْ فِي حَقِّهِمْ مُمْتَنِعَةً عَقْلًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ، كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَأَقُولُ: هَذَا أيضاً ضعيف، لأن المذكور هاهنا أَمْرُ الِاسْتِدْلَالِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْجَنَّةِ ذِكْرٌ، فَيَبْعُدُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْجَنَّةِ، بَلْ أَقُولُ: اللَّائِقُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الدَّلِيلَ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ
الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْمَعَادِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِدْخَالِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَالَّذِي وَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [البقرة: ٢٥٨] فِي مَعْنَى (أَلَمْ تَرَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ) وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَأَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤، ٨٥] ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٥، ٨٦] فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ معناه: لمن السموات؟ فَقِيلَ لِلَّهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ | فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا |
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّا نُضْمِرُ فِي الْآيَةِ زِيَادَةً، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، وَأَلَمْ تَرَ إِلَى مَنْ كَانَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي مَرَّ بِالْقَرْيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ رَجُلًا كَافِرًا شَاكًّا فِي الْبَعْثِ/ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَاكُ وَالسُّدِّيُّ:
هُوَ عُزَيْرٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ أَرْمِيَاءُ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَرْمِيَاءَ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عند ما خَرَّبَ بُخْتَنَصَّرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَقَ التَّوْرَاةَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَارَّ كَانَ كَافِرًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وَهَذَا كَلَامُ مَنْ يَسْتَبْعِدُ مِنَ اللَّهِ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَذَلِكَ كُفْرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ.
قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تعالى أن يعجب رسوله منه إذا الصَّبِيُّ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ شَكِّهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ مَا كَانَ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، بَلْ
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّبَيُّنُ حَاصِلًا لَهُ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَبَيُّنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ مَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنَّ تَبَيُّنَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ مَا كَانَ حَاصِلًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا يَدُلُّ على أن هذا العالم إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ كَانَ خَالِيًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةَ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَفَادَتْ نَوْعَ تَوْكِيدٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَوُثُوقٍ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ مَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَارَّ كَانَ كَافِرًا لِانْتِظَامِهِ مَعَ نَمْرُوذَ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ قِصَّةَ نَمْرُوذَ، وَلَكِنَّ بَعْدَهُ قِصَّةَ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مِنْ جِنْسِ إِبْرَاهِيمَ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَانَ نَبِيًّا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ، وَعَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ هَذَا الشَّيْءِ بِاسْتِبْعَادِ الْإِحْيَاءِ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ حَصَلَ الِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ مُمْتَنِعَةٌ لَمْ يُبْقِ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةً.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَمْ لَبِثْتَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِلٍ وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَ التَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَمْ لَبِثْتَ فَقَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى جَعْلِهِ آيَةً لِلنَّاسِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها، ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ هَذَا الْكَافِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ تَعَالَى بَعْثَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا حَتَّى قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِعَادَتَهُ حَيًّا وَإِبْقَاءَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى حَالِهِمَا، وَإِعَادَةَ الحمار حياً بعد ما صَارَ رَمِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِإِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْحِمَارِ إِلَى التَّرْكِيبِ وَإِلَى الْحَيَاةِ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ وَتَشْرِيفٌ كَرِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْكَافِرِ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا أَدْخَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوُجُودِ إِكْرَامًا لِإِنْسَانٍ آخَرَ كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ قَبْلِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ أَوْ بَعْدَهُمَا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّ إِرْسَالَ النَّبِيِّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، وَإِنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ فَالْمُعْجِزُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الدَّعْوَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٌ.
قُلْنَا: إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ مَنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَصِيرُ رَسُولًا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ زَالَ السُّؤَالُ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩١] فَكَانَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى النُّبُوَّةِ بِصَرِيحِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُفِيدُ التَّشْرِيفَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جَعْلِهِ آيَةً أَنَّ مَنْ عَرَفَهُ مِنَ النَّاسِ شَابًّا كَامِلًا إِذَا شَاهَدُوهُ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ عَلَى شَبَابِهِ وَقَدْ شَاخُوا أَوْ هَرِمُوا، أَوْ سَمِعُوا بِالْخَبَرِ أَنَّهُ كَانَ مَاتَ مُنْذُ زَمَانٍ/ وَقَدْ عَادَ شَابًّا صَحَّ أَنْ يُقَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ إِنَّهُ آيَةٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُبُوَّةَ نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُ آيَةً، وَهَذَا الْإِخْبَارُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ، وَالْمَجْعُولُ لَا يُجْعَلُ ثَانِيًا، فَوَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَنْ هَذَا الْإِحْيَاءِ، وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الْإِحْيَاءِ فَكَانَ بَاطِلًا والثاني: أنه وَجْهَ التَّمَسُّكِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ يَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ بُخْتَنَصَّرَ غَزَا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون، وَمِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَجَاءَ بِهِمْ إلى بابل، فدخل عزيز يَوْمًا تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ، فَرَبَطَ حِمَارَهُ وَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ فِي الْقُدْرَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَكَانَتِ الْأَشْجَارُ مُثْمِرَةً، فَتَنَاوَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ التِّينَ وَالْعِنَبَ، وَشَرِبَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَامَ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ مِائَةَ عَامٍ وَهُوَ شَابٌّ، ثُمَّ أَعْمَى عَنْ مَوْتِهِ أَيْضًا الْإِنْسَ وَالسِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ الْمِائَةِ وَنُودِيَ من السماء: يا عزيز كَمْ لَبِثْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ يَوْماً فَأَبْصَرَ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةً فَقَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ مِنَ التِّينِ وَالْعِنَبِ وَشَرَابِكَ مِنَ الْعَصِيرِ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُمَا، فَنَظَرَ فَإِذَا التِّينُ وَالْعِنَبُ كَمَا شَاهَدَهُمَا ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ عِظَامٌ بِيضٌ تَلُوحُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُ وَسَمِعَ صَوْتًا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنِّي جَاعِلٌ فِيكِ رُوحًا فَانْضَمَّ أَجْزَاءُ الْعِظَامِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ الْتَصَقَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَقَالَ وَهْبٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ: إِيلِيَاءُ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَوَى الْبَيْتُ فَهُوَ يَخْوِي خَوَاءً ممدود إِذَا مَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخَوَا: خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ خَوَّى»
أَيْ خَلَّى مَا بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَجَنْبَيْهِ، وَبَطْنِهِ وَفَخْذَيْهِ، وَخَوَّى الْفَرَسُ مَا بَيْنَ قَوَائِمِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْبَيْتِ إِذَا انْهَدَمَ: خَوَى لِأَنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ: خَوَتِ النُّجُومُ وَأَخْوَتْ إِذَا سَقَطَتْ وَلَمْ تُمْطِرْ لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْعَرْشُ سَقْفُ الْبَيْتِ، وَالْعُرُوشُ الْأَبْنِيَةُ، وَالسُّقُوفُ مِنَ الْخَشَبِ يُقَالُ: عَرَشَ الرَّجُلُ يَعْرِشُ وَيَعْرُشُ إِذَا بَنَى وَسَقَّفَ بِخَشَبٍ، فَقَوْلُهُ:
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ مُنْهَدِمَةٌ سَاقِطَةٌ خَرَابٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ حِيطَانَهَا كَانَتْ قَائِمَةً وَقَدْ تَهَدَّمَتْ سُقُوفُهَا، ثُمَّ انْقَعَرَتِ الْحِيطَانُ مِنْ قَوَاعِدِهَا فَتَسَاقَطَتْ عَلَى السُّقُوفِ الْمُنْهَدِمَةِ، وَمَعْنَى الْخَاوِيَةِ الْمُنْقَلِعَةِ وَهِيَ الْمُنْقَلِعَةُ مِنْ أُصُولِهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٧] وَمَوْضِعٌ آخَرُ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: ٢٠] وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي خَرَابِ الْمَنَازِلِ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُوصَفُ بِهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ خَاوِيَةٌ عَنْ عُرُوشِهَا، جَعَلَ (عَلَى) بِمَعْنَى (عَنْ) كَقَوْلِهِ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢] أَيْ عَنْهُمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَرْيَةَ خَاوِيَةٌ مَعَ كَوْنِ أَشْجَارِهَا مَعْرُوشَةً فَكَانَ التَّعَجُّبُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَالِيَةِ الْخَاوِيَةِ أَنْ يَبْطُلَ مَا فِيهَا مِنْ عُرُوشِ الْفَاكِهَةِ، فَلَمَّا خَرِبَتِ الْقَرْيَةُ مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا كَانَ التَّعَجُّبُ أَكْثَرَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ قَالَ: الْمَارُّ كَانَ كَافِرًا حَمَلَهُ عَلَى الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ كَانَ نَبِيًّا حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ بِحَسَبِ مَجَارِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبَ زِيَادَةِ الدَّلَائِلِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] وَقَوْلُهُ أَنَّى أَيْ مِنْ أَيْنَ كَقَوْلِهِ أَنَّى لَكِ هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] وَالْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ عِمَارَتُهَا، أَيْ مَتَى يَفْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِي إِحْيَاءِ الْقَرْيَةِ آيَةً فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِصَّةَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي إِمَاتَةِ اللَّهِ لَهُ مِائَةَ عَامٍ، مَعَ أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بَعْضِ يَوْمٍ حَاصِلٌ.
قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ أَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ قُرْبِ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ بَعْدَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ مَا يُشَاهَدُ مِنْهُ، وَيُشَاهِدُ هُوَ مِنْ غيره أعجب.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِدْغَامِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ، فَمَنْ أَدْغَمَ فَلِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ وَمَنْ أَظْهَرَ فَلِتَبَايُنِ الْمَخْرَجَيْنِ وَإِنْ كَانَا قَرِيبَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ كَانَ مَقْرُونًا بِالْمُعْجِزِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ شَاهَدَ مِنْ أَحْوَالِ حِمَارِهِ وَظُهُورِ الْبِلَى فِي عِظَامِهِ مَا عَرَفَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ لَمْ تَصْدُرْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ حَيًّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُدَّةَ مَوْتِهِ كَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ قَصِيرَةً، فَمَعَ ذَلِكَ لِأَيِّ حِكْمَةٍ سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى حُدُوثِ مَا حَدَثَ مِنَ الْخَوَارِقِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ هَذَا التَّرْدِيدَ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَيِّتَ طَالَتْ مُدَّةُ مَوْتِهِ أَوْ قَصُرَتْ فَالْحَالُ وَاحِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَأَجَابَ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّ إِمَاتَتَهُ كَانَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَقَالَ يَوْماً ثُمَّ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ بَاقِيًا على رؤوس الْجُدْرَانِ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَلَيْسَ هَذَا يَكُونُ كَذِبًا؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الظَّنِّ، وَلَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: ١٩] عَلَى مَا تَوَهَّمُوهُ وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ، وأيضا قال أخوة يوسف عليه السلام: يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا [يُوسُفَ: ٨١] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ.
الْجَوَابُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي إِمَاتَتِهِ ثُمَّ إِحْيَائِهِ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ أَنْ يُشَاهِدَ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَاهَدَ إِمَّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي حِمَارِهِ أَحْوَالًا دَالَّةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الموت.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ وما هِيَهْ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ هَذِهِ الْحُرُوفَ كُلَّهَا بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَكَانَ حَمْزَةُ يَحْذِفُهُنَّ فِي الْوَصْلِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْذِفُ الْهَاءَ فِي الْوَصْلِ مِنْ قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وَيُثْبِتُهَا فِي الْوَصْلِ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: ٢٥، ٢٦] أَنَّهَا بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَذْفُ ففيه وجوه أحدهما: أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْلَ السَّنَةِ سَنَوَةٌ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْهَا أَسَنَّتِ الْقَوْمَ إِذَا أَصَابَتْهُمِ السَّنَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَرِجَالُ مَكَّةَ مِسْنِتُونَ عِجَافُ وَيَقُولُونَ فِي جَمْعِهَا: سَنَوَاتٌ وَفِي الْفِعْلِ مِنْهَا: سَانَيْتُ الرَّجُلَ مُسَانَاةً إِذَا عَامَلَهُ سَنَةً سَنَةً، وَفِي التَّصْغِيرِ:
سُنَيَّةٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ لِلسَّكْتِ لَا لِلْأَصْلِ وَثَانِيهَا: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ:
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَصْلُ سَنَةٍ سَنَنَةً، لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْنَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَصْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّنْ، ثُمَّ أُسْقِطَتِ النُّونُ الْأَخِيرَةُ ثم أدخل عليها هاء السكت عن الْوَقْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ لَمْ يَتَقَضَّ الْبَازِيُّ لَمْ يَتَقَضَّضِ الْبَازِيُّ ثُمَّ أُسْقِطَتِ الضَّادُ الْأَخِيرَةُ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ هَاءُ السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَيُقَالُ: لَمْ يَتَقَضَّهْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الْحِجْرِ: ٢٦] وَالسِّنُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصَّبُّ، هَكَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَتَسَنَّنْ. أَيِ الشَّرَابُ بَقِيَ بِحَالِهِ لَمْ يَنْضُبْ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، ثُمَّ أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ لِبَيَانِ الْحَذْفِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْإِثْبَاتِ فَهُوَ أَنَّ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ أَصْلُهَا سَنْهَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْهَةٌ، وَيُقَالُ: سَانَهَتِ النَّخْلَةُ بِمَعْنَى عَاوَمَتْ، وَآجَرْتُ الدَّارَ مُسَانَهَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْهَاءُ فِي لَمْ يَتَسَنَّهْ لَامُ الْفِعْلِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُحْذَفِ الْبَتَّةَ لَا عِنْدَ الْوَصْلِ وَلَا عِنْدَ الْوَقْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَأَصْلُ مَعْنَى لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ لِأَنَّ مَرَّ السِّنِينَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ، وَنَقَلْنَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: لَمْ يَتَسَنَّنْ أَيْ لَمْ يَنْضُبِ الشَّرَابُ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَبِثَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّهْ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرَابِ لَا إِلَى الطَّعَامِ.
وَالْجَوَابُ: كَمَا يُوصَفُ الشَّرَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَذَلِكَ يُوصَفُ الطَّعَامُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ لَطِيفًا يَتَسَارَعُ الْفَسَادُ إِلَيْهِ،
وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ طَعَامَهُ كَانَ التِّينَ وَالْعِنَبَ، وَشَرَابُهُ كَانَ عَصِيرَ الْعِنَبِ وَاللَّبَنَ،
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَهَذَا شَرَابُكَ لَمْ يَتَسَنَّنْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عرف طُولَ مُدَّةَ مَوْتِهِ بِأَنْ شَاهَدَ عِظَامَ حِمَارِهِ نَخِرَةً رَمِيمَةً، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ بِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ انْقِلَابَ الْعِظَامِ النَّخِرَةِ حَيًّا فِي الْحَالِ عَلِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَ الْحِمَارَ فِي الْحَالِ وَيَجْعَلَ عِظَامَهُ رَمِيمَةً نَخِرَةً فِي الْحَالِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِعِظَامِ الْحِمَارِ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْمَوْتِ، بَلِ انْقِلَابُ عِظَامِ الْحِمَارِ إِلَى الْحَيَاةِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا سُمِعَ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُحْيِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آيَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ شَابًّا أَسْوَدَ الرَّأْسِ، وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ بيض اللحى والرؤوس.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّشْرِيفُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْوَعْدُ بِالدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلِنَجْعَلَكَ قُلْنَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: دَخَلَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْدَهَا مُضْمَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً، كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْحِمَارِ شَرْطًا، وَجَعْلُهُ آيَةً جَزَاءً، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً كَانَ الْمَعْنَى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَامِ: ١٠٥] وَالْمَعْنَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥] أَيْ وَنُرِيَهُ الْمَلَكُوتَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ عِظَامُ حِمَارِهِ، فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ بَدَلُ الْكِنَايَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرَادُوا بِهِ عِظَامَ هَذَا الرَّجُلِ نَفْسِهِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَا رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ بَقِيَّةُ بَدَنِهِ عِظَامًا نَخِرَةً، فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْزَاءِ عِظَامِ نَفْسِهِ فَرَآهَا تَجْتَمِعُ وَيَنْضَمُّ الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ، وَكَانَ يَرَى حِمَارَهُ وَاقِفًا كَمَا رَبَطَهُ حِينَ كَانَ حَيًّا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ مِائَةَ عَامٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِكَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إِنَّمَا يَلِيقُ
أَمَّا قَوْلُهُ كَيْفَ نُنْشِرُهَا فَالْمُرَادُ يُحْيِيهَا، يُقَالُ: أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ وَنَشَرَهُ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْعِظَامَ بِالْإِحْيَاءِ فِي قَوْلِهِ تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا [يس: ٧٨، ٧٩] وَقُرِئَ نَنْشُرُهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى النَّشْرِ بَعْدَ الطَّيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ بِالْحَيَاةِ يَكُونُ الِانْبِسَاطُ فِي التَّصَرُّفِ، فَهُوَ كَأَنَّهُ مَطْوِيٌّ مَا دَامَ مَيِّتًا، فَإِذَا عَادَ صَارَ كَأَنَّهُ نُشِرَ بَعْدَ الطَّيِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُنْشِزُها بِالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْمَعْنَى نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْشَازُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ، يُقَالُ أَنَشَزْتُهُ فَنَشَزَ، أَيْ رَفَعْتُهُ فَارْتَفَعَ، وَيُقَالُ لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ نَشَزَ، وَمِنْهُ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ أَنْ تَرْتَفِعَ عَنْ حَدِّ رِضَا الزَّوْجِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: كَيْفَ نرفعها من الأرض فتردها إِلَى أَمَاكِنِهَا مِنَ الْجَسَدِ وَنُرَكِّبَ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ نُنْشِزُها بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالزَّايِ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ الْأَخْفَشُ أَنَّهُ يُقَالُ: نَشَزْتُهُ وَأَنْشَزْتُهُ أَيْ رَفَعْتُهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ الْعِظَامَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى اتَّصَلَتْ عَلَى نِظَامٍ، ثُمَّ بَسَطَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَنَشَرَ الْعُرُوقَ وَالْأَعْصَابَ وَاللُّحُومَ وَالْجُلُودَ عَلَيْهَا، وَرَفَعَ بَعْضَهُ إِلَى جَنْبِ الْبَعْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ الْقِرَاءَاتِ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها/ وَالْمَعْنَى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وُقُوعُ مَا كَانَ يَسْتَبْعِدُ وُقُوعَهُ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ تَبَيَّنَ لَهُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ تَعَسُّفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ قَالَ:
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَتَأْوِيلُهُ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ مُشَاهَدَةَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قالَ أَعْلَمُ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِنْدَ التَّبَيُّنِ أَمَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَدِّعْ أُمَامَةَ إِنَّ الرَّكْبَ قَدْ رَحَلُوا
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ: قِيلَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: ٢٦٠] قال القاضي: والقراءة الأولى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ عدم المأمور به، وهاهنا الْعِلْمُ حَاصِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فَكَانَ الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ أَنَّهُ حَصَلَ كَانَ جائزاً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ
وَهِيَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ البعث:
في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَامِلِ إِذْ قَوْلَانِ قَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أَلَمْ تَرَ إِذْ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وأ لم تَرَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تحيي الْمَوْتَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ عُزَيْرًا حِينَ قَالَ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [البقرة: ٢٥٩] وسمى هاهنا إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَحْثِ فِي كِلْتَا الْقِصَّتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ عُزَيْرًا لم يحفظ الأدب، بل قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وَإِبْرَاهِيمُ حَفِظَ الْأَدَبَ فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ رَبِّ ثُمَّ دَعَا حَيْثُ قَالَ: أَرِنِي وَأَيْضًا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَاعَى الْأَدَبَ جَعَلَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ فِي الطُّيُورِ، وَعُزَيْرًا لَمَّا لَمْ يُرَاعِ الْأَدَبَ جَعَلَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ فِي نَفْسِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ وَالضِّحَاكُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّهُ رَأَى جِيفَةً مَطْرُوحَةً فِي شَطِّ الْبَحْرِ فَإِذَا مَدَّ الْبَحْرُ أَكَلَ مِنْهَا دَوَابُّ الْبَحْرِ، وَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ جَاءَتِ السِّبَاعُ فَأَكَلَتْ، وَإِذَا ذَهَبَتِ السِّبَاعُ جَاءَتِ الطُّيُورُ فَأَكَلَتْ وَطَارَتْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تَجْمَعُ أَجْزَاءَ الْحَيَوَانِ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطُّيُورِ ودواب البحر، فقيل: أو لم تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ السُّؤَالِ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِالِاسْتِدْلَالِ ضَرُورِيًّا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي: سَبَبُ السُّؤَالِ أَنَّهُ مَعَ مُنَاظَرَتِهِ مَعَ نَمْرُوذَ لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَأَطْلَقَ مَحْبُوسًا وَقَتَلَ رَجُلًا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ هَذَا بِإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى لِتَنْكَشِفَ هَذِهِ المسألة عند نمروذ وأتباعه، وروي عن نمرود أَنَّهُ قَالَ: قُلْ لِرَبِّكَ حَتَّى يُحْيِيَ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِنَجَاتِي مِنَ الْقَتْلِ أَوْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِقُوَّةِ حُجَّتِي وَبُرْهَانِي، وَأَنَّ عُدُولِي مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ ضَعْفِ تِلْكَ الْحُجَّةِ، بَلْ كَانَ بِسَبَبِ جَهْلِ الْمُسْتَمِعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ إِنِّي مُتَّخِذٌ بَشَرًا خَلِيلًا: فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ إِلَهِي مَا عَلَامَاتُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَيِّتَ بِدُعَائِهِ، فَلَمَّا عَظُمَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، خَطَرَ بِبَالِهِ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْخَلِيلَ، فَسَأَلَ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ فَقَالَ اللَّهُ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّنِي خليل لك.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُشَاهِدَهُ فَيَزُولَ الْإِنْكَارُ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا خَطَرَ بِبَالِي فَقُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ كَمَا يَحْتَاجُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ إِلَى مُعْجِزٍ يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ عِنْدَ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُ بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَسُولًا يَحْتَاجُ إِلَى مُعْجِزٍ يَظْهَرُ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْمَلَكِ لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاصِلَ مَلَكٌ كَرِيمٌ لَا شَيْطَانٌ رَجِيمٌ وَكَذَا إِذَا سَمِعَ الْمَلَكُ كَلَامَ اللَّهِ احْتَاجَ إِلَى مُعْجِزٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ/ الْكَلَامَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْمَلَكُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ طَلَبَ الْمُعْجِزَ فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّ الْآتِيَ مَلَكٌ كَرِيمٌ لَا شَيْطَانٌ رَجِيمٌ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوْتَى الْقُلُوبُ الْمَحْجُوبَةُ عَنْ أَنْوَارِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّجَلِّي، وَالْإِحْيَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ ذَلِكَ التَّجَلِّي وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ فَقَوْلُهُ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى طَلَبٌ لِذَلِكَ التَّجَلِّي وَالْمُكَاشَفَاتِ فَقَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى أُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ أَطْلُبُ حُصُولَهَا لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِسَبَبِ حُصُولِ ذَلِكَ التَّجَلِّي، وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالِيُّ مِمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشُّبُهَاتُ وَالشُّكُوكُ فَطَلَبَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَسْتَقِرُّ الْقَلْبُ مَعَهُ اسْتِقْرَارًا لَا يَتَخَالَجُهُ شَيْءٌ مِنَ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَعَلَّهُ طَالَعَ فِي الصُّحُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشَرِّفُ وَلَدَهُ عِيسَى بِأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِدُعَائِهِ فَطَلَبَ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنِّي لَسْتُ أَقَلَّ مَنْزِلَةً فِي حَضْرَتِكَ مِنْ وَلَدِي عِيسَى.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَسَارَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَجْعَلَ ذَا رُوحِ بِلَا رُوحٍ فَفَعَلْتُ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ غَيْرَ ذِي رُوحٍ رُوحَانِيًّا، فَقَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي خَلِيلًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَلْبِهِ فَرَآهُ مَيِّتًا بِحُبِّ وَلَدِهِ فَاسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ وَقَالَ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى أَيِ الْقَلْبَ إِذَا مَاتَ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ كَيْفَ يَكُونُ إِحْيَاؤُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يُشَاهِدُونَ الْحَشْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَرِنِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فقال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي عَلَى أَنْ خَصَصْتَنِي فِي الدُّنْيَا بِمَزِيدِ هَذَا التَّشْرِيفِ.
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدُ إِبْرَاهِيمَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، بَلْ كَانَ قَصْدُهُ سَمَاعَ الْكَلَامِ بِلَا وَاسِطَةٍ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: مَا قَالَهُ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ، وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَاكًّا فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَفِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، أَمَّا شَكُّهُ في معرفة المبدأ فقوله هذا رَبِّي وَقَوْلُهُ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الْأَنْعَامِ:
٧٧] وَأَمَّا شَكُّهُ فِي الْمَعَادِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَخِيفٌ، بَلْ كُفْرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَافِرٌ، فَمَنْ نَسَبَ النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَفَّرَ النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ، فَكَانَ هَذَا بِالْكُفْرِ أَوْلَى،
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا | وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي لِيَطْمَئِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: سَأَلْتُ ذَلِكَ إِرَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، قَالُوا. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الْخَوَاطِرُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا فَالْيَقِينُ حَاصِلٌ عَلَى كلتا الحالتين.
وهاهنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّ التَّفْسِيرَ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ سُؤَالٌ صَعْبٌ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِنَقِيضِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ جَوَّزَ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَذَاكَ ظَنٌّ قَوِيٌّ لَا اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ فِي الْعُلُومِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا قُلْنَا الْمَطْلُوبُ هُوَ حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي اعْتِقَادِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاءِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَخَذَ طَاوُسًا وَنَسْرًا وَغُرَابًا وَدِيكًا، وَفِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حمامة بدل النسر، وهاهنا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الطَّيْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّيَرَانَ فِي السَّمَاءِ، وَالِارْتِفَاعَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْخَلِيلُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَبَحَ الطُّيُورَ وَجَعَلَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً، وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ جَبَلٍ قِطَعًا مُخْتَلِطَةً، ثُمَّ دَعَاهَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ، فَقِيلَ لَهُ كَمَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ كَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطِيرُ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ حَتَّى تتألف الأبدان وتتصل بها الْأَرْوَاحُ، وَيُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ: ٧].
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ كَانَ حَاصِلًا بِحَيَوَانٍ وَاحِدٍ، فَلِمَ أَمَرَ بِأَخْذِ أَرْبَعِ حَيَوَانَاتٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّكَ سَأَلْتَ وَاحِدًا عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنَا أُعْطِي أَرْبَعًا عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي مِنْهَا تَرْكِيبُ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْإِشَارَةُ فِيهِ أَنَّكَ مَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ هَذِهِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَقْدِرُ طَيْرُ الرُّوحِ عَلَى الِارْتِفَاعِ إِلَى هَوَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصَفَاءِ عَالَمِ الْقُدْسِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الصَّادِ، أَمَّا الضَّمُّ فَفِيهِ قولان الأول: أن مِنْ صِرْتُ الشَّيْءَ أَصُورُهُ إِذَا أَمَلْتَهُ إِلَيْهِ وَرَجُلٌ أَصْوَرُ أَيْ مَائِلُ الْعُنُقِ، وَيُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَالَ بِهِ وَمَالَ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَحْصُلُ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمِلْهُنَّ إِلَيْكَ وَقَطِّعْهُنَّ، ثُمَّ اجعل على كل جبل منهن جزأ، فَحَذَفَ الْجُمْلَةَ الَّتِي هِيَ قَطِّعْهُنَّ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ عَلَى مَعْنَى: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً يَدُلُّ عَلَى التَّقْطِيعِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي أَمْرِهِ بِضَمِّهَا إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَهَا؟.
قُلْنَا: الْفَائِدَةُ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا وَيَعْرِفَ أَشْكَالَهَا وَهَيْآتِهَا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَتَوَهَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ مَعْنَاهُ قَطِّعْهُنَّ، يُقَالُ: صَارَ الشَّيْءَ يَصُورُهُ صَوْرًا، إِذَا قَطَعَهُ، قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ خَصْمًا أَلَدَّ: صِرْنَاهُ بِالْحُكْمِ، أَيْ قَطَعْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَيْضًا تَارَةً بِالْإِمَالَةِ، وَأُخْرَى بِالتَّقْطِيعِ، أَمَّا الْإِمَالَةُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ لُغَةُ هُذَيْلٍ وَسُلَيْمٍ: صَارَهُ يَصِيرُهُ إِذَا أَمَاتَهُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وغيره فصرهن بِكَسْرِ الصَّادِ: قَطِّعْهُنَّ. يُقَالُ: صَارَهُ يَصِيرُهُ إِذَا قَطَعَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مَقْلُوبٌ مِنْ صَرَى يَصْرِي إِذَا قَطَعَ، فَقُدِّمَتْ يَاؤُهَا، كَمَا قَالُوا: عَثَا وَعَاثَ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَقِلٌّ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا فَرْعًا عَنِ الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: قَطِّعْهُنَّ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَطَعَ أَعْضَاءَهَا وَلُحُومَهَا وَرِيشَهَا وَدِمَاءَهَا، وَخَلَطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثَالًا قَرَّبَ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِصُرْهُنَّ إِلَيْكَ الْإِمَالَةُ وَالتَّمْرِينُ عَلَى الْإِجَابَةِ، أَيْ فَعَوَّدَ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ إِذَا دَعَوْتَهَا أَجَابَتْكَ وَأَتَتْكَ، فَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ، فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ وَاحِدًا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ/ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: فَقَطِّعْهُنَّ. وَاحْتَجَّ على بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ فَصُرْهُنَّ أَمِلْهُنَّ وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِدْرَاجُهُ فِي الْآيَةِ إِلْحَاقًا لِزِيَادَةٍ بِالْآيَةِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِصُرْهُنَّ قَطِّعْهُنَّ لَمْ يَقُلْ إليك،
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ.
قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قوله يَأْتِينَكَ سَعْياً عائدا إلى أجزائها لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللَّهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً يَدُلُّ عَلَى أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى الْأَرْبَعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلى كُلِّ جَبَلٍ جَمِيعُ جِبَالِ الدُّنْيَا، فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَاكُ إِلَى الْعُمُومِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَرِّقْهَا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يُمْكِنُكَ التَّفْرِقَةُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أَرْبَعَةُ جِبَالٍ عَلَى حَسَبِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى حَسَبِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا أَعْنِي الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَالشَّمَالَ وَالْجَنُوبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَبْعَةٌ مِنَ الْجِبَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ جَبَلٍ يُشَاهِدُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ دُعَاءُ الطَّيْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالْجِبَالُ الَّتِي كَانَ يُشَاهِدُهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِذَبْحِهَا وَنَتْفِ رِيشِهَا وَتَقْطِيعِهَا جُزْءًا جُزْءًا وَخَلْطِ دِمَائِهَا ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثُمَّ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ أَجْزَاءَهَا عَلَى الْجِبَالِ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ، ثُمَّ يَصِيحُ بِهَا: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ جُزْءٍ يَطِيرُ إِلَى الْآخَرِ حَتَّى تَكَامَلَتِ الْجُثَثُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ كُلُّ جُثَّةٍ إِلَى رَأْسِهَا وَانْضَمَّ كُلُّ رَأْسٍ إِلَى جُثَّتِهِ، وَصَارَ الْكُلُّ أَحْيَاءً بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْفَضْلِ جُزْءاً مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ مُهَمَّزًا مُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً فَقِيلَ عَدْوًا وَمَشْيًا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، وَقِيلَ طَيَرَانًا وَلَيْسَ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا طَارَ: سَعَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ السَّعْيَ هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي الْحَرَكَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ طَيَرَانًا فَالسَّعْيُ فِيهَا هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَةِ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ حُصُولَ الْمُقَارَنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمُقَارَنَةِ، أَمَّا الِانْفِكَاكُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ حَيْثُ حَصَلَتْ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ فَهْمِ النِّدَاءِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى السَّعْيِ لِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ حَالَ تَفَرُّقِهَا، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ حَكِيمٌ أَيْ عَلِيمٌ بعواقب الأمور وغايات الأشياء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
[الحكم الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِنْفَاقِ الأموال]
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَبْدَأِ وَبِالْمَعَادِ وَمِنْ دَلَائِلِ صِحَّتِهِمَا مَا أَرَادَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ.
فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ التَّكَالِيفِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجْمَلَ فِي قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْأَضْعَافَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْأَدِلَّةَ عَلَى قُدْرَتِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنْ حَيْثُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنِ التَّكْلِيفُ بِالْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا وُجُودُ الْإِلَهِ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، لَكَانَ الْإِنْفَاقُ فِي سَائِرِ الطَّاعَاتِ عَبَثًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِمَنْ رَغَّبَهُ فِي الْإِنْفَاقِ قَدْ عَرَفْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ وَأَكْمَلْتُ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِقْدَارِ وَقَدْ عَلِمْتَ قُدْرَتِي عَلَى الْمُجَازَاةِ وَالْإِثَابَةِ، فَلْيَكُنْ عِلْمُكَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ دَاعِيًا إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُجَازِي الْقَلِيلَ بِالْكَثِيرِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ الْكَثِيرِ مَثَلًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَذَرَ حَبَّةً أَخْرَجَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، فَصَارَتِ الْوَاحِدَةُ سَبْعَمِائَةٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ النَّظْمِ مَا ذَكَرَهُ الْأَصَمُّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ بَعْدَ أَنِ احْتَجَّ عَلَى الْكُلِّ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْغَبُوا فِي الْمُجَاهَدَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي نُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ شَرِيعَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ بَيَّنَ مَثَلَ مَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا يُنْفِقُ الْكَافِرُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ صَدَقَاتِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَقِيلَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كَمَثَلِ زَارِعِ حَبَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي فِي دِينِهِ، قِيلَ: أَرَادَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: جَمِيعُ أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالنَّفْلُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْهِجْرَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْغَيْرِ، وَمِنْ صَرْفِ الْمَالِ إِلَى الصَّدَقَاتِ، وَمِنْ إِنْفَاقِهَا فِي الْمَصَالِحِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي السَّبِيلِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَطَرِيقَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ الله گ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَالرِّبْحَ أَنَّهُ إِذَا بَذَرَ حَبَّةً وَاحِدَةً أَخْرَجَتْ لَهُ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَلَا التَّقْصِيرُ فِيهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ طَلَبَ الْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ عَشْرَةٌ وَمِائَةٌ، وَسَبْعُمِائَةٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْقُولًا سَوَاءٌ وُجِدَ فِي الدُّنْيَا سُنْبُلَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْمَعْنَى حَاصِلًا مُسْتَقِيمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْقَفَّالِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي سُنْبُلَةِ الْجَاوَرْسِ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَانَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُدْغِمُونَ التَّاءَ فِي السِّينِ فِي قَوْلِهِ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ مَهْمُوسَانِ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَمِّيَّةِ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ، وَلَا بَيَانُ مَنْ يُشَرِّفُهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ أَنَّهُ تَعَالَى يُضَاعِفُ لِكُلِّ الْمُتَّقِينَ، وَيَجُوزَ أَنْ يُضَاعِفَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ إِنْفَاقُهُ أَدْخَلَ فِي الْإِخْلَاصِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ يَجْعَلُ طَاعَتَهُ مَقْرُونَةً بِمَزِيدِ الْقَبُولِ وَالثَّوَابِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ واسِعٌ أَيْ وَاسِعُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَازَاةِ عَلَى الْجُودِ وَالْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ، بِمَقَادِيرِ الْإِنْفَاقَاتِ، وَكَيْفِيَّةِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَصِرْ عَمَلُ الْعَامِلِ ضَائِعًا عند الله تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظُمَ أَمْرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ تَحْصِيلُهَا حَتَّى يَبْقَى ذَلِكَ الثَّوَابُ، مِنْهَا تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَمَّا عُثْمَانُ فَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَلْفِ دِينَارٍ،
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ،
وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَإِنَّهُ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَالِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى غَيْرِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِذَا لَمْ يُتْبِعْهُ بِمَنٍّ وَلَا أَذَى قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا أَيْضًا فِيمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْضُرَ الْجِهَادَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَمُنَّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَوْ لَمْ أَحْضُرْ لَمَا تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ ضَعِيفٌ بَطَّالٌ لَا مَنْفَعَةَ مِنْكَ فِي الْجِهَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَنُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ، يُقَالُ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا أَنْعَمَ، أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنَّةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الأنباري:
فَمُنِّي عَلَيْنَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّمَا | كَلَامُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمُ |
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَلَا ذَاتِ يَدِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»
يُرِيدُ أَكْثَرَ إِنْعَامًا بِمَالِهِ، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَنَّانٌ أَيْ مُنْعِمٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ الْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَغَيْرَ مَمْنُوعٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَوْتُ: مَنُونًا لِأَنَّهُ يُنْقِصُ الْأَعْمَارَ، وَيَقْطَعُ الْأَعْذَارَ: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن يُنْقِصُ النِّعْمَةَ، وَيُكَدِّرُهَا، وَالْعَرَبُ يَمْتَدِحُونَ بِتَرْكِ الْمَنِّ بِالنِّعْمَةِ، قَالَ قَائِلَهُمْ:
زَادَ مَعْرُوفَكَ عِنْدِي عِظَمًا | أَنَّهُ عِنْدِيَ مَسْتُورٌ حَقِيرُ |
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ | وَهْوَ فِي الْعَالَمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ |
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا يُبْطِلَانِ الْأَجْرَ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي/ لَا يَبْطُلُ الْأَجْرُ.
قُلْنَا: بَلِ الشَّرْطُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ ثَوَابَ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ إِنَّمَا يَبْقَى إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمَنُّ وَالْأَذَى، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَعَ فَقْدِهِمَا وَمَعَ وُجُودِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ حُصُولَ الْمَنِّ وَالْأَذَى يُخْرِجَانِ الْإِنْفَاقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ
ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي، وَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَأَثِّرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا حَالَ حُصُولِ الْمُؤَثِّرِ لَا بَعْدَهُ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُتَأَخِّرَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ حِينَ أَنْفَقَ مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، بَلْ لِأَجْلِ التَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِنْفَاقُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ هذا الشرط متأخر، ولكن لم يجوز أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَأْثِيرَ الْمُؤَثِّرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يُوجَدَ بَعْدَهُ مَا يُضَادُّهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مِنَ الْكَبَائِرِ، حَيْثُ تَخْرُجُ هَذِهِ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَنْ تُفِيدَ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الْأَجْرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: حُصُولُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الْوَعْدِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ حَاصِلًا لَهُمْ بَعْدَ فِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَمَتَى جَازَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ/ لَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ دَلَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْفَاقَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَضِيعُ، بَلْ ثَوَابُهُ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَلَا يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه: ١١٢] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: ٨٩] وَقَالَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٣ الى ٢٦٥]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، وَلَا رَدُّ السَّائِلِ مِنْهُ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاجِبُ، وَقَدْ يَعْدِلُ بِهِ عَنْ سَائِلٍ إِلَى سَائِلٍ وَعَنْ فَقِيرٍ إِلَى فَقِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ الْعِبَادِ فَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِهَا لِيُثِيبَكُمْ عليها حَلِيمٌ إذا لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ، وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ لَهُ ثُمَّ إنه تعالى وصف هذين النوعين على الْإِنْفَاقِ أَحَدَهُمَا:
الَّذِي يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى وَالثَّانِيَ: الَّذِي لَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَشَرَحَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَضَرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: الَّذِي يَتْبَعُهُ المن والأذى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ لِلْمُرْجِئَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَبْطُلَ فَالْمُرَادُ إِبْطَالُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ فَيَصِحُّ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ أَجْرِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا: بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ بُطْلَانَ أَجْرِ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا الْمَنَّ وَالْأَذَى، ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا: بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ، فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَلَا تُرَابٌ أَصْلًا، فَالْكَافِرُ كَالصَّفْوَانِ، وَالتُّرَابُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ وَالْوَابِلُ كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ عَمَلَ/ الْكَافِرِ، وَكَالْمَنِّ وَالْأَذَى اللَّذَيْنِ يُحْبِطَانِ عَمَلَ هَذَا الْمُنْفِقِ،
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا تُبْطِلُوا النَّهْيَ عَنْ إِزَالَةِ هَذَا الثَّوَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا الْعَمَلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَتَى بِهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ عَلَى نَعْتِ الْبُطْلَانِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ النَّافِيَ وَالطَّارِئَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالُ النَّافِي، وَإِنْ حَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لَمْ يَكُنِ انْدِفَاعُ الطَّارِئِ أَوْلَى مِنْ زَوَالِ النَّافِي، بَلْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الطَّارِئَ لَوْ أَبْطَلَ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا دَخَلَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَاضِيَ انْقَضَى وَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَالِ وَإِعْدَامُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْحَالِ لَوْ أَعْدَمَهُ فِي الْحَالِ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الَّذِي سَيُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ وَإِعْدَامُ مَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ مُحَالٌ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ شَرْطَ طَرَيَانِ الطَّارِئِ زَوَالُ النَّافِي فَلَوْ جَعَلْنَا زَوَالَ النَّافِي مُعَلَّلًا بِطَرَيَانِ الطَّارِئِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الطَّارِئَ إِذَا طَرَأَ وَأَعْدَمَ الثَّوَابَ السَّابِقَ فَالثَّوَابُ السَّابِقُ إِمَّا أَنْ يَعْدَمَ مِنْ هَذَا الطَّارِئِ شَيْئًا أَوْ لَا يَعْدَمَ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَازَنَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِعَدَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودُ الْآخَرِ فَلَوْ حَصَلَ الْعَدَمَانِ مَعًا اللَّذَانِ هَمَّا مَعْلُولَانِ لَزِمَ حُصُولُ الْوُجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا عِلَّتَانِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودًا حَالَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْدُومًا وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعِقَابَ الطَّارِئَ لَمَّا أَزَالَ الثَّوَابَ السَّابِقَ، وَذَلِكَ الثَّوَابُ السَّابِقُ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فِي إِزَالَةِ الشَّيْءِ مِنْ هَذَا الْعِقَابِ الطَّارِئِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ الثَّوَابَ السَّابِقَ فَائِدَةٌ أَصْلًا لَا فِي جَلْبِ ثَوَابٍ وَلَا فِي دَفْعِ عِقَابٍ وَذَلِكَ عَلَى مُضَادَّةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧] وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَدْلِ حَيْثُ يَحْمِلُ الْعَبْدُ مَشَقَّةَ الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِنْهَا أَثَرٌ لَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ.
وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الصَّغِيرَةُ تُحْبِطُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الثَّوَابِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ أَجْزَاءَ الِاسْتِحْقَاقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ، فَالصَّغِيرَةُ الطَّارِئَةُ إِذَا انْصَرَفَ تَأْثِيرُهَا إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الِاسْتِحْقَاقَاتِ
وَسَادِسُهَا: وَهُوَ أَنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إِبْطَالِ الثَّوَابِ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِقَابِ الطَّارِئِ أَوْ كُلُّهَا وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ اخْتِصَاصَ بَعْضِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ اسْتِوَاءِ كُلِّهَا فِي الْمَاهِيَّةِ تَرْجِيحٌ لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ عَلَى إِبْطَالِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ مِنَ الثواب جزآن مِنَ الْعِقَابِ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى الْأَثَرِ الْوَاحِدِ مُؤَثِّرَانِ مُسْتَقِلَّانِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ غَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا حَالَ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ.
وَسَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: احْفَظِ الْمَتَاعَ لِئَلَّا يَسْرِقَهُ السَّارِقُ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَاءَ الْعَدُوُّ وَقَصَدَ قَتْلَ السَّيِّدِ، فَاشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ وَقَتْلِهِ فَذَلِكَ الْفِعْلُ مِنَ الْعَبْدِ يَسْتَوْجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ حَيْثُ دَفَعَ الْقَتْلَ عَنْ سَيِّدِهِ، وَيُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلذَّمِّ حَيْثُ عَرَّضَ مَالَهُ لِلسَّرِقَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ ثَابِتٌ، وَالْعُقَلَاءُ يَرْجِعُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى التَّرْجِيحِ أَوْ إِلَى الْمُهَايَأَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَحْكُمُوا بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ وَزَوَالِهِ فَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ.
وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْفِعْلُ الْمُتَقَدِّمُ فَهَذَا الطَّارِئُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي جِهَةِ اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَوْ كَانَ لِهَذَا الطَّارِئِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَاضِي لَكَانَ هَذَا إِيقَاعًا لِلتَّأْثِيرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّارِئِ أَثَرٌ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ السَّابِقِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ كَمَا كَانَ وَأَنْ لَا يَزُولَ وَلَا يُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا/ الطَّارِئُ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ الْأَثَرِ عَلَى ذَلِكَ السَّابِقِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا كَانَ هَذَا الطَّارِئُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ بِجِهَةِ اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ السَّابِقِ أَصْلًا وَالْبَتَّةَ مِنْ حَيْثُ إِيقَاعُ الْأَثَرِ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ، وَانْدِفَاعُ أَثَرِ هَذَا الطَّارِئِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ الْمَاضِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْحَادِثِ فَكَانَ الْمَاضِي بِدَفْعِ هَذَا الْحَادِثِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
وَتَاسِعُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ شُرْبَ جُرْعَةٍ مِنَ الْخَمْرِ يُحْبِطُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَطَاعَةَ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ أَكْثَرُ مِنْ عِقَابِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْأَعْظَمُ لَا يُحِيطُ بِالْأَقَلِّ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ، لِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعْظُمُ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، كَمَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ قِيَامِ الرَّبَّانِيَّةِ وَقَدْ رَبَّاهُ وَمَلَّكَهُ وَبَلَّغَهُ إِلَى النِّهَايَةِ الْعَظِيمَةِ أَعْظَمُ مِنْ قِيَامِهِ بِحَقِّهِ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، فَإِذَا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِحَيْثُ لَا تُضْبَطُ عِظَمًا وَكَثْرَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُوَافِي عَلَى ثَوَابِ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَظُمَتْ نِعَمُهُ عَلَى عَبْدِهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ قَامَ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ كَسَرَ رَأْسَ قَلَمِ ذَلِكَ الْمَلِكِ قَصْدًا، فَلَوْ أَحْبَطَ الْمَلِكُ جَمِيعَ طَاعَاتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْجُرْمِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَذُمُّهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى تَرْكِ الْإِنْصَافِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى أَقَلُّ مِنْ كَسْرِ رَأْسِ الْقَلَمِ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالُوهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْعُقُولِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِبْطَالِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الثَّوَابَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أُتْبِعَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى صَارَ عِقَابُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مُزِيلًا لِثَوَابِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَعُهُمُ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَوْلَى مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُطَابِقُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ عَمَلَ هَذَا بَاطِلًا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بَاطِلًا، لَا أَنَّهُ دَخَلَ صَحِيحًا، ثُمَّ يَزُولُ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ الْكُفْرُ، وَالْكُفْرُ مُقَارِنٌ لَهُ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهُ صَحِيحًا فِي الْوُجُودِ، فَهَذَا الْمَثَلُ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّفْوَانُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَتُرَابٌ ثُمَّ أَصَابَهُ وَابِلٌ، فَهَذَا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ/ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ الْغُبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَكَذَا هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَيْنِ لِلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ، إِلَّا أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِوُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ حُصُولُ الْأَجْرِ لِلْكَافِرِ، بَلِ الْمُشَبَّهُ بِذَلِكَ صُدُورُ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي لَوْلَا كَوْنُهُ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ لَكَانَ مُوجِبًا لِحُصُولِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَالْمُشَبَّهُ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعِ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّادِرُ مِنْهُ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْغُبَارَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ وَلَا غَائِصًا فِيهِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الِاتِّصَالُ كَالِانْفِصَالِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَمْعِ إِمَّا التَّرْجِيحُ وَإِمَّا الْمُهَايَأَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ صَدَقَتِكُمْ، وَبِالْأَذَى لِذَلِكَ السَّائِلِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: بِالْمَنِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَبِالْأَذَى لِلْفَقِيرِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنْفَقَ مُتَبَجِّحًا بِفِعْلِهِ، وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ فَكَانَ كَالْمَانِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَظْهَرَ لَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِي فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَإِبْطَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ يُبْطِلَانِهَا، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْمُرَائِيَ يَأْتِيَانِ بِالصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَقْرِنُ الصَّدَقَةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَقَدْ أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا مَنَّ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَا آذَاهُ، فَثَبَتَ اشْتِرَاكُ الصُّورَتَيْنِ فِي كَوْنِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبْطَالِ الْإِتْيَانُ بِهِ بَاطِلًا، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِتْيَانُ بِهِ صَحِيحًا، ثم إزالته
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ مُمَاثِلِينَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّيَاءُ مَصْدَرٌ، كالمراءاة يقال: راأيته رِيَاءً وَمُرَاءَاةً، مِثْلَ: رَاعَيْتُهُ مُرَاعَاةً وَرِعَاءً، وَهُوَ أَنْ تُرَائِيَ بِعَمَلِكَ غَيْرَكَ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الرِّيَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ أَتْبَعَهُ بِالْمَثَلِ الثَّانِي، فَقَالَ فَمَثَلُهُ وَفِي هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِ، فَيَكُونُ/ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ الْمَانَّ وَالْمُؤْذِيَ بِالْمُنَافِقِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْمُنَافِقَ بِالْحَجَرِ، ثُمَّ قَالَ: كَمَثَلِ صَفْوانٍ وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الصَّفْوَانَ وَالصَّفَا وَالصَّفْوَا وَاحِدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّفْوَانُ جَمْعُ صَفْوَانَةَ، كَمَرْجَانَ وَمَرْجَانَةَ، وَسَعْدَانَ وَسَعْدَانَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَأَصابَهُ وابِلٌ الْوَابِلُ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُ وَبِلًا، وَأَرْضٌ مَوْبُولَةٌ، أَيْ أَصَابَهَا وَابِلٌ، ثُمَّ قال: فَتَرَكَهُ صَلْداً الصلد الأمس الْيَابِسُ، يُقَالُ: حَجَرٌ صَلْدٌ، وَجَبَلٌ صَلْدٌ إِذَا كَانَ بَرَّاقًا أَمْلَسَ وَأَرْضٌ صَلْدَةٌ، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا كَالْحَجَرِ الصَّلْدِ وَصَلَدَ الزَّنْدُ إِذَا لَمْ يُورِ نَارًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَمَلِ الْمَانِّ الْمُؤْذِي، وَلِعَمَلِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالًا، كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اضْمَحَلَّ كُلُّهُ وَبَطَلَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ مَا كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ أَوْجَبَتِ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى أَزَالَا ذَلِكَ الْأَجْرَ، كَمَا يُزِيلُ الْوَابِلُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِ الصَّفْوَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ الظاهر كالتراب، والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هَذَا عَلَى قَوْلِنَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْمَنُّ وَالْأَذَى كَالْوَابِلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّشْبِيهِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ذَخَائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ عَمِلَ بِإِخْلَاصٍ فَكَأَنَّهُ طَرَحَ بَذْرًا فِي أَرْضٍ فَهُوَ يُضَاعَفُ لَهُ وَيَنْمُو حَتَّى يَحْصُدَهُ فِي وَقْتِهِ، وَيَجِدَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ، وَالصَّفْوَانُ محَلُّ بَذْرِ الْمُنَافِقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْمُو فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ فِيهِ قَبُولٌ لِلْبَذْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَمَلَ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقِ يُشْبِهُ إِذَا طَرَحَ بَذْرًا فِي صَفْوَانٍ صَلْدٍ عَلَيْهِ غُبَارٌ قَلِيلٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ مَطَرُ جُودٍ بَقِيَ مُسْتَوْدِعًا بَذْرَهُ خَالِيًا لَا شَيْءَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلَ الْمُخْلِصِ بجنة فوق ربوة، والجنة ما يكون فيه أَشْجَارٌ وَنَخِيلٌ، فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ كَمَنْ غَرَسَ بُسْتَانًا فِي رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَهُوَ يَجْنِي ثَمَرَ غِرَاسِهِ فِي أَوَجَّاتِ الْحَاجَةِ وَهِيَ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا مُتَضَاعِفَةً زَائِدَةً، وَأَمَّا عَمَلُ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقِ، فَهُوَ كَمَنْ بَذَرَ فِي الصَّفْوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّرْعِ لَا يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْوَابِلَ إِذَا أَصَابَ الصَّفْوَانَ جَعَلَهُ طَاهِرًا نَقِيًّا نَظِيفًا عَنِ الْغُبَارِ وَالتُّرَابِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُشَبِّهَ اللَّهُ بِهِ عَمَلَ الْمُنَافِقِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِاخْتِلَافِهَا فِيمَا وَرَاءَهُ، قَالَ الْقَاضِي:
وَأَيْضًا فَوَقْعُ التُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ يُفِيدُ مَنَافِعَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَصْلَحُ فِي الِاسْتِقْرَارِ عليه وثانيها: الانتفاع بها فِي التَّيَمُّمِ وَثَالِثُهَا: الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالنَّبَاتِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ.
ثم قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: سَلْبُ الْإِيمَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ عَنِ الثَّوَابِ وَطَرِيقِ الْجَنَّةِ بِسُوءِ اختيارهم.
في قوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَثَلَ الْمُنْفِقِ الَّذِي يَكُونُ مَانًّا وَمُؤْذِيًا ذَكَرَ مَثَلَ الْمُنْفِقِ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ الْمُنْفِقِينَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِابْتِغَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ بَغَيْتُ أَيْ طَلَبْتُ، وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ: بَغَيْتُ وَابْتَغَيْتُ.
وَالْغَرَضُ الثَّانِي: هُوَ تَثْبِيتُ النَّفْسِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى حِفْظِ هَذِهِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ مَا يُفْسِدُهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَرْكُ إِتْبَاعِهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَثَانِيهَا: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فِي الْإِيمَانِ مُخْلِصَةٌ فِيهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَتَثْبِيتًا مِنْ بَعْضِ أَنْفُسِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّفْسَ لَا ثَبَاتَ لَهَا فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا إِذَا صَارَتْ مَقْهُورَةً بِالْمُجَاهَدَةِ، وَمَعْشُوقُهَا أَمْرَانِ: الْحَيَاةُ الْعَاجِلَةُ وَالْمَالُ، فَإِذَا كُلِّفَتْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فَقَدْ صَارَتْ مقهورة من بعض الوجوه، وإذا كلفت يبذل الرُّوحِ فَقَدْ صَارَتْ مَقْهُورَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ بَعْضُ التَّثْبِيتِ، فَلِهَذَا دَخَلَ فيه (من) التي هي التبعيض، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَّتَ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَمَنْ بَذَلَ مَالَهُ وَرُوحَهُ مَعًا فَهُوَ الَّذِي ثَبَّتَهَا كُلَّهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفِ: ١١] وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَتَفْسِيرٌ لَطِيفٌ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ ثَبَاتَ الْقَلْبِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: ٢٨] فَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ اطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ التَّجَلِّي، إِلَّا إِذَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِمَحْضِ غَرَضِ/ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي إِنْفَاقِهِ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَانِ: ٩] وَوَصَفَ إِنْفَاقَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ، الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [اللَّيْلِ: ١٩، ٢٠، ٢١] فَإِذَا كَانَ إِنْفَاقُ الْعَبْدِ لِأَجْلِ، عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ لَا لِأَجْلِ غَرَضِ النَّفْسِ وَطَلَبِ الْحَضِّ. فَهُنَاكَ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ نَفْسُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِنَفْسِهِ مُنَازَعَةٌ مَعَ قَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَوَّلًا فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ إِنَّهُ لطلب مرضات الله، ثم
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاظَبَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى وَالثَّانِي: صَيْرُورَةُ هَذَا الِابْتِغَاءِ وَالطَّلَبِ مَلَكَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النَّفْسِ، حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ بِحَيْثُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ وَالِاتِّفَاقِ رَجَعَ الْقَلْبُ فِي الْحَالِ إِلَى جَنَابِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ صَارَتْ كَالْعَادَةِ وَالْخَلْقِ لِلرُّوحِ، فَإِتْيَانُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، يُفِيدُ هَذِهِ الْمَلَكَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ، الَّتِي وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِتَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا التَّثْبِيتِ تَصِيرُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ، فَصَارَ الْعَبْدُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: غَائِبًا حَاضِرًا، ظَاعِنًا مُقِيمًا وَسَادِسُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّثْبِيتِ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَهَا جَازِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ عَمَلَهُمْ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُمْ، لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالنُّشُورِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ عُدَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ ضَائِعًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالثَّوَابِ، فَهَذَا الْجَزْمُ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّثْبِيتِ وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْفِقَ يَتَثَبَّتُ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فَيَضَعُهَا فِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ أَعْطَى، وَإِنْ خَالَطَهُ أَمْسَكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يكون التثبيت، بمعنى التثبيت، لِأَنَّهُمْ ثَبَّتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَرْفِ الْمَالِ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ شَرَحَ أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ ضَرَبَ لِإِنْفَاقِهِمْ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِرَبْوَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ إِلى رَبْوَةٍ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، والباقون بضم الراء فيهما، وهو أن أَشْهَرُ اللُّغَاتِ وَلُغَةُ قُرَيْشٍ، وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ (رَبْوَةٌ) بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبَاوَةٌ) بِالْأَلْفِ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبْوٌ) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ (رُبْوَةٌ) بِالضَّمِّ، لِأَنَّ جَمْعَهَا الرُّبَى، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا ازْدَادَ وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا ارْتَفَعَتْ، وَمِنْهُ الرَّبْوُ إِذَا أَصَابَهُ نَفَسٌ فِي جَوْفِهِ زَائِدٌ، وَمِنْهُ الرِّبَا، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَكْثَرَ رَيْعًا.
وَلِي فِيهِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْبُسْتَانَ إِذَا كَانَ فِي مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ فَوْقَ الْمَاءِ وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ أَنْهَارٌ وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا فَلَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ انْصَبَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِثَارَةُ الرِّيَاحِ فَلَا يَحْسُنُ أَيْضًا رَيْعُهُ، فَإِذَنِ الْبُسْتَانُ إِنَّمَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ رَبْوَةً وَلَا وَهْدَةً، فَإِذَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّبْوَةِ مَا ذَكَرُوهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ الْأَرْضِ طِينًا حُرًّا، بِحَيْثُ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَيْهِ انْتَفَخَ وَرَبَا وَنَمَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مُتَأَكَّدٌ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: ٥] وَالْمُرَادُ مِنْ رَبْوِهَا مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هاهنا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّفْوَانَ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَلَا يَرْبُو، وَلَا يَنْمُو بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو أُكُلَها بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْأُكُلُ بِالضَّمِّ الطَّعَامُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُؤْكَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إِبْرَاهِيمَ: ٢٥] أَيْ ثَمَرَتَهَا وَمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، فَالْأَكْلُ فِي الْمَعْنَى مِثْلُ الطُّعْمَةِ، وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
فَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتَهَا بِغَنِيمَةٍ | وَلَا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتَهَا بِقِرَامِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ يَعْنِي مِثْلَيْنِ لِأَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلُهُ زَائِدًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ ضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ قَالَ عَطَاءٌ: حَمَلَتْ فِي سَنَةٍ مِنَ الرَّيْعِ مَا يَحْمِلُ غَيْرُهَا فِي سَنَتَيْنِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: ضِعْفُ مَا يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِثْلَيْ مَا كَانَ يُعْهَدُ مِنْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ الطل: مطر صغير الفطر، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَيُصِيبُهَا مَطَرٌ دُونَ الْوَابِلِ، إِلَّا أَنَّ ثَمَرَتَهَا بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَنْقُصُ بِسَبَبِ انْتِقَاصِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَرَمِ الْمَنْبَتِ الثَّانِي: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ حَتَّى تُضَاعَفَ ثَمَرَتُهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُصِيبَهَا طَلٌّ يُعْطِي ثَمَرًا دُونَ ثَمَرِ الْوَابِلِ، فَهِيَ عَلَى جَمِيعِ الأحوال لا تخلوا مِنْ أَنْ تُثْمِرَ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ صَدَقَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَضِيعُ كَسْبُهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَصِيرِ الْعَلِيمُ، أَيْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَمِّيَّةِ النَّفَقَاتِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَالْأُمُورِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُجَازٍ بِهَا إِنْ خيراً فخير وإن شرًّا فشر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ جَنَّةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنِّهَايَةِ، كَثِيرَةَ النَّفْعِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْكَسْبِ وَفِي غَايَةِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ذُرِّيَّةٌ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ، وَفِي غَايَةِ الْعَجْزِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا أَوْ عَاجِزًا مَظِنَّةُ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَتَعَلُّقُ جَمْعٍ مِنَ الْمُحْتَاجِينَ الْعَاجِزِينَ بِهِ زِيَادَةُ مِحْنَةٍ عَلَى مِحْنَةٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ الْإِنْسَانُ وَشَاهَدَ تِلْكَ الْجَنَّةَ مُحْرَقَةً بِالْكُلِّيَّةِ، فَانْظُرْ كَمْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، وَالْمِحْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ تَارَةً بِسَبَبِ أَنَّهُ ضَاعَ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ الشَّرِيفِ النَّفِيسِ، وَثَانِيًا: بِسَبَبِ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الْحَاجَةِ وَالشِّدَّةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الِاكْتِسَابِ وَالْيَأْسِ عَنْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَثَالِثًا: بِسَبَبِ تَعَلُّقِ غَيْرِهِ بِهِ، وَمُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِوُجُوهِ النَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ لِأَجْلِ اللَّهِ، كَانَ ذَلِكَ نَظِيرًا لِلْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَاجِزُ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ اعْتِمَادِهِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْقَبَ إِنْفَاقَهُ بِالْمَنِّ أَوْ بِالْأَذَى كَانَ ذَلِكَ كَالْإِعْصَارِ الَّذِي يحرق تلك الجنّة،
أَمَّا قَوْلُهُ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ فيه مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوِدُّ، هُوَ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَمْزَةُ فِي أَيَوَدُّ اسْتِفْهَامٌ لِأَجْلِ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَيَوَدُّ وَلَمْ يَقُلْ أَيُرِيدُ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَبَّةَ كُلِّ أَحَدٍ لِعَدَمِ هَذِهِ الْحَالَةِ مَحَبَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ فَلَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ مَوَدَّةَ عَدَمِ هَذِهِ الْحَالَةِ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ فَقَالَ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنْكَارِ التَّامِّ، وَالنَّفْرَةِ الْبَالِغَةِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا مَرْتَبَةَ فَوْقَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الجنة بصفات ثلاث:
الصفة الأول كَوْنُهَا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَنَّةَ تَكُونُ مُحْتَوِيَةً عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَلَا تَكُونُ الْجَنَّةُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ إِلَّا أَنَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، صَارَ كَأَنَّ الْجَنَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ وَلِأَنَّهُمَا أَحْسَنُ الْفَوَاكِهِ مَنَاظِرَ حِينَ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى أَشْجَارِهَا.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ في هذه الجنة.
الصفة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبًا لِكَمَالِ حَالِ هَذَا الْبُسْتَانِ فَهَذِهِ هِيَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْجَنَّةَ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ تَكُونُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهَا مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَسَنَةُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَنْظَرِ كَثِيرَةُ النَّفْعِ وَالرَّيْعِ، وَلَا تُمْكِنُ الزيادة في الحسن الْجَنَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلك شرع شَرَعَ فِي بَيَانِ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمَالِكِ إِلَى هَذِهِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ كَبِيرًا، وَعَجَزَ عَنِ الِاكْتِسَابِ كَثُرَتْ جِهَاتُ حَاجَاتِهِ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمَنْ يَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ، فَإِذَا تَزَايَدَتْ جِهَاتُ الْحَاجَاتِ وَتَنَاقَصَتْ جِهَاتُ الدَّخْلِ وَالْكَسْبِ، إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عَطَفَ وَأَصابَهُ عَلَى أَيَوَدُّ وَكَيْفَ يَجُوزُ عَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ.
قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (الْوَاوُ) لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، وَمَعْنَاهُ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ حَالَ مَا أَصَابَهُ الْكِبَرُ ثُمَّ إِنَّهَا تُحْرَقُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي قَالَ الْفَرَّاءُ: وَدِدْتُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَوَدِدْتُ لَوْ كَانَ كَذَا فَحَمَلَ الْعَطْفَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أن تكون له جنة إِنْ كَانَ لَهُ جَنَّةٌ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي بَيَانِ احْتِيَاجِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ إِلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ فَقَالَ: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وَالْمُرَادُ مِنْ ضَعْفِ الذُّرِّيَّةِ: الضَّعْفُ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالطُّفُولِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ وَالْإِعْصَارُ رِيحٌ تَرْتَفِعُ وَتَسْتَدِيرُ نَحْوَ السَّمَاءِ/ كَأَنَّهَا عَمُودٌ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّاسُ الزَّوْبَعَةَ، وَهِيَ رِيحٌ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَمِنْهُ قول شاعر:
إِنْ كُنْتَ رِيحًا فَقَدْ لَاقَيْتَ إِعْصَارَا
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ بَيَانُ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَمِّ وَالْمِحْنَةِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحَيْرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، بَلْ يَقْرِنُ بِهَا أُمُورًا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، فَحِينَ يَقْدُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ وَنِهَايَةِ الْعَجْزِ عَنِ الِاكْتِسَابِ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَتَنَاهَتْ حَيْرَتُهُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: ٤٧] وَقَوْلُهُ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: ٢٣].
ثُمَّ قَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ فِي سَائِرِ أُمُورِ الدِّينِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ: لَعَلَّ، لِلتَّرَجِّي وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مراراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اعلم أنه رَغَّبَ فِي الْإِنْفَاقِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُ مَا لَا يَتْبَعُهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَضَرَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَثَلًا يَكْشِفُ عَنِ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي أَمَرَ بِإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقَالَ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ أَنْفِقُوا الْمُرَادُ مِنْهُ مَاذَا فَقَالَ الْحَسَنُ/ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّطَوُّعُ وَقَالَ ثَالِثٌ: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْفِقُوا أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ لَيْسَ إِلَّا الزَّكَاةَ وَسَائِرَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ بِشِرَارِ ثِمَارِهِمْ وَرَدِيءِ أَمْوَالِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ بِعِذْقِ حَشَفٍ فَوَضَعَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ هَذَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ دَاخِلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْأَمْرِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَزَكَاةُ النَّعَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُكْتَسَبٌ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ مُخَالِفِيهِ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي الْخُضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ»
وَأَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ وَاجِبٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّ مُخَالِفِيهِ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْجَيِّدُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الرَّدِيءِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الطَّيِّبِ عَلَى الْجَيِّدِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْخَبِيثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدِيءُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الْحَلَّالُ، وَالْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ حُجَّةُ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ يَتَصَدَّقُونَ بِرَدِيءِ أَمْوَالِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبِ الْجَيِّدُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لَا بِإِغْمَاضٍ وَلَا بِغَيْرِ إِغْمَاضٍ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبِيثَ يَجُوزُ أَخْذُهُ بِالْإِغْمَاضِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِغْمَاضِ الْمُسَامَحَةُ وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إِلَّا أَنْ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَخْذَ الْحَرَامِ، وَلَا تُبَالُوا مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَخَذْتُمُ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالِهِ أَوْ مِنْ حَرَامِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ:
٩٢] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ الَّتِي يُسْتَطَابُ مِلْكُهَا، لَا الْأَشْيَاءُ الْخَسِيسَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ وَإِخْرَاجُهَا عَنْ بَيْتِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا الْجَيِّدُ وَإِمَّا الْحَلَالُ، فَإِذَا بَطَلَ الْأَوَّلُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ بَطَلَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ هُوَ الْجَيِّدَ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِإِنْفَاقِ مُطْلَقِ الْجَيِّدِ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْتِزَامُ التَّخْصِيصِ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْجَيِّدَ بَلِ الْحَلَالَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ المراد من الطيب هاهنا مَا يَكُونُ طَيِّبًا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا بِمَعْنَى الْحَلَالِ، وَيَكُونُ طَيِّبًا بِمَعْنَى الْجَوْدَةِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَلَالُ إِنَّمَا سُمِّيَ طَيِّبًا لِأَنَّهُ يَسْتَطِيبُهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ، وَالْجَيِّدُ إِنَّمَا يُسَمَّى طَيِّبًا لِأَنَّهُ يَسْتَطِيبُهُ الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ، فَمَعْنَى الِاسْتِطَابَةِ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَكَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ إِذَا أُثْبِتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَيِّدُ الْحَلَالُ فَنَقُولُ: الْأَمْوَالُ الزَّكَاتِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتَرُدُّ إِلَى فُقَرَائِهِمْ وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»
هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، أَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِأَفْضَلِ مَا يَمْلِكُونَهُ، كَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ التُّحْفَةُ أَفْضَلَ مَا فِي مُلْكِهِ وَأَشْرَفَهَا، فَكَذَا هاهنا، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجَوَابُهُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وَأَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الطَّيِّبَاتِ لَمَّا حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً حُذِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: أَمَمْتُهُ، وَيَمَّمْتُهُ، وَتَأَمَّمْتُهُ، كُلُّهُ بِمَعْنَى قَصَدْتُهُ قَالَ الْأَعْشَى:
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ | مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَرَفِ |
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الْإِدْغَامُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْمُدْغَمَ يُسَكَّنُ وَإِذَا سُكِّنَ لَزِمَ أَنْ تُجْلَبَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا جُلِبَتْ فِي أَمْثِلَةِ الْمَاضِي نَحْوَ: ادَّارَأْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ وَاطَّيَّرْنَا، لَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي التَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ التَّاءُ الْأُولَى وَسِيبَوَيْهِ لَا يُسْقِطُ إِلَّا الثَّانِيَةَ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: أَيُّهُمَا أُسْقِطَتْ جَازَ لِنِيَابَةِ الْبَاقِيَةِ عَنْهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُ تُنْفِقُونَ.
فَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثُمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَقَوْلُهُ مِنْهُ تُنْفِقُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَمِنَهُ تُنْفِقُونَ مَعَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا مَعَ الْإِغْمَاضِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَيَكُونُ الَّذِي مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ الَّذِي تُنْفِقُونَهُ وَلَسْتُمْ بآخذيه إلا
٢٥٦] وَالْمَعْنَى الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِغْمَاضُ فِي اللُّغَةِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَإِطْبَاقُ جَفْنٍ عَلَى جَفْنٍ وَأَصْلُهُ مِنَ الْغُمُوضِ، وَهُوَ الْخَفَاءُ يُقَالُ: هَذَا الْكَلَامُ غَامِضٌ أَيْ خَفِيُّ الْإِدْرَاكِ وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْإِغْمَاضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أن المراد بالإغماض هاهنا الْمُسَاهَلَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا يَرَى ذَلِكَ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى جُعِلَ كُلُّ تَجَاوُزٍ وَمُسَاهَلَةٍ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ إِغْمَاضًا، فَقَوْلُهُ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يَقُولُ لَوْ أَهْدِيَ إِلَيْكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَخَذْتُمُوهَا إِلَّا عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَإِغْمَاضٍ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْإِغْمَاضُ عَلَى الْمُتَعَدِّي كَمَا تَقُولُ: أَغْمَضْتُ بَصَرَ الْمَيِّتِ وَغَمَّضْتُهُ وَالْمَعْنَى وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ بَصَرَ الْبَائِعِ يَعْنِي أَمَرْتُمُوهُ بِالْإِغْمَاضِ وَالْحَطِّ مِنَ الثَّمَنِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَمَعْنَى حَمِيدٌ، أَيْ/ مَحْمُودٌ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِالْبَيَانِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ غَنِيٌّ كَالتَّهْدِيدِ عَلَى إِعْطَاءِ الْأَشْيَاءِ الرَّدِيئَةِ في الصدقات وحَمِيدٌ بِمَعْنَى حَامِدٍ أَيْ أَنَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْإِنْسَانَ فِي إِنْفَاقِ أَجْوَدِ مَا يَمْلِكُهُ حَذَرَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ يُقَالُ إِنْ أَنْفَقْتَ الْأَجْوَدَ صِرْتَ فَقِيرًا فَلَا تُبَالِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الرَّحْمَنَ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْطَانِ فَقِيلَ إِبْلِيسُ وَقِيلَ سَائِرُ الشَّيَاطِينِ وَقِيلَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقِيلَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْحَجِّ:
٧٢] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى التَّهَكُّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَقْرُ وَالْفُقْرُ لُغَتَانِ، وَهُوَ الضَّعِيفُ بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمَالِ وَأَصْلُ الْفَقْرِ فِي اللُّغَةِ كَسْرُ الْفَقَارِ، يُقَالُ: رَجُلٌ فَقِرٌ وَفَقِيرٌ إِذَا كَانَ مَكْسُورَ الْفَقَارِ، قَالَ طَرفَةُ.
إِنَّنِي لَسْتُ بمرهون فقر
قال صاحب «الكشاف» : قريء الْفُقْرُ بِالضَّمِّ وَالْفَقَرُ بِفَتْحَتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْوَسْوَسَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَحْشَاءَ هِيَ الْبُخْلُ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ إِغْرَاءَ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، قَالَ طَرَفَةُ:
/ أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي | عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ |
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْفَحْشَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُنْفِقِ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِئَلَّا تَصِيرَ فَقِيرًا، فَإِذَا أَطَاعَ الرَّجُلُ الشَّيْطَانَ فِي ذَلِكَ زَادَ الشَّيْطَانُ، فَيَمْنَعُهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْطِيَ لَا الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ وَحَتَّى يَمْنَعَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ، فَلَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَلَا يَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا يَرُدُّ الْوَدِيعَةَ، فَإِذَا صَارَ هَكَذَا سَقَطَ وَقْعُ الذُّنُوبِ عَنْ قَلْبِهِ وَيَصِيرُ غَيْرَ مُبَالٍ بِارْتِكَابِهَا، وَهُنَاكَ يَتَّسِعُ الْخَرْقُ وَيَصِيرُ مِقْدَامًا عَلَى كُلِّ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَحْشَاءُ وَتَحْقِيقُهُ أَنْ لِكُلِّ خَلْقٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا فَالطَّرَفُ الْكَامِلُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَبْذُلُ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ وَالطَّرَفُ الْفَاحِشُ النَّاقِصُ لَا يُنْفِقُ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ وَالْأَمْرُ الْمُتَوَسِّطُ أَنْ يَبْخَلَ بِالْجَيِّدِ وَيُنْفِقَ الرَّدِيءَ، فَالشَّيْطَانُ إِذَا أَرَادَ نَقْلَهُ مِنَ الطَّرَفِ الْفَاضِلِ إِلَى الطَّرَفِ الْفَاحِشِ، لَا يُمْكِنُهُ إِلَّا بِأَنْ يَجُرَّهُ إِلَى الْوَسَطِ، فَإِنْ عَصَى الْإِنْسَانُ الشَّيْطَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْهُ، وَإِنْ أَطَاعَهُ فِيهِ طَمِعَ فِي أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفِ الْفَاحِشِ، فَالْوَسَطُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَالطَّرْفُ الْفَاحِشُ قَوْلُهُ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَرَجَاتِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ إِلْهَامَاتِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فَالْمَغْفِرَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالْفَضْلُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَلْقِ،
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَلَكَ يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ «اللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا وَكُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا».
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ فِي غَدِ دُنْيَاكَ، وَالرَّحْمَنُ يَعِدُكَ الْمَغْفِرَةَ فِي غَدِ عُقْبَاكَ، وَوَعْدُ الرَّحْمَنِ فِي غَدِ الْعُقْبَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ وِجْدَانَ غَدِ الدُّنْيَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَوِجْدَانَ غَدِ الْعُقْبَى مُتَيَقِّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ وِجْدَانِ غَدِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يَبْقَى الْمَالُ الْمَبْخُولُ بِهِ، وَقَدْ لَا يَبْقَى وَعِنْدَ وِجْدَانِ غَدِ الْعُقْبَى لَا بُدَّ مِنْ وِجْدَانِ الْمَغْفِرَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْكَذِبِ فِي كَلَامِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ بَقَاءِ الْمَالِ الْمَبْخُولِ بِهِ فِي غَدِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ إِمَّا بِسَبَبِ خَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوِ اشْتِغَالٍ بِمُهِمٍّ آخَرَ وَعِنْدَ وِجْدَانِ غَدِ الْعُقْبَى الِانْتِفَاعُ حَاصِلٌ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ الْمَبْخُولِ بِهِ في غَدِ الدُّنْيَا لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ/ يَنْقَطِعُ وَلَا يَبْقَى، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَهُوَ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَزُولُ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وَفِي الْآيَةِ لَفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ أَحَدُهَا: التَّنْكِيرُ فِي لَفْظَةِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَعْنَى مَغْفِرَةً أَيَّ مَغْفِرَةٍ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ مَغْفِرَةً مِنْهُ فَقَوْلُهُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ كَمَالَ كَرَمِهِ وَنِهَايَةَ جُودِهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَكَوْنُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا خَصَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ بِأَنَّهَا مِنْهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ عِظَمَ الْمُعْطِي يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْعَطِيَّةِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَالَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٠] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَفِيعًا فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَالُ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ أَمْرًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلُنَا مَا دُمْنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَإِنَّ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَكْثَرُهَا مَحْجُوبَةٌ عَنَّا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَعْنَى الْفَضْلِ فَهُوَ الْخَلْفُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاًأحدها: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ لِلنَّفْسِ وَهِيَ فَضِيلَةُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَةِ ثَلَاثٌ: نَفْسَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ، وَمِلْكُ الْمَالِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ وَحُصُولُ خَلْقِ الْجُودِ وَالسَّخَاوَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: السِّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَأَخَسَّهَا السِّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ إِنْفَاقُ الْمَالِ كَانَتِ السَّعَادَةُ الْخَارِجِيَّةُ حَاصِلَةً وَالنَّقِيضَةُ النَّفْسَانِيَّةُ مَعَهَا حاصلها وَمَتَى حَصَلَ الْإِنْفَاقُ حَصَلَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ وَالنُّقْصَانُ الْخَارِجِيُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَكْمَلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْفَاقِ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حُصُولِ الْفَضْلِ وَالثَّانِيَ: وهو أنه متى حصل مَلَكَةُ الْإِنْفَاقِ زَالَتْ عَنِ الرُّوحِ هَيْئَةُ الِاشْتِغَالِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالتَّهَالُكُ فِي مَطَالِبِهَا، وَلَا مَانِعَ لِلرُّوحِ مِنْ تَجَلِّي نُورِ جَلَالِ اللَّهِ لَهَا إِلَّا حُبَّ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى قُلُوبِ بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات»
وَإِذَا زَالَ عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ غُبَارُ حُبِّ الدُّنْيَا اسْتَنَارَ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَصَارَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَالْتَحَقَ بِأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ لَا غَيْرَ وَالثَّالِثَ: وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ مَهْمَا عُرِفَ مِنَ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ مُنْفِقًا لِأَمْوَالِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ مَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَلَا يُضَايِقُونَهُ فِي مَطَالِبِهِ، فَحِينَئِذٍ تَنْفَتِحُ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيْهِمْ يُعِينُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْهِمَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْخَيْرِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، قَادِرٌ عَلَى إِغْنَائِكُمْ، وَإِخْلَافِ/ مَا تُنْفِقُونَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُنْفِقُونَ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَأَنَّ الرَّحْمَنَ يَعِدُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ وَعْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى وَعْدِ الشَّيْطَانِ هُوَ أن وعد
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ إِمَّا الْعِلْمُ وَإِمَّا فِعْلُ الصَّوَابِ يُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ، قَالَ فِي الْبَقَرَةِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣١] يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وفي النساء وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعْنِي الْمَوَاعِظَ، وَمِثْلُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَثَانِيهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: ١٢] وَفِي لُقْمَانَ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَفِي الْأَنْعَامِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ [الْأَنْعَامِ: ٨٩] وَثَالِثُهَا: الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ فِي النِّسَاءِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاءِ: ٥٤] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَفِي ص وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: ٢٠] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَفِي الْبَقَرَةِ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥١] وَرَابِعُهَا: الْقُرْآنُ بِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْأَسْرَارِ فِي النَّحْلِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، ثُمَّ تَأْمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَى إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ الْعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَسَمَّى الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا قَلِيلًا، فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: ٧٧] وَانْظُرْ كَمْ مِقْدَارُ هَذَا الْقَلِيلِ حَتَّى تَعْرِفَ عَظَمَةَ ذَلِكَ الْكَثِيرِ، وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ أَيْضًا يُطَابِقُهُ لِأَنَّ الدُّنْيَا مُتَنَاهِيَةُ الْمِقْدَارِ، مُتَنَاهِيَةُ الْمُدَّةِ، وَالْعُلُومُ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِهَا وَعَدَدِهَا وَمُدَّةِ بَقَائِهَا، وَالسَّعَادَةِ/ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يُنْبِئُكَ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] وَأَمَّا الْحِكْمَةُ بِمَعْنَى فِعْلِ الصَّوَابِ فَقِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، ومداد هَذَا الْمَعْنَى عَلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى»
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يُمْكِنُ خُرُوجُهَا عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ فِي شَيْئَيْنِ: أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْمَرْجِعُ بِالْأَوَّلِ: إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ الْمُطَابِقِ، وَبِالثَّانِي: إِلَى فِعْلِ الْعَدْلِ وَالصَّوَابِ، فَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشُّعَرَاءِ: ٨٣] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٣] الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَنَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهو الحكمة النظرية، ثم قال:
فَاعْبُدْنِي وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَمَ: ٣٠] الْآيَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ النَّظَرِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: ٣١] وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: ١٩] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النَّظَرِيَّةُ، ثم قال:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر: ٥٥] [مُحَمَّدٍ: ١٩] وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَقَالَ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النَّحْلِ: ٢] وَهُوَ الْحِكْمَةُ النظرية: ثم قال:
فَاتَّقُونِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ مِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْحِكْمَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْحُكْمِ، وَهِيَ كَالنَّحْلَةِ مِنَ النَّحْلِ، وَرَجُلٌ حَكِيمُ إِذَا كَانَ ذَا حِجًى
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَنْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ بِمَعْنَى: وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، وَهَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعِلْمِ لَمْ تَكُنْ مُفَسَّرَةً بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا حِكَمٌ، فَهِيَ مُفَسَّرَةٌ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدر غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ وَالْقُرْآنَ، أَوْ قُوَّةَ الْفَهْمِ وَالْحِسِّيَّةَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدْفَعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ/ لَفْظُ الْحَكِيمِ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مُغَايِرَةً لِلنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ مُفَسَّرَةٌ إِمَّا بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الصَّائِبَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَإِنْ حَاوَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ حَمْلَ الْإِيتَاءِ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ وَالْأَلْطَافِ، قُلْنَا: كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ فَعَلَ مَثَلَهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَدْحَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى الْحِكَمَ وَالْمَعَارِفَ حَاصِلَةً فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ وَتَدَبَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِإِيتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ، كَانَ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْمُسَبِّبَاتِ، بَلْ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى أَسْبَابِهَا، فَهَذَا الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُسَبِّبِ إِلَى السَّبَبِ هُوَ التَّذَكُّرُ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِهَا وَتَحْصِيلِهَا، كَانَ مِنَ الظَّاهِرِيِّينَ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَسَّرُوا الْحِكْمَةَ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ وَوَضْعِ الدَّلَائِلِ، قَالُوا: هَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بها المرء بأن يتدبر ويتفكر، فيعرف ماله وَمَا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدُمُ أَوْ يَحْجِمُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْوَدِ الْمَالِ، ثُمَّ حَثَّ أَوَّلًا: بِقَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة: ٢٦٧] وثانياً: بقوله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة: ٢٦٨] حيث عَلَيْهِ ثَالِثًا: بِقَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُهَا، لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَخِيرِ، كَقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ عَادَتْ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِأَنَّهَا اسْمٌ كَقَوْلِهِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّذْرُ مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُقَالُ: نَذَرَ يَنْذُرُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَأَنْذَرْتُ الْقَوْمَ إِنْذَارًا بِالتَّخْوِيفِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُفَسَّرٍ وَغَيْرِ مُفَسَّرٍ، فَالْمُفَسَّرُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجٌّ، فَهَهُنَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمُفَسَّرِ أَنْ يَقُولَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ، أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلظَّالِمِينَ، وَهُوَ قِسْمَانِ، أَمَّا ظُلْمُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا ظُلْمُهُ غَيْرَهُ فَبِأَنْ لَا يُنْفِقَ أَوْ يَصْرِفَ الْإِنْفَاقَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونَ نِيَّتُهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، أَوْ يُفْسِدَهَا بِالْمَعَاصِي، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَاصِرَ الْإِنْسَانِ مَنْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فَلَوِ انْدَفَعَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ بِشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَكَانَ أُولَئِكَ أَنْصَارًا لَهُمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرْفَ لَا يُسَمِّي الشَّفِيعَ نَاصِرًا، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٨] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالنَّاصِرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَنْصَارِ نَفْيُ الشُّفَعَاءِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: لَيْسَ لِمَجْمُوعِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الظَّالِمِينَ وَلَفْظُ الْأَنْصَارِ جَمْعٍ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ النَّافِيَ لِلشَّفَاعَةِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَفِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ لِلشَّفَاعَةِ خَاصٌّ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ واللَّه أَعْلَمُ.
وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: مَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ ظَاهِرًا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ الْقَوِيِّ فَصَارَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ ظَنِّيَّةً، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهَا سَاقِطًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَنْصَارُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَأَشْرَافٍ وَشَرِيفٍ، وَأَحْبَابٍ وَحَبِيبٍ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلًا: أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ مَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا: أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَيِّدٍ وَمِنْ رَدِيءٍ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا، وَذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التَّوْبَةِ:
١٠٣] وقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفَقَةُ الْمَرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ»
وَالزَّكَاةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْفَرْضِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الصَّدَقَةِ «ص د ق» عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مَوْضُوعٌ لِلصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ صَدْقُ النَّظَرِ، وَصَدْقُ اللِّقَاءِ، وَصَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَفُلَانٌ صَادِقُ الْمَوَدَّةِ، وَهَذَا خَلٌّ صَادِقُ الْحُمُوضَةِ، وَشَيْءٌ صَادِقُ الْحَلَاوَةِ، وَصَدَقَ فُلَانٌ فِي خَبَرِهِ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ صَحِيحًا كَامِلًا، وَالصَّدِيقُ يُسَمَّى صَدِيقًا لِصِدْقِهِ فِي الْمَوَدَّةِ، وَالصَّدَاقُ سُمِّيَ صَدَاقًا لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهِ يَتِمُّ وَيَكْمُلُ، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً لِأَنَّ الْمَالَ بِهَا يَصِحُّ وَيَكْمُلُ، فَهِيَ سَبَبٌ إِمَّا لِكَمَالِ الْمَالِ وَبَقَائِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْعَبْدِ فِي إِيمَانِهِ وَكَمَالِهِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ فَنِعِمَّا نِعْمَ مَا، إِلَّا أَنَّهُ أُدْغِمَ أَحَدُ الْمِيمَيْنِ فِي الْآخَرِ، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فَنِعِمَّا بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: لِأَنَّهَا
لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «نِعْمَا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»
هَكَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَالنَّحْوِيُّونَ قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي/ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا فِيمَا يَكُونُ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَرْفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ، نَحْوَ: دَابَّةٍ وَشَابَّةٍ، لِأَنَّ مَا فِي الْحَرْفِ مِنَ الْمَدِّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الْحِسُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ السَّاكِنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ أَوْقَعَ فِي الْعَيْنِ حَرَكَةً خَفِيفَةً عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِلَاسِ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِرِوَايَةِ ورش وعاصم
وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ فَنِعِمَّا هِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَهِيَ (نَعِمْ) قال طرفة:
نعم الساعون في الأمر المير
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا فِي تَأْوِيلِ الشَّيْءِ، أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هُوَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيِّدُ: فِي تَمْثِيلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: ما في تأويل شيء، لأن ما هاهنا نَكِرَةٌ، فَتَمْثِيلُهُ بِالنَّكِرَةِ أَبْيَنُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ما نكرة هاهنا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةً فَلَا بُدَّ لَهَا من الصلة، وليس هاهنا مَا يُوصَلُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ بَعْدَ مَا هُوَ هِيَ، وَكَلِمَةُ هِيَ مُفْرَدَةٌ وَالْمُفْرَدُ لَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَنَقُولُ: مَا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ شَيْئًا هِيَ إِبْدَاءُ الصَّدَقَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّطَوُّعُ، أَوِ الْوَاجِبُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ، وَالْإِظْهَارَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ، وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِخْفَاؤُهُ، أَوْ إِظْهَارُهُ، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا الْوُجُوهَ الدالة على إِخْفَاءَهُ أَفْضَلُ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقبل الله مُسْمِعٍ وَلَا مُرَاءٍ وَلَا مَنَّانٍ»
وَالْمُتَحَدِّثُ بِصَدَقَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْلُبُ السُّمْعَةَ وَالْمُعْطِي فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ يَطْلُبُ الرِّيَاءَ، وَالْإِخْفَاءُ وَالسُّكُوتُ هُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُمَا، وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فِي قَصْدِ الْإِخْفَاءِ، وَاجْتَهَدُوا أَنْ لَا يَعْرِفَهُمُ الْآخِذُ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي يَدِ أَعْمَى، وَبَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي طَرِيقِ الْفَقِيرِ، وَفِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ حَيْثُ يَرَاهُ وَلَا يَرَى الْمُعْطِيَ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَشُدُّهُ فِي أَثْوَابِ الْفَقِيرِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُوصِلُ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ عَنِ الْكُلِّ الِاحْتِرَازُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا عَرَفَ الْمُعْطِيَ فَقَدْ حَصَلَ الرِّيَاءُ وَالْمِنَّةَ مَعًا وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُتَوَسِّطِ الرِّيَاءُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا أَخْفَى صَدَقَتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ شُهْرَةٌ وَمَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ، فَكَانَ/ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ إِلَى الْفَقِيرِ فِي سِرٍّ»
وَقَالَ أَيْضًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا فِي السِّرِّ يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ سِرًّا فَإِنْ أَظْهَرَهُ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَكُتِبَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنْ تَحَدَّثَ بِهِ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ فِي الرِّيَاءِ»
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَلَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ بِمَا أَعْطَاهُ يَمِينُهُ»
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ»
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِظْهَارَ يُوجِبُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْآخِذِ مِنْ وُجُوهٍ، وَالْإِخْفَاءَ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى، وَبَيَانُ تِلْكَ الْمَضَارِّ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ هَتْكَ عِرْضِ الْفَقِيرِ وَإِظْهَارَ فَقْرِهِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى الْفَقِيرُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ إِخْرَاجَ الْفَقِيرِ مِنْ هَيْئَةِ التَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الْبَقَرَةِ: ٢٧٣] وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ رُبَّمَا أَنْكَرُوا عَلَى الْفَقِيرِ أَخْذَ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَيَظُنُّونَ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا»
وَرُبَّمَا لَا يَدْفَعُ الْفَقِيرُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلَى شُرَكَائِهِ الْحَاضِرِينَ فَيَقَعُ الْفَقِيرُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَهَا، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ، فَيَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ، وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ أَفْضَلَ،
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السِّرُّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، وَالْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ»
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحِكِيمُ التَّرْمِذِيُّ: الْإِنْسَانُ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ وَهُوَ يُخْفِيهِ عَنِ الْخَلْقِ وَفِي نَفْسِهِ شَهْوَةٌ أَنْ يَرَى الْخَلْقُ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَدْفَعُ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فَهَهُنَا الشَّيْطَانُ يُورِدُ عَلَيْهِ ذِكْرَ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ، وَالْقَلْبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ فِي مُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَضُوعِفَ الْعَمَلُ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَلَى الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا رَاضُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ فَتَرَاكَمَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمْ وَسَاوِسُ النَّفْسِ، لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ قَدْ مَاتَتْ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي بِحَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا عَلَانِيَةً لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُجَاهِدَ، لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ قَدْ بَطَلَتْ، وَمُنَازَعَةَ النَّفْسِ قَدِ اضْمَحَلَّتْ، فَإِذَا أَعْلَنَ بِهِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا عَبْدٌ كَمُلَتْ ذَاتُهُ فَسَعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، أَلَا تَرَى أن لله تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ فِي تَنْزِيلِهِ وَسَمَّاهُمْ عِبَادَ الرَّحْمَنِ، وَأَوْجَبَ لَهُمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ/ الْغُرْفَةَ [الْفُرْقَانِ: ٧٥] ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي طَلَبُوهَا بِالدُّعَاءِ أَنْ قَالُوا وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَمَدَحَ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٩] وَمَدَحَ أمة محمد ﷺ فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] ثُمَّ أَبْهَمَ الْمُنْكَرَ فَقَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٨١] فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَأَعْلَامُ الدِّينِ وَسَادَةُ الْخَلْقِ بِهِمْ يَهْتَدُونَ فِي الذَّهَابِ إِلَى اللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ رَجَّحَ الْإِخْفَاءَ عَلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لا نسلم قَوْلَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يُفِيدُ التَّرْجِيحَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ إِعْطَاءَ الصَّدَقَةِ حَالَ الْإِخْفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَطَاعَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا وَطَاعَةً، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ التَّرْجِيحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّرْجِيحُ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَالُ وَاحِدَةً فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ، فَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْإِبْدَاءِ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَبْعُدْ تَرْجِيحُ الْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِظْهَارَ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ أَفْضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَئِمَّةَ بتوجيه السعادة لِطَلَبِ الزَّكَاةِ، وَفِي دَفْعِهَا إِلَى السُّعَاةِ إِظْهَارُهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي إِظْهَارِهَا نَفْيَ التُّهْمَةِ،
رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ فِي الْبَيْتِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَإِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَنَفْلِهَا فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ لنفي
فَكَذَا فِي الزَّكَاةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِظْهَارَهَا يَتَضَمَّنُ الْمُسَارَعَةَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْلِيفِهِ، وَإِخْفَاءَهَا يُوهِمُ تَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِظْهَارُ أَوْلَى، هَذَا كُلُّهُ فِي بَيَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَطْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ:
الْإِظْهَارُ فِي الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِظْهَارَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ تُوجِبُ إِظْهَارَ قَدْرِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّرَرِ، بِأَنْ يُطْمِعَ الظَّلَمَةَ فِي مَالِهِ، أَوْ بِكَثْرَةِ حُسَّادِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاءَ مَالِهِ لَزِمَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مَا كَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ أَوْلَى لَهُمْ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ أَمَّا الْآنَ فَلَمَّا حَصَلَتِ التُّهْمَةُ كَانَ الْإِظْهَارُ أَوْلَى بِسَبَبِ حصول التهمة الثالث: أن لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ قَوْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ عَلَى التَّرْجِيحِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فَالْإِخْفَاءُ نَقِيضُ الْإِظْهَارِ وَقَوْلُهُ/ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْفَاءِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ الْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، كَمَا يُقَالُ: الثَّرِيدُ خَيْرٌ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْجِيحُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ تَعَالَى فِي كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ أَنْ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِخْفَاءِ الْأَقْرَبَ أَنْ يَعْدِلَ بِالزَّكَاةِ عَنِ الْفُقَرَاءِ، إِلَى الْأَحْبَابِ وَالْأَصْدِقَاءِ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ فِي الْإِخْفَاءِ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ إِيتَاءُ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَقْصُودُ بَعْثُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى أَنْ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ، فَيَصِيرُ عَالِمًا بِالْفُقَرَاءِ، فَيُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَقَدَّمَ مِنْهُ هَذَا الِاسْتِظْهَارُ ثُمَّ أَخْفَاهَا حَصَلَتِ الْفَضِيلَةُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّكْفِيرُ فِي اللُّغَةِ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، وَرَجُلٌ مُكَفَّرٌ فِي السِّلَاحِ مُغَطًّى فِيهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، أَيْ سَتَرَ ذَنْبَ الْحِنْثِ بِمَا بَذَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْكَفَّارَةُ سِتَارَةٌ لِمَا حَصَلَ مِنَ الذَّنْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ نُكَفِّرُ بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ مُبْتَدَأٍ بِمُسْتَأْنِفَةٍ مُنْقَطِعَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فَإِنَّ مَوْضِعَهُ جَزْمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا تَكُنْ أَعْظَمَ لِثَوَابِكُمْ، لَجَزَمَ فَيَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَوْضِعِ الْجَزْمِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الْأَعْرَافِ: ١٨٦] بِالْجَزْمِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ يُكَفِّرُ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى: يُكَفِّرُ اللَّهُ أَوْ يُكَفِّرُ الْإِخْفَاءُ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ مَا بَعْدَهُ عَلَى لَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَقَوْلُهُ يُكَفِّرُ يَكُونُ أَشْبَهَ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُونَ أَجَابُوا وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجَمْعِ أَوَّلًا ثُمَّ لَفْظَ الْإِفْرَادِ ثَانِيًا كَمَا أَتَى بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ أَوَّلًا وَالْجَمْعِ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: ١] ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاءِ: ٢] وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِرَاءَةً رَابِعَةً وَتُكَفِّرْ بِالتَّاءِ مَرْفُوعًا وَمَجْزُومًا وَالْفَاعِلُ الصَّدَقَاتُ، وَقِرَاءَةً خَامِسَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِالتَّاءِ وَالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ (أَنْ) وَمَعْنَاهَا إن تخفوها يكن خير لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لكم.
ضَرَبْتُكَ مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [محمد: ١٥] وَالتَّقْدِيرُ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ جَمِيعَ سَيِّئَاتِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ الْأَصَحُّ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا تُرِيدُونَ بِالصَّدَقَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُكُمْ فِي السِّرِّ، فَمَا مَعْنَى الْإِبْدَاءِ، فَكَأَنَّهُمْ نُدِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى الْإِخْفَاءِ ليكون أبعد من الرياء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
[في قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ] هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَتْ نُتَيْلَةُ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهَا تَسْأَلُهَا، وَكَذَلِكَ جَدَّتُهَا وَهُمَا مُشْرِكَتَانِ، أَتَيَا أَسْمَاءَ يَسْأَلَانِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ لَا أُعْطِيكُمَا حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكُمَا لَسْتُمَا عَلَى دِينِي، فَاسْتَأْمَرَتْهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ قَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَكَانُوا لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ مَا لَمْ تُسْلِمُوا لَا نُعْطِيكُمْ شَيْئًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُمُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا تُوقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٨] فَرَخَّصَ فِي صِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْفِ: ٦] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٣] وَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: ٩٩] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَمُبَيِّنًا لِلدَّلَائِلِ، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُهْتَدِينَ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْكَ وَلَا بِكَ، فالهدى هاهنا بِمَعْنَى الِاهْتِدَاءِ، فَسَوَاءٌ اهْتَدَوْا أَوْ لَمْ يَهْتَدُوا فَلَا تَقْطَعْ مَعُونَتَكَ وَبِرَّكَ وَصَدَقَتَكَ عَنْهُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِوَاسِطَةِ أَنْ تُوقِفَ صَدَقَتَكَ عَنْهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْإِيمَانُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧١] وَهَذَا خِطَابٌ عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ خَاصٌّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَهَذَا عَامٌّ فَيُفْهَمُ مِنْ عُمُومِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَعُمُومُ مَا بَعْدَهَا عُمُومُهَا أَيْضًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَامَّةٍ، بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِثْبَاتٌ لِلْهِدَايَةِ الَّتِي نَفَاهَا بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاهْتِدَاءُ الْحَاصِلُ بِالِاخْتِيَارِ وَاقِعًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يحتمل وجوهاًأحدها: أَنَّهُ يَهْدِي بِالْإِثَابَةِ وَالْمُجَازَاةِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: يَهْدِي بِالْأَلْطَافِ وَزِيَادَاتِ الْهُدَى من يشاءوا ثالثها: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِالْإِكْرَاهِ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَهْدِي بِالِاسْمِ وَالْحُكْمِ مَنْ يَشَاءُ، فَمَنِ اهْتَدَى اسْتَحَقَّ أَنْ يُمْدَحَ بِذَلِكَ.
أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِأَسْرِهَا أَنَّ الْمُثْبَتَ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هُوَ الْمَنْفِيُّ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ الِاهْتِدَاءُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، فَالْمُثْبَتُ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاهْتِدَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُسْقِطُ كُلَّ الْوُجُوهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ فَالْمَعْنَى: وَكُلُّ نَفَقَةٍ تُنْفِقُونَهَا مِنْ نَفَقَاتِ الْخَيْرِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ لِيَحْصُلَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَوَابُهُ فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ كُفْرُهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ فِي صَدَقَتِكُمْ عَلَى أَقَارِبِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقْصِدُونَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْ قُلُوبِكُمْ، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ إِذَا كُنْتُمْ إِنَّمَا تَبْتَغُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فِي صِلَةِ رَحِمٍ وَسَدِّ خَلَّةِ مُضْطَرٍّ وَلَيْسَ عَلَيْكُمُ اهْتِدَاؤُهُمْ حَتَّى يَمْنَعَكُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خَبَرًا إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، أَيْ وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَثِيرًا قَالَ تعالى: الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَما تُنْفِقُونَ أَيْ وَلَا تَكُونُوا مُنْفِقِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي يُفِيدُ الْمَدْحَ حَتَّى تَبْتَغُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُهُ لِوَجْهِ زَيْدٍ فَهُوَ أَشْرَفُ فِي الذِّكْرِ مِنْ قَوْلِكَ: فَعَلْتُهُ لَهُ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّيْءِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّرَفِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُ هَذَا الْفِعْلَ لَهُ فَهَهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَعَلْتَهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَيْضًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرْفَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: لَوْ كَانَ شَرَّ خَلْقِ اللَّهِ لَكَانَ لَكَ ثَوَابُ نَفَقَتِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ قَوْلُهُ إِلَيْكُمْ مَعَ التَّوْفِيَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّأْدِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: ٣٣] يريد لم تنقص.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَيِّ فَقِيرٍ كَانَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِحْقَاقًا بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَراءِ مُتَعَلِّقٌ بِمَاذَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ، قَالَ بَعْدَهَا لِلْفُقَراءِ أَيْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ الْمَحْثُوثُ عَلَيْهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ رَجُلٍ فَتَقُولُ: عَاقِلٌ لَبِيبٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي مَرَّ وَصْفُهُ عَاقِلٌ لَبِيبٌ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ عَلَى الْكِيسِ الَّذِي يَجْعَلُونَ فِيهِ الذَّهَبَ وَالدَّرَاهِمَ: أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي فِي الْكِيسِ أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ وَاجْعَلُوا مَا تنفقون للقراء الثالث: يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف وَالتَّقْدِيرُ وَصَدَقَاتُكُمْ لِلْفُقَرَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسْكَنٌ وَلَا عَشَائِرُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا مُلَازِمِينَ الْمَسْجِدَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ، وَيَصُومُونَ وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَرَأَى فَقْرَهُمْ وَجَدَّهُمْ فَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، فَقَالَ:
(أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِيًا بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رِفَاقِي).
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ بِصِفَاتٍ خَمْسٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٣] فَنَقُولُ: الْإِحْصَارُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِضَ لِلرَّجُلِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَفَرِهِ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: أُحْصِرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ عند قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بما يعني عَنِ الْإِعَادَةِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ فَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِجَمِيعِ الْأَعْدَادِ الْمُمْكِنَةِ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ
لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي التِّجَارَةِ لِلْمَعَاشِ خَوْفَ الْعَدُوِّ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا مَتَى وَجَدُوهُمْ قَتَلُوهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارُوا زَمْنَى، فَأَحْصَرَهُمُ الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَبَسَهُمُ الْفَقْرُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَذَرَهُمُ اللَّهُ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَكَانَتْ شِدَّةُ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ أَحْصَرَتْهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِسَائِرِ الْمُهِمَّاتِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يُقَالُ ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبًا إِذَا سِرْتَ فِيهَا، ثُمَّ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِصَلَاحِ الدِّينِ وَبِأَمْرِ الْجِهَادِ، يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّفَرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مَرَضَهُمْ وَعَجْزَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ، وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَا شَكَّ فِي شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى مُهِمَّاتِهِمْ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ لَهُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ يَحْسَبُهُمُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا اللَّتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقُرِئَ فِي الْقُرْآنِ مَا كَانَ مِنَ الْحُسْبَانِ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَقْيَسُ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ إِذَا كَانَ عَلَى فَعِلَ، نَحْوُ حَسِبَ كَانَ الْمُضَارِعُ عَلَى يَفْعَلُ، مِثْلُ فَرِقَ يَفْرَقُ وَشَرِبَ يَشْرَبُ، وَشَذَّ حَسِبَ يَحْسِبُ فَجَاءَ عَلَى يَفْعِلُ مَعَ كَلِمَاتٍ أُخَرَ، وَالْكَسْرُ حَسَنٌ لِمَجِيءِ السَّمْعِ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا عَنِ الْقِيَاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُسْبَانُ هُوَ الظَّنُّ، وَقَوْلُهُ الْجاهِلُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاخْتِبَارِ، يَقُولُ: يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَخْتَبِرْ أَمْرَهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ وَمَعْنَى الْعِفَّةِ فِي اللُّغَةِ تَرْكُ الشَّيْءِ وَالْكَفُّ عَنْهُ وَأَرَادَ مِنَ التَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ فَتَرَكَهُ لِلْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ لِإِظْهَارِهِمُ التَّجَمُّلَ وَتَرْكِهِمُ الْمَسْأَلَةَ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ السِّيمَا وَالسِّيمِيَا الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الشَّيْءُ، وَأَصْلُهَا مِنَ السِّمَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ، قُلِبَتِ الْوَاوُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وزنه يكون فعلا، كَمَا قَالُوا: لَهُ جَاهٌ عِنْدَ النَّاسِ أَيْ وَجْهٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: السِّيمَا الِارْتِفَاعُ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ وُضِعَتْ لِلظُّهُورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ: قَوْلُهُ تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَفِيفَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ الَّذِي إِنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا أَفْرَطَ فِي الْمَدْحِ، وَإِنْ أُعْطِيَ قَلِيلًا أَفْرَطَ فِي الذَّمِّ،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا يَحْتَطِبُ فَيَبِيعُهُ بِمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ، وَذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلْحَافَ هُوَ الْإِلْحَاحُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ وَلَمْ يُلِحُّوا، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ السُّؤَالِ عَنْهُمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَوْضُوعِ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَتَعَفَّفُونَ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الْبَتَّةَ فَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى سُوءِ طَرِيقَةِ مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا، وَمِثَالُهُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ أَحَدَهُمَا عَاقِلٌ وَقُورٌ ثَابِتٌ، وَالْآخَرُ طَيَّاشٌ مِهْذَارٌ سَفِيهٌ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَمْدَحَ أَحَدَهُمَا وَتُعَرِّضَ بِذَمِّ الْآخَرِ قُلْتَ فُلَانٌ رَجُلٌ عَاقِلٌ وَقُورٌ قَلِيلُ الْكَلَامِ، لَا يَخُوضُ فِي التُّرَّهَاتِ، وَلَا يَشْرَعُ فِي السَّفَاهَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُكَ مِنْ قَوْلِكَ، لَا يَخُوضُ فِي التُّرَّهَاتِ وَالسَّفَاهَاتِ وَصْفَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، بَلْ غَرَضُكَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَذَمَّةِ الثَّانِي وَكَذَا هاهنا قوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً بَعْدَ قَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا وَبَيَانُ مُبَايَنَةِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فِي اسْتِيجَابِ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ الْمُلِحَّ هُوَ الَّذِي يستخرج المال بكثرة تلطفه، فقوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَبِأَنْ لَا يُوجَدَ عَلَى وَجْهِ الْعُنْفِ أَوْلَى فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِسْمَانِ فَقَدِ امْتَنَعَ حُصُولُ السُّؤَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً كَالْمُوجِبِ لِعَدَمِ صُدُورِ السُّؤَالِ مِنْهُمْ أَصْلًا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي أَيْضًا فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ شِدَّةَ حَاجَةِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَمَنِ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ السُّؤَالِ إِلَّا بِإِلْحَاحٍ شَدِيدٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا | تُنَازِعُنِي لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي |
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَيْضًا خَطَرَ بِبَالِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ آثَارَ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، ثُمَّ سَكَتَ عَنِ السُّؤَالِ، فَكَأَنَّهُ أَتَى بِالسُّؤَالِ الْمُلِحِّ الْمُلْحِفِ، لِأَنَّ ظُهُورَ أَمَارَاتِ الْحَاجَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ وَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْحَاجَةَ وَمَتَى تَصَوَّرَ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ رَقَّ قَلْبُهُ جِدًّا، وَصَارَ حَامِلًا لَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا، فَكَانَ إِظْهَارُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ السُّؤَالِ لَكِنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إِلَى ذَلِكَ السُّكُوتِ مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَإِظْهَارِ الِانْكِسَارِ مَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْحَافِ بَلْ يُزَيِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ النَّاسِ وَيَتَجَمَّلُونَ بِهَذَا الْخُلُقِ وَيَجْعَلُونَ فَقْرَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا الْخَالِقُ، فَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا مُنَاسِبٌ مَعْقُولٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَلِلنَّاسِ فِيهَا كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ لَاحَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقْتَ كُتِبَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:
٢٧٣] وَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:
٢٧٢] وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّكْرَارِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَنُقْصَانٍ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِهِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَا جَرَمَ قَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ وَكَيْفِيَّاتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغِبَ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ بَيَّنَ أَنَّ أَجْرَهُ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ لَمَّا رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ، وَكَانَ هَذَا الْإِنْفَاقُ أَعْظَمَ وُجُوهِ الْإِنْفَاقَاتِ، لَا جَرَمَ/ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ ثَوَابِهِ فَقَالَ:
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا قَالَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ لِعَبْدِهِ الَّذِي اسْتَحْسَنَ خدمته: ما يكفيك بأن يكون علي شَاهِدًا بِكَيْفِيَّةِ طَاعَتِكَ وَحُسْنِ خِدْمَتِكَ، فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ وَقْعًا مِمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: إِنَّ أجرك واصل إليك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعت عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِلَى أَصْحَابِ الصُّفَّةِ بِدَنَانِيرَ، وَبَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ لَيْلًا، فَكَانَ أَحَبُّ الصَّدَقَتَيْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَتَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَصَدَقَةُ اللَّيْلِ كَانَتْ أَكْمَلَ وَالثَّانِي:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا، وَبِدِرْهَمٍ سِرًّا، وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: أَنْ أَسْتَوْجِبَ مَا وَعَدَنِي رَبِّي، فَقَالَ: لَكَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَالثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ فِي السِّرِّ، وَعَشَرَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ وَالرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ وَارْتِبَاطِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الَّذِينَ يَعُمُّونَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالَ بِالصَّدَقَةِ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ بِهِمْ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ عَجَّلُوا قَضَاءَهَا وَلَمْ يُؤَخِّرُوهَا وَلَمْ يُعَلِّقُوهَا بِوَقْتٍ وَلَا حَالٍ، وَهَذَا هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ هَذَا آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِنْفَاقَاتِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ فِيهَا أَكْمَلَ وُجُوهِ الْإِنْفَاقَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُمْ جَوَابَ الَّذِينَ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْفَقَ فَلَا يَضِيعُ أَجْرُهُ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: الَّذِي أَكْرَمَنِي لَهُ دِرْهَمٌ لَمْ يُفِدْ أَنَّ الدِّرْهَمَ بِسَبَبِ الْإِكْرَامِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: الَّذِي أَكْرَمَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ يُفِيدُ أَنَّ الدِّرْهَمَ بِسَبَبِ الْإِكْرَامِ، فَهَهُنَا الْفَاءُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْأَجْرِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِنْفَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ، وَالسِّرَّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ فِي الذِّكْرِ.
ثُمَّ قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْآيَةِ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ عِنْدَ الْكُلِّ بِأَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِيبَهُ الْكُفْرُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِيبَهُ كبيرة محبطة، وقد أحكمنا هذه المسألة، وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٥]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
الْحُكْمُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمُ الرِّبَا:
أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا فَالْمُرَادُ الَّذِينَ يُعَامِلُونَ بِهِ، وَخَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِالْأَكْلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَكَذَلِكَ قوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] وَأَيْضًا فَلِأَنَّ نَفْسَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُؤْكَلُ، إِنَّمَا يُصْرَفُ فِي الْمَأْكُولِ فَيُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَمَنَعَ اللَّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَعِيدِ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ لَهُ
فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْآكِلِ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، أَنَّ مَا يَحْرُمُ لَا يُوقَفُ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصَرُّفُ فِي الرِّبَا، وَأَمَّا الرِّبَا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرِّبَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو وَمِنْهُ قَوْلُهُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: ٥] أَيْ زَادَتْ، وَأَرْبَى الرَّجُلُ إِذَا عَامَلَ فِي الرِّبَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ أَجَبَى فَقَدْ أَرْبَى» أَيْ عَامَلَ بِالرِّبَا، وَالْإِجْبَاءُ بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، هَذَا مَعْنَى الرِّبَا فِي اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرِّبَا بِالْإِمَالَةِ لِمَكَانِ كَسْرَةِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهِيَ فِي الْمَصَاحِفِ مَكْتُوبَةٌ بِالْوَاوِ، وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي كِتَابَتِهَا بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرِّبَا كُتِبَتْ بِالْوَاوِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَهَا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا قِسْمَانِ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَرِبَا الْفَضْلِ.
أَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا مُتَعَارَفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْمَالَ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ بَاقِيًا، ثُمَّ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ طَالَبُوا الْمَدْيُونَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادُوا فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ، فَهَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ.
وَأَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَهُوَ أن يباع مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَنَوَيْنِ مِنْهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فَكَانَ يَقُولُ: لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ، وَكَانَ يُجَوِّزُ بِالنَّقْدِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: شَهِدْتُ مَا لَمْ تَشْهَدْ، أَوْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ تَسْمَعْ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كُنَّا فِي/ بَيْتٍ وَمَعَنَا عِكْرِمَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا عكرمة ما
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْقِسْمَيْنِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَبِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَبِالْخَبَرِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ رِبَا النَّقْدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: حُرْمَةُ التَّفَاضُلِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ، بَلْ ثَابِتَةٌ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: بَلِ الْحُرْمَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالْأَقْوَاتِ أَشْيَاءَ أَرْبَعَةً، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَكِيلَاتِ أَوْ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ لَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ مُتَفَاضِلًا، أَوْ قَالَ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلًا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا، وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ عَدَّ الْأَرْبَعَةَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عليها فقط.
الحجة الثانية: أنا أن في قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي حِلَّ رِبَا النَّقْدِ فَأَنْتُمْ أَخْرَجْتُمْ رِبَا النَّقْدِ مِنْ تَحْتِ هَذَا الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، ثُمَّ أَثْبَتُّمُ الْحُرْمَةَ فِي غَيْرِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا، فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفِي غَيْرِهَا بالقياس على الأشياء الستة، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ أَضْعَفَ بِكَثِيرٍ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَضْعَفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ هَذَا تَرْجِيحًا لِلْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ مَعْلُومٌ، وَاللُّغَةُ مَظْنُونَةٌ وَرَبْطُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّقْدِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ عَنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى/ غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَّا بِتَعْلِيلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِعِلَّةٍ حَاصِلَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ فَلِهَذَا الْمَعْنَى اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ عَلَى مَذَاهِبَ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي حُرْمَةِ الرِّبَا الطَّعْمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَاشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ النَّقْدِيَّةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُقَدَّرًا فَفِيهِ الرِّبَا، وَالْعِلَّةُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْوَزْنُ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَفِيهِ الرِّبَا، فَهَذَا ضَبْطُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي حُكْمِ الرِّبَا، وَالْكَلَامُ فِي تَفَارِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَلِيقُ بِالتَّفْسِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرابعة: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاًأحدها: الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً فَيَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَالُ الْإِنْسَانِ مُتَعَلَّقُ حَاجَتِهِ وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْإِنْسَانِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مُحَرَّمًا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِبَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً عِوَضًا عَنِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَوْ بَقِيَ فِي يَدِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَكَانَ يُمْكِنُ الْمَالِكُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَسْتَفِيدَ بِسَبَبِ تِلْكَ التِّجَارَةِ رِبْحًا فَلَمَّا تَرَكَهُ فِي يَدِ الْمَدْيُونِ وَانْتَفَعَ بِهِ الْمَدْيُونُ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ عِوَضًا عَنِ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهِ.
قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الِانْتِفَاعَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ، فَتَفْوِيتُ الْمُتَيَقَّنِ لِأَجْلِ الْأَمْرِ الْمَوْهُومِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَكَاسِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيلِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلَا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَثَالِثُهَا: قِيلَ: السَّبَبُ فِي تَحْرِيمِ عَقْدِ الرِّبَا، أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ، لِأَنَّ الرِّبَا إِذَا طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَلَّ الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ وَرَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُقْرِضَ يَكُونُ غَنِيًّا، وَالْمُسْتَقْرِضَ يَكُونُ فَقِيرًا، فَالْقَوْلُ/ بِتَجْوِيزِ عَقْدِ الرِّبَا تَمْكِينٌ لِلْغَنِيِّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الفقير الضعيف ما لا زَائِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بِرَحْمَةِ الرَّحِيمِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا قَدْ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حِكَمُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ مَعْلُومَةً لِلْخَلْقِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِحُرْمَةِ عَقْدِ الرِّبَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ الْوَجْهَ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَقُومُونَ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ مِنَ الْقَبْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّخَبُّطُ مَعْنَاهُ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرٍ وَلَا يَهْتَدِي فِيهِ: إِنَّهُ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ لِلْأَرْضِ بِأَخْفَافِهِ، وَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ إِذَا مَسَّهُ بِخَبَلٍ أَوْ جُنُونٍ لِأَنَّهُ كَالضَّرْبِ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِوَاءِ فِي الْإِدْهَاشِ، وَتُسَمَّى إِصَابَةُ الشَّيْطَانِ بِالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ خَبْطَةً، وَيُقَالُ: بِهِ خَبْطَةٌ مِنْ جُنُونِ، وَالْمَسُّ الْجُنُونُ، يُقَالُ: مُسَّ الرَّجُلُ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشيطان يمس
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: التَّخَبُّطُ تَفَعُّلٌ، فَكَيْفَ يكون متعديا؟.
الجواب: تفعل بمعنى فعل كثير، نَحْوُ تَقَسَّمَهُ بِمَعْنَى قَسَمَهُ، وَتَقَطَّعَهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ مِنَ الْمَسِّ.
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ لَا يَقُومُونَ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي لَهُمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَقُومُ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمُتَخَبِّطُ بِسَبَبِ الْمَسِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: النَّاسُ يَقُولُونَ الْمَصْرُوعُ إِنَّمَا حَدَثَتْ بِهِ تِلْكَ الْحَالَةُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّهُ وَيَصْرَعُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى صَرْعِ النَّاسِ وَقَتْلِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةٌ عَلَى الصَّرْعِ وَالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَثِيفُ الْجِسْمِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يُرَى وَيُشَاهَدَ، إِذْ لَوْ جَازَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَثِيفًا وَيَحْضُرَ ثُمَّ لَا يُرَى لَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَجِبَالٌ وَنَحْنُ لَا نَرَاهَا، وَذَلِكَ جَهَالَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا كَثِيفًا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَاطِنِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جِسْمًا لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ/ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَلَابَةٌ وَقُوَّةٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَصْرَعَ الْإِنْسَانَ وَيَقْتُلَهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْرَعَ وَيَقْتُلَ لَصَحَّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَصْرَعُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِمَ لَا يَخْبِطُهُمْ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلِمَ لَا يَغْصِبُ أَمْوَالَهُمْ، وَيُفْسِدُ أَحْوَالَهُمْ، وَيُفْشِي أَسْرَارَهُمْ، وَيُزِيلُ عُقُولَهُمْ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدَرُوا عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ صَرِيحٌ فِي أَنْ يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ مَسِّهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّهُ بِوَسْوَسَتِهِ الْمُؤْذِيَةِ الَّتِي يَحْدُثُ عِنْدَهَا الصَّرَعُ، وَهُوَ كَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: ٤١] وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الصَّرَعُ عِنْدَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ ضَعْفِ الطِّبَاعِ، وَغَلَبَةِ السَّوْدَاءِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَخَافُ عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ فَلَا يَجْتَرِئُ فَيُصْرَعَ عِنْدَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ، كَمَا يُصْرَعُ الْجَبَانُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْخَالِي، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَذَا الْخَبْطُ فِي الْفُضَلَاءِ الْكَامِلِينَ، وَأَهْلِ الْحَزْمِ وَالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيمَنْ بِهِ نَقْصٌ فِي الْمِزَاجِ وَخَلَلٌ فِي الدِّمَاغِ فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْجُبَّائِيِّ في هذا
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصَّافَّاتِ: ٦٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ كَالْعَلَامَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِآكِلِ الرِّبَا، فَعَرَفَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ لِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهُ آكِلُ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَجَانِينَ، كَمَنْ أَصَابَهُ الشَّيْطَانُ بِجُنُونٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ مُنَبِّهٍ: يُرِيدُ إِذَا بُعِثَ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ لِقَوْلِهِ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [الْمَعَارِجِ: ٤٣] إِلَّا أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَسْقُطُونَ، كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَكَلُوا الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَأَرْبَاهُ اللَّهُ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَثْقَلَهُمْ فَهُمْ يَنْهَضُونَ، وَيَسْقُطُونَ، وَيُرِيدُونَ الْإِسْرَاعَ، وَلَا يَقْدِرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا لَا يُمْكِنُهُمُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ بِسَبَبِ ثِقَلِ الْبَطْنِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْجُنُونِ فِي شَيْءٍ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا
رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى/ رِجَالٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْبَيْتِ الضَّخْمِ، يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَتَمِيلُ بِهِ بَطْنُهُ فَيُصْرَعُ، فَقُلْتُ:
يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠١] وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مُتَخَبِّطًا، فَتَارَةً الشَّيْطَانُ يَجُرُّهُ إِلَى النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَتَارَةً الْمَلَكُ يَجُرُّهُ إِلَى الدِّينِ وَالتَّقْوَى، فَحَدَثَتْ هُنَاكَ حَرَكَاتٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَأَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهَذَا هُوَ الْخَبْطُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ وَآكِلُ الرِّبَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ مُفْرِطًا فِي حُبِّ الدُّنْيَا مُتَهَالِكًا فِيهَا، فَإِذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحُبِّ صَارَ ذَلِكَ الْحُبُّ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْخَبْطُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ حُبِّ الْمَالِ أَوْرَثَهُ الْخَبْطَ فِي الآخرة، وأوقعه في ذلك الْحِجَابِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْرَبُ عِنْدِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَقَلْنَاهُمَا عَمَّنْ نَقَلْنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْمُ كَانُوا فِي تَحْلِيلِ الرِّبَا عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَهَذَا حَلَالٌ، فَكَذَا إِذَا بَاعَ الْعَشَرَةَ بأحد عشرة يجب أن يكون حلال، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهَذَا فِي رِبَا النَّقْدِ، وَأَمَّا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ الَّذِي يُسَاوِي عَشَرَةً فِي الْحَالِ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ جَازَ فَكَذَا إِذَا أَعْطَى الْعَشَرَةَ بِأَحَدَ عَشَرَ إِلَى شَهْرٍ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ هُنَاكَ، لِأَنَّهُ حَصَلَ التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا لَمَّا حَصَلَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا، فَالْبِيَاعَاتُ إِنَّمَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ، ولعلل الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ صِفْرَ الْيَدِ فِي الْحَالِ شَدِيدَ الْحَاجَةِ، وَيَكُونَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَجُزِ الرِّبَا لَمْ يُعْطِهِ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ، إِمَّا بِتَقْدِيرِ جَوَازِ الرِّبَا فَيُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ، وَالْمَدْيُونُ يَرُدُّهُ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ، وَإِعْطَاءُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الْحَاجَةِ قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَالِ، فَهَذَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الرِّبَا دُونَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَأَكْلِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُ الرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَبِّطِينَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا الرِّبَا.
قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ لِذَلِكَ التَّخَبُّطِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَطْ، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مُقَدِّمَةِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكْلِ نَفْسَ الْأَكْلِ، وَذَكَرْنَا عَلَيْهِ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ، فَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرِّبَا، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا وَاسْتَطَابَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِاسْتِحْلَالِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مَالَ اللَّهِ قَضْمًا خصما، أَيْ يَسْتَحِلُّ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْأَكْلَ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، صَارَتْ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ مُطَابِقَةً لِمُؤَخِّرَتِهَا، فَهَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الرِّبَا، لَا عَلَى وَعِيدِ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الرِّبَا، وَمِنْ حَقِّ الْقِيَاسِ أَنْ يُشَبَّهَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بِمَحَلِّ الْوِفَاقِ، فَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ قَلَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْقَوْمِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِنَظْمِ الْقِيَاسِ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ أَنَّ الرِّبَا وَالْبَيْعَ مُتَمَاثِلَانِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَطْلُوبَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِالْحِلِّ وَالثَّانِي بِالْحُرْمَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ جَازَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، ثُمَّ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَكَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا؟ يَعْنِي أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ فَلَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا وَحَرُمَ الْآخَرُ لَكَانَ ذَلِكَ إِيقَاعًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لائق بحكمة الحكيم فقوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، وَأَمَّا/ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْكُفَّارِ انْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأما قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَنَصُّهُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ذَكَرَهُ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَالْحُجَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: هَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ زِيَادَاتٍ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، أَوْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ كَلَامَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ كَلَامٌ سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلَهُ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ عَنْ فَسَادِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ وَعَنْ ضَعْفِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا كَلَامَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ تلك الشبهة مذكورا فلم يكن قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِلَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ الْبَتَّةَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَفَى الْعَمَلُ بِهِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلَكِنَّا لَا نَشُكُّ أَنَّ إِفَادَتَهُ الْعُمُومَ أَضْعَفُ مِنْ إِفَادَةِ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ لِلْعُمُومِ، مَثَلًا قَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَإِنْ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَاتِ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ إِلَّا إِفَادَةً ضَعِيفَةً، ثُمَّ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ لَا بُدَّ وَأَنْ يطرق إِلَيْهَا تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالضَّبْطِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَأَمَّا الْعَامُّ الَّذِي يَكُونُ مَوْضِعُ التَّخْصِيصِ مِنْهُ قَلِيلًا جِدًّا فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى الْأَغْلَبِ عُرْفٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا سَأَلْنَاهُ عَنِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ لَمَا قَالَ ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ حَلَالًا، وَقَوْلُهُ وَحَرَّمَ الرِّبا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ رِبًا حَرَامًا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ وَلَا بَيْعَ إِلَّا وَيُقْصَدُ بِهِ الزِّيَادَةُ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ أَبَاحَ جَمِيعَ الْبُيُوعِ، وَآخِرُهَا حَرَّمَ الْجَمِيعَ، فَلَا يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ صَفَحَ لَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨] وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا وَلَا ذَنْبًا، فَكَيْفَ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الصَّفْحُ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ ذَنْبٌ، وَالنَّهْيُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَهُ مَا سَلَفَ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: لَهُ مَا سَلَفَ أَيْ لَهُ مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا سلف، فأما من لمن يَقْضِ بَعْدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنَّمَا لَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَقَطْ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْدَ ذلك بقوله وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: السَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ أَمَامَكَ فَهُوَ سَلَفٌ، وَمِنْهُ الْأُمَّةُ السَّالِفَةُ، وَالسَّالِفَةُ الْعُنُقُ لِتَقَدُّمِهِ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَالسُّلْفَةُ مَا يُقَدَّمُ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَسُلَافَةُ الْخَمْرِ صَفْوَتُهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَصِيرِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَ الرِّبَا، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ وَمُؤَخِّرَتُهَا.
أَمَّا مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ليس فيه بيان أنه انتهي عما ذا فَلَا بُدَّ وَأَنُ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ إِلَى السَّابِقِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا حَكَى اللَّهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَكَانَ قَوْلُهُ فَانْتَهى عَائِدًا إِلَيْهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَانْتَهَى عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَأَمَّا مُؤَخِّرَةُ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ومعناه: عَادَ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ هَذَا الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَمَا انْتَهَى/ عَنِ اسْتِحْلَالِ الرِّبَا انْتَهَى أَيْضًا عَنْ أَكْلِ الرِّبَا، أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُقِرًّا بِدِينِ اللَّهِ عَالِمًا بِتَكْلِيفِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَلِيقُ بِالْكَافِرِ وَلَا بِالْمُؤْمِنِ الْمُطِيعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَنْ أَقَرَّ بِحُرْمَةِ الرِّبَا ثُمَّ أَكَلَ الرِّبَا فَهَهُنَا أَمْرُهُ لِلَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّ الْعَفْوَ مِنَ اللَّهِ مَرْجُوٌّ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فَالْمَعْنَى: وَمَنْ عَادَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الرِّبَا حَتَّى يَصِيرَ كَافِرًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي أَنَّ الْخُلُودَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ لأن قوله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِيمَنْ عَادَ إِلَى قَوْلِ الْكَافِرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُمْ فِيها خالِدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ صَاحِبَ النَّارِ، وَكَوْنَهُ خَالِدًا فِي النَّارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْكُفَّارِ أَقْصَى مَا فِي الباب
ثُمَّ قوله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ النَّارَ لَكِنَّهُ لَا يُخَلِّدُهُ فِيهَا لِأَنَّ الْخُلُودَ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ لَا بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ شريف وتفسير حسن.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٦]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الرِّبَا، وَكَانَ قَدْ بَالَغَ فِي الْآيَاتِ المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا مَا يَجْرِي مَجْرَى الدُّعَاءِ إِلَى تَرْكِ الصَّدَقَاتِ وَفِعْلِ الرِّبَا، وَكَشَفَ عَنْ فَسَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا تَحْصِيلُ الْمَزِيدِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالصَّارِفَ عَنِ الصَّدَقَاتِ الِاحْتِرَازُ عَنْ نُقْصَانِ الْخَيْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ زِيَادَةٍ فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنَّهُ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ وَإِنْ كَانَتْ نُقْصَانًا فِي الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى مَا يَقْضِي بِهِ الطَّبْعُ وَالْحِسُّ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، بَلْ يُعَوِّلُ عَلَى مَا نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَحْقُ نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَمِنْهُ الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فانمحق وامتحق، ويقال: هجير ما حق إِذَا نَقَصَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَرَارَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَحْقَ الرِّبَا وَإِرْبَاءَ الصَّدَقَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ: مَحْقُ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُرَابِي وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ أَنَّهُ تؤل عَاقِبَتُهُ إِلَى الْفَقْرِ، وَتَزُولُ الْبَرَكَةُ عَنْ مَالِهِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ»
وَثَانِيهَا: إِنْ لَمْ يَنْقُصْ مَالُهُ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ الذَّمُّ، وَالنَّقْصُ، وَسُقُوطُ الْعَدَالَةِ، وَزَوَالُ الْأَمَانَةِ، وَحُصُولُ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ أَنَّهُ أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ بِسَبَبِ الرِّبَا يَلْعَنُونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى اشْتُهِرَ بَيْنَ الْخَلْقِ أَنَّهُ إِنَّمَا جَمَعَ مَالَهُ مِنَ الرِّبَا تَوَجَّهَتْ إِلَيْه الْأَطْمَاعُ، وَقَصَدَهُ كُلُّ ظَالِمٍ وَمَارِقٍ وَطَمَّاعٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الرِّبَا سَبَبٌ لِلْمَحْقِ فِي الْآخِرَةِ فَلِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَعْنَى هَذَا الْمَحْقِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا، وَلَا حَجًّا، وَلَا صِلَةَ رَحِمٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَالَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَبْقَى التَّبِعَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَإِذَا كَانَ الْغَنِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْحَلَالِ كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْغَنِيِّ مِنَ الْوَجْهِ الْحَرَامِ الْمَقْطُوعِ بِحُرْمَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ، فذلك هو المحق والنقصان.
وأما أرباب الصَّدَقَاتِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الْآخِرَةِ.
أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَعَ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ يُحْسِنُ إِلَى
وَأَمَّا إِرْبَاؤُهَا فِي الْآخِرَةِ
فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الطَّيِّبَ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ»
وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: ١٠٤] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: ٢٧٦] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: / وَنَظِيرُ قَوْلِهِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ بِحَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَ فَعَّالٌ مِنَ الْكُفْرِ، وَمَعْنَاهُ مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَادَةً، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُقِيمَ عَلَى الشَّيْءِ بِهَذَا، فَتَقُولُ: فُلَانٌ فَعَّالٌ لِلْخَيْرِ أَمَّارٌ بِهِ، وَالْأَثِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الْآثِمُ، وَهُوَ أَيْضًا مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى اكْتِسَابِ الْآثَامِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يُنْكِرُ تَحْرِيمَ الرِّبَا فَيَكُونُ جَاحِدًا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَفَّارُ رَاجِعًا إِلَى الْمُسْتَحِيلِ وَالْأَثِيمُ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يَفْعَلُهُ مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً للفريقين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ مُطَّرِدَةٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَهْمَا ذَكَرَ وَعِيدًا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعْدًا فَلَمَّا بالغ هاهنا فِي وَعِيدِ الْمُرَابِي أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَعَطَفَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ مَعَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ دَاخِلَانِ تَحْتَ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَكَذَا فِيمَا ذَكَرْتُمْ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد: ٣٤] وقال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا [الْبَقَرَةِ: ٢٣٩].
وَلِلْمُسْتَدِلِّ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظَةٍ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ عَلَى الأصل.
المسألة الثانية: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى رَبِّهِمْ أَجْرُهُمْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَجْرِي مَجْرَى ما
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُنْتَقِلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَوْقَهَا رُبَّمَا يَحْزَنُ عَلَى بَعْضِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مُغْتَبِطًا بِالثَّانِيَةِ لِأَجْلِ إِلْفِهِ وَعَادَتِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْغُصَّةِ لَا يَلْحَقُ أَهْلَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنَّا فِي الدُّنْيَا طَاعَةٌ أَزْيَدُ مِمَّا صَدَرَ حَتَّى صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِثَوَابٍ أَزْيَدَ مِمَّا وَجَدْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ لَا تُوجَدُ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِشْكَالٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ عَارِفَةً بِاللَّهِ وَكَمَا بَلَغَتْ حَاضَتْ، ثُمَّ عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا مَاتَتْ، أَوِ الرَّجُلَ بَلَغَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مَاتَ، فَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ، وَأَيْضًا مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُثِيبُ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ الْخَالِيَ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كذلك، فكيف وقف الله هاهنا حُصُولَ الْأَجْرِ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مَشْرُوطٌ بِهَذَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرًا فِي جَلْبِ الثَّوَابِ، كَمَا قَالَ فِي ضِدِّ هَذَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفُرْقَانِ: ٦٨] ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: ٦٨] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَ الزِّنَا وَقَتْلَ النَّفْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْلَالِ مَعَ دُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَهًا لِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الخصال يوجب العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٨ الى ٢٨١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
[الآية في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ الرِّبَا فَلَهُ مَا سَلَفَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْقَوْمِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقْبَضْ، فَالزِّيَادَةُ تَحْرُمُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَّا رؤوس أموالهم،
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي أَحْكَامِ الْكُفَّارِ إِذَا أَسْلَمُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا مَضَى فِي وَقْتِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَبْقَى ولا ينقص، وَلَا يُفْسَخُ، وَمَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحُوا عَلَى مَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَفْوٌ لَا يُتَعَقَّبُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ عَلَى مُحَرَّمٍ فَقَبَضَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ مَضَى، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَقْبِضْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِثْلُ مَا يُقَالُ: إِنْ كُنْتَ أَخًا فَأَكْرِمْنِي، مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ كَانَ أَخًا أَكْرَمَ أَخَاهُ وَالثَّانِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ الثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ اسْتِدَامَةَ الْحُكْمِ لَكُمْ بِالْإِيمَانِ الرَّابِعُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِلِسَانِهِمْ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ:
الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يُرَابُونَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ/ تَعَالَى أَنْ يأخذوا رؤوس أَمْوَالِهِمْ دُونَ الزِّيَادَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ مِنْ ثقيف: مسعود، وعبد يا ليل، وَحَبِيبٌ، وَرَبِيعَةُ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ كَانُوا يُدَايِنُونَ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ أَسْلَمَ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ طَالَبُوا بِرِبَاهُمْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا أَسْلَفَا فِي التَّمْرِ، فَلَمَّا حَضَرَ الجداد قَبَضَا بَعْضًا، وَزَادَ فِي الْبَاقِي فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ.
الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ.
وَالْجَوَابُ: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَى شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ لَكِنَّا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (فَآذِنُوا) مَفْتُوحَةَ الْأَلِفِ مَمْدُودَةً مَكْسُورَةَ الذَّالِ عَلَى مِثَالِ فَآمِنُوا وَالْبَاقُونَ فَأْذَنُوا بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةَ الذَّالِ مَقْصُورَةً،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه أنهما
أَيْ فَأَعْلِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٩] وَمَفْعُولُ الْإِيذَانِ مَحْذُوفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الرِّبَا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ فَهُمْ أَيْضًا قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْبَلَاغَةِ آكَدٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِذْنِ، أَيْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَإِذْنٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ (فَأَيْقِنُوا) وَهُوَ دَلِيلٌ لِقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى مُعَامَلَةِ الرِّبَا، أَوْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلرِّبَا، الَّذِينَ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ الْقَاضِي: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأْذَنُوا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وهم المخاطبون بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؟
قُلْنَا: هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَصَى اللَّهَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ، كَمَا
جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] أَصْلًا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ نَفْسِ الْحَرْبِ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى عَمَلِ الرِّبَا إِنْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ قَبَضَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى فيه حكم الله من التعزيز وَالْحَبْسِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، وَإِنْ وَقَعَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ عَسْكَرٌ وَشَوْكَةٌ، حَارَبَهُ الْإِمَامُ كَمَا يُحَارِبُ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ وَكَمَا حَارَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا الْقَوْمُ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ، وَتَرْكِ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَ عُنُقُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أن قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا [البقرة: ٢٧٩] خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: ٢٧٨] مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَيْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَافِرًا، كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْتُمْ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تُبْتُمْ مِنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا، وَعَلَى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَيْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ (كَانَ) كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ حَدَثَ وَوَقَعَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ وُجِدَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُخْلَعَ مِنْهُ مَعْنَى الْحَدَثِ، فَتَبْقَى
وَاعْلَمْ أَنِّي حِينَ كُنْتُ مُقِيمًا بِخُوَارَزْمَ، وَكَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ مِنْ أَكَابِرِ الْأُدَبَاءِ، أَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ إِشْكَالًا فِي هَذَا الْبَابِ فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ (كَانَ) إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً إِنَّهَا تَكُونُ فِعْلًا وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلُ مَا دَلَّ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ، فَقَوْلُكَ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَإِذَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، فَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِعْلًا كَانَتْ/ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً لَمْ تَكُنْ فِعْلًا الْبَتَّةَ بَلْ كَانَتْ حَرْفًا، وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَبَقُوا فِي هَذَا الْإِشْكَالِ زَمَانًا طَوِيلًا، وَصَنَّفُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ كُتُبًا، وَمَا أَفْلَحُوا فِيهِ ثُمَّ انْكَشَفَ لِي فِيهِ سر أذكره هاهنا وَهُوَ أَنَّ كَانَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا حَدَثَ وَوَقَعَ وَوُجِدَ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَكَ وُجِدَ وحدث على قسمين أحدها: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ الشَّيْءُ كَقَوْلِكَ: وُجِدَ الْجَوْهَرُ وَحَدَثَ الْعَرَضُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا فَمَعْنَاهُ حَدَثَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مَوْصُوفِيَّةُ زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُسَمَّى بَكَانِ التَّامَّةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّاقِصَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ (كَانَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الْحُدُوثُ وَالْوُقُوعُ، إِلَّا أَنَّ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ حُدُوثُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، وَالْمُرَادُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حُدُوثُ مَوْصُوفِيَّةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَوْصُوفِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْأَبْحَاثِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ فِعْلٌ كَانَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الْمَصْدَرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ حَرْفٌ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ وَالْأَمْرُ، وَجَمِيعُ خَوَاصِّ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِعْلٌ وَزَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَفْهُومُ الثَّالِثُ: لِكَانَ يَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدُوا:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا | قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا |
الْمَفْهُومُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَأَنْشِدُوا:
سراة بني أبي بكر تسامى | عَلَى كَانَ الْمُسَوَّمَةِ الْجِيَادِ |
وَإِنْ وَقَعَتْ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وَمَقْصُودُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ لَكَانَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ذَا عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ، فَتَكُونُ النَّظِرَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ إِذَا كَانَ ذَا عُسْرَةٍ فَلَهُ النَّظِرَةُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ الثَّانِي: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ، وَقَرَأَ عُثْمَانُ (ذَا عُسْرَةٍ) وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ذَا عُسْرَةٍ، وَقُرِئَ (وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُسْرَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَعَذُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ يُقَالُ: أَعْسَرَ الرَّجُلُ، إِذَا صار
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَالْحُكْمُ أَوْ فَالْأَمْرُ نَظِرَةٌ، أَوْ فَالَّذِي تُعَامِلُونَهُ نَظِرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَظِرَةٌ أَيْ تَأْخِيرٌ، وَالنَّظِرَةُ الِاسْمُ مِنَ الْإِنْظَارِ، وَهُوَ الْإِمْهَالُ، تَقُولُ: بِعْتُهُ الشَّيْءَ بِنَظِرَةٍ وَبِإِنْظَارٍ، قَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر: ٣٦، ٣٧، ٣٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ فَنَظِرَةٌ بِسُكُونِ الظَّاءِ، وَقَرَأَ عَطَاءٌ (فَنَاظِرُهُ) أَيْ فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَيْ مُنْتَظِرُهُ، أَوْ صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ وَبَاقِلٌ، أَيْ ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ، وَعَنْهُ فَنَاظِرْهُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ فَسَامِحْهُ بِالنَّظِرَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَيْسَرَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْيُسْرِ وَالْيَسَارِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَيَسُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَيْسَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُوسِرٌ، أَيْ صَارَ إِلَى الْيُسْرِ، فَالْمَيْسَرَةُ وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسُورُ الْغِنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ مَيْسَرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ كَالْمَقْبَرَةِ، وَالْمَشْرَفَةِ، وَالْمَشْرَبَةِ، وَالْمَسْرَبَةِ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِنْظَارِ مُخْتَصٌّ بِالرِّبَا أَوْ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: الْآيَةُ فِي الرِّبَا، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِحَبْسِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: ٥٨] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَتِ الْإِخْوَةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا: بَلْ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ وَطَلَبُوا بَنِي الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَشَكَا بنو المغيرة العسرة، وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرِكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخِّرُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في الآية المتقدمة وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نَقْصٍ، ثُمَّ قاتل فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّ النَّظِرَةَ يُرَادُ بِهَا التَّأَخُّرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَقٍّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حَتَّى يَلْزَمَ التَّأَخُّرُ، بَلْ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِنْظَارِ فِي هَذِهِ بِحُكْمِ النَّصِّ، ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِهِ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنفية وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِعْسَارِ، فَنَقُولُ: الْإِعْسَارُ هُوَ أَنْ لَا يَجِدَ فِي مِلْكِهِ مَا يُؤَدِّيهِ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَا لَوْ بَاعَهُ لَأَمْكَنَهُ أَدَاءَ الدَّيْنِ مِنْ ثمنه، فلهذا قلنا: من وحد دَارًا وَثِيَابًا لَا يُعَدُّ فِي ذَوِي الْعُسْرَةِ إِذَا مَا أَمْكَنَهُ بَيْعَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ إِلَّا قُوتَ يَوْمٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ كُسْوَةٍ
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ حَبْسُهُ، وَأَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْإِنْظَارُ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ رِيبَةٌ فِي إِعْسَارِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْإِعْسَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ وكذبه للغريم، فَهَذَا الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِوَضَ قَدْ هَلَكَ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَا بِعِوَضٍ، مِثْلُ إِتْلَافٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ ضَمَانٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ تَصَدَّقُوا بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنْ تَتَصَدَّقُوا بِتَاءَيْنِ، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَمَنْ شَدَّدَ أَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّصَدُّقِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْمُعْسِرِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذْ لَا يَصِحُّ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْحَذْفُ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الْمُعْسِرِ وَذِكْرُ رَأْسِ الْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّصَدُّقَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ الْإِنْظَارُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَيْنُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَيُؤَخِّرُهُ إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ»
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ لَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ بَلْ بِالْمَنْدُوبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّصَدُّقَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ، فَجَعَلَ الْعَمَلَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى الْعُصَاةِ وَالثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ وَالثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلَحُ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا وَكَانُوا أَصْحَابَ ثَرْوَةٍ وَجَلَالٍ وَأَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ وَكَانَ قَدْ يَجْرِي مِنْهُمُ التَّغَلُّبُ عَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ ثَرْوَتِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إِلَى مَزِيدِ زَجْرٍ وَوَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، حَتَّى يَمْتَنِعُوا عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَلَا جَرَمَ تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَوَّفَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَجَّ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ [النِّسَاءِ: ١٢٧] وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: ٣] ثُمَّ نَزَلَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ:
وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَ سَاعَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو تُرْجَعُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ لَازِمٌ، وَالرَّجْعَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ الْقِرَاءَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: انْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَا عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى تَأَهَّبُوا لِلِقَائِهِ بِمَا تُقَدِّمُونَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [الْمُزَّمِّلُ: ١٧] أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ مَعَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَذَلِكَ لَا يُتَّقَى، وَإِنَّمَا يُتَّقَى مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَهْوَالِ وَاتِّقَاءُ تِلْكَ الْأَهْوَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي دَارِ الدُّنْيَا بِمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي الْوَاجِبَاتِ، فَصَارَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا يَوْماً يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ، الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا لَكِنْ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تُرْجَعُونَ (فِيهِ) إِلَى اللَّهِ لَهُ مَعْنَيَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
فَالْحَالَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا ضَرَّهُمْ، بَلِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ/ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ بَعْدَ الْبُرُوزِ عَنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَهُنَاكَ يَكُونُ الْمُتَكَفِّلُ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَعْضِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ ظَاهِرًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَكَأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنِ الدُّنْيَا عَادَ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ حَسَنٌ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ عِنْدُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ جَزَاءُ عَمَلِهِ بِالتَّمَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَقَالَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: ١٦] وَقَالَ:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٧] وَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ مَا كَسَبَتْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُكْتَسَبَ هُوَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ، لأن ما يحصله الرَّجُلُ بِتِجَارَتِهِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ فِي اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مُكْتَسَبُهُ، فَقَوْلُهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ مُكْتَسَبَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَعِيدِيَّةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَأَصْحَابُنَا يَتَمَسَّكُونَ بها في
ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَى الْفُسَّاقِ وَالْكُفَّارِ، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِ أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ أَنْ يُعَذِّبَ عَبِيدَهُ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ وَأَزَاحَ عُذْرَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمْهَلَهُ فَمَنْ قَصَّرَ فَهُوَ الَّذِي أَسَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْخَلْقِ، وَالْمَالِكُ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، فَكَانَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ.
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا الْحُكْمِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحُكْمِ أَحَدُهُمَا: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يُوجِبُ تَنْقِيصَ الْمَالِ وَالثَّانِي: تَرْكُ الرِّبَا، وَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ لِتَنْقِيصِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذَيْنِكَ الْحُكْمَيْنِ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّقْوَى تَسُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَكْثَرَ أَبْوَابِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ نَدَبَهُ إِلَى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ وَصَوْنِهِ عَنِ الْفَسَادِ وَالْبَوَارِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى تَرْكِ الرِّبَا، وَعَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمَالِ، ثم إنه تعال لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ عَنْ وُجُوهِ التَّوَى وَالتَّلَفِ، وَقَدْ وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: ٥]
إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثُمَّ قَالَ ثَالِثًا: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّكْرَارِ لِقَوْلِهِ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ رَابِعًا: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا إِعَادَةُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ خَامِسًا: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَفِي قَوْلِهِ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ كِفَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِأَنَّ الْكَاتِبَ بِالْعَدْلِ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا يُمْلَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ سَادِسًا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَهَذَا تَأْكِيدٌ، ثُمَّ قَالَ سَابِعًا: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَهَذَا كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ثم قال ثامناً: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَهُوَ أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِمَا مَضَى، ثُمَّ قَالَ تَاسِعًا: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا فَذَكَرَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَةَ لِتِلْكَ التَّأْكِيدَاتِ السَّالِفَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حَثَّ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى سَبَبِ تَنْقِيصِ الْمَالِ فِي الْحُكْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَالَغَ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ، وَصَوْنِهِ/ عَنِ الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ لِيَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَتِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَسَاخِطِ اللَّهِ مِنَ الرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ النَّظْمِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ النَّظْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّدَايُنُ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَمَعْنَاهُ دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَدَايَنْتُمْ تَبَايَعْتُمْ بَدَيْنٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقَرْضُ غَيْرُ الدَّيْنِ، لِأَنَّ الْقَرْضَ أَنْ يُقْرِضَ الْإِنْسَانُ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ حَبًّا، أَوْ تَمْرًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ وَالدَّيْنُ يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَيُقَالُ مِنَ الدَّيْنِ ادَّانَ إِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، وَدَانَ يُدِينُ إِذَا أَقْرَضَ، وَدَانَ إِذَا اسْتَقْرَضَ وَأَنْشَدَ الْأَحْمَرُ:
نَدِينُ وَيَقْضِي اللَّهُ عَنَّا وَقَدْ نَرَى | مَصَارِعَ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ ضُيَّقَا |
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّلَفِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَ الْمُكَلَّفِينَ وَجْهَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَجَلِ، فَقَالَ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْقَرْضُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ وَالدَّيْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْبِيَاعَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُدَايَنَةٍ الْبَتَّةَ وَالثَّانِي: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، بَقِيَ هُنَا قِسْمَانِ: بَيْعُ
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ، وَحَقِيقَتُهَا أَنْ يَحْصُلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ، وَذَلِكَ هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَدَايَنْتُمْ تَعَامَلْتُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَعَامَلْتُمْ بِمَا فِيهِ دَيْنٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَدايَنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ بِقَوْلِهِ بِدَيْنٍ.
الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّدَايُنُ يَكُونُ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّدَايُنُ/ بِالْمَالِ، وَالْآخَرُ التَّدَايُنُ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالدَّيْنُ الْجَزَاءُ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّيْنَ لِتَخْصِيصِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا ذَكَرَ الدَّيْنَ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ، فَلَمْ يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الْحَسَنَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٣٠] [ص: ٧٣] وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] الرَّابِعُ: فَإِذَا تَدَايَنْتُمْ أَيَّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، مِنْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعِ عَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ الْخَامِسُ: مَا خَطَرَ بِبَالِي أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَايَنَةَ مُفَاعَلَةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَوْ قَالَ:
إِذَا تَدَايَنْتُمْ لَبَقِيَ النَّصُّ مَقْصُورًا عَلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، أَمَّا لَمَّا قَالَ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ كَانَ الْمَعْنَى:
إِذَا تَدَايَنْتُمْ تَدَايُنًا يَحْصُلُ فِيهِ دَيْنٌ وَاحِدٌ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ النَّصِّ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَيَبْقَى بَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ وَاحِدٌ لَا غَيْرَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: كُلَّمَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ فَاكْتُبُوهُ، وَكَلِمَةُ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ فَلِمَ قَالَ:
تَدايَنْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ كُلَّمَا تَدَايَنْتُمْ.
الْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُمُومِ وهاهنا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعُمُومُ، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة فِي آخِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا وَالْمَعْنَى إِذَا وَقَعَتِ الْمُعَامَلَةُ بِالدَّيْنِ وَلَمْ يُكْتَبْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تُنْسَى الْكَيْفِيَّةُ، فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ الزِّيَادَةَ، فَطَلَبَ الزِّيَادَةَ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ النُّقْصَانَ فَتَرَكَ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ حَمْدٍ وَلَا أَجْرٍ، فَأَمَّا إِذَا كَتَبَ كَيْفِيَّةَ الْوَاقِعَةِ أَمِنَ مِنْ هَذِهِ الْمَحْذُورَاتِ فَلَمَّا دَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ قَائِمَةٌ فِي الْكُلِّ، كَانَ الْحُكْمُ أَيْضًا حَاصِلًا فِي الْكُلِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْأَجَلُ؟.
الْجَوَابُ: الْأَجَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْأَمَدِ، وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْوَقْتُ لِانْقِضَاءِ عُمْرِهِ، وَأَجَلُ الدَّيْنِ لِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّأْخِيرِ، يُقَالُ: أَجِلَ الشَّيْءُ يَأْجِلُ أُجُولًا إِذَا تَأَخَّرَ، وَالْآجِلُ نَقِيضُ الْعَاجِلِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُدَايَنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مُؤَجَّلَةً فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْأَجَلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَايَنَةِ؟.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي المداينة بأمرين أحدهما: الكتبة وهي قوله هاهنا فَاكْتُبُوهُ الثَّانِي: الْإِشْهَادُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَائِدَةُ الكتبة وَالْإِشْهَادِ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجَلُ، تَتَأَخَّرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ وَيَتَخَلَّلُهُ النِّسْيَانُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَحْدُ، فَصَارَتِ الْكِتَابَةُ كَالسَّبَبِ لِحِفْظِ الْمَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ قُيِّدَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ يَحْذَرُ مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ يَحْذَرُ عَنِ الْجُحُودِ، وَيَأْخُذُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَقْتَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ لِلْوُجُوبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ بِالْوُجُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالنَّخَعِيِّ وَاخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ يُشْهِدُ وَلَوْ عَلَى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَرَى جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ يَبِيعُونَ بِالْأَثْمَانِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِمَا، وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِهِمَا أَعْظَمَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ»
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ التَّيْمِيُّ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنْ شَاءَ أَشْهَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشْهِدْ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ عَدْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
فَاكْتُبُوهُ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ، لَكِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كَاتِبًا، فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ أَيْ لا بد من حصول هذه الكتبة، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً [الْمَائِدَةِ: ٣٨] فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي خِطَابَ الْكُلِّ بِهَذَا الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، إِمَّا الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هاهنا ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ على أن المقصود حصول هذه الكتبة مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ.
أَمَّا قَوْلُهُ بِالْعَدْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، وَيَكْتُبُهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ الثَّانِي: إِذَا كَانَ فَقِيهًا وَجَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالِاحْتِيَاطِ دُونَ الْآخَرِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكْتُبَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ/ آمِنًا مِنْ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَجِدُ قَاضٍ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ نَهْيٌ لِكُلِّ من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ كَاتِبًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَوْلَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الله تعالى لما علمه الكتبة، وَشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتُبَ تَحْصِيلًا لِمُهِمِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: ٧٧] فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِكِتَابَتِهِ كَمَا نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَعْلِيمِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عَلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدَ أَقْوَامًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتُبَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكَاتِبِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيجَابِ هُوَ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، يَعْنِي أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكْتُبَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنَ الشَّرَائِطِ، وَلَا يُدْرِجُ فِيهِ قَيْدًا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الشُّرُوطِ اخْتَلَّ مَقْصُودُ الْإِنْسَانِ، وَضَاعَ مَالُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَكْتُبُ فَاكْتُبْهُ عَنِ الْعَدْلِ، وَاعْتِبَارِ كُلِّ الشَّرَائِطِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ متعلقاً بما قبله، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ عَنِ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ غَيْرَ الْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلْيَكْتُبْ تِلْكَ الْكِتَابَةَ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يكتب، وهاهنا تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِالْكِتَابَةِ مُطْلَقًا ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَالْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ.
الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْكِتَابَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ وَجَبَ أَنْ يُخْتَارَ لَهَا الْعَالِمُ بِكَيْفِيَّةِ كَتْبِ الشُّرُوطِ وَالسِّجِلَّاتِ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِمْلَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَلْيُدْخِلْ فِي جُمْلَةِ إِمْلَائِهِ اعْتِرَافَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي قَدْرِهِ/ وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَأَجَلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمْلَلْتُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَأَمْلَيْتُ لُغَةَ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِاللُّغَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى فِي اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٥].
ثُمَّ قَالَ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وَهَذَا أَمْرٌ لِهَذَا الْمُمْلِي الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِأَنْ يُقِرَّ بِمَبْلَغِ الْمَالِ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ إِقْرَارُ وَلَيِّهِ.
ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِدْخَالُ حَرْفِ (أَوْ) بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي السَّفِيهَ، وَالضَّعِيفَ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ يَقْتَضِي كَوْنَهَا أُمُورًا مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، فَيَجِبُ فِي الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَغَايِرَةً، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ السَّفِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ الرَّأْيِ نَاقِصِ الْعَقْلِ مِنَ الْبَالِغِينَ، وَالضَّعِيفِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالشَّيْخِ الْخَرِفِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعَقْلَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالَّذِي لا يستطيع لأن يُمِلَّ مَنْ يَضْعُفُ لِسَانُهُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِخَرَسٍ، أَوْ جَهْلِهِ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الْإِمْلَاءُ وَالْإِقْرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُمْ مَقَامَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَالْمُرَادُ وَلِيُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ السَّفِيهِ، وَوَلِيَّ الصَّبِيِّ: هُوَ الَّذِي يُقِرُّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، كما يقرب بِسَائِرِ أُمُورِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ: الْمُرَادُ بِوَلِيِّهِ وَلِيُّ الدَّيْنِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُمْلِي وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُدَايَنَةِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكِتَابَةِ هُوَ الِاسْتِشْهَادُ لِكَيْ يُتَمَكَّنَ بِالشُّهُودِ عِنْدَ الْجُحُودِ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى تَحْصِيلِ الْحَقِّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَشْهِدُوا أَيْ أَشْهِدُوا يُقَالُ: أَشْهَدْتُ الرَّجُلَ وَاسْتَشْهَدْتُهُ، بِمَعْنًى: وَالشَّهِيدَانِ هُمَا الشَّاهِدَانِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ رِجالِكُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْأَحْرَارَ وَالثَّالِثُ: مِنْ رِجالِكُمْ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِلشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْعَدَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ كَثِيرَةٌ مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هاهنا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَحْمَدَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَجُوزُ، حُجَّةُ شُرَيْحٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَغَيْرَهُمْ، وَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَيْضًا دَالٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَدِينَهُ وَعَدَالَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ تَأَكَّدَ بِهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِحْيَاءِ حَقِّهِ، وَالْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْعَدَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِسَبِبِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ مَقْبُولَةً، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا الذَّهَابُ إِلَى مَوْضِعِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الذَّهَابِ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ شَاهِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّهَابُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ شَاهِدًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَسَنٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمُ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهُمْ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْعَبِيدَ كَذَلِكَ.
فَلْيَكُنَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّانِي: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالثَّالِثُ: فَالشَّاهِدُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالرَّابِعُ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ جَائِزٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاقِ: ٢] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ صَالِحًا لِلشَّهَادَةِ وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: شَرَائِطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَشَرَةٌ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا عَالِمًا بِمَا شَهِدَ بِهِ وَلَمْ يَجُرَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً إِلَى نَفْسِهِ وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بترك المروأة، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَالْمَعْنَى أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبُ طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ فِي أَمْزِجَتِهِنَّ وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ثُمَّ فِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ أَنْ تَضِلَّ بِكَسْرِ إِنْ فَتُذَكِّرَ بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: الْجَزَاءُ مَوْضِعُ تَضِلَّ جَزْمٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ فِي التَّضْعِيفِ فَتُذَكِّرَ رُفِعَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْجَزَاءِ مُبْتَدَأٌ/ وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا بِنَصْبِ (أَنْ) وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَضِلَّ، فَحُذِفَ مِنْهُ الْخَافِضُ وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ إِرَادَةُ أَنْ تَضِلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ والإشهاد للاذكار لا الإضلال.
قلنا: هاهنا غَرَضَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْإِشْهَادِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِتَذْكِيرِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ الثَّانِيَةَ وَالثَّانِي:
بَيَانُ تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ إِقَامَةَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي ضَلَالِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْإِشْهَادَ، وَبَيَانَ فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَقْصُودًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِضَلَالِ إِحْدَاهُمَا وَتَذَكُّرِ الْأُخْرَى، لَا جَرَمَ صَارَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ مَطْلُوبَيْنِ، هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وقت كتبه هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِلنَّحْوِيِّينَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مَا اسْتَحْسَنْتُهَا وَالْكُتُبُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّلَالُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّسْيَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَّ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ، وَالْوَجْهَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الضَّلَالِ فِي اللُّغَةِ الْغَيْبُوبَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ فَتُذَكِّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ، وَهُمَا لُغَتَانِ ذَكَّرَ وَأَذْكَرَ نَحْوُ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، وَالتَّشْدِيدُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الْغَاشِيَةِ: ٢١] وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَقَدْ جَعَلَ الْفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِهَمْزَةِ الْأَفْعَالِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ وَالْإِذْكَارَ مِنَ النِّسْيَانِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أَنْ تَجْعَلَهَا ذَكَرًا يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ: إِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ جَاءَتِ الْأُخْرَى فَشَهِدَتْ مَعَهَا أَذْكَرَتْهَا، لِأَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسَاءَ لَوْ بَلَغْنَ مَا بَلَغْنَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُنَّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَرْأَةُ الثَّانِيَةُ مَا ذَكَّرَتِ الأولى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ نَهَى الشَّاهِدَ عَنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ احْتِيَاجِ صَاحِبِ الْحَقِّ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، / وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، قَالَ: كَمَا أَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ لَا يَأْبَى الْكِتَابَةَ، كَذَلِكَ أَمَرَ الشَّاهِدَ أَنْ لَا يَأْبَى عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَفِي عَدَمِهِمَا ضَيَاعُ الْحُقُوقِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ التَّحَمُّلُ أَوَّلًا، وَالْأَدَاءُ ثَانِيًا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا وَقْتُ التَّحَمُّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَوْنُهُمْ شُهَدَاءَ.
فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَكَذَلِكَ سَمَّاهُ كَاتِبًا قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ.
قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَارَ مَتْرُوكًا بِالضَّرُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتْرُكَهُ لِعِلَّةِ ضَرُورَةٍ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا النَّهْيُ عَنِ الِامْتِنَاعِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَمُّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْكُلِّ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَدَاءُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ، وَمُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ يُفِيدُ أَمْرَ الشَّاهِدِ بِالتَّحَمُّلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَكَانَ صَرْفُ قَوْلِهِ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا إِلَى الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ حَمْلًا لَهُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّاهِدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ صَارَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ شَرَحْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَلَا نُعِيدُهُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ شَهَادَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاكْتِفَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِبَطَلَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي خِلَافِيَّاتِ الْفِقْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ بالكتبة أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْإِشْهَادِ ثَانِيًا، أَعَادَ ذَلِكَ مَرَّةً أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتبة، فقال: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّآمَةُ الْمَلَالُ وَالضَّجَرُ، يُقَالُ: سَئِمْتُ الشَّيْءَ سَأَمًا وَسَآمَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنَ/ الْآيَةِ الْبَعْثُ عَلَى الْكِتَابَةِ قَلَّ الْمَالُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ فِي هَذَا الِاحْتِيَاطِ كَالْكَثِيرِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ وَلَجَاجٍ شَدِيدٍ، فَأَمَرَ تَعَالَى فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ بالكتابة، فقال: وَلا تَسْئَمُوا أَيْ وَلَا تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا ثُمَّ تَنْدَمُوا.
قُلْنَا: لَا لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ، لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكْتُبُوا التَّافِهَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (أَنْ) فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِوَجْهَيْنِ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا فَتَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا كِتَابَتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَسْأَمُوا مِنْ أَنْ تَكْتُبُوهُ إِلَى أَجَلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى المذكور سابقاً، وهو هاهنا إِمَّا الدَّيْنُ وَإِمَّا الْحَقُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ (وَلَا يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتُبُوهُ) بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تعالى بيّن أن الكتبة مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ الثَّلَاثِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ ذلِكُمْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكْتُبُوهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ ذَلِكَ الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَلِكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ لِأَهْلِ الرِّضَا وَمَعْنَى أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْقِسْطُ اسْمٌ، وَالْإِقْسَاطُ مَصْدَرٌ، يُقَالُ:
أَقْسَطَ فُلَانٌ فِي الْحُكْمِ يُقْسِطُ إِقْسَاطًا إِذَا عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:
٨] [الحجرات: ٩] وَيُقَالُ: هُوَ قَاسِطٌ إِذَا جَارَ، قَالَ تَعَالَى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنِّ: ١٥] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا كَانَ إِلَى الْيَقِينِ وَالصِّدْقِ أَقْرَبَ، وَعَنِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ أَبْعَدَ، فَكَانَ أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: ٥] أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ أَنْ تَنْسِبُوهُمْ إِلَى غير آبائهم.
والفائدة الثانية: قوله أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ مَعْنَى أَقْوَمُ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هِيَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْتَصِبَ الْقَائِمَ، ضِدُّ الْمُنْحَنِي الْمُعْوَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ؟ أَعْنِي: أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ.
قُلْنَا: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَطُ مِنْ قَاسِطٍ، وَأَقْوَمُ مِنْ قَوِيمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ إِنَّمَا كَانَتْ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْحِفْظِ وَالذِّكْرِ، فَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى: تَتَعَلَّقُ بِتَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةَ: / بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الدِّينَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدُّنْيَا.
وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ قَوْلُهُ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يَعْنِي أَقْرَبُ إِلَى زَوَالِ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ عَنْ قُلُوبِ الْمُتَدَايِنِينَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهَذَا الثَّالِثِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُشِيرَانِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، فَالْأَوَّلُ: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَالثَّانِي: إِشَارَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَهَذَا الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَعَنِ الْغَيْرِ، أَمَّا عَنِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي الْفِكْرِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْتُ هَلْ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَمَّا دفع الضرر عَنِ الْغَيْرِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ رُبَّمَا نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَقَعُ فِي عِقَابِ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَمَا أَدْخَلَهَا فِي الْقِسْطِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فِيهَا مِنَ الترتيب.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَلَّا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالدَّيْنِ قَدْ يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَقَدْ يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ، فَلَمَّا أمر بالكتبة عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ، اسْتَثْنَى عَنْهَا مَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ قَرِيبًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ وَالثَّانِي: أن هذا استثناء من قوله وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّهُ إِذَا كَانَتِ التِّجَارَةُ حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لَا تَكْتُبُوهَا، فَهَذَا يَكُونُ كَلَامًا مستأنفاً، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة وَالْإِشْهَادِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التِّجَارَةِ، لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ، فَلَوْ تَكَلَّفَ فِيهَا الكتبة وَالْإِشْهَادَ لَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ حَقَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفُ التَّجَاحُدِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الكتبة وَالْإِشْهَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْكَوْنِ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جعلت كانَ هاهنا نَاقِصَةً عَلَى أَنَّ الِاسْمَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وَالْخَبَرَ تُدِيرُونَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ دَائِرَةً بَيْنَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ تِجارَةً بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارِ الِاسْمِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: إِلَّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الْكِتَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا | إِذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا |
التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَايَنَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ لَا تَكُونُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بأن المداين إِذَا كَانَتْ إِلَى أَجَلِ سَاعَةٍ، صَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ فِي الذِّمَّةِ بِشَرْطِ أَنْ تُؤَدَّى الدِّرْهَمُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ كَانَ ذَلِكَ مُدَايَنَةً وَتِجَارَةً حَاضِرَةً، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ، فَالْوَجْهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التِّجَارَةُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ، يُقَالُ:
تَجَرَ الرَّجُلَ يَتْجَرُ تِجَارَةً فَهُوَ تَاجِرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُبَايَعَةُ بِدَيْنٍ أَوْ بِعَيْنٍ، فَالتِّجَارَةُ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، فَقَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ مِنَ الْإِبْدَالِ، وَمَعْنَى إِدَارَتِهَا بَيْنَهُمْ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا يَدًا بِيَدٍ، ثُمَّ قَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها [البقرة: ٢٨٢] مَعْنَاهُ:
لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْإِثْمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِثْمَ لَكَانَتِ الْكِتَابَةُ الْمَذْكُورَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَيَأْثَمُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِتَرْكِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ خِلَافُ ذَلِكَ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ رُفِعَتْ عَنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِشْهَادَ مَا رُفِعَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِلَا كِتَابَةٍ أَخَفُّ مُؤْنَةً، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِذَا وَقَعَتْ إِلَيْهَا لَا يُخَافُ فِيهَا النِّسْيَانُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ عَنْ إِضْرَارِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، أَمَّا الْكَاتِبُ فَبِأَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ أَوْ يَتْرُكَ الِاحْتِيَاطَ، وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَبِأَنْ لَا يَشْهَدَ أَوْ يُشْهِدَ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ نَفْعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، بِأَنْ يَضُرَّهُمَا أَوْ يَمْنَعَهُمَا عَنْ مُهِمَّاتِهِمَا وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ، وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ بِسَبَبِ الْإِدْغَامِ الْوَاقِعِ فِي لَا يُضَارَّ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ هُمَا الْفَاعِلَانِ لِلضِّرَارِ وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ لَا يُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَيَكُونُ هُمَا الْمَفْعُولَ بِهِمَا الضِّرَارُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَقَدْ أَحْكَمْنَا بَيَانَ هَذَا اللَّفْظِ هُنَاكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ قِرَاءَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلَا يُضَارِرْ) بِالْإِظْهَارِ وَالْكَسْرِ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَلَا يُضَارَرْ) بِالْإِظْهَارِ وَالْفَتْحِ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ الْقَوْلَ/ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَبِمَنْ يَمْتَنِعُ عَنِ الشَّهَادَةِ حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَضَرَّ الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الثَّانِي بِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ: وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا خِطَابًا لِلَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى الْمُدَايَنَةِ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الضِّرَارِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكْلِيفِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ يَعْنِي فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ هاهنا، وَهُوَ الْمُضَارَّةُ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا، وَالْمَعْنَى اتَّقُوا اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعَلِّمُكُمْ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا وَاحْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، كَمَا يُعَلِّمُكُمْ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْبِيَاعَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، وَبَيْعُ الْأَمَانَةِ، وَلَمَّا أَمَرَ في آخر الآية المتقدمة بالكتبة وَالْإِشْهَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُبَّمَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ إِمَّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ الْكَاتِبُ، أَوْ إِنْ وُجِدَ لَكِنَّهُ لَا تُوجَدُ آلَاتُ الْكِتَابَةِ ذَكَرَ نَوْعًا/ آخَرَ مِنَ الِاسْتِيثَاقِ وَهُوَ أَخْذُ الرَّهْنِ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الاحتياط من الكتبة وَالْإِشْهَادِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مِنَ الدَّوَامِ، يُقَالُ: رَهُنَ الشَّيْءُ إِذَا دَامَ وَثَبَتَ، وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ أَيْ دَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ.
إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ الْمَعْنَى فَنَقُولُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مَصْدَرٌ. يُقَالُ: رَهَنْتُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَرْهَنُهُ رَهْنًا إِذَا وَضَعْتَ عِنْدَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يُرَاهِنُنِي فَيُرْهِنُنِي بَنِيهِ | وَأُرْهِنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ |
آلَيْتُ لَا أُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا | رُهُنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا |
بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ | وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ |
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ ابن كثير أبو عَمْرٍو فَرُهُنٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَيْضًا فَرُهْنٌ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْبَاقُونَ فَرِهانٌ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إلا في الخليل، فَقَرَأْتُ فَرُهُنٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَبَيْنَ جَمْعِ الرَّهْنِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، فَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا قَبِيحَةٌ لِأَنَّ فَعْلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إِلَّا قَلِيلًا شَاذًّا كَمَا يُقَالُ: سُقْفٌ وَسُقُفٌ تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها، وَقُلُبٌ لِلنَّخْلِ وَلُحْدٌ وَلُحُدٌ وَبُسْطٌ وَبُسُطٌ وَفُرْسٌ وُرْدٌ، وَخَيْلٌ وُرُدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ فَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرْنَا الْخَبَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ بَدَلٌ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، أَوْ فَعَلَيْهِ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ، وَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا وَأَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَتِ الْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْكَاتِبِ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَسَائِلُ الرَّهْنِ كَثِيرَةٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ لَا يَجُوزُ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ اسْتِيثَاقُ جَانِبِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِمَنْعِ الْجُحُودِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَشَاعُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ رَهْنُ الْمَشَاعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الْأَمَانَةِ، أَعْنِي مَا لَا يَكُونُ فِيهِ كِتَابَةٌ وَلَا شُهُودٌ وَلَا يَكُونُ فِيهِ رَهْنٌ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمِنَ فُلَانٌ غَيْرَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ [يُوسُفَ: ٦٤] فَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَتَهُ وَجُحُودَهُ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ فَلْيُؤَدِّ الْمَدْيُونُ الَّذِي كَانَ أَمِينًا وَمُؤْتَمَنًا فِي ظَنِّ الدَّائِنِ، فَلَا يُخْلِفُ ظَنَّهُ فِي أَدَاءِ أَمَانَتِهِ وَحَقِّهِ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَمِنْتُهُ وَائْتَمَنْتُهُ فَهُوَ مَأْمُونٌ وَمُؤْتَمَنٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ هَذَا الْمَدْيُونُ يَجِبُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَلَا يَجْحَدَ، لِأَنَّ الدَّائِنَ لَمَّا عَامَلَهُ الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ حَيْثُ عَوَّلَ عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْوَثَائِقِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمَدْيُونِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُعَامِلَهُ بِالْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ فِي أَنْ لَا يُنْكِرَ ذَلِكَ الْحَقَّ، وَفِي أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ عِنْدَ/ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الرَّهْنَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْتِزَامَ وُقُوعِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ خَطَأٌ، بَلْ تِلْكَ الْأَوَامِرُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَرِعَايَةِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ نَسْخٌ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَفِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ تَرْكَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ عِنْدَ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْمَدْيُونِ أَمِينًا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ فِي هَذَا الْمَدْيُونِ أَنْ يُخْلِفَ هَذَا الظَّنَّ، وَأَنْ يَخْرُجَ خَائِنًا جَاحِدًا لِلْحَقِّ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسُ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهَهُنَا نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْإِنْسَانَ إِلَى أَنْ يَسْعَى فِي إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَأَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِحَقِّهِ، وَمَنَعَهُ مِنْ كِتْمَانِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ عَرَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ وَشَدَّدَ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهُ آثِمَ الْقَلْبِ لَوْ تَرَكَهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ».
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَنْ يُنْكَرَ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٠] وَالْمُرَادُ الْجُحُودُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآثِمُ الْفَاجِرُ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُعَلِّمُ أَعْرَابِيًّا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخَانِ:
٤٣، ٤٤] فَكَانَ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ بِمَعْنَى الْفُجُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : آثِمٌ خَبَرُ إِنَّ وَقَلْبُهُ رُفِعَ بِآثِمٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ قَلْبُهُ وَقُرِئَ قَلْبَهُ بِالْفَتْحِ كَقَوْلِهِ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَثَّمَ قَلْبَهُ أَيْ جَعَلَهُ آثِمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: إِنَّ الْفَاعِلَ وَالْعَارِفَ وَالْمَأْمُورَ وَالْمَنْهِيَّ هُوَ الْقَلْبُ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [الْبَقَرَةِ: ٩٧] وَهَؤُلَاءِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْآثِمَ إِلَى الْقَلْبِ فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْفَاعِلُ وَإِلَّا لَمَا كَانَ آثِمًا.
وَأَجَابَ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَيُقَالُ: هَذَا مِمَّا أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي وَعَرَفَهُ قَلْبِي، وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَبِيثُ الْفَرْجِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ تَابِعَةٌ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَمُتَوَلِّدَةٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ أُضِيفَ الآثم هاهنا إِلَى الْقَلْبِ.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ ضَمِيرُ قَلْبِهِ كَانَ خَائِفًا حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُ عَلَى كُلِّ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَيُجَازِيهِ عَلَيْهَا إِنْ خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالصَّدَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْبَيْعِ، وَالرِّبَا، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ.
وَأَقُولُ إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ كِمَالَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ لَيْسَتْ إِلَّا الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ، فَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَمَالِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَقَالَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَمَعْنَى هَذَا الْمِلْكِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا كَانَتْ مُحْدَثَةً فَقَدْ وُجِدَتْ بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحِكَمِ الْمُتَكَاثِرَةِ وَالْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا إِذْ مِنَ الْمُحَالِ صُدُورُ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ عَنِ الْجَاهِلِ بِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تعالى احتج بخلقه السموات وَالْأَرْضَ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ وُجُوهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا مُحِيطًا بِأَجْزَائِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِهَذِهِ الوثائق أعني الكتبة وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا صِيَانَةَ الْأَمْوَالِ، وَالِاحْتِيَاطَ فِي حِفْظِهَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلْقِ لَا لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْهَا فإنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السموات وَالْأَرْضِ فَيُجَازِي عَلَى الْكِتْمَانِ وَالْإِظْهَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا في السموات وَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لَيْسَ لَامَ الْغَرَضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُ الْفَاسِقِ مِنْ فِسْقِهِ طَاعَةَ اللَّهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَامَ الْمُلْكِ وَالتَّخْلِيقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ما في السموات وَالْأَرْضِ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا فَهِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحَقَائِقُ وَالْمَاهِيَّاتُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، وَتَكْوِينِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُكَوِّنَةً لِلذَّوَاتِ، وَمُحَقِّقَةً لِلْحَقَائِقِ، فَكَانَ القول بأن المعدوم شيئاً بَاطِلًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمُعَاذٌ وَنَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا نُطِيقُ إِنَّ أَحَدَنَا لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يَثْبُتَ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّ لَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ حَوْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَوَاطِرَ الْحَاصِلَةَ فِي الْقَلْبِ عَلَى قِسْمَيْنِ، فَمِنْهَا مَا يُوَطِّنُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَعْزِمُ عَلَى إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونُ أُمُورًا خَاطِرَةً بِالْبَالِ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُهَا وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنِ النَّفْسِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٥] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النُّورِ: ١٩] هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ وَقَوْلُهُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي الْوُجُودِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْعَزَائِمِ وَالْإِرَادَاتِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ فَكُلُّ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَاخِذَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَأَفْعَالُ الْجَوَارِحِ إِذَا خَلَتْ عَنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عِقَابٌ كَأَفْعَالِ النَّائِمِ وَالسَّاهِي فَثَبَتَ ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُهُ بِهَا لَكِنْ مُؤَاخَذَتُهَا هِيَ الْغُمُومُ وَالْهُمُومُ فِي الدُّنْيَا، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا حَدَّثَ الْعَبْدُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ شَرٍّ كَانَتْ مُحَاسَبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِغَمٍّ يَبْتَلِيهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى، فَإِذَا جَاءَتِ الْآخِرَةُ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ وَلَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ، وَرَوَتْ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَجَابَهَا بِمَا هَذَا مَعْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ كَيْفَ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: ١٧].
قُلْنَا: هَذَا خَاصٌّ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى ذَلِكَ الْعَامِّ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ: يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ حَسِيبًا وَمُحَاسِبًا وُجُوهًا كَثِيرَةً، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِهِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا، فَرَجَعَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ،
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يُخْبِرُهُ ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ، وَأَهْلُ الذُّنُوبِ يُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْا من التكذيب والذنب.
الوجه السابع فِي الْجَوَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فَيَكُونُ الْغُفْرَانُ نَصِيبًا لِمَنْ كَانَ كَارِهًا لِوُرُودِ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ، وَالْعَذَابُ يَكُونُ نَصِيبًا لِمَنْ يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْخَوَاطِرِ مُسْتَحْسِنًا لَهَا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وإن كان واراه عَقِيبَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لَا يَلْزَمُ قَصْرُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ»
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لَوْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الْعِقَابِ عَلَى تِلْكَ الْخَوَاطِرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالثَّالِثُ:
أَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ إِنَّمَا الْجَائِزُ هو نسخ الأوامر والنواهي.
واعلم أن الناس اخْتِلَافًا فِي أَنَّ الْخَبَرَ هَلْ يُنْسَخُ أَمْ لا؟ وقد ذكرنا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَصْحَابُ قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ غُفْرَانِ ذُنُوبِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْكَافِرُ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ يُعَاقَبُ وَلَا يُثَابُ، وَقَوْلُهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ رفع للقطع واحد مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصِيبًا لِلْمُؤْمِنِ يَرِثُهُ الْمُذْنِبُ بِأَعْمَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: قرأ عاصم وابن عامر فَيَغْفِرُ،... يُعَذِّبُ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَبِالْجَزْمِ أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَغْفِرُ، وَأَمَّا الْجَزْمُ فَبِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ فِي اللَّامِ فِي قوله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ لَحْنُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى أَبِي عَمْرٍو كَذِبٌ، وَكَيْفَ يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا اللَّحْنِ بِأَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ كَامِلُ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
أَنَّهُ كَامِلُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أنه كامل القدرة مستولي عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِعْدَامِ وَلَا كَمَالَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ الْكَمَالِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْكَمَالَاتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا مُنْقَادًا لَهُ، خَاضِعًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ مُحْتَرِزًا عَنْ سَخَطِهِ ونواهيه، وبالله التوفيق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَالَ الْمُلْكِ، وَكَمَالَ الْعِلْمِ، وَكَمَالَ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ كَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي نِهَايَةِ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ وَإِذَا ظَهَرَ لَنَا كَمَالُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنَّا كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ عَمِيمِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يُظْهِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَقِّنَا كَمَالَ الْعِنَايَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ اللَّهُمَّ حَقِّقْ هَذَا الْأَمَلَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدَأَ فِي السُّورَةِ بِمَدْحِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ/ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَبَيَّنَ فِي آخِرِ السُّورَةِ أَنَّ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣].
ثُمَّ قال هاهنا وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣].
ثم قال هاهنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤] ثم حكى عنهم هاهنا كَيْفِيَّةَ تَضَرُّعِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: ٥] فَانْظُرْ كَيْفَ حَصَلَتِ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا جَاءَهُ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ، فَهَهُنَا الرَّسُولُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ صِدْقَ ذَلِكَ الْمَلَكِ إِلَّا بِمُعْجِزَةٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْمَلَكِ فِي دَعَوَاهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ الْمُعْجِزُ لَجَوَّزَ الرَّسُولُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ شَيْطَانًا ضَالًّا مُضِلًّا، وَذَلِكَ الْمَلَكُ أَيْضًا إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى افْتَقَرَ إِلَى مُعْجِزٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ مُعْتَبَرَةٌ أَوَّلُهَا:
قِيَامُ الْمُعْجِزِ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ لَا غَيْرَهُ، فَيَعْرِفُ الْمَلَكُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قِيَامُ الْمُعْجِزَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَلَكَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّهُ مَلَكٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَقُومَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ عِنْدَ الْأُمَّةِ حَتَّى تَسْتَدِلَّ الْأُمَّةُ بِهَا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِذَنْ لَمَّا لَمْ يَعْرِفِ الرَّسُولُ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا تَتَمَكَّنُ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الشَّرَائِعِ وَأَقْسَامَ الْأَحْكَامِ، قَالَ: آمَنَ الرَّسُولُ فَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُصِفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَلَكٌ مَبْعُوثٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصُومٌ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ مُضِلٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ إِيمَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، فَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذِهِ اللَّطَائِفِ غَيْرَ مُتَنَبِّهِينَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا قِيلَ:
وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ رُؤْيَتَهُ | وَالذَّنَبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَرَفَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَجُمْلَةَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ، وَلَا مِنْ نَوْعِ السِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشَّعْبَذَةِ، وَإِنَّمَا عَرَفَ الرسول لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
آمَنَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُمُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنَ بِاللَّهِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ آمَنَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ مؤمناً بربه، ثم صار مؤمناً بربه وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْإِيمَانِ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يُشْعِرُ اللَّفْظُ بِأَنَّ الَّذِي حَدَثَ هُوَ إِيمَانُهُ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكِتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَقَدْ كَانَ حَاصِلًا مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ، فَإِذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنَّ عِيسَى عليه السلام رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حِينَ كَانَ طِفْلًا، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خُلِقَ كَامِلَ الْعَقْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ آمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ قَدْ يكون كلاماً متلواً يسمه الْغَيْرُ وَيَعْرِفُهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ وَحْيًا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ، فَيَكُونُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَصًّا بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الرَّسُولُ مُخْتَصًّا فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِمَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ فِي غَيْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِيمَانِ.
فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ/ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْأَصْلُ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ فِي الذِّكْرِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا يُوحِي إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَقَالَ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: ٥١] وَقَالَ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى
[الْبَقَرَةِ: ٩٧] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: ٥] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَحْيَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْبَشَرِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ فَالْمَلَائِكَةُ يَكُونُونَ كَالْوَاسِطَةِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِهَذَا السِّرِّ قَالَ أَيْضًا:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨].
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْكُتُبُ، وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّفُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوصِلُهُ إِلَى الْبَشَرِ وَذَلِكَ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِنَارَةِ سَطْحِ الْقَمَرِ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ فَذَاتُ الْمَلَكِ كَالْقَمَرِ وَذَاتُ الْوَحْيِ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَ الْقَمَرِ مُقَدَّمَةٌ فِي الرُّتْبَةِ عَلَى اسْتِنَارَتِهِ فَكَذَلِكَ ذَاتُ الْمَلَكِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِهَذِهِ الْكُتُبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتِ الْكُتُبُ مُتَأَخِّرَةً فِي الرُّتْبَةِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَا جَرَمَ أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الْكُتُبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الرُّسُلُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَكُونُونَ مُتَأَخِّرِينَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ الرُّسُلِ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، وَاعْلَمْ أن تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أسرار غَامِضَةً، وَحِكَمًا عَظِيمَةً لَا يَحْسُنُ إِيدَاعُهَا فِي الْكُتُبِ وَالْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَافٍ فِي التَّشْرِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَبِأَفْعَالِهِ، وَبِأَحْكَامِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ.
أَمَّا الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ، فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَرَاءَ الْمُتَحَيِّزَاتِ مَوْجُودًا خَالِقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُجَسِّمُ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ مَا وَرَاءَ الْمُتَحَيِّزَاتِ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ اخْتِلَافُهُ مَعَنَا فِي إِثْبَاتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِإِثْبَاتِ مَوْجُودٍ سِوَى الْمُتَحَيِّزَاتِ مُوجِدٌ لَهَا، فَيَكُونُ الْخِلَافُ مَعَهُمْ لَا فِي الذَّاتِ بَلْ فِي الصِّفَاتِ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِصِفَاتِهِ، فَالصِّفَاتُ إِمَّا سَلْبِيَّةٌ، وَإِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ.
فَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ: فَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ فَرْدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَإِذَنْ كُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، بَلْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ امْتَنَعَ أَنْ/ يَكُونَ مُرَكَّبًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ كَانَ فَرْدًا مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَلَا جِسْمًا، وَلَا جَوْهَرًا، وَلَا فِي مَكَانٍ، وَلَا حَالًّا، وَلَا فِي مَحَلٍّ، وَلَا مُتَغَيِّرًا، وَلَا مُحْتَاجًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْبَتَّةَ.
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ: فَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَاتِهِ نِسْبَتُهُ إِلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ كَنِسْبَتِهِ إِلَى الْبَوَاقِي، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجِبٌ بِالذَّاتِ، ثُمَّ يَسْتَدِلُّ بِمَا فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُهُ قَادِرًا عَالِمًا حَيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا مَوْصُوفًا مَنْعُوتًا بِالْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥].
فَإِنْ قُلْتَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ أَنْ أَتَحَرَّكَ تَحَرَّكْتُ، وَإِنْ شِئْتُ أَنْ لَا أَتَحَرَّكَ لَمْ أَتَحَرَّكْ فَكَانَتْ حَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي بِي لَا بِغَيْرِي.
فَنَقُولُ: قَدْ عَلَّقْتَ حَرَكَتَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِحَرَكَتِكَ، وَسُكُونَكَ بِمَشِيئَتِكَ لِسُكُونِكَ، فَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا تَتَحَرَّكُ وَقَبْلَ حُصُولِ مَشِيئَةِ السُّكُونِ لَا تَسْكُنُ، وَعِنْدَ حُصُولِ مَشِيئَةِ الْحَرَكَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَتَحَرَّكَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْمَشِيئَةُ كَيْفَ حَدَثَتْ فَإِنَّ حُدُوثَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا بِمُحْدِثٍ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ بِمُحْدِثٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحْدِثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ حَدَثَتْ لَا بِمُحْدِثٍ فَقَدْ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ فِي إِحْدَاثِهَا إِلَى مَشِيئَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحْدِثَهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا اخْتِيَارَ لِلْإِنْسَانِ فِي حُدُوثِ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَبَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي تَرَتُّبِ الفعل عليها إلا المشيئة به، ولا حصول الفعل بَعْدَ الْمَشِيئَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، فَهَذَا كَلَامٌ قَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَفِي مُعَارَضَتِهِ إِشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ بِتَخْلِيقِهِ فَكَيْفَ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْعَبْدِ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ/ جَانِبِ الْخَصْمِ، إِلَّا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَهِيَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَحْكَامِهِ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَحَدُهَا:
أَنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَّةٍ أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ كَانَ صَاحِبُهُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ، كَامِلًا بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهَا مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَبْدِ لَا إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ الْإِلْزَامَ وَالْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِّ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ وَمُلْكُهُ، وَالْمَمْلُوكَ الْمُجَازَى لَا حَقَّ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُجَازِي، فَكَيْفَ الْمَمْلُوكُ الْحَقِيقِيُّ مَعَ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ.
وأما المرتبة الْخَامِسَةُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: فَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ:
١٨٠] وَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] وَقَالَ فِي طه اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: ٨] وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَشْرِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَشْرِ: ٢٤] وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هِيَ الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمَعْصُومِينَ، وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعَاقِدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ: الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: ٥٠] لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] فَإِنَّ لَذَّتَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأُنْسَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ، فَكَذَلِكَ حَيَاتُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مُتَوَكَّلٌ عَلَى قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصَّافَّاتِ: ١، ٢] وَقَالَ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذَّارِيَاتِ: ١، ٢] وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً [الْمُرْسَلَاتِ: ١، ٢] وَقَالَ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً [النَّازِعَاتِ: ١، ٢] وَلَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَسْرَارًا مَخْفِيَّةً، إِذَا طَالَعَهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَفُوا عَلَيْهَا.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩، ٢٠، ٢١] فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَكُلَّمَا كَانَ غَوْصُ الْعَقْلِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَشَدَّ كَانَ إِيمَانُهُ بِالْمَلَائِكَةِ أَتَمَّ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْكِهَانَةِ، وَلَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَلَا مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْوَحْيَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَحْيِ الطَّاهِرِ، وَعِنْدَ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى قَوْلَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا فِي أَثْنَاءِ الْوَحْيِ، فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، وَطَرَقَ الطَّعْنَ وَالتُّهْمَةَ إِلَى الْقُرْآنِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يُغَيَّرْ وَلَمْ يُحَرَّفْ، وَدَخَلَ فِيهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ شَيْءٌ فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ مُحْكَمَهُ يَكْشِفُ عَنْ مُتَشَابِهِهِ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنَّ يَعْلَمَ كَوْنَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ٣٦] وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا الْمُخَالِفُونَ قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ تَأْوِيلَاتِهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى.
والمرتبة الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاوِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] وَلِأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُبَاحَثَاتٌ غَامِضَةٌ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْبَعْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٣] وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥].
وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ هُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعَاوِيهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقَ، وَجَبَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الطَّرِيقُ وَجَبَ أَنْ لَا يَدُلَّ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى رِسَالَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَزْيِيفُ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى، وَيُكَذِّبُونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْبَعْضِ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَكِتَابِهِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْبَاقُونَ كُتُبِهِ عَلَى الْجَمْعِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالثَّانِي: عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ فَيُوَافِقُ مَعْنَى الْجَمْعَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَةِ: ٢١٣].
فَإِنْ قِيلَ: اسْمُ الْجِنْسِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهَذِهِ مُضَافَةٌ.
قُلْنَا: قَدْ جَاءَ الْمُضَافُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَنَعْنِي بِهِ الْكَثْرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَهَذَا الْإِحْلَالُ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الصِّيَامِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْقِرَاءَةُ بِالْجَمْعِ أَفْضَلُ لِمُشَاكَلَةٍ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرَّاءَ أَجْمَعُوا فِي قَوْلِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى ضَمِّ السِّينِ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو سُكُونُهَا، وَعَنْ نَافِعٍ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مُخَفَّفِينَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ عَلَى فُعُلٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَحُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو هِيَ أَنْ لَا تَتَوَالَى أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ، لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ تَتَوَالَ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ فِي شِعْرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُزَاحِفًا، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ أَمَّا فِي الْكَلِمَتَيْنِ فَلَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِدْغَامَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي وَجَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَوَالَى فِيهِ خَمْسُ مُتَحَرِّكَاتٍ، وَالْكَلِمَةُ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرٌ فَهِيَ كَلِمَتَانِ لَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا [الْأَنْعَامِ: ٩٣] مَعْنَاهُ يَقُولُونَ: أَخْرِجُوا وَقَالَ: وَالَّذِينَ
[الزُّمَرِ: ٣] أَيْ قَالُوا هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو يُفْرَقُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِكُلٍّ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُفَرِّقُونَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَدٍ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٧] وَالتَّقْدِيرُ: / لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوهُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لا يجوز أن يكون أحد هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ هُوَ هَذَا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلْ بَيْنَ الْبَعْضِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، وبين غيره في النبوّة، فإذا فسرنا بِهَذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِهِمَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعَمَلِيَّةِ قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٣] فَالْحُكْمُ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي شَوَاهِدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ الشَّرِيفَةِ وَقَوْلُهُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ الْكَامِلَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَلِمَ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ غَفَلَ عَنْهَا الْأَكْثَرُونَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَيَّامًا ثَلَاثَةً: الْأَمْسُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْوَسَطِ، وَالْغَدُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْمَعَادِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هُودٍ:
١٢٣] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَلَمَّا كَانَتِ الْكَمَالَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى عِلْمِ الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا عِلْمُ الْوَسَطِ وَهُوَ عِلْمُ مَا يَجِبُ الْيَوْمَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ، فَلَهُ أَيْضًا مَرْتَبَتَانِ: الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ أَمَّا الْبِدَايَةُ فَالِاشْتِغَالُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّوَكُّلِ، فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ، فَقَالَ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: ١٢٣] وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعَادِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: ١٣٢] أَيْ فَيَوْمُكَ غَدًا سَيَصِلُ فِيهِ نَتَائِجُ أَعْمَالِكَ إِلَيْكَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَمَالِ مَا يَبْحَثُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَنَظِيرُهَا أَيْضًا قَوْلُهُ/ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٨٠] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: ١٨٢] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ عَلَى مَا قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠٠].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَعْرِيفُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُهُ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَقَوْلُهُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْوَسَطِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَالِمًا مُشْتَغِلًا بِهَا، مَا دَامَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَعَادِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيَجْذِبُهُ مِنْ ضِيقِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى فُسْحَةِ عالم الأفلاك، وأنوار بهجة السموات.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي النَّظْمِ: أَنَّ الْمَطَالِبَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: الْبَحْثُ عَنْ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ وَالثَّانِي: الْبَحْثُ عَنْ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ فِي الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ وَالْحَظْرِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الْعَقْلِ وَالثَّانِي مُسْتَفَادٌ مِنَ السَّمْعِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ سَمْعِنَا قَوْلَهُ وَأَطَعْنَا أَمْرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مُدِحُوا بِهِ.
وَأَقُولُ: هَذَا مِنَ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَذْفَ الْمَفْعُولِ فِيهِ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا أَوْلَى لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ التَّقْدِيرَ: سَمِعْنَا قوله، وأطعنا أمره، فإذن هاهنا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ قَوْلِهِ، وَأَمْرٌ آخَرُ يُطَاعُ سِوَى أَمْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَوْلٌ يَجِبُ سَمْعُهُ إِلَّا قَوْلَهُ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ يُقَالُ فِي مُقَابَلَتِهِ: أَطَعْنَا إِلَّا أَمْرَهُ فَكَانَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ صُورَةً وَمَعْنًى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَوْلُهُ سَمِعْنا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ السَّمَاعَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّا سَمِعْنَاهُ بِآذَانِ عُقُولِنَا، أَيْ عَقَلْنَاهُ وَعَلِمْنَا صِحَّتَهُ، وَتَيَقَّنَّا أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْنَا فَهُوَ حَقٌّ صَحِيحٌ وَاجِبُ الْقَبُولِ وَالسَّمْعُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ وَالْفَهْمِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧] وَالْمَعْنَى: لِمَنْ سَمِعَ الذِّكْرَى بِفَهْمٍ حَاضِرٍ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لُقْمَانَ: ٧] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَطَعْنا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَمَا صَحَّ اعْتِقَادُهُمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ فَهُمْ مَا أَخَلُّوا بِشَيْءٍ مِنْهَا فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ التَّكْلِيفِ عِلْمًا وَعَمَلًا.
ثُمَّ حَكَىَ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَبِلُوا التَّكَالِيفَ وَعَمِلُوا بِهَا، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِمْ إِلَى طَلَبِهِمُ الْمَغْفِرَةَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَإِنَّ بَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي أَدَاءِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ تَقْصِيرٍ يَصْدُرُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا جَوَّزُوا ذَلِكَ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَلْتَمِسُونَ مِنْ قَبْلِهِ الْغُفْرَانَ فِيمَا يَخَافُونَ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
فَذَكَرُوا لِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَاتٍ مَنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي التَّرَقِّي فِي دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ كُلَّمَا تَرَقَّى مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ رَأَى الْأَوَّلَ حَقِيرًا، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ، فَحَمْلُ طَلَبِ الْغُفْرَانِ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جِنَايَاتٌ، وَكُلُّ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ أَنْوَارِ كِبْرِيَائِهِ تَقْصِيرٌ وَقُصُورٌ وَجَهْلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَبْدُ فِي أَيِّ مَقَامٍ كَانَ مِنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا جِدًّا إِذَا قُوبِلَ ذَلِكَ بِجَلَالِ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ عَيْنَ التَّقْصِيرِ الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [مُحَمَّدٍ: ١٩] فَإِنَّ مَقَامَاتِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَنْكَشِفُ لَهُ فِي دَرَجَاتِ مُكَاشَفَاتِهِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ عَنِ التَّقْصِيرِ، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ حَكَىَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلَامَهُمْ فَقَالَ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُسَ: ١٠] فَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْزِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] يَعْنِي أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ الْحَمْدِ بِعُقُولِنَا وَلَا عَلَى ذِكْرِهِ بِأَلْسِنَتِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ غُفْرانَكَ تَقْدِيرُهُ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، وَيُسْتَغْنَى بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ سُقْيًا وَرَعْيًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْأَمْرِ فَنُصِبَ، وَمِثْلُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَالْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى ابْتِدَاءً كَانَتْ أَدَلَّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكُ: حَمْدًا حَمْدًا، وَشُكْرًا شُكْرًا، أَيْ أَحْمَدُ حَمْدًا، وأشكر شكر.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْغُفْرَانِ مَقْرُونٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ غُفْرانَكَ وَالثَّانِي: أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ رَبَّنا وَهَذَانَ الْقَيْدَانِ يَتَضَمَّنَانِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَنْتَ غَافِرُ الذَّنْبِ، وَأَنْتَ غَفُورٌ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ [الْكَهْفِ: ٥٨] وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [الْبُرُوجِ: ١٤] وَأَنْتَ/ الْغَفَّارُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نُوحٍ: ١٠] يَعْنِي أنه ليست غفاريته من هذا لوقت، بَلْ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ غَفَّارَ الذُّنُوبِ، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله هاهنا غُفْرانَكَ يَعْنِي أَطْلُبُ الْغُفْرَانَ مِنْكَ وَأَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمَطْمُوعُ مِنَ الْكَامِلِ فِي صِفَةٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً كَامِلَةً، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ طَلَبٌ لِغُفْرَانٍ كَامِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيُبَدِّلَهَا بِالْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٠] وَثَانِيهَا:
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ قَسَّمَ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الحيوانات، فيها يَتَرَاحَمُونَ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَأَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ غُفْرانَكَ هُوَ ذَلِكَ الْغُفْرَانُ الْكَبِيرُ، كَانَ الْعَبْدُ يَقُولُ: هَبْ أَنَّ جُرْمِي كَبِيرٌ لَكِنَّ غُفْرَانَكَ أَعْظَمُ مِنْ جُرْمِي وَثَالِثُهَا: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُلُّ صِفَةٍ من صفات جلالك وإلهيتك، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَوْلَا الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ قُدْرَتِكَ، وَلَوْلَا التَّرْتِيبُ الْعَجِيبُ وَالتَّأْلِيفُ الْأَنِيقُ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ عِلْمِكَ، فَكَذَا لَوْلَا جُرْمُ الْعَبْدِ وَجِنَايَتُهُ، وَعَجْزُهُ وَحَاجَتُهُ، لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ غُفْرَانِكَ، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ ظُهُورُ أَثَرِهِ إِلَّا فِي حَقِّي، وَفِي حَقِّ أَمْثَالِي مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: بَيَانُ أَنَّهُمْ كَمَا أَقَرُّوا بِالْمَبْدَأِ فَكَذَلِكَ أَقَرُّوا بِالْمَعَادِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ أَصْلُ الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يُقِرَّ بِالْمَعَادِ وَالثَّانِيَةُ: بَيَانُ أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَالذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَانَ إِخْلَاصُهُ فِي الطَّاعَاتِ أَتَمَّ، وَاحْتِرَازُهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ أَكْمَلَ، وهاهنا آخِرُ مَا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيمَانِ المؤمنين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا/ إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً عَنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: ٢٨٥] وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَرْدَفَهُ مِنْ قَوْلِهِ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ طَرِيقَتَهُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَحَكَى عَنْهُمْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَصَفُوا رَبَّهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ وَلَا نُطِيعُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا وَطَاقَتِنَا، فَإِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى بِحُكْمِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَا يُطَالِبُنَا إِلَّا بِالشَّيْءِ السَّهْلِ الْهَيِّنِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ بِحُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَجَبَ أَنْ نَكُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ثُمَّ قَالُوا بَعْدَهُ غُفْرانَكَ رَبَّنا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ غُفْرانَكَ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ وُجُوهِ التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: غُفْرانَكَ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ فِي ذَلِكَ التَّقْصِيرِ، لَا جَرَمَ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَمَا تَعَمَّدْتُمُ التَّقْصِيرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِنْكُمْ نَوْعُ تَقْصِيرٍ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ فَلَا تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا إِجَابَةٌ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ غُفْرانَكَ رَبَّنا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ عَوَّلُوا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨] وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٨] وَقَوْلُهُ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، قَالُوا:
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَهُنَا أَصْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِدُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الْفِعْلَ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَلَا قُدْرَةَ الْبَتَّةَ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا عَلَى تَرْكِهِ، إِمَّا إِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ/ وُجِدَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَوْجُودُ لَا يُوجَدُ ثانياً، وأما إنه لا قدر لَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَلِأَنَّ قُدْرَتَهُ أَضْعَفُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ تَقْوَى قُدْرَتُهُ عَلَى دَفْعِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ الْفِعْلَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ عَلَى التَّحْصِيلِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَافِرُ الْمَأْمُورُ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ هَذَا تَمَامُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأَصْحَابُ فَقَالُوا: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ يُنْبِئُ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُؤْمِنُ قَطُّ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مَوْجُودًا، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ يُنَافِي وُجُودَ الْإِيمَانِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ في مواضع، وهو أيضاً مقدم بَيِّنَةٌ بِنَفْسِهَا، فَكَانَ تَكْلِيفُهُ بِالْإِيمَانِ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ كَمَا أَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي الْعِلْمِ، فَهِيَ أَيْضًا جَارِيَةٌ فِي الْجَبْرِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمًا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الْعَبْدِ لَافْتَقَرَ إِيجَادُهَا إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْجَبْرَ، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ صَارَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مَرْجُوحًا، وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوحُ ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ، فَإِذَنْ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، فَكَانَ التَّكْلِيفُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِيَيْنِ، أَوْ حَالَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُنَاقِضُ الرُّجْحَانَ، فَإِذَا كُلِّفَ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ بِالرُّجْحَانِ،
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تعالى كلف أبا لهب الإيمان، وَالْإِيمَانُ تَصْدِيقُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ/ عَنْهُ، وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ صَارَ أَبُو لَهَبٍ مُكَلَّفًا بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الْعَبْدُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ، لِأَنَّ مَنْ حَرَّكَ أُصْبُعَهُ لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْأَحْيَانِ الَّتِي حَرَّكَ أُصْبُعَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الْبَطِيئَةَ عِبَارَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ حَرَكَاتٍ مُخْتَلِطَةٍ بِسَكَنَاتٍ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَسْكُنُ فِي بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ أَيْنَ تَحَرَّكَ وَأَيْنَ سَكَنَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِيجَادَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْعَدَدَ دُونَ الْأَزْيَدِ وَدُونَ الْأَنْقَصِ فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا كَانَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمًا عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْآيَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصْوَبُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ مِنَ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ، وَالظَّاهِرِ السَّمْعِيِّ، فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِبْطَالُ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ، وَيُرَجِّحَ الظَّاهِرَ السَّمْعِيَّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَطَرُّقَ الطَّعْنِ فِي الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ التَّوْحِيدُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ، وَتَرْجِيحُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ مَعًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ بِصِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَحْمِلَ الظَّاهِرَ السَّمْعِيَّ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الَّذِي تُعَوِّلُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَيْهِ أَبَدًا فِي دَفْعِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا أَهْلُ التَّشْبِيهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا أَنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلًا فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ عَرَفْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْخَوْضِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ كَذَا فَإِنَّهُ يُثَابُ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ، فَإِذَا وُجِدَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُمْكِنًا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا وَتَكْلِيفًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا، بَلْ كَانَ إِعْلَامًا بِنُزُولِ الْعِقَابِ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِلنَّارِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَنَحْنُ شَاكُّونَ فِي قِيَامِ الْمَانِعِ، فَلَا جَرَمَ نَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَنَحُثُّهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الْمَانِعَ كَانَ قَائِمًا فِي حَقِّهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ كَانَ زَائِلًا عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الْجَبْرِ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَيْسَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَبِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ وَجَبَ أَنَّ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي هَذَا الْكَلَامِ، / إِذْ لَوْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ لَمَا جَازَ تَعْظِيمُهُمْ بِسَبَبِهِ، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْحَمَ عَجْزَنَا وَقُصُورَ فَهْمِنَا، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ خَطَايَانَا، فَإِنَّا لَا نَطْلُبُ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا نَرُومُ إِلَّا الصِّدْقَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ فِي اللُّغَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالِاكْتِسَابِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ يَكْتَسِبُ
وَالْقُرْآنُ أَيْضًا نَاطِقٌ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨] وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
[الْبَقَرَةِ: ٨١] وَقَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الْأَحْزَابِ: ٥٨] فَدَلَّ هَذَا عَلَى إِقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ سَلَّمَ الْفَرْقَ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً يُقَالُ فُلَانٌ كَاسِبٌ لِأَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ مُكْتَسِبٌ لِأَهْلِهِ وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّمَا خُصَّ الْخَيْرُ بِالْكَسْبِ، وَالشَّرُّ بِالِاكْتِسَابِ، لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ اعْتِمَالٌ، فَلَمَّا كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلَ وَأَجَدَّ، فَجُعِلَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى مُكْتَسِبَةً فِيهِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وُصِفَتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، قَالُوا لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِضَافَةِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ وَيَجْرِي صُدُورُ أَفْعَالِهِ مِنْهُ مَجْرَى لَوْنِهِ وَطُولِهِ وَشَكْلِهِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْلُومٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ خَالِقًا أَفْعَالَهُمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي أَنْ يَسْأَلُوهُ أَنْ لَا يُثْقِلَ عَلَيْهِمْ وَالثَّقِيلُ عَلَى قَوْلِهِمْ كَالْخَفِيفِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُهُ فِيهِمْ وَلَيْسَ يَلْحَقُهُمْ بِهِ نَصَبٌ وَلَا لُغُوبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَبَيَّنَ أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا عِقَابَ مَا اكْتَسَبَتْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ طَرَيَانِ أَحَدِهِمَا زَوَالُ الْآخَرِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: ظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا أَنَّهُ مَشْرُوطٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذَا لَمْ تُبْطِلْهُ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الْعِقَابِ إِذَا لَمْ تُكَفِّرْهُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى إِضْمَارِ هَذَا/ الشَّرْطِ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً خَالِصَةً دَائِمَةً وَأَنَّ الْعِقَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضَرَّةً خَالِصَةً دَائِمَةً، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقَيْهِمَا أَيْضًا مُحَالًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرَّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٤] فَلَا نُعِيدُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفُقَهَاءُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِمْسَاكِ الْبَقَاءُ وَالِاسْتِمْرَارُ، لِأَنَّ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ»
وَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا الْأَصْلُ خَرَجَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
مِنْهَا أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ لَا تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ، إِمَّا الْغَضَبُ، وَإِمَّا الضَّمَانُ، وَهُمَا لَا يُوجِبَانِ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ سَاحَةً وَأَدْرَجَهَا فِي بِنَائِهِ، أَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا لَا يَزُولُ الْمِلْكُ لِقَوْلِهِ لَها مَا كَسَبَتْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَها مَا كَسَبَتْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْجَارِ ظَاهِرٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَارَ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الشَّرِيكِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ وَلِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِمُخَالَطَةِ الْجَارِ أَقَلُّ وَلِأَنَّ فِي الشَّرِكَةِ يُحْتَاجُ إِلَى تَحَمُّلِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي الْجَارِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ قَائِمٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَها مَا كَسَبَتْ وَالْقَطْعُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مَتَى كَانَ بَاقِيًا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَكُونُ الْقَطْعُ مُقْتَضِيًا زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ مُنْكِرِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ احْتَجُّوا بِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلزَّكَاةِ أَخَصُّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءَهُمْ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»
لِأَنَّ الدَّاعِيَ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مقام الفقر والحاجة والذالة وَالْمَسْكَنَةِ وَيُشَاهِدُ جَلَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمَهُ وَعِزَّتَهُ وَعَظَمَتَهُ بِنَعْتِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّعَالِي، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ الشَّرِيفَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَظِيمَةِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَلَامُ/ فِي حَقَائِقِ الدُّعَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] فَقَالَ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ، وَذَكَرَ فِي مَطْلَعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَوْلَهُ رَبَّنا إِلَّا فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُهُ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا تُؤَاخِذْنَا أَيْ لَا تُعَاقِبْنَا، وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّاسِيَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُهُ بِذَنْبِهِ كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَاءِ نَفْسِهِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، فَالْمُذْنِبُ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا هُوَ، فَلِهَذَا يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ الْآخَرَ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في النسيان ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ النِّسْيَانُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ قَطْعًا فَمَا مَعْنَى طَلَبِ الْعَفْوِ عَنْهُ فِي الدُّعَاءِ».
وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْهُ مَا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا فَأَخَّرَ إِزَالَتَهُ إِلَى أَنْ نَسِيَ فَصَلَّى وَهُوَ عَلَى ثَوْبِهِ عُدَّ مُقَصِّرًا، إذ كان يلزمه المبادر إِلَى إِزَالَتِهِ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَرَهُ فِي ثَوْبِهِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِيهِ، وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فِي مَوْضِعٍ فَأَصَابَ إِنْسَانًا فَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ الرَّامِي أَنَّهُ يُصِيبُ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِذَا رَمَى وَلَمْ يَتَحَرَّزْ كَانَ مَلُومًا أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ أَمَارَاتُ الْغَلَطِ ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان هاهنا مَعْذُورًا، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَغَافَلَ عَنِ الدَّرْسِ وَالتَّكْرَارِ حَتَّى نَسِيَ الْقُرْآنَ يَكُونُ مَلُومًا، وَأَمَّا إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْقِرَاءَةِ، لَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَسِيَ فَهَهُنَا يَكُونُ مَعْذُورًا، فَثَبَتَ أَنَّ النِّسْيَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُ مَا يَكُونُ مَعْذُورًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ مَعْذُورًا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ حَاجَتَهُ شَدَّ خَيْطًا فِي أُصْبُعِهِ
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسِيَ قَدْ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ مَا إِذَا تَرَكَ التَّحَفُّظَ وَأَعْرَضَ عَنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ طَلَبُ غُفْرَانِهِ بِالدُّعَاءِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنْ يَكُونَ هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا الدُّعَاءَ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ مَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا عَلَى وَجْهِ/ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِشْعَارًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ كَأَنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخِذُنَا بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ إِظْهَارُ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا طَلَبُ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الدَّاعِيَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو بِمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُهُ سَوَاءٌ دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: ١١٢] وَقَالَ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٤] وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي دُعَائِهِمْ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غَافِرٍ: ٧] فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّ النِّسْيَانَ مَغْفُورٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُسْنِ طَلَبِهِ فِي الدُّعَاءِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ مُؤَاخَذَةَ النَّاسِي غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ النِّسْيَانِ يَكُونُ مُؤَاخَذًا فَإِنَّهُ بِخَوْفِ الْمُؤَاخَذَةِ يَسْتَدِيمُ الذِّكْرُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْعُقُولِ، لَا جَرَمَ حَسُنَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ بِالدُّعَاءِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا النَّاسِي غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَاقِبَ عَلَيْهِ لَمَا طَلَبَ بِالدُّعَاءِ تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ النِّسْيَانِ، أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وَقَالَ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٦٧] أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ فَتَرَكَهُمْ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: لَا تَنْسَنِي مِنْ عَطِيَّتِكَ، أَيْ لَا تَتْرُكْنِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا النِّسْيَانِ أَنْ يَتْرُكَ الْفِعْلَ لتأويل فاسد، والمراد بالخطإ، أن يفعل لتأويل فاسد.
فَإِنْ قِيلَ: النَّاسِي قَدْ يُؤَاخَذُ فِي تَرْكِ التَّحَفُّظِ قَصْدًا وَعَمْدًا عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
قُلْنَا: فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُؤَاخَذٌ بِتَرْكِ التَّحَفُّظِ قَصْدًا وَعَمْدًا، فَالْمُؤَاخَذَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى مَا تَرَكَهُ/ عَمْدًا، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَجَاءِ الْعَفْوِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدُّعَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ: الثِّقَلُ وَالشِّدَّةُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يُغْشَى سُرَاتُهُمُ | وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا عَرَفُوا |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا تُشَدِّدُ عَلَيْنَا فِي التَّكَالِيفِ كَمَا شَدَدْتَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ رُبُعِ أَمْوَالِهِمْ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ أُمِرَ بِقَطْعِهَا، وَكَانُوا إِذَا نَسُوا شَيْئًا عُجِّلَتْ لَهُمُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا بِخَطِيئَةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ بَعْضُ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ [النِّسَاءِ: ١٦٠] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: ٦٦] وَقَدْ حُرِّمَ عَلَى الْمُسَافِرِينَ مِنْ قَوْمِ طَالُوتَ الشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ، وَكَانَ عَذَابُهُمْ مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا، كَمَا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: ٤٧] وَكَانُوا يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي تَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غِلَظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ، فَالْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنَّ يَصُونَهُمْ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ التَّغْلِيظَاتِ، وَهُوَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدْ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْمَسْخُ وَالْخَسْفُ وَالْغَرَقُ»
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: ٣٣] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» وَالْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذَا التَّخْفِيفَ لِأَنَّ التشديد مظنة
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا عَهْدًا وَمِيثَاقًا يُشْبِهُ مِيثَاقَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِإِضْمَارِ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَلْفُوظِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ شَدَّدَ التَّكْلِيفَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَى وُقُوعِهِمْ فِي الْمُخَالَفَاتِ وَالتَّمَرُّدِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ إِنْسَانٍ، مَفْسَدَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالْيَهُودُ كَانَتِ الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ غَالِبَةً عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَمَا كَانُوا يَنْصَلِحُونَ إِلَّا بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ كَانَتِ الرِّقَّةُ وَكَرَمُ الْخُلُقِ غَالِبًا عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي التَّخْفِيفِ وَتَرْكِ التَّغْلِيظِ.
أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ نَنْقُلُهُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَنَقُولُ: وَلِمَاذَا خَصَّ الْيَهُودَ بِغِلْظَةِ الطَّبْعِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى التَّشْدِيدَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي التَّكَالِيفِ وَلِمَاذَا خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِلَطَافَةِ الطَّبْعِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ حَتَّى صَارَ يَكْفِيهِمُ التَّكَالِيفُ السَّهْلَةُ فِي حُصُولِ مَصَالِحِهِمْ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ عَلِيلَةٌ فَجَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّاقَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِطَاقَةِ، كَالطَّاعَةِ مِنَ الْإِطَاعَةِ، وَالْجَابَةِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَهِيَ تُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا حَسُنَ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَجَابَ الْمُعْتَزِلَةَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ أَيْ يَشُقُّ فِعْلُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ مُسْتَثْقِلًا لَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ | سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ |
أَيْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ،
وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرِيضُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»
فَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
لَيْسَ مَعْنَاهُ عَدَمَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجُلُوسِ، بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ فِي الْجُلُوسِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، / وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هُودٍ: ٢٠] أَيْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا تُكَلِّفْنَا مَا لَا طَاقَةَ لنا به، بل قال: لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَالتَّحْمِيلُ هُوَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مَا لَا طَاقَةَ له بِتَحَمُّلِهِ فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ وَالْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا عَذَابَكَ الَّذِي لَا
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لَدَلَّ قَوْلُهُ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: ١١٢] عَلَى جَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ بِبَاطِلٍ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٧] عَلَى جَوَازِ أَنْ يُخْزِيَ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ٤٨] وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] هَذَا جُمْلَةُ أَجْوِبَةِ الْمُعْتَزِلَةِ.
أَجَابَ الْأَصْحَابُ فَقَالُوا:
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَمَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا يُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ لَكَانَ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا وَاحِدًا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْرَارًا مَحْضًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّانِي: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الطَّاقَةَ هِيَ الْإِطَاقَةُ والقدرة، فقوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ ظَاهِرُهُ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِي بَعْضِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحَمُّلَ مَخْصُوصٌ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ بِالتَّكْلِيفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الْأَحْزَابِ: ٧٢] إِلَى قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: ٧٢] ثُمَّ هَبْ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْعُرْفُ إلا أن قوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ فِي الْعَذَابِ وَفِي التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَمَّا التَّخْصِيصُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا لَمْ يَجُزْ طَلَبُ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَنْ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ: رَبَّنَا لَا تَجْمَعْ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَا تَقْلِبِ الْقَدِيمَ مُحْدَثًا، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمْ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مَتْرُوكًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ مُفَصَّلٍ لَمْ يَجِبْ تَرْكُهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ في الآية الأولى لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لا تُحَمِّلْنا خَصَّ ذَلِكَ بِالْحَمْلِ وَهَذَا بِالتَّحْمِيلِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الشَّاقَّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ أَمَّا مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ، فَالْحَاصِلُ فِيمَا لَا يُطَاقُ هُوَ التَّحْمِيلُ فَقَطْ أَمَّا الْحَمْلُ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ وَأَمَّا الشَّاقُّ فَالْحَمْلُ وَالتَّحْمِيلُ يُمْكِنَانِ فِيهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ بِالتَّحْمِيلِ.
وَالْجَوَابُ: الَّذِي أَتَخَيَّلُهُ فِيهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ لِلْعَبْدِ مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيَامُهُ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي:
شُرُوعُهُ فِي بَدْءِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ فَفِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ طَلَبَ تَرْكَ التَّشْدِيدِ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي قَالَ: لَا تَطْلُبْ مِنِّي حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ، وَلَا شُكْرًا يَلِيقُ بِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ، وَلَا مَعْرِفَةً تَلِيقُ بِقُدْسِ عَظَمَتِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِذِكْرِي وَشُكْرِي وَفِكْرِي وَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً مُقَدَّمًا فِي الذَّكْرِ عَلَى قوله لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا... وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا... وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ؟
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ قَبُولَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَكْمَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْهِمَمِ تَأْثِيرَاتٍ فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَرْوَاحُ وَالدَّوَاعِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كان حصوله أكمل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا التَّرْكَ وَكَانَتْ مَقْرُونَةً بِلَفْظِ رَبَّنا وَأَمَّا هَذَا الدُّعَاءُ الرَّابِعُ، فَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ لَفْظُ رَبَّنا وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا لَفْظُ رَبَّنَا؟.
الْجَوَابُ: النِّدَاءُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبُعْدِ، أَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ فَلَا وَإِنَّمَا حُذِفَ النِّدَاءُ إِشْعَارًا/ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى التَّضَرُّعِ نَالَ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى أَسْرَارٍ أُخَرَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَفْوَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْعِقَابَ، وَالْمَغْفِرَةَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ جُرْمَهُ صَوْنًا لَهُ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ وَالْفَضِيحَةِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: أَطْلُبُ مِنْكَ الْعَفْوَ وَإِذَا عَفَوْتَ عَنِّي فَاسْتُرْهُ عَلَيَّ فَإِنَّ الْخَلَاصَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ إِنَّمَا يَطِيبُ إِذَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْخَلَاصُ مِنْ عَذَابِ الْفَضِيحَةِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَالثَّانِي: هُوَ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمَا أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ: ثَوَابٌ جُسْمَانِيٌّ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلَذَّاتُهَا وَطَيِّبَاتُهَا، وَثَوَابٌ رُوحَانِيٌّ وَغَايَتُهُ أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْكَشِفَ لَهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ عُلُوُّ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ غَائِبًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، مُسْتَغْرِقًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي نُورِ حُضُورِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ وَارْحَمْنا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الْجُسْمَانِيِّ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتَ مَوْلانا طَلَبٌ لِلثَّوَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَلِأَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ تعالى لأن قوله أَنْتَ مَوْلانا خطاب الحاضرين، وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَسْتَبْعِدُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ، وَلَقَدْ صَدَقُوا فِيمَا يَقُولُونَ، فَذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى [النَّجْمِ: ٣٠].
ثُمَّ قَالَ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيِ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ فِي مُحَارَبَتِنَا مَعَهُمْ، وَفِي مُنَاظَرَتِنَا بِالْحُجَّةِ مَعَهُمْ، وَفِي إِعْلَاءِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى دَوْلَتِهِمْ عَلَى مَا قَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٣] وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ قَالَ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِعَانَةُ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ عَلَى قَهْرِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ السُّورَةِ.
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ أُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَكْرَمَكَ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْكَ بِقَوْلِهِ آمَنَ الرَّسُولُ فَسَلْهُ وَارْغَبْ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ يَدْعُو، / فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَقَالَ: لَا تُؤاخِذْنا فَقَالَ اللَّهُ: «لَا أُؤَاخِذُكُمْ» فَقَالَ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فَقَالَ: «لَا أشدد عليكم» فقال محمد لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ فَقَالَ: «لَا أُحَمِّلُكُمْ ذَلِكَ» فَقَالَ مُحَمَّدٌ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ وَرَحِمْتُكُمْ وَأَنْصُرُكُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَقُولُونَ آمِينَ.
وَهَذَا الْمِسْكِينُ الْبَائِسُ الْفَقِيرُ كَاتِبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي كُلُّ مَا طَلَبْتُهُ وَكَتَبْتُهُ مَا أَرَدْتُ بِهِ إِلَّا وَجْهَكَ وَمَرْضَاتَكَ، فَإِنْ أَصَبْتُ فَبِتَوْفِيقِكَ أَصَبْتُ فَاقْبَلْهُ مِنْ هَذَا الْمُكْدِي بِفَضْلِكَ وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَتَجَاوَزْ عَنِّي بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا مَنْ لَا يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَلَا يَشْغَلُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ والسورة الحمد لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ.