تفسير سورة البقرة

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الم﴾ قيل: إن المعنى: ألف، لام، ميم
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أي إن هذا الكلام البليغ المعجز: مكون من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم؛ وهي الألف، واللام، والميم؛ وهكذا. وقيل: إن «آلم»: اسم للسورة، وهكذا سائر أوائل السور المكونة من الأحرف. وقيل: غير ذلك. وجميع ما ذكر في هذا الصدد لا يرتاح إليه الضمير، ؛ والله تعالى أعلم بما يريد.
وقد جاءت ﴿الم﴾ في بدء ست سور من القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وزيدت عليها الصاد في الأعراف: ﴿المص﴾ وزيدت عليها الراء في الرعد: ﴿المر﴾ (انظر آية ١ من سورة غافر) ﴿لاَ رَيْبَ﴾ لا شك
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ بما غاب عنهم؛ من أمر البعث والحساب، وغير ذلك؛ مما غاب عن البصر، ولم يغب عن البصيرة ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من الثمار والأموال والخيرات ﴿يُنْفِقُونَ﴾ يتصدقون على الفقراء والمعوزين (انظر آيتي ٤٤ من سورة الروم، و١٠٧ من سورة الصافات)
﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ على من تقدمك من الرسل: كالتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؛ عليهم السلام. والمراد أنهم يؤمنون بالرسول عليه الصَّلاة والسَّلام وما أنزل إليه، وبالرسل المتقدمة - الذين جاء ذكرهم في القرآن - وصدق دعواهم: «قولوا آمنا ب الله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى
-[٤]- وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون»
﴿وَبِالآخِرَةِ﴾ وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب أليم ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يؤمنون بالقيامة وما فيها تمام الإيمان؛ من غير شك ولا شبهة
﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون ﴿عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ هداية أضفاها عليهم، وعناية أحاطهم بها: لإيمانهم بالغيب، وإقامتهم الصلاة، وإنفاقهم مما رزقهم الله ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بالجنة، الناجون من النار
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي وعظتهم أم لم تعظهم، وخوفتهم أم لم تخوفهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ عناداً واستبداداً
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أي غطى عليها وطبع ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ غطاء. من غشاة: إذا غطاه. والمعنى: أنه تعالى طبع وغطى على قلوبهم؛ فلا تفهم العظة، وعلى أسماعهم؛ فلا تسمع النصح، وعلى أبصارهم؛ فلا ترى الحقيقة
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ وهم المنافقون ﴿مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ وغاية الإيمان: أن يؤمن الإنسان بقلبه ب الله فيتقيه، وباليوم الآخر وما فيه. أما إذا كان الإيمان لا يجاوز اللسان: فهو خداع ونفاق؛ وذلك لأنك إذا تيقنت أن هناك إلهاً قادراً عظيماً؛ يراك حين تعصاه، ويسمعك حين تبغى على مخلوقاته: وجب عليك أن تتجنب هذا العصيان وذلك البغي، وإذا آمنت أن هناك يوماً تحاسب فيه على الكبير والصغير، والنقير والقطمير: وجب عليك ألا تفعل إلا طيباً، ولا تقول إلا حسناً
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ يبدون من الإيمان، خلاف ما يخفون من الكفران
﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق. لأن الشك: تردد بين الأمرين، والمريض: متردد بين الحياة والموت
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ هكذا شأن المفسدين في كل زمان ومكان: يظنون في أنفسهم الإصلاح وهم عنه بعداء، ويتوهمون ما يفعلونه الخير وهم منه براء يعنون بالسفهاء: أئمة المسلمين، وهداة الدين؛ الذين آمنوا بالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه «وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه» والسفهاء: الجهال. قال تعالى رداً عليهم: لمزيد جهلهم، وفرط سفههم
﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي إذا انفردوا بمن هم كالشياطين في العتو والتمرد والكفر؛ وهم رؤس الكفر والضلال من قسسهم ورهبانهم.
-[٥]- ﴿قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ﴾ في الدين؛ فلا تظنوا أنا قد آمنا مع هؤلاء واتبعنا دينهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ﴾ بتظاهرنا بالإيمان ﴿مُسْتَهْزِئُونَ﴾ بمحمد وأصحابه. قال تعالى رداً على استهزائهم بالمؤمنين
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي يسخر منهم، ويجازيهم على استهزائهم. وسمي الجزاء باسم العمل؛ كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ وقوله جل شأنه: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يمهلهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ وذلك لأنهم ابتدأوا بالكفران؛ فزاد لهم ربهم في الطغيان. والطغيان: تجاوز الحد في العصيان يتحيرون ويترددون
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى﴾ أي الكفر بالإيمان (انظر آية ١٧٥ من هذه السورة)
﴿مَثَلُهُمْ﴾ في طغيانهم ونفاقهم، وزعمهم الإيمان، وإنكارهم له ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ أوقدها، أو طلب إيقادها للإضاءة ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ واستبدل ظلمته نوراً؛ بالتلفظ بالإيمان؛ وهو قولهم عند ملاقاة المؤمنين: «آمنا» ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ عندما خلوا إلى شياطينهم، و «قالوا» لهم «إنا معكم إنما نحن مستهزئون» ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ وهي ظلمات الكفر، والنفاق، والجهل. والدنيا كلها ظلمات؛ إلا موضع العلم، والعلم كله هباء؛ إلا موضع العمل، والعمل كله هباء؛ إلا موضع الإخلاص. فالإخلاص أس العبادة، وجماع الإيمان والفضائل
﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الحق ﴿بِكُمُ﴾ عن النطق به. ﴿عُمْيٌ﴾ عن رؤيته. والصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع. والبكم: الخرس ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ عن الظلمات التي يعمهون فيها؛ وذلك لصممهم وعماهم وخرسهم
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ أي «مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً» أو مثلهم «كصيب» والصيب: المطر الشديد. وأريد بالصيب: القرآن الكريم
﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ﴾ وهو تمثيل لما فيه من الوعيد الشديد؛ بنيران الجحيم، والعذاب الأليم ﴿بَرِقَ﴾ أي فيه ظلمات الوعيد، ورعد العذاب «وبرق» المعرفة لأنه أريد بالبرق: نور الحجج البينة المنيرة اللامعة ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ﴾ وقاية وحذراً منها. والصاعقة: نار تنزل من السماء؛ عند قصف الرعد. وهل تمنع الأصابع في الآذان، عذاب الملك الديان؟ وكيف تمنع ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ عالم بهم، قادر عليهم؛ لا يفوته شيء من أعمالهم؛ ولا تعجزه أفعالهم؛ فلا يستطيع أحد الفرار من بطشه، أو النجاة من بأسه، أو الخروج عن أمره
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ لسرعة وميضه، وشدة لمعانه
-[٦]- ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي كلما لمع البرق مشوا مسرعين في ضوئه ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي إذا سكت البرق، وخبت ناره، وانطفأ نوره: وقفوا في أماكنهم متحيرين مترصدين خفقة أخرى؛ عسى يتسنى لهم الوصول إلى مقاصدهم
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً﴾ تقعدون عليها وتمشون وتنامون ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ ماء المطر: ينزل من السماء رأى العين؛ ومنشؤه البحار، وتحمله السحب. قال الشاعر:
كالبحر يمطره الغمام وما له
فضل عليه لأنه من مائه
﴿أَندَاداً﴾ شركاء ونظراء وأمثالاً
﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ شك ﴿مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمد من آيات الكتاب المجيد ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ تحداهم أولاً بقوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ وبعد ذلك تدرج تعالى معهم - نكاية بهم، وزيادة في توبيخهم - بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾ وبعد كل هذا الاحتقار والازدراء؛ أراد أن يستثير كامن همتهم، وماضي عزيمتهم بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ أيّ سورة، بل أيّ آية؛ وأنى لهم أن يأتوا بأقصر سورة من مثل هذا القرآن الذي أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء؛ وانظر - يارعاك الله - في أي عصر من العصور حصل هذا التحدي؟ إنه في عصر الفصاحة التي لا تمارى، والبلاغة التي لا تجارى، والمنطق الذي لا يلحق له بغبار. وقد وقف الجميع مكتوفي الأيدي، ناكسي الرؤوس؛ لا يستطيعون أن يحيروا جواباً أو أن ينبسوا ببنت شفة ﴿وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم﴾ آلهتكم التي تعبدونها
﴿قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي رزقنا في الدنيا مثله: في المنظر، لا في المخبر ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ من الحيض والأقذار، والأدناس الحسية والمعنوية
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحى﴾ من الحياء؛ جاءت رداً على الكفرة حيث قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. فجاءت على سبيل المقابلة ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ في الحقارة والصغر ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾ أي بهذا المثل ﴿كَثِيراً﴾ من المنافقين؛ لكفرهم وعنادهم ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ من المؤمنين؛ لتسليمهم وانقيادهم.
-[٧]- ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ الكافرين؛ لأن الله تعالى لا يضل مؤمناً ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ وإنما إضلال الله تعالى يقع عقوبة لمن يصر على الكفران، ويأبى داعي الإيمان
﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ والمراد بناقضي العهد: المنافقين، أو الكفار جميعاً، أو هم أحبار اليهود؛ بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ كصلة الأقرباء، والعطف على الفقراء، ومعاونة الضعفاء، وإشاعة المحبة بين الناس، والإلفة والمرحمة
﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ نطفاً في أصلاب آبائكم. والموت يطلق على السكون وعدم الحركة ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ في الأرحام، أو بالخروج إلى الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يبعثكم ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة؛ فيؤاخذكم بما فعلتم و
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ لخدمتكم ومصلحتكم: لقد سخر تعالى لكم الحيوان والطير، والنبات والجماد، والماء والهواء؛ بغير حول لكم ولا قوة فانظر أيها المؤمن إلى تذليل الله تعالى للحيوان، وخضوعه واستكانته لبني الإنسان: فترى البعير الكبير، وقد انقاد للطفل الصغير وكيف أن الفيل - رغم قوته وضخامته - ينقاد لبني الإنسان، ويكون له مطية في كثير من الأحيان، ومعواناً له في الرحال، وحمل الأثقال. وانظر إلى الطير، وكيف يرحل من مواطنه، ويسير آلاف الأميال؛ حتى يرتمي بين فكيك، وينسحق تحت ماضغيك، وانظر إلى الثمار والنبات: كيف ترمي البذرة فتنتج لك الجنات، وتلقي بالحبة فتنبت لك الأقوات. وانظر أيضاً إلى الجماد: فقد علمك المعلم على الاستفادة به في شتى الحالات. وكذلك الماء: فقد ساقه الله تعالى لك سلسلاً؛ تستقى منه وتسقي ما تشاء من العجماوات. والهواء: وقد أجراه الله تعالى لك؛ ليحييك ويكفيك صنوف البلاء
ولو شاء ربك لقلب هذه النعم نقماً، وجعل الداء مكان الدواء؛ لأنه تعالى وحده خالق الخلق الفاعل لما يشاء ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ وجه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ خلقهن مستويات؛ لا عوج فيها، ولا خلل، ولا خطأ «لا ترى في خلق الرحمن من تفاوت»
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يخلفني في تنفيذ أحكامي، والقيام بأوامري؛ وهو آدم أبو البشر عليه السلام. ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ وهذا يدل على وجود الأرض قبل آدم، وسكناها بأمم قبل بني آدم؛ كان دأبها الإفساد في الأرض وسفك الدماء. أو كان قول الملائكة استفهاماً عن الحكمة الداعية لذلك الخلق؛ وقد كانوا عليهم السلام ملء الأرض والسموات، وقد رأوا في اللوح المحفوظ فساد بني الإنسان،
-[٨]- وشهوته إلى سفك الدماء وها هو الجنس الآدمي قد حقق ظن الملائكة فيه؛ فملأ الأرض فساداً وإفساداً، وأراق الدماء بحاراً وأنهاراً، وعصى خالقه ورازقه جهاراً، وكفر بموجده ومربيه نهاراً؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله العلي العظيم هذا ولم يكن سؤال الملائكة عليهم السلام اعتراضاً على فعله تعالى، أو مخالفة لأمره؛ فحاشا أن يعترض على الله تعالى أعلمهم به، وأخوفهم منه، وأتقاهم له ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ ننزهك عن كل نقص، ونحمدك على نعمائك ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي نعظمك، أو نطهر أنفسنا لعبادتك. ومعنى تقدس: تطهر
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ أي ألهمه معرفة كل شيء يحتاج إليه. وسمى «آدم» لخلقته من أديم الأرض؛ وهو ما على وجهها من تراب. وزعم بعضهم: أن آدم وإبليس ليسا على حقيقتهما؛ وإنما هما رمزان لا أصل لهما؛ يمثلان الشر والمعصية. وهو قول بادي البطلان؛ يدفعه صريح القرآن ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ﴾ أي عرض المسميات لا الأسماء؛ بدليل قوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ﴾ المسميات؛ ليريهم أنه تعالى قد وهب لآدم من المعرفة ما لم يهبه لهم، وليريهم آيته في حكمة خلق الإنسان وخلافته في الأرض.
هذا وقد أضفى تعالى على نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه علوم الأولين والآخرين؛ ليجعله رحمة للعالمين؛ ولله در البوصيري حيث يقول في همزيته:
لك ذات العلوم من عالم الغيـ
ـب ومنها لآدم الأسماء
﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ﴾ تنزهت وتعاليت (انظر آية ١ من سورة الإسراء).
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ﴾ أمرهم الله تعالى بالسجود ابتلاء لهم واختباراً؛ وهو سجود لقدرة الله تعالى وإبداعه، ولا وجه لمن قال: إن سجودهم كان بالانحناء فحسب؛ على سبيل التحية؛ بل كان سجوداً حقيقياً كسجود الصلاة؛ يدل عليه قول الحكيم العليم: ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ ﴿فَسَجَدُواْ﴾ أي سجد الملائكة جميعاً، وسائر العقلاء من المخلوقات ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى﴾ رفض السجود المأمور به. و: «إبليس»: أبو الجن؛ وليس من الملائكة كما زعموا. وسمى بإبليس: ليأسه من رحمة الله تعالى وتحيره؛ لأن معنى أبلس: يئس وتحير ﴿رَغَداً﴾ الرغد: طيب العيش وسعته ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ هي شجرة أيّ شجرة نهيا عن الأكل منها امتحاناً لهما، واختباراً لعزمهما. وقيل: إنها الحنطة، أو العنب، أو التفاح ﴿فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ يؤخذ من ذلك أن هناك خلقاً قبل آدم عليه السلام، وأن ظالماً وظلماً قد كان في الأرض قبله
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ أوقعهما في الزلة. وقرىء «فأزالهما» أي عن النعيم الذي كانا فيه ﴿اهْبِطُواْ﴾ انزلوا.
-[٩]- والمعنى: تحولوا من الجنة العالية، إلى الأرض السافلة، ومن النعيم، إلى البؤس والشقاء ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ بني الإنسان، وبني الشيطان، أو بعض بني الإنسان عدو لبعض ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتع ﴿إِلَى حِينٍ﴾ وهو انقضاء الأجل
﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ﴾ ألهم، أو أوحى إليه ﴿كَلِمَاتٍ﴾ هي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ ربه: قبل توبته، وغفر له
﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً﴾
المراد آدم وحواء؛ تؤيده قراءة من قرأ ﴿اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ وقوله تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ وقد خوطبا بلفظ الجمع: لأنهما أصل لبني الإنسان، أو على مذهب من يقول: إن أقل الجمع اثنان وقد يكون المقصود بالخطاب: آدم وحواء وإبليس ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ كتاب أو رسول
﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ خطاب لليهود. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام. وخص بني إسرائيل بالذكر؛ لأنهم أوفر الأمم نعمة، وأشدهم كفراً، وأكثرهم فساداً وعناداً ﴿اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أنجاهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا طغياناً وكفراً، وبغياً وعتواً ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي﴾ الذي عهدته إليكم في التوراة؛ بالإيمان بمحمد عند بعثته. أو أوفوا بما عاهدتكم عليه؛ من تبليغ ما أنزل إليكم، وتبيينه للناس: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ الذي قطعته على نفسي؛ وهو إثابتكم على ذلك بالثواب والأجر ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ فخافوني وأطيعوا أمري
﴿وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ﴾ من القرآن ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة؛ وفيها ذكر الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته ﴿وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي بالقرآن، أو بالرسول ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لا تبيعوا دينكم بدنياكم وأخراكم بأولاكم
﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ﴾ لا تخلطوا ﴿الْحَقِّ﴾ الإيمان ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ بالكفر الذي تفترونه
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ البر: الاتساع في الخير ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فلا تأتمرون بما به تأمرون. قيل: نزلت في أحبار اليهود، كانوا ينصحون سراً باتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام، ولا يتبعونه؛ طمعاً فيما يصل إلى أيديهم من الصلات والهبات والهدايا
﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ التوراة؛ وفيها ذكر الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأبناء رسالته
﴿وَاسْتَعِينُواْ﴾ على الأمور الشاقة، والشهوات الموبقة ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على الطاعات، وعن الملذات ﴿والصَّلاَةِ﴾ التي هي مناجاة لرب العالمين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ ثقيلة شاقة
-[١٠]- ﴿إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ الذين يستغرقون في مناجاة ربهم
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يوقنون ﴿أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ فيجازيهم على طاعتهم وإخلاصهم
﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً﴾ خافوا يوم القيامة ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ بدل أو فدية
﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يظلمونكم أشد الظلم؛ من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ يتركونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء ﴿بَلاءٌ﴾ بلية ومحنة
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا﴾ فصلنا وفلقنا
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ وذلك لما دخل بنو إسرائيل مصر - بعد هلاك فرعون - ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه: وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه كتاباً «التوراة» وضرب له ميقاتاً: ﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ عبدتموه؛ وهو العجل الذي صنعه لهم السامري من حليهم؛ وكان الشيطان يدخل في جوفه ويخور كما يخور العجل قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾ وقيل: صنعه بحيث إذا تعرض للهواء: أصدر صوتاً يشبه خوار العجل
﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ الذي يفرق بين الحق والباطل ﴿بَارِئِكُمْ﴾ خالقكم
﴿فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي ليقتل البريء منكم المذنب؛ ولا يتستر عليه لقرابته، أو لمحبته. وقيل: كانت التوبة عندهم أن يقتل التائب نفسه إثباتاً لصدق توبته. أو المراد بقتل النفس: كبح جماحها، وقتل شهواتها، والحيلولة دون سطوتها وتسلطها، وتمردها على الحق؛ ويكفي في التوبة: الإقلاع عن المعصية، ورد المظالم، واجتناب المحارم ﴿الصَّاعِقَةُ﴾ نار تنزل من السماء؛ ذات أصوات
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ أي من بعد أخذ الصاعقة لكم، ومعاينة أسباب الموت وموجباته.
ولعل المراد بالبعث هنا: من خلفهم من ذراريهم وأبنائهم
﴿الْغَمَامِ﴾ السحاب ﴿الْمَنَّ﴾ طل ينزل من السماء وينعقد عسلاً. أو هو كل ما يمنّ الله تعالى به على الإنسان
-[١١]- ﴿وَالسَّلْوَى﴾ قيل إنه السمائي؛ الطائر المعروف. أو هو كل ما يتسلى به؛ من فاكهة ونقل، ونحوهما ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الرزق الحلال المبارك (انظر آيتي ١٧٢ من هذه السورة و٥٨ من الأعراف) ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ بكفرهم ومعاصيهم ﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بتعريضها للعذاب الأليم المقيم
﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ وهي بيت المقدس، أو أريحاً؛ وهي بلد بالشام ﴿رَغَداً﴾ الرغد: سعة العيش ﴿وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً﴾ أي حينما تدخلون باب هذه القرية: اسجدو الله تعالى؛ شاكرين فضله وأنعمه ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ مسألتنا حطة؛ أي نطلب حط الذنوب عنا. وهو كناية عن التوبة وطلب المغفرة
﴿رِجْزاً﴾ عذاباً ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ الفسق: الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق، وجادة الصواب
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ طلب لهم السقيا من الله تعالى ﴿فَقُلْنَا﴾ له ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ فضربه ﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ وذلك أنه لما اشتد العطش ببهي إسرائيل: طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو ربه ليرسل لهم الماء؛ فدعا الله تعالى؛ فقيل له: ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ فضربه ﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ تفيض بالماء؛ وذلك بعدد رؤساء الجند ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي قد علم كل فرقة من الجند عينهم التي يشربون منها ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ العثو: أشد الفساد
﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ وهو ﴿الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ﴿بَقْلِهَا﴾ البقل: ما تنبته الأرض من الخضر؛ كالفول والفاصوليا واللوبيا، والحمص وأمثالها؛ وهو ما ينبت في بزره لا في أصل ثابت ﴿وَفُومِهَا﴾ الفوم: الثوم. وقيل: الحنطة ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ أقل وأحقر ﴿اهْبِطُواْ مِصْراً﴾ المصر: العاصمة. أي اهبطوا مصراً من الأمصار، أو هي مصر نفسها ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ من البقل، والقثاء، والفوم، والعدس والبصل.
-[١٢]- ﴿وَضُرِبَتْ﴾ جعلت ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وصارت لزاماً لهم ﴿الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أعطاهم الله تعالى جميع ما سألوا، ووهبهم فوق الذي طلبوا؛ فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراناً؛ فسلبهم العزة، وألبسهم الذلة. وليس المراد بالمسكنة: الفقر نفسه؛ بل المراد لازمه؛ وهو الحقارة، وقلة الشأن، والصَّغار. ومصداق هذه الآية: اضطهاد العالم أجمع لليهود، وتشتيتهم في سائر الممالك؛ حيث لا وحدة تجمعهم، ولا رابطة تضمهم؛ اللهم سوى ما اغتصبه بعض الأفاقين من أرض فلسطين؛ وهو عائد إلى أربابه بإذن رب العالمين ﴿وَبَآءُوا﴾ رجعوا
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ب الله تعالى، وبرسوله محمد ﴿وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود. من هاد: إذا تاب ورجع إلى الحق، وهم قوم موسى عليه السلام ﴿وَالنَّصَارَى﴾ وهم قوم عيسى عليه السلام. قيل: سموا نصارى؛ لتناصرهم وتآلفهم على دينهم - وقت تسميتهم - وقيل: نصراني؛ نسبة إلى نصورية: بفتح النون، وضم الصاد، وكسر الراء وفتح الياء قرية بالشام ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ الخارجين من دين إلى آخر؛ من صبا: إذا مال. وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأنجم والكواكب. وقيل: هم قوم على ملة نوح عليه السلام؛ استمروا على إيمانهم به، فلم يقبلوا اتباع من أرسل بعده من الرسل ﴿مَنْ آمَنَ﴾ إيماناً حقيقياً كاملاً؛ من هؤلاء الذين آمنوا بمحمد، أو آمنوا بموسى، أو آمنوا بعيسى، أو آمنوا بنوح؛ من آمن منهم ﴿بِاللَّهِ﴾ وعظمته وقدرته ووحدانيته ﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ القيامة؛ وما فيها من عقوبة للعاصين، ومثوبة للطائعين ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ في دنياه؛ تقرباً إلى مولاه وذلك لأن الإيمان لا ينفع ولا يجدي؛ ما لم يكن مقروناً بالعمل الصالح ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي فلهؤلاء المذكورين جزاءهم على إيمانهم
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ العهد عليكم بالعمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الجبل. قيل: لما جاء موسى عليه السلام لبني إسرائيل بالصحف المنزلة عليه من ربه: أمرهم بالعمل بما فيها؛ فقالوا:
﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فرفع الله تعالى الجبل فوقهم؛ حتى صار كالظلة عليهم. فقال لهم موسى: إن لم تؤمنوا وقع عليكم وكنتم من الهالكين فآمنوا جميعاً ذعراً وخوفاً من الهلكة ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد ﴿وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ ائتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ بصيد السمك فيه؛ وقد نهيناهم عنه. والمقصود بالسبت: يوم السبت؛ ومعناه لغة: الراحة؛ لأنه يوم راحتهم؛ وكانوا قد أمروا بالتفرغ فيه للعبادة؛ فخالفوا ذلك، وخرجوا للاصطياد ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ أي كالقردة؛ في الخفة والحمق والفساد. أو مسخوا قردة على
-[١٣]- الحقيقة ﴿خَاسِئِينَ﴾ مطرودين
﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ أي جعلنا هذه العقوبة، أو هذه المسخة، أو هذه الآية ﴿نَكَالاً﴾ عبرة وعظة. يقال: نكل به تنكيلاً: إذا صنع به صنيعاً يحذر به غيره ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ أي لمعاصريهم ومن بعدهم، أو للسابقين واللاحقين
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ حين وجدوا قتيلاً من بينهم؛ ولم يعلموا قاتله فسألوه أن يدلهم عليه. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ وحكاية ذلك: أن رجلاً موسراً قتله بنو عمه ليرثوه، وطرحوه عند باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بديته؛ فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها؛ فيحيا ويخبرهم بقاتله. فضربوه بذنبها، فحي وقال: قتلني فلان وفلان - يريد ابني عمه - فاقتص منهما، وحرما ميراثه.
﴿فَارِضٌ﴾ طاعنة في السن ﴿عَوَانٌ﴾ وسط في السن ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ﴾
﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ شديد الصفرة
﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ أي لم تذلل للعمل ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ سالمة من العيوب ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ لا علامة
﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ أصلها: فتدارأتم؛ أي تدافعتم في الخصومة، وتستر بعضكم وراء بعض ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ﴾ مظهر ﴿مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ من الجريمة
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ أي اضربوا القتيل ببعض البقرة فيحيا، أو اضربوا القاتل ببعض جثة القتيل؛ وهذا يكون مدعاة لاعتراف القاتل ﴿كَذَلِكَ﴾ أي مثل إحياء القتيل أمامكم ﴿يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ يوم القيامة؛ فتقوم، وتجادل، وتحاسب، وتثاب، وتعاقب؛ وعلى القول الثاني وهو ضرب القاتل ببعض جثة المقتول ﴿يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ بظهور القاتل، والاقتصاص منه.
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أيها اليهود ﴿مِّن بَعْدِ ذلِكَ﴾ أي من بعد أن أظهر الله تعالى ما كتمتموه في أنفسكم من القتل، وبعد أن أراكم كيف يحيي الموتى؛ ومن حق القلوب التي ترى ذلك أن تخضع وتلين؛ ولكن قلوبكم ازدادت قسوة ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في الصلابة والجمود، وعدم الخشوع والفهم ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ من الحجارة.
-[١٤]- ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ إشارة إلى أن من الحجارة ما هو أرق من القلوب القاسية، وأرقى من القلوب الكافرة ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي وإن من الحجارة لما يخشع ويخضع خوفاً منالله؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ أي تؤمن لكم اليهود عن طريق النظر والاستدلال؟ وكيف يكون ذلك ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ أي من أسلافهم، ومن هم على شاكلتهم؛ وهم قوم موسى ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ في التوراة؛ ويعلمون تمام العلم أنه حق - بما ظهر لهم من الآيات المتتالية، والمعجزات المتوالية - ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ يغيرونه، ويبدلونه؛ متعمدين معاندين ﴿مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ فهموه بعقولهم
﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا﴾ بأنكم على الحق، وأن رسولكم هو المبشر به في التوراة ﴿وَإِذَا خَلاَ﴾ انفرد ورجع ﴿بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ﴾ أي قال الذين لم ينافقوا ولم يؤمنوا للذين نافقوا بقولهم «آمنا» قالوا لهم: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ عرفكم في التوراة من نعت محمد ﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ ليقيموا عليكم الحجة
﴿وَمِنْهُمْ﴾ أي من اليهود ﴿أُمِّيُّونَ﴾ لا يقرأون، ولا يكتبون ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ إلا أكاذيب. وقيل: «أماني»: قراءة. والمعنى: إنهم يقرأون بغير فهم، ولا علم، ولا تدبر
﴿فَوَيْلٌ﴾ الويل: حلول الشر، وشدة العذاب ﴿لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ مغيرين فيها ومبدلين؛ طبقاً لأهوائهم.
﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ ارتكب جرماً، أو المراد بالسيئة: الشرك ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي لم يخرج من معصيته بالتوبة، ومن كفره بالإيمان ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ لقد أمر الديان، للوالدين بالإحسان، في كل وقت وزمان، وفي كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله؛ فتدبر هذا أيها المؤمن، وتقرب إلى ربك بطاعتهما وبرهما (انظر آية ٢٣ من سورة الإسراء) ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي قولاً حسناً؛ وهو حث بليغ على طيب الأخلاق وحسن المعاملة. والقول الحسن: يجمع سائر الفضائل، وبه تنبعث المحبة من القلوب، وله تطمئن النفوس، وبه تختفي الإحن، وتذهب حزازات الصدور ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان، والعمل بهذه الوصايا النافعة في الدنيا والآخرة
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي أخذنا العهد عليكم؛ بأن أمرناكم وعقلتم ما أمرناكم به، أو أمرناكم بما يجب أن يطاع، وبما فيه مصلحتكم؛ فكان ذلك بمثابة العقد والعهد والميثاق ﴿لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ﴾ أي لا ترتكبون من الجرائم ما يوجب سفكها قصاصاً ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ أي أقر عقلكم بذلك واستصوبه
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي يقتل بعضكم بعضاً ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ تتعاونون ﴿بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ بالمعصية والظلم ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى﴾ أي تقبلوا إطلاقهم نظير أموال تدفع إليكم؛ وقد حرم عليكم أصلاً محاربتهم وإخراجهم من ديارهم ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ وبالتالي يحرم عليكم أخذ الفدية منهم؛ لأنهم إخوانكم ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
-[١٦]- الْكِتَابِ﴾
التوراة ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ لأن فيها حل المفاداة، وحرمة القتل والإخراج ﴿إِلاَّ خِزْيٌ﴾ فضيحة وهوان
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ﴾ أي اشتروا اللذة الفانية، والشهوة الزائلة؛ بالثواب الباقي، والنعيم السرمدي
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل عليه السلام
﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ مغشاة بأغطية
﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ القرآن الكريم ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ موافق لكتابهم ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ يستنصرون ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ المشركين - إذا قاتلوهم - ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد وصفه ونعته في كتابنا «التوراة» ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ﴾ أي ما عرفوه في كتبهم؛ من بعثتهصلى الله عليه وسلّم ﴿كَفَرُواْ بِهِ﴾ فلم يؤمنوا؛ وقد كان الأجدر بهم أن يؤمنوا بما عرفوا. (انظر آية ١٤ من سورة الشورى)
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي ساء ما اشتروا به أنفسهم، أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم ﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ﴾ على رسوله ﴿بَغْياً
-[١٧]- أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾
أي حسداً منهم: أن أنزل الله تعالى الكتاب على غيرهم ﴿فَبَآءُو﴾ رجعوا ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ غضب استوجبوه بسبب كفرهم بمحمد عند بعثته، وغضب استحقوه بسبب جحودهم نبوته، وزعمهم بأنه ليس هو المنعوت في كتابهم، وحسدهم لمن بعث فيهم
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على محمد؛ وهو القرآن الكريم ﴿قَالُواْ﴾ لا ﴿نُؤْمِنُ﴾ إلا ﴿بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ من التوراة والإنجيل ﴿وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ﴾ بما بعده، وبما عداه؛ وهو القرآن ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أي حال كون هذا القرآن - الذي يكفرون به - هو الحق، وهو مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل ﴿قُلْ﴾ فإن كنتم صادقين فيما تقولون، وأنكم بغير الذي أنزل عليكم لا تؤمنون ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام
﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾
المعجزات الظاهرات ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ عبدتموه ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ لأنفسكم بكفركم
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أخذنا العهد عليكم بأن تبينون الكتاب للناس ولا تكتمونه عنهم ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الجبل ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم﴾ من الأوامر والنواهي ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد وعزيمة: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا﴾ قولك: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك. أي قالوا بألسنتهم: «سمعنا» وعملوا بعكس ما يعمل السامع؛ كمن قال «عصينا» قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ عبر بذلك كناية عن تغلغل حب العجل في قلوبهم وعبادته كتغلغل الشراب
﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تقولون؛ من أن لكم الثواب في الآخرة، ولمن عداكم العقاب. وذلك لأن من تيقن أن النعيم أمامه: أسرع إليه، ومن تيقن أنه صائر إلى الجنة: اشتاق إلى ورودها؛ ليخلص من دار الآثام والآلام. ولكن قولهم ينافي فعلهم؛ إذ هم متمسكون بدنياهم، مفرطون في شؤون أخراهم
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
-[١٨]- عَلَى حَيَاةٍ﴾
لما تراه من خوفهم وجبنهم؛ شأن المنزعج على مصيره، الخائف من عاقبته ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾ في الدنيا؛ ما دام الموت له بالمرصاد، والجحيم معدة له يوم المعاد
﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ أي فإن جبريل الذي يعادونه: نزل القرآن على قلبك. وناهيك بمن نزل بالقرآن من الرحمن وقد نشأت عداوة اليهود لجبريل عليه السلام؛ حين علموا أنه ينزل بالعذاب والهلاك والدمار ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾
ما تقدمه من الكتب المنزلة
﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً﴾ وهو موثقهم في التوراة بتبيين أحكامها للناس، وعدم إخفاء شيء منها
﴿فَرِيقٌ﴾ طرحه وألقاه ﴿فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ وهم المنكرون لمحمد عليه الصلاة والسلام وبعثته، والقرآن ونزوله
﴿وَاتَّبَعُواْ﴾ أي اليهود ﴿مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ﴾ من كتب السحر والشعوذة ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي في زمنه وعهده، أو حول ملكه وسلطانه؛ وكانوا يذيعون أن ملكه كان قائماً على السحر ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ كما ادعت اليهود؛ حيث قالوا: إن محمداً يخلط الحق بالباطل، ويذكر أن سليمان نبي؛ مع أنه كان ساحراً يركب الريح، وتأتمر الجن بأوامره ﴿وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ﴾ بتعليمهم الناس السحر ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ بالوسوسة؛ ويحتمل أن يعني بالشياطين: شياطين الإنس والجن معاً ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى
-[١٩]- الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾
يحتمل أن يكون هناك ملكان حقيقة؛ أنزلهما الله تعالى لتعليم الناس السحر؛ لإظهار الفرق بين السحر والمعجزة؛ وليروا أن ملك سليمان، وما فيه من خوارق وعظمة وسلطان؛ لم يكن قائماً على سحر وتخيلات، بل على كرامات ومعجزات؛ وأنه عليه السلام لم يكن ساحراً ماكراً؛ بل كان رسولاً عظيماً، ونبياً كريماً؛ أمده الله تعالى بالملك الواسع، والغنى الجامع؛ تحقيقاً لرغبته، واستجابة لدعوته وإلا فأين السحر من تكليم الحيوان والحشرات والطير؟ وأين السحر من تسخير الهواء والماء، والجن والإنس؟ وقد ذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية؛ في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ وقوله جل شأنه: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ أي لم ينزل على الملكين شيء من السحر، ولم يعلماه أحداً؛ كما ادعت اليهود أن هناك ملكين أنزل عليهما السحر، وأنهما يعلمانه للناس، وكما ادعوا على سليمان؛ فكذبهم الله تعالى في ذلك. و «بابل» قرية بالعراق ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ اسمان للملكين المزعومين؛ كما اسمتهما اليهود. وقيل: إنهما رجلان تعلماه من الشياطين، وجعلا يعلمانه للناس. وقيل: إنهما قبيلتان من قبائل الجن. وعلى قراءة من قرأ «ملكين» يكون المراد بهما: داود وسليمان
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ أي إنما نحن ابتلاء من الله تعالى واختبار؛ فلا تكفر بتعلم السحر والعمل به ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ أي الناس ﴿مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهي الأشياء التي يعملها بعض الفجار؛ مما يؤدي إلى التفرقة بين الزوجين بواسطة بعض التخييلات. ويلاحظ أن الرأي القائل بأن «ما» نافية لا يستقيم مع باقي الآية. وقيل: إن أهل بابل كانوا يعبدون الكواكب - بصرف السحرة لهم عن الحق - فأنزل الله تعالى هذين الملكين ليفضحا حيل السحرة، وليظهرا أمر السحر للناس على حقيقته، ويعلموهم أن ما يسيطرون به عليهم ليس إلا نوعاً من التمويه والتخييل، وكان الملكان يعلمان الناس حيل السحرة، ويحذرانهم أن يفعلوا مثله، لأنه كفر وضلال، ويقولان لهم: إنما نحن امتحان لكم، فلا تكفروا بما نعلمكموه؛ فإنما نعلمكم للتحذير من الوقوع في مثله، ولتستطيعوا أن تفرقوا بين السحر والمعجزة، وبين الحق والباطل.
أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين: من أن هاروت وماروت: ملكان؛ عصيا الله تعالى وزنيا، وقتلا النفس، وشربا الخمر؛ فعذبهما الله تعالى بأن علقهما من شعورهما في بئر ببابل؛ فجعلا يعلمان الناس السحر. إلى آخر ما أوردوه من أقاصيص من وضع الدساسين والزنادقة واليهود؛ وهو كلام لا يجوز نسبته بحال إلى الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
-[٢٠]- عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾
وقال جل شأنه واصفاً طاعتهم: ﴿لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ﴿خَلاَقٍ﴾ نصيب
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ﴾ أي لكان ذلك ثواباً لهم
﴿رَاعِنَا﴾ راقبنا؛ وهي بلغة اليهود: كلمة سب؛ من الرعونة ﴿انْظُرْنَا﴾ انتظرنا
﴿مَا نَنسَخْ﴾ نبدل ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ من النسيان. وقرىء «أو ننسأها» أي نؤخرها ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ أي نأت بآية جديدة حاوية لحكم جديد، خير من الحكم المنسوخ. وقد ذهب كثير من العلماء والمفسرين إلى تقسيم المنسوخ إلى أقسام: منها ما نسخ حكمه ونسخت تلاوته، ومنها ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، ومنها ما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فإذا ما استساغ العقل منسوخ الحكم والتلاوة، ومنسوخ الحكم باقي التلاوة؛ فإن القسم الأخير لا يستساغ عقلاً؛ إذ كيف تنسخ التلاوة مع بقاء الحكم؟
ومن ذلك زعمهم أن القنوت في الصلاة من القرآن المنسوخ؛ في حين أن القنوت ورد بألفاظ شتى، وعبارات متباينة، وقد أخذ كل واحد من الأئمة بصيغة تخالف ما أخذه غيره.
كما زعموا أيضاً أن «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» من القرآن المنسوخ تلاوة الباقي حكماً.
هذا مع أن الرجم لم ينزل به قرآن البتة؛ بل هو عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وتشريع الرسول واجب حتماً كتشريع القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ وقوله جل شأنه: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ﴾ وقوله عز وجل: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾.
وأفحش هذه المزاعم: روايتهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان فيما يقرأ من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» وأن ذلك قد نسخ بقوله تعالى «خمس رضعات معلومات يحرمن» وأن النبي توفي وهي فيما يقرأ من القرآن. وأن الدواجن أكلتها بعد موت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه
وهذا الزعم يشهد بفساده وبطلانه: وعد القدير العظيم، بحفظ كتابه العزيز الكريم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ وقد حفظه تعالى من شياطين الإنس والجن؛ فكيف بالدواجن، وضعاف الطير؟ ﴿وَلِيُّ﴾ محب يلي أموركم
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ﴾ أي كما سأل قوم موسى موسى بقولهم: ﴿اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ وقوله: ﴿أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً﴾ ﴿سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ الطريق السوي
﴿حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ المراد بالحسد هنا: الأسف على الخير عند الغير (انظر آية ٥ من سورة الفلق)
-[٢١]- ﴿فَاعْفُواْ﴾ عنهم ﴿وَاصْفَحُواْ﴾ عن ذنوبهم ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بالقتال، أو بنمو الإسلام بزيادة بنيه وقدرتهم على دفع عدوهم ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾
أي تجدوا ثوابه وجزاءه ﴿هُوداً﴾ أي من اليهود
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ آمالهم، أو تلك أقوالهم التي يدعونها
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ أخلص نفسهلله، وصدق في عبادته ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ لنياته وأعماله ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدنيا ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة
﴿وَهُمْ﴾ أي اليهود والنصارى ﴿يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى؛ وفي التوراة: تصديق عيسى. وفي الإنجيل: تصديق موسى. وفي الكتابين: تصديق محمد. وفي القرآن: تصديق ما تقدمه من الكتب والرسل (انظر آية ١٥٧ من سورة الأعراف).
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ﴾ أي تعطيلها. ويدخل في ذلك: منع المصلين، وحبس المياه أو النور عن المساجد، أو تركها بغير إصلاح وتعمير؛ مع حاجتها إلى ذلك، والقدرة عليه. أو هو نهي عن ترك الصلاة وهجر المساجد ﴿خِزْيٌ﴾ فضيحة وهوان ﴿فَثَمَّ﴾ هناك
﴿وَاسِعٌ﴾ أي واسع الرحمة؛ يسع فضله كل شيء
﴿وَقَالُواْ﴾ أي النصارى ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً﴾ يعنون به المسيح عيسى ابن مريم ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهاً له عن الولد والوالد ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ خاضعون مطيعون. وهو إنكار لاتخاذ الله تعالى للولد بالدليل العقلي: لأن الإنسان لا يسعى للولد إلا رغبة في المساعدة والمعاونة؛ وكيف يحتاج تعالى لذلك و ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ومن فيهما: طائعين خاضعين
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مبدعهما ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو تقريب لأفهامنا؛ والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً كان؛ بغير افتقار للفظ «كن»
﴿لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ أي هلا يكلمنا الله ﴿أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ﴾ معجزة مما نقترحه. قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً﴾.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ بالقرآن ﴿بَشِيراً﴾ مبشراً من أطاع بالثواب والجنة ﴿وَنَذِيراً﴾ منذراً من عصى بالعقاب والنار ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ أي ولا نسألك عنهم: ما لهم لم يؤمنوا بعد أن أبلغتهم رسالة ربهم؟ ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ﴿وَلِيُّ﴾ محب يلي أمرك، ويهمه شأنك
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ من اليهود والنصارى؛ وآمنوا به إيماناً حقيقياً ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ يفهمونه حق فهمه ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي بمحمد، أو بالقرآن، أو بكتابهم الذي هداهم إلى معرفة محمد وكتابه
﴿عَدْلٌ﴾ بدل أو فدية
﴿ابْتَلَى﴾ اختبر وامتحن ﴿بِكَلِمَاتٍ﴾ أوامر ونواه ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ فأداهن أحسن تأدية، وقام بهن خير قيام ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ أي رئيساً لهم؛ يأتمون بك في الدين، ويقتدون بك في الأعمال ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ أي واجعل من ذريتي أيضاً أئمة يقتدى بهم ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ المراد بالظلم هنا: الكفر أي لا تصيب الإمامة الكافرين من ذريتك. ويصح أن يراد بالظلم: الظلم نفسه لا الكفر؛ إذ أن ولاية الظلمة والفسقة لا تجوز؛ وكيف تجوز ولاية الظالم، لكف المظالم؟
﴿مَثَابَةً﴾ مرجعاً؛ من ثاب: إذا رجع أو المعنى: موضع ثواب؛ يحجون إليه، فيثابون عليه ﴿وَأَمْناً﴾ يأمن من فيه على نفسه - في الجاهلية والإسلام - فقد كان الرجل يلقى فيه قاتل أبيه؛ فلا يستطيع أن يصعد النظر نحوه ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ
-[٢٣]- إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾
موضع صلاة. وهو أمر بركعتي الطواف. روى جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين؛ وقرأ: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾
ومقام إبراهيم: هو الحرم كله، أو الحجر الذي قام عليه عند البناء؛ وفيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر - حين قام عليه وأذن بالحج - وعن عمر رضي الله تعالى عنه: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر؛ فلو أمرتهن أن يحتجبن؛ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله نساؤه - في الغيرة - فقلت لهن: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ﴾ فنزلت كذلك: ﴿وَعَهِدْنَآ﴾ أوصينا وأمرنا ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ المقيمين
﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وقد أجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فحملت الثمار من سائر الأقطار إلى الحرم؛ قبل أن يتذوقها زارعوها وحاملوها؛ وقد تجد بين أيديهم فاكهة الصيف في الشتاء؛ وفاكهة الشتاء في الصيف؛ وقد رأيت بعيني رأسي أرقى ثمار العالم تحمل إليه بالطائرات عبر البحار والمحيطات، فعجبت - حيث لا عجب - لماذا يحمل كل ذلك لهذه البلدة الخاوية إلا من الدين، الخالية إلا من المؤمنين؟ فتذكرت دعوة إبراهيم، فتبارك السميع العليم ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ فقد كان دعاؤه عليه السلام قاصراً على من آمن منهم فحسب؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أي وسأرزق أيضاً من كفر ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ في الدنيا ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ ألجئه
﴿الْقَوَاعِدَ﴾ الأسس والجدر ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ أي قالا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ ما نفعل في سبيلك؛ من بناء بيتك، وإعلاء دينك لقولنا ودعائنا ﴿الْعَلِيمُ﴾ بإخلاصنا وصدق نياتنا
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ﴾ مخلصين ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ عرفنا عباداتنا ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾ أي اقبل توبتنا، ورجوعنا إليك، وإنابتنا لك وإذا كان هذا حال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وهما من كبار الأنبياء، وخيرة الأصفياء؛ فكيف بنا معشر العصاة الطغاة - وقد ارتكبنا ما ارتكبنا، وأتينا ما أتينا - فلم نتدبر المآب، ولم نفكر في المتاب؛ كأنما أخذنا عند الله عهداً بعدم العذاب، أو كأن ما فعلناه لا يستوجب العقاب
﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ أي من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ وهو خاتم الأنبياء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام. قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من الشرك، ومن دنس المعصية
﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ رغب عن الشيء:
-[٢٤]- لم يرده؛ ضد رغب فيه إذا أراده ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ حملها على السفه، أو أهلكها ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ اخترناه.
﴿أَسْلِمْ﴾ استسلم
﴿وَوَصَّى بِهَآ﴾ أي بالملة؛ وهي الإسلام ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي اختاره ورضيه ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ المعنى حافظوا على دينكم، وتقربوا إلى ربكم؛ حتى لا تموتن إلا وأنتم ثابتون على الإسلام
﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ مشاهدين وحاضرين ﴿مُّسْلِمُونَ﴾ مطيعون ومنقادون
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت وهو خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. أي إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذراريهم من المؤمنين ﴿أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ والأمة: الجماعة ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ أي عليها إثم ما اقترفت من الذنوب، وثواب ما عملت من الصالحات، وعليكم إثم ما جنيتم من الآثام، وأجر ما عملتم من الحسنات
﴿وَقَالُواْ﴾ أي اليهود والنصارى للمؤمنين ﴿كُونُواْ هُوداً﴾ يهود ﴿قُلْ﴾ لهم: لن أتحول عن ديني الذي هداني إليه ربي؛ ولن أكون يهودياً أو نصرانياً ﴿بَلْ مِلَّةَ﴾ أبي ﴿إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ مستقيماً ﴿وَمَا كَانَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بل كان عابداًلله قانتاً
﴿وَالأَسْبَاطَ﴾ حفدة يعقوب: ذراري أبنائه
﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ في خلاف ومعاداة
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ دينه
﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا﴾ أتجادلوننا ﴿وَلَنَآ أَعْمَالُنَا﴾ أي جزاء أعمالنا وثوابها ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ إثمها وعذابها ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ في الحب، والعبادة والإخلاص: لب كل خير، وأساس كل نفع؛ فبغيره لا يصل الإنسان إلى ربه، ولا يهنأ بقربه؛ فالدنيا كلها ظلمات إلا موضع العلم، والعلم كله هباء إلا موضع العمل، والعمل كله هباء، إلا موضع الإخلاص. والإخلاص لا يكون باللسان؛ بل بالجنان، ولا يكتسب بالركوع والسجود؛ بل بالاتجاه إلى الرب المعبود فاحرص - هديت وكفيت - على الإخلاص؛ فهو باب النجاة والخلاص
﴿وَالأَسْبَاطَ﴾ حفدة يعقوب عليه السلام: ذراري أبنائه ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ أخفاها ولم يبدها
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ جزاء ما عملت ﴿وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ جزاء ما عملتم ﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي ولا تؤاخذون بكفرهم وطغيانهم ﴿كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ﴾ الجهال منهم ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا يصلون نحوها؛ وقد كان المؤمنون - في بدء الإسلام - يصلون نحو بيت المقدس؛ حتى نزل قول العزيز الكريم:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي متوسطين بين الغلو والتفريط. ووسط كل شيء: أعدله. والطريقة الوسطى: المثلى. قال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ أي أعدلهم حكماً، وأصوبهم رأياً
-[٢٦]- ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ وهي بيت المقدس ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ فيما يذكره عن ربه؛ من تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ﴿مِمَّن يَنقَلِبُ﴾ يرجع ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي يعود إلى الكفر الذي كان فيه ﴿وَإِن كَانَتْ﴾ التولية عن القبلة ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ شاقة صعبة؛ لأن كل تغيير في أمر من الأمور - خاصة إذا كان هذا الأمر جديداً في أوله: كالإسلام، وكان هاماً: كقبلة الصلاة - فإنه يكون صعباً وشاقاً على النفوس
﴿إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ وفقهم للإيمان، وهداهم للتصديق ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم إلى القبلة الأولى. ولا يخفى ما في التعبير عن الصلاة بالإيمان: من تعظيم لشأنها، وإعلاء لقدرها؛ وأن من تمسك بأدائها، وحافظ على أوقاتها؛ فقد تمسك بالإيمان كله كيف لا وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر: ﴿اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهي فوق ذلك مذهبة الهموم، ومفرجة الكروب «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ جهته ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي ليعلمون أن تحويل القبلة هو الحق؛ لأنه معلوم عندهم، مدون في كتبهم
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ ﴿قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أي له الكون أجمع بسائر جهاته ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ من اليهود والنصارى ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ بكل معجزة يقترحونها، وبرهان يطلبونه ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ لإصرارهم على الكفر والعناد ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ علم الله تعالى أن رسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه ليس بتابع قبلتهم، ولا بمتبع أهواءهم؛ ولكنه خطاب موجه لسواد الأمة الإسلامية، ونهي لكل من يؤمن ب الله واليوم الآخر؛ عن اتباع الأشرار والفجار، واتخاذهم أولياء. وهو كنهي الملك لقائده، وتهديده أمام جنده؛ بقصد حثهم على الاستقامة؛ وتحفيزهم على الطاعة. وكل ما جاء في الكتاب الكريم من الآيات بهذا المعنى؛ فهو لهذا المرمى
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي يعرفون النبي. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ (انظر آية ١٥٧ من سورة الأعراف).
-[٢٧]- ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي ينكرون معرفة الرسول عليه الصلاة والسَّلام؛ الذي هو حق معروف ثابت في كتبهم ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكين
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي ولكلَ قبلة يتجه إليها. أو لكل فريق طريقه هو متبعها ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ أي حيث إن الله تعالى قادر على الإتيان بكم جميعاً، ومحاسبتكم عما ضيعتموه، ومعاقبتكم على ما اقترفتموه؛ فسابقوا إلى الخيرات والحسنات؛ ليحل الثواب مكان العقاب، والرحمة مكان النقمة، والنعيم مكان الجحيم
﴿شَطْرَهُ﴾ جهته ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ اليهود والنصارى والمشركين ﴿حُجَّةٌ﴾ يجادلونكم بها؛ وذلك لأن اليهود تعلم أن النبي المنعوت في التوراة تكون قبلته الكعبة لا بيت المقدس ﴿إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ من أهل الكتاب؛ الذين قالوا: ما تحول إلى الكعبة إلا رغبة في دين قومه؛ ويوشك أن يرجع إلى ملتهم
﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ يطهركم من الكفر والمعاصي ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي يعلمكم ما لا سبيل إلى علمه ومعرفته؛ إلا بالوحي الإلهي الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام بالطاعة
﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بثوابها، وبالتوفيق إلى أمثالها ﴿وَاشْكُرُواْ لِي﴾ ما أنعمت به عليكم.
والشكر قسمان: قسم بالأقوال، وقسم بالأفعال. والقول إن لم يصحبه فعل يدل على صدقه؛ فلا فائدة منه، ولا طائل وراءه. ورب شاكر باللسان ورب العزة عليه غضبان أما إذا صاحب القول الفعل؛ فقد ازداد الشاكر سعة ونعمة، ومن الله حباً وقرباً وشكر المال: إنفاقه في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، وإخراج زكاته. وشكر البصر: غضه عن المحارم. وشكر السمع: ألا يسمع به غيبة أو لغواً. وشكر القوة: نصرة المظلوم، والكف عن الأذى، وبذلها في الجهاد والدفاع عن الدين والوطن
﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ﴾ على قضاء حوائجكم الدنيوية والأخروية ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الأمور الشاقة ﴿والصَّلاَةِ﴾ وكيف لا يستعان بها؛ وهي مرضاة رب العالمين، ومناجاة أكرم الأكرمين؛ ومفرجة كرب المكروبين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ لنختبرنكم ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ﴾ من العدو ﴿وَالْجُوعِ﴾ القحط ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ﴾ بالفقر وتقدير الرزق ﴿وَالأَنفُسِ﴾ بالموت والأمراض ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ بالحوائج والآفات الزراعية بذلك لننظر أتصبرون أم تكفرون
﴿الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ﴾ ملكاً وخلقاً وعبيداً ﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ فيجزينا أجر ما أصابنا
عن النبي: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن الله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» وقد ورد عن أم المؤمنين أم سلمةرضي الله تعالى عنها؛ أنه لما توفي زوجها أبو سلمة رضي الله تعالى عنه: قالت - في نفسها ـ: ومن خير من أبي سلمة؟ رجل شهد المشاهد مع رسولالله، وفاز بصحبته، وحظي بمحبته؛ ولكنها استرجعت، ودعت الله كما جاء في الحديث: فخطبها رسولالله؛ فكان نعم الخلف وعنه أيضاً «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه»
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ الصلاة من الله تعالى: المغفرة
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ هما جبلان بمكة شرفها الله تعالى ﴿مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ﴾ أعلام مناسكه ﴿اعْتَمَرَ﴾ زار ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ لا حرج، ولا إثم عليه ﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي بالصفا والمروة؛ بأن يسعى بينهما سبعاً ﴿وَمَن تَطَوَّعَ﴾ زاد على ذلك ﴿خَيْراً﴾ أي بخير؛ بأن أراد زيادة التقرب إلى الله تعالى بالنوافل ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ﴾ له ما زاد، مجاز عليه ﴿عَلِيمٌ﴾ بظواهره وسرائره
﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أغفر لهم ﴿يُنْظَرُونَ﴾ يمهلون ويؤجلون
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ وما فيها من كواكب وأنجم، وأفلاك وأملاك في خلق ﴿الأرْضِ﴾ وما فيها من مخلوقات ونباتات، وأشجار وأنهار في ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي﴾ بالذهاب والمجيء، والزيادة والنقصان في ﴿الْفُلْكِ﴾ السفن ﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ بأمر الله تعالى ونعمته ﴿بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ من التجارات، والانتقال بواسطتها من بلد إلى آخر ﴿وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ بعد جدبها ﴿وَبَثَّ﴾ فرق ونشر ﴿فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ وهي كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان ونحوهما في ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تقليبها جنوباً وشمالاً، باردة وحارة؛ بما ينفع الناس والمخلوقات، والزرع والضرع في ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ بأمر الله تعالى وقدرته ﴿بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ﴾ إن في جميع ذلك ﴿لآيَاتٍ﴾ دلالات واضحات على وحدانية القادر الحكيم ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يتدبرون هذه الآيات، ويفهمون هذه الدلالات
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أي ممن لا يعقلون، ولا يفهمون، ولا يتدبرون ﴿مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿أَندَاداً﴾ شركاء وأمثالاً ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ ولو يعلم ﴿الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أنفسهم بالكفر واتخاذ الأنداد ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ يوم القيامة؛ وقد كانوا يكذبون به في الدنيا ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ والقدرة والبطش ﴿للَّهِ جَمِيعاً﴾ له وحده؛ لا للأنداد التي كانوا يعبدونها
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
-[٣٠]- اتُّبِعُواْ﴾
أي تبرأ الأنداد التي كانوا يعبدونها، والكهان والرهبان الذين كانوا يطيعونهم، والسادة والرؤساء الذين كانوا يتبعونهم، وكل من دعا إلى عبادة غير الله تعالى؛ يتبرأ هؤلاء جميعاً ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾ أي الذين اتبعوهم على الكفر؛ وهم فقراء الكفار والمشركين وأراذلهم. يقول السادة والرؤساء يومئذٍ: لا نعرفهم، ولم نقل لهم: اعبدونا أو اتبعونا ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ أي أسباب المودة؛ من قرابة وصداقة ولم يبق لهم نصراء
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أي من رؤساء الأديان؛ الذين دعونا للكفر في الدنيا، وتبرأوا منا في الآخرة
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي لا تطيعوا وسوسته لكم بترك الحسنات، وفعل السيئات.
ويدخل في ذلك شياطين الإنس أيضاً؛ فمنهم من هو أشد فتكاً، وأبلغ نكاية من شياطين الجن (انظر آية ١١٢ من سورة الأنعام)
﴿مَآ أَلْفَيْنَا﴾ ما وجدنا ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي أولو كان آباؤهم جهالاً؛ لا يفقهون، ومجانين لا يعون؛ فهم لهم متبعون؟ فمثلهم
﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يصيح ﴿بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ أي صوتاً يسمعه ولا يفهم معناه؛ كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهمه ﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الحق ﴿بِكُمُ﴾ عن النطق به ﴿عُمْيٌ﴾ عن رؤيته
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي من الرزق الحلال؛ ومتى كان الأكل حلالاً: كان العمل صالحاً ومتقبلاً وإذا شاب الحرام الرزق أو أحاطت به شبهات الكسب: فترت الهمة، ووهنت العزيمة؛ ولم يتقبل الله تعالى من عبده العبادات والطاعات، وردت عليه دعوته؛ واكتنفه الذل مع عزته، والفقر مع غناه، وخسر دنياه وأخراه؛ فليحذر المؤمن الشبهات في سائر الحالات؛ خاصة في طعامه وشرابه (انظر آية ٥٨ من سورة الأعراف) ﴿وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فالشكر من لوازم العبادة؛ وغير الشاكر: لا يكون عابداً، ولو ظل طول دهره ساجداً. (انظر آية ١٥٢ من هذه السورة)
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ المسفوح ﴿وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ﴾ نهانا تعالى عن لحم الخنزير؛ لما فيه من شر وضر؛ فقد ثبت أنه يحمل ميكروبات شتى تسبب أمراضاً يعسر شفاؤها ويعز دواؤها
وهذه الآية من أهم ما حرص عليه الطب الوقائي: ففي الميتة ملايين الميكروبات التعفنية والرمية، كما أن الدم هو حامل الميكروب إلى سائر الجسم؛ وقد لجأ الطب أخيراً - حينما اكتشف ذلك - إلى تحليل جزء منه فيتضح له كل ما في الجسم من أمراض؛ وهو في هذه الحال من أسرع وسائل العدوى، ولحم الخنزير: مباءة لكثير من الميكروبات، وهو العائل الأصلي للدودة الشريطية
-[٣١]- ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ أي ما ذبح للأصنام، أو ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من ذلك المحرم؛ بسبب مجاعة مهلكة أشرف فيها على التلف؛ فله أن يأكل على ألا يتناول منه سوى القدر الذي يحفظ عليه حياته ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على أحد؛ كأن يختطف ما يسد رمقه من إنسان آخر؛ ليس له ما يسد رمقه سوى ما اختطفه منه. أو «غير باغ» على جماعة المسلمين وخارج عليهم ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ معتد عليهم بقطع الطريق؛ فألجأه ذلك إلى الجوع المهلك المتلف؛ فليس له أن يستمتع بهذه الرخصة
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهم اليهود والنصارى؛ كتموا نعت محمد عليه الصَّلاة والسلام؛ وهو موصوف عندهم في التوراة والإنجيل ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ أي بذلك الكتمان ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ هو ما يأخذه أحبارهم ورهبانهم ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾ لا يطهرهم. والمعنى: لا يغفر لهم
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ﴾ الكفر والمعصية ﴿بِالْهُدَى﴾ بالإيمان والطاعة ﴿وَالْعَذَابَ﴾ الذي ينالهم؛ عقوبة على ضلالهم وكفرهم ﴿بِالْمَغْفِرَةِ﴾ التي تنال المؤمنين المهتدين؛ جزاء إيمانهم وطاعتهم
ومن عجب أن ينصرف كثير من الناس عن إرضاء مولاهم؛ إلى الحرص على دنياهم وينصرف آخرون إلى إرضاء المخلوقين، وإغضاب رب العالمين؛ قال الشاعر:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
وللمشتري دنياه بالدين: أعجب
وأعجب من هذين: من باع دينه
بدنيا سواه: فهو من ذين أخيب
﴿شِقَاقٍ﴾ خصام وجدال وخلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ كبير
﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ في الصلاة ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ ب الله إيماناً حقيقياً ﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ أي وآمن بالقيامة وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب ﴿وَالْكِتَابِ﴾ أي وآمن بالكتاب؛ وهو اسم جنس. أي آمن بسائر الكتب المنزلة ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ أعطاه وبذله ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ أي رغم حبه للمال، وحاجته إليه، وافتقاره له؛ لأن مقتضى الحب: الحاجة إلى المحبوب، والتشوق إليه. وقيل: في سبيل حبه تعالى، ورغبة في إرضائه جل شأنه
والمراد: أن يعطي المال وهو طيب النفس بإعطائه (انظر آية ٣٢ من سورة الزخرف) ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ المسافر المنقطع ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي إعتاق العبيد، وفك الأسرى. والرق معروف - من أقدم العصور - قبل الإسلام؛ فقد عرف في مصر الفرعونية، وفي دولة آشور، ودول فارس، والدولة الرومانية والبيزنطية؛ ولم يكن الإسلام مؤسساً للرق وموجداً له - كما يزعم الكثيرون - بل كان داعياً إلى التخلص منه والقضاء عليه؛ لما يكتنفه من المباهاة والمفاخرة وإذلال الغير. وحين بزغ قمر السلام، ولاح فجر الإسلام، وسطعت
-[٣٢]- أنوار الحرية: سعى الدين إلى رفع الذل والعبودية عن الأرقاء؛ فجعل من العتق قربة إلى الله تعالى ومنجاة من العذاب، وكفارة من الإثم فدعا بذلك إلى حرية الجنس الإنساني، وقدسية الآدمية (انظر آية ٩٢ من سورة النساء). ﴿الْبَأْسَآءِ﴾ الفقر ﴿والضَّرَّاءِ﴾ المرض ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ وقت اشتداد القتال
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ﴾ فرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ وهو الأخذ بالمثل في العقوبة: كقتل القاتل ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ فلا يقتل حر بعبد ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ ويقتل بالحر أيضاً ﴿وَالأُنثَى بِالأُنْثَى﴾ وتقتل بالذكر، كما يقتل الذكر بها. و «القصاص»: يقتضي المماثلة في الدين؛ فلا يقتل مسلم - ولو عبداً - بكافر - ولو كان حراً - ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ أي ولي المقتول؛ بأن ترك المطالبة بالقصاص واكتفى بالدية ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي حيث إن ولي المقتول عفى عن قتل القاتل، وقبل الدية منه فليتبع ذلك بالمعروف، وليؤد إليه الدية بإحسان من غير مطل ولا ضرار ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ﴾ بأن جاوز هذا الشرط؛ كأن لم يدفع القاتل الدية كاملة لولي المقتول، أو أن يقتل ولي المقتول القاتل بعد قبوله الدية
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الأَلْبَابِ﴾ إقرأ هذه الآية - أيها المنصف الحكيم - وكرر قراءتها، وتبين معانيها ومراميها، وتفهمها جلياً، وتأملها ملياً؛ وانظر إلى بلاغة القرآن وإيجاز القرآن وإعجازه: يقول الله تعالى: إن لكم في الموت حياة. لأن القصاص: هو القتل ولنا في هذا القتل حياة
ولو لم يكن القصاص: لما بقي على ظهرها إنسان: إن النفوس التي جبلت على الشر، وروضت عليه لو علمت أنه لا يوجد حاكم يحكمها، ولا رادع يردعها، ولا ولي يأخذ لضعيفها من قويها، ولفقيرها من غنيها؛ لقتل الأشرار الأخيار، وأكل الناس بعضهم بعضاً وقد صدقالله: فإن لنا في القصاص لحياة وأي حياة
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ فرض عليكم ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي حضرت أسبابه، وأحس المريض بدنو أجله ولم يبق له سوى صالح عمله ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ أي مالاً كثيراً ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ الذين لا يرثونه ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي أذن فيه الله تعالى وأجازه في الوصية؛ مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد فيه ظلم ورثته. وقيل: إن هذه الآية نسخت بآية المواريث في سورة النساء
﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ أي غير الإيصاء - من الورثة، أو الشهود - عن وجهه الذي أراده الموصي ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ إثم هذا التبديل ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ لا على الموصي؛ الذي أبرأ ذمته، وأرضى ربه
﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً﴾ جوراً وميلاً عن الحق ﴿أَوْ إِثْماً﴾ بألا يوصي لوالديه؛ بغضاً لهما، أو لا يوصي للأقربين؛ مع فقرهم وحاجتهم، أو يوصي بأكثر مما أجازه الله تعالى
-[٣٣]- في الوصية؛ متعمداً لحوق الضرر بالورثة ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ بين الموصي وورثته، أو بينه وبين من تجب عليه الوصية لهم
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ﴾ فرض ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فقد كان الصوم مفروضاً على من تقدمنا من الأمم ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ بسبب هذا الصيام ﴿تَتَّقُونَ﴾ الله تعالى، وتخشون غضبه، وتعملون بأوامره؛ ومن هذا يعلم أن الصيام يبعث على الإيمان الصادق، ويرقق القلب، ويصفي النفس، ويعين على خشية الله تعالى؛ ولذا استعان به الأنبياء في تحقيق مآربهم، والأولياء في تهذيب نفوسهم، والخاصة في شفاء قلوبهم، والعامة في شفاء جسومهم
﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ أي قلائل ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ يتحملونه بجهد ومشقة؛ وهو رخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده (انظر آية ٢٢٦ من هذه السورة) ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ زاد في الإطعام، أو زاد في الصيام؛ تطوعاً منه فوق ما فرض عليه من الإطعام والصيام ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ وفي هذا ما فيه من الحث على الإطعام، والترغيب في الصيام. ومنه يعلم ما في الصيام من فوائد جمة لا تدركها العقول؛ فإنه فضلاً عن كونه مرضات للرب، ومطهرة للنفس؛ فقد ثبت أنه علاج ناجع لكثير من الأمراض المستعصية؛ وقد يكون العلاج الوحيد لضغط الدم، وقد أجمع الأطباء على فائدته الكبيرة لمرضى السكر؛ يدل على ما تقدم قوله تعالى ﴿وَأَن تَصُومُواْ﴾ حال المرض والسفر ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما فيه مصالحكم
﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى﴾ آيات الكتاب الكريم ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ الذي يفرق بين الحق والباطل ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ أي حضره؛ ولم يكن مسافراً، ولا مريضاً ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ وليس معنى الشهود: الرؤية والمشاهدة ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ﴾ أي عدة الشهر؛ ليتساوى صائم الشهر كاملاً، مع من قضى ما فاته لعذر
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أين ربنا؟ وهل يسمع لدعائنا، ويستجيب لندائنا؟ ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ منهم؛ أسمع نجواهم وشكواهم، و ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ ورب قائل يقول: إنني أسأله في كل يوم فلا يعطيني، وأناديه في كل ساعة فلا يجيبني. والجواب على هذا القائل: إنك أيها السائل لم تسأل ربك بل امتحنته، ولم تناده بل سخرت منه؛ ولو أنك ناديته بحق لأجابك، وسألته بصدق لاستجاب لك
إن من شرائط السؤال - أيها الممتحن لربه، الساخر بقدرته - أن تتيقن بإجابته تيقنك بوجودك، وأن تثق بما عنده وثوقك بنفسك: تسأل صديقك - الذليل الحقير الضعيف الفقير - أن يعطيك شيئاً؛ وأنت على تمام الوثوق، ومزيد اليقين بإجابة سؤالك، وتدعو ربك - المعطي المانع، الضار النافع - أن يهبك أحقر الأشياء؛ وأنت من الإجابة آيس، ومن عطائه قانط فما ترجوه بعد هذا الكفران؟ تؤمن
-[٣٤]- بصديقك أكثر ما تؤمن بربك، وترجو إجابة سؤالك ودعائك؛ هيهات هيهات أن يجاب لك؛ قبل أن تحسن ظنك به، وتثق بما عنده، وتعبده كأنك تراه، وتخشاه كأنه يراك (انظر آية ٦٠ من سورة غافر) ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ إذا دعوتهم لما يصلحهم وينجيهم؛ لأجيبهم فيما يطلبونه مني
ومن هذا يعلم أن الإيمان والعمل الصالح: شرط في قبول الدعاء ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ يصيبون الرشد والسداد، ويوفقون لما يجعلهم مجابي الدعاء، عظيمي الرجاء
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ أي كل ليلة صيام؛ لا الليلة الأولى من رمضان؛ كما يتوهمه بعض العامة ﴿الرَّفَثُ﴾ الجماع ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ أي كلاكما ستر للآخر عن الحرام، أو شبههما تعالى باللباس: لاعتناقهما، واشتمال كل واحد منهما على صاحبه، أو هو بيان لسبب الإحلال: فإن الذي بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة: قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذا رخص لكم في مباشرتهن ﴿تَخْتانُونَ﴾ أن تخونون ﴿أَنْفُسُكُمْ﴾ وتظلمونها بالجماع، أو تنقصونها حظها من الثواب ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ غفر ما سلف منكم ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ بإحلال ما كان محظوراً عليكم ﴿أَلَّن﴾ بعد الإحلال ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ جامعوهن ﴿الْخَيْطُ الأَبْيَضُ﴾ الفجر ﴿مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ الليل ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ لا تجامعوهن ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ مقيمون ومعتكفون ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ للتعبد والصلاة
﴿وَتُدْلُواْ﴾ تلقوا ﴿بِهَآ﴾ بالأموال ﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾ على سبيل الرشوة. وهذا مشاهد؛ يفعله بعض ضعافي النفوس عديمو الضمائر: فيرشون أمثالهم - ممن لا خلاق لهم - ليقتطعوا بذلك مال إخوانهم ﴿بِالإِثْمِ﴾ بالباطل والظلم فليحذر هذا وليتجنبه من يؤمن ب الله ويخشاه، وليخف يوماً إذا طولب فيه بالوفاء: عجز عن الأداء
﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ هو كناية عن وجوب مباشرة الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها.
وقيل: كانوا يأتون بيوتهم - في الإحرام - من نقب ينقبونه في ظهرها؛ زاعمين أن ذلك من البر
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي قاتلوا الذين يبدأونكم بالقتال، أو قاتلوا الرجال الذين يقاتلونكم فحسب؛ ولا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ بالابتداء بالقتال، أو بقتال الذين لم يقاتلوكم
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ حيث وجدتموهم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ﴾ والمراد بذلك المشركين ﴿مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي من مكة؛ لأنهم أخرجوا المسلمين منها ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ «الفتنة»: عذاب القيامة، أو الإخراج من مكة، أو الشرك
﴿فَإِنِ انتَهَوْاْ﴾ عن الشرك ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لهم ما تقدم من كفرهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم؛ فلا يعذبهم بما فعلوه حال كفرهم. والإيمان يجبُّ ما قبله
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ لا يكون شرك، ولا يكون إيذاء ﴿فَإِنِ انتَهَوْاْ﴾ عن الشرك والقتال ﴿فَلاَ عُدْوَانَ﴾ أي لا يصح القتال والاعتداء ﴿إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين؛ وقد انتهوا عن القتال وأسلموا
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ في الحرمة والتقديس والأمن وعدم القتال ﴿بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي مقابلاً له. والأشهر الحرام: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. فإذا قاتلكم المشركون في شهر منها؛ فلا تضعوا أيديكم على صدوركم، وتتحرجوا من قتالهم في مثلها وتقولوا: لا نقاتل في الأشهر الحرم؛ فقد حرم الله تعالى فيها القتال والاعتداء. بل قاتلوهم فيها كما قاتلوكم ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ فكما انتهكوا حرمة الأشهر الحرم؛ جاز لكم أن تقتصوا بمثلها. يؤكده قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ في الأشهر الحرم ﴿فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ فيها. وليس معنى ذلك: أن من يقتل ولدي أقتل ولده، ومن يسمم بهيمتي أسمم بهيمته؛ إذ ما ذنب الولد حتى يعاقب بما جناه أبوه وما ذنب البهيمة حتى تعاقب بما جناه صاحبها؟ بل يجب أن تقع المماثلة في العقاب على نفس المجرم جزاء ما جنت يداه
﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، والاستعداد للجهاد؛ فيقوى عدوكم، وتضمحل قوتكم وفي هذا ما فيه من الذل المؤبد، والهلاك المحقق. وقيل: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» بأن تعرضوها للموت المحتم، أو بإنفاق سائر مالكم فتعرضون أنفسكم وعيالكم للفقر والتلف والضياع ﴿وَأَحْسِنُواْ﴾ الظن ب الله تعالى في النصر والإخلاف أو أحسنوا أعمالكم ونياتكم
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أي حوصرتم من الأعداء، ومنعتم من الحج ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ما تيسر منه. و «الهدي» الإبل المهداة للحرم
-[٣٦]- ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ مرضاً يضطره إلى ترك شيء من المناسك ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ﴾ كبثور، أو قمل، أو نحوهما؛ مما يلجئه إلى حلق رأسه وهو محرم ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ﴾ يصوم ثلاثة أيام ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ يتصدق بها؛ وهي ثلاثة آصع. والصاع: أربع أمداد. والمد: ملء كف الرجل المعتدل ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ ذبح شاة.
عن هادي الأمة صلوات الله تعالى وسلامه عليه، أنه قال لكعببن عجرة: «لعلك آذاك هوامك؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين، أو أنسك شاة» والفرق: ثلاثة آصع ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ الإحصار وكنتم في حال سعة وأمن ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ حل من إحرامه، واستباح ما كان محظوراً عليه ﴿بِالْعُمْرَةِ﴾ وفاته الحج بسبب إحصاره.
والعمرة: زيارة البيت الحرام؛ مع الطواف والسعي بالإحرام ﴿إِلَى﴾ وقت ﴿الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي فعليه دم بسبب تمتعه بمحظورات الإحرام ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي من الحج ﴿ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي لم يكن من مستوطني مكة
﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ الرفث: الجماع، أو الفحش في القول ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾ الفسوق: الفجور، والترك لأمر الله تعالى ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ أي لا مجادلة، ولا مخاصمة أثناء الحج. وذلك لأن الحج عبادة روحية تستدعي الصفاء وتفرغ النفس لعبادة ربها وحده، والبعد عن مواطن الخطأ والزلل ﴿وَتَزَوَّدُواْ﴾ لآخرتكم؛ بالعبادة والعمل الصالح والإخلاص
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي لا حرج عليكم إن ابتغيتم - مع الحج - التجارة والتكسب ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم﴾ رجعتم ﴿مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ جبل معروف بمكة ﴿الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ جبل يقف عليه الإمام، واسمه «القزح»
﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أي ارجعوا من حيث رجعوا؛ وهو أمر لقريش خاصة، وقد كانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف مع باقي المؤمنين بعرفة
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ﴾ أديتم عباداتكم المتعلقة بالحج ﴿فَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ بالتكبير والثناء عليه ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ وقد كان من دأبهم المفاخرة بالآباء ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ أي يجعل كل همه نيل ما يتمنى من دنياه ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ أي ليس له فيها من نصيب؛ لانصرافه عن تحصيلها، وانشغاله بالفانية عن الباقية؛ فكان جزاؤه الحرمان من طيبات الدنيا، وحسن ثواب الآخرة
﴿وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ أي رزقاً واسعاً، وعيشاً رغداً ﴿وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ ثواباً ومغفرة، وجنة عرضها كعرض السموات والأرض؛ فكان حقاً على الله أن ينيله ما يتمناه فضلاً من لدنه ونعمة وقيل: إن حسنة الدنيا: المرأة الصالحة
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ أي ثواب ما عملوا.
﴿وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ هي أيام التشريق؛ وذكر الله فيها: التكبير عقب الصلوات ﴿إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تجمعون يوم القيامة؛ فيجازيكم على ما عملتم
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ المزخرف، ونفاقه المستتر ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ لك؛ من ود وحب ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ شديد العداوة والخصومة أو ﴿يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ في الدين واليقين ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ من إيمان وإحسان ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ للدين ولله ولرسوله
﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ انصرف من عندك: ظهر على حقيقته، وبان على طبيعته، و ﴿سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا﴾ بكفره ونفاقه وإذاعته الإلحاد بين الناس ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ هو مبالغة في الإفساد؛ كقولهم أهلك الزرع والضرع
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ولا تفعل ما يغضبه حملته الأنفة والحمية؛ على العمل ﴿بِالإِثْمِ﴾ الذي أمر باتقائه والبعد عنه
-[٣٨]- ﴿فَحَسْبُهُ﴾ كافيه ﴿جَهَنَّمُ﴾ التي سيصلاها عقوبة له ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراش
﴿مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي يبيعها ﴿فِي السِّلْمِ﴾ الإسلام؛ أو هو الاستسلام؛ وهو الصلح. أي اجتنبوا البغضاء والشحناء
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ لأنه يدعوكم إلى التفرقة والشقاق
﴿فَإِن زَلَلْتُمْ﴾ وقعتم في الزلة ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ المعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أي بعذابه؛ كقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي بالعذاب ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ جمع ظلة؛ وهو ما أظلك ﴿مِّنَ الْغَمَامِ﴾ السحاب المتكاثف ﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ قامت القيامة، أو وجب العذاب
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ معجزة ظاهرة واضحة ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أي آياته؛ التي أنعم بها على عباده لهدايتهم، وإنجائهم من الضلال؛ لأنها من أجل النعم وتبديلها: أنها سيقت لتكون سبباً للهداية، فيجعلونها سبباً للغواية
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي حببت إليهم، وزينها الشيطان لهم، وعجلنا لهم طيباتهم فيها. قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ في الدنيا ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لأنهم لا يعبأون بالدنيا ولا بأهلها؛ وكل همهم الحرص على رضا ربهم جل شأنه ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَواْ﴾ ربهم وخافوه، وعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وصدقوا برسوله، وآمنوا بالنور الذي أنزل معه؛ فهؤلاء ﴿فَوْقَهُمْ﴾ أي فوق الكافرين؛ الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار فالمتقين في الجنة، والكافرين في النار ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ من المؤمنين والكافرين ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير سبب، فقد يرزق البليد، ويمنع النشيط، ويعطي العاصي، ويمنع الطائع؛ ما أراده كان، وما لم يرده لم يكن
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد؛ هو دين الفطرة؛ أو كانوا كفاراً لا يعلمون حالهم ولا مآلهم (انظر آية ١٩ من سورة يونس) ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ إليهم ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ من أطاع بالجنة ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ من عصى بالنار
-[٣٩]- ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذين يؤيدهم ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي يأمرون به، ويسيرون عليه. و «الكتاب» اسم جنس: يقع على سائر الكتب المنزلة؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أي في الكتاب المنزل مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي إلا الذين أنزل عليهم الكتاب؛ أنزله الله تعالى مزيلاً للاختلاف، فجعلوه سبباً للخلاف
﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي حسداً وظلماً: كيف ينزل الكتاب على رجل غيرهم؟ وكل واحد منهم يرى أنه أحق بنزوله عليه، وأجدر ممن نزل عليه ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ و ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ طريق
﴿خَلَوْاْ﴾ مضوا ﴿مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ﴾ الفقر والحاجة ﴿والضَّرَّاءِ﴾ المرض ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ أزعجوا إزعاجاً شديداً
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ما الذي يتصدقون به؟ ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ مال؛ أو هو كل ما ينفق: من مال، أو غذاء، أو كساء، أو دواء. وسمى تعالى ما ينفق: خيراً؛ لأنه سبب في كل خير في الدنيا والآخرة؛ وناهيك يقول العظيم الكريم ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يجزي عليه أحسن الجزاء
﴿كَتَبَ﴾ فرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ الجهاد في سبيل الله ﴿وَهُوَ كُرْهٌ﴾ مكروه ﴿لَكُمْ﴾ لما فيه من مشقة، وبعد عن الأهل والولد؛ ولأنه في ظاهره تعرض للتلف والفناء، مع أنه أساس الحياة وسر البقاء ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً﴾ كالقتال ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في الدنيا؛ بتخليص البلاد، ونجاة العباد، ورفع كلمة الله تعالى وفي الآخرة بنعيم الجنان، ورضا الرحمن ﴿وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً﴾ كالقعود مع الأهل والولد ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ في الدنيا؛ بالذل والاستعباد، وفقدان الكرامة وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما فيه الخير لكم ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فاتبعوا أوامره، وابتغوا ما فرضه عليكم؛ ففيه نجاتكم وسعادتكم
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي هل يجوز القتال فيه؟ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ من المشركين لكم ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ منع عن دينه صد أيضاً عن ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ المؤمنين ﴿مِنْهُ﴾ وجميع ذلك ﴿أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ﴾ إثماً وأعظم جرماً؛ من القتال في الأشهر الحرم. فكيف تسألون عن جواز القتال في الأشهر الحرم؟ قال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ أي الكفر، أو الإخراج من مكة، أو العذاب يوم القيامة ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ وأنكى وأشد ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ ما حكمها؟ (انظر آية ٩٠ من سورة المائدة) ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ القمار ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ وأي إثم لقد أكرمك الله تعالى أيها الإنسان بالعقل المنير؛ فكيف تطفئه بالخمر؟ ووهبك الخير الكثير؛ فكيف تتلفه بالقمار؟ وهب أنك كاسب فيه غير خاسر؛ فبم تستحل لنفسك ما ليس لك بحق، وما هو محرم عليك، وشؤم على عيالك؟ ويدخل في عموم الميسر: ما يسمونه باليانصيب، وكذلك سائر المراهنات، وسباق الخيل؛ وكل كسب أو خسارة بغير سبب معقول، ووجه مشروع: فهي إثم في الخمر والميسر؛ مع ما فيهما من أسقام وآثام ﴿وَمَنَافِعُ﴾ في الظاهر ﴿لِلنَّاسِ﴾ ألا يربحون في تجارة الخمر، ويكسبون في لعب الميسر؟ وهو ربح ممقوت؛ الخسارة منه أكسب وكسب حرام؛ الإفلاس منه أربح وهي منافع حقيرة زائلة؛ بجانب ما يترتب عليها من الآلام والآثام فقد أثبت الطب - قديمه وحديثه - أن الإدمان على الخمر: يسبب تلفاً بالكبد، ويحول خلاياه الحية إلى ألياف ميتة؛ كما تؤدي إلى تصلب الشرايين، وإلى نزيف المخ، وإلى إفساد الجهاز العصبي، وضعف المدارك الحسية
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ أي أيّ شيء ينفقونه؟ ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي الزائد عن نفقتكم وحاجاتكم. أو خير ما تنفقونه: «العفو» عند القدرة ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾
﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ في المعيشة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ﴾ منكم في هذه المخالطة ﴿مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ الذي أراد بها تدبير أموال اليتامى، وإصلاح أمورهم ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ﴾ لأحرجكم وضيق عليكم
﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ﴾ أي لا تتزوجوهن. والمشركة: التي تدعو مع الله إلهاً آخر؛ وهي غير الكتابية: اليهودية أو النصرانية. ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ﴾ أي لا تزوجوهم بناتكم ﴿حَتَّى يُؤْمِنُواْ﴾ وقد ذهب جماعة - منهم حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - إلى أن لفظ المشركات والمشركين؛ يعم اليهود والنصارى لقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ فهم مشركون أيضاً؛ لأن إلههم الذي يعبدونه يلد؛ وإلهنا تعالى ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ ويعارض هذا الرأي: قوله تعالى ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ وقد قصد بهم اليهود والنصارى الذين قالوا: عزير ابنالله، والمسيح ابنالله. وعلى ذلك يكون المراد بالمشركين: عبدة الأصنام والنار والكواكب، ومن شاكلهم؛ ممن لا يؤمنون بوجود إله أصلاً ﴿أُولَئِكَ﴾ المشركون والمشركات ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي إلى الكفر المؤدي إلى النار؛ فلا تجوز مناكحتهم ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ بما يدعو إليه من أعمال صالحات؛ موصلة إليهما، موجبة لهما ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بأمره وإرادته
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي عن شأن الزوجة في مدة الحيض، وما ينبغي على الزوج حيالها وقت نزول دم الحيض؟
﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ مستقذر مبغوض ﴿فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ﴾ أي لا تجامعوهن؛ لأن الأصل في الجماع: إنتاج الولد؛ وهن في هذه الحال غير مؤهلات للحمل. وقد جعل الله التلذذ عند التقاء الرجل بالمرأة: حرصاً على بقاء الجنس، واستيفاء لحاجة الكون من بني آدم وغيره من الأحياء؛ والمرأة الحائض تستقذر عادة؛ فإذا حاول الرجل إتيانها - وهي على هذه الحال - ربما أبغضها استقذاراً لها؛ فنهانا الحكيم العليم بعدم قربانهن في المحيض ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ أي حتى ينقطع الدم، ويمتنع الأذى؛ ويغتسلن؛ فيصرن نظيفات طاهرات مؤهلات لما أعدهن الله تعالى له. وقد أثبت الطب تحقق الضرر من التقاء الرجل بالمرأة وقت حيضها ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ جامعوهن ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ في الفرج؛ لا في مكان آخر يكرهونه ويغضب الله تعالى
﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ شبههن الله تعالى بالحرث: لما يلقى في أرحامهن وينتجن من الولد ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي بأي طريقة أردتم؛ في المكان المعلوم: موضع الحرث، لا موضع الفرث. وزعم بعض الفساق: أن الله تعالى أباح إتيان المرأة في دبرها؛ مستدلاً بقوله تعالى: «أنى شئتم» أي في أي موضع أردتم. والمعلوم أن معنى «أنى» لغة:
-[٤٢]- كيف. فلا تعطى المعنى الفاسد الذي ذهبوا إليه ومن المعلوم أيضاً أن الله تعالى أنزل هذا القرآن على مخلوقات تسمع وتعقل وتعي؛ فإذا ما كان هناك أمر تعاف إتيانه أحط الحيوانات؛ فكيف يتوهم حصوله من أفضل المخلوقات ولم نسمع أن حماراً أتى أتاناً في دبرها؛ فكيف نصدق أن إنساناً يستسيغ أن يكره امرأته على إتيانها في غير ما أمر الله تعالى به؟ فليتق الله من يؤمن بالله، ولا يدع شيطانه ينزل به إلى درك لم تنزل إليه البهائم التي لا تعقل وإن الإنسان ليرى العذرة في الطريق فيستقذر أن يمشي بقربها؛ فكيف يذهب بإرادته ويندس في مكانها ووعائها أفَ لمن يفعل ذلك، أو يحاوله؛ وله الويل يوم يسأل عنه ويعاقب عليه.
﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا تجعلوه تعالى معرضاً لأيمانكم؛ فتحلفون به في كل وقت وحين، وفي كل مناسبة، وتعرضوا اسمه الكريم للابتذال بكثرة الحلف به. وقد ذم الله تعالى كثير الحلف بقوله ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾ أو المعنى: ولا تجعلوا الله مانعاً وحاجزاً دون الخير؛ كمن يحلف على قطيعة رحم، أو عدم الإصلاح بين متخاصمين، أو عدم التصدق؛ أو ما شاكل ذلك. قال الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفِّر عن يمينه» ﴿أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ﴾ وهي الأمور المحلوف عليها: أداء أو تركاً. ويجوز أن يكون المعنى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ إلا إن كان ذلك بسبب البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ فحينئذٍ يجوز لكم أن تحلفوا بقصد إقناع البعض وإرضائه عن الآخر؛ كمن يحلف للزوجة المغاضبة: أن زوجها يقول عنها: إنها خير امرأة. وكمن يحلف للأخ المخاصم: أن أخاه يدعو له بالهداية والخير ويتطلب رضاه. وقد يكون الواقع عكس المحلوف به
﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾ لا يعاقبكم ﴿بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ وهو ما لا يعقد عليه القلب؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله
﴿يُؤْلُونَ﴾ يقسمون. وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ﴿تَرَبُّصُ﴾ التربص: الانتظار ﴿فَآءُوا﴾ رجعوا
﴿ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثلاثة حيضات ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ أزواجهن ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لقد كانت النساء قبل الإسلام مستعبدات، مملوكات، مهانات؛ وكان الرجل يرى أن وجود المرأة معرة؛ ويعاملها معاملة العبيد - بل أسوأ من معاملة العبيد - وكانت المرأة توهب وتورث كسائر الجمادات والحيوانات؛ ويزوجها وليها لمن لا تريد ولا ترغب رغم أنفها؛ شأن جهلة هذا العصر: الذين يضحون ببناتهم على مذابح الأطماع الدنيئة؛ ابتغاء العرض الزائل. وكان الرجل
-[٤٣]- في الجاهلية إذا مات عن زوجة: جاء ابنه - من غيرها - أو جاء أحد ورثته؛ فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. وتصير في حوزته، ويصير أحق بها من كل الناس - حتى من أهلها وأبويها - فإن شاء تزوجها من غير صداق، وإن شاء زوجها وأخذ صداقها لنفسه. فلما أشرقت شمس الإسلام وبزغ قمر السلام: خلصهن من هذا الاستعباد وأنقذهن من الذل والاسترقاق، وأوجب لهن على الرجال - مثل ما يجب للرجال عليهن - من حسن العشرة، وترك المضارة، والحب، والإخلاص، والمودة، والرحمة وغير ذلك من الحقوق التي تعرف بالبديهة، ويحس بها كل ذي عقل وقلب وأمر ألا تزوج إلا بإذنها، وبمن ترتضيه لنفسها. ولا حجة لمن قال بعكس ذلك من الفقهاء؛ لقوله: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن؛ وإذنها صماتها» وقد رد الرسول الكريم؛ صلوات الله تعالى وتسليماته عليه: تزويج الأب ابنته بغير إذنها وقد حثنا الدين الحنيف على التلطف بهن والعناية بأمرهن
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي. وأتى عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه بامرأة تصر على فراق زوجها؛ فنظر إلى الزوج فوجده أشعث غير نظيف الثياب؛ فقال: أدخلوه الحمام وألبسوه الأبيض. فلما جيء به نظيف الجسم، نظيف الثياب؛ قال لها: أتقيمين معه؟ قالت: نعم. فأصلح بينهما؛ وقال لمن حضره: تصنعوا لهن كما يتصنعن لكم.
﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ دفعتان مفترقتان. فلو طلقها ثلاثاً بلفظ واحد: لم يقع إلا واحدة (انظر مبحث الطلاق بآخر الكتاب. وانظره أيضاً مفصلاً في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية) ﴿تَسْرِيحٌ﴾ تطليق ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ من غير إجحاف ولا مضارة ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ﴾ أي حرام عليكم ﴿أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ من المهر وغيره ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ﴾ الزوجان ﴿أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ بأن يخشى الزوج أن يسيء معاملتها - لكراهته لها - أو أن تسيء عشرته - لبغضها له - ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أيها الحكام. قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ﴾ لا إثم ولا حرج ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ نفسها؛ من
-[٤٤]- رد ما أخذته - إن كانت كارهة له - ولا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى؛ إذ هو ظلم بين، ودليل على خسة الطبع، ودناءة النفس وحكمة رد المهر: أنها له كارهة، ولصحبته مبغضة؛ وهو في حاجة للتزوج بغيرها؛ فوجب أخذ ما دفعه ليمهر به سواها. أما إذا كان هو الكاره لها، المائل عنها لغيرها؛ فلا يحل له أصلاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ هذا وقد جاءت جميلة بنت سلول - وكانت زوجاً لثابتبن قيس - إلى النبي، وقالت له: يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق؛ ولكني أخشى الكفر بعد الإسلام؛ لشدة بغضي له فقال لها سيد ولد آدم: «أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال: «أما الزيادة فلا؛ ولكن حديقته». فأخذها ثابت وخلى سبيلها. وهذا أول خلع في الإسلام.
وقال بعض الفقهاء بجواز أخذ شيء من مالها. ولا حجة لهم فيه: لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ واستثنى من ذلك بقوله جل شأنه ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أي في هذه الحال فقط يحل أخذ بعض المهر أو كله، في حدود قوله تعالى: ﴿مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ من المهور والهدايا ونحوهما (انظر آية ٢٠ من سورة النساء)
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ للمرة الثالثة ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾ مراجعتها ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ حتى تتزوج رجلاً آخر، ويبني بها ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الزوج الآخر ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ﴾ هي والمطلق الأول ﴿أَن يَتَرَاجَعَآ﴾ بعد انقضاء عدتها من زوجها الآخر بعقد جديد، وذلك ﴿إِن ظَنَّآ﴾ تأكدا ﴿أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أوامره وشرائعه؛ التي سنها لعباده: من ترك المضارة، وحسن المعاملة، وطيب المعاشرة، وتوافر المودة والرحمة
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن آخر عدتهن ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾ أي مريدين الإضرار بهن ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه، وتعريضها للعقاب
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ الإسلام، ونبوة محمد ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي بالقرآن ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ انقضت عدتهن ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ تمنعوهن ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ الذين كانوا قبلكم. أو الذين يتقدمون إليهن، أو هو خطاب للأولياء. ﴿ذَلِكَ﴾ الأمر والنهي المتقدم ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾
يتعظ ويعمل به ﴿مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ الذي يعاقب فيه العاصي على عصيانه، ويثاب فيه الطائع على طاعته أفضل للمآب وأنمى
-[٤٥]- للثواب ﴿وَأَطْهَرُ﴾ لقلوبكم ونفوسكم ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما يصلحكم في دنياكم وأخراكم ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ لجهلكم وقصور أفهامكم، وطمعكم في الحطام الزائل الفاني، ونسيانكم النعيم الدائم الباقي
﴿حَوْلَيْنِ﴾ عامين ﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ أي الوالد؛ ولم يقل: وعلى الوالد؛ إشعاراً بأن الوالدات إنما ولدن لهم ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ من غير إسراف ولا تقتير ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا يكلف الوالد بما لا يطيق؛ بل ينفق النفقة التي يستطيعها ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾ و: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ أي بسبب ولدها؛ بألا ينفق عليها، أو يهددها بأخذه منها ﴿وَلاَ﴾ يضار ﴿مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ بأن تطالبه بما لا يستطيع، أو تترك له ولده - بعد أن ألفها واعتاد صحبتها - وما أشبه ذلك. وإضافة الولد إليهما في الموضعين: استعطافاً لهما، وهزاً لمشاعرهما ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ أي وارث الصبي، أو وارث الأب ﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾ أي الأب والأم ﴿فِصَالاً﴾ فطام الصغير ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ﴾ أيها الأزواج الآباء ﴿أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ﴾ أي تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدات ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم﴾ أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة. وقرىء ﴿مَآ أُوتِيتُمْ﴾ أي ما آتاكم الله تعالى، وأقدركم عليه
﴿وَيَذَرُونَ﴾ يتركون ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ ينتظرن وهي عدة المتوفى عنها زوجها؛ ما لم تكن حاملاً؛ فعدتها أبعد الأجلين: الوضع، أو الأربعة الأشهر والعشر ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ قضين عدتهن ﴿فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من التزين والتعرض للخطاب ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالوجه الذي لا ينكره الشرع؛ فلا يبالغن في التزين، ولا يفرطن في التبرج
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا حرج، ولا إثم ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ لوحتم وأشرتم ﴿بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ﴾ كأن تقول لها: إنك لجميلة، أو صالحة، أو من غرضي أن أتزوج. وشبه ذلك مما لا ينكره الذوق، ولا يمقته الدين ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ﴾ أضمرتم ﴿وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ﴾ على اللقاء ﴿سِرّاً﴾ خفية عن أعين الرقباء؛ ففي هذا ما فيه من تمكين للشيطان الذي يجري مجرى الدم من الإنسان وقيل: المراد بالسر: الزنا، أو هو التعريض بالجماع. والمراد: لا يكون تعريضكم سفهاً وفجوراً؛ فذكر أمثال ذلك - أمام غير الزوجة - فحش؛ لا يرتكبه إنسان ﴿وَلاَ تَعْزِمُواْ﴾ تقصدوا قصداً جازماً ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ بانقضاء عدتها ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من سوء وشر ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ خافوا عقابه، ووطنوا أنفسكم على فعل الخير ما استطعتم؛ وروضوا قلوبكم على عمل الطاعات، وتجنب المخالفات
﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا حرج ﴿إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ تجامعوهن ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لم تقدروا لهن مهراً ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي أعطوهن
-[٤٦]- ما يتمتعن به، واكسوهن بعد الطلاق ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾ الغني ﴿قَدَرُهُ﴾ طاقته ووسعه ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾
الفقير ﴿حَقّاً﴾ أي ذلك التمتيع ﴿حَقّاً﴾ واجباً ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين أحسنوا أعمالهم، ورغبوا في إرضاء ربهم
﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ قدرتم لهن مهراً ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي فلهن أخذ نصف المهر ﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ أي تعفو الزوجة ووليها؛ فيردون المهر كله ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج؛ فلا يأخذ من المهر شيئاً؛ تلطفاً منه وكرماً ﴿وَأَن تَعْفُواْ﴾ أيها الأزواج؛ فتتركوا جميع المهر ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وأرضىلله ومن المعلوم أن العبد إذا اتقى ربه وأرضاه؛ فإنه تعالى يجازيه على ذلك؛ بأن يخلف عليه أكثر مما فاته من مال، وأن يعوضه خيراً ممن تركها ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي تذكروا أن الأكمل لدينكم، والأجمل لفعالكم؛ ألا تتشددوا وتقلبوا ما أقدمتم عليه من خير وتوثيق لروابط المحبة، إلى عداء كبير، وشر مستطير ومن عجب أن الناس اليوم لا يفعلون ما به الله أمر؛ بل يتنكرون لأوامره، ويتشددون عند حدوث ذلك، ويتخذونه مغنماً وهو غرام، ويفرحون بما يأخذون وهو حرام وتكون عاقبة الذين أساءوا السوأى؛ في الدنيا بعدم التوفيق، وسوء الرفيق، وفي الآخرة بالحرمان من رضا الرحمن
﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أي أدوها في أوقاتها ﴿والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾ صلاة العصر؛ لتوسطها صلاة اليوم، واشتغال الناس - في وقتها - بأعمالهم ومتاجرهم.
وقيل: صلاة الظهر؛ لتوسطها النهار. وقيل: المغرب أو العشاء. وقيل: الفجر؛ لتوسطها بين صلاة الليل والنهار، ولما فيها من المشقة والثقل على المنافقين. قال «أثقل الصلاة على المنافقين: الصبح والعشاء» وقد أخفاها تعالى: ليحافظ المؤمنون على صلواتهم أجمع ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ طائعين خاشعين
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ عند حلول وقت الصلاة من عدو يهاجمكم ﴿فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً﴾ أي فصلوا قائمين أو راكبين ولو إلى غير قبلة ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ أي إذا زالت أسباب الخوف} اشكروه، واعبدوه، وصلوا له ﴿كَمَا عَلَّمَكُم﴾ من أحكام دينكم، ومنافع دنياكم ﴿مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي ما كنتم تجهلونه، ولا تستطيعون علمه بعقولكم القاصرة
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ﴾ يتركون ﴿أَزْوَاجاً﴾ فليوصوا ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ﴾ أي يجب عليهم أن يوصوا قبل موتهم لأزواجهم ﴿مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ﴾ أي أن ينفق عليهن من ماله لمدة عام. قيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ ولعله حق من حقوق الزوجة؛ لها أن تتمتع به ما دامت لم تتزوج غير زوجها المتوفى ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي لا يخرجهن أحد من مساكنهن
-[٤٧]- ﴿فإن خرجن﴾ منها باختيارهن - قبل العام، وبعد انتهاء العدة - ﴿فَلاَ جُنَاحَ﴾ لا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا أولياء الميت، أو يا أيها الحكام ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ بترك الحداد، والتزين، والتعرض للخطّاب ﴿مِن مَّعْرُوفٍ﴾ أي بشرط أن يكون ذلك في حدود المعروف؛ الذي لا ينكره الشرع، ولا العادة، ولا البيئة
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ نفقة العدة؛ يعطى لها ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ من غير جلبة ولا مشقة ﴿حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
فمن كان يتقي الله تعالى؛ فليعط مطلقته - وقد كانت ضجيعته وموضع سره ومحبته - نفقتها «بالمعروف» من غير أذى، ولا معاندة، ولا مضارة
﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ خرجوا هرباً من الجهاد. وقيل: هرباً من الطاعون ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ﴾ أي أماتهم، أو عرضهم للموت عند الجهاد واحتدام القتال ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ نصرهم على عدوهم - بعد يأسهم - والنصر: هو الحياة؛ إذ لا حياة مع ذلة، ولا بقاء بلا حرية وقيل: أماتهم موتاً حقيقياً؛ ليعلمهم بعد إحيائهم - أن الجبن لا يقي من الموت ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ وليعرفهم أن القتال والاستبسال قد يكونان سبباً في الحياة الدنيوية والسعادة الأخروية ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ بعد موتهم؛ بدعوة نبيهم
﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأفعالكم وسرائركم
﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ عبر تعالى عمن ينفق في سبيله، ويتصدق على عبيده؛ بالمقرض له وذلك لتأكد الوفاء والجزاء. ومن أوفى من الله في مضاعفة الحسنات؟ ولكن هل من مؤمن؟ وهل من مصدق؟ وكيف لا تصدقون ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ﴾ الأرزاق عمن يشاء ابتلاء ﴿وَيَبْسُطُ﴾ يوسع لمن يشاء امتحاناً؛ وبيده وحده المنع والعطاء (انظر آية ٢٦١ من هذه السورة)
﴿الْمَلإِ﴾ الجماعة ﴿مِن بَعْدِ مُوسَى﴾ أي بعد موته ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ أي هل طمعتم ورجوتم ﴿إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ فرض عليكم الجهاد ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ وقد كان جالوت وقومه قد احتلوا ديارهم، وسبوا نساؤهم، وقتلوا أبناءهم ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ﴾ أي فلما فرض عليهم الجهاد، وألزموا بتخليص أوطانهم من العدو: أعرضوا ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ وهبوا نعمة الإقدام ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾ الكافرين؛ الذين لم يستمعوا لأوامره، وضعفوا واستكانوا
﴿أَنَّى﴾ كيف ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ ظنوا أن الله تعالى لا يؤتي ملكه إلا للأغنياء؛ وفاتهم أن العزة بالتقى، لا بالغنى ﴿اصْطَفَاهُ﴾ اختاره ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ البسطة في العلم: التوسع فيه، وشدة الفهم له. وفي الجسم: الطول، والضخامة، والقوة ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ أي واسع الفضل والخير والرزق
-[٤٨]- ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن هو أحق بالملك، وأجدر بالرفعة
﴿آيَةَ مُلْكِهِ﴾ علامته ﴿التَّابُوتُ﴾ وهو صندوق كانت به التوراة؛ وكان قد رفع من قبل عقوبة لهم ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ طمأنينة لقلوبكم؛ وهو كتاب الله تعالى «التوراة» وقد جرت عادته جل شأنه أن يبعث طمأنينته وسكينته في كتبه الكريمة، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ وأي طمأنينة وسكينة أعلى وأرقى من حسن الجزاء ومزيد العطاء، وكرم الرحيم، ورحمة الكريم ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ بعض الألواح التي أنزلت على موسى عليه السلام، وبها الكثير من الأحكام
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ خرج ﴿مُبْتَلِيكُمْ﴾ مختبركم ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾
أي جاوز طالوت النهر ﴿قَالُواْ﴾ أي قال الذين خانوا أمر طالوت، وشربوا من النهر ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يتأكدون ﴿أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ﴾ وهم الذين أطاعوا أمره، وسمعوا قوله؛ ولم يشربوا من النهر ﴿كَم مِّن فِئَةٍ﴾ جماعة
﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ أي استعدوا لمحاربتهم، واصطفوا لقتالهم ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ﴾ أصبب
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ يؤخذ من هذه الآية: أن الحرب من لوازم الحياة الدنيا، وأنه بدونها لا يتم العمران: فبها يحفظ التوازن الكوني، ولا يبقى على ظهر الأرض سوى من يصلح للبقاء، وللخلافة فيها؛ اللهم إلا إذا أراد الله تعالى لأرضه الفناء؛ فيشيع الفجور، وتعم الفوضى، ويملك الأرض العتاة المتجبرون؛ فيعيثون فيها فساداً، وفي أهلها إفساداً؛ ليتم الله تعالى أمره، ويرث الأرض ومن عليها؛ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى﴾.
وحاجة الكون إلى الحرب؛ كحاجته إلى الأوبئة والطواعين؛ إذ لو ترك العالم بغير حرب، وبغير وباء؛ لتكدس الناس فوق هذه الأرض تكدس الذباب، ولتكاثروا تكاثر الجراد؛ ولأكل بعضهم بعضاً شأن أحقر الحيوانات وأدنئها
ولكن شتان بين الحروب التي يحتاجها الكون، والحرب التي يدبرها الآن بعض المخلوقين للبعض الآخر؛ فإن الأولى يجب أن تكون لدفع ظلم، أو رد عدوان - وكثيراً ما يقع الظلم، ويحيق العدوان - أما الثانية فهي حروب تدبرها رؤوس خوت من العقل، وقلوب خلت من الرحمة ولا سبب لها سوى حب السيطرة، والسيادة، والتوسع. هذا وقد تطورت الحروب منذ بدء الخليقة حتى الآن: فقد كانت بادىء ذي بدء بالعصى والحجارة، ثم صارت بالمدى والسيوف، والقسي والرماح؛ ثم تطورت إلى البنادق والمدافع؛ وأخيراً - وليس آخراً - دبر الإنسان لهلاك نفسه، ومحو حضارته: القنابل الذرية والهيدروجينية،
-[٤٩]- والكوبالت، والصواريخ الموجهة؛ وما شاكل ذلك من وسائل التخريب والهلاك؛ ليهدم ما بنته الإنسانية في مئات الملايين من السنين، ويجتاح ما شيدته الفطر السليمة من مدنية وحضارة بتوجيه من موجد الكون ومنشئه تعالى ولو استمر دعاة السوء والحرب ما هم عليه الآن؛ لحق لنا أن نقول بحق: إن الجنس الإنساني قد أصبح بغير شك أغبى من الذباب - وقد هداه الله تعالى النجدين - وأحط من الصرصور - وقد خلقه تعالى في أحسن تقويم - وهذا نهاية الطيش والحمق والجنون وهو إن دل على شيء؛ فلا يدل إلا على عقول عفنة، أتلفها الجشع والطمع وقلوب متحجرة، أفسدتها الأنانية وحب الذات وحقاً إن أعدى أعداء الإنسان؛ لهو الإنسان نفسه
ولو خير العقلاء بين هذه الحروب وتلكم الأوباء؛ لاختاروا الثانية وفضلوها على الأولى وذلك لأن الأولى من صنع حثالة الخلائق، ووحوش البشرية؛ والثانية من صنع الحكيم العليم، العزيز الرحيم، الذي لا يصدر أعماله إلا بحكمة، ولا ينفذ قضاءه إلا برحمة؛ وكل شيء عنده بمقدار
وترى دعاة الحروب - رغم استعدادهم بتلك القوى الهائلة، وهذه الأدوات المهلكة - يتميزون بالجبن والخور: يخشون المحن، وعاديات الزمن؛ تحيط بهم الأطباء من كل جانب؛ ليحافظوا على نبضهم وضغطهم وحرارتهم فهم دائماً في مرض ونصب، وهم وتعب (انظر آية ٥٠ من سورة طه) ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فيسخر هؤلاء للحرب: تبعاً لحاجة الكون إلى الحرب؛ لا تبعاً لحاجاتهم وأطماعهم؛ فتعالى القادر القاهر، المسير المسخر الذي هو بكل شيء عليم
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ الذين نقصّ عليك قصصهم معجزة لنبوتك، وآية لأمتك ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لما ميزناهم به عن الآخرين ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ كموسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهي مرتبة جليلة: اصطفاه الله تعالى لها، واختصه بها. (انظر آية ١٦٤ من سورة النساء) ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ وناهيك برفعة قدر نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام
فاق النبيين في خلق وفي خلق
ولم يدانوه في علم ولا كرم
لم يساووك في علاك وقد حا
ل سناً منك دونهم وسناء
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل عليه السلام، وقيل الإنجيل ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ﴾ زكوا وتصدقوا ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ به، وأمرناكم بالإنفاق منه ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة
﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي لا معاملة فيه بين الناس كشأنهم في الدنيا. أو هو إشارة إلى أن حرصهم في الدنيا على الربح والكسب، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، واهتمامهم بشؤون دنياهم؛ كل هذا لا يفيد في الآخرة؛ التي لا يفيد فيها سوى العمل الصالح؛ وأين العمل الصالح؛ وقد قضوا أعمارهم في الحرص على الربح - من أي وجه كان - من رباً، أو سرقة، أو كذب، أو خداع ﴿وَلاَ﴾ تنفع في هذا اليوم صداقة أو محبة؛ وقد كانوا في الدنيا يتحابون في الشيطان، ويتصادقون على المعاصي فلا صداقة اليوم تنجي من عذاب الله ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي والتاركون للزكاة ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بدليل أول الآية ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ وبدليل قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وكفر تارك الزكاة لا يحتاج إلى دليل؛ فقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه مانعيها؛ والمؤمن لا تجوز مقاتلته إطلاقاً؛ فيؤخذ من ذلك أن أبا بكر حكم بخروجهم من الإسلام لمنعهم الزكاة؛ وقد قال: «والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه» ومن أولى بالاقتداء والاتباع من أبي بكر؟
وقد سماهم الله تعالى في هذه الآية بالكافرين وفي آية أخرى بالمشركين، وهذه التسمية بهم أولى وأليق (انظر الآيات ٦ و٧ من سورة فصلت، وآية ١٤صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام).
﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ﴾ الذي لا يموت أبداً ﴿الْقَيُّومُ﴾ القائم بتدبير الخلق وحفظه؛ والقائم بذاته: الذي لا يقوم غيره إلا به وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هو الاسم الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي لا يشفع أحد عنده تعالى إلا إذا أذن له بالشفاعة ورضي قوله ﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ قال شفيعنا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام «يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا عند ربنا فيريحنا مما نحن فيه؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا عند ربنا. فيقول: لست هناكم ليست لي هذه المرتبة؛ ويذكر خطيئته - أكله من الشجرة - ويقول: ائتوا نوحاً؛ أول رسول بعثه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - دعوته على قومه - ويقول: ائتوا إبراهيم؛ الذي اتخذه الله خليلاً. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - كذباته الثلاث التي عرض بها - ويقول: ائتوا موسى؛ الذي كلمه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته
-[٥١]- - قتله القبطي - ويقول: ائتوا عيسى فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ائتوا محمداً؛ فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فيأتوني فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجداً؛ فيدعني ما شاء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه؛ ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة؛ ثم أعود فأقع ساجداً مثله - في الثالثة أو الرابعة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي أوجب عليه الخلود»
(انظر آية ٩٣ من سورة النساء) ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾
أي ما سيعملونه، وما عملوه ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾ أن يعلمهم إياه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ أي وسع علمه ﴿السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيهما ﴿وَلاَ نَوْمٌ﴾ لا يشق عليه تعالى ولا يتعبه ﴿حِفْظُهُمَا﴾ بهذا النظام العجيب، والتدبير البديع ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ يؤخذ من هذه الآية الكريمة: حرية الاعتقاد؛ ليكون التدين قرين البحث الفكري، والاقتناع العقلي؛ وذلك لأنه ﴿قَد تَّبَيَّنَ﴾ مما سقناه من المعجزات، وأوردناه من الآيات ﴿الرُّشْدُ﴾ الصواب؛ وهو الإيمان ﴿مِنَ الْغَيِّ﴾ الضلال؛ وهو الكفر ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ الطاغوت: الشيطان، أو الأصنام، أو هو كل رأس في الضلال. وهو مشتق من الطغيان ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ الحبل المحكم الوثيق ﴿لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ أي لا انقطاع لهذه العروة التي وثقها الله تعالى بالحق، وقواها بالإيمان
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ناصرهم ومعينهم، ومتولي أمورهم وكافيهم ولا تكون ولاية الله تعالى إلا للمؤمنين الصادقين ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾ والإيمان سابق على ولاية الله تعالى؛ فلو لم يؤمن الإنسان: لكان وليه الشيطان ﴿يُخْرِجُهُمْ﴾ مولاهم ﴿مِّنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر والجهل ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان والعلم. (انظر آية ١٧ من هذه السورة) ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ﴾
نصراؤهم وأصدقاؤهم} الإيمان والعلم ﴿إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر والجهل. جعلنا الله تعالى من المؤمنين الجديرين بولايته وحمايته، وأخرجنا من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ﴾ جادل ﴿إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ﴾ أي في حقيقة وجوده وربوبيته ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ أي غره ما هو فيه من ملك وسلطان؛ فجادل إبراهيم في ربه؛ وقد فاته أن السلطان الذي هو فيه، والملك الذي أوتيه؛ من لدن
-[٥٢]- ذي الجلال والإكرام؛ الذي يؤتي فضله من يشاء - منحة أو محنة - ليقيم بذلك الدليل على وجوده، والبرهان على وحدانيته ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ لعدو الله نمروذ ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي يخلق الحياة والموت ﴿قَالَ﴾ نمروذ ﴿أَنَا﴾ أيضاً ﴿أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ مثلما يحيي ربك ويميت ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ إن استطعت. وهنا أسقط في يد الكافر الخاسر؛ وقامت عليه الحجة القاطعة الدامغة ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ دهش وتحير، ولم يحر جواباً وذلك لأن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ألهمه مولاه أن يسلك مع عدو الله أسلوباً قاطعاً لكل جدل، دامغاً لكل حجة: لقد قال الكافر لإبراهيم - جواباً على تقريره بأن الله تعالى يحيي ويميت - «أنا أحيي وأميت» فلو قال إبراهيم: كيف تحيي وكيف تميت؛ وقد انفرد الله تعالى بهما دون سائر الخلائق؟ لأحضر عدو الله إنساناً مقضياً بموته فأطلقه، وإنساناً بريئاً فأماته؛ وكان لإبراهيم على ذلك رد آخر: وهو أن الله تعالى يحيي ابتداء ويميت بغير أداة؛ ولاتسعت بينهما رقعة الجدال؛ ولكن الله تعالى ألهمه العدول عن مجاراته في هذه المهاترات، والتضييق عليه بالحجة التي لا تقبل التأويل، ولا تحتمل الجدل، ولا تتسع للمحاورة والمداورة؛ فقال له: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق» فإن كنت إلهاً كما تزعم ﴿فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ وأنى لعدو الله أن يتعرض لملك الله بتغيير، أو لنظامه بتبديل؟
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ وهو عزير: أحد أنبياء بني إسرائيل (انظر آية ٣٠ من سورة التوبة) ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ أي ساقطة على سقوفها؛ وهي بيت المقدس؛ وقد خربها بختنصر، وقتل أهلها ومن فيها ﴿قَالَ﴾ عزير في نفسه ﴿أَنَّى يُحْيِي﴾ كيف يحيي؟ ﴿هَذِهِ﴾ القرية؛ أي أهلها ﴿اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ خرابها وهلاك أهليها ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ﴾ أنامه؛ كما أنام أصحاب الكهف نيف وثلاثمائة عام ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أيقظه كما أيقظهم. وقد يكون المراد بالإماتة: الموت الحقيقي؛ الذي هو سلب الروح من الجسد - سلباً كلياً - ليكون إحياؤه دليلاً على إحياء أمثاله ممن مات من أهل هذه القرية ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لم يتغير ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ كيف صار رميماً؛ وهذا يدل على طول المكث، وأنه لبث مائة عام؛ لا ﴿يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ كما توهم. وقد أراه الله تعالى - في نفسه - كيف يقوم الإنسان بعد الإحياء عند بعثه، وأراه - في حماره - كيف يجمع العظم المتفتت، وكيف يركب بعضه فوق بعض ﴿وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ نركب بعضها على بعض (انظر آية ٢٠ من سورة الكهف)
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ قد يظن ظان
-[٥٣]- من هذه القالة - أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في البعث، أو كان مرتاباً في قدرة ربه تعالى - وهو صفيه وخليله ومصطفاه - ولا يجوز بحال نسبة الشك، أو الارتياب إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ خصوصاً في أهم المعتقدات التي يتوقف عليها صحة الإيمان: كالبعث والإحياء. وأمامنا الكهرباء واللاسلكي وأمثالهما؛ فما من أحد إلا ويؤمن بهما إيماناً يقينياً وهو لا يعرف كيفيتهما أو كنههما؛ ويود لو توصل إلى عرفانهما. ولا يقال: إنه بطلبه هذه المعرفة شاك فيهما، غير مؤمن بوجودهما ﴿فَصُرْهُنَّ﴾ اضممهن ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً﴾
قيل: إنه أخذ أربعة أصناف من الطيور؛ فذبحها وخلط بين لحمها وعظمها ودمها وريشها، وجعل على كل جبل جزءاً منها؛ ثم نادى: تعالين بإذنالله؛ فصار كل جزء منهن يتضامُّ إلى الآخر ويتماسك، وجئن إليه طائرات كما كن
﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ابتغاء مرضاته وثوابه ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ من قمح؛ زرعت في الأرض فـ ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ وهذا العدد أضعاف ما تنتجه أخصب الأراضي وأحسنها} ينمي ويزيد في الحسنات ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ أكثر من السبعمائة ضعف المذكورة: ﴿سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ فقد يجعل الكريم الحليم، الودود الرحيم؛ من كل حبة من هذه السبعمائة: سبعمائة أخرى؛ فتكون أربعمائة وتسعين ألفاً - كما يفعل الزارع الثري الغني - ويضاعفها تعالى أيضاً إن شاء؛ وذلك معنى قوله تعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ ولا حرج على فضله تعالى (انظر آية ١١٧ من سورة آل عمران)
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ابتغاء ثوابه ومرضاته ﴿ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً﴾ المن: أن يعتد الإنسان ويفخر على من أحسن إليه بإحسانه ﴿وَلاَ أَذًى﴾ ينالون به المنفق عليه؛ بأن يسخروه في المشاق، ويؤذوه بالشتم والسب؛ أولئك المنفقين الذين لا يمنون ولا يؤذون ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وناهيك بأجر الكريم العظيم وفي هذا ما فيه من عظم الأجر، ومزيد الثواب ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ﴾
﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ أي إنك إن تلين لأخيك القول، وتغفر له زلاته، وتعفو عن سيئاته؛ خير - عند الله - من أن تتصدق عليه صدقة تتبعها بالمن والأذى
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ أي لا تذهبوا ثواب صدقاتكم بأن تمتنوا بها على الفقراء، وتقابلوهم بالسخرية والاستهزاء، وتؤذوهم بالقول أو بالفعل؛ بسبب حاجتهم إليكم، ولا تجعلوا إنفاقكم ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ﴾ أي مراءاة لهم وتفاخراً؛ ليقال: هو كريم
-[٥٤]- جواد.
وما أكثر هؤلاء في عصرنا هذا ﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي مثل المنفق رياء ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ حجر أملس ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾ مطر غزير ﴿فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ أملس لم يعلق به شيء؛ فكذلك من يرائي بعبادته وإنفاقه؛ فإن رياءه يذهب ثواب عمله، ولا يبقي له أجراً؛ كما يذهب المطر ما على الحجر الصلد الأملس من التراب ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا؛ لأنهم أنفقوه رياء؛ وابتغاء الفخر؛ لا ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته. هذا مثلهم
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي طلباً لرضائه ﴿وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي متثبتين مستيقنين بحسن جزائه، ومزيد ثوابه ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾ بستان ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ مكان مرتفع ﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾ مطر شديد ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا﴾ أنتجت ثمرها ﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أي مثلي ما يثمر غيرها ﴿فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ مطر قليل؛ وهو الرذاذ، أو الندى. أي أن المنفقين ابتغاء وجه الله تعالى: يتضاعف لهم ثواب أعمالهم، ويجزون عنها الجزاء الأوفى؛ وذلك بعكس المرائي الذي يمحي ثواب عمله
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ استفهام للإنكار ﴿أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ بستان ﴿مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ ذكر الله تعالى النخيل والأعناب في غير موضع من كتابه الجليل؛ وذلك لفتاً لأنظار ذوي الاعتبار إلى ما يحتويه الصنفان من فوائد تجل عن الحصر: فمن فوائد التمر أنه يقوي الكبد والرئتان والحلق، ويزيد في الباه مع الصنوبر، وأكله على الريق: قاتل لديدان المعدة، وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن؛ ويعتبر التمر غذاء ودواء، وفاكهة. أما العنب فهو من أجل الفواكه وأكثرها نفعاً؛ وهو يسهل ويسمن، ويقوي القلب والرئتان، ويقطع البلغم ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ ضعف عن السعي والكسب، واحتاج إلى الدعة والراحة ﴿وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ﴾ أبناء صغار ضعاف؛ لا يقدرون على السعي والكسب ﴿فَأَصَابَهَآ﴾ أي أصاب جنته؛ الذي أصبح هو وذريته في مسيس الحاجة إلى ثمارها ﴿إِعْصَارٌ﴾ ريح شديد مهلكة ﴿فِيهِ نَارٌ﴾ أي في هذا الإعصار نار ﴿فَاحْتَرَقَتْ﴾ جنته بما فيها من نبات وثمار
وهذا تمثيل لذهاب ثواب المرائي يوم القيامة؛ وهو أشد ما يكون احتياجاً إلى قليل الثواب
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي من أحسن ما عندكم وأنفسه ﴿وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ﴾ من سائر صنوف النبات والفاكهة ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ أي لا تقصدوا أردأ ما عندكم فتجودوا به؛ يؤيده قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ أي لو قدم لكم
-[٥٥]- ما تقدمونه من الخبيث؛ لتأخذوه في حق من حقوقكم؛ ما قبلتموه لفساده ورداءته ﴿إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ أي إلا أن تغضوا أبصاركم عن خبثه ورداءته؛ فكيف تقدمونلله ما لا ترضونه لأنفسكم أتجعلونلله ما تكرهون؟ والإغماض: غض البصر. وهو كناية عن المسامحة ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ﴾ عنكم وعن إنفاقكم؛ ولكنه تعالى يمتحن بهذه الأوامر قلوبكم ﴿حَمِيدٌ﴾ محمود، وأهل لكل حمد. أو «حميد» يحمد أفعالكم الحسنة؛ فيجازيكم عليها
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ أي يخيل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بمالكم، ويفضي إلى سوء حالكم؛ ولكن الله تعالى ﴿يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ﴾ لذنوبكم ﴿وَفَضْلاً﴾ يختصكم به في الدنيا ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ موسع عليكم جزاء إنفاقكم؛ ألا ترون إلى قوله جل شأنه: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ وقوله عز وعلا: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وقد وعد تعالى مغفرة ذنوبكم: جزاء حسناتكم ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ ﴿عَلِيمٌ﴾ بالمنفقين فيكافئهم، وبالممسكين فيعاقبهم
﴿يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ﴾
والحكمة: العلم النافع، الموصل لخيري الدنيا والآخرة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ ومن الحكمة: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى صادق الوعد، وأن ما يبذله في سبيله سيؤتيه مكانه أضعافاً مضاعفة في الدنيا، وثواباً عظيماً ومغفرة ورضواناً في الآخرة ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ﴾ يتذكر ﴿إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذووا العقول
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الأغنياء؛ الذين ظلموا الفقراء بحبس حقوقهم عنهم، ومنع إيصال الصدقات إليهم؛ فهؤلاء ما لهم ﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ينصرونهم من الله تعالى، ويمنعون عنهم عذابه يوم القيامة. أو المراد: أنهم ليس لهم أنصار في الدنيا؛ لكراهة الناس لهم، وبغضهم إياهم (انظر الآيات ١٤١ من سورة الأنعام، و٦ و٧ من سورة فصلت)
﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ﴾ وتوزعوها أمام الناس عياناً ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ فنعم شيئاً هي؛ لأن إبداءها يحفز الهمم على التقليد لكم، والاقتداء بكم ﴿وَإِن تُخْفُوهَا﴾ عن الناس، وتتستروا عند إعطائها ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لأن فيه جبر خواطر الفقراء، وعدم إذلالهم والأفضل أن يبدي الزكاة المفروضة للاقتداء، ويخفي الصدقة حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه ﴿وَيُكَفِّرُ﴾ يمحو
﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿هُدَاهُمْ﴾ أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ فلست ملزماً بهدايتهم؛ إنما عليك الإنذار والبلاغ المبين ﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ أي فثوابه وأجره عائد عليكم ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ جزاؤه في الدنيا بالستر، وفي الآخرة بالأجر
﴿لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ﴾ منعوا بسبب الجهاد عن التكسب، وعن السير في مناكبها ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ أي لا يستطيعون سفراً للتجارة والكسب
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ بحالهم ﴿أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ وذلك لإبائهم السؤال، ومجانبتهم التملق والتزلف ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ بما يلوح عليهم من انكساف البال، ورثاثة الحال ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً﴾ إلحاحاً أي يأخذونه ويستحلونه. والربا: الزيادة. هذا وقد فشا الربا في مجتمعنا هذا فشواً شنيعاً ذريعاً؛ ينذر بضياع الثروة، ومحو البركة، وسقوط المحبة، وانعدام التعاطف والتراحم بين الناس. وآكلوا الربا
﴿لاَ يَقُومُونَ﴾ يوم القيامة. أو «لا يقومون» في الدنيا ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾ وهو المصروع ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ الجنون. وهذا مشاهد فيهم في الدنيا؛ إذ هم - رغم وفرة أموالهم، ومزيد ثرائهم - لا يزالون في هم دائم، وفكر مقيم وقد حرمهم الله تعالى اللذائذ - رغم توافر أسبابها - ومن النعم - رغم وجود مقوماتها - فتجدهم يأكلون أطايب الطعام؛ وكأنما يتناولون السم الزعاف، ويتداولون النقود، وكأنما يتداولون الصخور والأحجار، وينامون على الحرير، وكأنما يتقلبون على الجمر فحياتهم دائماً ظاهرها النعيم، وباطنها العذاب الأليم ويظن كثير من الناس أن إثم الربا يقع على آكله دون موكله؛ وأن موكله لا نص يوجب تأثيمه؛ وهو ظن فاسد، ووهم باطل؛ فالدليل قائم على اشتراك الموكل مع الآكل في الجرم والإثم؛ لقوله: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ ذلك قولهم عند نزول هذه الآيات البينات، القاطعات الدلالة؛ وقد خلف من بعدهم خلف قالوا قالتهم، وساروا على نهجهم واتبعوا طريقتهم؛ وها نحن أولاء وقد فشا بيننا الربا فشواً يؤذن بالتدمير، وينذر بسوء المصير وها هو تاريخ الكفر يعيد نفسه؛ فإذا بالمعاملات جميعها وقد صار الربا جزءاً منها متمماً لها؛ ويا ليت المتعاملين به يقولون بتحريمه؛ كمن يتعاطى الخمر ويرتكب الزنا؛ عالماً بتحريمهما، كارهاً لهما؛ ولكنهم يتعاطون الربا، ويقولون كما قال آباء لهم من قبل: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾
لأنه عن تراضٍ. كما أن الزيادة في ثمن المبيع بسبب تأخير دفع الثمن؛ لا غبار عليها، وهي مما أحل الله ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ لأنه ظلم وغصب - ولو أنه يتخذ دائماً مظهر الرضا في كثير من الأحيان - ومن عجب أن قام أناس من العلماء، يحلون ذلك الوباء؛ فإن الله وإنا إليه راجعون ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ﴾ تهديه إلى سواء السبيل، وتحول بينه وبين هذا الداء الوبيل ﴿فَانْتَهَى﴾ فامتنع عن أكل الربا، ورجع إلى الله تعالى ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾
-[٥٧]- ما مضى من أمره قبل مجيء الموعظة، ولا يعاقبه الله تعالى عليه؛ بشرط أن يرد ما أخذه لأربابه؛ لأنه ظلم. والظلم قرين الكفر قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ﴾ ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى أكل الربا؛ بعد استماع الموعظة ﴿فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وأولئك الذين أعلن الله تعالى ورسوله الحرب عليهم: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا﴾ يبطله ويذهب ببركته ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يزيد وينمي المال الذي أخرجت منه الزكاة فاعجب لمال يزيد: فينقصه الله ويمحقه، ولمال ينقص فيزيده الله تعالى ويباركه
هذا فضلاً عن زيادة ثواب الزكاة والصدقة ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ شديد الكفر ﴿أَثِيمٍ﴾ كثير الإثم
﴿وَذَرُواْ﴾ اتركوا ﴿مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ لكم عند مدينيكم
﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ ذلك، وطالبتم بما استحق لكم من الربا؛ بعد ما علمتم حرمته وشؤمه ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الويل كل الويل لمن سمع هذا الإنذار ولم يرتجع ولم يتب؛ بل انتحل الأعذار التي لا يستسيغها بعض المخلوقات، فضلاً عن مبدع الكائنات والإيذان: الإعلام
﴿وَإِن كَانَ﴾ المدين ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ لا يستطيع دفع ما عليه في موعده ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ مهلة وانتظار ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي إلى أن يتيسر للمدين دفع دينه. قال: «من أنظر معسراً أو وضع عنه: أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ﴾ تتصدقوا على المعسر بالترك، أو الإبراء، أو حط جزء من الدين ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما أعده الله تعالى من الأجر للمتصدق
﴿ثُمَّ تُوَفَّى﴾ تجازى ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ جزاء ما عملت من خير أو شر
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي أجل معلوم؛ وهذا غير ما يعطى على سبيل المعونة ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ ليتذكر الدائن ما له، والمدين ما عليه.
انظر أيها المؤمن كيف يعلمنا الله تعالى النظام والكتابة؛ ليحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق؛ فله تعالى الحمد والمنة، والشكر والنعمة ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ لأنه هو المدين، وهو الذي يعلم مبلغ يساره ووقته ﴿وَلْيَتَّقِ﴾ المدين المملي ﴿اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أو «وليتق» الكاتب ﴿وَلاَ يَبْخَسْ﴾ لا ينقص ﴿مِنْهُ شَيْئاً﴾ أي من الدين ﴿فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ المدين ﴿سَفِيهاً﴾ لا يحسن التصرف ﴿أَوْ ضَعِيفاً﴾ عن الإملاء؛ لمرض، أو كبر ﴿أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ﴾ لخرس، أو عي ونحوهما ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ متولي
-[٥٨]- أمره؛ كوالد، أو ولد، أو وصي، أو قيم ﴿أَن تَضِلَّ﴾ أي خشية أن تنسى ﴿إْحْدَاهُمَا﴾ إحدى المرأتين ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ بما نسيته ﴿وَلاَ يَأْبَ﴾ لا يمتنع ﴿الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ﴾ للشهادة ﴿وَلاَ تَسْأَمُواْ﴾ لا تملوا ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾ أي الدين ﴿صَغِيراً﴾ كان ﴿أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾ مدته، وموعد أدائه ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ﴾ أعدل ﴿وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾ أقرب ألا تشكوا في مقدار الدين وأجله ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ بالتسليم وتسلم الثمن ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ إذ لا فائدة من الكتابة؛ فقد تم تسلم البضاعة، وتم دفع ثمنها ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ﴾ بسبب كتابته ﴿وَلاَ شَهِيدٌ﴾ بسبب شهادته؛ ما داما قد قاما بما أمر الله به من العدل والاستقامة ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ﴾ ما نهيتم عنه، وألحقتم الضرر بمن كتب، أو شهد ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ خروج عن الطاعة ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ خافوه، واخشوا عقابه ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ما لم تكونوا تعلمون؛ بسبب خشيتكم وتقواكم
﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ﴾ أي أدوها على وجهها الأكمل؛ لترد الحقوق إلى أربابها، والمظالم إلى أصحابها ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ إسناد الإثم إلى القلب - مع أنه سيد الأعضاء والمضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله - دلالة على أن كتم الشهادة من أكبر الآثام؛ إذ أن إثم القلب ليس كإثم سائر الجوارح
﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ فيعلمه الناس عنكم ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ عن الناس؛ فإن الله تعالى يعلمه
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ من القرآن ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ آمنوا أيضاً به ﴿كُلٌّ﴾ من الرسول والمؤمنين ﴿آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ﴾ أي وآمن بوجود ملائكة الله تعالى المكرمين ﴿وَكُتُبِهِ﴾ أي وكل آمن بسائر الكتب المنزلة على رسل الله وأنبيائه السابقين ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي وآمن برسله عليهم السلام؛ الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم ﴿لاَ نُفَرِّقُ﴾ أي يقول الرسول والمؤمنون: ﴿لاَ نُفَرِّقُ﴾ ﴿بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ لذنوبنا ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فاعف عنا واغفر لنا
﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ طاقتها ﴿﴾ من الثواب ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من العقاب ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا﴾ بذنوبنا ﴿إِن نَّسِينَآ﴾ إن فعلناها ناسين ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أو فعلناها مخطئين، غير عامدين. قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً﴾ أي لا تكلفنا أمراً يثقل علينا حمله وأداؤه. والإصر: العبء الثقيل ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ كبني إسرائيل؛ حين شددوا فشدد الله تعالى عليهم، وحرم عليهم طيبات أحلت لغيرهم (ربنا لا تحملنا
-[٥٩]- ما لا طاقة لنا به) أي لا تحملنا ما يصعب علينا القيام به. وليس معناه: لا تحملنا ما لا قدرة لنا على احتماله لأن ما لا قدرة عليه؛ لا يدخل في باب التكليف ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ﴿أَنتَ مَوْلاَنَا﴾ سيدنا ومتولي أمورنا
58
سورة آل عمران

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

59
Icon