ﰡ
٦- اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السموات والأرض وأنه هو الرازق، وأنه كاشف الضر والمنجي من المخاطر، وذلك يتضمن الحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح.
٧- الامتنان على أهل مكة بإقامتهم في الحرم الآمن، مع خوف من حولهم، ثم كفرهم بهذه النعمة وغيرها بالإشراك بالله، وتكذيب رسوله، وهو غاية الظلم.
٨- بيان جزاء المؤمنين الذين صبروا أمام المحن والشدائد، وجاهدوا في سبيل الله بالنفس والمال، واجتازوا المحنة بأمان وسلام.
اختبار الناس وجزاؤهم
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤)مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا أَنْ يُتْرَكُوا: منصوب ب حَسِبَ سدّ مسد مفعوليها. وأَنْ يَقُولُوا: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن يقولوا.
ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما: إما في موضع رفع بمعنى: ساء الشيء أو الحكم حكمهم، وإما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون.
البلاغة:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. استفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.
صَدَقُوا والْكاذِبِينَ بينهما طباق.
فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ التأكيد بإن واللام لأن المخاطب منكر.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
المفردات اللغوية:
الم هذه الحروف الهجائية تنبيه على إعجاز القرآن، ووقوع الاستفهام بعدها دليل على استقلالها بنفسها أَحَسِبَ النَّاسُ أظن الناس، والاستفهام إنكاري، وتدخل حَسِبَ على الجملة للدلالة على جهة ثبوتها أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، بل يمتحنهم الله بمشاقّ التكاليف، كالهجرة والجهاد ومقاومة الشهوات والقيام بالطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ يختبرون ويمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم بالتعرض للشدائد.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي ليظهرن صدقهم وكذب المكذبين، وينوط به ثوابهم وعقابهم. وهذا تعلق حالي وعلم مشاهدة يتميز به الفريقان، ولا ينافي تعلق علم الله القديم بكل شيء، فهو عالم بما خلق قبل الخلق.
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والأعضاء أَنْ
يفوتونا فلا ننتقم منهم، أي الفوت عن الجزاء على مساويهم ساءَ بئس الحكم هذا ما يَحْكُمُونَ الذي يحكمونه، أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا. مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي يأمل ويطمع في لقائه وثوابه وجزائه في الجنة، وقيل: يخاف لقاءه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ أي فإن الوقت المحدد للقائه أو هو الموت لجاء لا محالة، فليستعد له وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأفعالهم.
وَمَنْ جاهَدَ نفسه بالصبر على الطاعة والكف عن الشهوات، وبذل جهده في مقاومة الأعداء بالنفس أو المال فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فإن منفعة جهاده له إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ عن الإنس والجن والملائكة، وعن عبادتهم، فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنما كلف عباده رحمة بهم ومراعاة لصلاحهم لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بعمل الصالحات فيسقط عقابها بثواب الحسنات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصالحات، وأَحْسَنَ إما بمعناه أو بمعنى حسن، وهو منصوب بنزع الخافض: الباء، والمعنى لنجزينهم بأحسن جزاء لأعمالهم، وهو أن يجازي الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة.
سبب النزول:
روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل: في عمار، وقد عذب في الله، أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:
نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله: أَحَسِبَ النَّاسُ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية قال: أنزلت في أناس كانوا بمكة، وقد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتّبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل ١٦/ ١١٠].
وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم يومئذ: «سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. الآية.
التفسير والبيان:
الم هذه الحروف المقطعة بدئ بها لتنبيه السامع وطلب إصغائه وإشعاره بإعجاز القرآن الدال على كونه كلام الله الحكيم الخبير.
وقد لاحظ الرازي «١» أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كأوائل سورة البقرة الم، ذلِكَ الْكِتابُ وآل عمران الم... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والأعراف المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ويس يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وص ص، وَالْقُرْآنِ وق ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، والحواميم (غافر أو المؤمن، وفصلت أو السجدة، والشورى) إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت، والروم.
وقد حصل التنبيه في القرآن بغير حروف التهجي التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى في أول سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
والسبب في بدء هذه السورة بهذه الحروف، وليس فيها الابتداء بالقرآن أو الكتاب هو الإشارة إلى مبدأ التكليف، وجميع التكاليف فيها ثقل على النفس، فبدئ بحروف التنبيه للفت النظر إلى خطورة ما يلقى بعدها.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أظن الناس بعد خلقهم أن يتركوا بغير اختبار بمجرد قولهم: آمنا بالله ورسله، وهم لا يمتحنون بمشاق التكاليف كالهجرة والجهاد في سبيل الله، ومقاومة الشهوات، ووظائف الطاعات والفرائض المالية والبدنية من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها، والتعرض للمصائب في الأنفس والأموال والثمرات، ليتميز المؤمن المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ونجازي كل واحد بحسب عمله.
وهذا استفهام إنكار، معناه أن الله تعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما
جاء في الحديث الصحيح: «أشدّ الناس بلاء:
الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد له في البلاء».
ونظير هذه الآية قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٢] وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة ٢/ ٢١٤].
وقد بينت أن هذه الآية نزلت في بعض المؤمنين في مكة، الذين كان كفار
ويظهر أن التعرض للأذى باق في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم ما دام هناك إسلام يمثل جوهر الحق، وعقيدة صحيحة تتحدى تيارات الإلحاد والكفر والعلمانية وأوضار الوثنية في كل أنحاء الأرض، وما دام قرآن مجيد يحافظ على وجود المسلمين، ويتلى في كل مكان. ولن تفلح قوى الشر في إخفات صوت الإسلام، ودفن صرح التدين، وتصفية جند الإيمان بالله عز وجل، قال ابن عطية: وهذه الآية، وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال، فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر لأن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.
وليس الافتتان والإيذاء بدعا بين المسلمين، وإنما هو سنة الله الدائمة في خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل، لذا قال تعالى تسلية لهم: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي وتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء القدامى بأنواع عديدة من الشدة والمشقة والضرر، كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٦].
والهدف من الاختبار أن يعلم الله علم ظهور وانكشاف، أي يظهر الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، وسيجازي كل واحد بما قدّم. والله يعلم سلفا ما كان وما يكون وما لم يكن، ولو كان كيف يكون، بإجماع أهل السنة والجماعة، لذا قال ابن عباس في مثل قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ: إلا لنرى لأن الرؤية تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقد ورد في السنة الصحيحة أخبار ونماذج من تعذيب المؤمنين قبل الإسلام، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال:
قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك!! قال: إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:
الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها «١»، وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء».
والخلاصة: أن الحياة ميدان كفاح وجهاد وشقاء وعناء، وكلما عظمت
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يفوتونا فلا نجازيهم؟ لن يفلتوا من عذابنا، بئس ما يظنون، وبئس الحكم ما حكموا بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ولا يعاقبون، إنه حكم مغلوط سيء رديء، يتنافى مع مقتضى العقل والشرع والعدل.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل والأسود، والعاص بن هشام، وعتبة والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاص بن وائل.
وبعد بيان أن من ترك التكليف عذّب، بيّن سبحانه أن من آمن بالآخرة وعمل لها، يجد ثواب عمله فقال:
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي من كان يتوقع الخير ويطمع ويأمل في ثواب الله الجزيل في الدار الآخرة، ويعمل صالحا، فإن الله سيحقق له رجاءه، ويوفيه عملا كاملا غير منقوص، فإن وقت البعث والحياة الثانية بالحشر كائن لا محالة، والله سميع الدعاء وجميع أقوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء، عليم بصير بكل الكائنات، يعلم عقائدهم وأعمالهم، ويجازي كل واحد بما عمل. وهذا دليل على تأكد حصول الوعد
وأجل الله: يمكن أن يكون المراد به الموت، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بعد الحشر.
وقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ شرط وجزاء، والمراد وعد المطيع بما يعده من الثواب، فمن كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت بثوابه، يثاب على طاعته عنده، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو.
لكن نفع التكليف للمكلف لا لله تعالى:
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي ومن جاهد نفسه وهواه، فأدى ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه، فإن ثمرة جهاده تعود له، ونفع عمله لنفسه لا لغيره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت ٤١/ ٤٦]، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء ١٧/ ٧] فإن الله غني عن أفعال عباده وجميع خلقه من الإنس والجن.
ونوع جزاء المطيع هو:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنه تعالى مع غناه عن الخلائق جميعهم، فإنه يجازي أحسن الجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض وفعل الخيرات، من مواساة البائسين وإغاثة المظلومين، ودعم أمتهم بالنفس والنفيس، وأحسن الجزاء: هو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الواحد
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- الدنيا دار ابتلاء واختبار وتكليف بالشاق من الأعمال، فلا يكفي مجرد إعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله، بل لا بدّ من الابتلاء بأنواع المصائب، وألوان الطاعات لأن المقصد الأسمى من العبادة محبة الله، كما
ورد في الخبر الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه»
فإذا قال الإنسان: آمنت بالله بلسانه، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فاحتاج إلى شهود تصدقه، وأداء الطاعات والقربات، واجتناب المحظورات شهود عيان للتصديق.
ويكون الابتلاء سبيلا للرقي من أول الدرجات إلى أعلى الدرجات، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة ٥٨/ ١١] وقال سبحانه: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء ٤/ ٩٥].
٢- الابتلاء سنة الله في خلقه، وعادته في عباده، فقد ابتلى الله الماضين كإبراهيم الخليل ألقي في النار، وكيحيى الحصور الذي قتل، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله، فلم يرجعوا عنه، كما تقدم بيانه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون وقومه، كما ابتلوا بقارون، وأصابهم الجهد الشديد، وابتلي المؤمنون بعيسى بمن كذبه وأعرض عنه، وهمّ بقتله، وهم اليهود وحكام عصره.
٣- الهدف من الابتلاء إظهار صدق الصادقين في إيمانهم وتبيّنه في واقع الأمر، وكشف كذب الكاذبين الذين يدّعون الإيمان بالله، وهم كافرون به.
٥- لا بدّ من أن يجازي المحسن بإحسانه يوم القيامة.
٦- هذه الحقائق الثلاث المتقدمة وهي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يطمع في لقاء ربه، حاصلة لا شك فيها، ولكن من جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار، وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، ويكون ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله شيء من النفع، ومن أهمل جهاد نفسه، ولم يؤد طاعة ربه، ولم يتجنب الحرام، فإنما يسيء لنفسه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت ٤١/ ٤٦] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء ١٧/ ٧].
والله غني عن أعمال عباده، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
٧- إن نوع جزاء العمل الصالح لا مثيل له في الدنيا عند أحد من الخلائق، فإن الله تعالى يغطي السيئات بالمغفرة، ويضاعف الحسنات وثواب الطاعات، ولا يهمل شيئا منها مهما قلّ، وإنما يقدره على أحسن وجه وأكمله، ويجازي الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بأحسن أعمالهم.
٨- الآيات في الجملة تعرّف بحقائق الدنيا، فهي قائمة على الابتلاء والاختبار، وتشحذ العزائم لزرع العمل الصالح في الدنيا، وتؤكد أن يوم الجزاء قريب الحصول، لإقامة العدل بين المحسن والمسيء، وتبين أن العمل الصالح خير للإنسان نفسه لا لغيره، والله غني عن العالمين.
٩- دلت آية وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ على وجوب إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له لأن من علم أن الله يراه
١٠- الجزاء على العمل بحكم الوعد لا بالاستحقاق. وتدل الآية المتقدمة على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه ليس هناك سلطان أعلى من الله يوجب شيئا عليه، والعبد أدنى منه، وتدل أيضا على أن الله تعالى ليس في مكان معين، وليس على العرش على الخصوص، لأن العرش من مخلوقات الله، والله غني عنهم.
١١- في هذه الآية أيضا بشارة وإنذار، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين، فلو أهلك عباده فلا شيء عليه لغناه عنهم، وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده، لا شيء عليه لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام.
١٢- قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يفيد التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه.
والإيمان: التصديق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره. والعمل الصالح: كل ما أمر الله به، فيصير صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا، ولا بقاء للعمل الصالح إلا إذا كان لوجه الله الباقي حتى يبقى، وما لا يكون لوجهه لا يبقى، لا بنفسه لأنه عرض زائل، ولا بالعامل لأنه ميت هالك، ولا بالمعمول له لأن غير الله فان، فالعمل الصالح: هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله.
والنية: شرط في الصالحات من الأعمال، وهي قصد الإيقاع لله. والعمل الصالح: لا يرتفع إلا بالكلم الطيب وهو الإيمان، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل.
وهذا كما قال الرازي يقتضي أمورا ثلاثة:
الأول- المؤمن لا يخلد في النار لأنه بإيمانه تكفر سيئاته، فلا يخلد في النار.
الثاني- الجزاء الأحسن المذكور هنا غير الجنة لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة، ولا يبعد أن يكون الجزاء الأحسن هو رؤية الله عز وجل.
الثالث- الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا، فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسّن حالة صاحبه في الدنيا، فيجزى الجزاء الأحسن في العقبى، والإيمان لا يبطله العصيان، بل هو يغلب المعاصي ويسترها، ويحمل صاحبها على الندم «١».
١٣- أجمل الله حال المسيء بقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ.. إشارة إلى التعذيب، وحال المحسن بقوله: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ثم فصل حال المحسن بآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه، وفضله أعم من عدله.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
الإعراب:
وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فيه حذف الجار والمجرور، أي ولنحمل خطاياكم عنكم.
البلاغة:
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ استعارة، شبه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل الإنسان معنويا.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أمرنا، وصى بمعنى أمر معنى وتصرفا. حُسْناً أي بأن يفعل معهم حسنا، أي فعلا ذا حسن بأن يبرهما، أو هو الحسن نفسه مبالغة، كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه، وقرئ: حسنا وإحسانا. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ما ليس لك بإشراكه علم، أو ما ليس لك بألوهيته علم، أي معلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، عبر عن نفي الألوهية بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه. فَلا تُطِعْهُما في الإشراك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق الجزاء. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيكم به.
لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم، وهم الأنبياء والأولياء، بأن نحشرهم معهم. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. فِتْنَةَ النَّاسِ أذاهم له في الصرف عن الإيمان. كَعَذابِ اللَّهِ في صرف المؤمنين عن الكفر، فيطيعهم فينافق. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ اللام لام القسم، ومجيء النصر بالفتح للمؤمنين والغنيمة. لَيَقُولُنَّ حذفت منه نون الرفع: ليقولونن لتوالي النونات، وحذفت الواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين والإيمان، فأشركونا في الغنيمة. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ أي بعالم. بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق؟ بلى.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بقلوبهم. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين: لام قسم. اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقنا الذي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي عنكم في اتباعنا، إن كانت لكم خطايا، والأمر بمعنى الخبر. مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: مزيدة، والتقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم. أَثْقالَهُمْ أوزارهم أو ذنوبهم التي اقترفتها أنفسهم. وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي ذنوبا أخرى معها لما تسببوا له بالإضلال وحمل الآخرين على المعاصي، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت. عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها.
سبب النزول:
نزول الآية (٨) :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم
وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّا بأمّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعيّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به.
وقال ابن عباس في آية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.
نزول الآية (١٠) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ: نزلت في المنافقين. قال مجاهد:
نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.
وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدّوا، والذين نزلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
نزول الآية (١٢) :
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حسن التكاليف وثواب الآتي بها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر أن الإتيان بها واجب ولو كان ذلك بمخالفة الوالدين اللذين يجب الإحسان إليهما والطاعة، فلا يكون ذلك مانعا من الإيمان ورفض الشرك ومقاومة معصية الله تعالى.
ثم ذكر أن العامل بالصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء.
وبعد أن أبان الله تعالى حال صنفين من المكلفين: المؤمن حسن الاعتقاد والعمل، والكافر المجاهر بكفره وعناده في قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أردف ذلك ببيان حال الصنف الثالث وهم المنافقون بقوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ.
ثم ذكر الله تعالى محاولات الكفار في فتنة المؤمنين عن دينهم، ودعوتهم بالرفق واللين إلى الشرك، ومساومتهم واستعدادهم تحمل تبعات ذنوب المؤمنين إن كانت.
تشتمل الآيات على موضوعات ثلاثة: التمسك بالتوحيد ولو بمخالفة أمر الأبوين رغم الأمر بالإحسان إليهما، وأقسام المكلفين الثلاثة، وبعض مظاهر الفتنة عن الدين.
الموضوع الأول:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد أمرنا العباد بالإحسان إلى الوالدين ببرهما قولا وفعلا لأنهما سبب وجوده، كما قال تعالى:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء ١٧/ ٢٣- ٢٤]. ونكّر كلمة حُسْناً ليدل على الكمال.
ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، فإنه وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فلا تطعهما في ذلك، في دعوتهما إلى الاعتقاد فيما ليس معلوما لك إذ كما
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وإذا كان لا يصح اتباع ما ليس معلوما ثبوته، فلا يجوز اتباع ما علم بطلانه بالأولى، وهذا دليل على أن متابعتهم في الكفر لا تجوز.
والسبب مرجعكم جميعا إلى يوم القيامة، المؤمن والكافر، والبار بوالديه والعاق لهما، فأجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه وصبره على دينه، والمسيء بإساءته، لذا قال محرضا على الصلاح والإيمان:
والسبب في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان حال الهادي هنا بعد بيان حال المهتدي قبل ذلك بدليل أنه قال أولا: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ثم قال ثانيا هنا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء، ولهذا قال كثير من الأنبياء: أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كما أنه تعالى ذكر أولا حال الضال بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثم هدد المضل بقوله:
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ فصار البيان المتقدم لقسمين من المكلفين: المهتدي والضال، والبيان المتأخر لقسمين آخرين هما: الهادي والمضل «١».
الموضوع الثاني:
حال المنافقين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي ويوجد فريق من الناس، هم قوم من المكذبين المنافقين الذين يقولون بألسنتهم: صدقنا بوجود الله ووحدانيته، ولكن لم يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنه إذا نزلت بهم محنة وفتنة في الدنيا، فآذاهم المشركون لأجل إيمانهم بالله، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام، وكان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف المؤمنين عن الكفر.
وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج ٢٢/ ١١].
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال».
ثم تحدث الله تعالى عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم فقال:
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي ولئن تحقق نصر قريب من ربك يا محمد بالفتح والغنيمة لقال هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، نناصركم على الأعداء، كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ [النساء ٤/ ١٤١].
ثم رد الله عليهم وكشف أمرهم متوعدا مبينا لهم أنه لا تخفى عليه أوضاعهم فقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان؟ بلى، إن الله عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، فيعلم المؤمن الحق والمنافق الكاذب.
ثم ذكر الله تعالى أنهم معرّضون للاختبار فقال:
ويلاحظ أنه تعالى حكم هنا على ما في القلب، فيعلم إيمان المؤمن وهو التصديق، ونفاق المنافق وهو صدقه في قوله باللسان: الله واحد، وأما فيما سبق فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليميز بين المؤمن القائل بأن الله واحد، وبين الكافر الكاذب في قوله: الله أكثر من واحد، فكان هناك قسمان: صادق وكاذب. وهنا قسم واحد وهو صادق.
الموضوع الثالث:
محاولات فتنة المسلمين عن دينهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي وقال كفار قريش لمن آمن منهم واتبع الهدى بعد بيان أحوال الناس الثلاثة: المؤمن والكافر والمنافق: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا، وأما آثامكم إن كانت لكم آثام ووجد حساب فعلينا وفي رقابنا، كما يقول القائل الجاهل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي. وهذه محاولة فتنة وإغراء للمسلمين على ترك دينهم بالرفق واللين. وقوله: وَلْنَحْمِلْ صيغة أمر من الشخص لنفسه، ولكن يراد بها الخبر، والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، كما يقول الواحد: ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فليس هو في الحقيقة أمر طلب.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم:
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر ٣٥/ ١٨] وقال سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج ٧٠/ ١٠- ١١] وقال جل وعز: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤].
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة هذا القول، فقال:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي إن دعاة الكفر والضلال هؤلاء ليحملن يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أتباعهم شيئا، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل ١٦/ ٢٥] وكما
جاء في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «١»
وفي الصحيح أيضا: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل»
وثبت أيضا: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء». «٢».
وسوف يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون
(٢) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة.
جاء في الحديث الصحيح: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم، فطرح عليه».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- بالرغم من وجوب أو افتراض بر الأبوين اللذين كانا سببا في وجود الإنسان وتربيته والإنفاق عليه، فإنه لا يجوز إطاعتهما فيما يدعوان الولد إلى الشرك والعصيان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تجوز متابعتهم في الكفر.
لذا كان قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ... وعيدا في طاعة الوالدين في معنى الكفر، وأنه تعالى سيجازي كل إنسان بما عمل، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
٢- كرر الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لتحريك النفوس إلى نيل مراتب الصالحين: وهم الذين بلغوا نهاية الصلاح وأبعد غاياته، من الأنبياء والأولياء، وإذا وصل المؤمن إلى تلك المرتبة حظي بالثمرة المرجوة وهي الجنة.
٣- ينكشف أمر النفاق وشأن المنافقين وقت المحنة، فإذا قال المنافق:
آمنت بالله، ولم يؤمن قلبه، ثم تعرض لأذى أو مصاب، ارتد على عقبيه، وترك الإسلام إلى الكفر، جاعلا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، وما أفسد هذا القياس؟! وتراه يجزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، ولا يصبر على الأذية في الله تعالى.
فرد الله عليهم: الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم، فلا يخفى عليه نفاقهم، والله يعلم المؤمن من المنافق، ويجازي كلّا بما يستحق.
٤- حاول الكفار فتنة المسلمين عن دينهم بالرفق واللين والإغراء، ليبينوا أنهم بكثرتهم على الحق، والمسلمون على باطل، وأظهروا استعدادهم لتحمل أوزار المسلمين يوم القيامة، وهم في الحقيقة والواقع كاذبون فيما يقولون، فإنهم لا يتحملون شيئا من أوزار غيرهم.
وإنما على العكس يتحملون الإثم مضاعفا: إثم أنفسهم وإثم إضلالهم غيرهم، فهم دعاة كفر وضلالة، ويسألون يوم القيامة عن افترائهم بأن لا خطيئة في الكفر، وأن لا حشر، وأنهم يتحملون خطايا غيرهم، ويقال لهم حينئذ: لم افتريتم ذلك؟!
قصة نوح عليه السلام مع قومه
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
الإعراب:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً: أَلْفَ سَنَةٍ: منصوب على الظرف، وخَمْسِينَ عاماً: منصوب على الاستثناء.
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً تفنن في التعبير، فلم يقل: إلا خمسين سنة، تحاشيا للتكرار المنافي للبلاغة، إلا إذا كان لغرض كالتفخيم أو التهويل، مثل: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة ١٠١/ ١- ٢].
المفردات اللغوية:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي مكث في قومه يدعوهم إلى توحيد الله تسع مائة وخمسين سنة، فكذبوه. روي أنه بعث على رأس أربعين، ودعا قومه تسع مائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. قال البيضاوي: ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد، فإن تسع مائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه.
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء، والطوفان في الأصل: اسم لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها. وَهُمْ ظالِمُونَ بالكفر. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا. وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي الذين أركبهم معه من أولاده وأتباعه المؤمنين، وكانوا ثمانين، أو ثمانية وسبعين، نصفهم ذكور ونصفهم إناث. آيَةً عبرة. لِلْعالَمِينَ لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسله، يتعظون ويستدلون بها.
المناسبة:
بعد بيان التكليف وأقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، ووعيد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، ذكر الله تعالى قصة أطول الأنبياء عمرا نوح عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن معه إلا قليل.
ثم أتبع ذلك بذكر قصص أنبياء آخرين: إبراهيم، ولوط وهود وشعيب وصالح، لبيان عاقبة الله في المكذبين من المكلفين، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من أذى الكفرة، وعبرة لمن يعتبر، وتأكيدا لما في بداية السورة الكريمة من أن الابتلاء سنة الحياة.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام، وهو أول نبي أرسل، إلى قومه الذين كانوا كفارا، لا يؤمنون بالله، وإنما يعبدون الأصنام، فاستمر مقيما معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، والإيمان بيوم القيامة، فلم يؤمنوا بدعوته، وكذبوه، وما آمن معه منهم إلا قليل: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح ٧١/ ٥- ٦] قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح ٧١/ ٢١].
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ، وَهُمْ ظالِمُونَ أي بعد هذه المدة الطويلة، لم يفدهم البلاغ والإنذار، فأغرقهم الله بالطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم، فإن الأمر بيد الله تعالى، وإليه ترجع الأمور.
فإن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في دعوة قومه إلى الإيمان بالله، ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر. وكان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر، ومع ذلك ما نجوا، فلا يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي فأنجينا نوحا والذين آمنوا معه بركوب السفينة التي أوحى الله إليه كيفية صنعها، ثم سارت في البحر، حتى استقرت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل ربك سفينة نوح تذكرة لنعمة الله على خلقه كيف أنجاهم من الطوفان، وعبرة وعظة يتأمل بها من يأتي بعدهم من الناس، كيف يعاقب الله من عصوا رسله وكذبوا بأنبيائه، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ،
[الحاقة ٦٩/ ١١- ١٢]. والضمير في قوله:
جَعَلْناها عائد إلى السفينة المذكورة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا عرض موجز جدا لقصة نوح مع قومه، فصلت في مواضع أخرى كثيرة من القرآن الكريم. وقد دلت مع هذا الإيجاز على العظة المؤثرة منها، فإنها ذكرت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم لما أسف على إعراض قومه عن دعوته، فأخبره الله تعالى بأن الأنبياء قبلك ابتلوا بالكفار من أقوامهم فصبروا، وخص نوحا بالذكر أولا لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض، بعد أن امتلأت كفرا، وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح عليه السلام، كما تقدم في سورة هود.
روى ابن عساكر عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح».
واختلف في عمره، قال الحسن البصري: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاث مائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلاث مائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان، قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان، دخلت من هذا، وخرجت من هذا.
وبالرغم من هذه المدة الطويلة في الدعوة إلى توحيد الله، لم يؤمن برسالة نوح عليه السلام إلا فئة قليلة.
وظهر في القصة بنحو ملحوظ مصير المؤمنين ومصير الكافرين، أما الأوائل فقد نجاهم الله في السفينة التي كان نوح قد صنعها، فركبوا فيها ونجوا من الغرق، وأما الكافرون المكذبون فقد أغرقهم الله جميعا، وجعل الله السفينة أو العقوبة أو النجاة عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ.
- ١- الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والبعث
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ٢٣]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
الإعراب:
وَإِبْراهِيمَ منصوب عطفا على نوح في آية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أي وأرسلنا إبراهيم، أو عطفا على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكر إبراهيم. والعامل في إِذْ قالَ هو العامل في إِبْراهِيمَ فهو على الأول ظرف لأرسلنا.
لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يحتمل كونه مصدرا بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم، وأن يراد المرزوق، وتنكيره للتعميم.
البلاغة:
يُبْدِئُ ويُعِيدُهُ يُعَذِّبُ ويَرْحَمُ بين كلّ طباق.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أسلوب الإطناب للتشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
يَسِيرٌ وسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بينهما جناس ناقص غير تام.
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ التصريح باسم الله هنا بعد إضماره في قوله بَدَأَ الْخَلْقَ للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنها أهون.
المفردات اللغوية:
وَاتَّقُوهُ خافوا عقابه. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من عبادة الأصنام. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من غيره وتميزون ما هو شر مما هو خير. أَوْثاناً جمع وثن: وهو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم: ما كان من معدن كنحاس وغيره، والتمثال: ما هو مثال لكائن حي. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً تقولون كذبا في تسميتها آلهة، وادعاء شفاعتها عند الله، وأنها شركاء لله، وهو دليل على شرّ ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل لا حقيقة له.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لا يقدرون أن يرزقوكم، وهو دليل ثان على شر ما هم عليه، من حيث إن تلك الأوثان لا تجدي شيئا. فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ اطلبوه منه، فإنه المالك له. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، شاكرين له نعمه. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مستعدين للقائه بالعبادة والشكر، فإنكم راجعون إليه.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي تكذبوني. فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبلي من الرسل، فلم يضرهم تكذيبهم، وإنما ضرّ أنفسهم، حيث تسبب لما حلّ بهم من العذاب، فكذا تكذيبكم.
إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا البلاغ البيّن الذي زال معه الشك.
وهذه الآية: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وما بعدها إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ من جملة قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون المذكور اعتراضا، بذكر شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم
يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء من مادة وغيرها. ثُمَّ يُعِيدُهُ يعيد الخلق بعد الموت كما بدأهم. إِنَّ ذلِكَ المذكور من الخلق والإعادة. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء، فكيف ينكرون الثاني؟ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ لمن كان قبلكم وأماتهم، على اختلاف الأجناس والأحوال. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق مرة أخرى، بعد النشأة الأولى التي هي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان، من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم، فالنشأة: الخلق والإيجاد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه البدء والإعادة لأن قدرته لذاته وكل الممكنات بالنسبة إلى ذاته سواء، فيقدر على النشأة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردّون بعد موتكم. بِمُعْجِزِينَ ربكم عن إدراككم، أي جاعلين الله عاجزا. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا تفوتونه أينما كنتم، سواء بالتواري في الأرض أو التحصن في السماء. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. مِنْ وَلِيٍّ قريب، أو متولي الأمر يمنعكم منه. وَلا نَصِيرٍ معين، ينصركم من عذابه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو بكتبه. وَلِقائِهِ بالبعث. يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي لتحقق الوقوع والمبالغة فيه.
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بكفرهم.
المناسبة:
بعد الانتهاء من بيان قصة نوح أبي البشر الثاني عليه السلام، أورد الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وإمام الحنفاء، بقصد عرض نماذج من سيرة الأنبياء للنبي صلّى الله عليه وسلم ليتأسى بهم، ويسلو عما أهمه من إعراض قومه عن دعوته، كما بيّنت.
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء عذابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر فيهما، إن كنتم ذوي إدراك وعلم، تميزون به بين الخير والشر، وتفعلون ما ينفعكم.
فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ معناه: أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه، وشر ما يسيرون عليه، فقال:
الدليل الأول:
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر، صنعتموها بأيديكم، فلا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، فسميتموها آلهة، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة.
فقوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً معناه: تختلقون الإفك أي الكذب والباطل، بتسمية الأوثان آلهة، وشركاء لله، أو شفعاء إليه.
الدليل الثاني:
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فكيف تعبدونها؟!
ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة، فقال:
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي وإن تكذبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، فأضروا أنفسهم بذلك، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، وعلى الله الحساب.
فقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: لا واجب عليه إلا التبليغ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله، والإبانة: وهي إقامة البرهان على ما جاء به.
وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا
وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق، فقال:
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قل يا محمد: سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار، وأشجار وأثمار، وأنهار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت ٤١/ ٥٣] وقوله سبحانه:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور ٥٢/ ٣٥- ٣٦].
هذا هو المتفرد بالخلق، وذلك دليل على وجوده، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة، فإن الله قدير على كل شيء، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل كَيْفَ يُبْدِئُ للدلالة على القدرة المستمرة، ثم عبّر بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ للعلم بما بدأ.
ويلاحظ أنه تعالى قال أولا أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ بصيغة الاستفهام، ثم قال: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بصيغة الأمر لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي: وهو الحاصل من غير طلب، والآية الثانية إشارة إلى
ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال:
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فله الخلق والأمر، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد، فيحاسب الخلائق على ما قدموا، وحسابه حق وعدل لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما
جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن: «إن الله لو عذّب أهل سماواته، وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم».
وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة، مع أن الرحمة سابقة كما
في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي»
لأنه ذكر الكفار أولا، ولمناسبته التهديد السابق بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا... وإعادة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ بعد قوله:
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا، فلا بدّ من حصولهما، فإن إليه الإياب وعليه الحساب، وعنده يدخر الثواب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض، ولا يقدر على الهرب من قضائه، بل هو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم.
وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد، والقدرة الإلهية الفائقة التصور، والتوحيد، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر، فقال:
وتكرار أُولئِكَ في الآية للدلالة على أن كل واحد من اليأس والعذاب لا يوجد إلا في الكفار، وقد أضاف اليأس إليهم بقوله: أُولئِكَ يَئِسُوا فلو طمعوا بالرحمة لأنزلها عليهم، ثم إنه تعالى أضاف الرحمة لنفسه رَحْمَتِي لبيان عمومها لهم ولزومها له، ولم يضف العذاب لنفسه لتخصيصه بالكفار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كانت دعوة إبراهيم كدعوة جميع الأنبياء عليهم السلام إلى عبادة الله (أي إفراده بالعبادة) وتوحيده واتقاء عذابه بفعل أوامره وترك معاصيه.
وقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره، فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إثبات الإله، وقوله: وَاتَّقُوهُ نفي الغير.
٢- إن الوثنيين يعبدون أصناما من صنع أيديهم ويختلقون الكذب بجعل تلك الأصنام شركاء لله شفعاء عنده، مع أنها لا تملك ضرّا ولا نفعا، ولا تقدر على جلب الرزق لأحد، إنما الرازق الذي يطلب منه الرزق هو الله وحده، فيجب على العباد أن يسألوه وحده دون غيره لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور: إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته، وإما لكونه نافعا في الحال أو في المستقبل، وإما
٣- الله تعالى هو بادئ الخلق، خلق الإنسان والحيوان والنبات والثمار، فتحيى ثم تفنى، ثم يعيدها، ويهلك الإنسان، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة لأن القادر على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، وذلك هيّن يسير على الله، لأنه إذا أراد أمرا قال له: كُنْ فَيَكُونُ. وبإيراد آية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ تكون الآيات دالة على الأصول الثلاثة:
التوحيد، والرسالة بقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والحشر.
٤- إن آفاق الكون سمائه وأرضه خلقها الله تعالى، وهو الذي يعيد الخلق مرة أخرى لأنه القادر على كل شيء، وهذا يفيد كون الإعادة أمرا مقدورا، وذلك كاف في إمكان الإعادة، وهو تقرير لكون الأمر يسيرا على الله تعالى.
٥- الله سبحانه هو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، يعذّب من يشاء تعذيبه بعدله وحكمته وهو تعذيب أهل التكذيب، ويرحم من يشاء رحمته بفضله، وهو رحمة المؤمنين، والجميع عائدون إليه، محاسبون أمامه، ولا يعجزه أحد في السماء والأرض. وهذا كله لتخويف العاصي وتفريح المؤمن.
٦- ليس لأحد سوى الله من ولي يتولى أمره حفظا وعناية ورعاية، ولا من ناصر معين يعينه على التخلص من الشدائد.
٧- إن الذين كفروا بالقرآن، أو بما أقامه الله من أدلة وأعلام على وجوده وتوحيده وقدرته لا نصيب لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى، فهم أيسوا من
٨- دلّ قوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلّغ شيئا ولم يبيّنه، فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتيا بما عليه.
- ٢- جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
الإعراب:
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ إِنَّمَا: كافة ومكفوفة، وأَوْثاناً مفعول اتَّخَذْتُمْ واقتصر على مفعول واحد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ. ومَوَدَّةَ مفعول لأجله، أي إنما اتخذتم الأوثان للمودة فيما بينكم. ويجوز أن تكون (ما) في إِنَّمَا اسما موصولا بمعنى
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْآخِرَةِ جار ومجرور متعلق بمحذوف مقدر، أي: وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين، أو متعلق ب الصَّالِحِينَ على رأي بعضهم، فإنه نزلها منزلة الألف واللام التي للتعريف، لا بمعنى التي للذين.
البلاغة:
أَوْ حَرِّقُوهُ على طريقة أسلوب الإيجاز، أي حرقوه في النار، وكذا فَأَنْجاهُ اللَّهُ..
أي ففعلوا فأنجاه الله من النار.
المفردات اللغوية:
جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم له. إِلَّا أَنْ قالُوا كان ذلك قول بعضهم، لكن لما قيل فيهم أو رضي به الباقون، أسند إلى كلهم. حَرِّقُوهُ أحرقوه. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي فقذفوه في النار، فأنجاه الله منها، بأن جعلها عليه بردا وسلاما. إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها.
لَآياتٍ هي حفظه من أذى النار، وإخمادها مع عظمها في زمان يسير، وإنشاء روض مكانها.
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بها.
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أي لتتواددوا بينكم وتتواصلوا في اللقاء على عبادتها. يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يتبرأ القادة من الأتباع. وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن الأتباع القادة. وَمَأْواكُمُ مصيركم جميعا. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
فَآمَنَ لَهُ صدق بإبراهيم لُوطٌ هو ابن أخي إبراهيم واسمه هاران، أو ابن أخته وأول من آمن به. وَقالَ إبراهيم. إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من قومي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، فهجر قومه وهاجر من سواد العراق إلى الشام فنزل فلسطين، ونزل لوط سدوم.
الْعَزِيزُ في ملكه الذي يمنعني من أعدائي. الْحَكِيمُ في صنعه الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. إِسْحاقَ هو الابن الثاني لإبراهيم بعد إسماعيل. وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وحفيد إبراهيم فكان نافلة بعد أن أيس من الولادة من عجوز عقيم (عاقر). وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته. وَالْكِتابَ يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
التفسير والبيان:
بعد أن أقام إبراهيم عليه السلام لقومه الأدلة والبراهين على توحيد الله والرسالة والبعث أو الحشر، وأمرهم بعبادة الله تعالى، وندد بعبادة الأوثان، لم يجدوا جوابا له على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم إلا اللجوء إلى استعمال القوة، كما هو شأن المحجوج المغلوب على أمره المعتمد على جاهه وقوة ملكه، وهذا ما حكاه تعالى عنهم قائلا:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لم يجد قوم إبراهيم جوابا له على مطالبتهم بعبادة الله واتقاء عذابه إلا أن قال كبراؤهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو أحرقوه بالنار تحريقا شديدا، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله وسلمه منها، وجعلها بردا وسلاما عليه، لحفظه له وعصمته إياه. إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالات على وجود الله وقدرته لقوم يصدقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والحجج.
إنه مثل السوء ومدعاة العجب، يدعوهم إبراهيم عليه السلام إلى الخير، ويرشدهم إلى الحق والهدى، فيلقى في النار للتخلص منه، ولكن الله أكبر وأقدر من كيد البشر وقوتهم، فإنه جعل النار المحرقة غير مؤثرة فيه، وإنما صيّرها بردا وسلاما عليه.
وقد وصف الله في آيات أخرى هذا التقابل بين الفعلين، فقال: قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ
ثم ذكر الله تعالى جواب إبراهيم لقومه بعد النجاة من النار:
وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي قال إبراهيم لقومه مقرعا لهم، وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اتخذتم هذه الأوثان لتجتمعوا على عبادتها، ولتتواددوا بينكم، وتقووا الصداقة والألفة بين بعضكم بعضا في حياتكم الدنيا، كاتفاق أهل المذاهب والأهواء على رابطة بينهم تكون سبب تجمعهم وتآلفهم، ولكن تلك الأوثان لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، وإنما يكون اتخاذكم هذا لتحصيل المودة لكم في الدنيا فقط.
وستكون حالهم من التنافر والتباعد في الآخرة نقيض ذلك، فقال تعالى:
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ثم تنعكس هذه الحال يوم القيامة، فتنقلب هذه الصداقة والمودة بغضا وحقدا وعداوة، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف ٧/ ٣٨]، وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف ٤٣/ ٦٧] ثم يكون مصيركم إلى النار، ولن تجدوا حينئذ ناصرا ينصركم، ولا منقذا ينقذكم من عذاب الله تعالى.
هذا حال الكافرين، أما المؤمنون فبخلاف ذلك، يتصافون ويصفحون، ويعفو بعضهم عن بعض، كما ورد في بعض الأحاديث.
ثم ذكر تعالى أنه لم يؤمن بإبراهيم ولم يصدق بما رأى إلا لوط فقال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فلما نجا إبراهيم
وقال إبراهيم: إني مهاجر من دياركم، متجه إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وقد هاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم إلى فلسطين ونزل لوط بلدة سدوم.
وعلة الهجرة هي كما قال:
إن ربي هو العزيز في ملكه الغالب على أمره، الذي يمنعني من أعدائي، وينصرني عليهم، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح.
فقوله: وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ يعود الضمير إلى إبراهيم لأنه المكني عنه بقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي من قومه. ويحتمل عود الضمير إلى لُوطٌ لأنه أقرب المذكورين.
ثم عدّد تعالى نعمه على إبراهيم في الدنيا والآخرة لإخلاصه لربه، فقال:
١- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي ووهبنا إلى إبراهيم بعد إسماعيل في حال الكبر إسحاق، وكذا من نسله يعقوب نافلة حفيدا له، كما قال تعالى:
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم ١٩/ ٤٩]، وقال سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء ٢١/ ٧٢].
وفي الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام».
٢- وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي وجعلنا في ذرية إبراهيم النبوة، فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، ولم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،
وآتيناه الكتاب، فكانت التوراة منزلة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وكلهم من نسله.
٣- وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا بكثرة الذرية والأموال والزوجة الصالحة والثناء الحسن، فجميع أهل الأديان يحبونه ويتولونه، قال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منا.
٤- وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي وإنه يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح الذين لهم الدرجات العلا.
وبهذا جمع الله تعالى له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- أثبت إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه أصول الدين الثلاثة: وهي وحدانية الله، وصحة الرسالة أو النبوة، والبعث والحشر، وأقام البرهان الدامغ على ذلك، فكان جوابهم النابع من تمكن الكفر والعناد والمكابرة هو: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ثم اتفقوا على تحريقه، وهو قتل بالنار أشد نكاية وتعذيبا وتشفيا من القتل العادي.
٢- حشد قوم إبراهيم الجموع العظيمة، وجمعوا الأحطاب الكبيرة، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لهبها إلى عنان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم، فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فأنجاه الله وسلّمه،
أما كيفية استبراد النار فهو أمر معجز، والمعجز خارق للعادة، والله قادر على كل شيء، بسلب خاصية الحرارة عن النار.
لهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، فاجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
٣- إن في إنجاء إبراهيم من النار العظيمة، حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها، لآيات للمؤمنين بالله ورسله. وجمع الآيات هنا لأن الإنجاء من النار، وجعلها بردا وسلاما، ولم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به، وغير ذلك، مجموع آيات. وخص الآيات بالمؤمنين لأنه لا يصدق بذلك إلا المؤمنون، وفيه بشارة للمؤمنين بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة.
أما في قصة نوح فقال: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ للدلالة على اتخاذ السفينة وقت الحاجة وصونها عن المهلكات، فهي آية واحدة، وجعلها للعالمين علامة ظاهرة لبقائها أعواما حتى مرّ عليها الناس، ورأوها، فعلم بها كل أحد، وليس المؤمنين فقط.
٤- بالرغم من إلقاء إبراهيم في النار، عاد إلى لوم الكفار وبيان فساد ما هم عليه وخطئه، وتمسكهم بالتقليد الأعمى، فقال: إنكم اتخذتم عبادة الأوثان لإيجاد نوع من التوادد والترابط والتواصل فيما بينكم، كالتوافق الذي يحدث بين أهل مذهب معين.
غير أن تلك الروابط واهية غير موثقة، فهي رابطة في الدنيا فقط، ثم تنقطع وتتلاشى في عالم الآخرة، فيقع التباغض والتلاعن والتعادي بينكم
٥- ليست نار الآخرة كالنار التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره، فإن الكفار في النار، وليس لهم شافع ولا ناصر دافع، ينصرهم ويمنع عنهم عذاب الله تعالى.
٦- لوط عليه السلام أوّل من صدق إبراهيم عليه السلام حين رأى النار عليه بردا وسلاما، وتلك معجزة. قال ابن إسحاق: آمن لوط بإبراهيم، وكان ابن أخته، وآمنت به سارّة، وكانت بنت عمه.
٧- بعد أن بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي بعد وجود الآية الكبرى، وهي نجاته من النار، ولم يؤمنوا، وجبت المهاجرة لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا، فبقاؤه فيهم عبث ولا جدوى فيه، لذا هاجر من أرض بابل ونزل بفلسطين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارّة. وهو أول من هاجر من أرض الكفر.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه- كما روى البيهقي- أول من هاجر بأهله إلى الحبشة في الهجرة الأولى، بعد لوط.
٨- أكرم الله تعالى إبراهيم الخليل بعد هجرته، فمنّ عليه بالأولاد، فوهب له إسحاق ولدا، ويعقوب ولد ولد، من بعد إسماعيل، وجعل في ذريته النبوة، والكتاب، فلم يبعث الله نبيّا بعد إبراهيم إلا من صلبه، وأنزل الكتب الأربعة المعروفة على أناس من ذريته، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والزبور على داود من ولد إسحاق بن إبراهيم، والقرآن (أو الفرقان) على محمد صلّى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل بن إبراهيم، وآتاه أجره في الدنيا باجتماع أهل الملل عليه، وجعله في الآخرة في زمرة الصالحين.
وكل هذا حثّ على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في الصبر على الدين الحق.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
الإعراب:
وَلُوطاً إِذْ قالَ إما منصوب بالعطف على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو عطفا على نوح في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي وأرسلنا لوطا، أو منصوب بفعل مقدر، أي واذكر لوطا، وعامل إِذْ هو العامل في لوط والأولى عطفه على إِبْراهِيمَ.
إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ كاف مُنَجُّوكَ في موضع جرّ بالإضافة. وأَهْلَكَ منصوب بفعل مقدر، أي وننجي أهلك.
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ تأكيد بعد مؤكدات، وإطناب بتكرار فعل تأتون لتقبيح عملهم وتوبيخهم.
ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ استهزاء وسخرية، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سبق، أي إن كنت صادقا فائتنا به.
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ التنكير لإفادة التهويل، أي عذابا عظيما شديدا.
الْعالَمِينَ الصَّادِقِينَ ظالِمِينَ الْغابِرِينَ وكذا يَفْسُقُونَ يَعْقِلُونَ توافق الفواصل.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً أي واذكر الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة، وهي إتيان أدبار الرجال. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع السليمة. الْعالَمِينَ الإنس والجن. وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ الطريق على المارة، بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة، حتى انقطعت الطرق. فِي نادِيكُمُ مجالسكم الخاصة أو متحدثكم. الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع، المنفر للطبع السليم كاللواط وأنواع الفحش. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في استقباح الفاحشة وأن العذاب نازل بفاعليه.
انْصُرْنِي في إنزال العذاب. عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ العاصين بإتيان الرجال أو بابتداع الفاحشة، فاستجاب الله دعاءه.
بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب بعده. هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سدوم، قرية لوط.
ظالِمِينَ كافرين. قالُوا أي الملائكة الرسل. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه. وضاق ذرعه أي قصرت طاقته أو قدرته، وضده: طال ذرعه وذراعه، ورحب الذراع: إذا كان قادرا على الشيء لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. رِجْزاً عذابا شديدا، سمي بذلك، لأنه يقلق المعذّب، من قوله: ارتجز أو ارتجس أي اضطرب. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم. آيَةً بَيِّنَةً ظاهرة، وهي آثار خرابها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون أو يستعملون عقولهم في الاستبصار.
بعد أن ذكر الله قصة إبراهيم ذكر قصة لوط عليهما السلام لأنه كان معاصرا له في زمن إبراهيم، ولم يذكر في قصته هنا دعوته إلى التوحيد كسائر الأنبياء، وإنما اقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، وذكر ذلك عنه في موضع آخر حيث قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ [هود ١١/ ٧٨، الشعراء ٢٦/ ١٦٣] وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجر ١٥/ ٦٩] وكان قد أتى به إبراهيم وسبقه إليه. واختص لوط بالمنع من عمل قومه الفاحش، فلما يئس من ردعهم وتطهرهم من فاحشتهم، استنصر بربه، فاستجاب له وأهلك قومه، ونجاه مع من آمن به بسبب فحشهم وكفرهم بالله وبرسوله وقطعهم الطرق.
التفسير والبيان:
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي واذكر أيها الرسول لقومك للعبرة والعظة قصة نبي الله لوط عليه السلام حين أرسله الله إلى أهل قرية «سدوم» فأنكر عليهم صنيعهم وقبيح أعمالهم التي ابتدعوها، وقال منكرا عليهم أو محذرا أو موبخا ومقرعا لهم: أتأتون الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح شرعا وطبعا سليما؟! ثم كرر الإنكار عليهم ووضح تلك الفاحشة فقال:
١- أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ؟ أي تأتون الذكران بشهوة كإتيان النساء، ما سبقكم أحد قبلكم من بني آدم إلى هذه الفعلة.
٢- وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي تقفون في طريق الناس، وتتعرضون للمارة بقتلهم وأخذ أموالهم وفعل الفاحشة بهم.
٣- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي وتفعلون ما لا يليق من الأقوال
روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:
وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: «يحذفون «١» أهل الطريق، ويسخرون منهم، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه».
وروي عن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا، ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون، ويلعبون بالنّرد والشّطرنج، ويلبسون المصبغات. ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرّفون أصابعهم بالحنّاء، وتتشبه الرجال بلباس النساء، والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس «٢» على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسّحاق.
وفسر مجاهد المنكر: بأنه الصفير، ولعب الحمام، والجلاهق «٣» والسؤال في المجلس، وحل أزرار القباء.
فكان جوابهم:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فما كان جوابهم بعد نهيهم عن الفاحشة وغيرها إلا قولهم بسبب كفرهم واستهزائهم وعنادهم: عجل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به. وهذا كان في بداية وعظه لهم، فلما ألح عليهم في الإنكار قالوا كما
(٢) رسوم المرور الظالمة.
(٣) كعلابط البندق الذي يرمى به.
ولما يئس لوط من استجابة قومه طلب من الله النصرة عليهم فقال:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي قال لوط داعيا: رب انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض بابتداع الفاحشة.
ومن المعلوم أنه ما طلب نبي من الأنبياء هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح ٧١/ ٢٧] أي لا مصلحة ولا خير يرتجى فيهم لا حالا، ولا مآلا في المستقبل.
فاستجاب الله دعاءه، وبعث ملائكة العذاب لنصرته:
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، قالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي بعث الله ملائكة، فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءهم بما ينبغي للأضياف، فلما رأى أنه لا رغبة لهم في الطعام خاف منهم، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بولد صالح من امرأته «سارّة» وهو إسحاق، ومن بعده يعقوب، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط لأنهم قوم ظالمون أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم وتماديهم في الفساد والفحش.
فأخذ إبراهيم يدافع، لعلهم يمهلونهم، ولعل الله يهديهم، وأشفق على ابن أخيه لوط، فقال:
قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي قال إبراهيم مشفقا على لوط: إن في القرية لوطا، وهو غير ظالم، وهو رسول، فقالت الملائكة الرسل: نحن أعلم منك بمن
ثم قدموا على لوط فدخلوا عليه في صورة شبان حسان، فلما رآهم ضاق بهم، كما حكى تعالى:
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، وَقالُوا: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي ولما جاءت الملائكة الرسل إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه، اغتم بأمرهم، وخاف عليهم من قومه، فقالوا له معرضين بحالهم: لا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث، وإنا جئنا لتعذيبهم، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب، إلا امرأتك، فإنها من الهالكين لتواطئها معهم على الفساد، فكانت تدلهم على ضيوفه، وكانت تدافع عنهم، وترضى بأفعالهم.
ثم وصفوا العذاب بقولهم:
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي إننا سننزل على أهل قرية «سدوم» عذابا شديدا عظيما من السماء، تضطرب له نفوسهم، بسبب فسقهم.
وكان العذاب هو الزلزلة التي خسفت بهم الأرض، وصار مكان قريتهم بحيرة لوط (البحر الميت) فاقتلع جبريل عليه السلام قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم، وأرسل الله الحمم وحجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد، ولهذا قال تعالى:
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ولقد تركنا من القرية
[الصافات ٣٧/ ١٣٧- ١٣٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآية ما يأتي:
١- أنكر نبي الله لوط على قومه الذين أرسل إليهم في «سدوم» إنكارا شديدا مع التوبيخ والتحذير فعل ثلاثة أمور: ارتكاب الفاحشة (اللواط) وقطع الطريق لأخذ الأموال والفاحشة والاستغناء عن النساء، وفعل المخازي في مجالسهم الخاصة.
٢- لقد قابل القوم هذا الإنكار بالاستهزاء والعناد والتكذيب واللجاج، فطلبوا إنزال العذاب الذي يهددهم به إن كان صادقا فيما يقول ظنا منهم أن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه، ثم هددوه في آية أخرى بالطرد والإخراج من قريتهم.
٣- تدل الآية على وجوب الحد في اللواطة لأنها فاحشة كالزنى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء ١٧/ ٣٢] واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا في الزنى، يشرع زاجرا في اللواطة.
وهذا وإن كان قياسا إلا أن علة القياس مستفادة من الآية، فتكون منصوصا عليها، والقياس المنصوص العلة متفق على العمل به.
٤- ما طلب نبي هلاك قوم إلا إذا يئس من هدايتهم، وعلم أن عدمهم خير من وجودهم، لذا دعا لوط عليه السلام ربه أن ينصره على القوم المفسدين، فأجاب الله دعاءه.
٥- إذا نزل العذاب بقوم نجى الله الصالحين المؤمنين منهم كما نجى لوطا وأهله
٦- ترك الله تعالى بعض آثار منازلهم الخربة للعبرة والعظة لمن يتأمل من العقلاء بمصير الظالمين ومآل الكافرين في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكى في الآخرة.
٧- اشتملت مهمة الملائكة الرسل في ضيافة إبراهيم أمرين:
الأول- البشارة التي هي أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك الذي هو أثر الغضب، ورحمته تعالى سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار.
الثاني- لم يعلل الملائكة البشرى بشيء، فلم يقولوا مثلا: لأنك رسول مخلص أو لأنك مؤمن، أو لأنك عادل، وعللوا الإهلاك بقولهم: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لأن صاحب الفضل المطلق لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم.
قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام مع أقوامهم
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مَدْيَنَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
وشُعَيْباً: منصوب بفعل مقدر، تقديره: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها.
وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض الَّذِينَ في آية وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أو منصوب بفعل مقدر، تقديره: وأهلكنا عادا وثمودا، بدلالة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك، وكلمة ثمودا هنا مصروف لأنه اسم للحي، وورد في مكان آخر ممنوعا من الصرف لأنه بمعنى القبيلة.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ كلها أسماء منصوبة بالعطف على عاداً في جميع الأوجه التي ذكرت، ولا ينصرف للعجمة والتعريف (العلمية).
البلاغة:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. تقديم المفعول للاهتمام به، وفي الآية إجمال ثم تفصيل.
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، وأصلها: أبو القبيلة. وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، فأقيم المسبب مقام السبب. وقيل: إنه من الرجاء بمعنى
جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أي ماتوا.
وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض مساكنهم، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم بالحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، فكانت قبيلة عاد تسكن الأحقاف قرب اليمن، وثمود تسكن الحجر قرب وادي القرى. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السوي، سبيل الحق الذي بيّن الرسل لهم. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ذوي بصائر، متمكنين من النظر والاستبصار، ولكنهم لم يفعلوا.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي وأهلكنا، وتقديم قارون لشرف نسبه بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحات. سابِقِينَ فائتين عذابنا غير مدركين، بل أدركهم أمر الله، مأخوذ من سبق طالبه: إذا فاته.
فَكُلًّا من المذكورين. أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي عاقبنا بذنبه. حاصِباً ريحا عاصفا فيها حصباء، كقوم لوط، يقال: حصبه يحصبه: إذا رماه بالحصباء: وهي الحجارة الصغيرة.
الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة، كمدين وثمود. مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وقومه. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعذبهم بغير ذنب. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب والتعرض للعذاب.
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى قصص نوح وإبراهيم ولوط، أردفه بقصص شعيب وهود وصالح وموسى بإيجاز، لفائدة العظة والاعتبار بأحوال هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم.
ويلاحظ أن هذه القصص هنا ذكر فيها القوم جريا على الأصل أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم، ولأن قوم شعيب وهود وصالح كان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، مثلما ذكر قارون وفرعون وهامان لاشتهارهم بالطغيان. أما قوم نوح وإبراهيم ولوط فلم يكن لهم اسم
التفسير والبيان:
قصة شعيب:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي وأرسلنا إلى مدين نبي الله شعيبا الذي كان من أهل مدين، فأمرهم بعبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، وفعل ما يرجون به ثواب اليوم الآخر، والخوف من بأس الله ونقمته يوم القيامة، ونهاهم عن الإفساد في الأرض، والبغي على أهلها، بإنقاص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، وغير ذلك من المعاصي التي تجب التوبة منها، وأخطرها الكفر بالله ورسوله، كما قال:
فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي فقابلوه بالتكذيب والعناد، والإصرار على الكفر والعصيان، فأهلكهم الله بزلزلة (رجفة) عظيمة، قوضت أركان ديارهم، وصيحة هزت جنبات نفوسهم، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم، أدى إلى إماتتهم، فأصبحوا في ديارهم ميتين لا حراك بهم، ألقي بعضهم على بعض.
وقد تقدم بيان قصتهم في سور: الأعراف، وهود، والشعراء.
قصة هود وصالح:
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي وأهلكنا عادا قوم هود عليه السلام
فأنتم يا أهل مكة ويا مشركي العرب قد تبين لكم إهلاكهم من آثار مساكنهم، واطلعتم على معالم عذابهم، فإن الشيطان قد زين لهم أعمالهم من عبادة غير الله، وكفرهم بربهم، واقترافهم المعاصي، وصدهم الناس عن الدين الحق والسبيل الأقوم، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار، فلا عذر لهم في ترك الإيمان بربهم، إلا أنهم لم ينتفعوا بطاقات فكرهم ونظرهم في عواقب الأمور.
أفلا يكون جديرا بكم أن تتعظوا بهؤلاء، فالعاقل من اتعظ بغيره؟!
قصة موسى:
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ، وَما كانُوا سابِقِينَ أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الوفيرة والكنوز العظيمة، وفرعون ملك مصر في زمن موسى، ووزيره هامان. وكان موسى قد جاءهم من عند ربه بالحجج الواضحات الدالة على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض وأبوا تصديقه والإيمان به، وكذبوه وكفروا بالله تعالى وبرسوله، وكانوا خاطئين آثمين عالين مفسدين، ولكنهم لم يكونوا فائتين الله، ولا هاربين من عذابه، بل أدركهم أمر الله وبطشه فإنه القادر القاهر العزيز الغالب.
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فلقي كل قوم ما يناسبه من العقاب، وأهلكهم الله سبب تكذيبهم الرسل، وكانت عقوباتهم أربعة أنواع:
١- الريح العاصفة: أرسل الله على بعضهم كقوم عاد حاصبا، أي ريحا صرصرا باردة عاتية شديدة الهبوب جدا، تحمل الحصباء (الحجارة الصغيرة) فتلقى عليهم، وتقتلعهم من الأرض، وترفعهم إلى عنان السماء، ثم تصرعهم على الأرض، فيصبحون جثثا هامدة، وذلك لكفرهم وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥] ؟! ٢- الصيحة: وأرسل الله على قوم ثمود الصيحة (أو الرجفة) حين أصروا على كفرهم فلم يؤمنوا، واستمروا على طغيانهم، وهددوا نبي الله صالحا عليه السلام ومن آمن معه وتوعدهم بالإخراج والرجم، فجاءتهم صيحة أخمدت أصواتهم وحركاتهم، ومثلهم أهل مدين.
٣- الخسف: عاقب الله قارون الذي طغى وبغى، وعتا وعصا الرب الأعلى، وتكبر وتجبر واختال في مشيته، فخسف به وبداره الأرض، ليكون عبرة لكل عات جبار.
٤- الإغراق: أغرق الله قوم نوح بالطوفان لكفرهم وعبادتهم الأصنام، كما أغرق فرعون وهامان وجنودهما في صبيحة يوم واحد، فلم ينج منهم أحد.
وكل عقوبة مما ذكر كانت جزاء وفاقا على ظلمهم وآثامهم، وليس ظلما لهم، كما قال تعالى:
فقه الحياة أو الأحكام:
هناك سبب مشترك في عقاب الأمم المتقدمة وإهلاكهم وهو الكفر بالله كفر تحد وعناد، مع الإفساد، في الأرض بالمعاصي الكبائر.
فقوم مدين: رفضوا دعوة نبيهم شعيب عليه السلام الذي قال لهم: الله تعالى واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد بالكفر والظلم والمعصية محرم فلا تقربوه، فكذبوه فيما دعاهم إليه وأخبرهم به.
فعاقبهم الله كما ذكر هنا وفي الأعراف بالرجفة، وفي هود بالصيحة، والأمر واحد، فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، أي زلزلة الأرض، إما بسبب صيحة جبريل، وإما بسبب رجفة الأفئدة التي ارتجفت منها، ولما كانت الصيحة عظيمة أحدثت الزلزلة في الأرض، فأصبحوا جاثمين ميتين في ديارهم.
وقبيلتا عاد وثمود: أهلكهما الله تعالى بظلمهم، أما عاد قوم هود عليه السلام فقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥] ؟ فأنكروا وجود الإله الخالق القادر، وعتوا وبغوا وتعالوا على الناس، فدمر الله ديارهم بمن فيها بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة ٦٩/ ٦- ٧].
وأما ثمود قوم صالح فكذبوا رسولهم وأعلنوا كفرهم وهددوا نبيهم بالطرد والإخراج من بلدهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله إليهم معجزة لنبيهم صالح، وكان عقابهم كعقاب أهل مدين بالصيحة أو الزلزلة أو الطاغية، وبقيت آثار ثمود وعاد بالحجر والأحقاف شاهدة على ظلمهم، وآية بينة مؤثرة للمعتبرين المتعظين.
ولم يكن العقاب بالهلاك ظلما، فكل فئة أخذت بجريرة ذنبها العظيم، وما كان الله ليظلمهم لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر، وإنما ظلموا أنفسهم.
تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
الإعراب:
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الكاف: في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ.. ما: إما بمعنى «الذي» في موضع نصب ب يَعْلَمُ وتقديره: إن الله يعلم الذين يدعون من دونه من شيء، فحذف العائد تخفيفا. وإما أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَدْعُونَ وتقديره: أي شيء تدعون من دونه، وهو قول الخليل وسيبويه.
البلاغة:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً تشبيه تمثيلي، شبه
المفردات اللغوية:
مَثَلُ المثل: الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها.
الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة. اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة. أَوْهَنَ أضعف البيوت، لا يدفع عنها حرا ولا بردا، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذلك ما عبدوها.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ على إضمار القول، أي قل للكفرة: إن الله يعلم الذي يعبدون، والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل. مِنْ دُونِهِ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب القوي في ملكه، الحكيم في صنعه، وهو تعليل لما سبق، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه، فالجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شيء، البالغ النهاية في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم. وَما يَعْقِلُها يفهمها. إِلَّا الْعالِمُونَ المتدبرون الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم: من عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه».
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك من أشرك بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، دون أن ينفعه معبوده في الدارين، شبّه حال هذا المشرك الذي اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت التي اتخذت بيتا لا يحميها من الأذى، ولا يمنع عنها الحر أو البرد.
ثم أكد ذلك فأوضح أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يعبد وتترك عبادة الله القادر القاهر الحكيم المتقن؟ ثم لفت النظر إلى فائدة ضرب الأمثال وهي التقريب للأفهام وإدراك العقلاء لمغزاها.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي صفة المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله، طمعا في نصرهم ورزقهم ونفعهم، والتمسك بهم في الشدائد، كصفة العنكبوت في ضعفها اتخذت لنفسها بيتا يقيها الأذى والحر والبرد، فلم يفدها شيئا، وإذا هبت ريح يصير هباء منثورا.
فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم أصنامهم، ولا تدفع عنهم سوءا، ولا تجديهم شيئا، وتصبح أعمالهم للأوثان مبددة ذاهبة الأثر، كما قال تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف هذا البيت، فقال:
وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت لأنه يخرب بأدنى شيء، ولا يبقى منه أثر، فكذلك عملهم لا أثر له، فلو كانوا يعلمون علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لها لا تنفعهم شيئا، ما فعلوا ذلك، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور، فتراهم يظنون بذلك النفع.
ثم أكد الله تعالى كون تلك المعبودات ليست بشيء، فقال متوعدا عابديها:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله يعلم أن الذي يعبدونه من غيره من الأصنام والجن والإنس ليس بشيء، وهو القوي الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره، الحكيم في صنعه وتدبيره خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم، وتوضيحا لما التبس عليهم، وما يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات، المتضلعون في العلم، المتأملون في القضايا والمسائل.
روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: «العالم من عقل عن الله تعالى، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه».
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
١- إن عبادة الأصنام والأوثان فارغة المحتوى، لا مضمون فيها، ولا هدف لها، وما مثلها في عدم النفع إلا كمثل بيت العنكبوت. قال الفراء: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا.
٢- شبّه الله تعالى حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت التي تتخذ أضعف البيوت، ولو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا، وأن هذا مثلهم أو صفتهم، لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. أما قتل العنكبوت فروي عن سيدنا علي جوازه قائلا: إن تركه في البيوت يورث الفقر. وهذا صحيح لأن العناكب من الحشرات السامة.
٣- إن الله يعلم ضعف كل ما يعبدون من دونه من ملائكة وكواكب وأصنام وجن وإنس، فرثى لحالهم، وعجب من صنعهم، فنبههم على سطحية تفكيرهم، وسوء اعتقادهم، وأن جميع تلك المعبودات مثل بيت العنكبوت لأن كل ما عدا
٤- إن ضرب الأمثال أي بيانها وعقد المقارنة بين المتشابهات أمر مفيد للناس، لمعرفة حقائق الأمور، ولكن لا يفهم تلك الأمثال إلا العالمون بالله تعالى.
قال أبو حيان: وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد «١».
٥- حقا إن المشرك في غاية الجهل في الاعتقاد، لذا كانت هذه الآيات تجهيلا للمشركين، حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد، لا علم لديه، ولا قدرة أصلا عنده، وتركوا عبادة القادر القاهر، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة.
أما المسلم المؤمن قلبه بالله فهو واع لما يفعل، مقدر ما يعبد، يبغي الخير في عبادته، ويحسن العمل في اتباع الشرع لأن فيه نجاته وإنقاذه، ويصل إلى مبتغاه فعلا بجلب النفع والخير، ودفع الضرر والشر.
فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ محقا غير قاصد به باطلا، وقصده بالذات من خلقهما إفاضة الخير، والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على قدرته تعالى. لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين.
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ القرآن، تقربا إلى الله بقراءته، واستكشافا لمعانيه، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها لأنها تذكر بالله، وتورث النفس خشية، أي من شأنها ذلك. والمنكر: القبيح شرعا وعقلا.
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: «إن صلاته تنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب.
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر لاشتمالها على الذكر الذي هو العمدة في تفضيلها على سائر الحسنات ونهيها عن السيئات. ويصح أن يكون المعنى: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الناس بالإيمان، وأبان ضعف دليل الكفار على عبادة معبوداتهم، لفت النظر إلى من تجب له العبادة وهو الذي لا يعجزه شيء، وخالق السموات والأرض، والمرشد بكتابه إلى معالم الحق، والمبين طريق العبادة المرضية له وهو الصلاة. كما أن في الآيات تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن إعراض الكفار واليأس منهم، بالتأمل في خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن الدال على أن الرسل السابقين كنوح وإبراهيم ولوط بلغوا الرسالة، وأقاموا الأدلة على الإيمان بالله تعالى، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة.
التفسير والبيان:
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الله تعالى أوجد وأبدع السموات والأرض للدلالة على قدرته العظيمة، وإفاضة الخير، ولحكم وفوائد دينية ودنيوية، فقد خلقهما محقا غير قاصد الباطل، ولم
جاء في رواية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
إلا أنه لم يصح حديثا، ومعناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦].
ولا ينتفع بتلك الدلالات ولا يفهم هذه الأسرار إلا المؤمنون المصدقون بالله ورسوله لأنهم يستدلون بآثار الخلق على وجود المؤثر فيها.
ثم أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس للاستزادة من المعرفة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته فقال:
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ يا محمد ومثلك كل مسلم، وأدم تلاوة هذا القرآن وتبليغه للناس، فإنه إمام ونور، وهدى ورحمة، ودليل خير ونجاة، وعلاج ما استعصى من الأزمات والمحن، وتخطي مراحل اليأس والقنوط.
كذلك أمر تعالى بالصلاة قرة عين المؤمن فقال:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي وأدّ أيها النبي وكل مؤمن فريضة الصلاة ونافلتها تامة الأركان والشروط، مع الخشوع والخضوع لله، واستحضار خشية الله في جميع مراحلها، فهي تشتمل بمواظبتها على شيئين:
ترك الفواحش والمنكرات، وهي عماد الدين، وصلة بين العبد وربه، ودليل الإيمان واليقين، وفرجة المكروب والمحزون، وسبب لتطهير العبد من آثار الذنوب والمعاصي.
جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره من رواية عمران وابن عباس مرفوعا: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا»
وروى أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «حبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- خلق الله السموات والأرض على وجه الإحكام والإتقان والعدل والقسط، ولأهداف وغايات دينية ودنيوية، منها أن الإنسان يستدل بهما على وجود الخالق القادر الكامل الشامل العلم، الذي لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات فيهما، ولا يعجزه شيء فيهما.
٢- إن المستفيد من خلق السموات والأرض هو الإنسان، ولا ينتفع في دلالتهما على الاعتقاد بوجود الخالق الواحد إلا المصدقون بالله ورسوله.
٣- على المسلم مواظبة التلاوة لآي القرآن، وتبليغ أحكامها المستفادة منها، فإن القرآن كتاب هداية، ودستور حياة فاضلة.
٥- إن الصلوات الخمس لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة تنهى عن الفواحش والمنكرات، وتكفّر ما بينها من الذنوب إذا أديت بحقها وكانت مع استحضار عظمة الله وبأسه،
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا».
وروى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم؟».
ويؤكده
الحديث المتقدم الذي رواه الطبراني وغيره: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا».
قال أبو العالية في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ:
إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله: القرآن يأمره وينهاه.
٦- دل قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على أن الصلاة أكبر من سائر الطاعات وأفضل من كل العبادات، وأن ذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم ورحمته إياهم أكبر من ذكرهم له في عبادتهم وصلواتهم، وكذلك أن تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم.
وفي حديث آخر: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم» «١».
٧- الذكر النافع: هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه، إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فله رتبة أخرى.
وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢/ ١٥٢].
٨- إن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ نوع من الوعد والوعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن.
آمنت بالله تعالى انتهى الجزء العشرون
[الجزء الحادي والعشرون]
[تتمة سورة العنكبوت]طريقة إرشاد أهل الكتاب
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
المفردات اللغوية:
وَلا تُجادِلُوا المجادلة والجدل: الحجاج والمناظرة والمناقشة أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم وضبط النفس، والمشاغبة بالنصح، والتنبيه إلى آيات الله وحججه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي لكن الظالمون منهم بالإفراط في الاعتداء والعناد والمحاربة، فجادلوهم وعاملوهم بالمثل وَقُولُوا لمن سالمكم وأذعن للحق أو قبل المعاهدة السلمية معكم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي صدّقنا بما أنزله الله إلينا وهو القرآن، وما أنزله إليكم في أصوله الصحيحة من التوراة والإنجيل، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك، فهذا من المجادلة بالتي هي أحسن.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يأتي تخريجه: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وملائكته وبكتبه ورسله، فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم».
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن، كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها، وكان القرآن وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة كعبد الله بن سلام وأمثاله يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن وَمِنْ هؤُلاءِ أهل مكة أو العرب أو الكتابيين الموجودين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها وقيام الحجة عليها، والجحد: إنكار الشيء بعد معرفته والعلم به إِلَّا الْكافِرُونَ المتوغلون في الكفر، وهم المشركون وغير المسلمين الذين لا يؤمنون بالإسلام والقرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن ظهر لهم أن القرآن حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم حق، ثم جحدوا ذلك.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي إنك أمي لم تكن تعرف القراءة والكتابة قبل نزول القرآن، فإن هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الذي نزل على أمي لم يعرف القراءة والتعلم أمر خارق للعادة إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل كاليهود فيك. وإنما سماهم مبطلين لكفرهم وكونهم غير محقين فيما ذهبوا إليه من التنكر لرسالة الإسلام.
بَلْ هُوَ أي القرآن الذي جئت به آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي هو آيات واضحات الدلالة على الحق في قلوب أهل العلم وهم المؤمنون فيحفظونه من كل تحريف وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي وما ينكر آيات الله إلا الظالمي أنفسهم الذين جحدوا وجه الحق، بعد وضوح دلائل إعجاز تلك الآيات.
المناسبة:
بعد بيان الله تعالى طريقة إرشاد المشركين عبدة الأصنام أو غيرها، أبان الله تعالى طريقة إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقائلين ببقاء شريعتهم وأنها لم تنسخ بشريعة أخرى، مبتدئا بأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به أن يعلنوا إيمانهم بالقرآن وبما تقدمه من التوراة والإنجيل، وبإطاعة الإله الواحد، ثم مبينا إيمان بعض أهل الكتاب وبعض المشركين من أهل مكة بالقرآن، ثم موضحا دليل الإيمان بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو كونه أميا لم يقرأ ولم يكتب، وكون القرآن مشتملا على علوم نافعة فريدة.
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي ولا تحاججوا، ولا تناقشوا اليهود والنصارى إلا بالطريقة الحسنة وبالأسلوب الهادئ اللطيف، إلا الذين ظلموا أنفسهم، وحادوا عن سبيل الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم ينفع معهم أسلوب المنطق والإقناع العقلي، فهؤلاء يعاملون بالمثل، ويرد على عدوانهم ومكابرتهم بطريقتهم نفسها، فيقاتلون ويردعون بالحرب، وهؤلاء- كما قال مجاهد وسعيد بن جبير- هم الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وهذا هو العلاج الحاسم كما قال الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف للعلا | مضرّ كوضع السيف في موضع الندى |
وأما القسم الثاني من الآية فلا خوف في محاربته لعدوانه، فيقاتل بما يمنعه ويردعه، قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: ٥٧/ ٢٥].
١- وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي إذا دعوتم أيها الرسول وأتباعه أهل الكتاب إلى الإيمان برسالة الإسلام، وأخبروكم عما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فلا تصدقوهم لأنه قد يكون كذبا أو باطلا، ولا تكذبوهم لأنه قد يكون حقا أو صحيحا، وإنما قولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا وإليكم وإلى البشر كافة، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم أي نؤمن بالمنزّل فعلا على موسى وعيسى عليهما السلام، غير المبدّل ولا المؤول، ومعبودنا ومعبودكم الحق واحد لا شريك له، ونحن له خاضعون مطيعون أمره ونهيه.
أخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون».
وأخرج الإمام أحمد أن أبا نملة الأنصاري «١» أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم».
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم يهدوكم وقد ضلّوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل».
٢- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب (القرآن) فالذين آتيناهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى، إذا أخذوا هذا القرآن، فتلوه حق تلاوته، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما آمنوا وصدقوا بنزوله من عند الله، وكذلك بعض كفار قريش وغيرهم يؤمنون به لأنه- كما عرفوا من لغة البيان- ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام الله الموحى به إلى نبيه.
وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويطمس معالم الهداية والنور، ويعاند في كفره ويستكبر، فلا يؤمن بالله وحده، ولا يشكر نعمة الله عليه. وهذا تنفير عما هم عليه من الشرك والباطل.
٣- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي وما كنت أيها الرسول في تاريخك مع قومك تقرأ من قبل نزول القرآن من كتاب آخر، ولا تعرف الكتابة ولا تستطيع أن تخط شيئا من الكتاب إذ لو كنت قارئا وكاتبا لشك المشركون الجهلة فيما نزل إليك، وقالوا:
لعل ذلك مأخوذ من كتب سابقة، ولما لم يكن كاتبا ولا قارئا فلا وجه لارتيابهم.
قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يخطّ ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية. وقال النحاس: الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لقريش أنه لا يقرأ
وقوله: مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ لتأكيد النفي، وكذلك قوله:
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ تأكيد أيضا، وذكر اليمين خرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام ٦/ ٣٨].
والخلاصة: أن صفة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة وتاريخه المعروف بين قومه: أنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف ٧/ ١٥٧].
فلا وجه أصلا للشك في أن هذا القرآن نزل من عند الله، لا بإيحاء بشر ولا ملك ولا جانّ، وبالرغم من نصاعة هذه الحقيقة، ومع علم قريش بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يحسن الكتابة، اتهموه بأخذه عن الكتب المتقدمة، كما حكى تعالى عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٥].
وتأكيدا لما سبق أن القرآن منزل من عند الله، قال تعالى:
بَلْ، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي بل إن هذا القرآن آيات واضحة الدلالة على الحق، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم، ولكن ما ينكر وما يكذب بآيات الله النيّرة ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وروى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- فضيلة الجدال والنقاش بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، فذلك أدعى عند العقلاء إلى توفير القناعة، والوصول إلى الإيمان، وتحقيق الهدف المقصود.
٢- إن المعاملة بالمثل واللجوء إلى القتال والعنف واستخدام القوة هو السبيل المتعين في الرد على أهل العصبية والعناد والإصرار على الكفر.
٣- إن هذه الآية الآمرة بالجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى الله عز وجل بالحجة والمنطق والبرهان آية محكمة، كما قرر أثبات العلماء والمفسرين مثل مجاهد التابعي وغيره، قال القرطبي: وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول «١». وهذا اختيار ابن جرير الطبري وابن العربي. قال ابن العربي: الآية ليست منسوخة، وإنما هي مخصوصة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث باللسان يقاتل به في الله، ثم أمره الله بالسيف واللسان، فمن قاتل قتل، ومن سالم بقي الجدال في حقه،
٤- بعض أهل الكتاب معتدلون في آرائهم ومعتقداتهم، بعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث، وهؤلاء ينفع معهم الجدال والنقاش، فهم يؤمنون بالله وبكتابهم وباليوم الآخر، ولم يبق إلا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كالإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام.
وبعض أهل الكتاب متعصبون حاقدون خلطوا بين التوحيد والتثليث، وحرفوا في الكتاب وغيروا، ونسبوا لله ولدا أو شريكا، ثم صيروه هو الإله، وهؤلاء يصعب معهم الجدال وقد لا ينفع معهم النقاش، ومع ذلك ندعوهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، لأنه لا إكراه في الدين، والإسلام يقر بحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، بعد التبليغ والإنذار، والترغيب والترهيب.
أما المشركون عبدة الأوثان ففي جزيرة العرب لا مجال لإقرارهم على وثنيتهم، وأما في غير جزيرة العرب، فكذلك ندعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
٥- النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول القرآن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب بشهادة الكتب السماوية المتقدمة، وبمعرفة قومه الذين عايشوه في مكة مدة أربعين عاما.
وأمّية النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل قاطع واضح على أن القرآن كلام الله العزيز الحكيم.
ثم ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى كتب، وقرأ.
وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي في صلح
قال القرطبي: الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى.
وقال: «إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب» رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر.
٦- آيات القرآن آيات بيّنات واضحات، وليس هذا القرآن كما يقول المبطلون: إنه سحر أو شعر، ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه. وتلك الآيات يحفظها علماء الأمة ويقرءونها، وقد وصف الله المؤمنين بالعلم، لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين، قال كعب الأحبار في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء، وهم في الفقه أنبياء.
٧- لا ينكر كون القرآن منزلا حقا من عند الله إلا القوم المبطلون الجاهلون وهم المشركون، وإلا الكفار الظالمون الذين جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به.
٨- ليس القرآن من مخترعات أحد من الملائكة أو الإنس أو الجن، إذ لا يستطيع الكل على الإتيان بمثله أو بمثل عشر آيات أو بمثل سورة من أقصر سوره. وهذا الإعجاز المتحدي به دليل قاطع على كونه كلام الله الموحى به إلى قلب نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٥]
وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
البلاغة:
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ تحضيض.
آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ طباق.
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لإفادة القصر عليهم لا غيرهم.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ إطناب بذكر العذاب مرات بقصد الإرهاب والتشنيع على المشركين.
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي بهم، بوضع الظاهر موضع المضمر.
وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي قال كفار مكة: هلا أنزل على محمد آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى. قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ قل يا محمد لهم: إنما الآيات ينزلها الله كيف يشاء، ولست أملكها، فآتيكم بما تقترحونه. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني إلا إنذار أهل المعصية بالنار بما أعطيت من الآيات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية لما طلبوا أو اقترحوا. الْكِتابَ القرآن. يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم، فهو آية ثابتة مستمرة لا انقضاء لها، يتحداهم، بخلاف سائر الآيات. إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة. وَذِكْرى عظة وتذكرة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن همهم الإيمان دون التعنت.
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يشهد بصدقي. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ويعلم حالي وحالكم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وهو ما يعبد من دون الله. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ بقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢]. وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى معلوم محدد لكل عذاب أو قوم. لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عند نزول الموت بهم.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانه. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ في الدنيا. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. يَوْمَ يَغْشاهُمُ ظرف لكلمة (محيطة) ويَغْشاهُمُ يصيبهم. مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جوانبهم. وَيَقُولُ الله أو الملك الموكل بالعذاب. ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاءه، فلا تفوتونا.
سبب النزول: نزول الآية (٥١) :
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم»، فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ.
أي يستغني به عن غيره.
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم».
المناسبة:
بعد بيان كون القرآن منزلا من عند الله، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر الله تعالى شبهة للمشركين وهي أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تقول: إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، أفلا تأتينا بآية أو معجزة مادية محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي ليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، والله إن أراد ينزلها، وإن لم يرد لا ينزلها، وكفى بالقرآن آية فهو معجزة ظاهرة باقية، والله شهيد عليم يحكم بين عباده.
وبعد بيان الطريقين في إرشاد الفريقين: المشركين وأهل الكتاب، أعلن الله تعالى الإنذار الشامل العام بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ولما أنذروا بالخسران أوضح تعالى أن العذاب لا يأتيهم بسؤالهم أو استعجالهم، وإنما له أجل مسمى اقتضته حكمته وارتضته رحمته.
وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي وقال المشركون تعنتا وتعجيزا وعنادا: هلا أنزل على محمد آية حسية مادية، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء المتقدمين، كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، تكون دليلا على صدقه، ومعجزة تثبت أنه رسول من عند الله!! فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قل يا محمد لهم:
إنما أمر إنزال الآيات وإرسال المعجزات إلى الله تعالى، فلو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم، لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه سبحانه يعلم أنكم قصدتم بطلبكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى مطلبكم، كما قال:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها [الإسراء ١٧/ ٥٩].
وإنما بعثت نذيرا لكم بيّن الإنذار من عذاب شديد إذا بقيتم على كفركم، لا الإتيان بما تقترحون، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى، وليس علي هداكم، إنما الهدى على الله الذي قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الإسراء ١٧/ ٩٧] وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢].
ثم أبان الله تعالى كثرة جهلهم وسخافة عقولهم، حيث طلبوا آيات تدل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما جاءهم، مع إنزال القرآن عليه، فقال:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أما يكفيهم دليلا على صدقك أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا
أخرج الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي قل يا محمد لهم: كفى الله عالما وحكما عدلا بيني وبينكم، فهو أعلم بما صدر منكم من التكذيب، وبما أقول لكم وأبلغكم به من أوامر وإنذارات وبما أرسلني به إليكم، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٧] وإنما أنا صادق فيما أخبرتكم به، ولهذا أيّدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السموات والأرض، ومن جملة علمه: أنه يعلم حالي وحالكم، من صدقي وتكذيبكم وإنكاركم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين صدقوا بما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام ونحوها، وجحدوا بوجود الله أو توحيده، مع توافر الأدلة على الإيمان به، أولئك هم الخاسرون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وسيجزيهم الله يوم القيامة على ما فعلوا، ويعاقبهم على ما صنعوا من تكذيب برسل الله، مع قيام الأدلة على صدقهم، وإنكار للحق، واتباع للباطل من الإيمان بالطواغيت والأوثان بلا دليل.
ثم أخبر الله تعالى عن جهل المشركين وحماقتهم في استعجالهم إيقاع عذاب الله بهم، فقال:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ويتعجل كفار قريش نزول العذاب بهم، كما حكى تعالى عنهم: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم، ولولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة، لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه، وسوف يأتيهم بالتأكيد فجأة، وهم لا يحسون بمجيئه، بل يكونون في غفلة عنه.
ثم أكد تعالى طلبهم نزول العذاب بقوله:
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي يطلبون منك حدوث العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، وإن جهنم ستحيط بهم من كل جانب.
ثم وصف تعالى كيفية إحاطة العذاب بقوله:
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يوم يعمهم العذاب من كل الجوانب، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من كفر ومعاصي، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١] وقال سبحانه: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦]
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم معجزة مادية محسوسة، مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى، على سبيل العناد والمكابرة، لا على سبيل التوصل بحسن نية إلى الإيمان بالله عز وجل وتوحيده.
٢- كان الرد القرآني المفحم عليهم أنه: ألا يكفيهم هذا الكتاب المعجز الذي قد تحداهم الله بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه، فعجزوا. ولو أتاهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور لهم، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة. وليس من شرط الرسالة وجود المعجزة، فقد علمنا وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب، ولم تعلم لهم معجزة.
٣- والقرآن رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة، وفي الآخرة بصرفهم عن النار، وهو أيضا ذكرى في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق، ومعجزة باقية يتذكر بها كل إنسان على ممر الزمان. فيكون القرآن أتم من كل معجزة، لأنه باقي الأثر، والمعجزات المادية لم يبق لها أثر، ولأنه بلغ خبره المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، والمعجزات المادية محصورة في مكان واحد.
٤- يقال للمكذبين: كفى بالله شهيدا يشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق في ادعائه أنه رسول، وأن هذا القرآن كتابه. وهذا إنذار وتهديد يفيد تقريرا وتأكيدا.
٥- قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يخفى عليه شيء:
٦- إن المشركين أو الكفار الذين يؤمنون بالباطل وهو إبليس أو بعبادة الأوثان والأصنام، ويكفرون بالله لتكذيبهم برسله، وجحدهم لكتابه، وإشراكهم به الأوثان، وإضافة الأولاد والأضداد إليه، هم الخاسرون أنفسهم وأعمالهم في الآخرة. وهذا يشمل أهل الكتاب، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بأن القرآن منزل من عند الله تعالى، فدل ذلك على أن الآية إنذار عام شامل.
٧- قال المشركون لفرط الإنكار والإمعان في الكفر: عجل لنا هذا العذاب الذي توعدنا به، كما قال النضر بن الحارث وأبو جهل فيما أخبر القرآن: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢] وقالا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص ٣٨/ ١٦].
٨- اقتضت الحكمة الإلهية رحمة بالناس وإعطائهم فرصة كافية للإصلاح والتوبة تأخير العذاب إلى أجل محدد ووقت معين وهو يوم القيامة، فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر، بدليل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام ٦/ ٦٧]. وسيأتي العذاب الذي استعجلوه حتما فجأة، وهم لا يعلمون بنزوله.
٩- إن كفار قريش وأمثالهم يستعجلون نزول العذاب، وقد أعد الله لهم جهنم، وأنها ستحيط بهم لا محالة، فما معنى الاستعجال؟ وإن ذلك العذاب يصيبهم يوم القيامة من جميع جوانبهم، فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم، ويقال لهم من قبل الملك بأمر الله: ذوقوا ما كنتم تعملون.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
الإعراب:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً..: غُرَفاً مفعول به ثان ل لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أما قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج ٢٢/ ٢٦] فاللام زائدة في لِإِبْراهِيمَ ومَكانَ الْبَيْتِ: مفعول ثان.
خالِدِينَ فِيها حال من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ: كَأَيِّنْ: في موضع رفع مبتدأ، بمنزلة (كم) ومِنْ دَابَّةٍ:
تبيين له. ولا تَحْمِلُ: في موضع جر لأنها صفة دَابَّةٍ.
اللَّهُ يَرْزُقُها اللَّهُ مبتدأ، وجملة يَرْزُقُها خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع، لأنه خبر كَأَيِّنْ.
البلاغة:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
الإضافة للتشريف والتكريم.
المفردات اللغوية:
إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي إذا لم يتيسر لكم العبادة في بلدة أو إقامة شعائر الدين، فهاجروا إلى أي أرض أخرى تتيسر فيها العبادة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرا، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام».
والفاء في قوله:
في جواب شرط محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فأخلصوها في غيرها.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تناله لا محالة. تُرْجَعُونَ للجزاء، ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد لذلك الجزاء. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم، وقرئ: (لنثوينهم) أي لنقيمنهم، من الثواء، أي الإقامة، وتعدية هذا الفعل إلى كلمة غُرَفاً: بحذف مِنَ أي تكون منصوبة بنزع الخافض، أو لأنه أجري مجرى (لننزلنهم).
خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام. نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وقرئ: «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله، أي نعم هذا الأجر. الَّذِينَ صَبَرُوا أي هم الصابرون على أذى المشركين والهجرة لإظهار الدين وغير ذلك من المحن والمشاق. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولا يتوكلون إلا على الله، فيرزقهم من حيث لا يحتسبون، لأن الرازق هو الله الذي يهيئ الأسباب للرزق وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة.
وَكَأَيِّنْ أي كم. لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق حمله لضعفها. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم. الْعَلِيمُ بضمائركم.
سبب النزول: نزول الآية (٥٦) :
يا عِبادِيَ
: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
نزول الآية (٦٠) :
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ:
عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا:
ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ
أي ليس معها رزقها مدخرا، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.
بعد إنذار المشركين وأهل الكتاب بالخسران وجعلهم من أهل النار، اشتد عنادهم وزاد فسادهم، وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله تعالى بالهجرة إلى بلاد أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في بلادهم، مما يدل على أن المقام في دار الحرب حرام، والخروج منها واجب. وأبان تعالى أن توقع المكروه لا يمنع من الهجرة، فالمكروه إن لم يحدث بالهجرة، وقع بالموت في أي مكان، كما أبان أنه سبحانه تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته حيثما كانوا.
التفسير والبيان:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي أيها العباد المصدقون بي وبرسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم، إن أرضي واسعة غير ضيقة، يمكنكم المقام فيها في أي موضع، فإذا تعذرت عليكم العبادة وإقامة شعائر الدين بسبب منع الكفار وأذاهم، فهاجروا إلى المكان الذي تتمكنون فيه من إقامة الشعائر الدينية.
وبالرغم من أن كلمة عِبادِيَ
لا تتناول إلا المؤمنين، فقد أتبعت بوصف الَّذِينَ آمَنُوا
لا للتمييز، بل لمجرد بيان اشتمالهم على هذا الوصف.
فهذا أمر للمؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، وهو حثّ على إخلاص العبادة لله تعالى.
والمقصود من الهجرة: إعداد المؤمن الكامل المخلص الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة قبل الفتح، ثم زال وجوبها.
أخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم».
وبعد أن أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها وصدق الاهتمام بها، أبان أن الدنيا ليست بدار بقاء، وأمر بالاستعداد إلى دار الجزاء، فقال:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي إن الموت كائن لا محالة بكل نفس، وأينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بدّ منه ولا محيد عنه، سواء في الوطن أو خارجه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب.
والخلاصة: أن المكروه لا بد من وقوعه، فلا يصح أن يصعب على المؤمنين ترك الأوطان ومفارقة الإخوان.
ثم بيّن الله تعالى نوع جزاء المؤمن المهاجر بدينه، فرارا من الشرك والمعاصي فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال من التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، لننزلنهم أو لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحت أشجارها الأنهار، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن، ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا، جزاء لهم على أعمالهم، نعم الجزاء، ونعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين.
ومن صفات هؤلاء العاملين:
الصبر والتوكل:
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إن أولئك المؤمنين الذين صبروا على القيام بواجبات دينهم من صلاة وصيام وهجرة في سبيل الله، وجهاد الأعداء، ومفارقة الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله، وتحمل أذى المشركين، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، فقاموا بما يجب عليهم، ثم تركوا أمر تحقيق النتائج إلى ربهم، من نصر ونجاح ورزق وعزة وغير ذلك.
وذكر صفتي الصبر والتوكل هنا مناسب للمقام، فإن الهجرة والجهاد وترك الأوطان ومفارقة الإخوان تتطلب الصبر على تحمل الأذى، والمواظبة على عبادة الله تعالى والتوكل عليه.
ثم ذكر الله تعالى ما يعين على التوكل وهو معرفة أن الله هو الكافي في رزق مخلوقاته فقال:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين وجدوا، فكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تستطيع جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد، الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره لها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ويكفيه، سواء كان في باطن الأرض، أو طيرا في الهواء، أو حوتا في الماء، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بضمائرهم وأسرارهم وما في قلوبهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مطلوبة واجبة حال وجود أذى الكفار وتعذر إقامة شعائر الدين، فعلى المسلم أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، فإن كان في حال مضايقة من إظهار الإيمان في أرض، فهاجر إلى أرض أخرى، فإن أرض الله واسعة، لإظهار التوحيد بها. وهذا كان مناسبا للمؤمنين في صدر الإسلام حيث هاجروا من مكة مهد الشرك والوثنية إلى المدينة الطيبة المطهرة، ثم ارتفع الوجوب ولم تعد الهجرة واجبة بعد فتح مكة، وإنما بقيت الهجرة بمعنى هجر السوء وترك ما نهى الله عنه.
والآية نزلت في الهجرة قبل الفتح، لا في الهجرة مطلقا في كل زمان ومن أي بلد، ولكن بعمومها تعد مستندا للقول بوجوب الهجرة على الدوام عند الإمكان إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه.
٢- رغّب الله في الهجرة السابقة من مكة إلى المدينة بتحقير أمر الدنيا ومخاوفها وبيان أن البشر كلهم ميتون ومحشورون إلى الله، وما عليهم إلا المبادرة إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل.
٣- وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه وهو دخول الجنان التي تجري من تحتها الأنهار وإسكانهم المنازل العالية.
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى الله بالليل والناس نيام».
٤- من أهم صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنان: الصبر على الأذى وعلى مشاق التكاليف الشرعية، والتوكل على الله، فهما صفتان يدلان على العلم بالله تعالى، وهما صفتان مناسبتان أيضا للهجرة والجهاد موضوع الآيات.
٥- بدد الله سبحانه مخاوف المهاجرين ومخاطر المغتربين، فأبان أن الموت حتمي في أجل مسمى، فلا يزيد العمر ولا ينقص، سواء أكان الشخص مقيما في موطنه، أم مسافرا مغتربا بعيدا عن بلده، كما قال سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء ٤/ ٧٨].
وأبان أيضا أن الرزق مكفول ومقسوم منه تعالى، كما قال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٢] ومن رحمته سبحانه أنه ييسر الرزق رغدا لكل دابة كل يوم، رغم ضعفها، وأنها لا تدخر شيئا لغد، سواء أكانت الدابة في جوف الأرض أم في ظاهرها أم في أعماق المياه، أم في أعالي الفضاء.
اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)
البلاغة:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اللام: لام القسم، والسؤال للكفار من أهل مكة وأمثالهم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك. يَبْسُطُ يوسع لمن يشاء امتحانا.
وَيَقْدِرُ يضيق لمن يشاء ابتلاء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم ومفاسدهم، ومنها محل البسط والتضييق.
نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ هذا اعتراف منهم بأن الله الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، فكيف يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك. الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من هذه الضلالة، وعلى تصديقك وإظهار حجتك عليهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ تناقضهم في ذلك، إنهم يتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه، ثم يشركون به الصنم.
بعد بيان أمر المشركين ومطالبهم التعجيزية وسوء أعمالهم، ثم مخاطبة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
ذكر تعالى ما يكون إرشادا للمشرك إذا فكر وتأمل، بأسلوب أدبي رفيع تضمن نصح المفسد أولا، ثم مخاطبة الرشيد، ليسمع المفسد، على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وكأن المتكلم يقول: إن هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت، ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح، وزجر المفسد، ودعوته إلى سبيل الرشاد، وهو الإقرار بوحدانية مبدع العالم، وخالق السماء والأرض وما فيهما، ورازق المخلوقات، ومحيي الأرض بعد موتها.
التفسير والبيان:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي والله لئن سألت يا محمد المشركين بالله: من الذي أوجد وأبدع السموات وما فيها من الكواكب النيّرات، والأرض وما حوته من كنوز ومعادن، وذلّل الشمس والقمر يجريان لمصالح الخلق، وأدى ذلك إلى تعاقب الليل والنهار، لو سألتهم لأجابوا بأن المستقل بالخلق والإيجاد هو الله عز وجل.
وإذ أقروا بذلك واعترفوا، فكيف يصرفون عن توحيد الله وإخلاص العبادة له؟! فإن الاعتراف بأن الله هو الخالق يمنع المشركين من عبادة إله آخر سواه، أو اتخاذ شريك معه، والاعتراف بتوحيد الربوبية الصادر من المشركين بقولهم: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية، وكثيرا ما يذكر الله تعالى توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله يوسع الرزق لمن يريد من عباده امتحانا له، ويضيق أو يقتّر على من يريد ابتلاء واختبارا، فالله هو الخالق الرازق لعباده، يقسم وحده الأرزاق على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة، لأن الله عليم بكل شيء من المفاسد والمصالح، ومقتضيات سعة الرزق وتضييقه، فيمنح ويمنع، بما هو الأصلح وما هو خير لعباده في الحالين، ويحصل التفاوت بين الناس في الأرزاق، ويكون هناك الغني والفقير، والله هو العليم بما يصلح كلّا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٨] وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٧].
ثم ذكر تعالى سبب الرزق وهو إنزال الماء، فقال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي ومن الحقائق الثابتة أنك لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السحاب، فيحيي به الأرض الجدباء الهامدة التي لا حركة فيها بالنبات الأخضر، لأجابوك بأنه هو الله المبدع الموجد لكل المخلوقات، ثم يتعجب الإنسان من إشراكهم بعد ذلك بعض مخلوقاته.
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي قل يا محمد: الحمد لله على ثبوت الحجة عليهم، واعترافهم بأن الله مصدر جميع النعم، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض الحاصل منهم، فتراهم يقولون بأن الخالق الموجد المحيي الرازق هو الله، ثم يقولون بألوهية غير الله، فيخالف فعلهم أقوالهم
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- يقر المشركون بأمرين أساسيين:
أولهما- أن الله هو الخالق المبدع المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار.
وثانيهما- أن الله هو الخالق الرازق لعباده، المحيي الأرض بالماء النازل من السحاب، فتصبح الأرض مخضرة بعد جدبها وقحط أهلها.
٢- ثم في مجال الأفعال ترى المشركين متناقضين مع أنفسهم، فهم يقرون بوجود الله، ثم يشركون معه إلها آخر من مخلوقاته.
٣- وإذا اعترفتم بأن الله خالق كل الأشياء في السماء والأرض، فكيف تشكّون في الرزق؟ فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العباد، وكيف تكفرون بتوحيد الله، وتتحولون عن إخلاص العبادة لله؟
وإذا أقررتم بأن الله يحيي الأرض الجدبة، فلم تشركون به وتنكرون الإعادة؟ ومن قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين.
٤- لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر، فالتوسيع والتقتير من الله، فلا تعيير بالفقر، فكل شيء بقضاء وقدر، والله عليم بكل شيء من أحوال العباد وأمورهم، وبما يصلحهم من إقتار أو توسيع.
٥- يستحق الله الحمد على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته وعلى
بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٩]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
الإعراب:
لَهِيَ الْحَيَوانُ يجوز في هاء لَهِيَ الكسر والتسكين، فمن كسر أتى به على الأصل، ومن سكن حذف الكسرة تخفيفا، كما قالوا في كتف وكتف. والحيوان: أصله «الحييان» بياءين، إلا أنه لما اجتمعت ياءان متحركتان، استثقلوا اجتماعهما، فأبدلوا من الياء الثانية واوا كراهية لاجتماع ياءين متحركتين، وكان قلب الثانية أولى من الأولى لأن الثانية هي التي حصل التكرار بها.
وَلِيَتَمَتَّعُوا قرئ بكسر اللام وسكونها، وهي لام الأمر ومعناه التهديد، فمن قرأ بالكسر فعلى الأصل، ومن سكّن فعلى التخفيف، كما قالوا في «كتف كتف».
البلاغة:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ تشبيه بليغ أي كاللهو واللعب، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إيجاز بحذف جواب الشرط، أي لو علموا لما آثروا الدنيا على الآخرة.
يَعْلَمُونَ يُشْرِكُونَ يَكْفُرُونَ فيها مراعاة الفواصل، ذات الإيقاع والتأثير على السمع.
المفردات اللغوية:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تهوين وتحقير، لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي كلهو الصبيان ولعبهم، يبتهجون ساعة ثم يتفرقون متعبين، وأما الطاعات والقرب فمن أمور الآخرة، لظهور ثمرتها فيها. واللهو: الاستمتاع بالملذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيها. لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية التامة التي لا فناء فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ تلك الحقيقة ما آثروا الدنيا عليها.
الْفُلْكِ السفينة السائرة في البحر. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء، أي لا يدعون معه غيره، لأنهم في شدة لا يكشفها إلا الله، فيظهرون في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، فلا يذكرون إلا الله، ولا يدعون سواه. إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وكذلك اللام في: وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها، أي قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، أي أن هذه اللام لام التعليل في تقدير الله، ولام العاقبة بالنسبة إليهم.
ويصح أن تكون اللام في الفعلين المذكورين لام الأمر، وهو أمر تهديد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، يعني أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي جعلنا بلدهم مكة مصونا من النهب والتعدي، آمنا أهله من القتل والسبي. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون قتلا وسبيا، وهم في أمان. أَفَبِالْباطِلِ أي بعد هذه النعمة الواضحة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله فَبِالْباطِلِ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا. أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أي كذب بالنبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو القرآن. وقوله لَمَّا فيه تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا، ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مأوى، والاستفهام تقرير لثوائهم، أي ألا يستوجبون الثواء في جهنم، وقد افتروا مثل هذا
سبب النزول: نزول الآية (٦٧) :
أَوَلَمْ يَرَوْا.. أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً.
المناسبة:
بعد بيان كون المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي، وهم مع ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء حرصا على زينة الحياة الدنيا ومكاسبها المادية، أوضح الله تعالى أن ما يميلون إليه وهو الدنيا ليس بشيء، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقة التامة التي تستحق الحرص عليها والعمل من أجلها، فلو كان عندهم شيء من العلم ما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
ثم أبان الله تعالى أحوال تخبطهم وتناقضهم، فهم مع شركهم بربهم في الدعاء والعبادة إذا تعرضوا لمحنة أو شدة، رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ولجؤوا إلى الله وحده، وأخلصوا له النية والدعاء لتخليصهم من الشدة، وتلك نعمة عظمي.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمة أخرى تتناسب مع حال الخوف الشديد، وهي حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة بلدهم ومولدهم ومسكنهم البلد الآمن الحرام، بتحصين الله أمنها، ودفع الشرور عن سكانها، لكنهم نفعيون متناقضون
التفسير والبيان:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقارن الله تعالى بين الدنيا والآخرة، ويخبر بأن الحياة الدنيا حقيرة زائلة لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو يتلهى به، ولعب يتسلى به، وأما الآخرة فهي دار الحياة الدائمة التي لا تزول ولا تنقضي، بل هي مستمرة أبد الآباد، فلو علموا ذلك لآثروا ما يبقى على ما يفنى.
والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. وليس المراد بالحيوان: الشيء النامي المدرك، وإنما الحيوان مصدر حي كالحياة، لكن فيها مبالغة ليست في الحياة.
ثم يخبر الله تعالى عن حال المشركين حين الترفع عن الدنيا ووقت التعرض للمحنة والشدة، فيقول:
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي إن المشركين عند الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما؟! فتراهم إذا ركبوا في السفينة، وأحدق بهم الغرق، دعوا الله وحده، مفردين إياه بالطاعة، مخلصين له النية، صادقين في اتجاههم إلى الله، فإذا تحقق لهم الأمن والنجاة من الهلاك، عادوا إلى شركهم، ودعوا الآلهة المزعومة كافرين بنعمة النجاة.
ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ذهب فارّا منها، فلما ركب في البحر، ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره، اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبنّ، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤفا رحيما، فكان كذلك».
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ اللام لام العاقبة أو الصيرورة، أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفر بنعمة النجاة، والتمتع بالاجتماع على عبادة الأصنام، وعقد الروابط بسببها، ولكنهم سوف يعلمون عاقبة فعلهم هذا، وسيجازون الجزاء الوفاق على أعمالهم. وهذا وصف لسوء ما يترتب على شركهم، وتهديد ووعيد على بقائهم على كفرهم.
ويصح أن تكون اللام لام الأمر، ويكون المعنى التهديد أي: ليكفروا، كما قال تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الزمر ٣٩/ ٣٩] فساد ما تعملون.
ثم وصف الله تعالى تناقض المشركين إذ يلجأون إلى الله وحده مخلصين له الدعاء وقت الشدة، ويكفرون بالله ويشركون به حين الأمن في بلدهم مكة، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟! أي أولم يعلم هؤلاء المشركون ما أنعمنا به عليهم من إسكانهم في بلد حرام آمن وهو مكة، لا يتعرضون فيه لقتل وسبي
ولكن عجبا لهم أنهم قابلوا الشكر بالكفر، أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله؟! فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه.
وبعد بيان حالهم العجيبة وتناقضهم، أبان الله تعالى أنهم قوم أظلم من يكون، فقال:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله بالشرك وتكذيب كتابه ورسوله وقوله: إن الله أوحى إليه، ولم يوح إليه شيء، أو قوله إذا فعل فاحشة: إن الله أمر بها، والله لا يأمر بالفحشاء، ألا يستوجب هؤلاء المشركون من أهل مكة وأمثالهم المقام في جهنم؟
وهذا تسفيه آرائهم وتقريع لهم، وتبيين سوء مصيرهم، بطريق الاستفهام التقريري الذي هو أبلغ في إثبات العقاب المنتظر لهم.
وبعد بيان عاقبة الكافرين، أبان الله تعالى عاقبة المؤمنين فقال:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي من جاهد بالطاعة، ونصر دين الله، وقاتل أعداء الله المكذبين بكتابه ورسوله، هداه الله ووفقه إلى طريق الجنة وطريق السعادة والخير في الدنيا والآخرة، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧]
وجاء في الحديث الثابت: «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم».
«إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك».
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- الحياة الدنيا بما فيها من المال والجاه والملبس ملهاة وملعب، أو شيء يلهى به ويلعب، وليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول، كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات.
٢- ما يعمل في الدنيا لله من القرب والطاعات هو من الآخرة، وهو الذي يبقى، كما قال تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٧] أي يبقى ما ابتغي به ثواب الله ورضاه.
٣- إن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها، وهي الحياة الصحيحة، فلا حياة إلا حياة الآخرة، وعبّر عنها بالحيوان: وهو الحياة، لأن فيها مبالغة ليست في الحياة.
٤- المشركون قوم متناقضون، فتراهم في وقت الشدة المستعصية، كما إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق، يدعون الله صادقين في نياتهم، ويتركون دعاء الأصنام وعبادتها، فإذا وصلوا إلى بر الأمان دعوا معه غيره، وما لم ينزل به سلطانا أو حجة، وما لا حقيقة لألوهيته أصلا، فهم يشركون في البر، ولا يشركون في البحر.
٥- إن عاقبة الشرك أو ثمرته أن يجحد المشركون نعم الله ويتمتعوا بالدنيا،
٦- جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] وتلك نعمة تستحق الشكر والحمد لله والإذعان له بالطاعة، لا سيما إذا قورنت مكة بما عليه أحوال أهل البلاد الأخرى المجاورة، حيث يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، ويغار بعضهم على بعض.
ولكن المشركين كما تقدم تتناقض أحوالهم، فهم بالشرك أو بإبليس يؤمنون وبنعمة الله وعطائه وإحسانه يكفرون ويجحدون.
٧- لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا، وإذا فعل فاحشة قال:
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف ٧/ ٢٨] وكذّب بالقرآن أو بتوحيد الله، وأنكر رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعاقبتهم الثّواء في نار جهنم.
٨- إن المجاهدين جهادا عاما في دين الله وطلب مرضاته يوفقهم ربهم إلى سبل الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا» قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ٢٨٢].
قال ابن عطية في آية: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الروممكية، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به.
موضوعها:
هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات الله تعالى، والإيمان بالرسالة النبوية، وبالبعث والجزاء في الآخرة.
مناسبتها لما قبلها:
تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح ب الم غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع.
الأول- إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر، وهم يجاهدون في سبيل الله تعالى.
الثاني- إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [١٩] فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [٢٠].
الثالث- ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب، وتركوا مراجعتهم في الأمور، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [٦٣] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [٤٦] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله، كما قال تعالى: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [٤٦].
فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس، فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، وإنما قد يريد الله تعالى مزيد ثواب في المحب، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر يوم القيامة.
مشتملات السورة:
افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من ٣- ٩ سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.
ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى الله وقت الضر، وإشراكهم به وقت الرخاء، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا.
ونهى الله تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واجتناب أكل الربا، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة.
ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من الله تعالى، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير، وظلام الكفر والشر.
وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة الله والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة، وتسيير السفن في البحار، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل الله في أقطار الأرض، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق، ثم إماتة، ثم إحياء.
وختمت السورة بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل