﴿بسم الله﴾ الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال
﴿الرحمن﴾ الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة
﴿الرحيم﴾ الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه
﴿الم *﴾ المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار
195
ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولاً، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كل نفس، والاستقامه العدل كما قال:
﴿قائماً بالقسط﴾ [آل عمران: ١٨] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة؛ وهذا الوجه أوفق للترتيب، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك، فابتدىء بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك؛ وأيضاً
196
فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى:
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١] فأثبت الوحدانيه له بإبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة، كما أن التوحيد خاصته المعقولة، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء.
197
القصد الأول التوحيد
ومناسبه هذا الأول بالإبتدائيه لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئاً من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات، وبيان بعض ما يتعلق بذلك، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات والأرض، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم، وبالنصرة على عامة الكافرين؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في
198
تفصيل ما جمعه في الفاتحة، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهدايه في هذا الكتاب، وبيّن ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال:
﴿الله﴾ أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص.
وقال الحرالي مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقراراً لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب: هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب؛ جعل مثنى تفصيل
199
ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة البقرة إلى ما أعلن به، لألأ نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران» وإنما بدىء هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة؛ وبذلك يتضح أن إحاطة
﴿الم﴾ المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه، ووصلة ما بين قيامه وتمامه، وأن إحاطة
﴿الم﴾ المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية مما بين غيبة عظمة اسمه
﴿الله﴾ إلى تمام
200
قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه
﴿الحي القيوم﴾ وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبىء عنه كلمه الإخلاص في قوله:
﴿لا إله الا هو﴾ فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآناً حرفياً وقرآناً كلمياً اسمياً وقرآناً كلامياً تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾ [البقرة: ١٦٣]، ﴿الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ » وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلاً واحداً بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان، فأعظم
﴿الم﴾ هو مضمون
﴿الم﴾ الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى
﴿الم تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ٢] فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة،
201
ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة؛ وكذلك أيضاً اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهماً بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم، الذي هو من العلم الأزلي العلوي؛ ثم قال: ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه
«الله» الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها
﴿إله﴾ كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه
«الله» في الأسماء، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه
﴿الله﴾ سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم
202
الذي هو
﴿الله﴾ الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه
﴿إله﴾ إلى غايه اسمه
«الصبور» وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم، كما أن اسمه
﴿الحي القيوم﴾ أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله:
﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾، فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى.
فقوله:
﴿الله﴾ أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال
﴿لا إله إلا هو﴾ أي متوحد لا كفوء له فقد فاز قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة. قال الحرالي: فما أعلن به هذا الاسم العظيم أي الله في هذه
203
الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى:
﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص: ١]، ولما كان إحاطة العظمة أمراً خاصاً لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه
«الله الصمد» الذي يعنى اليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه: أين الله؟ فيقول: في السماء، إلى حد علو أن يقول: فوق العرش، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه
﴿إله﴾ الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام، فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم
«الله»، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيباً في بواطنها فتقول فيه: هو، فكان هذا الخطاب مبدوءاً بالاسم العظيم المظهر منتهياً إلى الاسم المضمر، كما كان خطاب
﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص: ١] مبدوءاً بالاسم المضمر منتهياً إلى الاسم العظيم المظهر، وكذلك أيضاً اسم الله الأعظم في سورة
﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص: ١] كما هو في هذه الفاتحة.
ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى قوام لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك؛ انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا
204
يموت قال:
﴿الحي﴾ أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها. ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال:
﴿القيوم *﴾ إعلاماً بأن به قيام كل شيء وهو قائم على كل شيء. قال الحرالي: فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى.
وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة اليه. ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك، وهو الكتاب المذكور في قوله:
﴿بما أنزل إليه من ربه﴾ [البقرة: ٢٨٥] والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله:
﴿بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ [البقرة: ٤] وفي آخرها بقوله
﴿وكتبه ورسله﴾ [البقرة: ٢٨٥] التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء، وذلك لأن المصالح قسمان: روحانية وجسمانية، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق،
205
وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف.
ولما كانت مادة
«كتب» دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال: وقال الحرالي: ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها؛ انتهى فقال:
﴿نزّل﴾ أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر
﴿عليك﴾ أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي
﴿الكتاب﴾ أي القرآن الجامع للهدى منجماً بحسب الوقائع، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن.
206
قال الحرالي: وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى. تنزيلاً ملتبساً
﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت، فهو ثابت في نفسه، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك. قال الحرالي: وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى. حال كونه
﴿مصدقاً﴾ ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال:
﴿لما بين يديه﴾ أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية.
قال الحرالي: لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى.
ولما كان نزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيهما
207
كان هذا الكلام كفيلاً على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية، وفي المعنى بالكتاب المعجز، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال:
﴿وأنزل التوراة﴾ وهو
«فوعلة» لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد واتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي: فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور
﴿والإنجيل *﴾ من النجل، وضع على زيادة
«إفعيل» لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة، وزيادتاها مبالغه في المعنى، وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء، ومنه يقال للولد: نجل أبيه. كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة
208
الظواهر، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما.
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن
﴿من قبل﴾ أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى
209
أمره ومضى زمانه حال كون الكل
﴿هدى﴾ أي بياناً، ولذا عم فقال:
﴿للناس﴾ وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل: كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته.
ولما كانت مادة
«فرق» للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى:
﴿وأنزل الفرقان *﴾ أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء
210
الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة. قال الحرالي: فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب
﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا﴾ [الانفال: ٢٩] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب: رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى.
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان
211
وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة، وكان نزوله هو آخر الزمان علماً على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء
212
وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من تقدمهم قد بين لهم
﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ [الإسراء: ١٥] ؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى {إن مثل
213
عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: ٥٩] انتهى.
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك بقوله:
﴿إن الذين كفروا﴾ أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه
﴿بآيات الله﴾ المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله، قال: فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى.
﴿لهم عذاب شديد﴾ كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب. قال الحرالي: ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى.
214
والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال: إنه لما قال:
﴿وأنزل الفرقان﴾ [آل عمران: ٤] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب.
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال:
﴿إن الذين﴾ مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال: عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه: فالله سبحانه وتعالى عالم بما له
215
من القيومية بجميع أحوالهم:
﴿والله﴾ أي الملك العظيم مع كونه رقيباً
﴿عزيز﴾ لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء
﴿ذو انتقام *﴾ أي تسلط وبطش شديد بسطوة. قال الحرالي: فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى. وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران. يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام،
216
فتارة يقولون: هو الله، وتارة يقولون: هو ابن الله، وتارة يقولون، هو ثالث ثلاثة، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه: فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه؟ فقال له: لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله:
﴿إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم﴾ [آل عمران: ١٠]
﴿قل للذين كفروا ستغلبون﴾ [آل عمران: ١٢] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال:
﴿اصبروا وصابروا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله، وموضحاً لأن كتبه هدى
217
وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في
﴿والله عزيز﴾ لى تقديره، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة:
﴿إن الله﴾ بما له من صفات الكمال التي منها القيومية
﴿لا يخفى عليه شيء﴾ وإن دق، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء:
﴿في الأرض ولا في السماء *﴾ أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور، قال في ترجمة إنجيل مرقس في قصة التي كانت بها نزف الدم: إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه، فالتفت إلى الجمع وقال: من مس ثوبي؟ فقال له تلاميذه: ما ندري، الجمع يزحمك، ويقول: من اقترب؟ فجاءت وقالت له الحق، فقال: يا ابنة! إيمانك خلصك؛ وهو في إنجيل لوقا بمعناه ولفظه: فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها، فقال يسوع من لمسني؟ فأنكر جميعهم، فقال بطرس والذي
218
معه: يا معلم الخير! الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول: من الذي لمسني من قرب مني؟ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره. وقال ابن زبير: ثم أشار قوله تعالى:
﴿إن الله لا يخفى عليه شيء﴾ إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم. فكان الكلام في قوة أن لو قيل: أيخفي عليه مرتكبات العباد! وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى.
219
ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال: وقال الحرالي: ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية؛ انتهى
219
فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الذي﴾ وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال:
﴿يصوركم﴾ أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة. وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي:
﴿في الأرحام﴾ أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا: إنها في هذا الوطن شرط، فقال:
﴿كيف﴾ أي كما
﴿يشاء﴾ أي على أي حالة أراد، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً، إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص.
220
وقال الحرالي: فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتحة سورة البقرة، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى.
فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفوء له؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي: ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال:
﴿لا إله إلا هو﴾
221
إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته؛ انتهى فقال:
﴿العزيز﴾ أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه
﴿الحكيم *﴾ أي الحاكم بالحكمة، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له، والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة؛ ففي ظاهر ذلك الجهد، وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضى والروح؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، فبذلك يكون
222
تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى.
ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم، تقديراً لما مر من التصوير وغيره، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الذي﴾ ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال:
﴿أنزل عليك﴾ أي خاصة
﴿الكتاب﴾ أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره. قال الحرالي: ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلما
223
كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار؛ انتهى فقال:
﴿منه آيات محكمات﴾ أي لا خفاء بها.
قال الحرالي: وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها، ثم قال: فهي آي التعبد من الخلق للخلق
224
اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم انتهى.
ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال:
﴿هن أم الكتاب﴾ والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد، وقال الحرالي: هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات
﴿وأخر﴾ أي منه
﴿متشابهات﴾ قال الحرالي: والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما؛ ثم قال: وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ
225
ما أجراه عليهم، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى. فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه
226
فيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل: يا رب! افعل لي كذا ويسجد له، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله، فدل ذلك على أنه إله، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل:
﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ [فصلت: ٤٢]، وهو
﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾ [مريم: ٣٠، ٣١]
﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ [المائدة: ١١٧]
﴿إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم﴾ [مريم: ٥١]، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في
227
رد المتشابه إليه، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها: لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع، يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق: مكتوب: لا تجرب الرب إلهك، وقال وقد أمره أن يسجد له: مكتوب: للرب إلهك اسجد، وإياه وحده اعبد، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب: روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب، والأيام التي أعطانا إلهنا، ثم طوى السفر ودفعه
228
إلى الخادم؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم: من قبل هذا فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، ومن سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس، أعطاه الله الروح، وقال: قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم: طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله؛ وفيه في موضع آخر: الحق الحق أقول لكم! أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي، وإنما أحكم بما أسمع، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس: تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله، وزجر بعض من اتبعه فقال: اذهب يا شيطان! فإنك لم تفكر في
229
ذات الله، وتفكر في ذات الناس؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له: يا رب! علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه، فقال لهم: إذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك! كفافنا أعطنا في كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه، فقال لهم: مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص! فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر، والرب يطلق على السيد أيضاً، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام:
﴿اذكرني عند ربك﴾ [يوسف: ٤٢]. ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه
230
وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته: أبانا الذي في السماوات، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه: هكذا فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات، وقال: وأحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، انظروا! لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم! لقد أخذوا أجرهم؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك، لتكون صدقة في خفية، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية؛ وقل في الفصل العاشر منه: وصل لأبيك سراً، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية.
231
وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك، فأجاب: أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم. وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى:
﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ [المائدة: ١٨] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول: ابن الإنسان يفعل كذا،
232
ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة، لأنه ابن امرأة منهم، وهو مثلهم في الجسد، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم. وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة
﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ [البقرة: ١١٧] زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وكذا غيره من متشابه الإنجيل، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك
233
فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك.
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح: وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز
﴿فارجع البصر هل ترى من فطور﴾ [الملك: ٣] علماً وحساً
234
﴿ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير﴾ [الملك: ٤] عجزاً، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً، فرزقهم حظاً من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين: مبهمة ومفصلة،
235
أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ [البقرة: ١، ٢] لمن علمه الله إياه
﴿هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب﴾ [البقرة: ٢، ٣] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله:
﴿ثم استوى إلى السماء﴾ [البقرة: ٢٩]
236
إلى قوله سبحانه وتعالى
﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ [لبقرة: ١١٥] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى
﴿إلا لنعلم من يتبع الرسول﴾ [البقرة: ١٤٣]،
﴿فإني قريب﴾ [البقرة: ١٨٦]
﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة﴾ [البقرة: ٢١٠]،
﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ [البقرة: ٢٥٥]
﴿فأذنوا بحرب من الله ورسوله﴾ [البقرة: ٢٧٩]،
﴿هو الذي يصوركم في الأرحام﴾ [آل عمران: ٦]،
﴿ويحذركم الله نفسه﴾ [آل عمران: ١٢٨]،
﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ [آل عمران: ١٨٩]،
﴿والله على كل شيء قدير﴾ [البقرة: ٢٨٤]،
﴿وكان الله سميعاً بصيراً﴾ [النساء: ٨٥]،
﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ [المائده: ٦٤]،
﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم﴾ [الأنعام: ٣]،
﴿خلق السماوات والأرض﴾ [الأعراف: ٥٤]،
﴿ثم استوى على العرش﴾ [الأعراف: ٥٤]،
﴿ولتصنع على عيني﴾ [طه: ٣٩]،
﴿قل من بيده ملكوت كل شيء﴾ [المؤمنون: ٨٨]،
﴿فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله﴾ [القصص: ٣٠]،
﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ [القصص: ٨٨]،
﴿هو الذي يصلي عليكم وملائكته﴾ [الأحزاب: ٤٣]،
﴿إن الله وملائكته يصلون علىلنبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]،
﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي﴾ [الأعراف: ١٢]، {وهو
237
الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: ٨٤]،
﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه﴾ [الجاثيه: ١٣]،
﴿وله الكبرياء في السماوات والأرض﴾ [الجاثيه: ٣٧]،
﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك﴾ [الرحمن: ٢٦، ٢٧]،
﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن﴾ [الحديد: ٣]،
﴿وهو معكم أين ما كنتم﴾ [الحديد: ٤]،
﴿ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا﴾ [المجادلة: ٧]،
﴿فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا﴾ [الحشر: ٢]،
﴿تبارك الذي بيده الملك﴾ [الملك: ١]،
﴿تعرج الملائكة والروح اليه﴾ [المعارج: ٤]،
﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣]،
﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾ [الإنسان: ٣٠]،
﴿وجاء ربك والملك صفاً صفاً﴾ [الفجر: ٢٢] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله
238
تعالى، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال: آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى، تأويلها تلاوتها، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام، لا لمقصد الإعلام، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن الله تعالى يضحك من عبده: لا نعدم الخير من رب يضحك» وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان: إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً، وتعرف للخاصة منهم
239
بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن
﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى: ١١] و
﴿لم يكن له كفواً أحد﴾ [الإخلاص: ٤] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين. ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد. ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل
﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [الشورى: ١١]،
﴿ولم يكن له كفواً أحد﴾ [الإخلاص: ٤]، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب
240
فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه، فيهلك باسمه ودعواه، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي، وأشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت
«واردات الأخبار» في جميع الصحف والكتب، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهة
241
العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى
﴿ولم يكن له كفواً أحد﴾ [الإخلاص: ٤] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى.
وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى
﴿مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً﴾ [البقرة: ٧] وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال:
﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ﴾ أي اعوجاج عدلوا به عن الحق. وقال الحرالي: هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيىء الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف:
﴿فيتبعون﴾ في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه
242
من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة
﴿ما تشابه منه﴾ فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين: عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه، قال عليه الصلاة والسلام:
«لا تتفكروا في الله» وقال علي رضي الله عنه: من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله: الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها
243
تلاوتها، هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية
244
التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين: لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال:
﴿ابتغاء الفتنة﴾ أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك
﴿وابتغاء تأويله﴾ أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله. قال الحرالي: والابتغاء افتعال: تكلف البغي، وهو شدة الطلب، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه، فجعل
245
الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده، لاقتصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين انتهى.
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال:
﴿وما﴾ أي والحال أنه ما
﴿يعلم﴾ في الحال وعلى القطع
﴿تأويله﴾ قال الحرالي: هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده
﴿إلا الله﴾ أي المحيط قدرة وعلماً، قال: ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا
﴿يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ [الأعراف: ٥٣] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال عيه الصلاة والسلام:
«فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله: أنت ربنا» فكان تجليه
246
الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى. ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال:
﴿والراسخون في العلم﴾ قال الحرالي: وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله:
﴿يقولون آمنا به﴾ بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم.
ولما كان هذا قسيماً لقوله:
﴿وأما الذين في قلوبهم زيغ﴾ كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال:
﴿كل﴾ أي من المحكم والمتشابه. قال الحرالي: وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم
247
فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم: آمنا به، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى.
﴿من عند ربنا﴾ أي المحسن إلينا بكل اعتبار، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل، وعبروه عن الاشتباه.
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره: فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن
248
يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة:
﴿وما يذكر﴾ أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك
﴿إلا أولوا الألباب*﴾ قال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى.
249
ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة:
﴿ربنا﴾ أي المحسن إلينا
249
﴿لا تزغ قلوبنا﴾ أي عن الحق.
ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة:
﴿بعد إذ هديتنا﴾ إليه. وقال الحرالي: ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى. فلذلك قالوا:
﴿وهب لنا من لدنك﴾ أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية، الباطن عن غير خواصك
﴿رحمة﴾ أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب.
ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا وقال الحرالي: ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله:
﴿إنك أنت الوهاب *﴾ وهي صيغة مبالغة من
250
الوهب والهبة، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى.
ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله:
﴿ربنا إنك جامع﴾ قال الحرالي: من الجمع، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً انتهى.
﴿الناس﴾ أي كلهم
﴿ليوم﴾ أي يدانون فيه
﴿لا ريب فيه﴾ ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال:
﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال
﴿لا يخلف﴾ ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال:
﴿الميعاد *﴾ وقال الحرالي: هو مفعال من الوعد، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه، والوعد العهد في الخير انتهى. وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه، فكأنه تعالى يقول للنصارى: هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي
251
وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره، ووكلتم أمر ذلك إليّ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين؟ قال ابن الزبير: ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آيه التصوير كان كأنه قد قيل: فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب؟ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه، وكذا عيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به، وهذا بيان لقوله:
﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦] وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر: لا طريق إلى تنكب الصراط، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله:
﴿وإياك نستعين﴾ [الفاتحة: ٤] ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً، ففيه معظم البيان، ومن اعتقاد الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها {والله خلقكم
252
وما تعملون} [الصافات: ٩٦] فمن التنبيه
﴿إن الذين كفروا﴾ [البقرة: ٦] ومنه:
﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦] ومنه
﴿آمن الرسول﴾ [البقرة: ٢٨٥] إلى خاتمتها، هذا من جلي التنبيه ومحكمه، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره:
﴿وإلهكم إله واحد﴾ [البقرة: ١٦٣] وقوله:
﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى:
﴿إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد﴾ [آل عمران: ٤] ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها انتهى.
ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقاً لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا﴾ أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمر الله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه
﴿لن تغني عنهم أموالهم﴾ أي وإن كثرت، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام
253
﴿ولا أولادهم﴾ وإن جلت وعظمت
﴿من الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿شيئاً﴾ أي من إغناء مبتدئاً من جهة الله، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعاً بهم لا مانع له، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء
﴿وأولئك هم وقود النار *﴾ وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئاً، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم.
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها، والإشارة فيه إلى ذلك أكثر من الإشارة في غيره، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك. قال الحرالي: ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار
254
سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعلاء لها على كل أمة، واختصاصاً لها بما علا اختصاص نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال قائلهم: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر، وقال: والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها، كما قيل في أثارة من العلم: من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله تعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة؛ وكذلك العالم متى
255
لم ينطو سره على أنه لا يعلم وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل والإنزال فكان علن القيومية قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول، والتنزيل قوام إنزال الكتب، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قواماً لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان
256
القلوب، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى:
﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ [البقرة: ١٦٤] إلى قوله:
﴿لقوم يعقلون﴾ [البقرة: ١٦٤] فكان خطاب سورة آل عمران إقبالاً على أولي الألباب الذين لهم لب العقل، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله:
﴿وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾ [آل عمران: ٧] وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى
﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ [آل عمران: ١٩٠] فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله، وبما افتتحت به من اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها، وظهر
257
فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى
﴿يؤتي الحكمة من يشاء﴾ [البقرة: ٢٦٩] فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر الله، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه
﴿الذين آمنوا﴾ في قوله سبحانه وتعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله﴾ [المنافقون: ٩] انتهى.
ولما كان السبب المقتضي لاستمرارالكفر من النصارى المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تُقسر بها ملوك زمانهم، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال:
﴿كدأب﴾ أي لم يغن عنهم ذلك شيئاً مثل عادة
﴿آل فرعون﴾ أي الذين اشتهر لديكم استكبارهم وعظمتهم وفخارهم، قال الحرالي:
258
الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب؛ وفرعون اسم ملك مصر في الكفر، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها، فلها إحاطة بوجه ما، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك، فكان أول من طوى في رتبة بنوتة رتبة البنوة ذات الواسطة، فلذلك بدىء به في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك، وخص آله لأنه هو كان عارفاً بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحداً لا مكذباً انتهى.
﴿والذين﴾ ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل: ماذا كانت عادتهم؟ فقيل:
﴿كذبوا﴾ ولما كان التكذيب موجباً للعقوبة
259
كان مظهر العظمة به أليق، فصرف القول إليه فقال:
﴿بآياتنا﴾ السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا
﴿فأخذهم﴾ ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلاً لأخذهم فقال:
﴿الله﴾ فاظهر الاسم الشريف تنبيهاً على باهر العظمة
﴿بذنوبهم﴾ أي من التكذيب وغيره. قال الحرالي: فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقاباً على ما ظهر من الأعمال، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه من استغراقه لظاهره وباطنه، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمه في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال:
﴿والله﴾ أي الحال أن الملك الذي لا كفوء له في جبروته ولا شيء من نعوته
﴿شديد العقاب *﴾ لا يعجزه شيء.
260
ولما تم ذلك على هذه الوجوه الظاهره التي أوجبت اليقين لكل منصف بأنهم مغلوبون وصل بها أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الحبيب العزيز بأن يصرح لهم بمضمون ذلك فقال:
﴿قل للذين كفروا﴾ أي من أهل زمانك جرياً على منهاج أولئك الذين أخذناهم
﴿ستغلبون﴾ كما غلبوا وإن كنتم ملأ الأرض لأنكم إنما تغالبون خالقكم وهو الغالب لكل شيء:
«وليُغلَبنّ مُغالبُ الغَلاّب» واللام على قراءة الجمهور بالخطاب معدية، وعلى قراءة الغيب معللة، أي قل لأجلهم، أو هي بمعنى عن، أي قل عنهم، وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب كما كان يذكر في تهديد من قبلهم أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة والنصرة تشريفاً لنبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة، فكان أول ذلك غلبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكة المشرفة، وكان فتحها فتحاً لجميع الأرض لأنها أم القرى نبه على ذلك الحرالي.
﴿وتحشرون﴾ أي تجمعون بعد موتكم أحياء كما كنتم قبل الموت
261
﴿إلى جهنم﴾ قال الحرالي: وهي من الجهامة، وهي كراهه المنظر انتهى؛ فتكون مهادكم، لا مهاد لكم غيرها
﴿وبئس﴾ أي والحال أنها بئس
﴿المهاد *﴾.
262
ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك: كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود؟ قيل لهم: إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه
﴿قد كان لكم آية﴾ أي عظيمة بدلالة تذكير كان
﴿في فئتين﴾ تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها
﴿التقتا﴾ أي في بدر
﴿فئة﴾ أي منهما مؤمنة، لما يرشد إليه قوله:
﴿تقاتل في سبيل الله﴾ أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً
﴿وأخرى﴾ أي منهما
﴿كافرة﴾
262
أي تقاتل في سبيل الشيطان، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازاً، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر، وبعبارة أخرى: هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه.
ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله:
﴿يرونهم﴾ وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير: ظانيهم
﴿مثليهم﴾ فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى: ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين
﴿رأي العين﴾ أي بالحزر والتخمين، لا بحقيقة العدد، هذا أقل
263
ما يجوزونه فيهم، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي: لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً، وبما هو مؤمن ذاتاً، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً
﴿فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين﴾ [الأنفال: ٦٦] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين، لا ذات قلب له، فكان المؤمن ضعفه، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل
264
الزيادة الصحيحة، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين
﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾ [الأنفال: ٦٥] انتهى. وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره، وقبل اللقاء وبعده، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال، والمعنى: إنا فاعلون بكم أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم
﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ [المائدة: ١٠٠].
ولما كان التقدير: فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة، عطف عليه قوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿يؤيد﴾ والأيد تضعيف القوة الباطنة
﴿بنصره﴾ قال الحرالي: والنصر لا يكون إلا لمحق، وإنما
265
يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى.
﴿من يشاء﴾ أي فلا عجب فيه في التحقيق، فلذلك اتصل به قوله:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر الباهر، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية
﴿لعبرة﴾ قال: هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة
﴿كما بدأنا أول خلق نعيده﴾ [الأنبياء: ١٠٤]- انتهى.
﴿لأولي الأبصار *﴾ أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار. قال الحرالي: أول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية
266
كما قال سبحانه وتعالى:
﴿وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾ [الأعراف: ١٩٨] فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى.
ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل: الآية العلامة، ومن شأنها الظهور، فما حجبها عنهم؟ فقيل: تزيين الشهوات لمن دنت همته. وقال
267
الحرالي: لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة: إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى مكلوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة، لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على
268
أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً، لتكون هذه الآية تطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال:
﴿زين للناس﴾ فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا
﴿حب الشهوات﴾ جمع شهوة، وهي
269
نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه - انتهى.
وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب، لا الشيء المحبوب، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها
﴿خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها﴾ [النساء: ١] فقال:
﴿من النساء﴾ أي المبتدئة منهن، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال:
﴿والبنين﴾ قال الحرالي: وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال:
﴿وعصى آدم ربه﴾ [طه: ١٢١] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حي كريم - انتهى.
ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال:
﴿والقناطير﴾ قال الحرالي: جمع
270
قنطار، يقال: هو مائة رطل ويقال: إن الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهماً، والدرهم خمسون حبة وخمساً من حب الشعير، وأحقه أن يكون من شعير المدينة
﴿المقنطرة﴾ أي المضاعفة مرات - انتهى. ثم بينها بقوله:
﴿من الذهب والفضة﴾ ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال:
﴿والخيل﴾ قال الحرالي: اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً
﴿المسومة﴾ أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها، من السومة - بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم
271
بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها
﴿والأنعام﴾ وهي جمع نعم، وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم - انتهى. وقال في القاموس: النعم - وقد تسكن عينه - الإبل والشياء جمع أنعام، وجمع جمعه أناعيم. وقال القزاز في جامعه: النعم اسم يلزم الإبل خاصة، وربما دخل في النعم سائر المال، وجمع النعم أنعام، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة، فإذا قلت: الأنعام - دخل فيها البقر والغنم، قال: وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام. وقال قوم: النعم والأنعام بمعنى، وقال في المجمل: والأنعام البهائم، وقال الفارابي في ديوان الأدب: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها
272
أو تنميتها وتكثيرها فقال:
﴿والحرث﴾.
ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال:
﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية. وقال الحرالي: الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى.
﴿متاع الحياة الدنيا﴾ أي التي هي مع دناءتها إلى فناء. قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى، فافهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة
273
وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا، فأنبا سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى.
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة لقال:
﴿والله﴾ الذي بيده كل شيء، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره: وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة، والله
﴿عنده حسن المآب *﴾ قال الحرالي: مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى. فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث
274
يشغله عن الخير، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل؟ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال:
﴿قل﴾ أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رضي الله تعالى عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟
275
أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» شوق إليها بالاستفهام في قوله:
﴿أؤنبئكم بخير من ذلكم﴾ أي الذي ذكر من الشهوات، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله:
﴿للذين اتقوا﴾ أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين وابتغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح، ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ونحو ذلك وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد، وحازوا النقدين لا للكنز، بل للإنفاق في سبيل الخيرات، وربطوا
276
للجهاد، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان، كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشابه اقتنائها فقال:
«وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر» ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان المقتضي لتربية الصدقات وغيرها من الأعمال الصالحات:
﴿عند ربهم﴾ أي المحسن إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا، وقوله:
﴿جنّات﴾ مرفوع بالابتداء، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين، متعلقاً بخير، ثم وصفها بقوله:
﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي أن ماءها غير مجلوب، بل كل مكان منها متهيىء لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها، ثم أشار بقوله:
﴿خالدين فيها﴾ إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام،
277
وأن ذلك على وجه لا انقطاع له. قال الحرالي: وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها انتهى. ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله:
﴿وأزواج﴾ لأنها أعظم المشتهيات، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل:
﴿مطهرة﴾ لأنهن مقتبسات من أنفسهم
﴿خلق لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ [الروم: ٣١].
ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح، وزاده من الأضعاف المضاعفة ما لا حد له بقوله:
﴿ورضوان﴾ قال الحرالي: بكسر الراء وضمها، اسم مبالغة في معنى الرضى، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه، وكسرتها بباطن إحاطته - انتهى.
278
ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال:
﴿من الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال. ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه متساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما:
﴿والله﴾ أي الذي له الحكمة البالغة
﴿بصير بالعباد﴾ أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم.
279
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصاف فقال: - وقال الحرالي: لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال؛ انتهى -
﴿الذين يقولون ربنا﴾ أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله، وأسقط أداة
279
النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى المقام التأكيد فقالوا:
﴿إننا﴾ فأثبتوا النون إبلاغاً فيه
﴿آمنا﴾ أي بما دعوتنا إليه، وأظهروا هذا المعنى بقولهم:
﴿فاغفر لنا ذنوبنا﴾ أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن اجتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص، تنبيهاً منه تعالىعلى أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر، والتوبة تجب ما قبلها. قال الحرالي: وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع، فما كان منها مع التكذيب أخذ به، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له - انتهى.
ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء فقال:
﴿وقنا عذاب النار﴾ أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا.
280
قال الحرالي: ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال:
﴿الصابرين﴾ فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها، والصبر أمدح أوصاف النفس، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
«لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي» وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها؛ وأما
281
الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل، يقال: إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد» الحديث
﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ [الحجر: ٢١] ؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله
282
تعالى عنهما
«من احتكر أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه» فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى.
ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال:
﴿والصادقين﴾ قال الحرالي: في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت، يعني مثل: الرمان حلو حامض - إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم، في الآية
283
السابقة، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل قيتحقق به فيصدق في جميع أموره والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه - انتهى
﴿والقانتين﴾ أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه.
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال:
﴿والمنفقين﴾ أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة. قال الحرالي: فيه إشعار بأن من صبر نوّل، ومن صدق أعلى، ومن قنت جل وعظم قدره، فنوله الله ما يكون له منفقاً، والمنفق أعلى حالاً من المزكي، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً، والمنفق يجود بما في يده فضلاً - انتهى.
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص:
284
﴿والمستغفرين﴾ أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال
﴿بالأسحار *﴾ التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم، وأحبها راحة لديهم، وأولاها بصفات القلوب، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء. قال الحرالي: وهو جمع سحر، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر، ومنه السحور، تعلل عن الغداء؛ ثم قال: وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى:
﴿كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون﴾ [الذاريات: ١٧، ١٨] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء:
﴿ربنا إننا آمنا﴾ وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر
285
والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود - انتهى. ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه
286
عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى.
ولما أخبر سبحانه وتعال بوحدانيته في أول السورة واستدل عليها وأخبر عما أعد للكافرين واستدل عليه بما دل على الوحدانية وختم بالإخبار بما أعد للمتقين مما جر إلى ذكره تعالى بما يقتضي الوحدانية أيضاً من الأوصاف المبنية على الإيمان أنتج ذلك ثبوتها ثبوتاً لا مرية فيه، فكرر تعالى هذه النتيجة على وجه أضخم من الماضي كما اقتضته الأدلة فقال - وقال الحرالي: لما أنهى تعالى الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون انتظمت هذه الشهادة التي هي أعظم شهادة في كتاب الله بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود لينتظم آية الشهود بآية الوجود، انتهى.
فقال سبحانه وتعالى:
﴿شهد الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له
﴿أنه﴾ قال الحرالي: فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له
﴿لا إله إلا هو﴾ فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل: إلا الله، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل
287
العلي - انتهى. والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جرياً على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيهاً على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب، وإلى ذلك ينظر قول وفد ثقيف: ما لمحمد يأمرنا بأن نشهد له بالرسالة ولا يشهد هو لنفسه! فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد لا يخطب خطبة إلا شهد لنفسه الشريفة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهادة لله فيها بالرسالة، فكأنه قيل: إن ربكم الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قد نصب لكم الأدلة بخلق ما خلق على تفرده بحيث انتفى كل ريب فكان ذلك أعظم شهادة منه سبحانه
288
لنفسه، وإليه أومأ من قال:
ولله في كل تحريكة... وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ثم شهد بذلك لنفسه بكلامه جمعاً بين آيتي السمع والبصر فلم يبق لكم عذراً. قال الحرالي: وهذه الشهادة التي هي من الله لله هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون وإليه انتهت الإشارة، وعندها وقفت العبارة، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهوداً عليها لا شهادة، يؤثر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزل يوم الجمعة وهو قائم بعرفة منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس في حجته التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة يقول هذه الآية لا يزيد عليها، فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله سبحانه وتعالى بالوحدانية فقد كملت شهادته، وأتم الله سبحانه وتعالى النعمة عليه، وهي سر كل شهادة من دونها، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى المقامات وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود الذي منه النفوذ إلى الموجود بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة - انتهى.
289
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه المقدسة أخبر عمن يعتد به من خلقه فقال مقدماً لأن المقام للعلم لمن هم أعلم به سبحانه وتعالى ممن أطلعهم من الملك والملكوت على ما لم يطلع عليه الإنسان ولا شاغل لهم من شهوة ولا حظ ولا فتور:
﴿والملائكة﴾ أي العباد المقربون المصفون من أدناس البشر، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ولما خص أهل السماوات عم فقال:
﴿وأولوا العلم﴾ وهم الذين عرفوه بالأدلة القاطعة ففعلوا ما فعل العظيم من الشهادات ليكون ذلك أدعى لغيرهم إليه وأحث عليه، ولما كانت الشهادة قد تكون على غير وجه العدل نفى ذلك بقوله:
﴿قائماً﴾ وأفرد ليفهم أنه حال كل من المذكورين لا المجموع بقيد الجمع، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون حالاً من الاسم الشريف إشارة إلى أنه ما وحد الله سبحانه وتعالى حق توحيده غيره، لأنه لا يحيط به أحد علماً. وقال الحرالي: أفرد القيام فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاماً، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحاً، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم، لأن أمرهم قائم بالقسط من الله، يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في يوم النقمة قال
290
لهود عليه الصلاة والسلام: يا هود! ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي؟ فقال: ملائكة ربي، فقال له: أرأيت إن آمنت بالهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي؟ قال: ويحك! وهل رأيت ملكاً يقيد من جنده - انتهى.
﴿بالقسط﴾ أي العدل السواء الذي لا حيف فيه أصلاً بوجه من الوجوه، وقد ثبت بهذه الشهادة على هذا الوجه أن التوحيد في نفس الأمر على ما وقعت به الشهادة، ويجوز أن يراد مع ذلك أن قيامه بالعدل فعله في خلقه فإنه عدل وإن كان من بعضهم إلى بعض ظلماً، فإنه تصرف منه سبحانه في ملكه الذي لا شائبة لأحد فيه، فهو إذا نسب إليه كان عدلاً، لأنه فعله بالحكمة، وإذا نسب إلى الظالم كان ظلماً، لأنه فعله لحظه لا للحكمة فلذلك قال على طريق الاستنتاج والتعليل للقيام بالقسط والتلقين للعباد لأن يقولوها بعد ثبوتها بما تقدم وأن يكرروها دائماً أبداً:
﴿لا إله إلا هو﴾ وقال الحرالي: كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية فاستوفى التهليلان جميع البادي علماً وفعلاً - انتهى. وأتبعه سبحانه
291
وتعالى بقوله:
﴿العزيز الحكيم *﴾ دليلاً على قسطه، لأنه لا يصح أبداً لذي العزة الكاملة والحكمة الشاملة أن يتصرف بجور، وعلى وحدانيته، لأنه لا يصح التفرد بدون الوصفين وليسا على الإطلاق لأحد غيره أصلاً، ولما كانت الآيات كلها في الإيقاع بالكافرين قدم الوصف الملائم لذلك.
قال الحرالي: وقسط الله هو إخفاء عدله في دار الدنيا من حيث إنه خفض ورفع، يعادل خفضه رفعه ورفعه خفضه، فيؤول إلى عدل، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله سبحانه وتعالى قسط، طيته عدل، سره سواء، فيظهر عزته فيما حكم انتقاماً وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلاً - انتهى.
ولما كان ذلك علم أنه يجب أن تخضع له الرقاب ويخلص له التوحيد جميع الألباب وذلك هو الإسلام فقال معللاً للشهادة منهم بالعدل - وقراءة الكسائي بالفتح أظهر في التعليل:
﴿إن الدين﴾ واصله الجزاء، أطلق هنا على الشريعة لأنها مسببة
﴿عند الله﴾
292
أي الملك الذي له الأمر كله
﴿الإسلام﴾ فاللام للعهد في هذه الشهادة فإنها أس لكل طاعة، فلأجل أن الدين عنده هذا شهدوا له هذه الشهادة المقتضية لنهاية الإذعان.
ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً قال: فكان يجب أن يعلم بذلك الأنيباء الماضون والأمم السالفون ليلزموه ويلزموه أتباعهم! فقيل: قد فعل ذلك، فقيل: فما لهم لم يلزموه؟ فقيل: قد لزموه مدة مديدة
﴿وما﴾ ويجوز وهو أحسن أن يكون التقدير: بين الله سبحانه وتعالى بشهادته ما يرضيه بآياته المرئية ثم أوضحة غاية الإيضاح بآياته المسموعة بكتبه وما
﴿اختلف الذين أوتوا الكتاب﴾ هذا الاختلاف الذي ترونه
﴿إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ بذلك كله، وما كان اختلافهم لجهلهم بذلك بل
﴿بغياً﴾ واقعاً
﴿بينهم﴾ لا بينهم وبين غيرهم، بل من بعضهم على بعض للحسد والتنافس في الدنيا لشبه أبدوها ودعاو ادعوها، طال بينهم فيها النزاع وعظم الدفاع، والله سبحانه وتعالى عالم بكشفها، قادر على صرفها. قال الحرالي: والبغي السعي بالقول والفعل
293
في إزالة نعم أنعم الله تعالى بها على خلق بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له - انتهى.
ولما كان التقدير: فمن استمر على الإيمان فإن الله عظيم الثواب، عطف عليه قوله:
﴿ومن يكفر﴾ أي يستمر على كفره ولم يقل حلماً منه: ومن كفر
﴿بآيات الله﴾ أي المرئيات والمسموعات الدالة على إحاطته بالكمال وقوفاً مع تلك الشبه وعمى عن الدليل فالله مهلكه عاجلاً
﴿فإن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفوء له
﴿سريع﴾ قال الحرالي: من السرعة وهي وحاء النجاز فيما شأنه الإبطاء - انتهى. ويحتمل أن يكون كنى بالسرعة عن القرب فالمعنى: قريب
﴿الحساب *﴾ أي عن قريب يجازيهم على كفرهم في هذه الحياة الدنيا بأيدي بعضهم وبأيدي المؤمنين، ثم ينقلون إلى حسابه سبحانه وتعالى في الدار الآخرة المقتضي لعذاب الكفرة، ويحتمل أن تكون السرعة على بابها، والمراد أنه لا يتهيأ في حسابه ما يتهيأ في حساب غيره من المغالطة المقتضية للنجاة أو المطاولة في مدة الحساب المقتضية لتأخر الجزاء في مدة المراوغة
294
والله تعالى أعلم.
ومن الكفر بالآيات الكفر بعيسى عليه الصلاة والسلام حين انتحلوا فيه الإلهية. قال الحرالي: كان آية من الله سبحانه وتعالى للهداية، فوقع عندهم بحال من كفروا به، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقاً أن يكون سبب هداية المهتدي، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات الله سبحانه وتعالى، وفي التعريض به إلاحة لما يقع لهذه الأمة في نحوه ممن هو مقام الهداية فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها، كما قال عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله تعالى عنه
«مثلك يا علي كمثل عيسى ابن مريم أبغضه يهود فبهتوا أمه وأحبه النصارى فأنزلوه بالمحل الذي ليس به» كذلك تفرقت فرق في علي رضي الله تعالى عنه من بين خارجيهم ورافضيهم انتهى.
295
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه
﴿فإن حاجّوك﴾ بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحاً أو تلويحاً عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال
﴿فقل﴾ أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال، لأن من الواجبات - كما تقرر في آداب البحث - الإعراض عمن كابر في
295
المحسوس، وقل أنت عملاً بالآية السالفة:
﴿أسلمت وجهي﴾ أي أخلصت قصدي وتوجهي، وانقدت غاية الانقياد
﴿لله﴾ الملك الأعظم الذي له الأمر كله، فلا كفوء له.
قال الحرالي: ولما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بإسلام أنفسهم، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«وما أنا عليه» فيما أوتي من اليقين
«وأصحابي» فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر: الله ورسوله أعلم، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده - انتهى. فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل:
﴿ومن﴾ أي وأسلم من
﴿اتبعن﴾ وجوههم له سبحانه وتعالى.
ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله:
﴿وقل﴾ تهديداً وتعجيزاً وتبكيتاً وتقريعاً
296
﴿للذين أوتوا الكتاب﴾ أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضاً
﴿والأمّيّن﴾ الذين لا كتاب لهم، مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم:
﴿ءأسلمتم فإن أسلموا﴾ عند ذلك
﴿فقد اهتدوا﴾ فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وفي صيغة
«افتعلوا» ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال
﴿وإن تولوا﴾ أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم
﴿فإنما عليك البلاغ﴾ أي وعليهم وبال توليهم، وفي بنية التفعل ما يومىء إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه.
ولما كان التقدير: فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير، وينكب عنه من علم فيه الشر، عطف عليه قوله:
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿بصير بالعباد﴾ أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره. لا يقدر على فعل ذلك غيره، ولا يقدر أحد غيره أن يفعل غير ذلك.
ولما أشرك اليهود في هذا الخطاب وأفهم شرط التولي بأداة
297
الشك وقوعه، فتشوفت النفس إلى معرفة جزائهم أشار إليه واصفاً لهم ببعض ما اشتد فحشه من أفعالهم فقال: - وقال الحرالي: ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملاً بجوامع من ذكرهم، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بياناً وأهل الإنجيل إجمالاً، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بياناً وذكر أهل التوراة إجمالاً، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب فوقع تفصيل ذكرهم في سورة
﴿الم ذلك الكتاب﴾ [البقرة: ١، ٢]، ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية كان بيان ما تشابه عليهم في سورة
﴿الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ [آل عمران: ١، ٢] فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا فيه في أمر الإلهية في عزير واختصوا بقتل الأنبياء وقتل أهل الخير الآمرين بالقسط؛ انتهى. فقال تعالى:
﴿إن الذين يكفرون﴾ وهم الذين خذلهم الله
﴿بآيات الله﴾ في إبراز الاسم الأعظم إشارة
298
إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى. قال الحرالي: وفي ذكره بصيغة الدوام ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه
﴿ويقتلون النبيين﴾ في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنيباء حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية».
ولما كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض والكفر والعناد، لأن الأنبياء مبرؤون من أن يكون لأحد قبلهم حق دنيوي أو أخروي قال:
﴿بغير حق﴾ أي لا صغير ولا كبير في نفس الأمر ولا في اعتقادهم، فهو أبلغ مما في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف. ولما خص ذكر أكمل الخلق عبر بما يعم أتباعهم فقال معيداً للفعل زيادة في لومهم وتقريعهم:
299
﴿ويقتلون الذين يأمرون بالقسط﴾ أي العدل، ولما كان ذلك شاملاً لمن لا قدرة لهم على قتله من الملائكة قال:
﴿من الناس﴾ أي كلهم، سواء كانوا أنبياء أو لا، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان قال الحرالي: فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمداً وخطأ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة - انتهى.
ويجوز أن يكون الخبر عنهم محذوفاً والتقدير: أنهم مطبوع على قلوبهم، أو: لا يؤمنون، أو: لا يزالون يجادلونك وينازعونك ويبغون لك الغوائل
﴿فبشرهم بعذاب أليم *﴾ أي اجعل إخبارهم بأنه لهم موضع البشارة، فهو
300
من وادي: تحيتهم بينهم ضرب وجيع.
ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال: إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب، لتقع المناسبة بين الأعمال والعاملين فقال:
﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿الذين حبطت﴾ أي فسدت فسقطت، وأشار بتأنيث الفعل إلى ضعفها من أصلها
﴿أعمالهم﴾ أي كلها الدنياوية والدينية، وأنبأ تعالى بقوله:
﴿في الدنيا﴾ كما قال الحرالي - أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغي يمحوها فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل، وبذلك تمادى عليهم الذل وقل منهم المهتدي - انتهى
﴿والآخرة﴾ فلا يقيم لهم الله في يوم الدين وزناً، وأسقط ذكر الحياة إشارة إلى أنه لا حياة لهم في واحدة من الدارين.
ولما كان التقدير: فلا ينتصرون بأنفسهم أصلاً، فإنهم لا يدبرون تدبيراً إلا كان فيه تدميرهم، عطف عليه قوله:
﴿وما لهم من ناصرين *﴾
301
قال الحرالي: فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى:
﴿ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء﴾ [الروم: ٤، ٥] فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم
«يقتلون في آخر الزمان حتى يقول الحجر: يا مسلم! خلفي يهودي فاقتله، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد» كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إنه من شجرهم» وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها - انتهى.
ولما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال:
﴿ألم تر﴾ وكان الموضع لأن يقال: إليهم، ولكنه قال:
﴿إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب﴾
302
ليدل على أن ضلالهم على علم، وأن الذي أوتوه منه قراءتهم له بألسنتهم وادعاء الإيمان به. وقال الحرالي: كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به - انتهى.
﴿يدعون إلى كتاب الله﴾ أظهر الاسم الشريف ولم يقل: إلى كتابهم، احترازاً عما غيروا وبدلوا ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا - نبه عليه الحرالي. وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة
﴿ليحكم بينهم﴾ قال الحرالي: في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه - انتهى.
ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال:
﴿ثم﴾ وقال الحرالي: في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه، وفي صيغة يتفعل في قوله:
﴿يتولى﴾
303
ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه، وصرح قوله:
﴿فريق منهم﴾ بما أفهمه ما تقدم من قوله:
﴿ليحكم بينهم﴾ فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق
﴿وهم معرضون *﴾ بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه - انتهى.
وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه - نبه عليه الحرالي وقال: إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة - انتهى. ثم علل اجتراءهم على الله تعالى فقال:
﴿ذلك﴾ أي الإعراض البعيد عن أفعال أهل الكرم المبعد من الله
﴿بأنهم قالوا﴾ كذباً على الله - كما تقدم بيانه في سورة البقرة
﴿لن تمسنا النار إلا أياماً﴾ ولما
304
كان المقام هنا لتناهي اجترائهم على العظائم لاستهانتهم بالعذاب لاستقصارهم لمدته والتصريح بقتل الآمرين بالقسط عامة وبحبوط الأعمال، وكان جمع القلة قد يستعار للكثرة أكدت إرادتهم حقيقة القلة بجمع آخر للقلة، فقيل على ما هو الأولى من وصف جمع القلة لما لا يعقل بجمع جبراً له:
﴿معدودات﴾ وتطاول الزمان وهم على هذا الباطل حتى آنسوا به واطمأنوا إليه لأنه ما كذب أحد بحق إلا عوقب بتصديقه بباطل، وما ترك قوم سنة إلا أحيوا بدعة، على أن كذبهم أيضاً جرهم إلى الاستهانة بعذاب الله الذي لا يستهان بشيء منه ولو قل.
ولما نسبوا ذلك إلى الكتاب فجعلوه ديناً قال:
﴿وغرَّهم﴾ قال الحرالي: من الغرور وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة - انتهى
﴿في دينهم ما كانوا﴾ أي بما هيؤوا له وجبلوا عليه
﴿يفترون *﴾ أي يتعمدون كذبة، قال الحرالي: فتقابل التعجيبات في ردهم حق الله سبحانه وتعالى وسكونهم إلى باطلهم - انتهى.
305
ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة:
﴿فكيف﴾ أي يكون حالهم
﴿إذا جمعناهم﴾ أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة. ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال:
﴿ليوم﴾ ووصفُه بقوله:
﴿لا ريب فيه﴾ مشعر- كما قال الحرالي - بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم.
ولما كان الجزاء أمراً متحققاً لا بد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله:
﴿ووفيت﴾ والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها وقوله:
﴿كل نفس﴾ قال الحرالي: الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره، فهي التي توفي، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية، إذ لا وجود نفس له
306
بما أسلم وجهه لله، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها، فمتى نفست فتملكت ملكاً أو تشرفت مُلكاً خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل - انتهى.
ولما كان هذا الجزاء شاملاً للخير والشر قال:
﴿ما﴾ أي جزاء ما
﴿كسبت﴾ فأتى به مخففاً ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة، وراعى معنى
«كل» للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل
﴿وهم لا يظلمون *﴾ أي لا يقع عليهم ظلم
307
بزيادة ولا نقص، ولا يتوقعونه.
ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضياً لأن يقولوا: كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى، فكيف نغلب؟ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضاً وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوونا القليل الضعفاء، أهل الأرض الغبراء، وأولو البأساء والضراء، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلات المتقلبون في فلوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه جدير بأن يفعل أضعافه لأوليائه:
﴿قل اللهم﴾ قال الحرالي: ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكاً فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين
308
في العلم الذين يقولون:
﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا﴾ [آل عمران: ٨]، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب - انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة، وخص به من لاق به الملك، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه - انتهى؛ فقال:
﴿قل﴾ أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء. قال الحرالي: لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولاً
309
يقصدونه به قال الله عز وجل: قل لهم، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل - انتهى.
﴿اللهم مالك الملك﴾ أي لا يملك شيئاً منه غيرك. قال الحرالي: فأقنعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبياً عبداً، لا نبياً ملكاً، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش، ولانوا في الحق، وحملوا جفاء الغريب، واتبعوا اثره في العبودية، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوه شيئاً منه، حمل عمر رضي الله تعالى عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل
310
محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله، لينال كل من رحمة الله وفضله، التي ولى جميعها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ طائفة على قدر قربهم منه، حتى اختص بالتقدم قريشاً ما كانت، ثم العرب ما كانت إلى ما صار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر إلى ما يصير إليه من دجل كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه
﴿تؤتي الملك من تشآء﴾ في الإيتاء إشعار بأنه تنوبل من الله من غير قوة وغلبة ولا مطاولة فيه وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم
311
للهداية من ذريته ختمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنبوة من ذرية آدم، ويؤتيهم من المكنة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل» ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم، فيؤتيهم الله ملكاً من ملكه - ظاهر هداية من هداه، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته: إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم، وإياك والذخيرة! فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها.
لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره. فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل، وهو به من أتباع
312
ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال: أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب: رحم الله تعالى! ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه - انتهى.
وفي تقديم الإيتاء على
313
النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب
﴿وتنزع﴾ قال الحرالي: من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش - انتهى.
﴿الملك ممن تشآء﴾ وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب، وعلى هذا المنوال أبرز قوله:
﴿وتعز من تشآء﴾ أي إعزازه
﴿وتذل من تشآء﴾ أي إذلاله، وهو كما قال:
«إن رحمتي سبقت غضبي» قال الحرالي: وفي كلمة النزع بما ينبىء عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له: سلم ما بيدك لصاحب الهراوة، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشاً ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً، إلى ما يتم به الأمر في الختم، والعز - والله سبحانه وتعالى أعلم - عزة الله سبحانه وتعالى: لأهله ولآل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنصار والصلحاء من صحابته وعشيرته وأبنائهم وذرياتهم الذين سلبهم الله ملك الدنيا فحلاهم بعز الآخرة وبعزة الدين كما قال
314
سبحانه وتعالى:
﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ [المنافقون: ٨] ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا
﴿من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً﴾ [فاطر: ١٠] فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا استتروا أو اشتهروا، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهراً، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم، محصورون في أقطار ممالكهم، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك، والله عز وجل يقول:
«إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في رزقه، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم»
315
فالملوك مملوكون بما ملكوا، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى، فقارض الله أهل بيت نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنهم، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين، والذل مقابل ذلك العزة، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل - والله تعالى أعلم - ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين - انتهى.
ولعل نصارى نجران أشد قصداً بهذا الخطاب، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي
316
الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله:
﴿بيدك﴾ أي وحدك
﴿الخير﴾ ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر - والله سبحانه وتعالى أعلم. ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً:
﴿إنك على كل شيء قدير *﴾
317
فلما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه
317
الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال: - وقال الحرالي: ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر. ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فيها وخفي في توالج أحوال الكائن القائم، لأن الإحكام والاشتباه
318
متراد بين الآيتين: آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى:
﴿تولج﴾ من الولوج، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل
﴿الَّيل في النهار﴾ فيه تفصيل من مضاء قدرته، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى.
﴿وتولج النهار في الَّيل﴾ أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر. قال الحرالي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى. فقال سبحانه وتعالى:
﴿وتخرج الحي﴾ أي من النبات والحيوان
﴿من الميت﴾ منهما {وتخرج
319
الميت} منهما
﴿من الحي﴾ منهما كذلك.
قال الحرالي: فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل
﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه﴾ [التوبة: ١٤] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم
﴿يا نوح إنه ليس من أهلك﴾ [هود: ٤٦] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين: مثل آدم وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام،
320
فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من علمه حين علم آدم الأسماء كلها كذلك أظهر في عيسى عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء، وأعز من شاء وأذل من شاء، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض - انتهى.
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال:
﴿وترزق من تشاء﴾ قوياً كان أو ضعيفاً
﴿بغير حساب *﴾ أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم. وقال الحرالي: ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق أهل شرف الملك وأهل عزة الدين ختم الخطاب بأمر الرزق الذي هو
321
تتمة الخلق، وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى
﴿هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب﴾ [ص: ٣٩] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة - انتهى.
ولما بان بهذه الآية أن لا شيء في يد غيره، واقتضى ذلك قصر الهمم عليه، وكان نصارى نجران إنما داموا على موالاة ملوك الروم لمحض الدنيا مع العلم ببطلان ما هم عليه حذر المؤمنين من مداناة مثل ذلك مع كونهم مؤمنين كما وقع لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه مما قص في سورة الممتحنة إشارة إلى أنه لا تجتمع
322
موالاة المؤمنين وموالاة الكافرين في قلب إلا أوشكت إحداهما أن تغلب على الأخرى فتنزعها، فقال تعالى منبهاً على ذلك كله سائقاً مساق النتيجة لما قبله - وقال الحرالي: ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق؛ نهي المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم كما قال تعالى
﴿هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم﴾ [آل عمران: ١١٩] فنهاهم الله سبحانه وتعالى عما غاب عنهم خبرته وطيته فقال تعالى:
323
﴿لا يتخذ المؤمنون﴾ أي الراسخون في الإيمان وعبر في أضدادهم بالوصف لئلا يتوهم ذلك في كل من تلبس بكفر في وقت ما فقال:
﴿الكافرين أولياء﴾ ونبه بقوله:
﴿من دون المؤمنين﴾ على أن ولاية أوليائه من ولايته، وأن المنهي عنه إنما هو الولاية التي قد توهن الركون إلى المؤمنين لأن في ذلك - كما قال الحرالي - تبعيد القريب وتقريب البعيد، والمؤمن أولى بالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام:
«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» فأقواهم له ركن، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، فإذا والاه قوى به مما يباطنه ويصافيه، وإذا اتخذ الكافر ولياً من دون مؤمنه القوي ربما تداعى ضعفه في إيمانهم إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إصاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية كما في قوله تعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين﴾ [آل عمران: ١٠٠] وكما قال سبحانه وتعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين﴾ [آل عمران: ١٤٩]، ولم يمنع سبحانه وتعالى من صلة أرحام من لهم من الكافرين، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشرى
324
والأخذ والعطاء وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين - انتهى.
ولما كان التقدير: فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون الرسوخ قوله:
﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي هذا الأمر البعيد من أفعال ذوي الهمم الذي يكون به في عداد الأعداء بعد هذا البيان ومع رفع هذا الحجاب الذي كان مسدولاً على أكثر الخلق
﴿فليس من الله﴾ أي الذي بيده كل شيء فلا كفوء له
﴿في شيء﴾ قال الحرالي: ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى من الذين إذا رؤوا ذكر الله - انتهى.
ولما كان من الناس القوي والضعيف والشديد واللين نظر إلى أهل الضعف سبحانه وتعالى فوسع لهم بقوله:
﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾ أي إلا أن تخافوا منهم أمراً خطراً مجزوماً به، لا كما خافه نصارى نجران وتوهمه حاطب، فحينئذ يباح إظهار الموالاة
325
وإن كانت درجة من تصلب في مكاشرتهم وتعزز لمكابرتهم ومكاثرتهم، وإن قطع أعظم فإياكم أن تركنوا إليهم! فإن الله سبحانه وتعالى يحذركم إقبالكم على عدوه، فإن ذلك موجب لإعراضه عنكم
﴿ويحذركم الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿نفسه﴾ فإنه عالم بما تفعلونه. وهو الحكم في الدنيا كما ترون من إذلاله العزيز وإعزازه الذليل، وهذا المحذر منه وهو نفسه سبحانه وتعالى - كما قال الحرالي - مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم. وموجود النفس ما تنفس، وإن كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالي أوصافه وأسمائه أن تنفس على من يغنيه فلا يستغني، ويكفيه فلا يكتفي ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها، فهو سبحانه وتعالى يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه أشد من عذاب من يتعرف له بآياته فلا يعتبر بها، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فعرفه، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره - انتهى.
326
ولما كانت مصائب الدنيا قد تستهان قال سبحانه وتعالى عاطفاً على نحو ما تقديره: فمن الله المبدأ: - وقال الحرالي: ولما كان الزائل أبداً مؤذناً بترك الاعتماد عليه أقام تعالى على المتمسك بما دونه حجة بزواله، فلا يستطيع الثبات عليه عند ما تناله الإزالة والإذهاب، ويصير الأمر كله لله، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله سبحانه وتعالى، فنم تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم - انتهى؛ فقال -:
﴿وإلى الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿المصير *﴾ أي وإن طال إملاؤه لمن أعرض عنه فيوشك أن ينتقم منه.
ولما كانت الموالاة بالباطن المنهي عنها مطلقاً ودائماً قد تفعل ويدعى نفيها لخفائها أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحذيرهم من موالاة أعدائه على وجه النفاق أو غيره فقال: - وقال الحرالي: ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاة أمراً باطناً يترتب عليه فعل ظاهر فوقع التحذير فيه على الفعل كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور ونبه فيه على منال العلم خفية، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم خفية، فإنه قد يترك الشيء فعلاً
327
ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم؛ انتهى. فقال تعالى -:
﴿قل إن تخفوا﴾ أي يا أيها المؤمنون
﴿ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله﴾ أي المحيط قدرة وعلماً، ثم قال عاطفاً على جملة الشرط التي هي مقول القول إرادة التعميم:
﴿ويعلم ما﴾ أي جميع ما
﴿في السموات﴾ ولما كان الإنسان مطبوعاً على ظن أنه إذا أخفي شيئاً في نفسه لا يعلمه غيره أكد بإعادة الموصول فقال:
﴿وما﴾ أي وجميع ما
﴿في الأرض﴾ ظاهراً كان أو باطناً.
ولما كان ذو العلم لا يكمل إلا بالقدرة، وكان يلزم من تمام العلم شمول القدرة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى برهانه في سورة طه - كان التقدير: فالله بكل شيء عليم، فعطف عليه قوله:
﴿والله﴾ أي بما له
328
من صفات الكمال
﴿على كل شيء قدير *﴾ ومن نمط ذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء﴾ [آل عمران: ٥] مع ذكر التصوير كيف يشاء والختم بوصفي العزة والحكمة، وقد دل سبحانه وتعالى بالتفرد بصفتي العلم والقدرة على التفرد بالألوهية.
ولما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه، المحصى فيه كل كبير وصغير، المعامل فيه كل عامل بما يليق به، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى:
﴿يوم﴾ وهو معمول لعامل من معنى
«يحذر» ﴿تجد كل نفس﴾ والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل - إذا جعل العامل مقدراً - قوله سبحانه وتعالى
﴿ويحذركم الله نفسه﴾ [آل عمران: ٢٨] سابقاً لها ولا حقاً، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في قوله
﴿ليوم لا ريب فيه﴾ [آل عمران: ٩] وتكون فتحته للبناء لإضافته إلى الجملة - والله سبحانه وتعالى أعلم، والمراد بالنفس - والله سبحانه وتعالى أعلم - المكلفة
﴿ما عملت من خير محضراً﴾ أي لا نقص فيه ولا زيادة، بأمر القاهر القادر على كل شيء
﴿وما عملت من سوء﴾ حاضراً ملازماً، فما عملت من خير
329
تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء [وما عملت من سوء
﴿تود﴾ أي تحب حباً شديداً
﴿ولو أن بينها وبينه﴾ أي ذلك العمل السوء
﴿أمداً﴾ أي زماناً. قال الحرالي: وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه
﴿بعيداً﴾ من البعد، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى - انتهى. فالآية من الاحتباك: ذكر إحضار الخير دلالة على حضور السوء، وود بعد السوء دلالة على ود لزوم الخير.
ولما ذكر هول ذلك اليوم كان كأنه قال: فاتقوه فإن الله يحذركموه
﴿ويحذركم الله﴾ أي الذي له العظمة التي لا يحاط بها
﴿نفسه﴾ فالله سبحانه وتعالى منتقم ممن تعدى طوره ونسي أنه عبد، قال الحرالي: أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة، بل الذي ينبغي أن يبرىء العبد من نفسه تبرئته من أن يكون له إرادة، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه وظاهر الكون وباطنه - انتهى.
ولما كان تكرير التحذير قد ينفر بين أن تحذيره للاستعطاف،
330
فإنه بنصب الأدلة وبعث الدعاة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية المسبب عنه سعادة الدارين، فهو من رأفته بالمحذرين فقال بانياً على ما تقديره: ويعدكم الله سبحانه وتعالى فضله ويبشركم به لرأفته بكم:
﴿والله﴾ أي والحال أن الذي له وحده الجلال والإكرام
﴿رؤوف بالعباد *﴾ قال الحرالي: فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائياً، والتحذير السابق انتهائياً، فكان هذا رأفة سابقة، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقاً متصلاً بالمصير إلى الله، وهذا الخاتم مبتدأً بالرأفة من الله.
والرأفة - يقول أهل المعاني - هي أرق الرحمة، والذي يفصح عن المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، فنم تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رفقه وفضله ورحمته عليه لما برىء من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه، فأحبه لذلك، قيل لأعرابي: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله؟ فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحّده وبما وجده
331
في العاجلة فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة - انتهى.
وقد علم أن الآية من الاحتباك: التحذير أولاً دال على الوعد بالخير ثانياً، والرأفة ثانياً دالة على الانتقام أولاً - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما فطمهم سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار ظاهراً وباطناً بما اقتضى القصر على موالاة أهل الله لنفيه من تولي الكفر عن أن يكون في شيء من الله، وكان الإنسان ربما وإلى الكافر وهو يدعي محبة الله سبحانه وتعالى، وختم برأفته سبحانه وتعالى بعباده، وكانت الرأفة قد تكون عن المحبة الموجبة للقرب، فكان الإخبار بها ربما دعا إلى الاتكال، ووقع لأجله الاشتباه في الحزبين، جعل لذلك سبحانه وتعالى علامه فقال: - وقال الحرالي: لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله سبحانه وتعالى القاصدين إليه من مبدإ حال الذكر الذي هو منتهى المقامات العشر المترتبة في قوله سبحانه وتعالى
﴿إن المسلمين﴾ محبة الله سبحانه وتعالى بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها، أقام سبحانه وتعالى الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته بما
332
أنبأنهم أن من انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فمن اتبعه أحبه الله، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله، وعناية الحق أن يحب العبد، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي» وإذا كان ذلك في موسى عليه الصلاة والسلام كان في المنتحلين لملته ألزم بما هم متبعون لمتبعه عندهم، وأصل ذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد، فألزم الله سبحانه وتعالى على الخليقة ممن أحب الله سبحانه وتعالى أن يتبعوه، وأجرى ذلك على لسان إشعاراً بما فيه من الخير والوصول إلى الله سبحانه وتعالى من حيث إنه نبي البشرى، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه - انتهى، فقال سبحانه وتعالى -:
﴿قل إن كنتم تحبون الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال مخلصين في حبه لاعتقاد أنه على غاية الكمال، فإن الكمال محبوب لذاته
333
﴿فاتبعوني﴾ قال الحرالي: قد فسر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهر اتباعه فقال
«في البر» وأصل حقيقته الإيمان بالله والإيثار لعباده، والتقوى وهي ملاك الأمر وأصل الخير، وهي إطراح استغناء العبد بشيء من شأنه، لا من مِلك ولا من مُلك ولا من فعل ولا من وصف ولا من ذات حتى يكون عنده كما هو عند ربه في أزله قبل أن يكون موجوداً لنفسه ليكون أمره كله بربه في وجوده كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطيع فلا يعصى - انتهى.
قال الإمام: المحبة توجب اإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره - انتهى. فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كذاب، وكتاب الله سبحانه وتعالى يكذبه
﴿يحببكم الله﴾ أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى حباً ظهرت أماراته بما أعلم به الفك، فإن الأمر المنجي غاية النجاة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالى للعبد، لا محبة العبد لله، فإنه ربما كانت له حالة
334
يظن بها أنه يحب الله والواقع أنه ليس كما ظن لكونه يعمل بما يسخطه سبحانه وتعالى، والأمارة الصحيحة لذلك رد الأمر كله إلى الله، وحينئذ يفعل الله مع العبد فعل المحب من حسن الثناء والإكرام بالثواب. قال الحرالي: فإن من رد الأمانة إلى الله سبحانه وتعالى أحبه الله فكان سمعه وبصره ويده ورجله، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من مناله في أن يكون هو يحب الله، فمن أحب الله وله، ومن أحبه الله سكن ي ابتداء عنايته وثبته الله سبحانه وتعالى - انتهى. فقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن الدلالة الناشئة عن الرافة من الإكرام بالنعم من الهداية بالبيان والإبلاغ في الإحسان عامة للمحبوب وغيره، وأن الدليل على المحبة الإلهية هو الاتباع الداعي
«اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة» «ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه».
ولما كان الدين شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه، لما عليه العبد من العجز والمعبود من عظيم الأمر أتبع ذلك الإعلام بأنه مع
335
إيصال الثواب يرفع العقاب فقال - وقال الحرالي: ولما كان من آية حب الله له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أنزل عليه من قوله:
﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ [الفتح: ١ ٢] أجرى لمن أحبه الله باتباعه حظ منه في قوله -:
﴿ويغفر لكم ذنوبكم﴾ أي مطلقاً، وذنب كل عبد بحسبه، لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد، فكل ذي مقام أعلاه حسنته وأدناه ذنبه، ولذلك في كل مقام توبة، حتى تقع التوبة من التوبة فيكمل الوجود والشهود.
ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله سبحانه وتعالى ختم تعالى بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال:
﴿والله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿غفور رحيم *﴾ أي لمن لم ينته لرتبة حب الله له بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة حيث لم يصل إلى المحبة، فمرحوم بعد مغفرة وهو القاصد، ومغفور بعد محبة وهو الواصل - انتهى.
ولما كان الاتباع قد يكون عن غلبة لا عن طاعة بين أنه لا ينفع إلا مع الإذعان فقال - أو يقال: لما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غاية
336
الرأفة بالعبادة وكان يعلم أن آحاد الأمة لا يقدرون على كمال اتباعه لما له مع العصمة من الطبع على خصال الكمال كان كأنه قال له سبحانه وتعالى: فإن لم يقدروا على كمال اتباعي؟ فقال:
﴿قل﴾ وقال الحرالي: ولما ذكر تعالى ما تقدم من التحذيرين، في رتبتين أولاهما في الذكر بحاتين من موجب التحذيرين، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذير الثاني الباطن الذي مبدؤه الرأفة، وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق، فمن أطاع الله روسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين سلم من التحذيرالظاهر، ومن اتبع الرسول فأحبه الله سلم من التحذير الباطن، فختم الخطاب بما به بدأ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الائتمار، فهو إما متبع على حب وإما مؤتمر على طاعة، فمن لم يكن من أهل الاتباع فليكن من أهل الطاعة، فكأن الخطاب يفهم:
﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني﴾ [آل عمران: ٣١]، فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني، انتهى فقال سبحانه وتعالى:
﴿قل أطيعوا الله﴾ أي لما له من صفات
337
الكمال. ولما قدم أن رضاه في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدل على أن الطاعتين واحدة قال موحداً للعامل:
﴿والرسول﴾ أي الكامل في الرسلية لما له به سبحانه وتعالى من مزايا الاتصال، وهو وإن كان اسماً كلياً لكنه كان حين إنزال هذا الخطاب مختصاً بأكمل الخلق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المرسل إلى الخلق كافة على أن طاعته طاعة لجميع الرسل الذين بينوا للناس أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين وسلم. قال الحرالي: فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي إلى ما ينتظم في معنى ذلك، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطاً بالرحمة من حيث ذكر الرسول فيه بما هو رحمة للعالمين
﴿فإن تولوا﴾ أي عن طاعة خطاب الله والرسول المحفوف باللطف من الله سبحانه وتعالى والرحمة من رسول الله - انتهى. و
﴿تولوا﴾ يحتمل المضارع والمضي، فكان الأصل في الكلام:
﴿فإن الله﴾ الذي له الغنى المطلق لا يحبكم، أو: لا يحبهم، ولكنه أظهر الوصف المعلم بأن التولي كفر فقال: {لا يحب
338
الكافرين *} قال الحرالي: أفرد لله لما كان وعيداً، إبقاء لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حيز الرحمة.
ولما نفى عمن تولى أن يحبه كان في إشعارة أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفي عنه الحب فنفي منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر، لأنه كفر دون كفر، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وإنما يحب الله من اتبع رسوله، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب - انتهى.
وقد وضح أن الآية من الاحتباك - فأصل نظمها: فإن تولوا
339
فإن الله لا يحبهم لكفرانهم، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم، فإن الله لا يحب الكافرين والله يحب المؤمنين - إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني، إثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول.
ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف
«فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» تنبيهاً لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه، وليسوا من صفات الكافرين في شيء فقال - أو يقال: إنه سبحانه وتعالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق الأقوم رد المتشابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل إليه مع الاعتقاد الجازم المستقيم، وبين أن الموقف عن هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه
340
بالتمني الفارغ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير تصويره في الأرحام كيف شاء بما شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص عباده المقبلين على ما يرضيه فقال: أو يقال ولعله أحسن: ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك، وألحق به ما تبعه إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله: وقال الحرالي: لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو ورحه ودنو أديم تربته وأنه سبحانه وتعالى نزل
341
الروح إلى الخلق الآدمي كما قال
﴿ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ [الأنعام: ٩] وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة.
342
ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال؛ انتهى - فقال سبحانه وتعالى:
﴿إن الله﴾ أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته
﴿اصطفى﴾ أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه
﴿آدم﴾ أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا من عيسى كونه من
342
غير ذكر، وآدم أغرب حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء - كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح.
قال الحرالي: فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه، فسماه آدم من أديم الأرض، على صيغة أفعل، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية. فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله: لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى
﴿ونوحاً﴾ أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم. وقال الحرالي: أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام
343
بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول
«لا إله إلا الله»، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحاً عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام
﴿وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح﴾ [الأحزاب: ٧] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه، كما كان آدم صفوة حينه - انتهى.
344
ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله:
﴿وآل إبراهيم﴾ أي الذين أود فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم، وكذا قوله:
﴿وآل عمران﴾ في قوله:
﴿على العالمين *﴾ إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله:
﴿ذرية بعضها من بعض﴾ أي فهم كلهم من بني آدم، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك، لا مزية في شيء من ذلك، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر.
345
وقال الحرالي: فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضاً لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً وأظهر الخلق بادياً وملتبساً انتهى. وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب، فأخبر أولاً عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبساً بوجه.
وقال الحرالي: في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام
346
بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله، وهم - والله سبحانه وتعالى أعلم - إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب، فلذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق
﴿يا موسى إني اصطفيتك على الناس﴾ [الأعراف: ١٤٤] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام، وآل عمران - والله سبحانه وتعالى أعلم - مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة
347
والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحاً وسلالة، والعالمون علم الله الذي له الملك، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علماً على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاماً، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصاً، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته، وكذلك نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران كلاًّ على عالم زمانه، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءاًَ، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فكان نصب لفظ الذرية تكييفاً لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر، وهو الذي يسميه النحاة حالاً - انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم، وكان مدار
348
أمر الاصطفاء على العلم، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفراً أو إيماناً على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد:
﴿والله﴾ أي المحيط قدرة وعلماً
﴿سميع عليم *﴾ إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيباً في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم.
ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل:
﴿إذ﴾ أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين
﴿قالت امرأة عمران﴾ وهي حامل.
وقال الحرالي: لما اكن من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام
349
في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة
﴿رب إني نذرت لك ما في بطني﴾ وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال - كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام
«كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع» فذكر مريم بنت عمران عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها -
350
انتهى. ونذرته لله تعالى حال كونه
﴿محرراً﴾ أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه، قال الحرالي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى - انتهى.
﴿فتقبل مني﴾ ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت:
﴿إنك أنت﴾ أي وحدك
﴿السميع العليم *﴾ فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام
﴿ربنا تقبل منا﴾ [البقرة: ١٢٧]، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه.
ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال:
﴿فلما وضعتها قالت﴾ أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان
﴿رب إني وضعتها﴾ قال الحرالي: من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل
﴿أنثى﴾ هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى.
351
ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنما هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت:
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال.
ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت:
﴿أعلم بما وضعت﴾ وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال، حتى كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى.
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت:
﴿وليس الذكر﴾
352
أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة
﴿كالأنثى﴾ التي وضعتها، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك، ولو قالت: وليست الأنثى كالذكر، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة.
قال الحرالي: وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى. ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء، والتقدير: قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه،
353
بل هي أعلى، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين لحكم التوراة، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم، وتلد صاحب شريعة مستقلة، ثم يكون مقرراً لأعظم الشرائع.
ولما تم ما قالته عند الوضع او قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها وأنها عدلت عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا:
﴿وإني سميتها مريم﴾ ومعنى هذا الاسم بلسانهم: العابدة. قال الحرالي: فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسماً، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول: يا رب! أضاعوني، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها، فيكون إبداؤها لها وضع عين وإظهار اسم، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً.
ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له، وما
354
كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة فقالت:
﴿وإني أعيذها بك﴾ وفي قوله:
﴿وذريتها﴾ إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله، فهو معلمه لمن شاء.
ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه بالرجم حققت الإعاذة بقولها:
﴿من الشيطان الرجيم *﴾ وفي هذا التخليص لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتصال واصل؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومه دينه».
355
ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال:
﴿فتقبلها﴾ فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها
﴿فتقبل﴾، ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته
﴿فقبلها﴾، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع، فلا تزال بركة تحريرها متجدداً لها في نفسها وعائداً بركته على أمها حتى تترقى لى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى.
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال:
﴿ربها﴾ قال الحرالي: وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى:
﴿بقبول حسن﴾ حيث لم يكن
«بتقبل» - جرياً على الأول.
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها، وفي ذكر الفعل من
«أفعل» في قوله:
356
﴿وأنبتها﴾ والاسم من
«فعل» في قوله:
﴿نباتاً حسناً﴾ إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً - انتهى. فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى.
وقال الحرالي: وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفي اللبس في أمرها وأمر ولدها، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى، وفيه تصرف.
357
ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال:
﴿وكفلها﴾ قال الحرالي: من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر
﴿زكريا﴾ وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها، وفي استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها - انتهى.
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول: ما فعل في كفالتها؟ :
﴿كلما﴾ أي كان كلما
﴿دخل عليها زكريا المحراب﴾ أي موضع العبادة. وقال الحرالي: هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب
﴿وجد عندها رزقاً﴾ وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته
358
وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة
﴿كلما﴾ من التكرار، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال: من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه، وفي
359
تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة، ويف لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم، ففيه إشعار بحضورها، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: فما كان يقول لها إذا رأى ذلك؟ قيل:
360
كان كلما وجد ذلك، أو: لما تكرر وجدانه لذلك
﴿قال يا مريم أنّى﴾ أي من أين
﴿لك هذا﴾ قال الحرالي: كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة: من جهة الزمان أنه ليس زمانه، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله، وفي ذكر الضمير في قوله:
﴿قالت هو من عند الله﴾ إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه، فهو إنباء عن رؤية قلب، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت
﴿من عند الله﴾ ذي الجلال والإكرام، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه، فهي ثلاث رتب: رتبة لدنية، ورتبة عندية، ورتبة حكمية عادية؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى:
﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً﴾ [الكهف: ٦٥] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال: {أخرقتها لتغرق
361
أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} [الكهف: ٧١] والإمر العجب، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن
﴿من عند ربي﴾ لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال
﴿هذا من فضل ربي﴾ [النمل: ٤٠] لما كان من عادته المكنة على الملوك، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى.
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكلية. قال الحرالي: في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها، ويؤيده عموم قولها:
﴿يرزق من يشاء﴾ وقولها:
﴿بغير حساب *﴾ يشعر بأنه عطاء متصل، فلا يتحدد ولا يتعدد، فهو رزق لا متعقب عليه، لأن كل محسوب في الإبداء
362
محاسب عليه في الإعادة، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: فما قال زكريا حينئذ؟ قيل:
﴿هنالك﴾ أي في ذلك الوقت وذلك المكان العظيمي المقدار
﴿دعا زكريا ربه﴾ تذكراً لما عودهم الله سبحانه وتعالى به من الإكرام، فظهرت عليه كرامات هذه الكفالة، قال الحرالي: لما أشهده الله سبحانه وتعالى أنه يخرق عادته لمن شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر، الكافلة له في هذا المعنى، دعا ربه الذي عوده بالإحسان أن يرزقه ولداً في غير إبانه كما رزق مريم رزقاً في غير زمانه فوجب دعاؤه - انتهى.
﴿قال رب﴾ أي الذي عودني بإحسانه
﴿هب لي من لدنك﴾ قال الحرالي: طلب عليه من باطن الأمر كما قال سبحانه وتعالى:
{وعلمناه
363
من لدنا علماً} [الكهف: ٦٥]، وكما قال فيه
﴿وحناناً من لدنا﴾ [مريم: ١٣]، لأن كل ما كان من لدن فهو أبطن من عند
﴿ذرية﴾ فيه إشعار بكثرة ونسل باق، فأجيب بولد فرد لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح وبأنه لا ينسل فكان يحيي حصوراً لغلبة الروحانية على إنسانيته - انتهى.
﴿طيبة﴾ أي مطيعة لك لأن ذلك طلبة أهل الخصوص، ثم علل إدلاله على المقام الأعظم بالسؤال بقوله:
﴿إنك سميع الدعاء﴾ أي مريده ومجيبه لأن من شأن من يسمع - ولم يمنع - أن يجب إذا كان قادراً كاملاً، وقد ثبتت القدرة بالربوبية الكاملة التي لا تحصل إلا من الحي القيوم، بخلاف الأصنام ونحوها مما عبد فإنها لا تسمع، ولو سمعت لم تقدر على الإجابة إلى ما تسأل فيه لأنها مربوبة. قال الحرالي: أعلم الداعي بما لله سبحانه وتعالى من الإجاة، والقرب
«وسيلة في قبول» دعائه - انتهى.
364
ولما كان الله سبحانه وتعالى عند ظن عبده به سمع دعاءه كما قال
﴿فنادته﴾ أي فتسبب عن دعائه وحسن رجائه أن نادته
﴿الملائكة﴾
364
يعني هذا النوع، لا كلهم بل ناداه البعض، وكان متهيئاً بما آتاه الله سبحانه وتعالى من المفضل لمناداة الكل، كما هو شأن أهل الكمال من الرسل
﴿وهو قائم يصلي في المحراب﴾ وهو موضع محاربة العابد للشيطان، وهو أشرف الأماكن لذلك. قال الحرالي: فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه وأن الغالب على صلاته القيام لأن الصلاة قيام، وسجود يقابله، وركوع متوسط، فذكرت صلاته بالقيام إشعاراً بأن حكم القيام غالب عليها - انتهى. ثم استأنف في قراءة حمزة وابن عامر بالكسر لجواب من كأنه قال: بأي شيء نادته الملائكة؟ قوله:
﴿أن الله يبشرك﴾ قال الحرالي: فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع معاني الأسماء، ولم يقل إن ربك لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية؛ وفي قوله:
﴿بيحيى﴾ مسمى بصيغة الدوام - مع أنه كما قيل: قتل - إشعار بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية فيه دائماً، لا يطرقه طارق موت الظاهر حيث قتل شهيداً - انتهى.
﴿مصدقاً بكلمة﴾ أي نبي خلق بالكلمة
365
لا بالمعالجة العادية، يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيكذبه أكثرهم ويصدقه هو، وإطلاق الكلمة عليه من إطلاق السبب على المسبب.
قال الحرالي: فكان عيسى عليه الصلاة والسلام كلمة الله سبحانه وتعالى، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى أنهما في سماء واحدة، ففي قوله:
﴿من الله﴾ إشعار بإحاطته في ذات الكلمة - انتهى.
﴿وسيداً وحصوراً﴾ أي فلا يتزين بزينة لأنه بالغ الحبس لنفسه والتضييق لعيها في المنع من النكاح. قال في القاموس: والحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، أو الممنوع منهن، أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن، والمجبوب - والهَيوب المحجم عن الشيء. وقال الحرالي: وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملاً فيه - انتهى
﴿ونبياً﴾
366
ولما كان النبي لا يكون إلا صالحاً لم يعطف بل قال:
﴿من الصالحين *﴾ إعلاماً بمزية رتبة الصلاح واحترازاً من المتنبيين، فكأنه قيل: فما قال حين أجابه ربه سبحانه وتعالى؟ فقيل:
﴿قال﴾ يستثبت بذلك ما يزيده طمأنينة ويقيناً وسكينة
﴿رب﴾ أي أيها المحسن إلي.
ولما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه من النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقويا الكلمة، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال:
﴿أنّى﴾ أي كيف ومن أين
﴿يكون لي﴾ وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال:
﴿غلام﴾ وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم منه شدة الداعية إلى النكاح، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد، لما عنده من غلبة لاشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح،
367
بحيث يظن أنه لا إرب له فيه، وهذا الموافق للتعبير الأول للحصور في القاموس، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد، ولأنه أمدح له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه، وما ورد - كما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«ذكره مثل هذه القذاة» فقد ضعفوه، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه لذلك، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله
﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد
﴿بلغني الكبر﴾ إلى حد لا يولد فيه عادة
﴿وامرأتى عاقر﴾ قال الحرالي: من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً - انتهى؛ كذا قال، وآية سورة مريم تدل على أن المعنى أنها لم تزل عقيماً، وعليه يدل كلام أهل اللغة، قال في القاموس في الراء: العقرة وتضم: العقم، وقد
368
عُقرت كعُنى فهي عاقر، ورجل عاقر وعقير: لا يولد له ولد، والعُقَرة كهمزة: خرزة تحملها المرأة لئلا تلد، وقال في الميم: العقم بالضم: هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد، عقمت كفرح ونصر وكرم وعُنى، ورحم عقيم وامرأة عقيم ورجل عقيم: لا يولد له، وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه: والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، يقال: الإمام أبو غالب
«ابن التياني» في كتابه الموعب صاحب [تلقيح] العين: العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، لكن خلقة، ثم قال وتعقرت: إذا ولدت ثم أمسكت - والله الموفق.
369
ثم وصل به قوله:
﴿قال كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة. ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال:
﴿الله يفعل ما يشاء *﴾ لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فكأنه قيل: قد قرت عينه فا قال؟ قيل
﴿قال﴾ إرادة تعجيل البشرى وتحقيق السراء:
﴿رب اجعل لي آية﴾ أي علامة أعلم بها ذلك
﴿قال آيتك ألا تكلم الناس﴾ أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام دنيوي
﴿ثلاثة أيام﴾.
ولما كان الكلام يطلق على الفعل مجازاً استثنى منه قوله:
﴿إلا رمزاً﴾ لتخلص هذه المدة للذكر شكراً على النعمة فاحمد ربك على ذلك. قال الحرالي: والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف كاليد واللحظ والشفتين ونحوها، والغمز أشد منه باليد ونحوها - انتهى. فعدم الكلام مع صحة آلته دليل إيجاد المتكلم مع
370
ضعف آلته إلى حد لا يتكون عنها عادة، ولما كان الأتم في القدرة أن يحبس عن كلام دون آخر قال:
﴿واذكر ربك﴾ أي بالحمد وهو أن تثبت له الإحاطة بكل كمال
﴿كثيراًً﴾ في الأيام التي منعت فيها من كلام الناس خصوصاً، وفي سائر أوقاتك عموماً
﴿وسبح﴾ أي أوقع التسبيح لمطلق الخليل ربك بأن تنفي عنه كل نقص
﴿بالعشي﴾ وقال الحرالي: من العشو وأصل معناه: إيقاد نار على علم لمقصد هدى أو قرى ومأوى على حال وهن، فسمي به عشي النهار لأنه وقت فعل ذلك، ويتأكد معناه في العشاء، ومنه سمي الطعام: العشاء
﴿والإبكار *﴾ وأصله المبادرة لأول الشيء، ومنه التبكير وهو السرعة، والباكورة وهو أول ما يبدو من الثمر، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار وهو أوله - انتهى.
ولما فرغ مما للكافل بعد ما نوه بأمر المكفولة بياناً لاستجابة الدعاء من أمها لها أعاد الإشارة بذكرها والإعلام بعلي قدرها فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا ما للكافل فاذكره لهم فإنهم لا يشكون معه في نبوتك:
﴿و﴾ اذكر
﴿إذ قالت الملائكة﴾ وعبر بالجمع والمراد جبريل وحده عليه الصلاة والسلام كما في سورة مريم عليها
371
السلام لتهيئها لخطاب كل منهم كما مضى
﴿يا مريم إن الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿اصطفاك﴾ أي اختارك في نفسك، لا بالنظر إلى شيء آخر عما يشين بعض من هو في نفسه خيار
﴿وطهرك﴾ أي عن كل دنس
﴿واصطفاك﴾ أي اصطفاء خاصاً
﴿على نساء العالمين *﴾ فمن هذا الاصطفاء والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال الحرالي: أن خلصت من الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء على عربي حتى أنكحت من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النبي العربي؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخديجة رضي الله عنها:
«أما شعرت أن الله سبحانه وتعالى زوجني معك مريم بنت عمران» - انتهى.
ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال:
﴿يا مريم اقنتي﴾ أي أخلصي أفعالك للعبادة
﴿لربك﴾ الذي عودك الإحسان بأن رباك هذه التربية.
ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها فقال:
﴿واسجدي﴾ فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قال الحرالي: وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره
372
على ما لم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله:
﴿واركعي مع الراكعين *﴾ كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية
﴿واركعوا مع الراكعين﴾ [البقرة: ٤٣]- إلى ما يقع من كمال ما بشرت به حيث يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي، ويكمل له الوجود الإنساني حيث يتزوج ويولد له - كما ذكر، ولك كله فيما يشعر به ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه، وفيما بين التمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت على عالمها - انتهى.
والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك ما مضى من أمر آدم ويحيى إفصاحاً، وإبراهيم في ابنية إلاحة في خرق العادة فيهم، وأن تخصيصها بالإنكار أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره وبالركوع الصلاة نفسها، فكأنه قيل: واسجدي مصلية
373
ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال، ولم يقل: مع الراكعات، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء: الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً، والثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى وسأل بني حاث أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه: فقام إبراهيم فسجد لشعب الأرض بني حاث وكلمهم؛ وفيه في قصة ربانية قال: وسجد على الأرض وقال: يا رب - فذكر دعاء ثم قال: وصلى إبراهيم بين يدي الرب؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر بقصده: فجثا الرجل - أي عبد إبراهيم - على الأرض
374
فسجد للرب وقال: تبارك الله رب سيدي إبراهيم؛ وفيه لما أجابه أهل المرأة: فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة، وفيه عند لقاء عيصو لآخيه يعقوب عليه الصلاة والسلام: فدنت الأمان وأولادهما فسجدوا - أي لعيصوا، ودنت ليا وولدها فسجدوا؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل ويوسف فسجدوا؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام: ودنا إخوته فخروا له سجداً وقالوا له: ها نحن لك عبيد؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له وإظهاره لهم الآيات: فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم وجثا الشعب وسجدوا للرب؛ وفيه في خروجهم من مصر: فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى؛ وفيه: فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً؛ وفيه في
375
تلقي موسى عليه السلام لختنه شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون: فخرج موسى يتلقى ختنه وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه؛ وفيه: وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد القدس: لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم - بل كبهم كباً على وجوههم وكسر أصنامهم - واعبدوا الرب إلهكم، وفي أوائل السفر الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام: وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله سبحانه وتعالى وخر الشعب كله على وجهه، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر تضجراً من حالهم: فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها؛ وفيه: وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها، فخرا ساجدين على وجوههما؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش: فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان
376
فخرا على وجوههما فظهر لهما مجد الرب - فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً.
وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر لاسفر الثاني: وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى يدخل إلى القبة، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته؛ وفيه: وعمل سطلاً من نحاس فنصبه عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد.
وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية، فلا فائدة في سرده؛ وهذا القبة أمر الله سبحانه
377
وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة، ففيها من الخشب والبيوت والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتاب والأطناب وغير ذلك مما يكل عنه الوصف، وكله بنص نم الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً وأربعمائة وثلاثون مثقالاً بمثقال القدس، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوي سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه، ومن دنا منها من غيرهم احترق، وينزل أسباط بني إسرائيل حول بني لاوي، لكل سبط منزلة لا يتعداها من شرقها وغربها وجنوبها وشمالها، كل ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام؛ وكان
378
السحاب يغشاها بالنهار، وكان النار تضيء عليها بالليل وتزهر، فما دام السحاب مجللاً لها فهم مقيمون، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم.
فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ يسمى صلاة، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم، وذلك موافق للغة، قال في القاموس: سجد: خضع؛ والخضوع التطأمن، وأما المكان الذي فيه ذكر الركوع فالظاهر أن معناه: فصلى الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان منها الصلاة، يقال: ركع - أي صلى، وركع - إذا انحنى كبواً، والراكع من يكبو على وجهه، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره، لأنه لا يمكن في حال السجود، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع - والله سبحانه وتعالى أعلم، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع، ثم رأيت البغوي
379
صرح في تفسير قوله سبحانه وتعالى:
﴿واركعوا مع الراكعين﴾ [البقرة: ٤٣] بأن صلاتهم لا ركوع فيها، وكذا بان عطية وغيرهما.
ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وبيان أن ما أشكل عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله، وكان الرد على كل طائفة بما تعتقد أولى وجب ذكر ذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى: ذكر قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله وولادته ونبوته وما اتفق في ذلك من الخوارق من الأناجيل وقد مزجت بي ألفاظها فجعلتها شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام؛ قال مترجمها في أول إنجيل لوقا: كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن، أي حبر إمام، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات، وكانا كلاهما تقيين قدام الله سائرين ي
380
جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات كانت عاقراً، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته أمام الله كعادة الكهنوت إذ بلغته نوبة وضع البخور فجاء ليبخر، فدخل إلى هيكل الله وجميع الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا! قد سمعت طلبتك، وأمرأتك اليصابات تلد ابناً، ويدعي اسمه يوحنا، ويكون لك فرح وتهلل، وكثير يفرحون بمولده، يوكون عظيماً قدام الرب، لا يشرب خمراً ولا سكراً، ويمتلىء من روح القدس وهو في بطن أمه، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم، وهو يتقدم أمامه بالروح وبقوة ألياء، ويقبل بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة إلى علم الأبرار، ويُعد للرب شعباً مستقيماً، فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال: أنا جبريل الواقف
381
قدام الله، أرسلت أكلمك بهذا وأبشرك، ومن الآن تكون صامتاً، لا تستطيع أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا.
وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل، فلما خرج لم يقدر يكلمهم، فعلموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يشير إليهم، وأقام صامتاً، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته، ومن بعد تلك الأيام حملت اليصابات امرأته، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة: هذا ما صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليّ فيها لينزع عني العار بين الناس، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في الجليل تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود، واسم العذراء مريم، فلما دخل إليها الملاك قال لها: افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك! مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام؟ فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم! فقد ظفرت
382
بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً، ويدعى اسمه يسوع، هذا يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه انقضاء، فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير، فقالت مريم: هانذا عبدة الرب فيكون فيّ كقولك، وانصرف عنها الملاك، فقامت مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة إلى عين كرم إلى مدينة يهودا، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على اليصابات، فلما سمعت اليصابات صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها، فامتلأت اليصابات من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! من أين لي هذا أن يأتي أمر ربي إليّ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من الرب! فقالت
383
مريم: تعظم نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع عبدته، وقدوس اسمه، ورحمته لخائفيه، صنع القوة بذراعه وفرق المستكبرين بفكر قلوبهم، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياع من الخيرات، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر وعادت إلى بيتها.
ولما تم زمان اليصابات لتلد ولدت ابناً، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم رحمته معها، ففرحوا لها، فلما كانت في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا فأجاب أمه قائلة: لا ولكن ادعوه يوحنا، فقالوا لها: ليس أحد في جنسك يدعى بهذا الاسم، فأشاروا إلى أبيه: ما تريد أن تسميه؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً: يوحنا، فتعجب جميعهم، وانفتح فوه قائلاً من ساعته ولسانه، وتكلم وبارك، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم يهودا، وفكر جميع السامعين
384
في قلوبهم قائلين: ماذا ترى يكون من هذا الصبي! ويد الرب كانت معه، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً: تبارك الرب إله إسرائيل الذي اطلع وصنع نجاة لشعبه وأقام لنا قرن خلاص من بيت داود فتاه كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً، صنع رحمة مع آبائنا، وذكر عهدة القديس: القسم الذي عهد به لإبراهيم أبينا ليعطينا الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا، وأنت ايها الصبي نبي العلاء تدعى، وتنطلق قدام وجه الرب لتصلح طريقة ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة الخطايا بتحنن ورحمة، إلهنا الذي افتقدنا شرق من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة.
385
فأما الصبي فكان يشب ويتقوى بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل، وفي سنة خمس عشرة من ولاية طيباريوس قيصر وفيلاطوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الجليل، وفيلفوس أخوه على ربع الصورية وكورة أبطرحيون وأوساسوس رئيس على ربع الإيليا، وحنان وقيافا رؤساء الكهنة، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا - كا هو مكتوب في سفر كلام أشعيا النبي - قائلاً: صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب فاصنعوا سبله مستقيمة، جميع الأودية تمتلىء وجميع الجبال والآكام تتضع، ويصير الوعر سهلاً والخشنة إلى طريق سهلة، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى؛
386
وفي إنجيل متّى: وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات - هذا هو الذي في أشعيا النبي: إذ يقول صوت صارخ، وقال مرقس: مكتوب في أشعيا النبي: هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك، ثم استنعى صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب وسهلوا سبله، وكان لباس يوحنا وبر الإبل، ومنطقته جلداً على حقويه، وكان طعامه الجراد وعسل البر، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم، وكل اليهودية وجميع كور الأردن، وكان يعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم؛ وفي مرقس: كان يوحنا يعمد في القفر ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا، وكان يخرج إليه جميع
387
كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم فقال للجمع الذين يأتون إليه ويعتمدون منه: يا ثمرة الأفاعي! وفي متى: فلما رأى كثيراً من الفريسيين والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم: يا أولاد الأفاعي - ثم اتفق هو ولوقا - من دلكم على الهرب من الغضب الآتي؟ اعملوا الآن ثماراً تليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم: إن أبانا إبراهيم، أقول لكم: إن الله سبحانه وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ها هوذا الفأس موضوع على أصول الشجر، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار، فسأله الجموع، ماذا نصنع؟ أجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك، فأتى العشارون ليعتمدوا منه فقالوا: ماذا نصنع يا معلم؟ فقال لهم: لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به، وسأله أيضاً الجند قائلين: ماذان نصنع نحن أيضاً؟ فقال لهم: لا تعيبوا أحداً ولا تظلموا أحداً، واكتفوا بأرزاقكم.
388
وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم وظنوا أن يوحنا المسيح، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم: أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه؛ وقال متى: لا أستحق أن أحمل حذاءه؛ وقال مرقس: وكان يبشر قائلاً: الذي يأتي بعدي أوقى مني، لست أهلاً - أعني لحل سيور حذائه، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار، الذي بيده المرفش، ينقي به الذرة، ويجمع القمح إلى أهرائه، ويحرق التبن بناء لا تطفأ، ولا يخبز الشعب، ويبشرهم بأشياء كثيرة؛ وفي إنجيل يوحنا: كان إنسان أرسل من الله، اسمه يوحنا، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي يضيء لكل إنسان،
389
الآتي إلى العالم، إلى خاصته، جاء وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً، والكلمة صارت جسداً، وحل فينا، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلىء نعمة، وحقاً يوحنا شهد من أجله وصرخ وقال: هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي، لأنه أقدم مني، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل أن الناموس بموسى أعطى، والنعمة والحق أوحيا بيسوع المسيح الذي لم يره أحد قط، الابن الوحيد.
هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين - أي ناساً من أولاد لاوي - ليسألوه: من أنت، فاعترف وأقر أني لست المسيح، فسألوه: فمن ألياء؟ فقال: لست أنا النبي، قال: كلا! فقالوا له: فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا الصوت الصارخ في البرية: سهلوا طريق الرب - كما قال أشعيا النبي. فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي؟ أجابهم يوحنا: أنا أعمدكم بالماء، وفي وسطكم قائم ذاك الذي ليستم تعرفونه،
390
الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني، وهو قبلى كان، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه. هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد. قال لوقا: فأما هيرودس رئيس الربع فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس ولأجل الشر الذي كان هيرودس يفعله، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح: وسمع هيرودس الملك وقال: إن يوحنا المعمدان قام من الأموات، ومن أجل تلك القوات يعمل، وقال آخرون: إنه ألياء، وآخرون: إنه نبي كواحد من الأنبياء، فلما سمع هيرودس قال: أنا قطعت رأس يوحنا؛ وفي متى: وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان، وهو قام من الأموات، من أجل هذه القوات يعمل، وكان هيرودس قد
391
أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن، وقال مرقس: وحبسه من أجل هيروديا امرأة فيلفوس، لأنه كان قد تزوجها وقال له يوحنا: ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك، وكانت هيروديا حنقة عليه تريد قتله، ولم تقتله لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا، لأنه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة، وكان في يوم من الزمان وافى هيرودس مولود، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه، فقال الملك للصبية: سلي ما أردت فأعطيك! وحلف لها أني أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي، فخرجت وقالت لأمها: أي شيء أسأله؟ فقالت: رأس يوحنا المعمدان، فرجعت للوقت بسرعة إلى الملك وسألت رأس يوحنا على طبق، فحزن الملك، ومن أجل اليمين والمنكبين لم ير منعها،
392
فأنفذ سيافاً من ساعته وأمر أن يؤتى برأسه في طبق، فمضى وقطع رأسه في الحبس وجاء به في طبق وأعطاه للصبية، فأخذته الصبية ودفعته لأمها؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر؛ قال متى: وجاء تلاميذه فأخذوا جسده ودفنوه وأتوا فأخبروا يسوع فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً، فسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدن، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ اعلاّءهم ومرضاهم انتهى.
393
ولما أتى نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها - والسامع خبير بأنه لم يخالط عالماً قط - صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت
393
العتي فقال:
﴿ذلك﴾ أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام
﴿من أنباء الغيب نوحيه﴾ أي نجدد إيحاءه في أمثاله
﴿إليك﴾ في كل حين فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يوماً على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة ويجوز أن تكون الجملة حالاً تقديرها:
﴿و﴾ الحال أنك
﴿ما كنت﴾ ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله:
﴿هو من عند الله﴾ وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهاً على أنه مما يستغرب جداً حتى عند أهل الاصطفاء فقال:
﴿لديهم﴾ قال الحرالي: لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه - انتهى.
﴿إذ يلقون﴾ لأجل القرعة -
﴿أقلامهم﴾ قال الحرالي: جمع قلم، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار - انتهى
﴿أيهم﴾
394
أي يستهمون أيهم
﴿يكفل مريم﴾ أي يحضنها ويربيها تنافساً في أمرها لما شرفها الله تعالى به
﴿وما كنت لديهم إذ﴾ أي حين
﴿يختصمون *﴾ أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد - يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول
395
القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلا على خواص أهل الكتاب، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلاً من إذ الأولى إيذاناً بأن ما بينهما اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض:
﴿إذ قالت الملائكة يا مريم﴾ ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر بما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال:
﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، فلا راد لأمره
﴿يبشرك﴾ وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام، وقوله:
﴿بكلمة﴾ أي مبتدئة
﴿منه﴾ من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها، بل ما يكون عنها ويكون فعالاًَ بها فقال مذكراً للضمير:
﴿اسمه﴾ أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء:
396
﴿المسيح﴾ أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم: من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح؛ وأما وصف الدجال بذلك فإما أن يكون لما كان هلاكه على يد عيسى عليه الصلاة والسلام وصف بوصفه - من باب التسمية بالضد، وإما أن يكون إشارة إلى أنه ملازم للنجاسة فهو بحيث لا ينفك - ولو مسح - عن الاحتياج إلى التطهير بالمسح من الدهن الذي يمسح به المذنبون ومن كان به برص ونحوه فيبرأ - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال
﴿عيسى﴾ وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك:
﴿ابن مريم﴾ وذلك أنفى لما ضل به من ضل في أمره، وأوضح في تقرير مقصود السورة وفي تفخيم هذا الذكر بجعله نفس الكلمة وبإبهامه أولاً ثم تفسيره، وقوله:
﴿اسمه﴾ تعظيم لقدره وبيان لفضله
397
على يحيى عليهما السلام حيث لم يجعل له في البشارة به مثل هذا الذكر، ثم أتم لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالاً دالة على أنه يظهر اتصافه بها حال الولادة تحقيقاً لظهور أثر الكلمة عليه فقال:
﴿وجيهاً﴾ قال الحرالي: صيغة مبالغة مما منه الوجاهة، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه - انتهى.
﴿في الدنيا﴾ ولما كان ذلك قد لا يلازم الوجاهة بعد الموت قال:
﴿والآخرة﴾ ولما كانت الوجاهة ثمَّ مختلفة ذكر أعلاها عاطفاً بالواو إشارة إلى تمكنه في الصفات فقال:
﴿ومن المقربين *﴾ أي عند الله.
ولما كان ذلك قد لا يقتضي خرق العادات قال:
﴿ويكلم الناس﴾ أي من كلمه من جميع هذا النوع، بأي لسان كان كلمه، حال كونه
﴿في المهد﴾ قال الحرالي: هو موطن الهدوء والسكون للمتحسس اللطيف الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه - انتهى.
وبشرها بطول حياتها بقوله:
﴿وكهلاً﴾ أي بعد نزوله من السماء في خاتمة اليوم المحمدي، ويكون كلامه في الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت.
398
قال الحرالي: والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان، وتحقيق حده أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب فهو خير عمره، يكون فيمن عمره ألف شهر - بضع وثمانون سنة - من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين، إذا قسم الأرباع لكل ربع إحدى وعشرون سنة صباً، وإحدى وعشرون شباباً، وإحدى وعشرون كهولة، وإحدى وعشرون شيوخة، فذلك بضع وثمانون سنة - انتهى. وهذا تحقيق ما اختلف من كلام أهل اللغة، وقريب منه قول الإمام أبي منصور عبد الملك بن أحمد الثعالبي في الباب الرابع عشر من كتابه فقه اللغة: ثم ما ادم بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين؛ ويقال: شاب الرجل، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر - انتهى. والكهل - قال أهل اللغة - مأخوذ من: اكتهل النبات - إذا تم طوله قبل أن يهيج، وكلام الفقهاء لا يخالفه، فإن مبناه العرف، فالنص على كهولته إشارة لأمه بأنه ممنوع من أعدائه إذا قصدوه، وتنبيه على أن دعواهم لصلبه كاذبة.
399
ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها:
﴿ومن الصالحين *﴾ ومعلماً بأنها محيطة بأمره، شاملة لآخر عمره، كما كانت مقارنة لأوله، وكأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن
﴿قالت رب﴾ أيها المحسن إلى
﴿أنّى﴾ أي من أين وكيف
﴿يكون لي﴾ ولما كان استبعادها لمطلق الحبل، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت
﴿ولد﴾ وقالت:
﴿ولم يمسسني بشر﴾ لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط. قال الحرالي: والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته، من معنى البشرة، وهو ظاهر لاجلد انتهى (ولعل هذا الكلام خطر لها ولم تلفظ به فعلم الملك عليه السلام أنه شغل فكرها فأجابها عنه لتفريغ الفهم بأن
﴿قال كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن العالم الرتبة يكون ما بشرتك به) ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من
400
غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال:
﴿الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه
﴿يخلق﴾ أي يقدر ويصنع ويخترع
﴿ما يشاء﴾ فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من جعل الشيخ كالشاب، ثم علل ذلك بما بين سهولته فقال:
﴿اذا قضى أمراً﴾ أي جل أو قل
﴿فإنما يقول له كن فيكون *﴾ بياناً للكلمة، فلما أجابها عما شغل قلبها من العجب فتفرغ الفهم أخذ في إكمال المقال بقوله عطفاً علي
﴿ويكلم الناس﴾ بالياء كما قبله في قراءة نافع وعاصم، وبالنون في قراءة الباقين نظراً إلى العظمة إظهاراً لعظمة العلم:
﴿ويعلمه﴾ أو يكون مستأنفاً فيعطف على ما تقديره: فنخلقه كذلك ونعلمه
﴿الكتاب﴾ أي الكتابة أو جنس الكتاب فيشمل ذلك معرفة الكتاب وحفظه وفهمه وغير ذلك من أمره
﴿والحكمة﴾ أي العلوم الإلهية
401
لتفيده تهذيب الأخلاق فيفيض عليه قول الحق وفعله على أحكم الوجوه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء مما يبرمه.
ولما وصفه بالعلوم النظرية والعملية فصار متأهلاً لأسرار الكتب الإلهية قال:
﴿والتوراة﴾ أي التي تعرفينها
﴿والإنجيل *﴾ بإنزاله عليه تالياً لهما، وتأخيره في الذكر الشرط فيقتضي اتصاف كل مقضي بهذه الأوصاف كلها.
ولما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما مضى مقدمات لها:
﴿ورسولاً﴾ عطفاً على
«تالياً» المقدر، أو ينصب بتقدير: يجعله
﴿إلى بني إسراءيل﴾ أي بالإنجيل. ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال:
﴿أني﴾ أي ذاكراً أني
﴿قد جئتكم بآية من ربكم﴾ أي الذي طال إحسانه إليكم، ثم أبدل من
«آية» ﴿إني أخلق لكم﴾ أي لأجل تربيتكم بصنائع الله
402
﴿من الطين﴾ قال الحرالي: هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقع الصورة فيه
﴿كهيئة﴾ وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحس - انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها
﴿الطير﴾ ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير:
﴿فأنفخ﴾ قال الحرالي: من النفخ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة انتهى.
﴿فيه﴾ أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة
﴿فيكون طيراً﴾ أي طائراً بالفعل - كما في قراءة نافع، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله:
﴿بإذن الله﴾ أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك.
ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما يردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه، وكان الغلب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال:
﴿وأبرىء﴾ قال الحرالي: من الإبراء
403
وهو تمام التخلص من الداء، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار - انتهى.
﴿الأكمه والأبرص﴾ بإيجاد ما فقد منها من الروح المعنوي؛ والكمه - قال الحرالي - ذهاب البصر في أصل معناه: تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه، ومنه براص الأرض - لبقع لا نبت فيها، ومنه البريص في معنى البصيص، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي: البرص عبارة عن سور مزاج يحصل بسببه تكرج، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد - انتهى.
ولما فرغ من رد الأرواح إلى جزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال:
﴿وأحي الموتى﴾ أي برد أرواحهم إلى أشباحهم، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل، وقد أعطاني قوة ذلك،
404
وهذا كما نقل القضاعي أن الحسن قال:
«أتى رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر أنه طرح بنيّة له في وادي كذا، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة! أجيبي بإذن الله سبحانه وتعالى! فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك! فقال لها: إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أردك إليهما، فقالت: لا حاجة لي بهما، وجدت الله خيراً لي منهما» وقد تقدم في البقرة عند
﴿أرني كيف تحيي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] ما ينفع هنا، وقصة قتادة ابن دعامة في رده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عينه بعد أن أصابها سهم فسالت على خده، فصارت أحسن من أختها شهيرة، وقصة أويس القرني رحمه الله تعالى في إبراه الله سبحانه وتعالى له من البرص ببرّه لأمه كذلك.
ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتيه ربما أورث لبساً في أمر الإله تبرأ منه ورده إلى من هو له، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر فقال مكرراً لما قدمه في مثله معبراً بما يدل على عظمه:
﴿بإذن الله﴾ أي بعلمه وتمكينه،
405
ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال:
﴿وأنبئكم﴾ أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب
﴿بما تأكلون﴾ أي مما لم أشاهده، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه
﴿وما تدخرون﴾ ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال:
﴿في بيوتكم﴾ قال الحرالي: من الادخار: افتعال من الدخرة، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار - انتهى.
ولما ذكرهذه الخوارق نبه على أمرها بقوله:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم
﴿لآية لكم﴾ أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم، وكذا
406
جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول: إنها لا تدل إلا باجتماع أنظار جميعهم - لو جمع الأول، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم - لو وحد في الثاني، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال:
﴿إن كنتم مؤمنين *﴾ أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به.
ولما كان ترجمة
﴿إني قد جئتكم﴾ آتياً إليكم بآية كذا، مصدقاً بها لما أتيت به، عطف على الحال المقدر منه تأكيداً لأنه عبد الله قوله:
﴿ومصدقاً لما بين يدي﴾ أي كان قبل إتياني إليكم
﴿من التوراة﴾ أي المنزلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام، لأن القبلية تقتضي العدم الذي هو صفة المخلوق؛ أو يعطف على
﴿بآية﴾ إذا جعلنا الباء للحال، لا للتعدية، أي وجئتكم مصحوباً بآية ومصدقاً.
ولما ذكر التوراة أتبعها ما يدل على أنه ليس كمن بينه وبين موسى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إقرارها كلها على
407
ما هي عليه وتحديد أمرها على ما كان زمن موسى عليه الصلاة والسلام بل هو مع تصديقها ينسخ بعضها فقال:
﴿ولأحل﴾ أي صدقتها لأحثكم على العمل بها ولأحل
﴿لكم بعض الذي حرم عليكم﴾ أي فيها تخفيفاً عليكم
﴿وجئتكم﴾ اية ليس مكرراً لتأكيد:
﴿أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين﴾ على ما توهم، بل المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أتاهم بهذه الخوارف التي من جملتها إحياء الموتى، وكان من المقرر عندهم - كما ورد في الأحاديث الصحيحة - التحذير من الدجال، وكان من المعلوم من حاله أنه يأتي بخوارق، منها إحياء ميت ويدعى الإلهية، كان من الجائز أن يكون ذلك سبباً لشبهة تعرض لبعض الناس، فختم هذا الدليل على رسالته بما هو البرهان الأعظم على عبوديته، وذلك مطابقته لما دعا إليه الأنبياء والمرسلون كلهم من إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى فقال: وجئتكم
﴿بآية﴾ أي عظيمة خارقة للعادة
﴿من﴾ عند
﴿ربكم﴾ أي المحسن إليكم بعد التفرد بخلقكم، وهي أجل الأمارات وأدلها على صدقي في رسالتي، هو عدم تهمتي بوقوع شبهة في عبوديتي.
408
ولما تقرر بذكر الآية مرة بعد مرة مع ما أفادته من تأسيس التفصيل لأنواع الآيات تأكيد رسالته تلطيفاً لطباعهم الكثيفة، فينقطع منها ما كانت ألفته في الأزمان المتطاولة من العوائد الباطلة سبب عن ذلك ما يصرح بعبوديته أيضاً فقال مبادراً للإشارة إلى أن الأدب مع المحسن آكد والخوف منه أحق وأوجب لئلا يقطع إحسانه ويبدل امتنانه
﴿فاتقوا الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿وأطيعون *﴾ أي في قبولها فإن التقوى مستلزمة لطاعة الرسول.
409
ولما كان كأنه قيل: ما تلك الآية التي سميتها
«آية» بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال:
﴿إن الله﴾ الجامع لصفات الكمال
﴿ربي وربكم﴾ أي خالقنا ومربينا، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد، وقراءة من فتح
﴿إن﴾ أظهر في المراد
﴿فاعبدوه هذا﴾ أي الذي دعوتكم إليه
﴿صراط مستقيم *﴾ أنا وأنتم فيه سواء، لا أدعوكم
409
إلى شيء إلا كنت أول فاعل له، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه، من كذبه هلك، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه، ومن صدقه هلك؛ قال في السفر الخامس منها: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام، ولا من يطلب تعليم العرافين، ولا من يأخذ بالعين، ولا يوجد فيكم
410
من يتطير طيرة، ولا ساحر، ولا من يرقى رقية، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا! سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به، والرجل الذي لا يقبل
411
قول النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي، وإن قلتم في قلوبكم: كيف لنا أن نعرف القول الذي لم يقله الرب، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله: ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه؛ وقال قبل ذلك بقليل: وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم، احفظوا، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم الله من بين أيديكم، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا: كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها؟ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا! لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً
412
فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول: اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام، لأنه إنما يريد، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله واعبدوه والحقوا به، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وخلصكم من العبودية فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه، واستأصلوا الشر من بينكم، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك: هلم بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه، ولكن اقتله قتلاً، وابدأ به
413
أنت قتلاً، ثم يبدأ به جميع الشعوب، وارجموه بالحجارة وليمت، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم: ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم، لا تأثموا
414
ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت، لأنكم شعب طاهر لله ربكم، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى.
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى:
﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾ [آل عمران: ٦٤] إلى قوله:
﴿ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله﴾ [آل عمران: ٦٤].
ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة، وكان قوله: في أول السورة {يصوركم في الأرحام
415
كيف يشاء} وقوله هنا
﴿يخلق ما يشاء﴾ مغنياً عن ذكر حملها، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: فصدق الله فيما قال لها، فحملت به من غير ذكر فولدته - على ما قال سبحانه وتعالى - وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿فلما أحس﴾ قال الحرالي: من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني - انتهى
﴿عيسى منهم الكفر﴾ أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر
416
بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار، فعزم على إلحاقهم دار البوار
﴿قال من أنصاري﴾.
ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال:
﴿إلى﴾ أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى
﴿الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿قال الحواريون﴾ قال الحرالي: جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب - انتهى.
وهو مصروف لأن ياءه عارضة
﴿نحن أنصار الله﴾ أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم:
﴿آمنا بالله﴾ أي على ما له من صفات الكمال، ثم أكدوا ذلك بقولهم مخاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخق إذ ذاك:
﴿واشهد بأنا مسلمون *﴾ أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون
417
شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة.
ثم لما خاطبوا الرسول أدباً ترقوا إلى المرسل في خطابهم إعظاماً للأمر وزيادة في التأكيد فقالوا مسقطين لأداة النداء استحضاراً لعظمته بالقرب لمزيد القدرة وترجي منزلة أهل الحب:
﴿ربنا آمنا بما أنزلت﴾ أي على ألسنة رسلك كلهم
﴿واتبعنا الرسول﴾ الآتي إلينا بذلك معتقدين رسالته منك وعبوديته لك
﴿فاكتبنا﴾ لتقبّلك شهادتنا واعتدادك بها
﴿مع الشاهدين *﴾ أي الذين قدمت أنهم شهدوا لك بالوحدانية مع الملائكة، ولعله عقب ذلك بقوله:
﴿ومكروا﴾ المعطوف على قوله:
﴿قال من أنصاري إلى الله﴾ بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع، أما مكر اليهود فمشهور، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى
418
كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله. والمكر - قال الحرالي - إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى - انتهى. ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله:
﴿ومكر الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.
ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصاً من جهة ما فقال:
﴿والله﴾ أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد بوجه
﴿خير الماكرين *﴾ بإرادته تأخير حربه لهم إلى وقت قضاه في الأزل فأمضاه وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفاً لهم، ثم بين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم
419
حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوا أحدهم، ويقال: إنه الذي دلهم، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذى طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أخفى الكيد فقال تعالى مخبراً عن ذلك على وجه مبشر له بأنه عاصمه من أن يقتلوه ومميته حتف أنفه:
﴿إذ﴾ أي مكر حين
﴿قال الله﴾ أي ما له من التفرد بصفات الكمال
﴿يا عيسى إني متوفيك﴾ وعبر عن ذلك بطريق الكناية الإيمائية فإن عصمته من قتل الكفار ملزومة للموت حتف الأنف، وأما قول الزمخشري: أي مستوفى أجلك ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم - ليكون كناية تلويحية عن العصمة من القتل لأنها ملزومة لتأخيره إلى الأجل المكتوب والتأخير ملزوم للموت حتف الأنف - فلا ينبغي الاغترار به لأنه مبني على مذهب الاعتزال من أن القاتل
420
قطع أجل المقتول المكتوب، وكأن القاضي البيضاوي لم يتفطن له فترجم هذه العبارة بما يؤديها؛ ويجوز أن يكون معنى متوفيك: آخذك إليّ من غير أن يصلوا منك إلى محجم دم ولا ما فوقه من عضو ولا نفس فلا تخش مكرهم.
قال في القاموس: أوفى فلاناً حقه: أعطاه وافياً، كوفّاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه.
ثم زاد سبحانه وتعالى في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال:
﴿ورافعك﴾ وزاد إعظام ذلك بقوله:
﴿إليّ ومطهرك من الذين كفروا﴾.
ولما كان لذوي الهمم العوال، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال، بشره سبحانه وتعالى في ذلك بما يسره فقال:
﴿وجاعل الذين اتبعوك﴾ أي ولو بالاسم
﴿فوق الذين كفروا﴾ أي ستروا ما يعرفون من نبوتك بما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر بك
﴿إلى يوم القيامة﴾ وكذا
421
كان، لم يزل من اتسم بالنصرانية حقاً أو باطلاً فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد.
ولما كان البعث عاماً دل عليه بالالتفات إلى الخطاب فقال تكميلاً لما بشر به من النصرة:
﴿ثم إليّ مرجعكم﴾ أي المؤمن والكافر في الآخرة
﴿فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون *﴾ ثم فصل له الحكم فقال مرهباً لمخالفيه مرغباً لموافقيه، وقدم المخالفين لأن السياق لبيان إذلالهم:
﴿فإما الذين كفروا﴾ أي من الطائفتين
﴿فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا﴾ بالذل والهوان والقتل والأسر
﴿والآخرة﴾ بالخزي الدائم
﴿وما لهم من ناصرين *﴾ وإن كثر عددهم ولم يقل: وأما الذين اتبعوك - لئلا يلتبس الحال وإن كان من اتبع النبي الأمي فقد اتبعه في بشارته به والأمر باتباعه بل قال:
﴿وأما الذين آمنوا وعموا الصالحات﴾ لأن هذه ترجمة الذين اتبعوه حق الاتباع.
ولما كان تمام الاعتناء بالأولياء متضمناً لغاية القهر للأعداء أبدى
422
في مظهر العظمة قوله تعظيماً لهم وتحقيراً لأعدائهم:
﴿فيوفيهم أجورهم﴾ أي نحبهم من غير أن نبخسهم منها شيئاً أو نظلم أحداً من الفريقين في شيء فإن الله سبحانه وتعالى متعال عن ذلك
﴿والله﴾ الذي له الكمال كله
﴿لا يحب الظالمين *﴾ من كانوا، أي لا يفعل معهم فعل المحب، فهو يحبط أعمالهم لبنائها على غير أساس الإيمان، فالآية من الاحتباك، ونظمها على الأصل: فنوفيهم لأنا نحبهم والله يحب المؤمنين، والذين ظلموا نحبط أعمالهم لأنا لا نحبهم والله لا يحب الظالمين؛ فتوفية الأجر أولاً ينفيها ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً يثبت ضدها أولاً، وحقيقة الحال أنه أثبت للمؤمنين لازم المحبة المراد منها في حق الله سبحانه وتعالى لأنه أسّر،
423
ولازم المراد من عدمها في الظالمين لأنه أنكأ.
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء تكوينه إلى انتهاء رفعه وما كان بعده من أمر أتباعه مشيراً بذلك إلى ما فيه من بدائع الحكم وخزائن العلوم واللطائف المتنزلة على مقادير الهمم على أتقن وجه وأحكمه وأتمه وأخلصه وأسلمه، وختمه بالتنفير من الظلم، وكان الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكان هذا القرآن العظيم قد حاز من حسن الترتيب ورصانة النظم بوضع كل شيء منه لفظاً ومعنى في محله الأليق به المحل الأعلى، لا سيما هذه الآيات التي أتت بالتفصيل من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فلم تدع فيه شكاً ولا أبقت شبهة ولا لبساً، أتبع ما تقدم من تفصيل الآيات البينات قوله منبهاً على عظمة هذه الآيات الشاهدات الآتي بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأوضح الصدق بإعجازها في نظمها وفي العلم بمضامينها من غير معلم من البشر كما تقدم نحو ذلك في
﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك﴾ ﴿هود: ٤٩] {ذلك﴾ أي النبأ العظيم والأمر الجسيم الذي لم تكن تعلم شيئاً منه ولا علمه من شبان قومك
424
﴿نتلوه﴾ أي نتابع قصه بما لنا من العظمة
﴿عليك﴾ وأنت أعظم الخلق حال كونه
﴿من الآيات﴾ أي التي لا إشكال فيها، ويجوز أن يكون خبر اسم الإشارة،
﴿والذكر الحكيم *﴾ إشارة إلى ذلك لأن الحكمة وضع الشيء في أعدل مواضعه وأتقنها، وأشار بأداة البعد تنبيهاً على علو منزلته ورفيع قدره.
425
ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال:
﴿إن مثل عيسى﴾ أي في كونه من أنثى فقط
﴿عند الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي
﴿كمثل آدم﴾ في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه
﴿خلقه﴾ أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر، بل
﴿من تراب﴾ فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب اشهر (وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في
425
غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب).
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل وبين أن يريد كونه من
426
أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً: إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله:
﴿ثم قال له كن﴾ أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في
﴿فيكون *﴾ دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً - كما تقدم التصريح به في آية
﴿إذا قضى أمراً﴾ [البقرة: ١١٧] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما
427
يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً
﴿وله المثل الأعلى في السماوات والأرض﴾ [الروم: ٢٧]- انتهى.
ولما ابتدأ القصة بالحق في قوله:
﴿نزل عليك الكتاب بالحق﴾ ختمها بذلك على وجه آكد وأضخم فقال:
﴿الحق﴾ أي الكامل في الثبات كائن
﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بأنه لا يدع لخصم عليك مقالاً، ولما تسبب عما مضى نقلاً وعقلاً الاعتقاد الحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام قال:
﴿فلا تكن من الممترين *﴾ مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه لا يشك فيه بعد هذا إلا من أمعن الفكر في شبه يثيرها وأوهام يزاولها ويستزيرها، وما أحسن ما في سفر الأنبياء
428
الإسرائيليين الذي هو بأيدي الطائفتين اليهود ثم النصارى، يتناقلونه معتقدين ما فيه، وأوضحه في خلاف معتقدهم في عيسى عليه الصلاة والسلام وموافقة معتقدنا فيه، لكنهم لا يتدبرون، وذلك أنه قال في نبوة أشعيا عليه السلام: اسمع مني يا يعقوب عبدي وأنت يا إسرائيل الذي انتخبته! أنا الذي خلقتك في الرحم وأعنتك، ثم قال: هكذا يقول: يقول الرب: أنا الذي جبلتك في الرحم وخلصتك وأعنتك، أنا الذي خلقت الكل، وأنا الذي مددت السماء وحدي، وأنا الذي ثبتّ الأرض، أنا الذي أبطل آيات العرافين، وأصير كل تعريفهم جهلاً، وأرد الحكماء إلى خلفهم، وأعرف أعمالهم للناس، وأثبت كلمة عبيدي، وأتمم قول رسلي؛ ثم قال: أنا الرب الذي خلقت هذه الأشياء، الويل للذي يخاصم خالقه ولا يعلم أنه من خزف الطين! لعل الطين يقول للفاخوري: لماذا تصنعني؟ أو لعله يقول له: لست أنا من صنعتك، الويل للذي يقول لأبيه: لماذا ولدتني؟ أو لأمه: لماذا حبلت بي؟ هكذا يقول الرب قدوس
429
إسرائيل ومخلصه: أنا الذي خلقت السماء ومددتها بيدي وجميع أجنادها، وجعلت فيها الكواكب البهية.
ذكر ما يحتاج إليه المفسرون - ويثمر إن شاء الله سبحانه وتعالى زيادة الإيقان لكل مسلم - من قصة عيسى عليه السلام في ولادته وما يتعلق بهذه السورة من مبدإ أمره ومنتهاه وبعض ما ظهر على يديه من الآيات ولسانه من الحكم المشيرة إلى أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأناجيل الأربعة التي في أيدي النصارى اليوم، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض وجمعت ما تفرق من المعاني في سياقاتهم بحيث صار الكل حديثاً واحداً:
قال متى - ومعظم السياق له -: كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم قال: لكل الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى زربابل أربعة عشر جيلاً، ومن زربابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً؛ لما خطبت مريم أمه ليوسف قبل أن يفترقا وجدت حبلاً من
430
روح القدس، وكان يوسف خطيبها صديقاً ولم يرد أن ينشرها، وهم بتخليتها سراً، وفيما هو مفكر في هذا إذا ظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً: يا يوسف بن داود! لا تخف أن تأخذ مريم خطيبتك، فإن الذي تلده هو من روح القدس، وستلد ابناً ويدعى اسمه يسوع، وهو يخلص شعبه من خطاياهم، هذا كله كان لكي يتم ما قيل من قبل الرب على لسان النبي القابل: ها هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعى اسمه
«عمانويل» الذي تفسيره: الله معنا، فقام يوسف من النوم وصنع كما أمره ملاك الرب وأخذ مريم خطيبته ولم يعرفها حتى ولدت ابناه البكر، ودعي اسمه يسوع.
وفي إنجيل لوقا: ولما كان في تلك الأيام - أي أيام ولادة يحيى بن زكريا عليهم السلام - خرج أمر من أوغوسطوس قيصر
431
بأن يكتب جميع المسكونة هذه الكتبة الأولى في ولاية فرسوس على الشام، فمضى جميعهم ليكتتب كل واحد منهم في مدينته، فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لأنه كان من بيت داود وقبيلته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى، فبينما هما هناك إذ تمت أيام ولادتها لتلد، فولدت ابنها البكر ولفته وتركته في مزود لأنه لم يكن لهما موضع حيث نزلا، وكان في تلك الكورة رعاة يسهرون لحراسة الليل نوباً على مراعيهم، وإذا ملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب أشرق عليهم، فخافوا خوفاً عظيماً، قال لهم الملاك: لا تخافوا الآن، هو ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعوب، لأنه ولد لكم اليوم مخلص، الذي هو المسيح في مدينة داود، وهذه علامة لكم أنكم تجدون طفلاً ملفوفاً موضوعاً في مزود، وللوقت بغتة تراءى مع الملاك جنود كثيرة سماويون، يسبحون الله سبحانه وتعالى ويقولون: المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة؛ فلما صعد الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: امضوا بنا إلى بيت لحم لننظر الكلام الذي أعلمنا به الرب، فجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل موضوعاً في
432
مزود؛ فلما رأوه علموا أن الكلام الذي قيل لهم عن الصبي حق، وكل من سمع تعجب مما تكلم به الرعاة، وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتقيه، ورجع الرعاة يمجدون الله سبحانه وتعالى ويسبحون على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم.
ولما تمت ثمانية أيام أتوا به ليختن ودعوا اسمه يسوع كالذي دعاه الملاك قبل أن تحبل به في البطن، فلما كملت أيام تطهيرها - على ما في ناموس موسى - صعدوا به إلى يروشليم ليقيموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم أمه يدعى قدوس الرب، ويقرب عنه - كما هو مكتوب في ناموس الرب - زوج
433
يمام أو فرخا حمام؛ وكان إنسان بايروشليم اسمه شمعون، وكان رجلاً باراً تقياً، يرجو عز بني إسرائيل، وروح القدس كان عليه، وكان يوحى إليه من روح القدس أنه لا يموت حتى يعاين المسيح الرب، فأقبل بالروح إلى الهيكل عندما جاؤوا بالطفل يسوع ليصفى عنه كما يجب في الناموس، فحمله على ذراعه وبارك الرب قائلاً: الآن يا سيد! أطلق عبدك بسلام لكلامك، لأن عيني أبصرتك خلاصك الذي أعددت قدام جميع الشعوب، نور استعلن للأمم ومجد لشعبك إسرائيل، وكان يوسف وأمه يتعجبان مما يقال عنه، وباركهما شمعون وقال لمريم أمه: هوذا هذا موضوع لسقوط كثير وقيام كثير من بني إسرائيل. وكانت حنة النبية ابنة فانوئل من سبط أشير قد طعنت في أيامها وأقامت مع
434
زوجها سبعة وستين بعد بكوريتها، وترملت أربعة وثمانين عاماً غير مفارقة للهيكل عائدة للصّوم، وللطلبة ليلاً ونهاراً، وفي تلك الساعة جاءت قدامه معترفة لله وكانت تتكلم من أجله عند كل أحد، تترجى خلاص يروشليم، فلما أكملوا كل شيء على ما في ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة، فأما الصبي فكان ينشأ ويتقوى بالروح ويمتلىء بالحكمة، ونعمة الله كانت عليه، وأبواه يمضيان إلى يروشليم في كل سنة في عيد الفصح.
وقال متى: فلما ولد يسوع في بيت لحم يهودا في أيام هيرودس الملك إذا مجوس وافوا من المشرق إلى يروشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود لأنا رأينا نجمة في المشرق، ووافينا لنسجد له، فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجمع يروشليم وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واتسخبرهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا
435
له: في بيت لجحم أرض يهودا - كما هو مكتوب في النبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهودا لست بصغيرة في ملوك يهود، يخرج منك مقدم، الذي يرعى شعب بني إسرائيل.
حينئذ دعا هيرودس والروم المجوس سراً، وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم قائلاً: امضوا فابحثوا عن الصبي باجتهاد، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له، فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً، وأتوا إلى البيت فرأوا الصبي، مع مريم أمه، فخروا له سجداً وفتحوا أوعيتهم وقدموا له قرابين ذهباً ولُباناً ومُرّاً، وأنحى إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيردوس، بل يذهبوا في طريق أخرى إلى كورتهم، فلام ذهبوا وإذ ملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلاً: قم، خذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي أمه
436
ليلاً، ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس، لكي يتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القابل من مصر: دعوت ابني؛ حينئذ لما رأى هيرودس سخرية المجوس به غضب جداً وأرسل، فقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون، كنحو الزمان الذي تحقق عنده من المجوس، حينئذ تم ما قيل من أرميا النبي حيث يقول: صوت سمع في الزأمة، بكاء ونوح وعويل كثير، راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لفقدهم؛ فلما مات هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم بمصر قائلاً: قم، خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل؛ فما سمع أن أورشلاوش قد ملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك، فأخبر في الحلم وذهب إلى حور ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة تدعى ناصرة لكي يتم ما قيل في الأنبياء: إنه يدعى ناصريا
437
وفي إنجيل لوقا: فلما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا إلى يروشليم إلى العيد كالعادة، فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهما يسوع في يروشليم ولم تعلم أمه ويوسف، لأنهما كانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فلما ساروا نحو يوم طلباه عند أقربائهما ومعارفهما فلم يجداه، فرجعا إلى يروشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه مبهوتين من علمه وإجابته لهم، فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه: يا بني! ما هذا الذي صنعت بنا؟ إن أباك وأنا كنا نطلبك باجتهاد معذبين، فقال لهما: لم تطلباني؟ أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في الذي لأبي؟ فأما هما فلم يفهما الكلام ونزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان يطيعهما، فأما يسوع فكان ينشأ في قامته وفي الحكمة والنعمة عند الله والناس.
قال متى: وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية
438
يهودا - إلى آخر ما تقدم آنفاً من بشارة يحيى عليه الصلاة والسلام به، ثم قال: حينئذ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا، فامتنع يوحنا منه وقال: أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي، فأجاب يسوع: دع الآن، هكذا يجب لنا أن نكمل كل البر، حينئذ تركه فاعتمد يسوع، وللوقت صعد من الماء فانفتحت له السماوات، ورأى روح الله نازلاً كمثل حمامة جائياً إليه. وقال مرقس: وكان تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واصطنع في نهر الأردن من يوحنا، فساعة صعد من الماء رأى السماوات قد انشقت، وروح القدس كالحمامة نزلت عليه، وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وأقام بها أربعين يوماً وأربعين ليلة، وهو مع الوحوش، والملائكة تخدمه. وقال متى: وصام أربعين يوماً وأربعين ليلة. وقال لوقا: وكان لما اعتمد جميع الشعب واعتمد يسوع فبينما هو يصلي انفتحت السماء ونزل عليه روح القدس شبه جسد حمامة، وكان قد صار ليسوع ثلاثون سنة وكان يُظنّ أنه ابن يوسف وأن يسوع امتلأ من روح القدس ورجع من الأردن، فانطلق به الروح أربعين يوماً،
439
لم يأكل شيئاً في تلك الأيام؛ ثم قال: ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح وخرج خبره في كل الكورة، وكان يعلم في مجامعهم ويمجده كل أحد، وجاء إلى الناصرة حيث كان تربى ودخل كعادته إلى مجمعهم يوم السبت، وقام ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتح السفر وجد الموضع الذي فيه مكتوب: روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأبشر المأسورين بالتخلية والعميان بالنظر، وأرسل المربوطين بالتخلية، وأبشر بالسنة المقبولة للرب والأيام التي أعطانا إلهنا؛ ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس، وكل من كان في الجمع كانت عيونهم محدقة إليه، فبدأ يقول لهم: اليوم كمل هذا المكتوب بأسماعكم؛ وفي إنجيل يوحنا: إن يسوع قال: إن كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي حقاً، ولكن الذي يشهد لي بها حق، أنتم أرسلتم إليّ يوحنا فشهد لي بالحق، وأما أنا فلست أطلب شهادة من إنسان ولكني
440
أقول هذا لتخلصوا أنتم، وأنا على أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال التي أعملها تشهد من أجلي أن الرب أرسلني، والذي أرسلني قد شهد لي ولم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه، وكلمته لا تثبت فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسل، فتشوا الكتب التي تظنون أن تكون لكم بها حياة الأبد فهي تشهد من أجلي، لست آخذ المجد من الناس أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني، وإن أتاكم آخر باسم نفسه قبلتموه، كيف تقدرون أن تؤمنوا وإنما تقبلون المجد بعضكم، من بعض ولا تظنون أن المجد من الله تعالى الواحد، لا تظنوا أني أشكوكم، إن لكم من يشكوكم: موسى الذي عليه تتوكلون، فلو كنتم آمنتم بموسى آمنتم بي، لأن ذلك كتب من أجلي، وإن كنتم لا تؤمنون بكتب ذلك فكيف تؤمنون بكلامي - انتهى ما وقع الاختيار أخيراً على إثباته هنا، وفيه من الألفاظ المنكرة في شرعنا إطلاق الأب والابن، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك.
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل
441
فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم عل تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى:
﴿فمن﴾ أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك: من
﴿حآجك فيه﴾ أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال:
﴿من﴾ أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة
﴿بعدما جآءك من العلم﴾ أي الذي أنزلنان إليك وقصصناه عليك في أمره
﴿فقل تعالوا﴾ أي اقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل
﴿ندع أبنآءنا وأبناءكم﴾ أي الذي هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه
﴿ونساءنا ونساءكم﴾ أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه
442
أولو الهمم العوالي
﴿وأنفسنا وأنفسكم﴾ فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق. ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال:
﴿ثم نبتهل﴾ أي نتضرع - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره. وقال الحرالي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود - انتهى.
﴿فنجعل لعنت الله﴾ أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجبر ولا يجار عليه، أي إبعاد وطرده
﴿على الكاذبين *﴾ وقال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه: ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام - يعني في البقرة - بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما
443
لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام - يعني هنا - بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة - انتهى.
ولما كان العلم الأزلي حاصلاً بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفاً من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة، وكان كفهم عن ذلك موجباً للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله: - تنبيهاً على ما فيه من العظمة -
﴿إن هذا﴾ أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره
﴿لهو﴾ أي خاصة دون غيره مما يضاده
﴿القصص الحق﴾ والقصص - كما قال الحرالي - تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - انتهى.
ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحاً فقال - عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله ورسوله معمماً للحكم معرقاً بزيادة الجار في النفي:
﴿وما من إله﴾ أي معبود بحق، لأن له صفات الكمال، فهو بحيث
444
يضر وينفع
﴿إلا الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال، لأنه الحي القيوم - كما مضى التصريح به، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علماً منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلهيته لا شيء في يده من الدفع عنهم ولا من النفع لهم، فلا برهان أقطع من هذا.
ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال - عاطفاً على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي:
﴿وإن الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿لهو﴾ أي وحده
﴿العزيز الحكيم *﴾ وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو.
ولما ثبت ذلك كله سبب عنه تهديدهم على الإعراض بقوله - منبهاً بالتعبير بأداة الشك على أنه لا يعرض عن هذا المحل البين إلا من كان عالماً بأن مبطل، ومثل ذلك لا يظن بذي عقل ولا مروة،
445
فمن حق ذكره أن يكون من قبيل فرض المحالات:
﴿فإن تولوا﴾ أي عن إجابتك إلى ما تدعوا إليه
﴿فإن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿عليهم﴾ بهم، هكذا كان الأصل، فعدل عنه لتعليق الحكم بالوصف تنفيراً من مثل حالهم فقال:
﴿بالمفسدين *﴾ أي فهو يحكم فيهم بعلمه فينتقم منهم فسادهم بعزته انتقاماً يتقنه بحكمته فينقلبون منه بصفقة خاسر ولا يجدون من ناصر.
446
ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة، اقتضى ذلك عظم تشوفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها لعظم حرصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هداية الخلق، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها،
446
دعاء لا أعدل منه، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضى لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى:
﴿قل﴾ ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال:
﴿يا أهل الكتاب﴾ إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم
﴿تعالوا﴾ أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به
﴿إلى كلمة﴾ ثم وصفها بقوله:
﴿سواء﴾ أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه
﴿بيننا وبينكم﴾ ثم فسرها بقوله:
﴿ألا نعبد إلا الله﴾ أي لأنه الحائز لصفات الكمال، وأكد ذلك بقوله:
﴿ولا نشرك به شيئاً﴾ أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده.
ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال:
﴿ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً﴾ أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون. ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على
447
أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد، والأجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال:
﴿من دون الله﴾ الذي اختص بالكمال.
ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال - مسبباً عن ذلك مشيراً بالتتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون:
﴿فإن تولوا﴾ أي عن الإسلام له في التوحيد
﴿فقولوا﴾ أنتم تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال:
﴿أسلمت لرب العالمين﴾ [البقرة: ١٣١] وامتثالاً لوصيته إذ قال:
﴿ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [البقرة: ١٣٢]
﴿اشهدوا بأنا﴾ أي نحن
﴿مسلمون *﴾ أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره، فيوشك أن يأمرنا نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة.
ولما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بدينة كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى
{بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من
448
المشركين} [البقرة: ١٣٥] اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على دينهم، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم، مع أن العقل يرده بأدنى التفات، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم، وكتابهم إنما نزل على نبيهم، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام، لأخذه البكورية عن أخيه بنيامين لأمر مذكور في كتابهم، والنصارى ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه، وكان دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو الإسلام، وهو الحنيفية السمحة فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم:
﴿يا أهل الكتاب﴾ كالمعلل لتبكيتهم، لأن الزلة من العالم أشنع
﴿لم تحآجون في إبراهيم﴾ فيدعيه كل من فريقكم
﴿و﴾
449
الحال أنه
﴿ما أنزلت التوراة والإنجيل﴾ المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم
﴿إلا﴾ ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال:
﴿من بعده﴾ وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد، ولم يكن ما يدعونه فيهما في شريعة إبراهيم عليه السلام، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يأتي مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين.
ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم
﴿أفلا تعقلون *﴾ أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي! ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال منبهاً لهم مكرراً التنبيه إشارة إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم:
﴿ها أنتم هؤلاء﴾ أي الأشخاص الحمقى، ثم بين ذلك بقوله:
﴿حاججتم﴾ أي قصدتم مغالبة من يقصد الرد عليكم
﴿فيما لكم به علم﴾ أي نوع
450
من العلم من أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لذكر كل منهما في كتابكم وإن كان جدالكم فيهما على خلاف ما تعلمون من أحوالهما عناداً أو طغياناً
﴿فلم تحاجون﴾ أي تغالبون بما تزعمون أنه حجة، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة فضلاً عن أن يكون حجة
﴿فيما ليس لكم به علم﴾ اصلاً، لكونه لا ذكر له في كتابكم بما حاججتم فيه مع مخالفته لصريح العقل
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء
﴿يعلم﴾ أي وأنتم تعلمون أن مجادلتكم في الحقيقة إنما هي مع الله سبحانه وتعالى، وتعلمون أن علمه محيط بجميع ما جادلتم فيه
﴿وأنتم﴾ أي وتعلمون أنكم أنتم
﴿لا تعلمون *﴾ أي ليس لكم علم أصلاً إلا ما علمكم الله سبحانه وتعالى، هذا على تقدير كون
«ها» في
«ها أنتم» للتنبيه، ونقل شيخنا ابن الجزري في كتابه
«النشر في القراءات العشر» عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي الحسن الأخفش أنها بدل من همزة، وروي عن أبي حمدون عن اليزيدي أن أبا عمرو قال: وإنما هي
﴿أأنتم﴾ ممدودة، فجعلوا الهمزة
451
هاء، والعرب تفعل هذا، فعلى هذا التقدير يكون استفهاماً معناه التعجيب منهم والتوبيخ لهم.
ولما وبخهم على ذلك من جهلهم نفيى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى، ونفى عنه كل شرك أيضاً، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى:
﴿ما كان إبراهيم يهودياً﴾ أي كما ادعى اليهود
﴿ولا نصرانياً﴾ كما ادعى النصارى - لما تقدم من الدليل
﴿ولكن كان حنيفاً مسلماً﴾ وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى:
﴿قل بل ملة إبراهيم حنيفاً﴾ [البقرة: ١٣٥] بما يصدق على المسلم، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر: واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، والحنيف المائل عن كل دين باطل، والمسلم
452
المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت، وإن شئت قلت: هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك
«قل: آمنت بالله ثم استقم» انتهى.
ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزير والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال:
﴿وما كان من المشركين *﴾ وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات.
ولما نفي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به
453
نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم:
﴿إن أولى الناس﴾ أي أقربهم وأحقهم
﴿بإبراهيم للذين اتبعوه﴾ أي في دينه من أمته وغيرهم، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم، ثم صرح بهذه الأمة فقال:
﴿وهذا النبي﴾ أي هو أولى الناس به
﴿والذين آمنوا﴾ أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان
﴿والله﴾ أي بما له من صفات الكمال - وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال:
﴿ولي المؤمنين *﴾ ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه.
ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى - جواباً لمن كأنه قال: فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم
454
فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل؟
﴿ودت طآئفة﴾ أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً
﴿من أهل الكتاب﴾ حسداً لكم
﴿لو يضلونكم﴾ بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ
﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما
﴿يضلون﴾ بذلك التمني أو الإضلال لو وقع
﴿إلا أنفسهم﴾ لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله
﴿وما يشعرون *﴾ أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل - إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه - بيان إبطاله في دعواه، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف، ثم التصريح ببراءته، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع.
ولما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم بين تعالى في معرض التبكيت
455
أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون، لا يعملون بعلمهم، بل يعملون بخلافه، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب:
﴿يا أهل الكتاب﴾ أي الذين يدعون أنهم أهل العلم
﴿لم تكفرون﴾ أي كفراً تجددونه في كل وقت
﴿بآيات الله﴾ أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً
﴿وأنتم تشهدون *﴾ أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته؛ ثم أتبع ذلك استئنافاً آخر مثل ذلك إلا أن الأول قاصر على ضلالهم وهذا متعد إلى إضلالهم فقال:
﴿يا آهل الكتاب لم تلبسون الحق﴾ أي الذي لا مرية فيه
﴿بالباطل﴾ أي بأن تؤولوه بغير تأويله، أو تحملوه على غير محله
﴿وتكتمون الحق﴾ أي الذي لا يقبل تأويلاً، وهو ما تعلمون من البشارة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوابعها
﴿وأنتم﴾ أي والحال أنكم
﴿تعلمون *﴾ أي من
456
ذوي العلم، فأنتم تعرفون ذلك قطعاً وأن عذاب الضال المضل عظيم جداً.
ولما ذكر لبسهم دل عليه بقوله عطفاً على
﴿ودت طائفة﴾ مبيناً لنوع إضلال آخر:
﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب﴾ أي من يهود المدينة
﴿آمنوا﴾ أي أظهروا الإيمان
﴿بالذي أنزل على الذين آمنوا﴾ متابعة لهم
﴿وجه﴾ أي أول
﴿النهار﴾ سمي وجهاً لأنه أول ما يستقبلك منه وهو ما يظهر ولذا عبروا به عن الأول الذي يصلح لاستغراق النصف، لأن مرادهم التلبيس بظاهر لا باطن له، ولفظ لا حقيقة له، في جزء يسير جداً
﴿واكفروا آخره﴾ أي ليظنوا أنه لا غرض لكم إلا الحق، وأنه ما ردكم عن دينهم بعد ابتاعكم له إلا ظهور بطلانه
﴿لعلهم يرجعون *﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن دينه
﴿ولا تؤمنوا﴾ أي توقعوا التصديق الحقيقي
﴿إلا لمن تبع دينكم﴾ فصوبوا طريقته وصدقوا دينه وعقيدته.
ولما كان هذا عين الضلال أمره سبحانه وتعالى أن يعجب
457
من حالهم منبهاً على ضلالهم بقوله معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب:
﴿قل إن الهدى هدى الله﴾ أي المختص بالعظمة وجميع صفات الكمال، أي لا تقدرون على إضلال أحد منا عنه، ولا نقدر على إرشاد أحد منكم إليه إلا بإذنه، ثم وصل به تقريعهم فقال:
﴿أن﴾ بإثبات همزة الإنكار في قراءة ابن كثير، وتقديرها في قراءة غيره، أي أفعلتم الإيمان على الصورة المذكورة خشية أن
﴿يؤتى أحد﴾ أي من طوائف الناس
﴿مثل ما أوتيتم﴾ أي من العلم والهدى الذي كنتم عليه أول الأمر
﴿أو﴾ كراهة أن
﴿يحاجوكم﴾ أي يحاجكم أولئك الذين أوتوا مثل ما أوتيتم
﴿عند ربكم﴾ الذي طال إحسانه إليكم بالشهادة عليكم أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحوكم.
ولما كانت هذه الأية شبيهة بآية البقرة
﴿ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم﴾ [البقرة: ١٠٥] في الحسد على ما أوتي غيرهم من الدين الحق وكالشارحة لها ببيان ما يلبيسونه لقصد الإضلال ختمت بما ختمت به تلك، لكن لما قصد بها
458
الرد عليهم في كلا هذين الأمرين اللذين دبروا هذا المكر لأجلهما زيدت ما له مدخل في ذلك فقال تعالى مجيباً لمن تشوف إلى تعليم ما لعله يكف من مكرهم ويؤمن من شرهم معرضاً عنهم بالخطاب بعد الإقبال عليهم به إيذاناً بشديد الغضب:
﴿قل إن الفضل﴾ في التشريف بإنزال الآيات وغيرها
﴿بيد الله﴾ المختص بأنه لا كفوء له، فله الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وأتبعه نتيجته فقال:
﴿يؤتيه من يشاء﴾ فله مع كمال القدرة كمال الاجتباء، ثم قال مرغباً مرهباً وراداً عليهم في الأمر الثاني:
﴿والله﴾ الذي له من العظمة وسائر صفات الكمال ما لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأوهام
﴿واسع عليم *﴾ أي يوسع على من علم فيه خيراً، ويهلك من علم أنه لا يصلح لخير، ويعلم دقيق أمركم وجليله، فلا يحتاج سبحانه وتعالى إلى تنبيه أحد بمحاجتكم عليه عنده.
ولما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها
459
من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال:
﴿يختص برحمته من يشاء﴾ ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال:
﴿والله﴾ الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده
﴿ذو الفضل العظيم *﴾ وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه.
فلما تقرر أن الأمر كله له ذكر دليل ذلك فيهم بأنه فضل فريقاً منهم فأعلاه، ورذل فريقاً منهم فأرداه، فلم يردهم الكتاب - وهم يتلونه - إلى الصواب، فقال عاطفاً على ما مضى من مخازيهم مقرراً لكتمانهم للحق مع علمهم بأنه الحق بأنه الخيانة ديدنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية منبهاً على أنهم وإن شاركوا الناس في انقسامهم إلى أمين وخائن فهم يفارقونهم من حيث ان خائنهم يتدين بخيانته ويسندها - مروقاً من ربقة الحياء - إلى الله، مادحاً للأمين منهم: {ومن
460
أهل الكتاب} أي الموصوفين
﴿من إن تأمنه بقنطار﴾ أي من الذهب المذكور في الفريق الآتي
﴿يؤده إليك﴾ غير خائن فيه، فلا تسوقوا الكل مساقاً واحداً في الخيانة
﴿ومنهم من إن تأمنه بدينار﴾ أي واحد
﴿لا يؤده إليك﴾ في زمن من الأزمان دناءة وخيانة
﴿إلا ما﴾ أي وقت ما
﴿دمت عليه قائماً﴾ تطالبه به غالباً له بما دلت عليه أداة الاستعلاء، ثم استأنف علة الخيانة بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر البعيد من الكمال
﴿بأنهم قالوا﴾ كذباً على شرعهم
﴿ليس علينا في الأميين﴾ يعني من ليس له كتاب فليس على دينهم
﴿سبيل﴾.
ولما كان الكذب من عظم القباحة بمكان يظن بسببه أنه لا يجترىء عليه ذو عقل فكيف على الله سبحانه وتعالى قال: {وهم
461
يعلمون *} أي ذوو علم فيعلمون أنه كذب.
ولما ادعوا نفي الجناح عنهم فيهم وبين تعالى أنهم لا يتحاشون عن الكذب صرح بكذبهم في هذا الأمر بخصوصه بقوله:
﴿بلى﴾ أي عليكم في خيانتهم لتحريم العذر عليكم مطلقاً، أي سبيل - كما هو في التوراة وقد مضى نقله في البقرة في آية
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا﴾ [البقرة: ٦٢] وآية
﴿وقولوا للناس حسناً﴾ [البقرة: ٨٣].
ولما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما، إن الله يبغض الخائن فقال:
﴿من أوفى بعهده﴾ في الدين والدنيا
﴿واتقى﴾ أي كائناً من كان
﴿فإن الله﴾ ذا الجلال والإكرام يحبه، هكذا الأصل، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحاملة له على الأمانة فقال:
﴿يحب المتقين *﴾.
ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضائق الأمانة،
462
وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط في الإنذار فقال:
﴿إن الذين يشترون﴾ أي يلجون في أن يأخذوا على وجه العوض
﴿بعهد الله﴾ أي الذي عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذي عاهدهم على الإيمان به وذكر صفته للناس، وهو سبحانه أعلى وأعز من كل شيء فهو محيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿وأيمانهم﴾ أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل
﴿ثمناً قليلاً﴾ في الدنيا
﴿أولئك﴾ أي البعيدو الرتبة في الدناءة
﴿لا خلاق﴾ أي نصيب
﴿لهم في الآخرة﴾ أي لبيعهم له بنصيب الدنيا
﴿ولا يكلمهم الله﴾ أي الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته.
ولما زادت هذه عن آية البقرة العهد والحلف، وكان من عادة الحالف والمعاهد النظر إلى من فعل ذلك لأجله زاد قوله:
﴿ولا ينظر إليهم﴾ أي بل يعدهم أحقر شيء بما أعرضوا عنه، ولما كان لكثرة الجمع مدخل عظيم في مشقة الخزي قال:
﴿يوم القيامة﴾ الذي من افتضح في جمعه لم يفز
﴿ولا يزكيهم﴾ لأنهم لم يزكوا
463
اسمه
﴿ولهم﴾ أي مع ذلك
﴿عذاب أليم *﴾ يعرفون به ما جهلوا من عظمته.
ولما نسبهم إلى الكذب عموماً نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال:
﴿وإن منهم لفريقاً﴾ أي جبلوا على الفرقة، فهم لا يزالون يسعون في التفريق
﴿يلون﴾ أي يفتلون ويحرفون
﴿ألسنتهم بالكتاب﴾ بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر - مثلاً بأن يقولوا في
﴿اعبدوا الله﴾ [المائدة: ٧٢ وغيرها] اللات، وفي
﴿لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾ [الأنعام: ١٥١] بالحد، وفي
«من زنى فارجموه» فارحموه بالمهملة، أو فحمموه، أو اجلدوه - ونحو هذا.
ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيراً عن السماع منهم وتنبيهاً على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال:
﴿لتحسبوه﴾ أي الذي لوى به اللسان فحرف {من
464
الكتاب} أي المنزل من عند الله، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال:
﴿ما هو من الكتاب﴾ أعاده ظاهراً تصريحاً بالتعميم.
ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال:
﴿ويقولون﴾ أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا
﴿وهو من عند الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال، ثم صرح بكذبهم بقوله - مبعداً لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهراً في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال:
﴿وما هو﴾ أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته
﴿من عند الله﴾ أي الذي له الإحاطة العامة، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره.
ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحاً بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحاً أخبر بأن ذلك عادة لهم، لا يقفون
465
منه عند عد، ولا ينحصرون فيه بحد، فقال:
﴿ويقولون على الله﴾ أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم
﴿الكذب﴾ أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص، ولما كان الكذب قد يطلق على ما لم يتعمد، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله:
﴿وهم يعلمون *﴾ أي أنه كذب، لا يشكون فيه.
466
ولما فرغ من بيان ما أراد من كتمانهم للحق مع الإشارة إلى بعض توابعه إلى أن ختم بأنهم لا يتحاشون من الكذب على الله المقتضي للكذب على الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم، لأنهم لا علم لهم بقول الله سبحانه وتعالى إلا بواسطة الأنبياء عليهم السلام، ومهما كان القول كذباً على الله سبحانه وتعالى اقتضى أن يكون تعبداً للمنسوب إليه من دون الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي شرعه، وذلك موجب لأن يدعي أن النبي دعا إليه عبادته من دون الله سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن اوضح سبحانه وتعالى من صفات عيسى عليه الصلاة والسلام
466
المقتضية لنفي الإلهية عنه ما لا يخفى على ذي لب شرع يبين أنهم كاذبون فيما يدعونه في عيسى عليه الصلاة والسلام، فنفي أن يكون قال لهم ذلك أو شيئاً منه على وجه شامل له ولكل من اتصف بصفته وبسياق هو بمجرده كاف في إبطال قولهم فقال:
﴿ما كان﴾ أي صح ولا تصور بوجه من الوجوه
﴿لبشر﴾ أي من البشر كائناً من كان من عيسى وعزير عليهما الصلاة والسلام وغيرهما
﴿أن يؤتيه الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿الكتاب والحكم﴾ أي الحكمة المهيئة للحكم، وهي العلم المؤيد بالعمل والعمل المتقن بالعلم، لأن أصلها الإحكام، وهو وضع الشيء في محله بحيث يمتنع فساده
﴿والنبوة﴾ وهي الخبر من الله سبحانه وتعالى المقتضي لأتم الرفعة، يفعل الله به ذلك الأمر الجليل وينصبه للدعاء إلى اختصاصه الله بالعبادة وترك الأنداد
﴿ثم﴾ يكذب على الله سبحانه وتعالى بأن
﴿يقول للناس كونوا عباداً لي﴾.
ولما كان ذلك قد يكون تجوزاً عن قبول قوله والمبادرة
467
لامتثال أمره عن الله سبحانه وتعالى احتراز عنه بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي المختص بجميع صفات الكمال إذ لا يشك عاقل أن من أوتي نبوة وحكمة - وهو بشر - في غاية البعد عن ادعاء مثل ذلك، لأن كل صفة من صفاته - لا سيما تغير بشرته الدالة على انفعالاته - مستقلة بالإبعاد عن هذه الدعوى، فلم يبق لهم مستند، لا من جهة عقل ولا من طريق نقل، فصار قول مثل ذلك منافياً للحكمة التي هو متلبس بها، فصح قطعاً انتقاؤه عنه.
ولما ذكر ما لا يكون له أتبعه ما له فقال:
﴿ولكن﴾ أي يقول
﴿كونوا ربانيين﴾ أي تابعين طريق الرب منسوبين إليه بكمال العلم المزين بالعمل، والألف والنون زيدتا للإيذان بمبالغتهم في المتابعة ورسوخهم في العلم اللدني، فإن الرباني هو الشديد التمسك بدين الله سبحانه وتعالى وطاعته، قال محمد بن الحنفية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما مات: مات رباني هذه الأمة:
﴿بما كنتم تعلمون الكتاب﴾ أي بسبب كونكم عالمين به معلمين له
﴿وبما كنتم تدرسون *﴾ فإن فائدة الدرس العلم، وفائدة العلم العمل، ومنه الحث على الخير والمراقبة للخالق.
ولما نفي أن يكون الحكيم من البشر داعياً إلى نفسه
468
وأثبت أنه يكون ولا بد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى لتظهر حكمته أثبت أن ذلك لا بد وأن يكون على وجه الإخلاص، لأن بعض الشياطين يحكم مكره بإبعاد التهمة عن نفسه بالدعاء إلى إلى غيره على وجه الشرك لا سيما إن كان ذلك الغير ربانياً كعيسى عليه الصلاة والسلام فقال:
﴿ولا يأمركم﴾ أي ذلك البشر
﴿أن تتخذوا﴾ أتى بصيغة الافتعال إيذاناً بأن الفطر مجبولة على التوجه لله سبحانه وتعالى من غير كلفة
﴿الملائكة والنبيين﴾ فضلاً عن غيرهم
﴿أرباباً﴾ أي مع الله سبحانه وتعالى أو من دونه، ثم بين أن كل عبادة كان فيها أدنى شائبة فهي باطلة بقوله على طريق الإنكار تبرئة لعبادة الخلص من مثل ذلك:
﴿أيأمركم بالكفر﴾ إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غني، لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه
﴿بعد إذ أنتم مسلمون *﴾ أي منقادون لأحكامه، أو متهيئون للتوحيد على عليّ الفطرة الأولى.
ولما بين سبحانه وتعالى فيما مضى أن التولي عن الرسل كفر، وذكر كثيراً من الرسل فخص في ذكرهم وعمم، ذكر قانوناً كلياً لمعرفة الرسول عنه سبحانه وتعالى والتمييز بينه وبين الكاذب فقال عاطفاً على
﴿إذ أنتم مسلمون﴾ ﴿وإذ أخذ الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿ميثاق النبيين﴾ أي كافة، والمعنى: ما كان له أن يقول ذلك بعد
469
الإنعام عليكم بالإسلام والإنعام عليه بأخذ الميثاق على الناس - الأنبياء وغيرهم - بأن يؤمنوا به إذا آتاهم، فيكون بذلك الفعل مكفراً لغيره وكافراً بنعمة ربه، وهذا معنى قوله:
﴿لما﴾ أي فقال لهم الله: لما
﴿آتيتكم﴾ وقراءة نافع: آتيناكم، أوفق لسياق الجلالة - قاله الجعبري
﴿من كتاب وحكمة﴾ أي أمرتكم بها بشرع من الشرائع، فأمرتم بذلك من أرسلتم إليه
﴿ثم جآءكم رسول﴾ أي من عندي، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده فقال:
﴿مصدق لما معكم﴾ أي من ذلك الكتاب والحكمة
﴿لتؤمنن به﴾ أي أنتم وأممكم
﴿ولتنصرنه﴾ أي على من يخالفه، فكأنه قيل: إن هذا الميثاق عظيم، فقيل: إنّ، زاد في تأكيده اهتماماً به فقال:
﴿قال ءأقررتم﴾ أي يا معشر النبيين
﴿وأخذتم على ذلكم﴾ أي العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع
﴿إصري﴾ أي عهدي، سمي بذلك لما فيه من الثقل، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق والتوثق، ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن
470
عهد التقيد بنوع من القيود، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل:
﴿قالوا أقررنا﴾ أي بذلك، فقيل: ما قال؟ فقيل
﴿قال فاشهدوا﴾ أي يا أنبياء! بعضكم على بعض، أو يا ملائكة! عليهم
﴿وأنا معكم من الشاهدين * فمن﴾ أي فتسبب عنه أنه من
﴿تولى﴾ أي منكم أو من أممكم الذي بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر.
ولما كان المستحق لغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال:
﴿بعد ذلك﴾ أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة
﴿فأولئك﴾ أي البعداء من خصال الخير
﴿هم الفاسقون *﴾ أي المختصون بالخروج العظيم عن دائرة الحق.
ولما كان المدرك لكل نبي إنما هم أمة النبي الذي قبله، وكانوا يكذبونه ويخالفونه قال - خاتماً لهذه القصص بعد الشهادة بنفسه المقدسة بما بدأها به في قوله
﴿شهد الله﴾ الآية إلى
﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ على وجه الإنكار والتهديد عاطفاً على ما دل عليه السياق -:
﴿أفغير﴾ أي أتولوا ففسقوا، فتسبب عن ذلك أنهم غير دين الله، وأورد بأن تقديم «
471
غير» يفهم أن الإنكار منحط على طلبهم اختصاصاً لغير دين الله، وليس ذلك هو المراد كما لا يخفى، وأجيب بأن تقديمه الاهتمام بشأنه في الإنكار، والاختصاص متأخر مراعاته عن نكبة غيره - كما تقرر في محله
﴿دين الله﴾ الذي اختص بصفات الكمال
﴿يبغون﴾ أي يطلبون بفسقهم، أو أتوليتم - على قراءة الخطاب
﴿وله﴾ أي والحال أنه له حاصة
﴿أسلم﴾ أي خضع بالانقياد لأحكامة والجري تحت مراده وقضائه، لا يقدرون على مغالبة قدره بوجه
﴿من في السموات والأرض﴾ وهم من لهم قوة الدفاع بالبدن والعقل فكيف بغيرهم
﴿طوعاً﴾ بالإيمان أو بما وافق أغراضهم
﴿وكرهاً﴾ بالتسليم لقهره في إسلام أحدهم وإن كثرت أعوانه وعز سلطانه إلى أكره ما يكره وهو صاغر داخر، لا يستطيع أمراً ولا يجد نصراً
﴿وإليه يرجعون *﴾ بالحشر، لا تعالجون مقراً ولا تلقون
472
ملجأ ولا مفراً، فإذا كانوا كذلك لا يقدرون على التفصي من قبضته بنوع قوة ولا حيلة في سكون ولا حركة فكيف يخالفون ما أتاهم من أمره على ألسنة رسله وقد ثبت أنهم رسله بما أتى به كل منهم من المعجزة! ومن المعلوم أن المعاند للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاند للمرسل.
ولما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله، ثم هدد من تولى، فكان السامع جديراً بأن يقول: أنا مقبل غير متول فما اقول وما أفعل؟ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم:
﴿قل﴾ أي قبل كل شيء، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل
﴿آمنا﴾ أنا ومن أطاعني من أمتي - مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال:
﴿بالله﴾ الذي لا كفوء له.
ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال:
﴿وما أنزل علينا﴾ فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد
473
﴿وما أنزل على إبراهيم﴾ أي أبينا
﴿وإسماعيل وإسحاق﴾ أي ابنيه
﴿ويعقوب﴾ ابن إسحاق
﴿والأسباط﴾ أي أولاد يعقوب.
ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزات الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله:
﴿وما أوتي موسى﴾ من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة
﴿وعيسى﴾ من ذرية داود من الإنجيل والشريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان النظر هنا إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به وأغرق فيه ناسب الإعراء عن التأكيد بما في البقرة، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال:
﴿والنبيون﴾ أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه
﴿من ربهم﴾ أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله:
﴿لا نفرق بين أحد منهم﴾ تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى
﴿ونحن له﴾ أي لله وما أنزل من عنده
﴿مسلمون *﴾ أي منقادون على طريق الإخلاص والرضى.
474
ولما أمر سبحانه وتعالى بإظهار الإيمان بهذا القول، وكان ذلك هو الإذعان الذي هو الإسلام قال - محذراً من الردة عنه عاطفاً على
﴿آمنا﴾ ومظهراً لما من حقه الإضمار لولا إرادة التنبيه على ذلك مشيراً بصيغة الافتعال إلى مخالفة الفطرة الأولى -:
﴿ومن يبتغ﴾ أي يتطلب
﴿غير﴾ دين
﴿الإسلام﴾ الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساسها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل أو مجازاً بالكون على الفطرة الأولى بما أشعر به الابتغاء - كما تقدم، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له
﴿ديناً﴾ وأتى بالفاء الرابطة إعلاماً بأن ما بعدها مسبب عما قبلها ومربوط به فقال:
﴿فلن يقبل منه﴾ أي في الدنيا، وأشعر ترتيب هذا على السبب بأنه يرجى زوال السبب لأنه مما عرض للعبد كما جرى في الردة في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه رجع إلى الإسلام أكثر المرتدين وحسن إسلامهم، وقوله:
﴿وهو في الآخرة من الخاسرين *﴾ معناه: ولا يقبل منهم في الآخرة، مع زيادة التصريح بالخسارة - وهي حرمان الثواب - المنافية لمقاصدهم، والقصد الأعظم بهذا أهل الكتاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم
475
وتوقعهم له، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بخسارة من ارتد عن الإسلام شرع يستدل على استحقاقه لذلك بقوله:
﴿كيف يهدي الله﴾ مع ما له من كمال العظمة
﴿قوماً﴾ أي يخلق الهداية في قلوب ناس بهم قوة المحاولة لما يريدونه
﴿كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر بالله ربهم وبما ذكر مما أتت به رسله إعراضاَ عنه وعنهم، ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار:
﴿بعد إيمانهم﴾ بذلك كله
﴿وشهدوا﴾ أي وبعد أن شهدوا
﴿أن الرسول حق﴾ بما عندهم من العلم به
﴿وجاءهم البينات﴾ أي القاطعة بأنه حق وأنه رسول الله قطعاً، لا شيء أقوى من بيانه ولا أشد من ظهوره بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء.
ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيان لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحاً لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد: أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الكمال كله {لا يهدي
476
القوم الظالمين *} أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك، تحذيراً من مطلق الظلم، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال:
﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿جزاؤهم أن عليهم لعنة الله﴾ أي الملك الأعظم، وهي غضبه وطرده
﴿والملائكة والناس أجمعين *﴾ حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظاناً أنه ليس بكافر، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيىء، وحذراً من فعل مثل ذلك معه
﴿خالدين فيها﴾ أي اللعنة دائماً.
ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله:
﴿لا يخفف عنهم العذاب﴾ مفيداً ان عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة. ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتاً ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله:
﴿ولا هم ينظرون *﴾ أي يؤخرون للعلم بحالهم باطناً وظاهراً حالاً ومآلاً، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه، لم يترك شيء نمها
477
لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان.
ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم - وإن استبعد رجوعهم - موضعاً للرجاء بقوله:
﴿إلا الذين تابوا﴾ أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال:
﴿من بعد ذلك﴾ الارتدار حيث تقبل التوبة
﴿وأصلحوا﴾ أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة
﴿فإن الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله
﴿غفور﴾ يمحو الزلات
﴿رحيم *﴾ بإعطاء المثوبات، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه.
ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال:
﴿إن الذين كفروا﴾ أي بالله وأوامره، وأسقط الجار لما مضى من قوله
﴿من بعد إيمانهم﴾ بذلك. ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه! وعبر عن ذلك بأداة التراخي فقال:
﴿ثم ازدادوا كفراً﴾ أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا
478
بالتوبة
﴿لن تقبل توبتهم﴾ أي إن تابوا، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لأنهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة، فلا يتوبون أبداً توبة صحيحة، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب
﴿وأولئك هم﴾ أي خاصة
﴿الضالون *﴾ أي الغريقون في الضلال وإليه أشار
﴿ولو أسمعهم لتولوا﴾ [الأنفال: ٢٣] لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه!
ولما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجوعهم تشوف السامع إلى حالهم في الآخرة فقال مبيناً لهم
479
أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر:
﴿إن الذين كفروا﴾ أي هذا الكفر أو غيره، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام: التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا، والتائبون توبة فاسدة، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة، ولذا قال:
﴿وماتوا وهم كفار﴾ ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان، وربطه بالفاء فقال:
﴿فلن يقبل﴾ أي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه
﴿من أحدهم﴾ أي كائناً من كان
﴿ملء الأرض ذهباً﴾ أي من الذهب لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أوهدية أو غير ذلك
﴿ولو افتدى به﴾ لو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أعطوا السائل ولو جاء على فرس» فكونه
480
جاء على فرس يؤذن بغناه، فلا يناسب أن يعطى فنص عليه؛ وأما هنا فلما كان قبول الفدية واجباً عند أهل الكتاب - كما مر في قوله سبحانه وتعالى
﴿وإن يأتوكم أسارى تفادوهم﴾ [البقرة: ٨٥] كان بحيث ربما ظن أن بذله - على طريق الافتداء يخالف بذله على غير ذلك الوجه حتى يجب قبوله، فنص عليه؛ وأيضاً فحالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدى - قاله أبو حيان. فالمعنى: لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة، أي لا يقبل منه شيء؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري في محاوراتهم - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله:
﴿أولئك﴾ أي البعداء من الرحمة
﴿لهم عذاب أليم﴾ ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال:
﴿وما لهم من ناصرين *﴾ أي ينصرونهم بوجه من الوجوه، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ.
481
ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى
﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ [آل عمران: ١٩]- وما بعد ذلك إنما جرّه - ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله:
﴿لن تنالوا البر﴾ وهو كمال الخير
﴿حتى تنفقوا﴾ أي في وجوه الخير
﴿مما تحبون﴾ أي من كل ما تقتضون، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى.
1
ولما كان التقدير: فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً:
﴿وما تنفقوا من شيء﴾ أي من المحبوب وغيره
﴿فإن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة. وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك - هل تعلم كذا: لا أعلم إلا هو، فقال:
﴿به عليم *﴾ فهذا كما ترى احتباك.
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى:
﴿كل الطعام﴾ أي من الشحوم مطلقاً وغيرها
﴿كان حلاًّ لبني إسرائيل﴾ أي أكله - كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة
﴿إلا ما حرم إسرائيل﴾ تبرراً وتطوعاً
﴿على نفسه﴾ وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم. ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا: إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال:
2
﴿من قبل﴾ وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً له. وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال:
﴿أن تنزل التوراة﴾ وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند
﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ [البقرة: ٨٩].
ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون: لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال:
﴿قل﴾ أي لليهود
﴿فأتوا بالتوارة فاتلوها﴾ أي لتدل لكم
﴿إن كنتم صادقين *﴾ فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا
﴿فمن﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه من
﴿افترى﴾ أي تعمد
﴿على الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿الكذب﴾ أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال:
﴿من بعد ذلك﴾ أي البيان العظيم الظاهر جداً
﴿فأولئك﴾ أي الأباعد الأباغض
﴿هم﴾ خاصة
3
لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية
﴿الظالمون *﴾ أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة.
ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:
﴿قل﴾ أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم
﴿صدق الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً
4
ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى:
﴿فاتبعوا ملة إبراهيم﴾ وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله:
﴿حنيفاً﴾ أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف. ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفطوراً. على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال:
﴿وما كان من المشركين﴾ أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى.
ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى:
﴿إن أول بيت﴾
5
أي من البيوت الجامعة للعبادة
﴿وضع للناس﴾ أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، ولعل بناء وضع، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
﴿للذي ببكة﴾ أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم؛ حال كونه
﴿مباركاً﴾ أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا
﴿وهدى للعالمين *﴾ أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم.
وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين
6
المؤالفة، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام - كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم - كما روي من غير طريق عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه! ثم فسر الهدى بقوله:
﴿فيه آيات بينات﴾ وقوله:
﴿مقام إبراهيم *﴾ أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف - أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر
﴿إن﴾ في قوله:
﴿للذي ببكة﴾ فكأنه قيل: إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم، وأعربه غيره بدل بعض من قوله
﴿آيات﴾ وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه
7
إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى:
﴿ومن دخله﴾ أي فضلاً عن أهله
﴿كان آمناً﴾ أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن
«وأمن داخله» لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة.
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى:
﴿ولله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله
﴿على الناس﴾ أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في
﴿استطعما أهلها﴾ [الكهف: ٧٧] في الكهف،
8
وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم
﴿حج البيت﴾ أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة:
﴿من استطاع﴾ أي منهم
﴿إليه سبيلاً﴾ فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير: ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله:
﴿ومن كفر﴾ أي بالنعمة أو بالدين
﴿فإن الله﴾ اي الملك الأعلى
﴿غني﴾ ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه:
﴿عن العالمين *﴾ أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم،
9
والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات
﴿ومن كفر﴾ ثانياً يدل على إيمان من حجه.
ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً، ولم يبق لمتعنت شبهة، ولم يبادروا الإذعان، بل زادوا في الطغيان، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده:
﴿قل﴾ وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال:
﴿يا أهل الكتاب﴾ أي من الفريقين
﴿لم تكفرون﴾ أي توقعون الكفر
﴿بآيات الله﴾ أي وهي - لكونه الحائز بجميع الكمال - البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً
﴿والله﴾ أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به
﴿شهيد على﴾ كل
﴿ما تعملون *﴾ أي لكونه يعلم
10
سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم. ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال:
﴿قل يا آهل الكتاب﴾ أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم
﴿لم تصدون﴾ أي بعد كفركم
﴿عن سبيل الله﴾ أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدمه اهتماماً به. ثم ذكر المفعول فقال:
﴿من أمن﴾ حال كونكم
﴿تبغونها﴾ أي السبيل
﴿عوجاً﴾ أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال:
﴿يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم﴾ [آل عمران: ٦٥]
﴿يا أهل الكتاب لم تكفرون﴾ [آل عمران: ٧٠] والآية التي بعدها بغير واسطة. وقال أبو البقاء في إعرابه: إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل،
11
لأن فيها ضميرين راجعين إليها، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما، وعوجاً حال - انتهى. وقال صاحب القاموس في بنات الواو: بغا الشيء بغواً: نظر إليه كيف هو، وقال في بنات الياء: بغيته أبغيه: طلبته، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً - كما قال أبو البقاء - أصوب من جعله مفعولاً - كما قال في الكشاف. ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه: تريدونها معوجة أو ذات عوج، فإن طلب بمعنى: أراد؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى: ترونها ذات عوج، أي تجعلونها في نظركم يعني: تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها، لكن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح
«ابغني أحجاراً أستنفض بهن» يؤيد قول صاحب الكشاف.
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً:
﴿وأنتم شهداء﴾ أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به
12
لانقيادهم للأدلة. ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال:
﴿وما الله﴾ أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها
﴿بغافل﴾ أي أصلاً
﴿عما تعملون *﴾ ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم، أقبل بالبشر على أحبائه، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه، محذراً لهم الاغترار بالمضلين، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود، فقال سبحانه وتعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي بنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿إن تطيعوا فريقاً﴾ أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به
﴿من الذين أوتوا الكتاب﴾ أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه
﴿يردوكم﴾ وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد:
﴿بعد إيمانكم كافرين *﴾
13
أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها!.
ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحوال الشريفة فقال - عاطفاً على ما تقديره: فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم:
﴿وكيف تكفرون﴾ أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال
﴿وأنتم تتلى﴾ أي تواصل بالقراءة
﴿عليكم آيات الله﴾ أي علامات الملك الأعظم البينات
﴿وفيكم رسوله﴾ الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه
﴿ومن﴾ أي والحال أنه من
﴿يعتصم﴾ أي يجهد نفسه في ربط أموره
﴿بالله﴾ المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان. ولما
14
كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال:
﴿فقد هدى﴾ وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين
﴿إلى صراط مستقيم *﴾.
ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك بألسنتهم
﴿اتقوا الله﴾ أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام
﴿حق تقاته﴾ فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه
﴿ولا تموتن﴾ على حالة من الحالات
﴿إلا وأنتم مسلمون *﴾ أي منقادون أتم الانقياد، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد، وقوله سبحانه وتعالى:
﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ [التغابن: ١٦] في فروعه.
ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال:
﴿واعتصموا﴾ أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم
﴿بحبل الله﴾ أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به
15
إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح وهذا الدين مثاله فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله.
ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله:
﴿جميعاً﴾ لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله:
﴿ولا تفرقوا﴾ ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث
16
على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال:
﴿واذكروا نعمة الله﴾ الذي له الكمال كله
﴿عليكم﴾ يا من اعتصم بعصام الدين!
﴿إذا كنتم أعداء﴾ متنافرين أشد تنافر
﴿فألف بين قلوبكم﴾ بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم
﴿فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾ قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن.
ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال:
﴿وكنتم على شفا﴾ أي حرف وطرف
﴿حفرة من النار﴾ بما كنتم فيه من الجاهلية
﴿فأنقذكم منها﴾.
ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن يقول: لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان! -
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال
﴿يبين الله﴾ المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته
﴿لكم آياته﴾ وعظم الأمر
17
بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه. ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله:
﴿لعلكم تهتدون *﴾ أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه.
18
ولما عاب سبحانه وتعالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا بالنسبة إلى كل فرد فرد؛ أتبعه بقوله - منبهاً على الرضى بإيقاع ذلك في الجملة سواء كان بالبعض أو الكل كما هو شأن فروض الكفايات -:
﴿ولتكن منك أمة﴾ أي جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصداً بعضاً، حتى تكون أشد شيء ائتلافاً واجتماعاً في
18
كل وقت من الأوقات على البدل
﴿يدعون﴾ مجددين لذلك في كل وقت
﴿إلى الخير﴾ أي بالجهاد والتعليم والوعظ والتذكير.
ولما عم كل خير خص ليكون المخصوص مأموراً به مرتين دلالة على جليل أمره وعليّ قدره فقال:
﴿ويأمرون بالمعروف﴾ أي من الدين
﴿وينهون عن المنكر﴾ فيه بحيث لا يخلو وقت من الأوقات عن قوم قائمين بذلك، وهو تنبيه لهم على أن يلازموا ما فعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حين استفزهم الشيطان بمكر شأس بن قيس في التذكير بالأحقاد والأضغان والأنكاد، وإعلام بأن الذكرى تنفع المؤمنين.
ولما كان هذا السياق مفهماً لأن التقدير: فإنهم ينالون بذلك خيراً كثيراً، ولهم نعيم مقيم؛ عطف عليه مرغباً:
﴿وأولئك﴾ أي العالون الرتبة العظيمو النفع
﴿هم المفلحون *﴾ حق الإفلاح، فبين سبحانه وتعالى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش وتنعيم البدن ببعض المباحات، وإن كان الأكمل صرف الكل بالنية إلى العبادة.
19
ولما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال:
﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا﴾ بما ابتدعوه في أصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة. ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال:
﴿واختلفوا﴾ بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى.
ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال:
﴿من﴾ أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من
﴿بعد ما جاءهم﴾ وعظمه بإعرائه عن التأنيث
﴿البينات﴾ أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم.
ولما كان التقدير: فأولئك قد تعجلوا الهلاك في الدنيا فهم الخائبون،
20
عطف عليه قوله:
﴿وأولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿لهم عذاب عظيم *﴾ أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع، والآية من الاحتباك: إثبات
«المفلحون» أولاً يدل على
«الخاسرون» ثانياً، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً.
ولما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله
﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم﴾ [آل عمران: ٧٧] وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم؛ بين ذلك اليوم بقوله - بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم -:
﴿يوم تبيض وجوه﴾ أي بما لها من المآثر الحسنة
﴿وتسود وجوه﴾ بما عليها من الجرائر السيئة
﴿فأما الذين اسودت وجوههم﴾
21
بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً:
﴿أكفرتم﴾ يا سود الوجوه وعبيد الشهوات!
﴿بعد إيمانكم﴾ بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود
﴿فذوقوا العذاب﴾ أي الأليم العظيم
﴿بما كنتم تكفرون *﴾ وأنتم تعلمون، فإنكم في لعنة الله ماكثون
﴿وأما الذين ابيضت وجوهم﴾ إشراقاً وبهاء لأنهم آمنوا فأمنوا من العذاب
﴿ففي رحمة الله﴾ أي ثمرة فعل ذي الجلال والإكرام الذي هو فعل الراحم. لا في غير رحمته. ثم أجاب عن سؤال من كأنه قال: هل تزول عنهم كما هو حال النعم في الدنيا؟ بقوله - على وجه يفهم لزومها لهم في الدنيا والآخرة -:
﴿هم﴾ أي خاصة
﴿فيها خالدون﴾ فلذا كانوا يؤمنون، فالآية من الاحتباك: إثبات الكفر أولاً دل على إرادة الإيمان ثانياً، وإثبات الرحمة ثانياً دل على حذف اللعنة أولاً.
22
ولما حازت هذه الآيات من التهذيب وإحكام الترتيب وحسن السياق قصب السباق أشار إليها مع قربها بأداة البعد وأضافها إلى أعظم أسمائه فقال:
﴿تلك آيات الله﴾ أي هذه دلائل الملك الأعظم العالية الرتب البعيدة المتناول، ثم استأنف الخبر عنها في مظهر العظمة قائلاً:
﴿نتلوها﴾ أي نلازم قصها، وزاد في تعظيمها بعد المبتدأ بالمنتهي فقال:
﴿عليك﴾ ثم أكد ذلك بقوله:
﴿بالحق﴾ أي ثابتة المعاني راسخة المقاصد صادقة الأقوال في كل مما أخبرت به من فوزكم وهلاكهم من غير أن نظلم أحداً منهم
﴿وما الله﴾ أي الحائز لجميع الكمال
﴿يريد ظلماً﴾ قلَّ أو جلَّ
﴿للعالمين *﴾ أي ما ظلمهم ولا يريد ظلم أحد منهم، لأنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن ذلك، لا يتصور منه وهو غني عنه، لأن له كل شيء.
ولما كان أمرهم بالإقبال عليه ونهيهم عن الإعراض عنه ربما أوقع في وهم أنه غير قادر على ضبطهم أو محتاج إلى ربطهم أزال ذلك دالاً على أنه غني عن الظلم بقوله:
﴿ولله﴾ الملك الأعلى
﴿ما﴾ أي
23
كل شيء
﴿في السماوات و﴾ كل
﴿ما في الأرض﴾ من جوهر وعرض مِلكاً ومُلكاً. ولما كان المقصود سعة الملك لم يضمر لئلا يظن تخصيص الثاني بما في حيز الأول فقال:
﴿وإلى الله﴾ الذي لا أمر لأحد معه
﴿ترجع الأمور﴾ أي كلها، التي فيهما والتي في غيرهما، فلا داعي له إلى الظلم، لأنه غني عن كل شيء وقادر على كل شيء.
ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال - مادحاً لهذه الأمة ليمعنوا في رضاه حمداً وشكراً ومؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً:
﴿كنتم خير أمة﴾ أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً. ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال:
﴿أخرجت للناس﴾ ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله:
﴿تأمرون﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار
﴿بالمعروف﴾ أي كل ما عرفه الشرع وأجازه
24
﴿وتنهون عن المنكر﴾ وهو ما خالف ذلك، ولو وصل الأمر إلى القتال، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله:
﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير﴾ إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب، وللترمذي - وقال: حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه يقول في هذه الآية:
«أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه وتعالى» وللبخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«أنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام».
ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه ما زاده شرفاً، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه
25
الذي هو أساس كل خير فقال
﴿وتؤمنون﴾ أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون
﴿بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته، وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم فليس من هذه الأمة أصلاً، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً!
قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في خطبة كتاب الاستيعاب: روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول: لما دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء - انتهى.
ولما كان من المعلوم أن التقدير: وذلك خير لكم، عطف عليه
26
قوله:
﴿ولو آمن أهل الكتاب﴾ أي أوقعوا الإيمان كما آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك
﴿لكان﴾ أي الإيمان
﴿خيراً لهم﴾ إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت.
ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً:
﴿منهم المؤمنون﴾ أي الثابتون في الإيمان، ولكنهم قليل
﴿وأكثرهم الفاسقون *﴾ أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم. ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله:
﴿لن يضروكم﴾ ولما كان الضر- كما تقدم عن الحرالي - إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحوال، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام، ثم استثنى منه فقال:
﴿إلا أذى﴾ أي بألسنتهم، وعبر بذلك لتصوير مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة
﴿وإن يقاتلوكم﴾ أي يوماً من الأيام
﴿يولوكم﴾
27
صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب
﴿الأدبار﴾ أي انهزاماً ذلاً وجبناً.
ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال - عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم -:
﴿ثم لا ينصرون *﴾ أي لا يكون لهم ناصر من غيرهم أبداً وإن طال المدى، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً! لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك.
ولما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة، وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً:
﴿ضربت عليهم الذلة﴾ وهي الانقياد كرهاً، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه
﴿أين ما ثقفوا﴾ أي
28
وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال
﴿إلا﴾ حال كونهم معتصمين
﴿بحبل﴾ أي عهد وثيق مسبب للأمان، وهو عهد الجزية وما شاكله
﴿من الله﴾ أي الحائز لجميع العظمة
﴿وحبل من الناس﴾ أي قاطبة: الذي آمنوا وغيرهم، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى.
ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال:
﴿وبآءو﴾ أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح
﴿بغضب من الله﴾ الملك الأعظم، ملازمٍ لهم، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار قال:
﴿وضربت﴾ أي مع ذلك
﴿عليهم﴾ أي كما يضرب البيت
﴿المسكنة﴾ أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل، فكأنه قيل: لم استحقوا ذلك؟ فقيل:
﴿ذلك﴾ أي الإلزام لهم بما ذكر
﴿بأنهم﴾ أي أسلافهم الذي رضوا هم فعلهم
﴿كانوا يكفرون﴾ أي يجددون الكفر مع الاستمرار
﴿بآيات الله﴾ اي
29
الملك الأعظم الذي له الكمال كله، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم
﴿ويقتلون الأنبياء﴾ أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة الحكمة.
ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال:
﴿بغير حق﴾ أي يبيح قتلهم؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الكفر والقتل العظيمان
﴿بما عصوا وكانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يعتدون *﴾ أي يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر، فقال الأصفهاني: قال أرباب المعاملات: من ابتلى بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفرائض، ومن ابتلى بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر، والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآن، قال في السفر الثاني: وقال الله سبحانه
30
وتعالى جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة أخرى، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت، ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي.
31
ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك:
﴿ليسوا سوآء﴾ أي في هذه الأفعال، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً. ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم:
﴿من أهل الكتاب﴾ فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم
﴿أمة﴾ أي جماعة يحق لها أن تؤم
﴿قائمة﴾ أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه. غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه. ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال:
﴿يتلون﴾ أي
31
يتابعون مستمرين
﴿آيات الله﴾ أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها
﴿آناء الليل﴾ أي ساعاته
﴿وهم يسجدون *﴾ أي يصلون في غاية الخضوع. ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال:
﴿يؤمنون﴾ وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال:
﴿بالله﴾ أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول. وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها، لأنه الحامل على كل خير فقال:
﴿واليوم الآخر﴾ أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم.
ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيرهم فقال:
﴿ويأمرون بالمعروف﴾ أي مجددين ذلك مستمرين عليه
﴿وينهون عن المنكر﴾ لذلك، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم
32
في جميع أنواعه فقال:
﴿ويسارعون في الخيرات﴾ ولما كان التقدير: فأولئك من المستقيمين، عطف عليه:
﴿وأولئك﴾ أي العالو الرتبة
﴿من الصالحين *﴾ إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء، وأرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات.
ولما كان التقدير: فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى، يشكره لهم، عطف عليه قوله:
﴿وما تفعلوا﴾ أي أنتم
﴿من خير﴾ من إنفاق أو غيره
﴿فلن تكفروه﴾ بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى، وليكون على طريق المتكبرين. وعطف على ما تقديره: فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون، قوله:
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء
﴿عليم بالمتقين *﴾ من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم
33
على كل خير، فهو يثيبهم أعظم الثواب، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب، هذا على قراءة الخطاب، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته.
ولما رغبهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله، وأخبر أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذبون في ادعائهم أنهم على ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة المتقين المستغفرين بالأسحار التي هي أشرف آناء الليل وكان مما يمنع منه خوفُ الفقر والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال - واصفاً أضداد من تقدم، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم -: {إن الذين
34
كفروا} أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره
﴿لن تغني عنهم أموالهم﴾ أي وإن كثرت
﴿ولا أولادهم﴾ وإن عظمت
﴿من الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له
﴿شيئاً﴾ أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار - كما قال في أول السورة - سواءً.
ولما كان التقدير: فأولئك هم الخاسرون، عطف عليه قوله:
﴿وأولئك أصحاب النار﴾ أي هم مختصون بها، ثم استأنف ما يفيد ملازمتها فقال:
﴿هم فيها خالدون *﴾ ولما كان ربما قيل: فما حال ما يبدلونه في المكارم ويواسون به في المغارم؟ ضرب لذلك مثلاً جعله هباء منثوراً، ضائعاً وإن كثر بوراً، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، بقوله سبحانه وتعالى جواباً لهذا السؤال:
﴿مثل ما ينفقون﴾ أي من المال، وحقر قصدهم بتحقير محطه فقال:
﴿في هذه الحياة الدنيا﴾ أي على وجه القربة أو غيرها، لكونهم ضيعوا الوجه الذي به يقبل، وهو الإخلاص. ومثل إنفاقهم له ومثل حرث أصيب بالريح
﴿كمثل ريح فيها صر﴾ أي برد شديد
﴿أصابت حرث قوم﴾ موصوفين بأنهم
35
﴿ظلموا أنفسهم﴾ أي بالبناء على غير أساس الإيمان
﴿فأهلكته﴾ فمثل ما ينفقون في كونه لم ينفعهم في الدنيا بإنتاج ما أرادوا في الدنيا وضرهم في الدارين، أما في الدنيا فبضياعه في غير شيء، وأما في الآخرة فبالمعاقبة عليه لتضييع أساسه وقصدهم الفاسد به، مثل الزرع الموصوف فإنه لم ينفع أهله الموصوفين، بل ضرهم في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بما قصدوا به من المقصود الفاسد، ومثل إنفاقهم له في كونه ضرهم ولم ينفعهم مثل الريح في كونها ضرت الزرع ولم تنفعه، فلما كانت الريح الموصوفة أمراً مشاهداً جلياً جعلت في إهلاكها مثلاً لضياع أنفاقهم الذي هو أمر معنوي خفي، ولما كان الزرع المحترق أمراً محسوساً جعل فيما حصل له بعد التعب من العطب مثالاً لأمر معقول، وهو أموالهم في كون إنفاقهم إياها لم يثمر لهم شيئاً غير الخسارة والتعب، فالمثلان ضياع الرزع والإنفاق، وضياع الزرع أظهر فهو مثل لضياع الإنفاق لأنه أخفى، وقد بان أن الآية من الاحتباك: حذف أولاً مثل الإنفاق لدلالة الريح عليه، وثانياً الحرث لدلالة ما ينفق عليه.
ولما كان سبحانه وتعالى موصوفاً بأنه الحكم العدل القائم بالقسط وأنه لا ينسى خيراً فعل قال دفعاً لتوهم أن ذلك بخس:
﴿وما ظلمهم﴾ أي الممثل بهم والممثل لهم
﴿الله﴾ الملك الأعظم الغنيّ الغِِنى المطلق
36
لأنه المالك المطلق، وقد كفروا، أما الممثل لهم فبكونهم أنفقوا على غير الوجه الذي شرعه، وأما الممثل بهم فبكونهم لم يحرسوا زرعهم بالطاعات، وفي الآية دليل على أن أهل الطاعات تحرس ضوائعهم من الآفات وتخرق فيها العادات، ثم قال:
﴿ولكن﴾ لوما كان الممثل لأجلهم الذين كفروا أعم من أن يموتوا عليه أو يسلموا لم يعبر في الظلم بما تقتضيه الجبلة من فعل الكون وقال: الأساس بكفرهم، وأن ظلمهم مقصور على أنفسهم، لا يتعداها إلى غيرها وإن ظهر لإنفاقهم نكاية في عدوهم، فإن العاقبة لما كانت للمؤمنين كانت نكايتهم كالعدم، بل هي زيادة في وبالهم، فهي من ظلمهم لأنفسهم.
37
ولما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله:
﴿إن تمسسكم﴾ أي مجرد مس
﴿حسنة تسؤهم﴾ ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله:
﴿وإن تصبكم﴾ أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها
﴿سيئة يفرحوا بها﴾ ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال:
﴿وإن تصبروا وتتقوا﴾ أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى
﴿لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ ثم علل ذلك بقوله:
40
﴿إن الله﴾ أي ذال الجلال والإكرام
﴿بما يعملون محيط *﴾ أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله، والمعنى على قراءة الخطاب: بعملكم كله، فمن صبر واتقى ظفرته، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه.
ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عد المساءة، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور، مخاطباً لأعظم عباده فطنة وأقربهم إليه رتبة، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى:
﴿وإذ﴾ أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم
41
فنصرتم، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ثم في بدر، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ
﴿غدوت﴾ أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين!
﴿من أهلك﴾ أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين. وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء، أو في يوم الخميس لقتالكم. وبنى من
﴿غدوت﴾ حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال:
﴿تبوىء﴾ أي تنزل
﴿المؤمنين﴾ أي صبيحة يوم السبت وعبر بقوله:
﴿مقاعد﴾ إشارة إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقدم إلى كل أحد بالثبات في مركزه، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة، ثم ذكر علة ذلك فقال:
﴿للقتال﴾.
ولما كان التقدير: وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام
42
كثير خفي وجلي بقوله:
﴿والله﴾ أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته
﴿سميع﴾ أي لأقوالكم
﴿عليم *﴾ أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه، ولعله خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح - كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب﴾ [آل عمران: ١٠٠]، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليها - كما يأتي قريباً، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان: المساءة بالحسنة،
43
والفرح والمسرة بالمصيبة، فإذا برهن المتكلم على الثاني عليم ولا بد أنه حذف برهان الأول، وأنه إنما حذفه - وهو حكيم - لنكتة، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً - كما ترى - بعد محكمة ستذكر، وأطلق سبحانه وتعالى - كما عن الطبري وغيره - التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظر فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس وليلة الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرسونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرست المدينة الشريفة، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة: البقر المذبوحة، والثلم في سيفه، وإدخال يده في الدرع الحصينة، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم الرجال مواجهة والنساء والصبيان من فوق الأسطحة، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي، فلم يزل ناس ممن أكرمهم الله
44
بالشهادة - منهم أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - يلحون عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا على استكراههم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يأتيه الوحي، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال:
«ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه».
وفي رواية
«حتى يلاقي» فأتى الشيخين - وهما أطمان - فعرض بهما عسكره ففرغ مع غياب الشمس، ورآه المشركون حين نزل بهما، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة، واستعمل المشركون على حرسهم عكرمة بن أبي جهل، ثم أدلج من سحر ليلة السبت، وندب الأدلاء ليسيروا أمامه، وحانت صلاة الصبح في الشوط وهم بحيث يرون المشركين، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام، وصلى بأصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبح صفوفاً، فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال: أطاع الولدان، ومن لا رأي له وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا! وتبعهم عبد الله بن عمرو
45
بن حرام أبو جابر ابن عبد الله -أحد بني سلمة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً - يناشدهم الله في الرجوع، فلم يرجعوا فقال: أبعدكم الله! سيغني الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنكم، ورجع فوافق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف أصحابه، وكادت طائفتان من الباقين - وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة - أن تفشلا لرجوع المنافقين، ثم ثبتهم الله تعالى؛ ونزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال:
«لا يقاتلن أحد حتى نأمره!» وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين - جبيل هناك من ورائهم - وأوعز إليهم في أن لا يتغيروا منه حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه، حتى قال لهم:
«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تعينونا، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة، وانضحوا الخيل عنا إذا أتت من ورائنا» وبرز
46
صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه فشدوا فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم، وكان الخيل كلما أتت من وراء المسلمين نضحهم الرماة بالنبل فرجعوا فلما وقع الصحابة رضي الله عنهم في نهب العسكر خلى الرماة ثغرهم، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس: إن محمداً قد قتل، فانهزم الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يثبت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين - على اختلاف الأقوال، فاستمر يحاول بهم العدو، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب، وصرف الله العدو، فدفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، ورجع إلى المدينة الشريفة وقد أصابته الجراحة في
47
مواضع من وجهه بنفسي هو وأبي وأمي ووجهي وعيني.
ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق - كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة - من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله - مبدلاً من
﴿إذ غدوت﴾ دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك -:
﴿إذا همت طائفتان﴾ وكانا جناحي العسكر
﴿منكم﴾ أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس
﴿أن تفشلا﴾ أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا، كما رجع المنافقون
﴿والله﴾ أي والحال أن ذا الجلال والإكرام
﴿وليهما﴾ وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما،
48
أو يكون التقدير: فالعجب منهما كيف تعتمدان على غيره سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه
﴿و﴾ الحال أنه
﴿على الله﴾ أي الذي له الكمال كله وحده
﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة، أجمعون لينصرهم، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها: والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما، فتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً، وفي البخاري في التفسير عن جابر رضي الله عنه قال: فينا نزلت
﴿إذ همت طائفتين منكم أن تفشلا﴾ قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل:
﴿والله وليهما﴾.
49
ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً﴾ [آل عمران: ١٠]
﴿قل للذين كفروا ستغلبون﴾ [آل عمران: ١٢] ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير، مشيراً لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة، حثاً على ملازمة التوكل، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال - عاطفاً على ما تقديره: فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاً فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع
50
عنكم شيئاً -:
﴿ولقد نصركم الله﴾ بما له من صفات الجلال والجمال
﴿ببدر﴾ المشار إليها أول السورة بقوله تعالى:
﴿قد كان لكم آية في فئتين التقتا﴾ [آل عمران: ١٣] لما صبرتم واتقيتم.
ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال:
﴿وأنتم أذلة﴾ أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى:
﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠] كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً: دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى:
﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه﴾ [آل عمران: ٥٢]، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ، فلما خالف الرماة أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
51
وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب، وقتل بيده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبي بن خلف مبارزة، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار، ولم يرجع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم، وهم اثنان وعشرون رجلاً من سرواتهم وحمال راياتهم، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين: إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نصر
52
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد - انتهى.
كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة - وسيرته أصح السير في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام: يا محمد! قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى:
﴿نعمة﴾ في قوله:
﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم﴾ [آل عمران: ١٠٣] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو فعلاً، المقتضي لهدم الدين من أصله، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين﴾ [آل عمران: ١٤٩]، ويكون
53
إسناد الفعل في
﴿غدوت﴾، وأمثاله إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد الإسناد إلى الجمع، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم، ولشرف هذا الفعل، فكان الأليق إفراده به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع - عليهم.
ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال:
﴿فاتقوا الله﴾ أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي، والشكر فعل ينبىء عن تعظيم المنعم، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته فحينئذ التقوى من الشكر فإن أريد العموم انحل الكلام إلى: اشكروا لعلكم تشكرون، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: الواقية ما وقاك الشر، وكل شيء وقيت به شيئاً فهو وقاء له ووقاية، وقوله سبحانه وتعالى:
﴿لعلكم تتقون﴾ قال ابن عرفة - أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار - انتهى.
فاتضح أن حقيقة
﴿واتقوا﴾ : اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وأن
54
سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر - والله أعلم - أن اتقوا بمعنى: خافوا - مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب، فالمعنى: خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى: اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة: إن المعنى: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي، ويجوز أن يكون: لعلكم تزدادون نعماً فتشكرون عليها - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم.
ولما اشتملت هذه القصة على المصيبة التي سيقص الله كثيراً منها، وهي مستوفاة في السير كان أنسب من قصها وبيان ما اتفق لها - لوعظ من يأتي - البداءةُ بتذكير من باشرها بما وعدهم الله به على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وقوع القتال من النصر المشروط بالصبر
55
والتقوى تنبيهاً لهم على أن الخلل من جهتهم أتى، ثم وعظمهم بالنهي عما منعهم النصر، والأمر بما يحصله لهم كما سيحثهم على ذلك بما يقص عليهم من نبأ من قاتل مع الأنبياء قبلهم بأنهم لما أصابهم القتل لم يهنوا وعلموا أن الخلل من أنفسهم، فبادروا إلى إصلاحه بأفعال المتقين من الصبر والتضرع والإقرار بالذنب، فقال - مبدلاً من
﴿إذ غدوت﴾ عوداً على بدء تعظيماً للأمر حثاً على النظر في موارده ومصادره والتدبر لأوائله وأواخره -:
﴿إذ تقول للمؤمنين﴾ أي الذين شاورتهم في أمر أحد - وفي غمارهم المنافقون - لما زلزلوا برجوع أكثر المنافقين به، حتى كاد بعض الثابتين أن يرجع ضعفاً وجبناً، مع ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرهم به من تلك الرؤيا التي أولها بذبح يكون في أصحابه، ليكون إقدامهم على بصيرة، أو يصدهم ذلك عن الخروج إلى العدو كما كان ميل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكثر أصحابه وإعلامهم إلى المكث في المدينة قال منكراً آتياً بأداة التأكيد للنفي:
﴿ألن يكفيكم﴾ أي أيها المؤمنون
﴿أن يمدكم﴾ إمداداً خفياً - بما أشار إليه الإدغام
﴿ربكم﴾ أي المتولي لتربيتكم ونصر دينكم
﴿بثلاثة آلاف﴾
56
ثم عظم أمرهم بقوله:
﴿من الملائكة﴾ ثم زاد في إعظامهم بأنهم من السماء بقوله:
﴿منزلين *﴾ ثم تولى سبحانه وتعالى هو الجواب عنهم تحقيقاً للكفاية فقال:
﴿بلى﴾ أي يكفيكم ذلك، ثم استأنف قوله:
﴿إن تصبروا وتتقوا﴾ أي توقعوا الصبر والتقوى لله ربكم، فتفعلوا ما يرضيه وتنتهوا عما يسخطه
﴿ويأتوكم﴾ أي الكفار
﴿من فورهم﴾ أي وقتهم، استعير للسرعة التي لا تردد فيها، من: فارت القدر - إذا غلت
﴿هذا﴾ أي في هذه الكرة
﴿يمددكم﴾ أي إمداداً جلياً - بما أشار إليه إشارة لفظية: الفك، وإشارة معنوية: التسويم
﴿ربكم﴾ أي المحسن إليكم بأكثر من ذلك
﴿بخمسة آلاف من الملائكة﴾ ثم بين أنهم من أعيان الملائكة بقوله:
﴿مسومين *﴾ أي معلمين بما يعرف به مقامهم في الحرب، والظاهر من التعبير بالتسويم إفهام القتال، ومن الاقتصار على الإنزال عدمه، ويكون فائدة نزولهم البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم.
قال البغوي: قال ابن عباس ومجاهد: لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً.
ولما كان التقدير: وليس الإمداد بهم موجود للنصر، وكان قد قدم في أول السورة قوله:
﴿والله يؤيد بنصره من يشاء﴾ [آل عمران: ١٣] قال هنا
57
قاصراً للأمر عليه:
﴿وما جعله الله﴾ أي الإمداد المذكور وذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً
﴿إلا بشرى﴾.
وما كانت الهزيمة عليهم في هذه الكرة، وكان المقتول منهم أكثر قال:
﴿لكم﴾ لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم، ولمثل هذا قدم القلوب فقال:
﴿ولتطمئن﴾ وعلم أن التقدير - لتكون الآية من الاحتباك: لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن
﴿قلوبكم به﴾ أي الإمداد، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل: إلا وبشرى لكم وطمأنينتكم، فوجب تأخير ضميره عنهم، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر
58
وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة، ولذلك قال تعالى:
﴿وما النصر﴾ أي في ذلك غيره
﴿إلا من عند الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم.
ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال:
﴿العزيز﴾ الذي لا يغالب، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره - إن قاتل - إلى معونة أحد
﴿الحكيم *﴾ الذي يضع الأشياء في أتقن محالها من غير تأكيد أي الذي نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل، فاحذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان، وهذا بخلاف ما في قصة بدر في الأنفال وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بها من المقال مما اقتضاه هناك الحال، والحكيم رأس آية بإجماع أهل العلم - كما في الأنفال، ولما قرر الوعد ذكر ثمرته فقال معلقاً الجار بيمددكم:
﴿ليقطع﴾ أي بالقتل
﴿طرفاً﴾ أي طائفة من كرامهم، يهنون بهم
﴿من الذين كفروا﴾ أي ويهزم الباقين
﴿أو يكبتهم﴾ أي يكسرهم ويردهم بغيظهم مع الخزي
59
أذلاء، وأصل الكبت صرع الشيء على وجهه
﴿فينقلبوا﴾ أي كلهم مهزومين
﴿خائبين *﴾ وذلك في كلتا الحالتين بقوتكم عليهم بالمد وضعفهم عنكم به، ويجوز تعليق
﴿ليقطع﴾ بفعل التوكل، أي فليتوكلوا عليه ليفعل بأعدائهم ما يشاءه من نصرهم عليهم، فيقبل بهم إلى الإسلام رغبة أو رهبة، أو يميتهم على كفرهم فيديم عذابهم مع عافيتهم منهم؛ ورأيت في سير الإمام محمد بن عمر الواقدي ما يدل على تعليقه بجعل من قوله:
﴿وما جعله الله إلا بشرى﴾ أو بقوله:
﴿ولتطمئن﴾ وهو حسن أيضاً.
60
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصاً على طلب الإدالة عليهم ليمثل بهم كما مثلوا بعمه حمزة وعدة من أصحابه رضي الله عنهم قال تعالى:
﴿ليس لك من الأمر﴾ أي فيهم ولا غيرهم
﴿شيء﴾ موسطاً له بين المتعاطفات، يعني من الإدالة عليهم بقتل أو هزيمة تدرك بهما ما تريد، بل الأمر له كله، إن أراد فعل بهم ما تريد، وإن أراد منعك منه بالتوبة عليهم أو إماتتهم على الكفر حتف الأنف فيتولى هو عذابهم، وذلك معنى قوله:
﴿أو يتوب عليهم﴾ أي كلهم بما يكشف عن قلوبهم من حجاب الغفلة فيرجعوا عما هم عليه من الظلم
﴿أو يعذبهم﴾ كلهم بأيديكم بأن تستأصلوهم فلا يفلت منهم أحد، أو يعذبهم هو من
60
غير واسطتكم بما يستدرجهم به مما يوجب إصرارهم حتى يموتوا على الكفر مع النصر عليكم وغيره مما هو لهم في صورة النعم الموجب لزيادة عقابهم. ثم علل الأقسام الأربعة بقوله:
﴿فإنهم ظالمون *﴾ وفي المغازي من صحيح البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله قال:
«كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ - إلى قوله: ﴿ظالمون﴾ » ورواه موصولاً في المغازي والتفسير والاعتصام عن سالم عن أبيه بغير هذا اللفظ، وفيه
«اللهم العن فلاناً وفلاناً».
ولما كان التقدير: بل الأمر له سبحانه وحده عطف عليه قوله - مبيناً لقدرته على ما قدم من فعله بهم على وجه أعم -:
﴿ولله﴾ أي الملك الأعظم وحده
﴿ما في السماوات﴾ أي كلها على عظمها من عاقل وغيره، وعبر ب
«ما» لأن غير العاقل أكثر وهي به أجدر
﴿وما في الأرض﴾ كذلك مِلكاً ومُلكاً فهو يفعل في مِلكه ومُلكه ما يشاء، وفي التعبير ب
«ما» أيضاً إشارة إلى أن الكفرة الذين السياق لهم في عداد ما لا يعقل.
61
ولما كانت الأقسام كلها راجعة إلى قسمين: عافية وعذاب، قال - مترجماً لذلك مقرراً لقوله:
﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ [آل عمران: ١٢٨] :
﴿يغفر لمن يشاء﴾ أي منهم ومن غيرهم فيعطيه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة ويغنيه عن الربا وغيره
﴿ويعذب من يشاء﴾ بالمنع عما يريد من خيري الدارين، لا اعتراض عليه، فلو عذب الطائع ونعّم العاصي لحسن منه ذلك، ولا يقبح منه شيء، ولا اعتراض بوجه عليه، هذا مدلول الآية وهو لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة غيظه عليهم في الله جديراً بالانتقام منهم بدعاء أو غيره أشار له سبحانه إلى العفو للحث على التخلق بأخلاق الله الذي سبقت رحمته غضبه بقوله:
﴿والله﴾ أي المختص بالجلال والإكرام
﴿غفور رحيم *﴾ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً، مكرم بعد ذلك بأنواع الإكرام، فانطبق ذلك على إيضاح
﴿ليس لك﴾ [آل عمران: ١٢٨] وإفهامه الموجب لاعتقاد أن يكون له سبحانه وتعالى الأمر
62
وحده.
ولما أنزل عليه ذلك وما في آخر النحل مما للصابرين والعافين حرم المثلة واشتد نهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، فكان لا يخطب خطبة إلا منع منها.
ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان، صدقوا إيمانكم بأن
﴿لا تأكلوا الربا﴾ أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل
﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة: ٣] ؛
﴿والمنفقين والمستغفرين بالأسحار﴾ [آل عمران: ١٧] ؛
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ [آل عمران: ٩٢] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها
63
بطريق الإشارة بدلالة التضمن، إذ المطلق جزء المقيد، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان
﴿فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله﴾ [البقرة: ٢٧٨]،
﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون﴾ [البقرة: ٨٦].
ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة، دلالة على تناهي الحب للتكاثر، ناسب المقام ربا التضعيف فقال: - أو يقال: لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً، فيجر إلى الربا المضاعف، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال -:
﴿أضعافاً مضاعفة﴾ أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها،
64
وعلى مطلق الزيادة بتضمنها، وهي من وادي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه»
وختام الآية بقوله:
﴿واتقوا الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿لعلكم تفلحون﴾ مشير إلى ذلك، أي واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم، ويمنعكم إن تساهلتم، فهو نهي عن الربا بصريح العبارة، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة، وهي من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها، والناظم حكيم في سلك هذه القصة ووضعها في هذا الموضع، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد، فقد كان حلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه
65
حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل
﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ [النحل: ١٢٦] إلى آخرها، ولم توضع هنا، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود في سننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته: سليه: حمية لقومك أو غضباً لهم، أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة. والقصة في جزء عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي - بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم
66
عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ أبي داود، ولفظ العيشي: إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري: أقيش - كان له ربا في الجاهلية، وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم، فجاء ذات يوم ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زاد الدينوري: وأصحابه بأحد فقال: أين سعد ابن معاذ؟ وقال العيشي: فقال لقومه: أين سعد بن معاذ؟ قالوا: هو بأحد، قال الدينوري: فقال: أين بنو أخيه؟ قالوا: بأحد، فسأل عن قومه، فقالوا: بأحد، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته، ثم أتى أحداً؛ وقال الدينوري: ثم ذهب إلى أحد، فلما رآه السملمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت! فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً، فدخل عليه سعد بن معاذ فقال - يعني لامرأته -: سليه! وقال العيشي: فقال لأخته: ناديه، فقولي؛ وقال الدينوري: فقالت: أجئت غضباً لله ورسوله أم حمية وغضباً لقومك؟ فنادته، فقال: جئت غضباً لله ورسوله! فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط؛ وقال الدينوري: قال أبو هريرة: ودخل الجنة، وما صلى لله صلاة.
ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط؛ وقال الواقدي: أخبروني برجل يدخل الجنة
67
لم يسجد لله قط، فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: هو أخو بني عبد الأشهل؛ وقال ابن إسحاق: فإذا لم يعرفه الناس سألوا: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله تعالى عنه؛ زاد ابن إحساق: قال الحصين - يعني شيخه: فقلت لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيف فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم! ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث! فسألوه ما جاء به، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم لم يلبث أن
68
مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«إنه لمن أهل الجنة» والمعنى على هذا: يا أيها الذين يريدون الإيمان! لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان ورسوخ الإذعان في أنفسهم والإيقان بمر الزمان! افعلوا مثل فعله ساعة أسلم في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً، ومن أقبل عليها فاتته بذل وإن كان كثيراً جليلاً، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء، ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة،
69
ويلزم من ترحيمه تحريم ربا الأضعاف، ثم نص عليه في هذه الآية، فصار محرمأً مرتين: مفهوماً ومنطوقاً، مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها.
70
ولما كان الفائز بالمطالب قد لا يوقي المعاطب قال تعالى:
﴿واتقوا النار﴾ أي إن لم تكونوا ممن يتقيه سبحانه لذاته
﴿التي أعدت﴾ أي هيئت
﴿للكافرين *﴾ أي بالله باستحلال الربا وغيره بالذات، وللكافرين بالنعمة عصياناً بالعرض. ولما كان الفائز السالم قد لا يكون مقرباً قال اتباعاً للوعيد بالوعد:
﴿وأطيعوا الله﴾ ذا الجلال والإكرام
﴿والرسول﴾ أي الكامل في الرسلية كمالاً ليس لأحد مثله، أي في امتثال الأوامر واجتناب النواهي بالإخلاص
﴿لعلكم ترحمون *﴾ أي لتكونوا على رجاء وطمع في أن يفعل بكم فعل المرحوم بالتقريب والمحبة وإنجاز كل ما وعد على الطاعة من نصره وغيره.
ولما نهى عما منع النصر بالنهي عن الربا، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا، المشار إلى ذمها في قوله تعالى:
﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين﴾ [آل عمران: ١٤]، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعة فيه
70
توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله:
﴿بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم﴾ [آل عمران: ١٢٥]،
﴿وإن تصبرو وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠] الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعائم هذه السورة
﴿قل أأنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا﴾ [آل عمران: ١٥]، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده، وإلى ما يبيح الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى:
﴿واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ [آل عمران: ١٣٠] الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجهاد وغيره في السراء والضراء، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل او جراحة، والعفو عمن
71
يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب، فإنه وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال:
«ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا: خيراً! أخ وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبالاستغفار عنعمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء، وعن ظلم النفس من محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو يغر ذلك مما أراد الله تعالى فقال تعالى:
﴿وسارعوا﴾ أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً
﴿إلى مغفرة من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب
﴿وجنة﴾ أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل
72
الثواب، ثم بين عظمها بقوله:
﴿عرضها السماوات والأرض﴾ أي كعرضهما، فكيف بطولها، ويحتمل أن يكون كطولهما، فهي أبلغ من آية الحديد - كما يأتي لما يأتي، وعلى قراءة
﴿سارعوا﴾ بحذف الواو يكون التقدير: سارعوا بفعل ما تقدم، فهو في معناه، لا مغائر له.
ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله:
﴿أعدت﴾ أي الآن وفرغ منها
﴿للمتقين *﴾ وهم الذين صارت التقوى شعارهم، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة، ثم وصف المتقين بما تضمن تفصيل الطاعة المأمور بها قبل إجمالاً على وجه معرف بأسباب النصر إلى آخر ما قص من خبر الأنبياء الماضين ومن معهم من المؤمنين بادئاً بما هو أشق الأشياء ولا سيما في ذلك الزمان من التبر ومن المال الذي هو عديل الروح فقال:
﴿الذين ينفقون﴾ أي مما آتاهم الله، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة
﴿في السراء والضراء﴾ أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء. ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال:
﴿والكاظمين﴾ أي الحابسين
﴿الغيظ﴾ عن
73
أن ينفذوه بعد أن امتلؤوا منه.
ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله:
﴿والعافين﴾ وعمم في الحكم بقوله:
﴿عن الناس﴾ أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم. ولما كان التقدير: فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله:
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿يحب المحسنين *﴾ أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما أخبر أنها للمحسنين إلى الغير ومن قاربهم أخبر أناه لمن دونهم في الرتبة من التائبين المحسنين إلى أنفسهم استجلاباً لمن رجع عن أحد من المنافقين ولغيرهم من العاصين فقال:
﴿والذين إذا فعلوا﴾ أي باشروا عن علم أوجهل فعله
﴿فاحشة﴾ أي من السيئات الكبار
﴿أو ظلموا أنفسهم﴾ أي بأي نوع كان من الذنوب، لتصير الفاحشة موعوداً بغفرانها بالخصوص وبالعموم
﴿ذكروا الله﴾ أي بما له من كمال العظمة فاستحيوه وخافوه
﴿فاستغفروا﴾ الله، أي فطلبوا المغفرة بالتوبة بشرطها
﴿لذنوبهم﴾ أي فإنه يغفر لهم
74
لأنه غفار لمن تاب.
ولما كان هذا مفهماً لأنه تعالى يغفر كل ذنب أتبعه تحقيق ذلك ونفي القدرة عليه عن غيره، لأن المخلوق لا يمضي غفرانه لذنب إلا إذا كان مما شرع الله غفرانه، فكان لا غافر في الحقيقة إلا الله قال مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين:
﴿ومن يغفر الذنوب﴾ أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها
﴿إلا الله﴾ أي الملك الأعلى. ولما كان سبحانه وتعالى قد تفضل برفع القلم عن الغافل قال:
﴿ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون *﴾ أي إنهم على ذنب.
ولما أتم وصف السابقين وهم المتقون واللاحقين وهم التائبون قال - معلماً بجزائهم الذين سارعوا إليه من المغفرة والجنة مشيراً إليهم بأداة البعد تعظيماً لشأنهم على وجه معلم بأن أحدأً لا يقدر الله حق قدره -:
﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة
﴿جزآؤهم مغفرة﴾ أي لتقصيرهم أو لهفواتهم أو لذنوبهم، وعظمها بقوله:
﴿من ربهم﴾ أي المسحن إليهم بكل إحسان، وأتبع ذلك للإكرام فقال:
﴿وجنات﴾ أيّ جنات، ثم بين عظمها بقوله:
﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ حال كونكم
﴿خالدين فيها﴾ هي أجرهم على عملهم
﴿ونعم أجر العاملين *﴾ هي، هذا على تقدير أن تكون الإشارة لجميع الموصوفين، وإن كانت للمستغفرين خاصة فالأمر واضح في نزول رتبتهم عمن قبلهم.
75
ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل، والترهيب مما يوقع فيه، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد، فبدأ بالسبب الأقوى، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً، فقال تعالى معللاً للأمر بالمسارعة إلى المغفرة:
﴿قد خلت﴾ ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال:
﴿من قبلكم﴾ اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم
﴿سنن﴾ أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين، وأحوال وطرائق كانت للفريقين، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد
﴿فسيروا في الأرض﴾ أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير، وتعتبروا من العين بالأثر، وتقرنوا بين النقل والنظر، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله:
﴿فانظروا﴾ أي نظر اعتبار، ونبه على
76
عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال:
﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر
﴿المكذبين *﴾.
ولما تكفلت هذه الجمل بالهداية إلى سعادة الدارين نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله على طريق الاستفتاح:
﴿هذا بيان﴾ أي يفيد إزالة الشبه
﴿للناس﴾ أي المصدقين والمكذبين
﴿وهدى﴾ أي إرشاد بالفعل
﴿وموعظة﴾ أي ترقيق
﴿للمتقين*﴾.
77
ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال - ويجوز أن يعطف على ما تقديره: فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل -:
﴿ولا تهنوا﴾ أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر
﴿ولا تحزنوا﴾ أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم
﴿و﴾ الحال أنكم
﴿أنتم الأعلون﴾ أي في الدارين
﴿إن كنتم مؤمنين *﴾ أي إن كان الإيمان - وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله - لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛
77
لأنكم بين إحدى الحسنيين - كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر والتوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً.
ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله:
﴿إن يمسسكم قرح﴾ أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم
﴿فقد مس القوم﴾ أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر
﴿قرح مثله﴾ أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر، على أنه كما أنه ظفرهم - بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن - بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم، ويوم أحد بالقتل
78
والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق، ترجون من الله ما لا يرجون، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر
﴿وتلك الأيام﴾ ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله:
﴿نداولها بين الناس﴾ أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى.
ولما كان التقدير: ليدال على من كانت له الدولة، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله:
﴿وليعلم الله﴾ أي المحيط بجميع الكمال
﴿الذين آمنوا﴾ أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم، ومعنى
﴿ليعلم﴾ أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم
﴿ويتخذ منكم شهداء﴾ أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة، لا غيبة فيها، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم
79
أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره، فإن الله يحب المؤمنين، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء
﴿والله﴾ أي الملك الأعلى
﴿لا يحب الظالمين *﴾ أي الذين يخالف فعلهم قولهم، فهو لا يستشهدهم، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب، لئلا يحزنوا على ما أصابهم، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو، والآية من الاحتباك: إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً.
ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله:
﴿وليمحص﴾ أي وليطهر
﴿الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام
﴿الذين أمنوا﴾ أي إن أصيبوا، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم
﴿ويمحق الكافرين *﴾ أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من
80
الرجس، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار. ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى: أحسبتم أنه لا يفعل ذلك، عادله بقوله:
﴿أم حسبتم﴾ أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه
﴿أن تدخلوا الجنة﴾ أي التي أعدت للمتقين
﴿ولما يعلم الله﴾ أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم
﴿الذين جاهدوا منكم﴾ أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى
﴿ويعلم الصابرين *﴾ أي الذين شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان.
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: فلقد كنتم تقولون: لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً، عطف عليه قوله:
﴿ولقد﴾ ويجوز أن يكون حالاً من فاعل
﴿حسبتم﴾ ﴿كنتم تمنون الموت﴾ أي الحرب، عبر عنها به لأنها سببه، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة
81
﴿من قبل أن تلقوه﴾ أي رغبة فيما أعد الله للشهداء
﴿فقد رأيتموه﴾ أي برؤية قتل إخوانكم، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب، وللموت نفسه برؤية أسبابه القريبة، وقوله:
﴿وأنتم تنظرون *﴾ بمعنى رؤية العين، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة.
82
ولما كان التقدير: فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً: ألا إن محمداً قد قتل! ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال:
﴿وما محمد إلا رسول﴾ أي من شأنه الموت، لا إله، ثم قرر المراد من السياق بقوله:
﴿قد خلت﴾ أي بمفارقة أممهم، إما بالموت أو الرفع إلى السماء، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال:
﴿من قبله الرسل﴾ أي فيسلك سبيلهم، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم.
ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله:
﴿أفإن﴾ ولما كان الملك القادر على ما يريد
82
لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه، وكان في علمه سبحانه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت موتاً - لكونه على فراشه، وقتلاً - لكونه بالسم، قال:
﴿مات﴾ أي موتاً على الفراش
﴿أو قتل﴾ أي قتلاً
﴿انقلبتم﴾ أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين! ثم قرر المعنى بقوله:
﴿على أعقابكم﴾ لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن
﴿ومن﴾ أي انتقلتم والحال أنه من
﴿ينقلب على عقبيه﴾ أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه
﴿فلن يضر الله﴾ أي المحيط بجميع العظمة
﴿شيئاً﴾ لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده، فلو أراد لهداهم أجمعين، ولو أراد أضلهم أجمعين، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله، وسيجزي الله الشاكرين، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله
﴿وسيجزي الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿الشاكرين *﴾ أي كلهم، فالآية من الاحتباك: أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً.
83
ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه؛ أشار إلى ذلك بقوله:
﴿وما كان لنفس﴾ أي من الأنفس كائنة من كانت
﴿أن تموت﴾ أي بشيء من الأشياء
﴿إلا بإذن الله﴾ أي بعلم الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها
«كتب لكل نفس عمرها» ﴿كتاباً مؤجلاً﴾ أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات، ولا يتأخر عنه بفرار أصلاً.
ولما كان المعنى: فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله، والحامل على الإحجام إيثار الدنيا؛ عطف على ذلك قوله:
﴿ومن يرد ثواب الدنيا﴾ أي بعمله - كما افهمه التعبير بالثواب، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله
﴿نؤته منها﴾ أي ما أراد، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا: وسنردي الكافرين ولكنه طواه رفقاً لهم
﴿ومن يرد ثواب الآخرة﴾ أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال:
84
﴿نؤته﴾ ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال:
﴿منها﴾ أي وسنجزيه لشكره، وهو معنى قوله:
﴿وسنجزي الشاكرين *﴾ لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل، وأوضح بحال الزلل، وكان التقدير بعد انقضائها: فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد، فكانوا على هذين القسمين، فأثبنا الطائع وعذبنا العاصي، ولم يضرنا ذلك شيئاً، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله:
﴿وكأين﴾ وهي بمعنى كم، وفيها لغات كثيرة، قرىء منها في العشر بثنتين: الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة، ولعلها أبلغ - لأنه عوض عن الحرف المحذوف - من المشهورة بالمد، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب؛ وفيها كلام كثير - في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه
85
الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها - استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في
﴿كأين﴾، وقال سبحانه:
﴿من نبي﴾ لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله:
﴿قتل﴾ أي ذلك النبي حال كونه
﴿معه﴾ لكن الأرجح إسناد
﴿قتل﴾ إلى
﴿ربيون﴾ لموافقته قراءة الجماعة - سوى الحرميين وأبي عمرو -: قاتل معه
﴿ربيون﴾ أي علماؤهم ورثة الأنبياء، وعلى منهاجهم
﴿كثير فما﴾ أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة -: قتل الربيون، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم
﴿وهنوا﴾ أي ضعفوا عن عملهم
﴿لما أصابهم في سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم، أو لإخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله
﴿وما ضعفوا﴾ أي
86
مطلقاً في العمل ولا في غيره
﴿وما استكانوا﴾ أي وما خضعوا لأعدائهم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم - تعريضاً بمن قال: اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، بل صبروا، فأحبهم الله لصبرهم
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿يحب الصابرين *﴾ أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه.
ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال:
﴿وما كان﴾ أي شيء من القول
﴿قولهم﴾ أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم
﴿إلا أن قالوا﴾ أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه
﴿ربنا اغفر لنا ذنوبنا﴾ أي التي استوجبنا بها الخذلان
﴿وإسرافنا في أمرنا﴾ هضماً لأنفسهم، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله:
﴿أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم﴾ [آل عمران: ١٣٥].
87
ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا:
﴿وثبت أقدامنا﴾ إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب، والثبات من ثمرات الطاعة - إنما تقاتلون الناس بأعمالكم - ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله:
﴿وانصرنا على القوم الكافرين *﴾.
88
فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال
﴿فأتاهم الله﴾ المحيط علماً وقدرةً
﴿ثواب الدنيا﴾ أي بأن قبل دعاءهم بالنصر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوال شبهات الشر.
ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لا بد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً، لأنها دار الأكدار؛ أعراه من وصف الحسن، وخص الآخرة به فقال:
﴿وجسن ثواب الآخرة﴾ أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا، وحقيقة في الآخرة، فإنهم أحسنوا في هذا الفعال والمقال، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله، فأحبهم
88
لإحسانهم
﴿والله﴾ المحيط بصفات الكمال
﴿يحب المحسنين *﴾ كلهم، فهو جدير بأن يفعل بهم كل جميل ولذلك رفع منزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال:
﴿نؤته منها﴾ [آل عمران: ١٤٥] فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية
﴿ولقد كنتم تمنون الموت﴾ [آل عمران: ١٤٣] ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم إليه في قولهم
﴿ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم﴾ [آل عمران: ١٣٥] وثبات الإقدام إشارة إلى
﴿وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران: ١٣٩] وإلى أن ثبات القدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً لهم عن الالتفات إلى غيره، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية
﴿ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها﴾ [آل عمران: ١٤٥] وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، لأن علمه محيط، وكرمه لا يحد، وخزائنه لا تنفد، بل
89
لا تنقص، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية - وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب - التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما وعظوا به قبل قص القصة، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد - وهم خير أمة أخرجت للناس - أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيما عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم.
ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان
﴿إن تطيعوا﴾ بخضوع واستئمان أو غيره
﴿الذين كفروا﴾ أي هذا الفريق منهم أو غيره
﴿يردوكم على أعاقبكم﴾ بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين
90
﴿فتنقلبوا خاسرين *﴾ في جميع أموركم في الدارين، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار
﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب﴾ [آل عمران: ١٠٠]، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض - والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلا تطيعوهم، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم مؤمنين، عطف عليه قوله:
﴿بل الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿مولاكم﴾ مخبراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله:
﴿وهو خير الناصرين *﴾ أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره - كائناً من كان - من إذلاله ثم قرر ذلك بقوله محققاً للوعد:
﴿سنلقي﴾ أي بعظمتنا
﴿في قلوب الذين كفروا الرعب﴾ أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين، ثم بين سبب ذلك فقال:
﴿بما أشركوا بالله﴾ أي ليعلموا
91
قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له، وبين بقوله:
﴿ما لم ينزل﴾ أي في وقت من الأوقات
﴿به سلطاناً﴾ أنه لا حجة لهم في الإشراك، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له، ومادة سلط ترجع إلى القوة، ولما كان التقدير: فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به، عطف عليه:
﴿ومأواهم النار﴾ ثم هوّل أمرها بقوله:
﴿وبئس مثوى الظالمين *﴾ أي هي، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.
ولما كانت السين في
﴿سنلقي﴾ مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى - عطفاً على قوله:
﴿بلى إن تصبروا وتتقوا﴾ [آل عمران: ١٢٥]، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل
﴿ولقد نصركم الله ببدر﴾ [آل عمران: ١٢٣] كما مضى -:
﴿ولقد صدقكم الله وعده﴾ أي في قوله
﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم﴾ [آل عمران: ١٢٠]
﴿إذ تحسونهم﴾ أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم
﴿بإذنه﴾ فإن الحسن بالفتح: القتل والاستئصال - قاله في القاموس. ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون
92
رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن:
﴿حتى إذا فشلتم﴾ أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي! فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم - كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك | إن كنت جاهلة بما لم تعلمي |
إذ لا أزال على رحالة سابح | نهد تعاوره الكماة مكلم |
طوراً يعرض للطعان وتارة | يأوي إلى حصد القسي عرموم |
يخبرك من شهد الوقيعة أنني | أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم |
وقال يفاخر بقومه كلهم:إنا إذا حمس الوغى نروي القنا | ونعف عند مقاسم الأنفال |
ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال:
﴿وتنازعتم﴾ أي بالاختلاف، وأصله من نزع بعض شيئاً من
93
يد بعض
﴿في الأمر﴾ أي أمر الثغر المأمور بحفظه
﴿وعصيتم﴾ أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر. وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال:
﴿من بعد ما أراكم ما تحبون﴾ أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم.
ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله:
﴿منكم من يريد الدنيا﴾ أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها. ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال:
﴿ومنكم من يريد الآخرة﴾ وهم الثابتون في مراكزهم، لما يعرجوا على الدنيا.
ولما كان التقدير جواباً لإذا: سلطهم عليكم، عطف عليه قوله:
﴿ثم صرفكم عنهم﴾ أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة
﴿ليبتليكم﴾ أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء. ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج
94
للقلوب عطف على قوله
﴿صرفكم﴾ ﴿ولقد عفا عنكم﴾ أي تفضلاً عليكم لإيمانكم
﴿والله﴾ الذي له الكمال كله
﴿ذو فضل على المؤمنين *﴾ أي كافة، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.
95
ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال:
﴿إذ﴾ أي صرفكم وعفا عنكم حين
﴿تصعدون﴾ أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل
﴿ولا تلوون﴾ أي تعطفون
﴿على أحد﴾ أي من قريب ولا بعيد
﴿والرسول﴾ أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية
﴿يدعوكم في أخراكم﴾ أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات - وثوقاً بوعد الله ومراقبة له يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة:
«إليّ عباد الله! أنا رسول الله! إليّ إليّ عباد الله» كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي
95
وعدو عدماً؛ وإنما قلت: إن معنى ذلك الانهزام، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلاً.
ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى:
﴿فأثابكم﴾ أي جعل لكم ربكم ثواباً
﴿غماً﴾ أي باعتقادكم قتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً
﴿بغم﴾ أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة، وسماه - وإن كان في صورة العقاب - باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سالم حتى كأنهم - كما قال بعضهم - لم تصبهم مصيبة، فهو من الدواء بالداء، ثم علله بقوله:
﴿لكيلا تحزنوا على ما فاتكم﴾ أي من النصر والغنيمة
﴿ولا ما أصابكم﴾ أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك
96
بالسرور بحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال - عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرىء أدواءكم -:
﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة
﴿خبير بما تعملون *﴾ أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها، وبما يصلح من جزائه ودوائه، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء، لأنه الفاعل القادر المختار.
ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله:
﴿ثم أنزل عليكم﴾ ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال:
﴿من بعد الغم﴾ أي المذكور وأنتم في نحر العدو
﴿أمنة﴾ أي أمناً عظيماً، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله:
﴿نعاساً﴾ دليلاً قطعياً فإنه لا يكون إلا من أمن؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه
97
قال:
«غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه» ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله:
﴿يغشى طائفة منكم﴾ وهم المؤمنون، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله:
﴿وطائفة﴾ أي أخرى من المنافقين
﴿قد أهمتهم أنفسهم﴾ لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور، ثم فسر همهم فقال:
﴿يظنون بالله﴾ المحيط بصفات الكمال
﴿غير الحق﴾ أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام
﴿ظن الجاهلية﴾ أي الذين لا يعلمون - من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره - ما يعلم أتباع الرسل. ثم فسر الظن بقوله:
﴿يقولون﴾ أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا
﴿هل لنا من الأمر﴾ أي المسموع، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله:
﴿من شيء﴾ فكأنه قيل: فماذا يقال لهم؟ فقيل:
﴿قل﴾ أي لهم رداً عليهم احتقاراً
98
بهم
﴿إن الأمر﴾ أي الحكم الذي لا يكون سواه
﴿كله لله﴾ أي الذي لا كفوء له، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء، شئتم أو أبيتم، غزوتم أو قعدتم، ثبتم أو فررتم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله:
﴿إن يمسسكم قرح﴾ [آل عمران: ١٤٠] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله، حتى وصل إلى هنا، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله:
﴿يخفون﴾ أي يقولون ذلك مخفين
﴿في أنفسهم ما لا يبدون لك﴾ لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال:
﴿يقولون لو كان لنا من الأمر﴾ أي المسموع
﴿شيء ما قتلنا ههنا﴾ لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله:
﴿قل لو كنتم في بيوتكم﴾ أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم
99
أحد
﴿لبرز الذين كتب عليهم القتل﴾ أي في هذه الغزوة
﴿إلى مضاجعهم﴾ أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله:
﴿ليبتلي﴾ أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر: إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم
﴿وليبتلي الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري
﴿ما في صدوركم﴾ أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية
﴿وليمحص ما في قلوبكم﴾ اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها. وختم بقوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء
﴿عليم بذات الصدور *﴾ مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا.
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك، عفا عنهم سبحانه
100
وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية. لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم - كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.
101
ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم:
﴿إن الذين تولوا منكم﴾ أي عن القتال ومقارعة الأبطال
﴿يوم التقى الجمعان﴾ أي من المؤمنين والكفار
﴿إنما استزلّهم﴾ أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي
﴿الشيطان﴾ أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة
﴿ببعض ما كسبوا﴾ أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال،
101
فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله:
﴿ولقد عفا الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿عنهم﴾ لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال:
﴿إن الله غفور﴾ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً. ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله:
﴿حليم *﴾ أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم - كما تقدم - حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا.
ولما كان قولهم: إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة - كما
«كان رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأكابر من أصحابه» لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم
102
وتعاظم أسفهم عليهم. كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر، ولما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أظهروا الإقرار بالإيمان! صدقوا قولكم بأن
﴿لا تكونوا كالذين كفروا﴾ أي بقلوبهم على وجه الستر
﴿وقالوا﴾ أي ما فضحهم
﴿لإخوانهم﴾ أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً
﴿إذا ضربوا﴾ أي سافروا مطلق سفر
﴿في الأرض﴾ أي لمتجر أو غيره
﴿أو كانوا غزّى﴾ أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره جمع غازٍ، فماتوا أو قتلوا
﴿لو كانوا عندنا﴾ أي لم يفارقونا
﴿ما ماتوا وما قتلوا﴾ وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل
ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله:
«قالوا» وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله:
﴿ليجعل الله﴾ أي الذي لا كفوء له
﴿ذلك﴾ أي القول أو الانفراد به عن مشارك
103
﴿حسرة في قلوبهم﴾ أي باعتقاده وعدم المواسي فيه وعلى تقدير التعليق ب
«قالوا» يكون من باب التهكم بهم لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء
﴿والله﴾ أي لا تكونوا مثلهم والحال.
أو قالوا ذلك والحال. أن الذي له الإحاطة الكاملة
﴿يحيي﴾ أي من أراد في الوقت الذي يريد
﴿ويميت﴾ أي من أراد إذا أراد لا يغني حذره من قدره
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدره وعلماً
﴿بما تعملون﴾ أي بعملكم وبكل شيء منه
﴿بصير *﴾ وعلى كل شيء منه قدير لا يكون شيء منه بغير إذنه ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه.
ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون موجباً لتسليم الأمر للخالق بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال:
﴿ولئن﴾ وهو حال أخرى من لا
«تكونوا» ﴿قتلتم﴾ أي من أية قاتل كان
﴿في سبيل الله﴾
104
أي الملك الأعظم قتلاً
﴿او متم﴾ أي فيه موتاً على أية حالة كانت. ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال:
﴿لمغفرة﴾ أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب
﴿من الله﴾ أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة
﴿ورحمة﴾ أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب
﴿خير مما يجمعون *﴾ أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.
105
ولما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال:
﴿ولئن متم أو قتلتم﴾ أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل
﴿لإلى الله﴾ أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته. ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال:
﴿تحشرون *﴾ فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات: قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة. والله سبحانه وتعالى الموفق. وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو
105
جاهلي، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك:بكرت تخوفني الحتوف كأنني | أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل |
فأجبتها إن المنية منهل | لا بد أن أسقى بكأس المنهل |
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي | أني امرؤ سأموت إن لم أقتل |
ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما فعل بهم من الرفق والللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه، ثم اتهام من اتهمه. إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى:
﴿فبما رحمة من الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿لنت لهم﴾ أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من
106
الله الحائز لجميع الكمال، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك، وهم كانوا سبباً لاستخراجك؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق، ودلت زيادتها على أن تنوين
«رحمة» للتعظيم، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت.
ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال:
﴿ولو كنت فظّاً﴾ أي سيىء الخلق جافياً في القول
﴿غليظ القلب﴾ أي قاسية لا تتأثر بشيء، تعاملهم بالعنف والجفاء
﴿لانفضّوا﴾ أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه
﴿من حولك﴾ أي ففات المقصود من البعثة.
ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي - أولاً في الخروج من المدينة.
وثانياً في تضييع المركز، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب، ورابعاً
107
في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك - موجباً لترك مشاورتهم، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى:
﴿فاعف عنهم﴾ أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك
﴿واستغفر لهم﴾ أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه
﴿وشاورهم﴾ أي استخرج آراءهم
﴿في الأمر﴾ أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك
﴿فإذا عزمت﴾ أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه - بأن أردته - فعل العازم.
ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال:
﴿فتوكل﴾ أي فيه
﴿على الله﴾ أي الذي له الأمر كله، ولا يردك عنه خوف عاقبة - كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة، ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن الله﴾ أي الذي لا كفوء له
﴿يحب المتوكلين *﴾ أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم
108
وإن رُئي غير ذلك.
ولما كان التقدير؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه، بأن من نصره هو المنصور، ومن خذله هو المخذول، فقال تعالى:
﴿إن ينصركم الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿فلا غالب لكم﴾ أي إن كان نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينكم أو لا، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل! وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال:
«موتوا على ما مات عليه نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فهو أعذر لكم عند ربكم» ﴿وإن يخذلكم﴾ أي بإمكان العدو منكم
﴿فمن ذا الذي ينصركم من بعده﴾ أي من نبي أو غيره، ولما كان التقدير: فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، عطف عليه قوله:
﴿وعلى الله﴾ أي الملك الأعظم وحده، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها
﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم.
ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها. والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية
109
بآية الغلول بياناً، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول فيكون المراد بتنزيهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه - والله أعلم - أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه! وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم على السواء، وحاشاه من كل من ذلك! وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث، لا يصوب عاقل إليه؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير: فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان، وما نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على
﴿وكأين من نبي﴾ [آل عمران: ١٤٦]
﴿وما كان﴾ أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات
110
ولا على حالة من الحالات
﴿لنبي﴾ أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل
﴿أن يغل﴾ تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو - بضم الياء وفتح العين مجهولاً من: أغل - المعنى: وما كان له وما صح أن يوجد غالاً، أو ينسب إلى الغلول، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده: فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا، فإنه ما كان لكم أن تغلوا، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب، فإن ذلك يسلب كمال التوكل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، فيوجب له الخذلان، روى الطبراني في الكبير- قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
«بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً فردت رايته. ثم بعث فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت ﴿وما كان لنبي أن يغل﴾ ».
111
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله:
﴿ومن يغلل﴾ أي يقع منه ذلك كائناً من كان
﴿يأت بما غل يوم القيامة﴾ ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي: إنه لمطلق الخيانة، وإنه يجوز أن يكون التقدير: وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي - ولو وعلى بعد - إلى نسبة نبي إلى غلول، قال صاحب القاموس: أغل فلاناً: نسبه إلى الغلول والخيانة، وغل غلولاً: خان - كأغل، أو خاص بالفيء، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: أغل الرجل أغلالاً - إذا خان، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً، وقرىء: أن يَغُل، وأن يُغَل، فمن قرأ: يَغُل - أراد: يخون، ومن قرأ: يُغَل - أراد: يخان، ويجوز أن يريد: لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً، ويسمى الخائن غالاً، وفي الحديث
«لا إغلال ولا إسلال» الإغلال: الخيانة في كل شيء، وغللت الشيء أغله غلاًّ - إذا سترته، قالوا: ومنه الغلول في المغنم، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه، فقيل للخائن: غال ومغل، ويقال: غللت الشيء في الشيء - إذا أدخلته فيه، وقد انغل - إذا دخل في الشيء، وقد انغل في الشجر.
112
دخل - انتهى. فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة، فقد اكتنف التنفير من الغلول - الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً - طرفي الوعظ فيها، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره.
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى:
﴿ثم توفى﴾ أي في ذلك اليوم العظيم، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين
﴿كل نفس﴾ أي غالة وغير غالة
﴿ما كسبت﴾ أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه
﴿وهم لا يظلمون *﴾ أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص.
113
ولما أخبر تعالى أنه لا يقع في ذلك اليوم ظلم أصلاً تسبب عنه
113
الإنكار على من حدثته نفسه بالأماني الكاذبة، فظن غير ذلك من استواء حال المحسن وغيره، أو فعل فعلاً وقال قولاً يؤدي إلأى ذلك كالمنافقين وكالمقبلين على الغنيمة فقال تعالى:
﴿أفمن اتبع﴾ أي طلب بجد واجتهاد
﴿رضوان الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام بالإقبال على ما أمر به الصادق، فصار إلى الجنة ونعم الصبر
﴿كمن بآء﴾ أي رجع من تصرفه الذي يريد به الربح، أو حل وأقام
﴿بسخط من الله﴾ أي من الملك الأعظم بأن فعل ما يقتضي السخط بالمخالفة ثم الإدبار لولا العفو
﴿ومأواه جهنم﴾ أي جزاء بما جعل أسباب السخط مأواه
﴿وبئس المصير *﴾ أي هي.
ولما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله:
﴿هم درجات﴾ أي متباينون تباين الدرجات. ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال:
﴿عند الله﴾ أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم
﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿بصير﴾ أي بالبصر والعلم
﴿بما يعملون *﴾ أي بعد إيجادهم، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره، ولس لهم فيه إلا نسبته
114
إليهم بالكسب، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل! فعلم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدىء به الكلام من التوفية.
ولما أرشدهم إلى هذه المراشد، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم، فيألفونه فيعلمهم؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هدية فقال سبحانه وتعالى - مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول -:
﴿لقد من الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام
﴿على المؤمنين﴾ خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة
﴿إذا بعث فيهم﴾ أي فيما بينهم أو بسببهم
﴿رسولاً﴾ وزادهم رغبة فيه بقوله:
﴿من أنفسهم﴾ أي نوعاً وصنفاً، يعلمون أمانته وصيانته وشرفه ومعاليه
115
وطهارته قبل النبوة وبعدها
﴿يتلوا عليهم آياته﴾ أي فيمحو ببركة نفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه، وما لم نعرفه أكثر
﴿ويزكيهم﴾ أي يطهرهم من أوضار الدنيا والأوزار بما يفهمه بفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك، كما مضى في سورة البقرة
﴿ويعلمهم الكتاب﴾ أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه
﴿والحكمة﴾ تفسيراً وإبانة وتحريراً
﴿وإن﴾ أي والحال أنهم
﴿كانوا﴾ ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال
﴿من قبل﴾ أي من قبل ذلك
﴿لفي ضلال مبين *﴾ أي ظاهر، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار، فلما خالفوه حصل الخذلان.
ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها. وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم: لو كان رسولاً ما انهزم أصحابه عنه،
116
فقال تعالى:
﴿أولما﴾ أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما
﴿أصابتكم﴾ أي في هذا اليوم
﴿مصيبة﴾ لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده
﴿قد أصبتم مثليها﴾ أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه
﴿قلتم أنّى﴾ من أين وكيف أصابنا
﴿هذا﴾ أي بعد وعدنا النصر
﴿قل هو من عند أنفسكم﴾ أي لأن الوعد كان مقيداً بالصبر والتقوى، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه
﴿لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ [الأنفال: ٦٨] وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى، فرضوا وقالوا: نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة. ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن الله﴾ أي الذي لا كفوء له
﴿على كل شيء﴾ أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما
﴿قدير *﴾
117
وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء، وخالف من خالف منكم الآن، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة.
ولما كانت نسبة المصيبة إليهم ربما أوهمت من لم ترسخ قدمه في المعارف الإلهية أن بعض الأفعال خارج عما مراده تعالى قال:
﴿وما أصابكم﴾ ولما استغرقت الحرب ذلك اليوم نزع الجار فقال:
﴿يوم التقى الجمعان﴾ أي حزب الله وحزب الشيطان في أحد
﴿فبإذن الله﴾ أي بتمكين من له العظمة الكاملة وقضائه، وإثبات أن ذلك بإذنه نحو ما ذكر عند التولية يوم التقى الجمعان من نسبة الإحياء والإماتة إليه.
ولما كان التقدير: ليؤدبكم به، عطف عليه قوله:
﴿وليعلم المؤمنين *﴾ أي الصادقين في إيمانهم. ولما كان تعليق العلم بالشيء على حدته أتم وآكد من تعليقه به مع غيره أعاد العامل لذلك، وإشعاراً بأن أهل النفاق أسفل رتبة من أن اجتمعوا مع المؤمنين في شيء فقال:
﴿ولعلم الذين نافقوا﴾ أي علماً تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، وهذا مثل قوله هناك
﴿وليبتلي الله ما في صدوركم﴾ [آل عمران: ١٥٤]. وعطف
118
على قوله
﴿نافقوا﴾ ما أظهر نفاقهم، أو يكون حالاً من فاعل
﴿نافقوا﴾ فقال:
﴿وقيل لهم تعالوا قاتلوا﴾ أي أوجدوا القتال
﴿في سبيل الله﴾ أي الذي له الكمال كله بسبب تسهيل طريق الرب الذي شرعه
﴿أو ادفعوا﴾ أي عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لا سيما العرب
﴿قالوا لو نعلم﴾ أي نتيقن
﴿قتالاً﴾ أي أنه يقع قتال
﴿لاتبعناكم﴾ أي لكنه لا يقع فيما نظن قتال ورجعوا.
ولما كان هذا الفعل المسند إلى هذا القول ظاهراً في نفاقهم ترجمة بقوله:
﴿هم للكفر يومئذ﴾ أي يوم إذ كان هذا حالهم
﴿أقرب منهم للإيمان﴾ عند كل من سمع قولهم أو رأى فعلهم، ثم علل ذلك أو استأنف بقوله - معبراً بالأفواه التي منها ما هو أبعد من اللسان لكونهم منافقين، فقولهم إلى أصوات الحيوان أقرب منه إلى كلام الإنسان ذي العقل واللسان لأنهم -:
﴿يقولون بأفواههم﴾ ولما أفهم هذا أنه لا يجاوز ألسنتهم فلا حقيقة له ولا ثبات عندهم؛ صرح به في قوله
﴿ما ليس في قلوبهم﴾ بل لا شك عندهم في وقوع القتال، علم الله هذا منهم كما علموه من أنفسهم
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿أعلم﴾ أي منهم
﴿بما يكتمون *﴾ أي كله لأنه يعلمه قبل كونه وهم لا يعلمونه إلا بعد كونه، وإذا كان نسوه بتطاول الزمان
119
والله سبحانه وتعالى لا ينساه.
120
ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا:
﴿الذين قالوا لإخوانهم﴾ أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد أسلموهم
﴿وقعدوا﴾ أي عنهم خذلاناً لهم
﴿لو أطاعونا﴾ أي في الرجوع
﴿ما قتلوا﴾ ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت
﴿فادرءوا﴾ أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا
﴿عن أنفسكم الموت﴾ أي حتى لا يصل إليكم أصلاً
﴿إن كنتم صادقين﴾ أي في أن الموت يغني منه حذر. فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدها ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه.
ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفى الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر، فلم يبق عند أهل الإيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام
120
من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه سواه، كما أشار إليه قوله في البقرة
﴿ولكن لا تشعرون﴾ [البقرة: ١٥٣] فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت:
﴿ولا تحسبن الذين قتلوا﴾ أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها
﴿في سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم، والله أعلم بمن يقتل في سبيله
﴿أمواتاً﴾ أي الآن
﴿بل﴾ هم
﴿أحياء﴾ وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله:
﴿عند ربهم﴾ أي المحسن إليهم في كل حال، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية! فحقق حياتهم بقوله
﴿يرزقون *﴾ أي رزقاً يليق بحياتهم
﴿فرحين بما آتاهم الله﴾ أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير
﴿من فضله﴾ لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى، وبقيت لهم
121
حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها بغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره، فلا غفلة لهم، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم، وهذا - والله سبحانه وتعالى أعلم - معنى الشهادة، أي أنهم ليست لهم حال غيبة، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك.
ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال:
﴿ويستبشرون﴾ أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا
﴿بالذين لم يلحقوا بهم﴾ أي في الشهادة في هذه الغزوة. ثم بين ذلك بقوله:
﴿من خلفهم﴾ أي في الدنيا. ثم يبن المبشر به فقال:
﴿ألاّ خوف عليهم﴾ أي على إخوانهم في آخرتهم
﴿ولا هم يحزنون *﴾ أي أصلاً، لأنه لا يفقد منه شيء، بل هم كل لحظة في زيادة، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك، لأن السبب واحد، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة.
ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق. وإنما هو مجرد مَنّ فقال:
﴿يستبشرون بنعمة من الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام، كبيرة
122
﴿وفضل﴾ أي منه عظيم
﴿وأن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره
﴿لا يضيع أجر المؤمنين *﴾ أي منهم ومن غيرهم، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء.
ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال:
﴿الذين استجابوا﴾ أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان
﴿لله والرسول﴾ أي لا لغرض مغنم ولا غيره، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان -:
﴿من بعد ما أصابهم القرح﴾.
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى:
﴿للذين أحسنوا﴾ وعبر بما يصلح للبيان
123
والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال:
﴿منهم واتقوا أجر عظيم *﴾ وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا: إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد، أو غزوة بدر الموعد، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله، وإلا فليس كذلك، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم أُحد - بطلب العدو وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس، فأجابوا بالسمع والطاعة، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم، ولم يتخلف منهم أحد، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
124
فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة.
قال الواقدي: ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي رضي الله عنه، ويقال: إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأسه مشجوج وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد سقطت، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني! فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال: يا طلحة سلاحك! قال: قلت: قريب، قال: فأخرج، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
125
مني بجراحي، ثم أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طلحة فقال:
«أين ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذلك الذي ظننت! أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا!» ومضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، قال جابر رضي الله عنه: وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران، فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح - قال الواقدي: جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية، عامة بني عبد الأشهل جريح، بل كلهم - رضي الله عنهم! فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
126
يأمركم أن تطلبوا عدوكم، قال: يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ولحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير، فلبسوا ولحقوا، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال: هذا منادي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمركم بطلب العدو، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم! فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح، قد صفوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال:
«اللهم ارحم بني سلمة!» وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما جراح كثيرة،
127
فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بن، قال رافع: لا والله ما بي مشي! قال أخوه: انطلق بنا نتجارّ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند العشاء وهو يوقدون النيران، فأتى بهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال:
«ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخير وقال: إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم» وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي - ومن طريقه الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من
128
أصحابه رضي الله عنهم، وكان الخيل عشرة قال الواقدي: وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر أهل الموسم: يا محمد! لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«ليرفع ذلك إلى عدوه: ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا، فقال الضمري: بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك».
129
ولما كان قول نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس عند الصحابة رضي الله عنهم صدقاً لا شك فيه لما قام عندهم من القرائن، فكان بمنزلة المتواتر الذي تمالأ عليه الخلائق، وكانت قريش أعلى الناس شجاعة وأوفاهم قوة وأعرقهم أصالة فكانوا كأنهم جميع الناس، كان التعبير - بصيغة في قوله:
﴿الذين قال لهم الناس﴾ أي نعيم أو ركب عبد القيس
﴿إن الناس﴾ يعني قريشاً
﴿قد جمعوا لكم فاخشوهم﴾ أمدح للصحابة رضي الله عنهم من التعبير عمن أخبرهم ومن جمع لهم بخاص اسمه أو وصفه.
129
ولما كان الموجب لأقدامهم على اللقاء بعد هذا القول الذي لم يشكوا في صدقه ثبات الإيمان وقوة الإيقان قال تعالى:
﴿فزادهم﴾ أي هذا القول
﴿إيماناً﴾ لأنه ما ثناهم عن طاعة الله ورسوله
﴿وقالوا﴾ ازدراء بالخلائق اعتماداً على الخالق
﴿حسبنا﴾ أي كافينا
﴿الله﴾ أي الملك الأعلى في القيام بمصالحنا. ولما كان ذلك هو شأن الوكيل وكان في الوكلاء من يذم قال:
﴿ونعم الوكيل *﴾ أي الموكول إليه المفوض إليه جميع الأمور؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم. وقال: كان آخر كلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل». ولما كان اعتمادهم على الله سبباً لفلاحهم قال
﴿فانقلبوا﴾ أي فكان ذلك سبباً لأنهم انقلبوا، أي من الوجه الذي ذهبوا فيه مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿بنعمة﴾ وعظمها بإضافتها إلى الاسم الأعظم فقال:
﴿من الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿وفضل﴾
130
أي من الدنيا ما طاب لهم من طيب الثناء بصدق الوعد ومضاء العزم وعظيم الفناء والجرأة إلى ما نالوه. عند ربهم حال كونهم
﴿لم يمسسهم سوء﴾ أي من العدو خوفوه ولا غيره
﴿واتبعوا﴾ أي مع ذلك بطاعتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغاية جهدهم
﴿رضوان الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال فحازوا أعظم فضله
﴿والله﴾ أي الذي لا كفوء له
﴿ذو عظيم *﴾ أي في الدارين على من يرضيه، فستنظرون فوق ما تؤملون، فليبشر المجيب ويغتم ويحزن المتخلف، ولعظم الأمر كرر الاسم الأعظم كثيراً.
ولما جزاهم سبحانه على أمثال ذلك بما وقع لهم من فوزهم بالسلامة والغنيمة بفضل من حاز أوصاف الكمال وتنزه عن كل نقص بما له من رداء الكبرياء والجلال، ورغبهم فيما لديه لتوليهم إياه، أتبع ذلك بما يزيدهم بصيرة من أن المخوف لهم مَن كيده ضعيف وأمره هين خفيف واهٍ سخيف وهو الشيطان، وساق ذلك مساق التعليل لما قبله من حيازتهم للفضل وبعدهم عن السوء بأن وليهم الله وعدوهم
131
الشيطان فقال التفاتاً إليهم بزيادة في تنشيطهم أو تشجيعهم وتثبيتهم:
﴿إنما ذلكم﴾ أي القائل الذي تقدم أنه الناس
﴿الشيطان﴾ أي الطريد البعيد المحترق.
ولما نسب القول إلأيه لأنه الذي زينه لهم حتى أشربته القلوب وامتلأت به الصدور، كان كأنه قيل: فماذا عساه يصنع؟ فقال:
﴿يخوف﴾ أي يخوفكم
﴿أولياءه﴾ لكنه أسقط المفعول الأول إشارة إلى أن تخويفه يؤول إلى خوف أوليائه، لأنه أولياء الرحمن إذا ثبتوا لأجله أنجز لهم ما وعدهم من النصرة على أولياء الشيطان، وإلى أن من خاف من تخويفه وعمل بموجب خوفه ففيه ولاية له تصحح إضافته إليه قلت أو كثرت.
ولما كان المعنى أنه يشوش بالخوف من أوليائه، تسبب عنه النهي عن خوفهم فقال:
﴿فلا تخافوهم﴾ أي لأن وليهم الشيطان
﴿وخافون﴾ أي فلا تعصوا أمري ولا تتخلفوا أبداً عن رسولي
﴿إن كنتم مؤمنين *﴾ أي مباعدين لأولياء الشيطان بوصف الإيمان.
ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان،
132
أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم.
ولما كان أكثر الناس - كالمنافقين الراجعين عن أحد، ثم المقاتلين القائلين: هل لنا من الأمر من شيء - أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود، ثم من استجاب من أهل المدينة وأرجف بما قالوا في ثبط المؤمنين، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين، ويقدح في رجاء قصر مدته، ويوجب الحزن على ذلك، قال تعالى قاصراً الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم
﴿ولا يحزنك الذين يسارعون﴾ أي يسرعون إسراع من يسابق خصماً
﴿في الكفر﴾ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إنهم لن يضروا الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿شيئاً﴾ أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به، وحذف المضاف تفخيماً له وترغيباً فيه حيث جعله هو المضاف إليه.
ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جواباً:
﴿يريد الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿ألاّ يجعل لهم حظاً﴾ أي نصيباً
﴿في الآخرة﴾ ولما كانت المسارعة في ذلك عظيمة ختمت الآية بقوله:
﴿ولهم عذاب عظيم *﴾ قد عم
133
جميع ذواتهم، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم.
ولما كان قبول نعيم وركب عبد القيس لذلك الجعل الذي هو من أسباب الكفر شرى الكفر بالإيمان عقب بقوله:
﴿إن الذين اشتروا الكفر﴾ أي فأخذوه
﴿بالإيمان﴾ أي فتركوه، وأكد نفي الضرر وأبده فقال:
﴿لن يضروا الله﴾ أي الذي لا كفوء له
﴿شيئاً﴾ لما يريد سبحانه وتعالى من الإعلاء للإسلام وأهله، وختمها بقوله:
﴿ولهم عذاب أليم *﴾ لما نالوه من لذة العوض في ذلك الشرى كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد.
ولما كان مما اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سبباً للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى:
﴿ولا يحسبن الذين كفروا﴾ أي بالله ورسوله
﴿إنما نملي﴾ أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا
﴿لهم خير لأنفسهم﴾ ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال:
﴿إنما نملي لهم﴾ أي استدراجاً
﴿ليزدادوا إثماً﴾ وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه، فإذا بلغ النهاية أوجب
134
الأخذ. ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى:
﴿ولهم عذاب مهين *﴾.
135
ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض، وهو أعم مما بالرجوع، جاء نظم الآيات على ذاك؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى:
﴿ما كان الله﴾ أي مع ما له من صفات الكمال.
ولما كان ترك التمييز غير محمود، عبر بفعل الوذر، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال:
﴿ليذر المؤمنين﴾ أي الثابتين في وصف الإيمان
﴿على ما أنتم عليه﴾ من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال
135
للاقتناع بدعوى اللسان دليلاً على الإيمان
﴿حتى يميز الخبيث من الطيب﴾ بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد، المخلصون في الاعتقاد
﴿وما كان الله﴾ لاختصاصه بعلم الغيب
﴿ليطلعكم على الغيب﴾ أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم
﴿ولكن الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿يجتبي﴾ أي يختار اختياراً بليغاً
﴿من رسله من يشاء﴾ أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال:
﴿فأمنوا بالله﴾ أي في عالم الغيب والشهادة، له الأسماء الحسنى
﴿ورسله﴾ في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه.
ولما كان التقدير: فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين، عطف عليه قوله:
﴿وإن تؤمنوا﴾ أي بالله
136
ورسله
﴿وتتقوا﴾ أي بالمداومة على الإيمان وما يقتضيه من العمل الصالح
﴿فلكم أجر عظيم *﴾ أي منه أنه لا يضركم كيد أعدائكم شيئاً كما تقدم وعدكم به.
ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر: أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك. وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد:
﴿ولا تحسبن﴾ أي أنت يا خير البرية - هذا على قراءة حمزة، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله:
﴿الذين يبخلون﴾ أي عن الحقوق الشرعية
﴿بما آتاهم الله﴾ أي بجلاله وعز كماله
﴿من فضله﴾ أي لا لاستحاقهم له ببخلهم
﴿هو خيراً لهم﴾ أي لتثمير المال بذلك
137
﴿بل هو﴾ أي البخل
﴿شر لهم﴾ لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم
﴿سيطوقون﴾ أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه
﴿ما يخلوا به﴾ أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة، تلزم الإنسان منهم، محيطة بعنقه، تضربه في جانبي وجهه
﴿يوم القيامة﴾ لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك! أنا كنزك! - ثم تلا هذه الآية». ولما كان هذا طلباً منهم للإنفاق، وكان الطالب منا محتاجاً إلى ما يطلبه، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفاً على ما تقديره: لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم:
﴿ولله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿ميراث السماوات والأرض﴾ أي اللذين هذا مما فيهما، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن
138
أملى لهم، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض، ويكون هو الوارث لذلك كله.
ولما كانت هذه الجمل في الإخبار عن المغيبات دنيا وأخرى، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله:
﴿والله﴾ أي الملك الأعظم. ولما كان منصب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق:
﴿بما تعملون خبير *﴾.
ولما كان العمل شاملاً لتصرفات الجوارح كلها من القلب واللسان وسائر الأركان قال - دالاًّ على خبره بسماع ما قالوه متجاوزين وهدة البخل إلى حضيض القبح مريدين التشكيك لأهل الإسلام بما يوردونه من الشبه قياساً على ما يعرفونه من أنفسهم من أنه - كما تقدم - لا يطلب إلا محتاج -:
﴿لقد سمع الله﴾ أي الذي له جميع الكمال
﴿قول الذين قالوا﴾ أي من اليهود
﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿فقير﴾
139
أي لطلبه القرض
﴿ونحن أغنياء﴾ لكونه يطلب منا، وهذا رجوع منه سبحانه وتعالى إلى إتمام ما نبه عليه قبل هذه القصة من بغض أهل الكتاب لأهل هذا الدين وحسدهم لهم وإرادة تشكيكهم فيه للرجوع عنه على أسنى المناهج وأعلى الأساليب.
ولما تشوفت النفوس إلى جزائهم على هذه العظيمة، وكانت الملوك إذا علمت انتقاص أحدها وهي قادرة عاجلته لما عندها من نقص الأذى بالغيظ قال سبحانه وتعالى مهدداً لهم مشيراً إلى أنه على غير ذلك:
﴿سنكتب﴾ أي على عظمتنا لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه في الدنيا
﴿ما قالوا﴾ أي من هذا الكفر وأمثاله، والسين للتأكيد، ويجوز أن تكون على بابها من المهلة للحث على التوبة قبل ختم رتب الشهادة، وسيأتي في الزخرف له مزيد بيان.
ولما كان هذا اجتراء على الخالق أتبعه اجتراءهم على أشرف الخلائق فقال - مشيراً بإضافة المصدر إلى ضميرهم، وبجمع التكسير الدال على الكثير إلى أنهم أشد الناس تمرداً تمرناً على ارتكاب العظائم، وأن الاجتراء على أعظم أنواع الكفر قد صار لهم خلقاً -:
﴿وقتلهم الأنبياء﴾
140
أي الذي أقمناهم فيهم لتجديد ما أوهوه من بنيان دينهم، ولما لم يكن في قتلهم شبهة أصلاً يقال:
﴿بغير حق﴾ فهو أعظم ذمّاً مما قبله من التعبير بالفعل المضارع في قوله
﴿ويقتلون الأنبياء بغير حق﴾ [آل عمران: ١١٢]. ثم عطف على قوله
﴿سنكتب﴾ قوله:
﴿ونقول﴾ أي بما لنا من الجلال
﴿ذوقوا﴾ أي بما نمسكم به من المصائب في الدنيا والعقاب في الأخرى كما كنتم تذوقون الأطعمة التي كنتم تبخلون بها فلا تؤدون حقوقها
﴿عذاب الحريق *﴾ جزاء على ما أحرقتم به قلوب عبادنا، ثم بين السبب فيه بقوله:
﴿ذلك﴾ أي العذاب العظيم
﴿بما قدمت أيديكم﴾ أي من الكفر بقتلهم وبغيره
﴿وأن﴾ أي وبسبب أن
﴿الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿ليس بظلام﴾ أي بذي ظلم
﴿للعبيد *﴾ ولو لم يعذبكم لكان ترككم على صورة الظلم لمن عادوكم فيه واشتد أذاكم لهم.
ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله - رادّاً شبة لهم أخرى ومبيناً قتلهم الأنبياء:
﴿الذين قالوا﴾ تقاعداً عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان
﴿إن الله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه
﴿عهد إلينا﴾ وقد كذبوا في ذلك
﴿ألا نؤمن لرسول﴾ أي كائن من كان
141
﴿حتى يأتينا بقربان﴾ أي عظيم نقربه لله تعالى، فيكون متصفاً بأن
﴿تأكله النار﴾ عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيان لأنهم ما أرادوا - بقولهم
﴿إن الله فقير﴾ حيث طلب الصدقة - إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به، بل وادعوا أنه لا يصح دين بغيره.
ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله:
﴿قل قد جاءكم رسل﴾ فضلاً عن رسول. ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال
﴿من قبلي﴾ كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام
﴿بالبينات﴾ أي من المعجزات
﴿وبالذي قلتم﴾ أي من القربان فإن الغنائم لم تحل - كما في الصحيح - لأحد كان قبلنا، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول
﴿فلم قتلتموهم﴾ أي
142
قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه
﴿إن كنتم صادقين *﴾ أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه، وفي ذلك رد على الفريقين: اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله.
143
ولما كانت هذه السورة متضمنة لكثير من الدقائق التي أخفوها من كتابهم الذي جعلوه قراطيس، يبدونها ويخفون كثيراً، وفي هذه الآية بخصوصها من ذلك ما يقتضي تصديقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان سبحانه عالماً بأن أكثرهم يعاندون سبب عن ذلك أن سلاه في تكذيب المكذبين منهم بقوله:
﴿فإن كذبوك﴾ فكان كأنه قيل: هذا الذي أعلمتك به يوجب تصديقك، فإن لم يفعلوا بل كذبوا
﴿فقد﴾ ولما كان السياق لإثبات مبالغتهم في الغلظة والجفاء
143
والكفر وعدم الوفاء وكانت السورة سورة التوحيد، والرسل متفقون عليه، وقد أتى كل منهم فيه بأنهى البيان وأزال كل لبس أسقط تاء التأنيث لأنها ربما دلت على نوع ضعف فقال:
﴿كذب رسل﴾ ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال
﴿من قبلك﴾ أي فلك فيهم مسلاة وبهم أسوة
﴿جآءو بالبينات﴾ أي من المعجزات
﴿والزبر﴾ أي من الصحف المضمنة للمواعظ والحكم الزواجر والرقائق التي يزبر العالم بها عن المساوي
﴿والكتاب المنير﴾ أي الجامع للأحكام وغيرها. الموضح لأنه الصراط المستقيم.
ولما تقدم في قصة أحد رجوع المنافقين وهزمية بعض المؤمنين مما كان سبب ظفر الكافرين، وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه، وإلى ذلك أشار بقوله:
﴿قل لو كنتم في بيوتكم﴾ [آل عمران: ١٥٤]
﴿ولئن قتلتم في سبيل الله﴾ [آل عمران: ١٥٧]
﴿قل فادرءوا عن أنفسكم الموت﴾ [آل عمران: ١٦٨]
﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله﴾ [آل عمران: ١٦٩] وغير ذلك مما
144
بكتهم به في رجوعهم حذر الموت وطلب امتداد العمر، مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم وقتله ممكن كما كان من قبله من إخوانه من الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام! وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل، فكان ذلك محققاً لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام، مضموماً إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة؛ صوَّر ذلك الموت بعد أن صار مستحضراً للعيان تصويراً أوجب التصريح به إشارة إلى أن حالهم في هربهم ورجوعهم وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه فقال تعالى:
﴿كل نفس﴾ أي منفوسة من عيسى وغيره من أهل الجنة والنار
﴿ذآئقة الموت﴾ أي وهو المعنى الذي يبطل معه تصرف الروح في البدن وتكون هي باقية بعد موته لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيّاَ حساساً، ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار، وهو عبد محتاج، فالعاقل من سعى في النجاة منها والإنجاء كما فعل الخلص الذين منهم عيسى ومحمد عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها وأنه ليس بظلام للعبيد شديد الحسن، وذلك مناسب أيضاً لختم الآية بالتصريح
145
لتوفية الأجور يوم الدين، وأن الزحزحة عن النار ودخول الجنة لهو الفوز، لا الشح في الدنيا بالنفس والمال الذي ربما كان سبباً لامتداد العمر وسعة المال بقوله:
﴿وإنما توفون﴾ أي تعطون
﴿أجوركم﴾ على التمام جزاء على ما عملتموه من خير وشر
﴿يوم القيامة﴾ وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر ونحوه فبعض لا وفاء
﴿فمن زحزح﴾ أي أبعد في ذلك اليوم إبعاداً عظيماً سريعاً
﴿عن النار وأدخل الجنة فقد فاز﴾ أي بالحياة الدائمة والنعيم الباقي.
والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت، فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم، وكذا من أطاعك، ويجازون هم على ما فرطوا في حقك فيقذفون في غمرة النار، وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل، أي إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا، وذلك ترهيباً من الالتفات إلى تعجل شيء من الأجر في الدنيا - كما قال أبو بكر رضي الله عنه في أول إسلامه: وجدت بضاعة بنسيئة، ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها، وهي لا إله إلا الله. فالحاصل أن
«كل نفس» أي حذرة من الموت ومستسلمة
﴿ذائقة الموت﴾ أي فعلام الاحتراس منه بقعود عن الغزو أو هرب من العدو!
﴿وإنما توفون أجوركم﴾ أي يا أهل الإسلام التي وعدتموها على الأعمال الصالحة
146
﴿يوم القيامة﴾ أي فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا
﴿فمن﴾ أي فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى تسبب عن ذلك أنه من
﴿زحزح عن النار﴾ أي بكونه وفي أجره ولم يتعجل طيباته
﴿وأدخل الجنة﴾ أي بما عمل من الصالحات فحاز الحياة الدائمة مع الطيبات الباقية
﴿فقد فاز﴾ أي كل الفوز، ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك صح قوله:
﴿وما الحياة الدنيا﴾ أي التي أملي لهم فيها وأزيلت عن الشهداء
﴿إلا متاع الغرور *﴾ أي المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به فيغبنوا بترك الباقي وأخذ الأشياء الزائلة بانقضاء لذاتها والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها.
وفي ذلك أيضاً مناسبة من وجه آخر، وهو أنه لما سلاه سبحانه وتعالى بالرسل - الذين لازموا الصبر والاجتهاد في الطاعة حتى ماتوا - وأممهم. وتركوا ما كان بأيديهم عاجزين عن المدافعة، ولم يبق إلا ملكه سبحانه وتعالى، وأن الفريقين ينتظرون الجزاء، فالرسل لتمام الفوز، والكفار لتمام الهلاك؛ أخبر أن كل نفس كذلك، ليجتهد الطائع ويقتصر العاصي، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن أحد خوف القتل وقالوا عن الشهداء:
﴿لو أطاعونا ما قتلوا﴾ أي إن الذي فررتم
147
منه لا بد منه، والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به، فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضى مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه والوقوف بين يديه.
ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تكذيبهم لما بما لقي إخوانه من الرسل وبأنه لا بد من الانقلاب إليه، فيفوز من كان من أهل حزبه، ويشقى من والى أعداءه وذوي حزبه؛ أعاد التسلية على وجه يشمل المؤمنين، وساقها مساق الإخبار بحلول المصائب الكبار التي هي من شعائر الأخيار في دار الأكدار المعلية لهم في دار القرار فقال - مؤكداً لأن الواقف في الخدمة ينكر أن يصيبه معبوده بسوء، هذا طبع البشر وإن تطبّع بخلافه، وأفاد ذكره قبل وقوعه تهوينه بتوطين النفس عليه، وأفاد بناؤه للمفعول أن المنكى البلاء لا كونه من جهة معينة -:
﴿لتبلون﴾ أي تعاملون معاملة المختبر لتبيين المؤمن من المنافق
﴿في أموالكم﴾ أي بأنواع الإنفاق
﴿وأنفسكم﴾ أي بالإصابة في الجهاد وغيره، فكما نالكم ما نالكم من الأذى بإذني ليلحقنكم بعده من الأذى ما أمضيت به سنتي في خلص عبادي وذوي محبتي، وكان إيلاء ذلك للآية التي فيها الإشارة إلى أن توفية الأجور للأعمال الصالحة مما ينيل
148
الفوز مناسباً من حيث الترغيب في كل ما يكون سبباً لذلك من الصبر على ما يبتلي به سبحانه وتعالى من كل ما يأمر به من التكاليف، أو يأذن فيه من المصائب، وقدم المال لأنه - كما قيل - عديل الروح، وربما هان على الإنسان الموت دون الفقر المؤدي إلى الذل بالشماتة والعار بما تقصر عنه يده بفقده من أفعال المكارم، وما أحسن ذكر هذه الآية إثر قصة أحد التي وقع فيها القتل بسبب الإقبال على المال، وكان ذكرها تعليلاً لبغضة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار.
ولما كان يومها يوم بلاء وتمحيص، وكان ربما أطمع في العافية بعده، فتوطنت النفس على ذلك فاشتد انزعاجها بما يأتي من أمثاله، وليس ذلك من أخلاق المشمرين أراد سبحانه وتعالى توطين النفوس على ما طبعت عليه الدار من الأثقال والآصار، فأخبر أن البلاء لم ينقص به، بل لا بد بعده من بلايا وسماع أذى من سائر الكفار، ورغب في شعار المتقين: الصبر الذي قدمه في أول السورة ثم قبل قصة أحد، وبناها عليه معلماً أنه مما يستحق أن يعزم عليه ولا يتردد فيه فقال:
﴿ولتسمعن﴾ أي بعد هذا اليوم
﴿من الذين﴾ ولما كان المراد تسوية العالم بالجاهل في الذم نزه المعلم عن الذكر فبنى للمفعول
149
قوله:
﴿أوتوا الكتاب﴾ ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال:
﴿من قبلكم﴾ أي من اليهود والنصارى
﴿ومن الذين أشركوا﴾ أي من الأميين
﴿أذى كثيراً﴾ أي من الطعن في الدين وغيره بسبب هذه الوقعة أو غيرها
﴿وإن تصبروا﴾ أي تتخلقوا بالصبر على ذلك وغيره
﴿وتتقوا﴾ أي وتجعلوا بينكم وبين ما يسخط الله سبحانه وتعالى وقاية بأن تغضوا عن كثير من أجوبتهم اعتماداً على ردهم بالسيوف وإنزال الحتوف
﴿فإن ذلك﴾ أي الأمر العالي الرتبة
﴿من عزم الأمور *﴾ أي الأشياء التي هي أهل لأن يعزم على فعلها، ولا يتردد فيه، ولا يعوق عنه عائق، فقد ختمت قصة أحد بمثل ما سبقت دليلاً عليه من قوله:
﴿قد بدت البغضاء من أفواههم﴾ [آل عمران: ١١٨] إلى أن ختم بقوله:
﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠] ما أخبر به هنا بأنه من عزم الأمور.
ولما قدم سبحانه وتعالى في أوائل قصص اليهود أنه أخذ على النبيين الميثاق بما أخذ، وأخبرهم أنه من تولى بعد ذلك فهو الفاسق، ثم أخبر بقوله:
﴿قد جائكم رسل من قبلي﴾ [آل عمران: ١٨٣]
﴿فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك﴾ [آل عمران: ١٨٤] أن النبيين وفوا بالعهد، وأن كثيراً من أتباعهم خان؛ ثنى هنا بالتذكير بذلك العهد على وجه يشمل العلماء بعد الإخبار بسماع الأذى المتضمن لنقضهم للعهد، فكان التذكير بهذا الميثاق كالدليل على
150
مضمون الآية التي قبلها، وكأنه قيل: فاذكروا قولي لكم
﴿لتبلون﴾ واجعلوه نصب أعينكم لتوطنوا أنفسكم عليه، فلا يشتد جزعكم بحلول ما يحل منه
﴿و﴾ اذكروا
﴿إذ أخذ الله﴾ الذي لا عظيم إلا هو
﴿ميثاق الذين﴾.
ولما كانت الخيانة من العالم أشنع، وكان ذكر العلم دون تعيين المعلم كافياً في ذلك بنى للمجهول قوله:
﴿أوتوا الكتاب﴾ أي في البيان، فخافوا فما آذوا إلا أنفسهم، وإذا آذوا أنفسهم بخيانة عهد الله سبحانه وتعالى كانوا في أذاكم اشد وإليه أسرع، أو يكون التقدير: واذكروا ما أخبرتكم به عند ما أنزله بكم، واصبروا لتفوزوا، واذكروا إذ اخذ الله ميثاق من قبلكم فضيعوه كيلا تفعلوا فعلهم، فيحل بكم ما حل بهم من الذل والصغار في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من عذاب النار.
هذا ما كان ظهر لي أولاً، ثم بان أن الذي لا معدل عنه أنه لما انقضت قصة أحد وما تبعها إلى أن ختمت بعد الوعظ بتحتم الموت الذي فر من فر منهم منه وخوّف الباقين أمره بمثل ما تقدم أن جعلها
151
دليلاً عليه من بغض أهل الكتاب وما تبعه؛ عطف على
«إذا» المقدرة لعطف
﴿وإذا غدوت﴾ [آل عمران: ١٢١] عليها - قوله:
﴿وإذا أخذ الله﴾ أي اذكروا ذلك يدلكم على عداوتهم، واذكروا ما صح عندكم من إخبار الله تعالى المشاهد بإخبار من أسلم من الأحبار والقسيسين أن الله أخذ
﴿ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ أي من اليهود والنصارى بما أكد في كتبه وعلى ألسنة رسله:
﴿ليبيننه﴾ أي الكتاب
﴿للناس ولا يكتمونه﴾ أي نصيحة منهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأئمة المؤمنين وعامتهم ليؤمنوا بالنبي المبشر به
﴿فنبذوه﴾ أي الميثاق بنبذ الكتاب
﴿ورآء ظهورهم﴾ حسداً لكم وبغضاً، وهو تمثيل لتركهم العمل به، لأن من ترك شيئاً وراءه نسيه
﴿واشتروا به﴾ ولما كان الثمن الذي اشتروه خسارة لا ربح فيه أصلاً على العكس مما بذلوه على أنه ثمن، وكان الثمن إذا نض زالت مظنة الربح منه عبر عنه بقوله:
﴿ثمناً﴾ وزاد في بيان سفههم بقوله:
﴿قليلاً﴾ أي بالاستكثار من المال والاستئمار للرئاسة، قكتموا ما عندهم من العلم بهذا النبي الكريم
﴿فبئس ما يشترون *﴾ أي لأنه مع فنائه أورثهم العار الدائم والنار
152
الباقية، وعبر عن هذا الأخذ بالشراء إعلاماً بلجاجهم فيه، ونبه بصيغة الافتعال على مبالغتهم في اللجاج.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنهم احتووا على المال والجاه بما كتموا من العلم وأظهروا من خلافه المتضمن لمحبة أهل دينهم فيهم وثنائهم عليهم بأنهم على الدين الصحيح وأنهم أهل العلم، فهم أهل الاقتداء بهم؛ قال سبحانه وتعالى مخبراً عن مآلهم تحذيراً من مثل حالهم على وجه يعم كل امرىء:
﴿لا تحسبن﴾ على قراءة الجماعة بالغيب
﴿الذين يفرحون بما آتوا﴾ أي مما يخالف ظاهره باطنه. وتوصلوا به إلى الأغراض الدنيوية من الأموال والرئاسة وغير ذلك، أي لا يحسبن أنفسهم، وفي قراءة الكوفيين ويعقوب بالخطاب المعنى: لا تحسبنهم أيها الناظر لمكرهم ورواجهم بسببه في الدنيا واصلين إلى خير
﴿ويحبون أن يحمدوا﴾ أي ويجد الثناء بالوصف الجميل عليهم
﴿بما لم يفعلوا﴾ أي بذلك الباطن الذي لم يفعلوه، قال ابن هشام في السيرة: أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يتحملوهم على هدى ولا حق.
ولما تسبب عن ذلك العلمُ بهلاكهم قال:
﴿فلا تحسبنهم﴾ أي تحسبن أنفسهم، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب وضم الباء
153
وعلى قراءة الجماعة المعنى: لا تحسبنهم أيها الناظر
﴿بمفازة من العذاب﴾ بل هم بمهلكة منه
﴿ولهم عذاب أليم *﴾.
154
ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل
«يحسب» فقال تعالى:
﴿ولله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال وحده
﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إليه، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط
﴿والله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿على كل شيء قدير *﴾ وهو شامل القدرة، فمن كان في ملكه كان في قبضته، ومن كان في قبضته كان عاجزاً عن التفصي عما يريد به، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو - كما افتتح به السورة.
ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم، وذلك هو اتباع الملة الحنيفية، وهو متوقف على صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه - مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي -
154
للشبهات وبيانه للخفيات، وأظهر مكابرة أهل الكتاب، وفضحهم أتم فضيحة، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظماً ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوار المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال:
﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ أي على كبرهما وما فيهما من المنافع، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله:
﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي اختلافاً هو - كما ترون - على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم
﴿لآيات﴾ أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله:
﴿لأولي الألباب *﴾ وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة، لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة. فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع، وختم تلك بما هو لأول السلوك: العقل، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين.
155
ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتهم بما بين من يعتد بعقله فقال:
﴿الذين يذكرون الله﴾ أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك، وله جميع أوصاف الكمال.
ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر، عبر عنه لهذا التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال:
﴿قياماً وقعوداً﴾ ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال:
﴿وعلى جنوبهم﴾ أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم، فهم في غاية المراقبة.
ولما بدأ من أوصافهم بما يجلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرهما وضعف داعية الهوى، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال:
﴿ويتفكرون﴾ أي على الأحوال.
ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس، وكانت آيات الآفاق أعظم
﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس﴾ [غافر: ٥٧]. قال:
﴿في خلق السماوات والأرض﴾ على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون - بما في ذلك من الأحكام
156
مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام - أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا
﴿ما خلقت هذا﴾ أي الخلق العظيم المحكم
﴿باطلاً﴾ أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى، يكون فيها محض العدل، ويظهر فيها الفصل.
ولما كان الاقتصار على هذه الدار مع ما يشاهده من ظهور الأشرار نقصاً ظاهراً وخللاً بيناً نزهوه عنه فقالوا:
﴿سبحانك﴾ وفي ذلك تعليم العباد أدب الدعاء بتقديم الثناء قبله، وتنبيه على أن العبد كلما غزرت معرفتة زاد خوفه فزاد تضرعه، فإنه يحسن منه كل شيء من تعذيب الطائع وغيره، ولولا أن ذلك كذلك لكان الدعاء بدفعه عبثاً، وما أحسن ختمها حين تسبب عما مضي تيقنهم أن أمامنا داراً يظهر فيها العدل مما هو شأن كل أحد في عبيده، فيعذب فيها العاصي وينعم فيها الطائع، كما هو دأب كل ملك في رعيته بقولهم
157
رغبة في الخلاص في تلك الدار:
﴿فقنا عذاب النار *﴾ على وجه جمع بين ذكر العذاب المختتم به آية محبّي المحمدة بالباطل، والنار المحذر منها في
﴿فمن زحزح عن النار﴾ [آل عمران: ١٨٥] ثم تعقبها بقولهم معظمين ما سألوا دفعه من العذاب ليكون موضع السؤال أعظم، فيدل على أن الداعية في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه أتم، مكررين الوصف المقتضي للإحسان مبالغة في إظهار الرغبة استمطاراً للإجابة:
﴿ربنآ﴾ وأكدوا مع علمهم بإحاطة علم المخاطب إعلاماًَ بأن حالهم في تقصيرهم حال من أمن النار حثاً لأنفسهم على الاجتهاد في العمل فقالوا:
﴿إنك من تدخل النار﴾ أي للعذاب
﴿فقد أخزيته﴾ أي أذللته وأهنته إهانة عظيمة بكونه ظالماً.
وختمها بقوله:
﴿وما للظالمين من أنصار *﴾ الحاسم لطمع من يظن منهم أنه بمفازة من العذاب، وأظهر موضع الإضمار لتعليق الحكم بالوصف والتعميم.
ولما ابتهلوا بهاتين الآيتين في الإنجاء عن النار توسلوا بذكر مسارعتهم إلى إجابة الداعي بقولهم
﴿ربنآ﴾ ولما كانت حالهم - لمعرفتهم بأنهم لا ينفكون عن تقصير وإن بالغوا في الاجتهاد، لأنه لا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره - شبيهة بحال من لم يؤمن؛ اقتضى
158
المقام التأكيد إشارة إلى هضم أنفسهم بالاعتراف بذنوبهم فقالوا مع علمهم بأن المخاطب عالم بكل شيء:
﴿إننا﴾ فأظهروا النون إبلاغاً في التأكيد
﴿سمعنا منادياً﴾ أي من قبلك، وزاد في تفخيمه بذكر ما منه النداء مقيداً بعد الإطلاق بقوله:
﴿ينادي﴾ قال محمد بن كعب القرظي: هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كانت اللام تصلح للتعليل ومعنى
«إلى» عبر بها فقيل:
﴿للإيمان﴾ ثم فسروه تفخيماً له بقولهم:
﴿أن آمنوا بربكم﴾ ثم أخبر بمسارعتهم إلى الإجابة بقولهم:
﴿فآمنا﴾ أي عقب السماع. ثم أزالوا ما ربما يظن من ميلهم إلى ربوة الإعجاب بقولهم تصريحاً بما أفهمه التأكيد لمن علمه محيط:
﴿ربنا فاغفر لنا ذنوبنا﴾ أي التي أسلفناها قبل الإيمان بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا، فيكون جابّاً لما قبله عندك كما كان جابّاً له في ظاهر الشرع، وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بغير توبة، وإليه الإشارة بقولهم:
﴿وكفر عنا سيآتنا﴾ أي بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر
﴿وتوفنا مع الأبرار *﴾ أي ليس لنا سيئات.
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو المالك التام الملك، فهو ذو التصرف المطلق الذي لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء؛ أشار إلى ذلك بقوله ملقناً لهم مكرراً صفة الإحسان تنبيهاً على مزيد الابتهال والتضرع
159
والتخضع والتخشع:
﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا﴾ ثم أشار إلى صدق هذا الوعد بحرف الاستعلاء الدال على الالتزام والوجوب فقال:
﴿على رسلك﴾ أي من إظهار الدين والنصر على الأعداء وحسن العاقبة وإيراث الجنة في مثل قوله تعالى:
﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات﴾ [البقرة: ٢٥] وفي الدعاء بذلك إشارة إلى أنه لا يجب على الله سبحانه وتعالى شيء ولو تقدم به وعده الصادق وإن كنا نعتقد أنه لا يبدل القوة لديه
﴿ولا تخزنا يوم القيامة﴾ أي بالمؤاخذة بالسيئاتن ثم أرشدهم إلى الإلهاب والتهييج مع التنبيه على ما نبه عليه أولاً من أنه لا يجب عليه شيء بقوله باسطاً لهم بلذة المنادمة بالمخاطبة:
﴿إنك لا تخلف الميعاد﴾.
ولما تسبب عن هذا الدعاء الإجابة لتكمل شروطه وهي استحضار عظمته تعالى بعد معرفته بالدليل وإدامة ذكره والتفكر في بدائع صنعه وافتتاحه بالثناء عليه سبحانه وتنزيهه والإخلاص في سؤاله قال:
﴿فاستجاب﴾ أي فأوجد الإجابة حتماً
﴿لهم﴾ قال الأصفهاني: وعن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات
«ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد - وقرأ هذه الآية. وأشار إلى أنها من
160
منّه وفضله بقوله:
﴿ربهم﴾ أي المحسن إليهم المتفضل عليهم
﴿إني لا أضيع عمل عامل منكم﴾ كائناً من كان
﴿من ذكر أو أنثى﴾ وقوله معللاً:
﴿بعضكم من بعض﴾ التفات إلى قوله سبحانه
﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ [آل عمران: ٥٩] الناظر إلى قوله
﴿ذرية بعضها من بعض﴾ [آل عمران: ٣٤] المفتتح بأن الله سبحانه وتعالى
﴿اصطفى آدم ونوحاً﴾ [آل عمران: ٣٣] المنادي بأن البشر كلهم في العبودية للواحد - الذي ليس كمثله شيء الحي القيوم - سواء من غير تفاوت في ذلك أصلاً، والمراد أنهم إذا كانوا مثلهم في النسب فهم مثلهم في الأجر على العمل.
ولما أقر أعينهم بألإجابة، وكان قد تقدم ذكر الأنصار عموماً في قوله:
﴿ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم - وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٧٠-١٧١] خص المهاجرين بياناً لفضلهم وزيادة شرفهم بتحقيقهم لكونهم معه، لم يأنسوا بغيره ولم يركنوا لسواه من أهل ولا مال بقوله مسبباً عن الوعد المذكور ومفصلاً ومعظماً ومبجلاً:
﴿فالذين هاجروا﴾ أي صدقوا إيمانهم بمفارقة أحب الناس غليهم في الدين المؤدي إلى المقاطعة وأعز البلاد عليهم.
ولما كان للوطن من القلب منزل ليس لغيره نبه عليه بقوله:
﴿وأخرجوا من ديارهم﴾ أي وهي آثر المواطن عندهم بعد أن
161
باعدوا أهلهم وهم أقرب الخلائق إليهم، ولما كان الأذى مكروهاً لنفسه لا بالنسبة إلى معين بنى للمفعول قوله:
﴿وأوذوا﴾ أي بغير ذلك من أنواع الأذى
﴿في سبيلي﴾ أي بسبب ديني الذي نهجته ليسلك إليّ فيه، وحكمت أنه لا وصول إلى رضائي بدونه
﴿وقاتلوا﴾ أي في سبيلي.
ولما كان القتل نفسه هو المكروه، لا بالنسبة إلى معين؛ كان المدح على اقتحام موجباته، فبنى للمفعول قوله:
﴿وقتلوا﴾ أي فيه فخرجوا بذلك عن مساكن أرواحهم بعد النزوح عن منازل أشباحهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أبلغ معنى، لأنها أشد ترغيباً في الإقدام على الأخصام، لأن من استقتل أقدم على الغمرات إقدام الأسد فقتل أخص منه ولم يقف أحد أمامه، فكأنه قيل: وأرادوا القتل، هذا بالنظر إلى الإنسان نفسه، ويجوز أن يكون الخطاب للمجموع فيكون المعنى: وقاتلوا بعد أن رأوا كثيراً من أصحابهم قد قتل
﴿لأكفرن عنهم سيئاتهم﴾ كما تقدم سؤالهم إياي في ذلك علماً منهم بأن أحداً لن يقدر على أن يقدر الله حق قدره
162
وإن اجتهد
﴿ولأدخلنهم﴾ أي بفضلي
﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ كما سبق به الوعد
﴿ثواباً﴾ وهو وإن كان على أعمالهم فهو فضل منه، وعظمه بقوله:
﴿من عند الله﴾ أي المنعوت بالأسماء الحسنى التي منها الكرم والرحمة لأن أعمالهم لا توازي أقل نعمه
﴿والله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام، ونبه على عظمة المحدث عنه بالعندية فقال:
﴿عنده﴾ أي في خزائن ملكوته التي هي في غاية العظمة
﴿حسن الثواب *﴾ أي وهو ما لا شائبة كدر فيه، لأنه شامل القدرة بخلاف غيره.
163
ولما كان للمؤمنين من أهل الكتابين - مع التشرف بما كانوا عليه من الدين الذي أصله حق - حظٌّ من الهجرة، فكانوا قسماً ثانياً من المهاجرين، وكان إنزال كثير من هذه السورة في مقاولة أهل الكتاب ومجادلتهم والتحذير من مخاتلتهم ومخادعتهم والإخبار - بأنهم
165
يبغضون المؤمنين مع محبتهم لهم، وأنهم لا يؤمنون بكتابهم، وأنهم سيسمعون منهم أذى كثيراً إلى أن وقع الختم في أوصافهم بأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً - ربما أيأس من إيمانهم؛ أتبع ذلك مدح مؤمنيهم وغير الأسلوب عن أن يقال مثلاً: والذين آمنوا من أهل الكتاب - إطماعاً في موالاتهم بعد التدريب بالتحذير منهم على مناواتهم وملاواتهم فقال:
﴿وإن من أهل الكتاب﴾ أي اليهود والنصارى
﴿لمن يؤمن بالله﴾ أي الذي حاز صفات الكمال، وأشار إلى الشرط المصحح لهذا الإيمان بقوله:
﴿وما أنزل إليكم﴾ أي من هذا القرآن
﴿وما أنزل إليهم﴾ أي كله، فيذعن ملا يأمر منه باتباع هذا النبي العربي، وإليه الإشارة بقوله جامعاً للنظر إلى معنى من تعظيماً لوصف الخشوع بالنسبة إلى مطلق الإيمان:
﴿خاشعين لله﴾ أي لأنه الملك الذي لا كفوء له، غير مستنكفين عن نزل المألوف
﴿لا يشترون بآيات الله﴾ أي التي متى تأملوها علموا أنه لا يقدر عليها إلا من أحاط بالجلال والجمال، الآمرة لهم بذلك
﴿ثمناً قليلاً﴾ بما هم عليه من الرئاسة ونفوذ الكلمة - كما تقدم قريباً في وصف معظمهم، فهم يبينونها ويرشدون إليها ولا يحرفونها.
166
ولما أخبر تعالى عن حسن ترحمهم إليه أخبر عن جزائهم عنده بما يسر النفوس ويبعث الهمم فقال:
﴿أولئك﴾ أي العظيمو الرتبة
﴿لهم أجرهم﴾ أي الذي يؤملونه ثم زادهم فيه رغبة تشريفة بقوله:
﴿عند ربهم﴾ أي الذي رباهم ولم يقطع إحسانه لحظة عنهم، كل ذلك تعظيماً له من حيث إن لهم الأجر مرتين.
ولما اقتضت هذه التأكيدات المبشرات إنجاز الأجر وإتمامه وإحسانه، وكان قد تقدم أنه تعالى يؤتي كل أحد من ذكر وأنثى أجره، ولا يضيع شيئاً، ويجازي المسيء والمحسن، وكانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول زمن الحساب، وذلك سبب لطول الانتظار، وذلك سبب لتعطيل الإنسان عن مهماته ولضيق صدره بتفرق عزمه وشتاته كان ذلك محل عجب يورث توهم ما لا ينبغي، فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى على غير ذلك لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله:
﴿إن الله﴾ أي بما له من الجلال والعظمة والكمال
﴿سريع الحساب *﴾ ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد وتجرع مرارات الأذى واقتحام الحروب واستهانة عظائم الكروب، والحث على المعارف الإلهية والآداب الشرعية من الأصول والفروع انخلاعاًَ من المألوفات
167
إلى ما يأمر به سبحانه من الطاعات، وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات كانت نتيجة ذلك لا محالة قوله تعالى منبهاً على عظمة ما يدعو إليه لأنه شامل لجميع الآداب:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي بكل ما ذكرنا في هذه السورة
﴿اصبروا﴾ أي أوقعوا الصبر تصديقاً لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه مما تكرهه النفوس مما دعتكم إليه الزهراوان
﴿وصابروا﴾ أي أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار والمنافقين وسائر العصاة، فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم
﴿ورابطوا﴾ أي بأن تربطوا في الثغور خيلاً بإزاء ما لهم من الخيول إرهاباً لهم وحذراً منهم - هذا أصله، ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور لأجل الذب عن الدين ولو لم تكن خيول، بل وتطلق على المحافظة على الطاعات، ثم أمر بملاك ذلك كله فقال:
﴿واتقوا الله﴾ أي في جميع ذلك بأن تكونوا مراقبين له، مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه من عظمته بنعمته ونقمته
﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وظفره بما يريد من النصر على الأعداء والفوز بعيش الشهداء، وهذه الآية - كما ترى - معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين،
168
المختتم به البقرة
﴿فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ [البقرة: ١٨٦] داعية إلى تذكير أولي الألباب بالمراقبة للواحد الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء في اتباع آياته ومعاداة أعدائه، كما أن التي قبلها فيمن آمن بجميع الكتب: هذا القرآن المصدق لما بين يديه والتوراة والإنجيل، كل ذلك للفوز بالفرقان بالنصر وتعذيب أهل الكفر بأيديهم تمكيناً من الله - والله عزيز ذو انتقام - ردّاً للمقطع على المطلع على أحسن وجه - والله أعلم بالصواب وعنده حسن المآب.
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس بن قيس وأنظاره من الفرقة، وذه السورة من أواخر ما نزل، روى البخاري في فضائل القرآ، " عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تريه مصحفها، فقالت: لم؟ قال لعلي: أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ
169
غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل احلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا تدع الزنى أبدا، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) [القمر: ٤٦] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلأا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السورة انتهي. وقد عنت بهذا رضي الله عنعا أن القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال، كما تشاهده من هذا الكتاب البديع البعيد المنال
170