ﰡ
وأما قول من قال :" إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه " فهذا أيضاً لا مدخل له في هذه الآية ؛ لأنه لا يحتاج إلى ردّه إلى المحكم، وإنما يحتاج إلى تدبُّرِه بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه.
وأما قول من قال :" إن المحكم ما عُلم وقته وتعيينه والمتشابه ما لا يُعلم تعيين تأويله، كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيَسَنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا " وإن هذا الضرْب أيضاً منها خارج عن حكم هذه الآية لأننا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم. فلم يَبْقَ من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحَمْلُه على معناه إلاّ الوجه الأخير الذي قلنا، وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني، فيجب حمله على المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات. وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها يتناولها الاسم على ما رُوي عنهم فيه لما بيّنا من وجوهها، ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ؛ ثم يكون قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها، فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم يَنْفِ بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] لأن في فَحْوَى الآية ما قد دلّ على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك، ويستحيل أن تدل الآية على وجوب ردّه إلى المحكم. وتدل أيضاً على أنّا لا نصل إلى علمه ومعرفته ؛ فإذاً ينبغي أن يكون قوله تعالى :﴿ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ ﴾ غير نافٍ لوقوع العلم ببعض المتشابه، فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر. ومن الناس من يُجَوِّزُ ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبيِّنُه أبداً، فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به.
وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾، فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى :﴿ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾، وجعل الواو التي في قوله :﴿ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾ للجمع، كقول القائل : لقيت زيداً وعمراً، وما جرى مجراه. ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله ﴾ وجعل الواو للاستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول. فمن قال بالقول الأول جعل الراسخين في العلم عالِمِينَ ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه ؛ وقد رُوي نحوه عن عائشة والحسن. وقال مجاهد فيما رواه ابن أبي نجيح في قوله تعالى :﴿ فأمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ يعني شَكّاً ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ : الشبهات بما هلكوا، لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنّا به. ورُوي عن ابن عباس : ويقول الراسخون في العلم ؛ وكذلك رُوي عن عمر بن عبدالعزيز. وقد رُوي عن ابن عباس أيضاً : وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنّا به ؛ وعن الربيع بن أنس مثله. والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره :" وما يعلم تأويله إلا الله " يعني تأويل جميع المتشابه على ما بَيَّنَّا، " والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنّا به كلّ من عند ربنا "، يعني ما نُصِبَ لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم وردّه إليه وما لم يجعل لهم سبيلاً إلى علمه من نحو ما وصفنا، فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنّا بالجميع كلٌّ من عند ربنا، وما أخْفَى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا، وما أعْلَمَنَا وما يُعْلِمنَاهُ إلا لمصلحتنا ونفعنا ؛ فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه وما لم يعلموه.
ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلاّ أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ ﴾ وأن " الواو " للاستقبال دون الجمع ؛ لأنها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر. وقال من ذهب إلى القول الأول : هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن، وهو قوله تعالى في بيان قَسْمِ الفيء :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ﴾ [ الحشر : ٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ] ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ [ الحشر : ١٠ ] وهم لا مح
وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل ؛ لأن الله مدح هؤلاء الذين قُتِلُوا حين أَمَرُوا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر. وَرَوَى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " وفي بعض الروايات :" يُقْتَلُ عَلَيْهِ ". وَرَوَى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الشّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِب وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ ". قال عمرو بن عبيد : لا نعلم عملاً من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يُقْتَلُ عليه.
وإنما قال الله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وإن كان الإخبار عن أسلافهم، مِنْ قِبَلِ أن المخاطَبِينَ من الكفار كانوا راضين بأفعالهم، فأُجْمِلُوا معهم في الإخبار بالوعيد لهم ؛ وهذا كقوله تعالى :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾ [ البقرة : ٩١ ] وقوله تعالى :﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ [ آل عمران : ١٨٣ ]، فنسب القَتْلَ إلى المخاطَبِينَ لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولّوهم عليها، فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام.
والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني : جائزٌ أن يكون نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بيّنا، ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حَدٍّ أو غيره، كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :" أنه ذهب إلى بعض مدارسهم، فسألهم عن حد الزاني، فذكروا الجلد والتَّحْمِيمَ وكتموا الرجْمَ، حتى وقفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على آية الرجم بحضرة عبدالله بن سلام ". وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك ؛ وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى، ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ﴾ [ النور : ٤٨ ].
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] فأخبر أنه آتى الكافر الملك. قيل له : يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاءَ الكافر الملك ؛ وقد قيل إنه أراد به : آتى إبراهيم الملك، يعني النبوة وجواز الأمر والنهي في طريق الحكمة.
[ المجادلة : ٢٢ ] الآية، وقال تعالى :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ]، وقال تعالى :﴿ فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ﴾ [ النساء : ١٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ [ هود : ١١٣ ]، وقال تعالى :
﴿ فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ [ النجم : ٢٩ ]، وقال تعالى :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ]، وقال تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغْلُظْ عليهم ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وقال تعالى :﴿ ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ﴾ [ طه : ١٣١ ]، فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا. ورُوي " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإِبلٍ لبني المصطلق وقد عَبِسَتْ بأبوالها من السمن، فتقنع بثوبه ومَضَى " لقوله تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ﴾ [ طه : ١٣١ ]. وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ﴾ [ الممتحنة : ١ ]. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْركٍ "، فقيل : لم يا رسول الله ؟ فقال :" لا تَرَاءَى نَارَاهُما ". وقال :" أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ ". فهذه الآي والآثار دالَّةٌ على أنه ينبغي أن يُعَامَلَ الكفارُ بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة، ما لم تكن حالٌ يخاف فيها على تَلَفِ نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضرراً كبيراً يلحقه في نفسه، فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد.
والولاء ينصرف على وجهين، أحدهما : مَنْ يَلي أمورَ مَنْ يرتضي فِعْلَهُ بالنصرة والمعونة والحياطة، وقد يسمَّى بذلك المعانُ المنصور، قال الله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] يعني أنه يتولَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ. والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم مُعَانُون بنصرة الله، قال الله تعالى :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ يونس : ٦٢ ].
قوله تعالى :﴿ إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ يعني أن تخافوا تَلَفَ النفس وبعض الأعضاء فتتّقُوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها. وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم ؛ وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ قال :" لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً وليّاً في دينه ". وقوله تعالى :﴿ إلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ : إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فَيَصِلُهُ لذلك ؛ فجعل التقية صلة لقرابة الكافر. وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ]. وإعطاء التّقِيَّةِ في مثل ذلك إنما هو رخصةٌ من الله تعالى وليس بواجب، بل تَرْكُ التقية أفضل، قال أصحابنا فيمن أُكْرِهَ على الكفر فلم يفعل حتى قُتل : إنه أفضل ممن أظهر. وقد أخذ المشركون خبيب بن عديّ فلم يُعْطِ التقية حتى قُتل، فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعْطَى التقية وأظهر الكُفْرَ فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :" كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ " ؟ قال : مطمئناً بالإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم :" وإنْ عَادُوا فَعُدْ ! " وكان ذلك على وجه الترخيص. ورُوي أن مُسَيْلِمَةَ الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم ! فخلاّه، ثم دعا بالآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : إني أصَمُّ، قالها ثلاثاً ؛ فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أَمَّا هَذَا المَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئاً لَهُ، وأمّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ الله فلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ ". وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصةٌ وأن الأفضل ترك إظهارها. وكذلك قال أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزازُ الدين، فالإقدام عليه حتى يُقْتَلَ أَفْضَلُ من الأخْذِ بالرخصة في العدول عنه، ألا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقُتل كان أفضلَ من انحاز ؟ وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين، فكذلك بَذْلُ النفس في إظهار دين الله تعالى وتَرْكُ إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه.
وفي هذه الآية ونظائرها دلالةٌ على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء، وأنه إذا كان له ابنٌ صغير مسلم بإسلام أمّه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره. ويدلّ على أن الذميّ لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ؛ لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة.
قوله عز وجل :﴿ إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ رُوي عن الشعبي أنه قال :" مُخْلَصاً للعبادة "، وقال مجاهد :
" خادماً للبيعة ". وقال محمد بن جعفر بن الزبير :" عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى ". والتحرير ينصرف على وجهين، أحدهما : العِتْقُ من الحرية. والآخر : تحرير الكتاب، وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب. وقولها :﴿ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً ﴾ إذا أرادت مُخْلَصاً للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها، وإذا أرادت به أنها تجعله خادماً للبيعة أو عتيقاً لطاعة الله تعالى، فإن معاني جميع ذلك متقاربة، كان نذراً مِنْ قِبَلِها نذرته لله تعالى بقولها :" نَذَرْتُ "، ثم قالت :﴿ فَتَقَبَّلْ مِنّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾. والنَّذْرُ في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضاً بأن ينذر الإنسان أن ينشىء ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين، وجميع ذلك نذور صحيحة ؛ لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى. وقولها :﴿ نَذَرْتُ لَكَ ﴾ يدلّ على أنه يقتضي الإيجابَ، وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها. ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة ؛ لأنه معلوم أن قولها :﴿ نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يُخْلَصَ لعبادة الله تعالى. ويدل أيضاً على جواز النذر بالمجهول ؛ لأنها نذرته وهي لا تدري ذكر هو أم أنثى.
ويدل على أن للأم ضَرْباً من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته، لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها. ويدل أيضاً على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإِنْ لم يُسَمِّهِ الأب، لأنها قالت :﴿ وإنّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ﴾ وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم.
قوله تعالى :﴿ وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ إذا قرىء بالتخفيف كان معناه أن تضمن مؤنتها، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ " وأشار بأصبعيه، يعني به من يضمن مؤنة اليتيم. وإذا قرىء بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفّله إياها وضمّنه مؤنتها وأمره بالقيام بها. والقراءتان صحيحتان، بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] فسمّوهم ساداتٍ وهو ضُلاَّلٌ. قيل له : لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقّاً لها، فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم، كما قال تعالى :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم ﴾ [ هود : ١٠١ ] ولم يكونوا آلهة، ولكنهم سَمَّوْهُمْ آلهةً فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم.
[ الأحزاب : ٣٣ ] والمراد طهارة الإيمان والطاعات. وقيل : إن المراد " وطهّرك من سائر الأنجاس من الحَيْضِ والنّفاس وغيرهما ".
وقد اختُلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية، لأن الله تعالى قال :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] فقال قائل :" كان ذلك معجزةً لزكريا عليه السلام ". وقال آخرون :" على وجه إرهاص نبوة المسيح، كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ".
" أطيلي القيام في الصلاة ". وأصل القنوت الدوامُ على الشيء ؛ وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمْرُ بإطالة القيام في الصلاة. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الصّلاةِ طُولُ القُنُوتِ " يعني طول القيام. ويدلُّ عليه قوله عطفاً على ذلك :﴿ واسْجُدِي وارْكَعِي ﴾ فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة، ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأَجْلِ ذكر السجود فيها ؛ لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع، فكان أمراً بالصلاة ؛ وفي هذا دلالة على أن " الواو " لا توجب الترتيب ؛ لأن الركوع مقدَّم على السجود في المعنى، وقدَّم السجود ههنا في اللفظ.
وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم، وهو نظير ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه " ؛ وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة، وكذلك كان حكم كفالة مريم عليها السلام، وغيرُ جَائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
البشارة هي خَبَرٌ على وَصْفٍ، وهو في الأصل لما يُسِرُّ لظهور السرور في بَشَرَةِ وجهه إذ بُشِّرَ، والبَشَرَةُ هي ظاهر الجلد، فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى، وكان الله هو مبشرها وإن كانت الملائكة خاطبوها. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" إن بشرت فلاناً بقدوم فلان فعبدي حرّ " فَقَدِمَ وأرسل إليه رسولاً يخبره بقدومه، فقال له الرسول :" إن فلاناً يقول لك قد قدم فلان " أنه يحنث في يمينه ؛ لأن المرسل هو المبشر دون الرسول. ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا :" إن المبشِّر هو المخبر الأول، وإن الثاني ليس بمبشِّر لأنه لا يَحدثُ بخبره سرورٌ " ؛ وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب، كقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ].
قوله تعالى :﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾ قد قيل فيه ثلاثة أوجه، أحدها : أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فلما كان خَلْقُه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازاً كما قال :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾ [ النساء : ١٧١ ]. والوجه الثاني : أنه لما بَشَّرَ به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم. والوجه الثالث : أن الله يَهْدِي به كما يَهْدِي بكلمته.
وفي هذه الآيات دَحْضُ شُبَهِ النصارى في أنه إله أو ابن الإله ؛ وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم لولا أنهم عرفوا يقيناً أنه نبيّ ما الذي كان يمنعهم من المباهلة ؟ فلما أحجموا وامتنعوا عنها دلّ على أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نَعْتِهِ في كتب الأنبياء المتقدمين. وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال :﴿ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ﴾ ولم يكن هناك للنبي صلى الله عليه وسلم بَنُونَ غيرهما ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسن رضي الله عنه :" إنّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ " وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير :" ولا تُزْرِمُوا ابْنِي " وهما من ذريته أيضاً، كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى :﴿ ومن ذريته داود وسليمان ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] إلى قوله تعالى :﴿ وزكريا ويحيى وعيسى ﴾ [ الأنعام : ٨٥ ] وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له.
ومن الناس من يقول إن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أن يُسَمَّيا ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما، وقد رُوي في ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدلّ على خصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس ؛ لأنه رُوي عنه أنه قال :" كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاّ سَبَبِي وَنَسَبِي " ؛ وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة :" إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ".
وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن ولد الابنة يدخلون فيه. وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مخصوصٌ به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر، وأن غيرهما من الناس إنما يُنْسَبُون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم، ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جاريةً روميةً أو حبشية أن ابنه يكون هاشميّاً منسوباً إلى قوم أبيه دون أمه ؟ وكذلك قال الشاعر :
* بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنا وبَنَاتِنَا * بَنُوهُنَّ أبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ *
فنسبةُ الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوَّة على الإطلاق مخصوصٌ بهما لا يدخل فيه غيرهما ؛ هذا هو الظاهر المتعالَمُ من كلام الناس فيمن سواهما، لأنهم يُنْسبون إلى الأب وقومه دون قوم الأمّ.
وقوله تعالى :﴿ ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلاّ فيما حلّله الله أو حرَّمه، وهو نظير قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ﴾ [ التوبة : ٣١ ]. وقد رَوَى عبد السلام بن حرب عن غُطَيْف بن أعْيَن عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال :" أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ " ثم قرأ :
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ]، قلت : يا رسول الله ما كنّا نعبدهم ! قال :" أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ ما أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ ؟ ". قال :" فتلك عبادتهم " ؛ وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أرباباً لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلّله، ولا يستحق أحدٌ أن يُطاع بمثله إلاّ الله تعالى الذي هو خالقهم، والمكَلَّفُون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتّباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره.
فإن قيل : فينبغي أن لا يكون حنيفاً مسلماً ؛ لأن القرآن نزل بعده. قيل له : لما كان معنى الحَنِيفِ الدِّين المستقيم، لأن الحَنَفَ في اللغة هو الاستقامة، والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره، وكل أحد من أهل الحقّ يصحّ وَصْفُهُ بذلك ؛ فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قَبْلَهُ قد كانوا بهذه الصفة، فلذلك جاز أن يُسمَّى إبراهيم حنيفاً مسلماً وإن كان القرآن نزل بعده ؛ لأن هذا الاسم ليس بمختصٍّ بنزول القرآن دون غيره، بل يصح صفة جميع المؤمنين به، واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن كان على ملّة حَرَّفَها مُنْتَحِلُوها من شريعة التوراة والإنجيل، فغير جائز أن يُنْسَبَ إليها من كان قبلها.
وفي هذه الآيات دليل على وجوب المُحَاجَّةِ في الدين وإقامة الحُجَّة على المبطلين، كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شُبْهَتَهُمْ وَشَغَبَهُمْ.
" سبعون ألفاً ". وقال أبو صالح :" مائة رطل ". فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع، ويقال إنه أراد به النصارى. ومن الناس من يحتجّ بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض ؛ لأن الشهادة ضَرْبٌ من الأمانة، كما أن بعض المسلمين لما كان مأموناً جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفاً بالأمانة دلّ على جواز قبول شهادته على الكفار.
فإن قيل : فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين ؛ لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها. قيل له : كذلك يقتضي ظاهر الآية، إلا أنّا خصصناه بالإنفاق. وأيضاً فإنما دلّت على جواز شهادتهم للمسلمين، لأن أداء أمانتهم حقٌّ لهم، فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه.
وقوله تعالى :﴿ ومِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بدِينَارٍ لا يؤده إلَيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ﴾ قال مجاهد وقتادة :" إلا ما دُمْتَ عليه قائماً بالتَّقَاضي ". وقال السدي :" إلا ما دمت قائماً على رأسه بالملازمة له ". واللفظ محتمل للأمرين من التَّقَاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعاً ؛ وقوله تعالى :﴿ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ﴾ بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة. وقد دلت الآية على أن للطالب ملازمة المطلوب بالدَّيْنِ.
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ علَيْنَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ رُوي عن قتادة والسدي أن اليهود قالت : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون، وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وقيل : إنهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلّون أموالهم ؛ لأنه يَزْعُمون أن على الناس جميعاً اتّباعهم، وادّعوا ذلك على الله أنه أنزله عليهم ؛ فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالاً هو في الظاهر لغيره، وكل من في يده شيءٌ يدّعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقّه غيره. وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالاً هو لغيره في الظاهر ولولا يمينه لم يستحقه ؛ لأنه معلوم أنه لم يُرِدْ به مالاً هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر، إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة ؛ وفي ذلك دليلٌ على بطلان قول القائلين برَدِّ اليمين، لأنه يستحق بيمينه ما كان مُلْكاً لغيره في الظاهر. وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست موضوعة للاستحقاق، وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة ؛ وروى العوّام بن حوشب قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبي أوفى يقول : أقام رجل سِلْعَةً فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعْطِيتُ بها ثمناً لم يُعْطَ بها ليوقع فيها مسلماً، فنزلت :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ﴾ الآية. ورُوي عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتاباً بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله، ممن ادّعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل.
فإن قيل : فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه، كذلك الكفر والمعاصي. قيل له : لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات، ألا ترى أنك لو قلت :" ما عند زيد طعام " كان نفياً لقليله وكثيره، ولو قلت :" عنده طعام " ما كان عموماً في كون جميع الطعام عنده ؟.
قال أبو بكر : عِتْقُ ابن عمر للجارية على تأويل الآية يدلّ على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القُرْبَة إلى الله فهو من النفقة المراد بالآية، ويدل أيضاً على أن ذلك كان عنده عامّاً في الفروض والنوافل ؛ وكذلك فِعْلُ أبي طلحة وزيد بن حارثة يدلّ على أنهم لم يَرَوْا ذلك مقصوراً على الفرض دون النفل، ويكون حينئذ معنى قوله تعالى :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ ﴾ على أنكم لن تنالوا البِرَّ الذي هو في أعلى منازل القُرَبِ ﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ على وَجْهِ المبالغة في الترغيب فيه ؛ لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته، كما قال تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ﴾ [ الحج : ٣٧ ]. وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يُرِدْ به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ المِسْكِينُ الّذِي تَرُدُّهُ اللّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتَانِ، ولكِن الْمِسْكِينُ الّذِي لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ ولا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّق عَلَيْهِ "، فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة.
وهذا الطعام الذي حرّمه إسرائيل على نفسه صار محظوراً عليه وعلى بني إسرائيل، يدل عليه قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لبَني إسْرَائِيلَ إلاَّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ فاستثنى ذلك مما أحَلَّهُ تعالى لبني إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه، فدل على أنه صار محظوراً عليه وعليهم.
فإن قيل : كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئاً وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر والإباحة، إذْ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده. قيل : هذا جائز بأن يأذن الله له فيه، كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدي إليه الاجتهاد حُكْماً لله تعالى. وأيضاً فجائز للإنسان أن يحرّم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام، إما من جهة النص أو الاجتهاد. وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توفيقاً من الله له في إباحة التحريم له إن شاء، وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه، ولو كان ذلك عن توقيف لقال :" إلا ما حرم الله على بني إسرائيل " فلما أضاف التحريم إليه دلّ ذلك على أنه قد كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد. وهذا يدلّ على أنه جائز أن يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أوْلى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي ؛ وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه.
قال أبو بكر : قد دلّت الآية على أن تحريم إسرائيل لِمَا حرّمه من الطعام على نفسه قد كان واقعاً ولم يكن موجب لفظه شيئاً غير التحريم، وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مارية على نفسه، وقيل إنه حرم العسل ؛ فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ﴾ [ التحريم : ١ ] إلى قوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ [ التحريم : ٢ ]، فجعل في التحريم كفّارة يمين إذا استباح ما حرَّم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه. وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئاً من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفّارة يمين، بمنزلة من حَلَفَ أن لا يأكل هذا الطعام ؛ إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه، وهو أن القائل :" والله لا أكلتُ هذا الطعام " لا يحنث إلا بأكل جميعه، ولو قال :" قد حرمت هذا الطعام على نفسي " حنث بأكل جزء منه ؛ لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحِنْثِ بأكْلِ الجزء منه، بمنزلة قوله :" والله لا آكل شيئاً منه " لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء فتحريمه شامل لقليله وكثيره، وكذلك المحرِّم له على نفسه عاقدٌ لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل.
قوله تعالى :﴿ وهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ يعني بياناً ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، وهو أمْنُ الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه ؛ وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته. وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم ؛ لأن ذلك موجود في جميع الحرم. وقوله :﴿ مُبَارَكاً ﴾ يعني أنه ثابت الخير والبركة ؛ لأن البركة هي ثبوت الخير ونُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ، والبَرْكُ هو الثبوت، يقال : بَرَكَ بَرْكاً وَبُرُوكاً إذا ثبت على حاله. وفي هذه الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونموّ الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة.
باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه
قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾. قال أبو بكر : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله :﴿ إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ ﴾ موجودة في جميع الحرم، ثم قال :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وقوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ يقتضي أمْنَهُ على نفسه سواء كان جانياً قبل دخوله أو جَنَى بعد دخوله، إلاّ أن الفقهاء متّفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها، ومعلوم أن قوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ وإنْ كان في صورة الخبر، كأنه قال : هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به، كما نقول : هذا مباح وهذا محظور ؛ والمراد أنه كذلك في حكم الله وما أمر به عباده، وليس المراد أن مبيحاً يستبيحه ولا أن معتقداً للحَظْرِ يحظره، وإنما هو بمنزلة قوله في المباح :" افْعَلْهُ على أن لا تَبِعَةَ عليك فيه ولا ثواب " وفي المحظور :" لا تفعله فإنك تستحق العقاب به " ؛ وكذلك قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ لنا بإيمانه وحَظْرِ دمه، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا ؟ ولو كان قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ خبراً لما جاز أن لا يوجد مخبره، فثبت بذلك أن قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ لنا بإيمانه ونَهْيُ لنا عن قتله. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمراً لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن نؤمنه من قَتْلٍ قد استحقه بجنايته، فلما كان حمله على الإيمان من قَتْلٍ غير مستحَقٍّ عليه بل على وجه الظلم، تسقط فائدة تخصيص الحرم به ؛ لأن الحرم وغيره في ذلك سواء، إذْ كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قِبَلِنَا أو من قِبَلِ غيرنا إذا أمكننا ذلك، علمنا أن المراد الأمر بالإيمان مِنْ قِبَلِ مُسْتَحقٍّ، فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحَقّ من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره، إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قَتَل في الحرم قُتِلَ، قال الله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه.
وقد اختلف الفقهاء فيمن جَنَى في غير الحرم ثم لاذ إليه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد :" إذا قَتَلَ من غير الحرم ثم دخل الحرم لم يُقْتَصَّ منه ما دام فيه، ولكنه لا يُبَايَعُ ولا يُؤَاكَل إلى أن يخرج من الحرم فيقتصّ منه، وإن قَتَلَ في الحرم قُتِلَ، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقْتُصَّ منه ". وقال مالك والشافعي :" يُقْتَصُّ منه في الحرم ذلك كله ". قال أبو بكر : رُوي عن ابن عباس وابن عمر وعبيدالله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قَتَلَ ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل، قال ابن عباس :" ولكنه لا يُجَالَسُ ولا يُؤْوَى ولا يُبَايَعُ حتى يخرج من الحرم فيُقْتَل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه ". ورَوَى قتادة عن الحسن أنه قال :" لا يمْنَعُ الحرمُ مَنْ أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه "، قال : وكان الحسن يقول :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ :" كان هذا في الجاهلية، لو أن رجلاً جَرَّ كل جَرِيرَةً ثم لجأ إلى الحرم لم يُتَعَرَّضْ له حتى يخرج من الحرم، فأما الإسلام فلم يَزِدْهُ إلاّ شدّةً، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أُقيم عليه الحد ". ورَوَى هشام عن الحسن وعطاء قالا :" إذا أصاب حدّاً في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أُخرج عن الحرم حتى يُقام عليه "، وعن مجاهد مثله. وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته ؛ وقد رُوي ذلك عن عطاء مفسَّراً، فجائز أن يكون ما رُوي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه. و قد ذكرنا دلالة قوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] على مثل ما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ في موضعه، وبَيَّنَّا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قَتْلَ من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم. وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه، يدلّ على أنه اتفاق منهم على حَظْرِ قَتْلِ من قَتَلَ في غير الحرم ثم لجأ إليه ؛ لأن الحسن رُوي عنه فيه قولان متضادان، أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل، والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يُخرج منه فيُقتل ؛ وقد بينا أنه يحتمل قوله :" يخرج فيُقتل " أنه يُضَيَّقُ عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج، فلم يحصل للحسن في هذا قولٌ لتضادِّ الروايتين، وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في مَنْعِ القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم. ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، وقوله :﴿ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، وقوله :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] يوجب عمومه القصاص في الحرم على من جَنَى فيه أو في غيره. قيل له : قد دللنا على أن قوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قد اقتضى وقوعَ الأمْنِ من القتل بجناية كانت منه في غيره، وقوله :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] وسائر الآي الموجبة للقصاص مرتَّبٌ على ما ذكرنا من الأمْنِ بدخول الحرم، ويكون ذلك مخصوصاً من آي القصاص ؛ وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] واردٌ في إيجاب القصاص لا في حكم الحرم، وقوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ واردٌ في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه، فيُجْرَى كل واحد منهما على بابه ويُستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم. ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم ؛ لأنه لو لم يكن القصاص واجباً قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يَجْنِ ولم يستحقّ عليه، فدل ذلك على أن الحكم بأمْنِهِ بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص. ومن جهة الأثر حديثُ ابن عباس وأبي شريح الكعبي، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولا أَحَدٍ بَعْدِي وإنّما أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ "، فظاهر ذلك يقتضي حَظْرَ قتل اللاجىء إليه والجاني فيه ؛ إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته، فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه.
وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنَّ أَعْتَى النّاسِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ في الحَرَمِ أَوْ قَتَلَ بذَحْلِ الجَاهِلِيَّةِ "، وهذا أَيضاً يحظر عمومُه قَتْلَ كل من كان فيه، فلا يخص منه شيء إلا بدلالة.
وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به ؛ لأنه لو كان عليه دَيْنٌ فلجأ إلى الحرم حُبس به، لقوله صلى الله عليه وسلم :" لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ "، والحبس في الدين عقوبة، فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس، فكل حقّ وجب فيما دون النفس أُخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياساً على الحَبس في الدين. وأيضاً لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما يجب عليه فيما دون النفس، وكذَلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها، ولا خلاف أيضاً أنه إذا جَنَى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يُشَارَى ولا يُؤْوَى حتى يخرج ؛ ولما ثبت عندنا أنه لا يُقتل وَجَبَ استعمال الحكم الآخر فيه في تَرْكِ مشاراته ومبايعته وإيوائه. فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها، وإنما الخلاف فيمن جَنَى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم، وقد دللنا عليه ؛ وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق.
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال : حدثنا يعقوب بن حميد قال : حدثنا عبدالله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَسْكُنُ مَكَّةَ سَافِكُ دَمٍ ولا آكِلُ رِباً ولا مَشَّاءٌ بنَميمَةٍ "، وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يُؤْوَ ولم يُجالس ولم يُبَايَعْ ولم يُشَارَ ولم يُطْعَمْ ولم يُسْقَ حتَّى يخرج، لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يسكنها سافك دم ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار قال : حدثنا داود بن عمرو قال : حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال :" إذا دخل القاتل الحرم لم يُجالسْ ولم يُبايعْ ولم يُؤْوَ واتّبعه طالبه يقول له : اتّق الله في دم فلان واخرج من الحرم ".
ونظير قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قوله عز وجل :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ]، وقوله :﴿ أولم نمكن لهم حرماً آمناً ﴾ [ القصص : ٥٧ ]، وقوله :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حَظْرِ قَتْلِ من لجأ إليه وإن كان مستحقّاً للقتل قبل دخوله. ولمّا عبّر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دلّ على أن الحرم في حُكْمِ البيت في باب الأمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ من لجأ إليه. ولما لم يختلفوا أنه لا يُقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه.
فإن قيل : من قَتَلَ في البيت لم يُقْتَلْ فيه ومن قَتَلَ في الحرم قُتِلَ فيه، فليس الحرم كالبيت. قيل له
فإن قيل : قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم، فلا يصح لكم الاحتجاج بقوله :﴿ لتكونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] في صحة إجماع الأمّة وثبوت حجته. قيل له : إنه جَلّ وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم، وقال هناك :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] كما قال :﴿ ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم ؛ وقال في هذه الآية :﴿ وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ ومعناه غير معنى قوله :﴿ شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وقد قيل في معناه وجهان، أحدهما :﴿ وأنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ أنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى ؛ وذلك في أهل الكتاب منهم. والثاني : أن يريد بقوله :﴿ شُهَدَاءُ ﴾ عقلاء، كما قال الله تعالى :﴿ أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ [ ق : ٣٧ ] يعني : وهو عاقل ؛ لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل.
باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ﴾ قال أبو بكر : قد حوت هذه الآية معنيين، أحدهما : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر : أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره، لقوله تعالى :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ ﴾، وحقيقته تقتضي البعض دون البعض، فدلّ على أنه فرض الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام الخصوص في قوله :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ مجازاً، كقوله تعالى :﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] ومعناه :" ذُنُوبَكُمْ ". والذي يدل على صحة هذا القول إنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، ولولا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به. وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أُخَرَ من كتابه، فقال عز وجل :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، وقال فيما حكى عن لقمان :﴿ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ﴾ [ لقمان : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]، وقال عز وجل :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ [ المائدة : ٧٨ و ٧٩ ]. فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وهي على منازل : أولها تغييره باليد إذا أمكن، فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفاً على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه، فإن تعذر ذلك لما وَصَفْنا فعليه إنكاره بقلبه، كما حدثنا عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا شعبة قال : أخبرني قيس بن مسلم قال : سمعت طارق بن شهاب قال : قدَّمَ مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال : خَالَفْتَ السنَّةَ، كانت الخطبة بعد الصلاة ؛ قال : تُرِكَ ذلك يا أبو فلان قال شعبة : وكان لحاناً فقام أبو سعيد الخدري فقال : من هذا المتكلم ؟ فقد قَضَى ما عليه، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكرْهُ بِلِسَانِهِ فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكرْهُ بقَلْبِهِ وذاك أَضْعَفُ الإيمانِ ". وحدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَاكَ أَضْعَفُ الإيمانِ ". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه، ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه. وحدثنا عبدالله بن جعفر قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبدالله بن جرير البجلي عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" ما مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بالمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ وأَعَزُّ ممَّنْ يَعْمَلُهُ ثمَّ لم يُغَيِّرُوا إلاّ عَمَّهُمُ الله مِنْهُ بِعقَابٍ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أوّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ على بَني إسْرائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فيقُولُ يا هذا اتَّق الله ودَعْ ما تَصْنَعُ فإنّه لا يَحلّ لكَ، ثم يَلْقَاهُ مِنَ الغَدِ فلا يَمْنَعُهُ ذلك أنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فلمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ الله تعالى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ ببَعْضٍ " ثم قال :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ [ المائدة : ٧٨ ] إلى قوله :﴿ فاسقون ﴾ [ المائدة : ٨٠ ] ثم قال :" كلاَّ والله ! لتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ولتَأْخُذُنَّ على يَدَي الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ على الحَقِّ أَطْراً وتَقْصُرُنَّهُ على الحَقِّ قَصْراً ". قال أبو داود : حدثنا خلف بن هشام قال : حدثنا أبو شهاب الحنّاط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه :" أو لَيَضْرِبَنَّ الله بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ على بَعْضٍ ثمّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كما لَعَنَهُمْ ". فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من شرط النهي عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيمَ على المعصية ولا يؤاكله ولا يشاربه. وكان ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك بياناً لقوله تعالى :﴿ ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا ﴾ [ المائدة : ٨٠ ] فكانوا بمؤاكلتهم إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهي عن المنكر لقوله تعالى :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ [ المائدة : ٧٩ ] مع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه. وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا وهب بن بقية قال : أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال : قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثْنَى عليه : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] وإنّا سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :" إنّ النَّاسَ إذا رَأَوُا الظَّالِمَ فلم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ الله بعِقَابٍ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال : حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثني أبو أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] ؟ فقال : أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتَّى إذا رَأَيْتَ شُحّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً ودُنْيا مُؤثِرَةٌ وإعْجَابَ كُلِّ ذي رَأْي برَأْيِهِ فَعَلَيْكَ يعني بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ، فإنّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فيه كَقَبْضٍ على الجَمْرِ، للعامِلِ فيهم مِثْلُ أجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ "، قال : وزادني غيره : قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال :" أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ". وفي هذه الأخبار دلالةٌ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها حالان : حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله. وإزالَتُه باليد تكون على وجوه : منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك، كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ " فإذا لم يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه ؛ وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يَجُزْ له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله.
وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل :" وَسِعَكَ قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه "، وكذلك قال أبو حنيفة في السارق إذا أخذ المتاع :" وَسِعَكَ أن تتبعه حتى تقتله إن لم يردّ المتاع ". قال محمد : وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت :" يَسَعُكَ قتله "، وقال في رجل يريد قلع سِنّك، قال :" فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه " وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى :﴿ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]، فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وتَرْكِ ما هم عليه من البغي والمنكر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده " يوجب ذلك أيضاً ؛ لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله. وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس : إن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول ؛ لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مُقْدِمِينَ على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يُريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر، فجائز قتل من كان منهم مقيماً على ذلك، وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يُقتل ؛ إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم، وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مُصِرّاً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يَرْجُ ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكرٌ عليهم وَسِعَهُ السكوت عنهم بعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه "، وقوله صلى الله عليه وسلم :" فإن لم يستطع " قد فُهِمَ منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن ؛ لأن قوله :" إن لم يستطع " معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال. وقد رُوي عن ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ [ ا
وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه، أحدها : كنتم خير أمة، ولا يستحقون من الله صفة مدح إلاّ وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين. والثاني : إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أُمروا به فهو أمر الله تعالى ؛ لأن المعروف هو أمر الله. والثالث : أنهم ينكرون المنكر، والمُنْكَرُ هو ما نهى الله عنه ؛ ولا يستحقّون هذه الصفة إلاّ وهم لله رِضى ؛ فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمّة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى، وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال، ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى.
وقد رُوي عن عليّ كرم الله وجهه أنه كان قائماً على المنبر بالكوفة يخطب فقال الخوارج من ناحية المسجد : لا حُكْمَ إلا لله، فقطع خطبته وقال :" كلمة حَقٍّ يُراد بها باطل، أما إنّ لهم عندنا ثلاثاً : أن لا نمنعهم حقَّهم من الفيء ما كانت أيديهم مع أيدينا، ولا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا " ؛ فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا ؛ وكان ابتدأهم عليّ كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حَرُورَاءَ وحَاجَّهم حتى رجع بعضهم. وذلك أصل في سائر المتأولين من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا دَاعِينَ إلى مذاهبهم لم يُقَاتَلُوا وأُقِرُّوا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفراً، فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجِزْية، وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتدّ لإعطائه بدياً جملة التوحيد والإيمان بالرسول، فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدّاً.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب، كذلك كان يقول أبو الحسن، فتجوز عنده مناكحاتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوّجوهم وتُؤْكَل ذبائحهم لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به، كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكاً بسائر شرائعهم ؛ وقال تعالى :﴿ ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وقال محمد في الزيادات :" لو أن رجلاً دخل في بعض الأهواء التي يُكَفَّرُ أهلها، كان في وصاياه بمنزلة المسلمين، يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم "، وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأُقِرُّوا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم.
ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ؛ ومن أَبَى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نُقِرَّهم عليه ولم نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أُقِرُّوا بالجزية، وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يُقَرّوا بغير جزية، فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأُجْرِي عليه أحكام المرتدين، ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره، فحينئذٍ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلاّ قتل ؛ والله أعلم.
باب الاستعانة بأهل الذمة
قال الله تعالى :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ الآية. قال أبو بكر : بِطَانَةُ الرجل خاصّته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره ؛ فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بِطَانَةً من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خواصّ أمورهم، وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال :﴿ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ يعني : لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم ؛ لأن الخَبَالَ هو الفساد. ثم قال :﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُمْ ﴾، قال السدي :" ودّوا ضلالكم عن دينكم "، وقال ابن جريج :" ودُّوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه " ؛ لأن أصل العَنَتِ المشقّة، فكأنه أخبر عن محبتهم لما يشقّ عليكم، وقال الله تعالى :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]. وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمّة في أمور المسلمين من العمالات والكَتَبَةِ ؛ وقد رُوي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وتلا :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾، أي لا تردّوهم إلى العزّ بعد أن أذلّهم الله تعالى. وروى أبو حيان التيمي عن فرقد بن صالح عن أبي دهقانة قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن ها هُنا رجلاً من أهل الحيرة لم نَرَ رجلاً أحْفَظَ منه ولا أخَطَّ منه بقلم، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً قال : قد اتخذتُ إذاً بطانةً من دون المؤمنين. وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال : كنت مملوكاً لعمر فكان يقول لي : أسْلِمْ فإنك إن أسْلَمْتَ استعنتُ بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم ؛ فأَبَيْتُ، فقال : لا إكراه في الدين ؛ فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال : اذهب حيث شئت.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾، قيل فيه :" من عمل للدنيا وفّرَ حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظّ في الآخرة "، رُوي ذلك عن ابن إسحاق. وقيل إن معناه :" من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يُحْرَمْ حظه من الغنيمة ". وقيل :" من تقرّب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جُوزِيَ بها في الدنيا من غير أن يكون له حظٌّ في الآخرة " ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨ ].
وقوله تعالى :﴿ فما وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم في سَبِيلِ اللَّهِ وما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ﴾ ؛ فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه، والضعف نقصان القوة. وقيل في الاستكانة إنها إظهار الضعف، وقيل فيه إنه الخضوع ؛ فبيَّن تعالى أنهم لم يَهِنُوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع ؛ وقال ابن إسحاق :" فما وَهَنُوا بقتل نبيهم ولا ضَعُفُوا عن عدوّهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم ". وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحضّ على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد.
وقال تعالى :﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾. وإنما أُتوا من قِبَلِ من كان يريد الدنيا منهم ؛ قال عبدالله بن مسعود : ما ظننت أن أحداً ممن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾. وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يَفِرّوا من مائتين بقوله تعالى :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] ؛ لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً رَجَّالَةً قليلي العدة والسلاح وعدوّهم ألفٌ فرسانٌ ورجالةٌ بالسلاح الشاكّ، فمنحهم الله أكتافهم ونَصَرَهم عليهم حتى قتلوا كيف شاؤوا وأسروا كيف شاؤوا، ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفّف الله تعالى عن الجميع فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ]، ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح ؛ لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوْفَر ؛ وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأوّلين ؛ فالمراد بالضعف ههنا ضعف النية ؛ وأجْرَى الجيمع مجرًى واحداً في التخفيف، إذ لم يكن من المصلحة تمييز ذوي البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة، ولذلك قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوم اليمامة حين انهزم الناس :" أخلصونا أخلصونا " يعنون المهاجرين والأنصار.
* فَاذْهَبِي مَا إلَيْكِ أدْرَكَني الحلْ * م عَدَاني عَنْ هَيْجِكُمْ إِشْفَاقي *
وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز، لأن ذكر " ما " ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى.
قوله تعالى :﴿ ولَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغِلْظة في الدعاء إلى الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله تعالى لموسى وهارون :﴿ فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ].
قوله تعالى :﴿ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ ﴾. اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرّف صواب الرأي من الصحابة، فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق :" إنما أمره بها تطييباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم، إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه ". وقال سفيان بن عيينة :" أمره بالمشاورة لتقتدي به أمّته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شُورَى بينهم ". وقال الحسن والضحاك :" جمع لهم بذلك الأمرين جميعاً، في المشاورة ليكون لإجلال الصحابة ولتقتدي الأمّة به في المشاورة ". وقال بعض أهل العلم :" إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينصّ له فيه على شيء بعينه " فمن القائلين بذلك من يقول : إنما هو في أمور الدنيا خاصة، وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئاً من أمور الدين من طريق الاجتهاد، وإنما هو في أمور الدنيا خاصة، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبّه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة ؛ وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهم، وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا. وقال آخرون : كان مأموراً بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى، وفي أمور الدنيا أيضاً مما طريقه الرأي وغالب الظن ؛ وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أدّاه إليه اجتهاده، وكان في ذلك ضروب من الفوائد : أحدها إعلام الناس أن ما لا نَصَّ فيه من الحوادث فسبيلُ استدراك حُكْمِه الاجتهادُ وغالبُ الظنّ ؛ والثاني : إشعارهم بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتّباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم ويرضى اجتهادهم وتحرّيهم لموافقة النصوص من أحكام الله تعالى ؛ والثالث : أن باطن ضمائرهم مرضيّ عند الله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم، فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده صلى الله عليه وسلم في مثله. وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمّة به في مثله ؛ لأنه لو كان معلوماً عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شُووِرُوا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه، ثم لم يكن ذلك معمولاً عليه ولا متلقًّى منه بالقبول بوجه، لم يكن في ذلك تطييبُ نفوسهم ولا رفعٌ لأقدارهم بل فيه إيحاشُهم وإعلامُهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها. فهذا تأويل ساقط لا معنى له، فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع عِلْمِ الأمّة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئاً ولم يعمل فيها بشيء أشاروا به ! فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضاً أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأياً صحيحاً ولا قولاً معمولاً ؛ لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه، فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأياً صحيحاً وقولاً معمولاً عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وإذْ قد بطل هذا فلا بد من أن يكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضَرْبٌ من الارتئاء والاجتهاد، فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأي النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يوافق رأي بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأي جميعهم فيعمل صلى الله عليه وسلم حينئذ برأيه، ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنّفين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أُمروا به، ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتّباع رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا بدّ من أن تكون مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فيما لا نصَّ فيه، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات، ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ؟ ولما لم يخصّ الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلى الله عليه وسلم بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعاً ؛ ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومُكَايَدَةِ العدو، وإن لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم تدبير في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره صلى الله عليه وسلم من الدنيا على القُوت والكَفَافِ الذي لا فضل فيه، وإذا كانت مشاورته لهم في محاربة العدوّ ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين، ولا فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها ؛ وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجتهد رأيه فيما لا نَصَّ فيه. ويدلّ على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نصَّ فيه قولُه تعالى في نسق ذكر المشاورة :﴿ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ ولو كان فيما شاور فيه شيء منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة، إذ كان ورود النصّ موجباً لصحة العزيمة قبل المشاورة، وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالةٌ على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نصٌّ قبلها.
ومن قرأ :﴿ يَغُلَّ ﴾ بنصب الياء، معناه : يخون، والغلول الخيانة في الجملة، إلا أنه قد صار الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم.
وقد عظّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغلول حتى أجراه مجرَى الكبائر، وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" مَنْ فَارَقَت الرُّوحُ جَسَدَهُ وهو بَرِيءٌ مِنْ ثَلاثٍ دَخَلَ الجَنَّةَ : الكِبَرِ والغُلُولِ والدَّيْنِ ". وروى عبدالله بن عمر : أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هُوَ في النَّارِ " فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلَّها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أدّوا الخَيْطَ والمَخِيطَ فإنّه عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ". والأخبار في أمر تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي في إباحة أكل الطعام وأخْذِ علف الدوابّ عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أخبارٌ مستفيضة، قال عبدالله بن أبي أَوْفَى :" أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف ". وعن سلمان :" أنه أصاب يوم المدائن أرْغِفة حُوَّارَى وجبناً وسكيناً، فجعل يقطع من الجبنة ويقول : كلوا بسم الله ". وقد رَوَى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يَحِلُّ لأَحَدٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أعْجَفَها رَدَّها فيهِ، ولا يحلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَلْبِسَ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حتَّى إذا أخْلَقَهُ رَدَّهُ فيه " ؛ وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنياً عنه، فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء ؛ وقد رُوي عن البراء بن مالك :" أنه ضرب رجلاً من المشركين يوم اليمامة، فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به ".
وقوله تعالى :﴿ يَقُولُونَ بأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ قيل فيه وجهان، أحدهما : تأكيدٌ لكون القول منهم، إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضياً به على وجه المجاز، كما قال تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] وإنما قَتَلَ غَيْرُهم ورضوا به، وقوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾ [ البقرة : ٩١ ] ونحو ذلك. والثاني : أنه فرّق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب.
وقوله تعالى :﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، معناه : حيث لا يقدر لهم أحد على ضرٍّ ولا نفع إلا ربهم عز وجل. وليس يعني به قرب المسافة ؛ لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة، إذ هو من صفة الأجسام. وقيل : عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس.
وقوله تعالى :﴿ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً ﴾، فيه إخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة، إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقيناً وبصيرة في دينهم، وهو كما قال تعالى في الأحزاب :﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ﴾ [ الأحزاب : ٢٢ ] فازدادوا عند معاينة العدو إيماناً وتسليماً لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم. وفي ذلك أتمُّ ثناءٍ على الصحابة رضي الله عنهم وأكمل فضيلة، وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتّكال عليه، وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا متى فعلنا ذلك أعْقَبَنا ذلك من الله النصر والتأييد وصَرْف كَيْدِ العدوّ وشرّهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى :﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله ﴾.
وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلاّ جِيءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبكَنْزِهِ فيُحْمَى بها جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ ". وقال مسروق :" يجعل الحق الذي منعه حيّة فيُطوَّقها فيقول مالي وما لك ؟ فتقول الحية أنا مالك ". وقال عبدالله :" يُطَوَّقُ ثعباناً في عنقه له أسنان فيقول أنا مالُكَ الذي بخلت به ".
باب فضل الرباط في سبيل الله تعالى
قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾ قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك :" اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله ". وقال محمد بن كعب القرظي :" اصبروا على دينكم وصابروا وَعْدي إياكم ورابطوا أعداءكم ". وقال زيد بن أسلم :" اصبروا على الجهاد وصابروا العدوَّ ورابطوا الخيل عليه ". وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن :" ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" في انْتِظَارِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ ". وقال تعالى :﴿ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ]. وروى سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ ومِنْ قِيَامِهِ، ومَنْ مَاتَ فِيهِ وُقِيَ فِتْنَةَ القَبْرِ وَنَمَا له عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ". وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حَرْسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ الله أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيلَةٍ قِيَامٌ لَيْلُها وصِيَامٌ نَهَارُها ". والله الموفق.