سورة آل عمران
مدنية و آياتها مائتان
أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن النصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى فأنزل ( الم، الله لا إله إلا هو ) إلى بضع وثمانين آية من آل عمران، وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن سهل بن أبي أمامة قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين منها كذا أخرج البيهقي في الدلائل، وكذا قال البغوي عن الكلبي و الربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآيات في وفد نجران و كانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤل أمرهم العاقب أميرهم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم، دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب حبرات جبب وأردية في جمال رجال لحارث بن كعب يقول : من رآهم ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم :" دعوهم " فصلوا إلى المشرق فكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما، فقالا : قد أسلمنا قبلك، قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا، أو عبادتكم الصليب وأكلكما الخنزير، قالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه. وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم :" ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء " قالوا بلى قال " ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظ ويرزقه " قالوا : بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا : لا، قال :" ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء " قالوا : بلى، قال : فهل يعلم عيسى عليه السلام من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا، قال : فإن ربنا صوّر عيسى عليه السلام في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب، قالوا : بلى، قال :" ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث " قالوا : بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا، فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ﰡ
﴿ آلم ١ ﴾ قرأ أبو يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى عن أبي بكر الم مقطوعا بسكون الميم على الوقف كما هو في سائر المقطعات ثم قطع الهمزة للابتداء، وقرأ الجمهور بالوصل مفتوح الميم فعند سيبويه فتح الميم لالتقاء الساكنين الميم ولام الله، لا يقال : إن التقاء الساكنين غير محذور في باب الوقف لأنا نقول : إن الوقف ليس مرويا عند الجمهور، وإنما هو على قراءة أبي يوسف يعقوب كما ذكر. وفي صورة الوقف كما قرأ يعقوب يتحمل التقاء الياء والميم الساكنين في كلمة ميم دون التقاء ثلاث ساكنات، وحرّكت الميم بالفتح لكونها أخف الحركات ولم تكسر لأجل الياء وكسر الميم قبلها تحاميا عن توالي الكسرات، وقال الزمخشري : إنما هي فتحة همزة الوصل من الله نقلت إلى الميم وإنما جاز ذلك مع أن الأصل في همزة الوصل إسقاطها مع حركتها لأن الميم كان حقها الوقف، ومقتضى الوقف إبقاء همزة الوصل كما قرأ به يعقوب لكنها أسقطت للتخفيف فأبقيت حركتها لتدل على أنها في حكم الثابت، ونظرا على أن الميم في حكم الموقوف وليس بموقوف أجمع القراء على جواز المدّ الطويل في مد الميم بقدر ست حركات و المد القصير بقدر حركتين. والله أعلم.
﴿ الله ﴾ الله مبتدأ وخبره ﴿ لا إله إلا هو ﴾ خبر لا محذوف وتقديره لا إله في الوجود إلا هو والمستثنى في موضع الرفع بدل من موضع واسمه ﴿ الحي القيوم ﴾ بدل من هو أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي القيوم، وقد ذكرنا شرح الاسمين في آية الكرسي. أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا " اسم الله تعالى الأعظم في ثلاث سور : البقرة وآل عمران وطه " قال القاسم صاحب أبي أمامة : فالتمستها فوجدت أنه الحي القيوم لأجل آية الكرسي في البقرة وهذه الآية في آل عمران ﴿ وعنت الوجوه للحي القيوم ﴾ في طه، وقال الجزري صاحب الحصين : وعندي أنه ﴿ لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ قلت : عندي هو لا إله إلا هو جميعا بين حديث أبي أمامة : هذا وحديث أسماء بنت يزيد قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والله لا إله إلا هو الحي القيوم " رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدرامي، وحديث سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت ﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلا استجاب له " رواه أحمد والترمذي، وفي المستدرك للحاكم " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ وحديث يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال : دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب " رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم وقال الترمذي : حسن غريب، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين، وروى هؤلاء الجماعة كلهم عن أنس قال : كنت جالسا في المسجد ورجل يصلي فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنّان المنّان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال و الإكرام يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى " ولم يذكر ابن أبي شيبة يا حي يا قيوم، قلت : فهذه الأحاديث كلها يقتضي أن الاسم الأعظم إنما هو القدر المشترك بينها وذلك هو التهليل النفي و الإثبات، ولا إله إلا هو موجود في السور الثلاث البقرة وآل عمران وكذا في طه ﴿ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ٨ ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا إله إلا الله هو أفضل الذكر " رواه الترمذي وغيره من حديث جابر مرفوعا :" وهو مفتاح الجنة " رواه أحمد عن معاذ مرفوعا وقد تواتر معناه.
( فائدة ) وردت صيغة التهليل في أحاديث اسم الله الأعظم بلفظ لا إله إلا هو أو لا إله إلا أنت، وهذا اللفظ أرفع درجة من لفظ لا إله إلا الله لأن الضمائر وضعت للذات البحت ففي كلمة لا إله إلا هو ينتقل الذهن أولا إلى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء وصفة من الصفات وشأن من الشيونات، وكلمة الله وإن كان اسما للذات لكن الذهن هناك ينتقل أولا إلى الاسم وثانيا إلى المسمى وقد ينتقل الذهن من حيت الاشتقاق إلى معنى الألوهية فيكون من أسماء الصفات غير أن صفة الألوهية يستدعي الاتصاف بجميع صفات الكمال و التنزه عن جميع شوائب النقص و الزوال، فيكون أتم وأشمل من سائر أسماء الصفات، و الصوفية العلية إنما اختاروا كلمة لا إله إلا الله لأجل المبتدي فإن المبتدي لا سبيل له إلى الذات البحت إلا بتوسط اسم من الأسماء أو صفة من الصفات. قلت لعل وجه كون النفي و الإثبات أعظم الأسماء أن إثبات الألوهية له تعالى يقتضي إثبات جميع صفات الكمال له تعالى باقتضاء ذاته وسلب جميع النقائص عن كذلك فإنه من ليس كذلك لا يستحق العبادة، ونفي الألوهية عما عداه يقتضي حصر تلك الصفات الإيجابية والسلبية فيه تعالى فهو أعظم الأسماء وأشملها و الله أعلم.
﴿ نزّل ﴾ أي هو نزل ﴿ عليك الكتاب ﴾ أي القرآن نجوما فإن التفعيل للتكثير ﴿ بالحق ﴾ حال من الكتاب أي متلبسا بالصدق في أخباره، أو بالدين الذي هو الحق عند الله ﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي لما قبله من الكتب فكان من حقه أن يؤمن به كل من آمن بما قبله فهو حجة على النصارى واليهود حين كفروا به ﴿ وأنزل التوراة و الإنجيل ﴾ جملة، ومن ثم عدل هاهنا من التنزيل إلى الإنزال فإن الإنزال أعم منه. قرأ أبو عمرو وابن ذكوان و الكسائي في التوراة بالإمالة في جميع القرآن ونافع وحمزة بين بين والباقون بالفتح، والتوراة اسم عبراني للكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام والإنجيل اسم سرياني للكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام وليست الكلمتان عربيتان، فمن قال أنه فوعلة أو تفعلة من ورى الزند وإفعيل من النجل فقد تكلف.
﴿ من قبل ﴾ أي قبل تنزيل القرآن حتى يستعد الناس للإيمان به ﴿ هدى للناس ﴾ أي لجميع الناس ولا وجه لتخصيص الناس بقوم موسى وعيسى عليهما السلام فإن الكتب السماوية كلها تدعو جميع الناس إلى التوحيد و الإيمان بجميع الأنبياء وتوجب العلم بالمبدأ و المعاد وتهدي إلى سبيل الرشاد من امتثال أوامر لله تعالى و الانتهاء عن المناهي، وتخبر التوراة و الإنجيل والزبور عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وكون بعض الآيات منها منسوخة في فروع الأعمال في بعض الأحيان لا ينافي أنها هدى كما أن بعض آيات القران نسخت بالبعض فإن النسخ لبيان مدة الحكم، فالآية حجة لنا على أن شرائع من قبلنا يلزمنا على أنه شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي لا يلزمنا، وقوله هدى حال من التوراة والإنجيل حمل عليهما للمبالغة أو بتأويل اسم الفاعل ولم يثن لأنه مصدر ﴿ وأنزل الفرقان ﴾ أي جنس الكتب الإلهية و اللام للاستغراق، ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كأنه قال : وأنزل سائر الكتب الفارقة بين الحق و الباطل، أو المراد به القرآن وكرر ذكره مدحا وتعظيما و إظهارا لفضله فإنه يشارك الجميع في كونه منزلا من الله تعالى يتميز عما عداها بإعجاز اللفظ الموجب للفرق بين المحق و المبطل، وإنما أعاد أنزل لبعد المعطوف عليه، و لئلا يلتبس بالعطف على هدى مفعولا له أو إشارة إلى أن للقرآن إنزالا يعني إلى السماء الدنيا ليلة القدر وتنزيلا نجما نجما على حسب الحوادث، وقال السدي : في الآية تقديم و تأخير تقديرها وأنزل التوراة و الإنجيل من قبل و الفرقان هدى للناس ﴿ إن الذين كفروا بآيات الله ﴾ المنزلة في شيء من الكتب ﴿ لهم عذاب شديد ﴾ بسبب كفرهم كما يعترف به أهل الكتاب ﴿ والله عزيز ﴾ غالب لا يمنعه من التعذيب أحد ﴿ ذو انتقام ﴾ لا يقدر على مثله منتقم والنقمة عقوبة المجرم و الفعل من نقم بفتح العين و الكسر، وعيد بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى صدق الرسول بمطابقة ما جاء به الكتب السماوية وكونه معجزا.
﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ٥ ﴾ والمراد به شيء كائن في العالم كليا كان أو جزئيا، وإنما عبر عن العالم بهما لأن الحس لا يتجاوزهما، وإنما قدم الأرض على السماء لأن المقصود بالذكر أنه تعالى يعلم أعمال العباد فيجازيهم عليه، وهذه الجملة كالدليل على كونه حيا وما بعده كالدليل على كونه قيوما أي ﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾.
﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ على صور وألوان و أشكال مختلفة ذكرا أو أنثى على ما أراد ﴿ لا إله إلا هو ﴾ فلا يعلم ولا يقدر أحد سواه إلا بتعليمه وإقداره على كسبه على حسب إرادته ﴿ العزيز الحكيم ﴾ بدل من المستثنى أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو العزيز الحكيم إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته. عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق :" إن خلق أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك إليه بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، قال : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بين وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل الجنة فيدخلها " متفق عليه، وعن حذيفة بن أسيد يبلّغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد، فيكتبان، فيقول : أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوي الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص " رواه البغوي.
﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ أي القرآن ﴿ منه آيات محكمات ﴾ التي أحكمت وأتقنت عبارتها بحيث لا يشتبه على سامع عالم باللغة منطوقه ولا مفهومه ولا مقتضاه إما بلا تأمل كقوله تعالى :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ وقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ وإما بعد طلب وتأمل من غير حاجة إلى بيان من الشارع كقوله تعالى :﴿ والسارق و السارقة ﴾ يظهر شموله للطرار بأدنى تأمل لوجود معنى السرقة فيه مع زيادة وعدم شموله للنباش لنقصان معنى السرقة فيه فإن السرقة أخذ مال مملوك لغيره على سبيل الخفية وكفن الميت غير مملوك لأحد فإن الميت باعتبار أحكام الدنيا ملحق بالجماد لا يصلح للمالكية وحق الورثة لا يتعلق إلا بعد التكفين، وكقوله تعالى :﴿ وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ فإنه بعد التأمل يظهر أنه معطوف على المغسولات لضرب الغاية فيه وقوله تعالى :﴿ ثلاثة قروء ﴾ فإنه بعد التأمل يظهر أن المراد به الحيضات دون الأطهار لأن الطلاق مشروع في الطهر فلا يتصور عدد الثلاثة بلا نقصان أو زيادة إلا في الحيضات وقوله تعالى :﴿ قوارير من فضة ﴾ يظهر بالتأمل أن المراد كون صفائها كصفاء القوارير كائنا من جنس الفضة، فعلى هذا أدخل في المحكم الظاهر و النص و المفسر والمحكم و الخفي و المشكل على اصطلاح الأصوليين وما ذكرنا من تفسير المحكم هو المستفاد من قول ابن عباس، وهو المعنى من قول محمد بن جعفر بن الزبير : إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد وما قيل المحكم ما يعرف معناه ويكون حجة واضحة ودلائل لائحة ﴿ هن أم الكتاب ﴾ قال في القاموس : الأم الوالدة وأم كل شيء أصله وعماده، و للقوم رئيسهم وكل شيء انضمت إليه أشياء، قلت : الكتاب هاهنا إما بمعنى المكتوب أي المفهرس كما في قوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ فالإضافة بمعنى اللام والأم بمعنى الوالدة أو الأصل يعني المحكمات هن والدات وأصول لما كتب علينا إتيانه أو الكف عنه من الفرائض و المحرمات، وإما بمعنى القرآن فالإضافة حينئذ إما بمعنى من يعني أنها أم للأحكام من الكتاب يؤخذ منها الأحكام بلا حاجة بيان من الشارع وإما بمعنى اللام و المعنى أنها عماد للقرآن وبمنزلة رئيس القوم لسائر الآيات يحتاج إليها غيرها ويضم إليها حتى يستفاد من غيرها المراد منها يردها إلى المحكمات وكأن القياس أن يقال : أمهات الكتاب لكن أورد لفظ المفرد ليدل على أن المحكمات كلها بمنزلة أم واحد لأن الأحكام المفروضة تؤخذ من جميعها لا من كل واحد منها وكذا مرجع المتشابهات إلى مجموعها باعتبار بعضها لا إلى كل واحد منها وآيات ﴿ وأخر ﴾ جمع أخرى معدول من الأخر أو أخر من ولذا منع من الصرف للعدل و الوصف ﴿ متشابهات ﴾ التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد منه بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل إلا بعد بيان من الشارع بعبارة محكمة فإن وجد البيان والتعليم من جهة الشارع وظهر المراد منها سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلاة، والزكاة، والحج، والعمرة، وآية الربا ونحو ذلك، وإن لم يوجد البيان والتعليم سميت حينئذ متشابها على اصطلاحهم ولا يجوز هذا القسم إلا فيما لا يتعلق به العمل كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق وذلك كالمقطعات القرآنية، وقوله تعالى :﴿ يد الله فوق أيدهم ﴾ ﴿ الرحمن على العرش استوى ٥ ﴾ وقد يظهر مراد تلك القسم من الآيات على بعض العرفاء بتعليم من الله تعالى بالإلهام كما علم آدم الأسماء كلها واقتباس أنوار النبوة بعد شرح الصدر، وإن كان ذلك المراد أحيانا بحيث لا يمكن تعليمه باللسان لعدم شمول خزينة العلم من العوام على مراده ولا على العلم بوضع لفظ بإزائه، وأما ما يتعلق به التكليف فلا يجوز تأخير بيانه عن وقت الحاجة كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق. فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ آلر كتاب أحكمت آياته ﴾ وقال في موضع آخر ﴿ كتابا متشابها ﴾ فكيف فرق هاهنا فقال :﴿ منه آيات محكمات ﴾ ﴿ وأخر متشابهات ﴾ ؟ قلنا : حيث جعل القرآن كله محكما فمعناه أنه متقن محفوظ عن فساد المعنى وركاكة اللفظ لا يستطيع أحد معارضته و الطعن فيه، وحيث جعل كله متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحسن و الكمال، وفرق هاهنا من حيث وضوح المعنى وخفائه.
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ ﴾ أي ميل عن الحق، قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وقالوا له ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى قالوا حسبنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه بحساب الجمل. قال ابن عباس : إن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال حيي : بلغنا أنه أنزل عليك الم فننشدك الله أنزل عليك ؟ قال : نعم، قال فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة تلك أمتك هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها ؟ قال : نعم المص، قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة فهل غيرها ؟ قال : نعم الر، قال : هذه أكثر هي مائتين وإحدى وثلاثون سنة، فهل غيرها ؟ قال : نعم المر، قال : هذه أكثر وهي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيرة نأخذ أم بقليلة ونحن مما لا نؤمن بهذا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن جريج هم المنافقون وقال الحسن : هم الخوارج كذا أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية ﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ ﴾ قال : إن لم يكونوا الحرورية و السابية فلا أدري من هم، وقيل : هم جميع المبتدعة، والصحيح أن اللفظ عام لجميع من ذكر وجميع أصناف المبتدعة، عن عائشة : قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾ إلى قوله :﴿ أولوا الألباب ٧ ﴾ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذرهم " رواه البخاري، وعن أبي مالك الأشعري : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" ما أخاف على أمتي إلاّ ثلاث خلال " وذكر منها " أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه يبتغي تأويله وليس يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب " ﴿ فيتبعون ما تشابه منه ﴾ أي يتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع تبعا لهواه من غير رجوع إلى المحكمات من الآيات و الأحاديث وبلا حملها على ما يطابقها من المحكمات أو السكوت مع الإيمان و التسليم بمرادها، فالواجب رد المتشابهات إلى المحكمات مهما أمكن حتى يتبين مراد المجمل فيعمل به كما في الصلاة و الزكاة والربا أو السكوت عن تأويله مع الإيمان بها و التسليم بمرادها، فلما ثبت بإجماع الأمة ومحكم نصوص الأحاديث المتواترة أن المؤمنين يرون الله سجانه في الآخرة كما يرون القمر ليلة البدر فلا بد أن يؤمن به، ويقول : المراد بالرؤية و النظر في قوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾ هي النظر بالبصر وما لم يثبت كذلك كما في قوله تعالى :﴿ يد الله فوق أيدهم ﴾ و﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ يسكت فيه مؤمنا به ولا يحمل على ظاهره ويتبع المحكم من قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فيقول بكونه تعالى منزها عن صفات الممكنات ولا يتعب نفسه في تأويل المقطعات فإنه غير مأذون فيه ﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ منصوب على العلية من قوله فيتّبعون، أي يفعلون ذلك لطلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه وهذه وظيفة المنافقين، كما حكي أن بعض اليهود لما رأوا دولة الإسلام واستعلاءه حسدوا على ذلك وتيقنوا أن ذلك التأييد من الله تعالى للمسلمين لأجل دينهم فنافقوا أو دخلوا في الإسلام ظاهرا واتبعوا المتشابهات بتأويلات زائغة وأظهروا المذاهب الباطلة فصاروا حرورية ومعتزلة وروا فض ونحو ذلك ابتغاء الفتنة ﴿ وابتغاء تأويله ﴾ عطف على ابتغاء الفتنة أي طلبوا أن يأولوه على ما يشتهونه وقد يكون ابتغاء التأويل بناء على الجهل فقط وذلك من بعض المتأخرين من المبتدعة، وأما من الأوائل المنافقين منهم فكان الداعي على اتباع المتشابهات غالبا مجموع الطلبين ﴿ وما يعلم تأويله ﴾ أي بيان المتشابه من الآيات على ما هو المراد من عند الله تعالى ﴿ إلا الله ﴾ أي لا يجوز أن يعلمه غيره تعالى إلا بتوقيف منه ولا يكفي لمعرفته العلم بلغة العرب، فالحصر إضافي نظيره قوله تعالى :﴿ لاّ يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلاّ الله ﴾ يعني لا يعلم الغيب غيره تعالى إلا بتوقيف منه، فهذه الآية لا تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكمّل من أتباعه لم يكونوا عالمين بمعاني للمتشابهات، كيف وقد قال الله تعالى ﴿ ثمّ إنّ علينا بيانه ١٩ ﴾ فإنه يقتضي أن بيان القرآن محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم واجب ضروري لا يجوز أن يكون شيء منها غير مبين له عليه السلام، وإلا يخلو الخطاب عن الفائدة ويلزم الخلف في الوعد، والحق ما حققناه في أوائل سورة البقرة أن المتشابهات هي أسرار بين الله تعالى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول ومن شاء إفهامه من كمّل أتباعه، بل هي مما لا يمكن بيانها للعامة وإنما يدركها أخص الخواص بعلم لدني مستفاد بنوع من المعية الذاتية والصفاتية الغير المتكيفة.
﴿ والراسخون ﴾ أي الذين رسخوا، أي ثبتوا أو تمكنوا ﴿ في العلم ﴾ بحيث لا تعترضه شبهة وهم أهل السنة و الجماعة الذين عضوا بالنواجذ على محكمات الكتاب و السنة واقتفوا في تفسير القرآن إجماع السلف الصالح من الصحابة و التابعين الذين هم خيار الأمة، وردوا المتشابهات إلى المحكمات وتركوا الأهواء و التلبيسات، وقيل : الراسخون في العلم مؤمنوا أهل الكتاب، قلت : لا وجه لتخصيصهم، وقالت الصوفية العلية : الراسخون في العلم هم المنسلخون عن الهواء بالكلية بفناء القلب و النفس و العناصر المتفوضون في التجليات الذاتية حيث لا يعتريهم شبهة المترنمون بما قالوا لو كشفت الغطاء ما ازددت يقينا، أخرج الطبراني وغيره عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ؟ قال :" من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم " قلت : هذا شأن الصوفية. ثم اختلف العلماء في نظم هذه الآية : فقال قوم : الواو للعطف والمعنى أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم فعلى هذا قوله تعالى :﴿ يقولون آمنا به ﴾ حال منهم يعني قائلين آمنّا، نظيره قوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ إلى أن قال :﴿ والذين تبوءوا الدار والإيمان ﴾ ثم قال :﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴾ وهذا قول مجاهد و الربيع، وروي عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله، وذهب الأكثرون : إلى أن الواو للاستئناف وتم الكلام عند قوله :{ وما يعلم تأويله إل
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ و لا تملها عن الحق كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ، جاز أن يكون هذا من مقال الراسخون تقديره يقولون آمنا به ويقولون ربّنا، وجاز أن يكون تعليم مسألة من الله تعالى عند البلوغ إلى المتشابه بتقدير قولوا ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾ بإنزال كتابك ووفقتنا بالإيمان بالمحكم و المتشابه وبعد منصوب على الظرفية وإذ في موضع الجر بإضافته إليه، وقيل إذ هاهنا بمعنى أن المصدرية ﴿ وهب لنا من لدنك رحمة ﴾ توفيقا وتثبيتا ﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ لكل مسؤول فيه دليل على أن الهدى و الضلالة من الله تعالى بتوفيقه أو خذلانه، وأنه المتفضل على عباده لا يجب عليه شيء. عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أزاغه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن جل جلاله يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة " رواه البغوي، وروى نحوه أحمد و الترمذي من حديث أم سلمة ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي وابن ماجه من حديث أنس، وفي الصحيحين من حديث عائشة. وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا ببطن " رواه أحمد.
﴿ ربنا إنك جامع الناس ليوم ﴾ أي لقضاء يوم وقيل اللام بمعنى في أي في يوم ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي لا شك في وقوعه ووقوع ما فيه من الجزاء ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ مفعال من الوعد فالخلف في الوعد محال لكونه رذيلة ينافي الألوهية وأما في الوعيد فيجوز عندنا المغفرة وإن لم يتب، وقالت الوعيدية من المعتزلة : لا يجوز الخلف في الوعيد أيضا إلا بعد التوبة محتجا بهذه الآية، قلنا وعيد الفساق كما هو مشروطة بعدم التوبة باتفاق بيننا وبينكم كذلك مشروطة بعدم العفو لإطلاق قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ وقوله تعالى :﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ وقوله تعالى :﴿ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ﴾ وقوله تعالى :﴿ لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ ونحو ذلك وفي الباب أحاديث لا تحصى.
﴿ إن الذين كفروا ﴾ يعم المشركين وأهل الكتاب ﴿ لن تغني ﴾ أي لا تجزي ﴿ عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله ﴾ أي بدلا من رحمته أو طاعته ﴿ شيئا ﴾ من الإغناء فهو منصوب على المصدرية دون المفعولية لأن الإغناء غير متعد، إلا أن يقال معناه على التضمين لا تدفع عنهم من الله أي من عذابه شيئا، فعلى هذا منصوب على المفعولية، و الجار و المجرور ظرف مستقر حال منه ﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾ أي حطبها عطف على لن تغنى.
﴿ كدأب آل فرعون ﴾ دأب مصدر من دأب في العمل إذا كدح فيه و الجار و المجرور في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره دأبهم كدأب آل فرعون، ومعناه فعلهم وصنيعهم في الكفر وتكذيب الرسل كفعل آل فرعون كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وقيل هو منقول من معنى الفعل إلى معنى الشأن، وقال أبو عبيدة معناه كسنة آل فرعون، وقال الأخفش : كأمر آل فرعون و شأنهم، وقال النصر بن شميل : كعادة آل فرعون يعني عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم و شأنهم في تكذيب الرسل ونزول العذاب كشأن آل فرعون وطريقتهم وسنتهم، وجاز أن يكون الجار و المجرور متصلا بما قبله يعني توقد بهم النار كما توقد بآل فرعون، فوقود النار بهم بضم الواو شأنهم كما شأن آل فرعون ولن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم كما لم يغن بآل فرعون فيكون شأنهم عند حلول العذاب ﴿ والذين من قبلهم ﴾ مثل عاد وثمود وقوم لوط معطوف على آل فرعون وحينئذ قوله تعالى :﴿ كذبوا ﴾ إما حال بتقدير قد أو استئناف لبيان حالهم كأنه في جواب ما شأنهم، وجاز أن يكون الموصول مبتدأ وما بعده خبره ﴿ بآياتنا فأخذهم الله ﴾ وعاقبهم ﴿ بذنوبهم ﴾ أي بسبب ذنوبهم ﴿ والله شديد العقاب ﴾ شديد عقابه.
روى أبو داود في سننه وابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال :" يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا " فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله ﴿ قل للذين كفروا ستغلبون ﴾
﴿ قل للذين كفروا ﴾ يعني اليهود ﴿ ستغلبون ﴾ إلى قوله لأولي الأبصار فقد صدق الله تعالى وعيده بقتل بني قريظة و إجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم، وقال مقاتل : نزول هذه الآية قبل وقعة بدر، والمراد بهم مشركوا مكة يعني قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر، فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر :" إن الله تعالى غالبكم و حاشركم إلى جهنم " وقال الكلبي عن أبي صالح ابن عباس : أن يهود المدينة قالوا : لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا تردوا له رأيه و أرادوا أتباعه، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكّوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وقد كان بينهم وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة يستنفرهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. قرأ حمزة و الكسائي سيغلبون بالياء على أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم وكذا قوله :﴿ وتحشرون ﴾ في الآخرة ﴿ إلى جهنم ﴾ وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب على أنه مقولة قل ﴿ وبئس المهاد ﴾ أي الفراش أي جهنم، هذا من تمام ما يقال لهم أو استئناف أي بئس ما مهّدوه لأنفسهم أو بئس ما مهّد لهم.
﴿ قد كان لكم آية ﴾ الخطاب لليهود على تقدير كون الآية السابقة فيهم يعني قد كانت لكم يا معشر اليهود آية أي دليل واضح على صدق ما أقول لكم أنكم ستغلبون، أو خطاب للمشركين على تقدير كون الآية فيهم يعني قد كانت لكم يا معشر الكفار آية معجزة ودليل على النبوة ﴿ في فئتين ﴾ أي فرقتين، إنما يقال الفرقة فئة لأن في الحرب يفي بعضهم إلى بعض ﴿ التقتا ﴾ يوم بدر للقتال ﴿ فئة ﴾ مؤمنة يعني رسول الله وأصحابه ﴿ تقاتل ﴾ العدو ﴿ في سبيل لله ﴾ في طاعة الله كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبع و سبعون رجلا من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب وهو الصحيح، وقيل مصعب بن عمير ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس لمقداد بن عمر وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة، وكان معهم من السلاح ست أدرع وثمانية سيوف، وفئة ﴿ وأخرى كافرة ﴾ وهم مشركوا مكة كانوا تسعمائة و خمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بثمانية عشر شهرا في رمضان سنة ﴿ يرونهم ﴾ قرأ نافع ويعقوب بالتاء على الخطاب فإن كان الخطاب لليهود فالمعنى يا معشر اليهود ترونهم يعني كفار مكة ﴿ مثليهم ﴾ أي مثلي المسلمين، وذلك أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من يكون الدبرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين. فإن قيل : كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ قلنا : لعل المراد كثرتهم وتكرار أمثالهم دون التثنية كما في قوله تعالى :﴿ فارجع البصر كرتين ﴾ يعني كرة بعد أخرى، وإن كان الخطاب للمشركين فالمعنى ترونهم يا معشر الكفار أي المسلمين مثليهم وذلك حين القتال، ولا تناقض بين هذا وبين قوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ ويقلّلكم في أعينهم ﴾ لأنهم قللوا في أعينهم قبل القتال حتى اجترءوا عليهم فلما تلاقوا وشرعوا في الحرب كثر المسلمون في أعينهم حتى جبنوا وغلبوا. وقرأ الجمهور بالياء على الغيبة وعلى هذا فالضمير المرفوع جاز أن يكون راجعا إلى المشركين والمعنى يرى المشركون المسلمين مثلي المشركين أو مثلي المسلمين، وجاز أن يكون راجعا إلى المسلمين يعني يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين حيث قللهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم وتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى في قوله :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ ثم قللهم الله تعالى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم، قال ابن مسعود : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعّفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعيننا حتى رأيناهم عددا يسيرا أقل من أنفسنا حتى قلت لرجل إلى جنبي نراهم سبعين قال : أراهم مائة. والرؤية هاهنا بمعنى العلم حتى يكون مثليهم مفعولا ثانيا إذ المعنى لا يساعد كونه حالا فعلى هذا قوله :﴿ رأي العين ﴾ مبني على المبالغة في علمهم بكونهم مثليهم وتشبيه لهذا العلم بالعلم الحاصل برؤية العين فأطلق رأي العين و أريد به العلم الحاصل به مجازا تسمية المسبب باسم السبب فهو منصوب على المصدرية، وجاز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي كرأي العين ﴿ و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك ﴾ الذي ذكر من التقليل و التكثير وغلبة القليل عديم القدرة على الكثير شاكي السلاح ﴿ لعبرة لأولي الأبصار ﴾ أي لذوي المعقول، وقيل لمن رأى الجمعين.
﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ الزين : ضد الشين، وهو كون الشيء ذا حسن وجمال مستحقا للمدح محبوبا وذا قد يكون بصفات نفسانية كالعلم و العقل ونحو ذلك، أو بدنية كالقوة و القامة وحسن المنظر أو خارجية كاللباس والمركب والمال والجاه، والتزيين جعل الشيء كذلك إما في الحقيقة كما في قوله تعالى :﴿ زيّنا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ أو في اعتقاد من زين له سوء كان الاعتقاد مطابقا للواقع كما في قوله :﴿ حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم ﴾ وغير مطابق له كما في قول الله تعالى :﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ و الشهوة هي توقان النفس وكمال رغبتها إلى الشيء والمراد بالشهوات هاهنا المشتهيات فإنها هي المزينات المحبوبات حقيقة، لكن سميت بالشهوات وجعل موردا لتزين حب الشهوات دون أنفسها مبالغة في التوبيخ وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهواتها بل حب شهواتها، كأن تقدير الكلام حبب إلى الناس حب محبة النساء ونحوها نظيرة :﴿ أحببت حب الخير ﴾، وقال صاحب الكشاف : سميت شهوات مبالغة في التنفير عنها لأن الشهوات علم في الخسة شاهد على البهيمية إذ المقام مقام التنفير عنها و الترغيب فيما عند الله، وقال بعض الأفاضل : بل مبالغة في التحذير عن مخالطتها وكمال التوجه إليها فإنها لكمالها في كونها مشتهيات تشغل اللاهي بكليته إلى أنفسها وتقطعه عما عند الله، والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للجواهر والأعراض والأفعال الاختيارية للعباد والدواعي كلها، ولعله زينه ابتلاء قال الله تعالى :﴿ إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ولكونه سببا لمجاهدة المؤمنين وباعثا لشكر النعمة ووسيلة إلى السعادة الأخروية وموجبا لفضل البشر على الملائكة، وسببا لخذلان الكافرين وموجبا لإضلالهم ﴿ يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ وأيضا في التزيين حكمة التعيش وبقاء النوع قال الله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ وقيل : المزين هو الشيطان فإن الآية في معرض الذم وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء تارة إلى نفسه باعتبار الخلق حيث قال :﴿ كذلك زيّنا لكل أمة عملهم ﴾ و﴿ زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ﴾ ﴿ وزينه في قلوبكم ﴾ وتارة إلى الشيطان باعتبار كسبه إلقاء الوسوسة في القلوب و الإلهاء حيث قال :﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ وقوله :﴿ وزين لهم ﴾ و﴿ زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عبن السبيل ﴾. ﴿ من النساء والبنين والقناطير ﴾ جمع قنطار وهو المال الكثير بعضه على بعض سمي قنطارا من الإحكام يقال قنطرت الشيء إذا أحكمته ومنه سميت القنطرة، وقال معاذ بن جبل : ألف ومائتا أوقية، وقال ابن عباس : ألف مائتا مثقال أو اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار، وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، وعن السدي : أربعة آلاف مثقال، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء و الأرض، وقيل : ملء مسك ثور. واختلف في أنه فعلال أو فنعال ﴿ المقنطرة ﴾ مأخوذة من القنطار للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة يعني الكثيرة المنضمة بعضها إلى بعض، وقال الضحاك المحصنة المحكمة، وقال يمان : المدفونة، وقال السدي : المضروبة، وقال الفراء : المضغفة. فالقناطير أريد به جمع القنطار و بالمقنطرة جمع الجموع ﴿ من الذهب ﴾ قيل : سمي به لأنه يذهب ﴿ والفضة ﴾ قيل سمي بها : لأنها تنفض أي تتفرق ﴿ والخيل ﴾ جمع فرس لا واحد له من لفظه ﴿ المسومة ﴾ قال مجاهد : يعني المطهمة الحسان أي محكم الخلق حسن الجمال وتسويمها حسنها، وقال سعيد بن جبير : هي الراعية أي السائمة، وقال الحسن وأبو عبيدة : هي المعلمة من السيماء أي العلامة. ثم منهم من قال سيماها الشية واللون، وهو قول قتادة، وقيل الكي ﴿ والأنعام ﴾جمع نعم والنعم جمع لا واحد له من لفظه ويطلق على الإبل والبقر والغنم، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يطلق على الدواب الوحشي أيضا ولذا فسر قوله :﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ أي مثل ما قتل من النعم الوحش ﴿ والحرث ﴾ أي الزرع ﴿ ذلك ﴾ المذكورات ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ أي يتمتع بها في الدنيا ثم تفنى ﴿ والله عنده حسن المآب ١٤ ﴾ أي المرجع الحسن الذي كأنه عين الحسن ففيه كمال التحريض على استبدال ما في الدنيا من الشهوات الفانية بما عند الله من المستلذات القوية والباقية.
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ﴾ المذكورات، فيه توبيخ للكفار وإشارة إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كأنه متردد في أن ينبئهم شفقة عليهم وامتثالا لأمر الله تعالى، أو لا ينبئهم لملاحظة بعدهم عن قبول الحق وتقرير لما سبق إليه الإشارة من أن ثواب الله خير من مستلذات الدنيا.
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات ﴾ مبتدأ والظرف خبر مقدم عليه والجملة استئناف لبيان ما هو خير، ويجوز أن يكون الظرف متعلقا بخير أو يكون ظرفا مستقرا صفة لخير، واختصاص المتقين لأنهم هم المنتفعون به. وجنات خبر مبتدأ محذوف أي هو جنات ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ صفة لجنات ﴿ خالدين فيها ﴾ أي مقدرين الخلود فيها إذ دخلوها. ﴿ وأزواج مطهرة ﴾ مما يستقذر من النساء كالحيض و النفاس والبول و الغائط
﴿ ورضوان من الله ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الراء في جميع القرآن غير الحرف الثاني في المائدة ﴿ ورضوانه سبل السلام ﴾ و الباقون بالكسر وهما لغتان كالعدوان والعدوان. قيل ذكر الله سبحانه من جنس ما يشتهونه الجنات التي هي من جنس الحرث و الأزواج المطهرة التي هي من جنس النساء، ولم يذكر البنين لأن المقصود منهم في الدار الفانية إلا ***عانة وبقاء النوع، ولا الخيل ولا الأنعام ولا الذهب والفضة لأنهم مستغنون عن مشاق ركوب الخيل والأنعام لنيل المقاصد وعن البيع والشراء المحوج إلى الأثمان وزاد لهم ما لا زيادة عليه وهو رضوان الله، ونكر الرضوان إشارة إلى أنه أمر لا يحيط العلم بإدراكه. عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة : فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " متفق عليه، وعندي أن ذكر الجنات واقع في مقابلة جميع ما يشتهونه لقوله تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴾ فإن الأبناء والأقارب كلهم يجتمعون في الجنة ويدوم لقاؤهم أبدا قال الله تعالى :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ﴾ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة ؟ فقال :" المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي " رواه الترمذي وحسنه والبيهقي وهناد في الزهد عن أبي سعيد والحاكم في التاريخ والأصبهاني في الترغيب، وأما قناطير الذهب والفضة " فإن الله تعالى خلق الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك " رواه البزار والطبراني والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث المرفوع " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما " متفق عليه من حديث أبي موسى. وأما الخيل والأنعام فقد قال أعرابي : يا رسول الله إني أحب الخيل أفي الجنة خيل ؟ قال :" إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوت له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت " رواه الترمذي عن أبي أيوب، وروى الترمذي والبيهقي نحوه عن بردة مرفوعا والطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعا، وأخرج ابن المبارك عن شفي بن مانع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من نعيم الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والبخت وأنهم يؤتون في يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله " وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والأصفهاني عن علي مرفوعا قال :" إن في الجنة شجرة تخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل بلق من ذهب سرجها وزمامها الدر والياقوت وهن ذوات الأجنحة خطوّها مد البصر لا تروث ولا تبول فيركبها أولياء الله فيطير بهم حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم : قد أطفأوا نورنا من هؤلاء ؟ فقال إنهم كانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجلسون " وأخرج ابن المبارك عن ابن عمر " إن في الجنة عتاق الخيل وكرام النجائب يركبها أهلها " وأخرج ابن وهب عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ أدنى أهل الجنة منزلة يركب في ألف ألف من خدم من الوالدان المخلدين على خيل من ياقوت أحمر لها أجنحة من ذهب " وأما الحرث فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له : ألست فيما شئت، قال :" بلى ولكني أحب أن أزرع، قال : فيزرع فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال، فيقول الله تعالى : دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء " وأخرج الطبراني وأبو الشيخ نحوه وفيه " حتى تكون سنبلة اثنا عشر ذراعا ثم لا يبرح مكانه حتى يكون منه ركام أمثال الجبال ".
ولعل وجه تخصيص الأزواج من بين نعيم الجنة بالذكر إما شدة ما كان بالعرب من شهوة النساء وإما أن الأزواج تكون لكل من يدخل الجنة أجمعين، وأما البنون ونحو ذلك فلمن كان له بنون في الدنيا أو لمن يشتهيهم فيها وهم لا يشتهون ذلك غالبا لما روي عن أبي سعيد أنه " إذا اشتهى المؤمن في الجنة الولد كان في ساعة ولكن لا يشتهي " رواه الترمذي والدرامي، يعني لا يشتهي غالبا جمعا بين الروايات، وذكر الله سبحانه ما زاد على نعماء الدنيا ولا مزيد عليه وهو رضوان الله فإنه هو الفارق البائن بين نعماء الدنيا ونعماء الجنة " فإن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله عز وجل " وفي رواية " إلا ذكر الله وما والاه أو عالما ومتعلما " رواه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود وفي الصغير عن أبي الدرداء وابن ماجه عن أبي هريرة. وأما نعماء الجنة فهي مرضيات لله تعالى. عن ربيعة الحرسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قيل لي في المنام : سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد، قال : والله سيد ومحمد الداعي و الدار الإسلام و المأدبة الجنة " رواه الدرامي. قلت : والسر في أن نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى لا ينبغي أن يلتفت إليهما قال الله تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ﴾ ونعيم الجنة مرضية لله تعالى ممدوح من يطمع فيها قال الله تعالى :﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾ أن مبادئ تعينات النشئة الدنيوية غالبا هي الإعدام التي تقررت في مرتبة العلم واستضاءت بالتقابل بعكوس نقائضها التي هي صفات الكمال لله تعالى، كالجهل في مقابلة العلم والعجز في مقابلة القدرة ونحو ذلك، وسميت ظلالا ولأجل ذلك يسرع الفناء إلى هذه النشئة والعدم في نفسه شر محض لا نصيب له من الحسن والجمال والخير والكمال إلا بالتمويه بخلاف النشئة الأخروية، فإن مبادئ تعيناتها إنما هي صفات الله تعالى الحسناء فحبها حب الله تعالى والانشغاف بها الانشغاف به تعالى، كذا ذكر المجدد رضي الله عنه في سر محبة يعقوب عليه السلام مع أن الأنبياء بل الأولياء لا يلتفتون إلى غير الله سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا " رواه مسلم، قال المجدد رضي الله عنه : وذلك أن حسن يوسف عليه السلام كان من جنس حسن أهل الجنة فكان حبه و العشق به حب الله تعالى وعشقه ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ هذا الكلام في مقام التعليل لما سبق، و اللام إما للاستغراق أي بصير بجميع العباد محسنهم ومسيئهم فيجازيهم على حسب ما عملوا، وإما للعهد يعني بصير بالذين اتقوا ولذا أعدّ لهم الجنات.
﴿ الذين يقولون ﴾ مجرور على أنه صفة للمتقين أو للعباد، وجاز أن يكون منصوبا على المدح أو مرفوعا ﴿ ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾ الفاء للسببية، وفيه دليل أن مجرد الإيمان سبب لاستحقاق المغفرة، عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " قال معاذ : أفلا أبشر به الناس ؟ قال :" لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه.
﴿ الصابرين ﴾ على خلاف النفس مانعيها عن الجزع في المصائب وعن اتباع الشهوات والرذائل حابسيها على الطاعات والفضائل ﴿ والصادقين ﴾ في المقال وادعاء الأحوال، وجميع الدعاوى والروايات والشهادات، وأصدق الصدق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
﴿ والقانتين ﴾ الدائمين على الطاعات المشتغلين بالله تعالى ﴿ والمنافقين ﴾ أموالهم في مرضات الله، فاستوعب الكلام أنواع الطاعات من الأخلاق والأقوال والأعمال البدينة والمالية ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ يعني أنهم مع ما هم فيه من الطاعات الظاهرة والباطنة خائفون من الله يعترفون على أنفسهم بالتقصير، فيستغفرون منه كيف لا وأن العباد لا يمكن أن يعبدوا كما ينبغي لكبريائه وعظمته، بل العبد إذا لاحظ إلى أن أفعاله مخلوقة لله تعالى وأنه تعالى من عليه بتوفيقه لعبادته وارتضاه لنفسه حيت لم يتركه إلى غيره علم أنّ كل ما صدر منه إن كان قابلا للقبول فهو مستوجب للشكر و الامتنان ولا يتصور أداء شكر نعمائه إلى أن يتغمده الله بمغفرته ورضوانه ﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾ ﴿ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ﴾ وخص الأسحار بالاستغفار لكونها أقرب للإجابة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له " متفق عليه وفي رواية لمسلم " ثم يبسط يديه ويقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر " قال البغوي : حكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك، وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في الجماعة وقيد بالسحر لقربه من الصبح، وقال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا، قال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح. وتوسيط واو العطف دليل على استقلال كل واحدة منها في الكمال وكمالهم فيها، أو لتغاير الموصوفين بها، فالصابرون الصوفية أصحاب القلوب و النفوس الزاكية والغزاة والشهداء، والصادقون العلماء الناطقون بالراويات الصادقة، والقانتون الزهاد المصلّون بطول القنوت الدّاعون الله خوفا وطمعا، والمنفقون الأغنياء الصالحون من المؤمنين يكتسبون الأموال من الوجوه المباحة وينفقونها في سبيل الله، والمستغفرون بالأسحار الذين ﴿ يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم " رواه مسلم، وروى أحمد وأبوا يعلى من حديث أبي سعيد نحوه، قدم الله سبحانه في الذكر الأفضل فالأفضل.
﴿ شهد الله ﴾ أي بيّن بنصب الدلائل العقلية وإنزال الآيات السمعية ﴿ أنه لا إله إلا هو ﴾ حكى البغوي عن الكلبي قال : قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصر المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ؟ فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم، قالا : وأنت أحمد ؟ قال : أنا محمد وأحمد، قالا : فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا آمنا بك وصدقناك، فقال : سلا، فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل فأنزل الله تعالى هذه الآية فأسلم الرجلان. قال ابن عباس : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد بنفسه لنفسه قبل أن خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء و لا أرض ولا بحر ولا بر فقال :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾ وشهدت ﴿ والملائكة وأولوا العلم ﴾ يعني مؤمن الإنس والجن كلهم آمنوا بالجنان وشهدوا بتوحيد الله تعالى باللسان ﴿ قائما ﴾ بتدبير مصنوعاته منصوب على الحال من الله فاعل شهد وجاز لعدم اللبس يعني شهد الله في حال قيامه بتدبير مصنوعاته فإن قيامه عليه كذلك دليل واضح على توحيده، أو على الحال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائما، أو أحقه لأنه حال مؤكدة، أو على المدح وعلى هذا يكون مندرجا في المشهود به، وجاز أن يكون مفعولا للعلم أي أولو المعرفة قائما ﴿ بالقسط ﴾ أي متلبسا بالعدل في قسمه وحكمه لا يتصور منه الظلم لأنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا يجب عليه ثواب المطيع بل ذلك بفضل منه ولا عذاب العاصي فإنه يغفر لمن يشاء فلا دليل فيه للمعتزلة ﴿ لا إله إلا هو ﴾ كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة ﴿ العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه، صفتان لله فاعل شهد أو بدلان من هو، قدم العزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.
﴿ إن الدّين ﴾ المرضي ﴿ عند الله ﴾ هو ﴿ الإسلام ﴾ قرأ الكسائي بفتح أن على أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان، قال قتادة : شهادة أن لا إله إلاّ الله والإفراد بما جاء به الرسل من عند الله، وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به، أو فسر بما يتضمن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا " متفق عليه من حديث عمر في حديث طويل قصة سؤال جبرائيل، وبدل اشتمال إن فسر الإسلام بالشريعة المحمدية فإنّه الدين المرضي عند الله في هذا الزمان بعد نسخ الأديان المنزلة من الله تعالى سابقا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد و البيهقي من حديث جابر، وقرأ الجمهور بكسر إنّ على أنه كلام مبتدأ، عن الأعمش أنه قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية ﴿ شهد الله ﴾ الآية ثم قال وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ فلما فرغ من صلاته سئل عنه فقال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إنّ لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفي العهد أدخلوا عبدي الجنة " رواه البغوي بسنده، وأخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب بسند ضعيف ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ﴾ يعني اليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيه الإسلام حتى نفاه بعضهم، وقال بعضهم : إنه مخصوص بالعرب ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ بأن الدين عند الله الإسلام حيث بيّن الله ذلك في التوراة و الإنجيل ﴿ بغيا ﴾ منصوب على العلية ﴿ بينهم ﴾ ظرف مستقر صفة لبغيا يعني ما تركوا الحق واختلفوا بشبهة وخفاء في الأمر بل بعد العلم بكونه حقا لأجل بغي وحسد مستقر بينهم ولأجل طلب الملك و الرياسة، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر أنها نزلت في نصارى نجران ومعناها ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ﴾ يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام حتى قال بعضهم أنه ابن الله ﴿ إلاّ من بعد ما جاءهم العلم ﴾ بأن الله واحد لم يلد وأن عيسى عبده ورسوله ﴿ بغيا بينهم ﴾ أي معاداة لليهود ومخالفة لهم حيث أنكروا نبوته وبهتوا أمه بعده ما جاءهم العلم في التوراة أنه عبده ورسوله، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع أنّ موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني و الثالث وقعت الفرقة بينهم وهم المراد بقوله تعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ﴾ من أبناء أولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر ﴿ إلا من بعد ما جاء العلم ﴾ يعني بيان ما فيه التوراة بغيا بينهم فسلط الله عليهم الجبابرة ﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ١٩ ﴾ فيجازيه على كفره لمن كفر منهم.
﴿ فإن حاجوك ﴾ يا محمد وقالت اليهود و النصارى أنّ ديننا هو الإسلام وإنما اليهودية والنصرانية نسب ﴿ فقل ﴾ لا نزاع في اللفظ بل ﴿ أسلمت وجهي ﴾ فتح الياء نافع وابن عامر وحفص وأسكن الباقون ﴿ لله ﴾ أي انقدت لله تعالى وحده لا أشرك به غيره ولا أتبع هواي فيما أمر به بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنّما خص الوجه لأنه أكرم جوارح الإنسان أو المعنى أخلصت توجهي ظاهرا بالجوارح واللسان وباطنا بالنفس والقلب لله تعالى لا ألتفت إلى غيره، أو المعنى فوضت وجهي يعني ذاتي لله تعالى، ومقتضى هذا الإسلام والتفويض أن لا يشرك به غيره وأن يسارع في امتثال أوامره وانتهاء نواهيه وأن يتبع كل شريعة جاءت من عنده ما لم ينسخ ﴿ ومن اتبعن ﴾ عطف على الضمير المرفوع في أسلمت وحسن للفصل أي وأسلم من اتبعني، وجاز أن يكون مفعولا معه، أثبت الياء نافع وأبوا عمرو في الوصل على الأصل وحذفها الباقون في الحالين تبعا للخط. ﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب ﴾ عطف على قل أسلمت يعني فل لنفسك أسلمت وأحضر الإسلام في قلبك واجعله مطمئنا به وقل للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ﴿ والأميين ﴾ الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب ﴿ أأسلمتم ﴾ كما أسلمت بعدما وضح بالدلائل العقلية وآيات التوراة والإنجيل ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ أم أنتم بعد على كفركم، فهذا استفهام صيغة وأمر معنى كما في قوله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ يعني انتهوا وفيه تعبير لهم بالبلادة أو المعاندة ﴿ فإن أسلموا ﴾ كما أسلمت ﴿ فقد اهتدوا ﴾ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب أسلمنا، فقال لليهود إن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته فقالوا : معاذ الله، وقال للنصارى أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله ؟ فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا، فقال الله تعالى ﴿ وإن تولوا ﴾ عن الإسلام كما أسلمت ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾ أي فلا يضرونك إنما عليك تبليغ الرسالة دون الهداية وقد بلغت ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ مؤمنهم وكافرهم يجزي كل واحد بما عمل.
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ﴾ يعني اليهود يكفرون بالقرآن والإنجيل وآيات التوراة التي فيها نعت النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ يقتلون النبيين ﴾ أي قتل أوائلهم الأنبياء وهم يرضون بفعلهم يريدون أن يفعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل أوائلهم فقاتلوه وسحروه وجعلوا السم في طعامه حتى مات شهيدا حين مات، وقد ذكر قصة السحر و السم في سورة البقرة ﴿ بغير حق ﴾ يعني في اعتقادهم وإلا فقتل النبي لا يكون إلا بغير حق وإنما حملهم على القتل حب الرياسة ولم يروا منهم ما يجوز به القتل ﴿ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ﴾ أي بالعدل ﴿ من الناس ﴾ وهم أتباع الأنبياء، قرأ حمزة يقاتلون من المفاعلة، قال ابن جريج : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكّرون قومهم فيقتلون أيضا فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، روى البغوي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال :" رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ) إلى قوله ( فمالهم من ناصرين ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاث وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم "، فهم الذين ذكرهم الله في كتاب وأنزل الآية فيهم ﴿ فبشرهم ﴾ أي أخبرهم يا محمد، ذكر لفظ البشارة تهكما بهم ﴿ بعذاب أليم ﴾ وجيع، قال سيبويه جملة فبشرهم لا يصلح أن يكون خبرا لإن، ولا يجوز عنده دخول الفاء على خبر أن قياسا على خبر ليت ولعل، فعلى هذا خبر إن إما قوله تعالى ﴿ أولئك الذين ﴾ إلى آخره، وجملة فبشرهم معترضة نظيره زيد فأفهم رجل صالح وإما محذوف وأقيم المسبب مقامه والتقدير لهم عذاب أليم فبشرهم بعذاب أليم، وقال الجمهور جملة فبشرهم خبر لإن، فقال البغوي إنما أدخل الفاء على خبر إنّ على إلغاء إن وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم، وقال أكثر النحويين : يجوز دخول الفاء على خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط كالمبتدأ الموصول بخلاف اسم ليت ولعل فإنهما ينقلان الجملة الخبرية إلى الإنشاء فينفيان المتشابهة بالشرط فعلى هذا الجملة التالية خبر بعد خبر ﴿ أولئك الذين حبطت ﴾.
﴿ أولئك الذين حبطت ﴾ أي ضاعت ﴿ أعمالهم ﴾ فلهم اللعنة والخزي ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾ والعذاب في ﴿ والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ يحفظ أعمالهم من الحبط ويدفع عنهم العذاب.
أخرج ابن المنذر وابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عمن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله تعالى، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت يا محمد ؟ قال :" على ملة إبراهيم ودينه " قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه فأنزل الله تعالى
﴿ ألم تر ﴾ استفهام للتقرير و التعجيب ﴿ إلى الذين أوتوا نصيبا ﴾ يعني نصيبا حقيرا حيث لا نصيب لهم من بطون الكتاب ولا من الإيمان بجميع ما فيه ﴿ من الكتاب ﴾ ومن للتبعيض وجاز أن يكون للبيان، و المراد بالكتاب التوراة أو جنس الكتب السماوية ﴿ يدعون ﴾ حال من الموصول مفعول ألم تر يعني يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إلى كتاب الله ﴾ يعني التوراة على ما ذكرنا من الرواية، وكذا على ما قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهما الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده رخص فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أوفي وبحري بن عمرو : جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينكما التوراة "، قالوا : قد أنصفتنا، قال : فمن أعلمكم بالتوراة ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم، قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فيه الرجم مكتوب فقال له : اقرأ، فلما أتى آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها، فقال : ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها، وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بأن المحصن و المحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ ليحكم ﴾ أسند الحكم إلى الكتاب لكونه سببا للحكم أو ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ بينهم ﴾ على وفق الكتاب ﴿ ثم يتولى فريق منهم ﴾ عطف على يدعون وفيه استبعاد لتوليتهم مع علمهم بأنه الحق من ربهم ﴿ وهم معرضون ﴾ أي هم قوم عادتهم الأعراض عن الحق، و الجملة حال من فريق وهي نكرة مخصصة بالصفة، وقال قتادة : معناه أن اليهود دعوا إلى حكم كتاب الله يعني القرآن فأعرضوا عنه، وروى الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية : أن الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عن ﴿ ذلك ﴾.
﴿ ذلك ﴾ التولي عن كتاب الله بعد العلم به و الإعراض عن الحق ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب تسهيل أمر العقاب على أنفسهم باعتقاد فاسد وهو أنهم ﴿ قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ أربعين يوما عدد أيام عبادة آبائهم العجل كما مر في سورة البقرة ﴿ وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾ أي : هذا القول أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم أو أنّ يعقوب وعده الله تعالى أن لا يعبد أولاده.
﴿ فكيف ﴾ خبر لمبتدأ محذوف يعني فكيف حالهم ﴿ إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كل نفس ما كسبت ﴾ أي جزاء ما عملت من خير أو شر ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ الضمير لكل نظرا إلى المعنى، فإن معناه كل إنسان لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس و الروم في أمته، وقال البغوي : قال ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنه : أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس و الروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ؟ ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى على اختلاف الروايتين قل اللهم إلى آخره ويمكن الجمع بينهما، وذكر البيضاوي أنه روي أنه صلى الله عليه وسلم " لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فجاء وأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها وبرق برقا أضاء ما بين لأبتيها لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون، فقال :" أضاءت لي منها قصور حيرة كأنها أنيات الكلاب " ثم ضرب الثانية فقال :" أضاءت لي من القصور الحمر من أرض الروم " ثم ضرب الثالثة فقال :" أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة من أرض فارس وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ؟ فنزلت هذه الآية، وقد ذكر البيهقي وأبو نعيم في الدلائل هذه القصة من غير ذكر نزول الآية، وذكر ابن خزيمة عن قتادة مختصرا وفيه ذكر نزول الآية قوله تعالى :﴿ قل ﴾.
﴿ قل ﴾ يا محمد و المقولة بعد ذلك ﴿ اللهم ﴾ أصلها يا الله حذف حرف النداء وزيدت الميم عوضا عنه ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص هذا الاسم الرفيع كدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه، وقيل : أصله يا الله أمّنا بخير أي اقصدنا فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته فبقي اللهم، وربما خففوا فقالوا : ألا هم وكل ذلك لكثرة الاستعمال نظيره هلم إلينا كان أصله :
" هل أمّ إلينا " أي : هل قصد إلينا، وإذا قيل : اللهم اغفر لي فقوله اغفر لي بيان لأمنا وكذا في قوله :" اللهم العن رعلا وذكوان "، فإن لعن الأعداء يصلح بيانا لأمنا بخير ﴿ مالك الملك ﴾ صفة للمنادى، وقيل نداء بعد نداء حذف منه أيضا حرف النداء تقديره يا مالك الملك، ولا يجوز جعله صفة للمنادى لأن المنادى الأول مكفوف كصوت بلحوق كلمة هو ومثله لا يوصف كذا قال سيبويه ونقض بسيبويه النحوي، ودفع بأن الصوت هنا لم يبق على معناه يجعله جزءا للكلمة بخلاف ما نحن فيه، و الملك مصدر يشتق منه الملك، والمراد به المفعول أريد به عالم الإمكان واللام للاستغراق فإن الله تعالى خالقه ومالكه يتصرف فيه كيف يشاء ويهب منه ما يشاء لمن يشاء ولا يجوز لأحد أن يتصرف في شيء من الأشياء إلاّ بإذنه وتمليكه ﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾ واللام في اللفظين للعهد الذهني، والمعنى تعطي من الملك ما تشاء من تشاء وتسترد كذلك، عدل من الضمير إلى الظاهر ﴿ وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان في الدنيا والثواب والعذاب في الآخرة ﴿ بيدك الخير ﴾ قيل تقديره بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى :﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾ أي الحر والبرد، وقيل : خص ذكر الخير لسياق الكلام فيه حيث وعد النبي صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس
و الروم، وقيل : ذكر الخير حده لأنه المقضي بالذات و الشر مقضي بالعرض إذا لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا أو لمراعاة الأدب في الخطاب، قلت : لعل المراد بالخير الوجود فالوجود الحقيقي الذي لا حظ له من العدم مختص بالواجب لذاته خير محض ليس فيه شائبة من الشر، والوجود الظلي الذي به تحقق الممكن في الخارج الظلي مستفاد من الواجب، والعلة الذي هو حصة من الشر في الممكن ذاتي له غير مستفاد من العلة، ومعنى إسناد الشر إلى الله تعالى أن الممكن الذي الشر داخل في مفهومه وبعض أفراده أكثر شرا من البعض وحصة الوجود منه مستند إلى الوجود الحق وأما حصة الشر منه فذاتي له فما أصدق قوله تعالى بيدك الخير ﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾ ولا يقدر أحد غيرك على شيء أصلا. وقدرة العباد إنما هي قدرة متوهمة بها يسمى العبد كاسبا و الله خلقهم وما يعملون، قال البيضاوي : نبّه بهذه الجملة على أن الشر أيضا بيده، قلنا نعم لكن معنى كونه تعالى قادرا على الشر وكون الشر بيده أنه تعالى قادر على عدم إفاضة الخير فإن القدرة معناه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وإذ لم يفعل الخير بقي الممكن على الشر الأصلي.
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ يعني تدخل أحدهما في الآخر بالتعقيب و الزيادة في أحدهما بالنقصان في الآخر ﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الميت بتشديد الياء هاهنا وفي الأنعام ويونس والروم في الأعراف لبلد ميت وفي الفاطر إلى بلد ميت، وزاد نافع أو من كان ميتا فأحييناه، ولحم أخيه ميتا، والأرض الميتة أحييناها، والباقون يخففون بالجميع ويعقوب الحي من الميت ولحم أخيه ميتا. قيل : معناه يخرج الحيوان من النطفة والبيضة ويخرج النطفة والبيضة من الحيوان والنبات الطري من الحب اليابس والحب اليابس من النبات كذا قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة والكلبي والزجاج، وقال الحسن وعطاء : يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر قال الله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾ الآية كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾ أي من غير تضييق وتقتير بحيث لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوما عند الله، عقب الله سبحانه هذه الجمل الخمس ليستدل بها على قدرة الله تعالى على إيتاء الملك من يشاء ونزعه ممن يشاء، روى البغوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي آيتين من آل عمران ( شهد الله ) إلى قوله ( إن الدين عند الله الإسلام ) و( قل اللهم مالك الملك ) إلى قوله ( بغير حساب )، مشفعات ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب، قلن : يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك، قال الله عز وجل : بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه وإلا أسكنته في حظيرة القدس وإلا نظرت إليه بعيني كل يوم سبعين مرة وأقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة وإلا أعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليه " وأخرج الطبراني عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك الدين مثل ثبير أداه الله عنك قل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنني بها عن رحمة من سواك " والله أعلم.
أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليفا لعمرو بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾ نهوا عن موالاتهم بقرابة أو صداقة ونحو ذلك أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية ﴿ من دون المؤمنين ﴾ فيه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجتمع مع ولاية المؤمنين لأجل منافاة بين ولاية المتعادين ففي ولاية الكفار قبح بالذات وقبح بالعرض بالحرمان عن ولاية المؤمنين، وذكر البغوي قول مقاتل أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، وذكر قول الكلبي عن أبي صالح : أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون المشركين و اليهود يأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعل مثل فعلهم.
( فصل ) الحب في الله و البغض في الله باب عظيم من أبواب الإيمان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المرء مع من أحب " متفق عليه، وعن أنس مرفوعا نحوه بلفظ " أنت مع من أحببت " متفق عليه، عن أبي موسى قال : قال رسول الله عليه وسلم :" مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة " متفق عليه، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر :" يا أبا ذر أي عرى الإيمان أوثق ؟ قال : الله ورسوله أعلم، قال : الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله " رواه البيهقي في الشعب، وعن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الحب في الله و البغض في الله " رواه أحمد وأبو داود وفي الباب أحاديث كثيرة ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي اتخاذهم أولياء ﴿ فليس ﴾ الضمير المرفوع عائد إلى من يفعل ﴿ من الله ﴾ حال من شيء قدم عليه لتنكيره ﴿ في شيء ﴾ خبر ليس، والتنكير للتحقير يعني ليس وهو كائنا في شيء حقير من ولاية الله أو من دين الله يعني كما أن ولاية الكفار لا يجتمع ولاية المؤمنين كذلك لا يجتمع ولاية الله أيضا، ولو قال من دون الله والمؤمنين لأفاد ذلك الفائدة مع الاختصار لكن المقصود كمال المبالغة في البعد عن ولاية الله ﴿ إلا أن تتقوا ﴾ استثناء مفرغ منصوب على الظرفية، وهو من حيث المعنى متعلق بكلا الجملتين السابقتين ومن حيث اللفظ بإحداها مقدر للأخرى كما هو دأب التنازع يعني لا يجوز موالاة الكفار في شيء من الأوقات إلاّ وقت أن تتقوا منهم، ومن يفعل ذلك ليس هو من أولياء الله في شيء من الأوقات إلا وقت الاتقاء، والاتقاء افتعال من الوقاية يعني وقاية نفسه من شرهم ويلزمه الخون ولأجل ذلك قيل معناه إلا أن تخافوا ﴿ منهم تقاة ﴾ كذا قرأ الجمهور وقرأ مجاهد ويعقوب تقية على وزن فعلية وعلى التقديرين مصدر من غير باب الفعل يقال توقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى، وإذا قلت اتقيت كان مصدره اتقاء ثم المصدر جاز أن يكون بمعناه ويكون منصوبا على المصدرية، والمعنى لا يجوز موالاة الكفار في شيء من الأوقات إلا وقت أن تتقوا أنفسكم منهم أي من شرهم تقاة وجاز أن يكون بمعنى المفعول فالمعنى إلا وقت أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، ومقتضى الاستثناء إباحة موالاتهم وقت الخوف من شرهم، ولا شك أن الضروري يتقدر بقدر الضرورة، فلا يجوز حينئذ إلا إظهار المولاة دون إبطانها، ولا يجوز حينئذ أن يستحل دما أو مالا حراما أو ارتكاب معصية، أو يظهر الكفار على عورات المسلمين أو يطلعهم على أسرار المؤمنين، وأنكر قوم التقية بعد ظهور الإسلام، قال معاذ بن جبل : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة الإسلام فأما اليوم فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. ثم بالغ سبحانه في المنع عن ولاية الكفار وزاد على نفي ولاية المؤمنين ونفي ولاية الله عمن تولى بالكفار بالوعيد فقال ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أي يخوفكم سخطه وعقابه في موالاة الكفار وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يبالي بما يخاف أحدكم من الكفار فهذا وعيد شديد مشعر بالتناهي في القبح ﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي مصيركم إليه تعالى لا تفوتونه وهذا وعيد آخر.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن تخفوا ما في صدوركم ﴾ أي قلوبكم من مودة الكفار وغيرها ﴿ أو تبدوه ﴾ قولا أو فعلا ﴿ يعلمه الله ﴾ لا يخفى عليه شيء والغرض من الكلام تسوية المبدي والمخفي بالنسبة إلى علم الله تعالى، وإلا فالعلم بالمخفي يقتضي العلم بالمبدي بالطريق الأول فلا حاجة إلى ذكره أو تبدوه ﴿ ويعلم ما في السماوات وما في الأرض و الله على كل شيء قدير ﴾جملة يعلم استئناف غير معطوف على جزاء الشرط، وهو في مقام التعليل لما سبق يعني إذا لم يخف عليه شيء فكيف تخفى عليه ضمائركم، واقتصر في الذكر على علم ما في السماوات وما في الأرض لانحصار نظر العوام عليهما، والمقصود إحاطة علمه تعالى بكل موجود فإن وجود كل شيء مستفاد منه فكيف يخفى عليه شيء ؟ وفي ذكر إحاطة علمه تعالى بكل شيء وقدرته على كل شيء بيان لقوله تعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ لأنه متصف بالعلم الشامل والقدرة الكاملة فلا يجوز التجاسر على عصيانه عند العقل، وجاز أن يكون المراد أنه تعالى لا يخفى عليه شيء يمكن به تعذيبكم في الدنيا والآخرة وهو على كل شيء قدير فيعذبكم بأي شيء يريد في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، ولا شك أن موالاة الكفار والمداهنة في الدين يستلزم التعذيب في الدنيا أيضا بضرب المذلة وسلب السلطنة و الله أعلم.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾ الظرف أعني يوم متعلق بتود وما موصولة ليست بشرطية لإجماع القراء على رفع تود، ولو كانت شرطية لذهب بعضهم إلى جزمه بناء على جواز الرفع و الجزم إذا كان الشرط ماضيا مع أن المروي عن المبرد أن الرفع شاذ يعني إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا، والموصول مع صلته مفعول لتجد وهي بمعنى تصيب فلا يقتضي إلا مفعولا واحدا ومحضرا حال منه وما عملت من سوء معطوف على ما عملت من خير، ولعل المراد حينئذ بكل نفس هاهنا نفس مؤمنة خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، وأما من ليس له إلا عمل صالح أو إلا عمل سيء فيظهر حاله بالمقايسة والمفهوم، فالله سبحانه برأفته يحضر للمؤمن عمله الصالح على رؤوس الخلائق دون عمله السوء بل تجده في نفسه وتود أن لا يظهره الله أو يظهره الله على الإخفاء والتستر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب، حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " وإن كان تجد بمعنى تعلم فحينئذ محضرا يكون مفعولا ثانيا له محمولا على ما عملت من خير وفيما عطف عليه يقدر مثله كما في قوله علمت زيدا فاضلا وعمروا، يعني تجد الخير والشر محضرين، وكلمة لو مقحمة وأن مع اسمها وخبرها مفعول لتود أو هي بمعنى ليت حكاية لودادهم وأن مع اسمها وخبرها بمنزلة الاسم مع الخبر لليت وحذف مفعول تود لما يدل عليه ما بعده، وجاز أن يكون لو مصدرية وبعد فعل مقدر فاعلها أن مع اسمها وخبرها وذلك الفعل بتأويل المصدر مفعول لتود، وضمير بينه راجع إلى اليوم أو ما عملت من سوء تقدير الكلام حين تصيب كل نفس عملها الخير أي صحيفة عملها أو جزاءه حال كونه محضرا وتصيب عملها أشر أو تعلم جزاء خيرها وشرها محضرين عندها تود أي تتمنى مسافة بعيدة بينها وبين ذلك اليوم وهوله لما يرى من عملها السوء وإن كان ذلك مع ما يرى من صالح عمله، فإن طمع النفع لا يصير مطمح نظره عند خوف الضرر أو بينها وبين عملها السوء أو يتمنى ثبوت مسافة بينها وبينه، والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها. قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله السوء أبدا أو قيل يود أنه لم يعمله وجاز أن يكون يوم متعلقا بقدير، ووجه تخصيص القدرة باليوم مع شموله لجميع الأزمنة وقوع الثواب أو العذاب في ذلك اليوم والمعنى والله بكل شيء من ثوابكم وعذابكم قدير يوم تجد، وجاز أن يكون منصوبا بمضمر فيقدر اذكر، والأولى أن يقدر يحذركم الله يوم تجد فلا يكون في عطف ويحذركم خفاء، وعلى هذه الوجوه تود حال مقدرة من الضمير في عملت من سوء يعني تجد ما عملت من سوء مقدرا حين ما عملت ذلك الوداد يوم القيامة، وجاز أن يكون تود خبرا لما عملت من سوء ويكون الواو في وما عملت من سوء للاستئناف وتمت الجملة الأولى على ما عملت من خير وجاز أن يكون الواو للعطف وتود بمنزلة المفعول الثاني لتجد محمولا على ما عملت من سوء أي تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء هائلا بحيث تود أن بينها وبينه أمدا بعيدا، عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر شام منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة " ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ جملة مستأنفة للتحذير عن ترك الواجبات وإتيان السيئات كما أن ما سبق كان للتحذير عن موالاة الكفار فلا تكرار، وجاز أن يكون معطوفة على أي يهاب من هذه اليوم أو من عمله السوء ويحذّركم الله نفسه بإظهار قهاريته يوم تجد، ولو كان الظرف متعلقا باذكر، جاز أن يكون هذه الجملة معطوفة على تجد أي اذكر يوم تجد ويوم يحذركم الله بإظهار قهاريته وهذه الجملة لبيان المعاملة مع الكفار وقوله تعالى :
﴿ والله رؤوف بالعباد ٣٠ ﴾ أي بعباده المؤمنين لبيان المعاملة مع المسلمين، وجاز على التأويل الأول أن يكون هذه الجملة في مقام التعليل للجملة الأولى يعني إنما يحذركم الله نفسه لأنه رؤوف بالعباد يريد إصلاحهم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن مرسلا قال : قال أقوام على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم يا محمد : إنا لنحب ربنا، فأنزل الله تعالى ﴿ قل إن كنتم تحبون الله ﴾ الآية، وروى ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنها نزلت في وفد نجران لما قالوا إنما نعبد المسيح حبا لله، وقال البغوي : نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال :" والله يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل " فقال قريش : إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى فقال تعالى :﴿ قل إن كنتم تحبون الله ﴾.
﴿ قل إن كنتم تحبون الله ﴾ الحب : بضم الحاء وكسره وكذا الحباب بهما والمحبة مصادر من أحبه يحبه فهو محبوب على غير قياس ومحبّ قليل وحببته أحبه حبا من ضرب يضرب شاذ، وهو عبارة عن اشتغال قلب المحب بالمحبوب وأنسه به بحيث يمنعه عن الالتفات إلى غيره ولا يكون له بد من دوام التوجه إليه والاشتغال به وهذا هو المعنى من قولهم العشق نار في القلوب تحرق ما سوى المحبوب، يعنى يقطع عن قلبه التوجه إلى غير المحبوب فيجعله نسيا منسيا كأن لم يكن في الوجود غير محبوبه حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فلا يرى نفسه كما لا يرى غيره، ومقتضى تلك الصفة ابتغاء مرضات المحبوب وكراهة ما يكرهه طبعا وبالذات بلا ملاحظة طمع في ثوابه أو خوف من عقابه وإن اجتمع مع ذلك طمع وخوف أيضا، هذا تعريف المحبة من العبد وأما محبة الله تعالى لعبده فالله سبحانه منزه عن القلب واشتغاله ولا يمنعه شأن عن شأن فهي في حقه تعالى عبارة عن الأنس الساذج المقتضى لجذب العبد إلى جنابه وعدم إهماله وتركه إلى غيره، وجذب الله العبد إلى جنابه سبب للمحبة من العبد لله تعالى. فمحبة العبد لله تعالى فرع لمحبة الله تعالى إياه وظل لها قال الله تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ وقال ﴿ يحبهم ويحبونه ﴾ قدم يحبهم على يحبونه هذا ما ذكرت هو المحبة الذاتية، وما ذكر البيضاوي : أن المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال إدراك فيه بحيث يحمله على ما يقربه إليه فهو بيان للمحبة الصافية، وهي بمراحل عن المحبة الذاتية ألا ترى أن الأم تحب ولدها بلا ملاحظة كمال فيه فذلك قريب من المحبة الذاتية وليست منها لأن محبة الأم تتفرع على علم انتساب الولد إليها، وأما محبة الله تعالى فهي أعز وأعلى من ذلك. فقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما مرفوعا بألفاظ مختلفة :" إن لله تبارك وتعالى مائة رحمة منها واحدة قسّمها بين الخلائق يتراحمون بها وادّخر لأوليائه تسعة وتسعين " وأما ما ذكر البغوي أنّ حب المؤمنين لله تعالى اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فليس هذا تعريفا للمحبة بل بيان لمقتضاه وما يدل عليه ﴿ فاتّبعوني ﴾ الفاء للسببية وذلك لأن المحبة سبب لابتغاء مرضات الله تعالى، والمرضي من غير المرضي لا يدرك بالرأي بل بتعليم الله تعالى بتوسط الرسل، فثبت أن المحبة سبب لاتباع الرسل والاتباع دليل على وجودها وعدمه دليل عدمها فمن ادعى المحبة مع مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب يكذبه كتاب الله تعالى ﴿ يحببكم الله ﴾ جواب للأمر تقديره إن تتبعوني يحببكم الله. فإن قيل : مقتضى هذه الآية إن محبة الله تعالى العبد يتفرغ على اتباع الرسول المتفرع على محبة من العبد لله تعالى المسبوق بمحبة من الله للعبد فيلزم الدور ؟ قلنا : هذه محبة أخرى من الله تعالى سوى المحبة السابقة فمحبة العبد لله تعالى محفوف بمحبتين من الله سبحانه سابق ولاحق فالمحبة السابقة ما ذكرناه سابقا والمحبة اللاحقة هي التي تقتضي الرحمة والتفضل الكامل الذي ورد في الحديث أن جزءا واحدا منها أي من الرحمة قسمها الله بين الخلائق وادخر لأوليائه تسعة وتسعين، ولاقتضاء تلك المحبة اللاحقة من الله تعالى المغفرة والرحمة عطف عليه قوله :﴿ ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ﴾.
قال البغوي : لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزل﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾ يعني أن إطاعة الله والرسول واحد فإن إطاعة الرسول من حيث هو رسول الله إنما إطاعة الله تعالى لا غير، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى } متفق عليه من حديث أبي هريرة. حيث جعل دخول الجنة فرع إطاعته، وقال عليه السلام :" من أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس " رواه البخاري في حديث طويل عن جابر ﴿ فإن تولوا ﴾ يحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا بحذف أحد التائين أصله فإن تتولوا أي تعرضوا عن إطاعة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فإن الله لا يحب الكافرين ﴾ وضع المظهر موضع الضمير ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم و الدلالة على أن التولي كفر والكفر ينفي المحبة وأن المحبة مخصوصة بالمؤمنين، وجاز أن يكون جزاء الشرط محذوفا وقوله تعالى فإن الله لا يحب الكافرين مسبب له دليل عليه أقيم مقامه تقديره فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لأنه لا يحب الكافرين، والجملة الشرطية تدل على أن التولي عن الإطاعة دليل على عدم محبة الله تعالى إياه، ومحبة العبد محذوف بالمحبتين من الله سابق ولاحق والله أعلم.
﴿ إن الله اصطفى ﴾ افتعال من الصفوة وهي الخالص من كل شيء يعني اختار لنفسه ولمحبته ورسالته ﴿ آدم ﴾ أبا البشر عليه السلام حتى أسجد له ملائكته وأسكنه في جنته وأخرج من ذريته الأنبياء كلهم وهو أول النبيين المصطفين ﴿ ونوحا ﴾ حين اختلف الناس وصاروا كفارا بعد ما كانوا على شريعة الحق ودين آدم عليه السلام فاختاره الله تعالى على من سواه، أهلك الكفار كلهم بدعائه وجعل ذريته هم الباقين ﴿ وآل إبراهيم وآل عمران ﴾ قيل أراد بآل إبراهيم وآل عمران أنفسهما كما في قوله تعالى :﴿ وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ﴾ يعني موسى وهارون، وقال آخرون : أراد بآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وسائر أنبياء بني إسرائيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم. وأما عمران فقال مقاتل هو عمران بن يصهر بن قامت بن لاوى بن يعقوب والد موسى وهارون، وقيل عمران بن ماثان من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام والد مريم أم عيسى، وقال الحسن ووهب كذلك لكنهما قالا : أبو مريم عمران بن أشهم بن أمون من أولاد سليمان بن داود وبين عمرانين ألف وثمانون سنة وقيل ألف وثمان مائة سنة، والظاهر أن المراد بآل عمران هاهنا عمران أبو مريم للدلالة سياق الكلام عليه فإن قوله تعالى :﴿ إذ قالت امرأة عمران ﴾ واقع في مقام البيان لما سبق من الاصطفاء، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل كانوا كلهم أو أكثرهم من نسلهم ﴿ على العالمين ٣٣ ﴾ إن كان ما ذكر شاملا لنبينا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام كما هو شامل لموسى وعيسى فاصطفاؤهم على العالمين أجمعين ظاهر وبه يستدل على أفضلية خواص البشر على خواص الملائكة، وإلا فالمراد بالعالمين عالمي زمانهم، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما قالت اليهود نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام، وقال البيضاوي : لما أوجب طاعة الرسل وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك بيان مناقبهم تحريضا عليها، وقال بعض الأفاضل : لما أمرهم بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وجعل متابعته سببا لمحبة الله وعدم إطاعته سببا لسخطه وسلب محبته أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم ورفعهم وتذليل أعدائهم وإعدامهم تخويفا للمتمردين عن المتابعة، فذكر اصطفاء آدم على من عداه حتى جعله مسجودا للملائكة ولعن عدوه إبليس واصطفاء نوح على أعدائه كفار أهل الأرض أجمعين حتى أهلكهم بالطوفان :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ واصطفاء آل إبراهيم على العالمين مع أن العالم كانوا كلهم كافرين في زمن إبراهيم حتى جعل دينهم شائعا وذلّل مخالفيهم، واصطفاء موسى وهارون حتى ألقي السحرة ساجدين وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم أحد مع كثرتهم، قلت : وجعل متابعي عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء مع كونهم مغلوبين بالكلية غالبين إلى يوم القيامة حيث قال :﴿ وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ ولذا خص آدم ونوحا والآلين ولم يذكر إبراهيم ونبينا سيد المرسلين إذ إبراهيم لم يغلب على العالم بالكلية، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيغلب والله أعلم.
﴿ ذرية ﴾ فُعيلة من الذر وهي صغار النمل والياء للنسبة ووجه ذلك أنهم استخرجوا من صلب آدم كالذر، أو فعولة من الذرء بمعنى الخلق أبدلت همزتها ياءً ثم قلبت الواو ياء وكسرت ما قبلها وأدغمت في الياء، ويسمى الأولاد والآباء ذرية فالأولاد ذرية لأنه ذرأهم والآباء ذرية لأنه ذرأ الأبناء منهم قال الله تعالى :﴿ وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ٤١ ﴾ أي آباءهم، ويقع على الواحد والجمع منصوب على الحالية أو البدلية من الآلين أو منهما ومن نوح ﴿ بعضها من بعض ﴾ مبتدأ وخبر في موضع النصب صفة لذرية يعني اصطفى نوحا والآلين حال كونهما خلقة مستخرجة كالذر بعضها كائنة من نسل بعض أو بعضها من شيعة بعض في التناصر واتحاد الدين كما في قوله :" ﴿ * وإنّ من شيعته لإبراهيم ٨٣ ﴾ ولو اعتبر في الذرية معنى الاشتقاق وقد اعتمد على ذي الحال فلا يبعد أن يقال إن بعضها فاعل له. ومن بعض متعلق به يعني خلقة مخلوقة أو مستخرجة بعضها من بعض، وجاز أن يكون معنى بعضها من بعض أن عادة الله تعالى اصطفاء واحد من قوم فلا ينبغي أن يستبعد قريش اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه واحدا منهم ﴿ والله سميع ﴾ يسمع أقوال الناس باستبعاد اصطفاء بعضهم من بعض ﴿ عليم ﴾ يعلم من يصلح للاصطفاء، أو سميع يقول امرأة عمران عليم بنيتها.
﴿ إذ قالت ﴾ إذ متعلق بعليم، أو منصوب بإضمار اذكر ﴿ امرأة عمران ﴾ ابن ماثان أو ابن أشهم، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، واسم امرأة عمران حنّة بنت قاقودا، وهي كانت عقيمة وقد أسنتّ. فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد وكانت من أهل بيت كانوا من الله بمكان، فدعت الله أن يهب لها ولدا فحملت بمريم كذا أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق وعن عكرمة نحوه ﴿ رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ﴾ منصوب على الحالية أي معتقا لخدمة بيت المقدس لا أشغله بشيء من الدنيا خاصا مفرغا لعبادة الله تعالى، وكان هذا النذر مشروعا في دينهم في الغلمان، أخرجه ابن جرير عن قتادة والربيع، كان إذا حررّ غلام جعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير إن أحب أقام فيه وإن أحب ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من الأنبياء و العلماء إلا ومن نسله محررا لبيت المقدس ولم يكن يحرر إلا الغلمان، فلعل حنة بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكرا ﴿ فتقبل مني ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون، يعني تقبل مني ما نذرته إنك أنت السميع لقولي العليم بنيتي، فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا يصلح لذلك فوقعا من ذلك في همّ، فهلك عمران وحنة حامل بمريم.
﴿ فلما وضعتها ﴾ الضمير لما في بطنها وتأنيثه لأنه كان في الواقع أنثى أو على تأويل النفس أو الحبلة ﴿ قالت ﴾ تحسرا وقد كانت ترجو غلاما
﴿ رب إني وضعتها أنثى ﴾ أو قالت اعتذارا إلى الله في جعلها محررة لخدمة البيت ﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ قرأ ابن عامر وأبوا بكر ويعقوب بإسكان العين وضم التاء على التكلم، على أنه من كلام امرأة عمران تسلية منها لنفسها أي لعل لله تعالى فيه سرا والأنثى كان خيرا، والباقون بفتح العين وإسكان التاء على الغيبة فهو استئناف من الله تعظيما لموضوعها وتجهيلا بشأنها ﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ جاز أن يكون هذه الجملة من قولها اعتذارا إلى الله في جعلها محررة لخدمة البيت يعني ليس الذكر في خدمة الكنيسة لقوته وصلاحيته كالأنثى لعودتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس فاللام في الكلمتين للجنس، وجاز أن يكون من كلام الله تعالى أي ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت بل هي أفضل من الذكر واللام فيهما للعمل، وهذا التأويل أولى من الأولى إذ لو كان على وجه الاعتذار لقالت وليست الأنثى كالذكر ﴿ وإني سميتها مريم ﴾ عطف على ما قبلها من مقالتها وما بينهما اعتراض، ومعناه العابدة في لغتهم قالت ذلك لأن يجعلها الله تعالى كاسمها عابدة، وفي تقديم المسند إليه إشارة إلى تخصيصها بالتسمية يعني ليس لها أب فهي يتيمة وفيه استعطاف ﴿ وإني ﴾ فتح الياء نافع وأسكنها الباقون ﴿ أعيذها ﴾ أجيرها ﴿ بك وذريتها ﴾ أولادها ﴿ من الشيطان الرجيم ﴾المطرود أصل الرجم الرمي بالحجارة، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه إلا مريم وابنها " متفق عليه، يعني ببركة هذه الاستعاذة، ومنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب } قلت : وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة حين زوجها عليا :" اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " وكذا قال لعلي حينئذ رواه ابن حبان من حديث أنس، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من دعاء امرأة عمران فرجوا عصمتها أولادها من الشيطان وعدم مسه إياهم، وحصر عدم المس في مريم وابنها الثابت بالحديث، على هذا يكون حصرا إضافيا بالنسبة إلى الأعم الأغلب.
﴿ فتقبّلها ﴾ بمعنى قبلها يعني مريم من حنة مكان الذكر، أو المعنى استقبلها أي أخدها في أول أمرها حين ولدت كتعجل بمعنى استعجل ﴿ ربها بقبول حسن ﴾ القبول هاهنا ليس بالمعنى المصدرية وإلا يقال قبولا حسنا بل هو اسم لما يقبل به الشيء كالسعوة واللدود أي بوجه حسن يقبل به النذائر، والقبول الحسن هو قبول المرادين أهل الاجتباء دون قبول المريدين أهل الهداية فإن الله تعالى اصطفاها لنفسه وفضلها على نساء العالمين وطهرها من الذنوب ومن الحيض من غير سابقة عمل منها واجتهادها، وإن كان القبول بالمعنى المصدري فتقديره بأمر ذي قبول حسن وذلك الأمر هو الاختصاص وكون مبدأ تعينها من مبادئ تعينات أهل الاصطفاء ﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾ مصدر من غير باب الفعل والمعنى : أنبتها فنبتت نباتا حسنا. فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام، أخرج ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدي : أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة فقالت دونكم هي النذيرة، فتنافس فيها الأحبار لما كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا أنا أحقكم بها عندي خالتها وهي أشياع بنت قاقودا أم يحيى عليه السلام، فأبوا إلا القرعة فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين رجلا إلى نهر جار، قال السدي هو نهر الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، قيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم، فارتكز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر قاله محمد بن إسحاق، وقال السدي وجماعة بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم، وقيل : جرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء وجرى أقلامهم مع جري الماء فذهب بها الماء فسهمهم وقرعهم زكريا وكان رأس الأحبار ونبيهم
﴿ وكفّلها ﴾ قرأ حمزة والكسائي وعاصم بتشديد الفاء من باب التفعيل و الفاعل هو الله تعالى لتقرره في الأذهان، أو الضمير المرفوع مستتر فيها راجع إلى ربها، و الباقون بالتخفيف والفاعل ﴿ زكريا ﴾ بالمد عند الجمهور مرفوعا لفظا، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالقصر منصوب المحل بالمفعولية وأبو بكر عن عاصم بالمد منصوبا لفظا والمعنى على قراءة الجمهور قام بأمرها زكريا، وعلى قراءة الكوفيين ضمها الله بالقرعة زكريا بن آذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليهم السلام فبنى زكريا لها بيتا واسترضع لها، وقال محمد بن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلّم مثل باب الكعبة ولا يصعر إليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم ﴿ كلما دخل عليها زكريا ﴾ بالمد والقصر كما مر في سائر القرآن لم يعطف هذه الجملة لكونها مقررة لما قبلها أعني تقبلها بقبول حسن أو لعدم الجامع باعتبار المسند أو المسند إليه، وكلما ظرف زمان في معنى الشرط منصوب بما وقع جوابه أعني وجد ﴿ المحراب ﴾ أي الغرفة التي بنى لها والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، ويقال أيضا للمسجد المحراب لأنه محل محاربة مع الشيطان، قال المبرد لا يكون المحراب إلا أن ترتقي إليه بدرج، أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : كان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل غرفتها ﴿ وجد عندها رزقا ﴾ أي فاكهة في غير حينها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ﴿ قال ﴾ زكريا استبعادا ﴿ يا مريم أنى ﴾ أي من أين، وقيل من أي جهة ﴿ لك هذا قالت هو من عند الله ﴾ أخرج ابن جرير عن ابن عباس إن رزقها كان ينزل من الجنة، وقال الحسن : حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط وكان يأتيها رزقها من الجنة وقد تكلمت وهي صغيرة كعيسى ﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا منه، يحتمل أن يكون من كلامها أو من كلام الله تعالى، وهذه القصة دليل على كرامة الأولياء، وجعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه حيث قال أنى لك هذا، أخرج أبو يعلى في مسنده من حديث جابر أن فاطمة رضي الله عنها أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم رجع بهما إليها وقال :" هلمي يا بنية " فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء بالخبز واللحم، فقال : أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال :" الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل " ثم جمع عليا والحسن والحسين وجميع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت على جيرانها.
﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك المكان أو ذلك الوقت حين رأى زكريا كرامة مريم وسعة رحمة الله ورأى أن أهل بيته قد انقرضوا وليس له ولد يرثه العلم والنبوة، وخاف مواليه أي بني أعماله أن يضيعوا الدين بعده دخل المحراب وغلق الأبواب ﴿ دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ﴾ أي من عندك على خرق عادة جرت منك ( حيث كانت امرأته عاقرا وهو كان شيخا كبيرا ) كما تهب الرزق لمريم على خرق العادة ﴿ ذرية ﴾ أي ولدا، يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى ﴿ طيبة ﴾ أنثها نظرا إلى لفظ الذرية يعني صالحا معصوما طاهرا من الذنوب ﴿ إنك سميع الدعاء ﴾ أي مجيبه.
﴿ فنادته الملائكة ﴾ قرأ حمزة والكسائي فناداه بالألف والإمالة على التذكير لأن الفاعل اسم ظاهر مؤنث غير حقيقي والباقون بالتاء لتأنيث لفظ الملائكة وكونها جمعا مكسرا، عن إبراهيم قال : كان عبد الله يذكر الملائكة في القرآن، قال أبو عبيد : اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله، وكان المنادي جبرائيل وحده أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود، فوجه إيراد صيغة الجمع أي الملائكة، قال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه وكان جبرائيل رئيس الملائكة وقلنا يبعث إلا ومعه جمع فجرى على ذلك، وقيل : معنى نادته الملائكة أي من جنسهم كقولك زيد يركب الخيل ﴿ وهو ﴾ أي زكريا ﴿ قائم يصلي في المحراب ﴾ أي في المسجد، وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخل أحد حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في المسجد عند المذبح والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول إذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه وهو جبرائيل فناداه يا زكريا ﴿ إن الله ﴾ قرأ حمزة وابن عامر إنّ بكسر الهمزة على إضمار القول تقديره فنادته الملائكة فقالت إن الله، والباقون بالفتح أي نادته بأن الله ﴿ يبشرك ﴾ قرأ حمزة يبشرك بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وكذا بابه بالتخفيف حيث وقع في كل القرآن من بشر يبشر وهي لغة تهامة إلا قوله فبم تبشرون فإنهم اتفقوا على تشديدها، ووافقه الكسائي هاهنا في موضعين وفي سبحان و الكهف، وعسق، ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو في عسق و الباقون بضم الياء وفتح الباء وتشديد الشين من التفعيل ﴿ بيحيى ﴾ سميّ به لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه كذا قال ابن عباس، وقال قتادة : لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وللطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية ﴿ مصدقا ﴾ حال مقدرة ﴿ بكلمة من الله ﴾ يعني بعيسى عليه السلام سميّ به لأن الله تعالى قال له كن من غير أب فكان فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان، وقيل : سمي عيسى كلمة لأنه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله، قالت الصوفية : كان مبدأ تعينه صفة الكلام وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وفي الصحيحين في حديث المعراج أنهما كانا ابني خالة، وقد ذكر فيما سبق أن يحيى كان ابن خالة لمريم، وعلى تقدير صحة تلك الرواية فالقول بأنهما كانا ابني خالة مبني على التجوز كما قال عليه الصلاة لفاطمة " أين ابن عمك " يعني عليا وهو ابن عم لأبيها. وقد قتل يحيى قبل رفع عيسى إلى السماء، وقال أبو عبيدة : أراد بكلمة من الله كتاب الله وآياته ﴿ وسيدا ﴾ يسود قومه ويفوقهم فيا لعلم والعبادة والورع وجميع خصال الخير، قال مجاهد : الكريم على الله، وقيل : الحليم الذي لا يغضبه شيء، وقال سفيان : الذي لا يحسد، وقيل : هو القانع، وقيل : هو السخي، وقال جنيد : هو الذي جاد بالكونين عوضا عن المكون ﴿ وحصورا ﴾ أصل من الحصر وهو الحبس والمنع فقيل كان لا يأتي النساء، فقيل كان عنينا كما جاء في الحديث، قلت : وإن كان عنينا فليس المراد هاهنا كونه عنينا أنه ليس بمدح والمقام مقام المدح فالأولى أن يقال أنه كان منوعا حابسا نفسه عن اتباع الشهوات والملاهي، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ما من عبد الله يلقى الله إلا أذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله يقول وسيدا أو حصورا، قال : وإنما كان ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بأنمله " وقوله صلى الله عليه وسلم : إنما كان ذكره مثل هدبة الثوب ليس بيانا لكونه حصورا بل بيانه ما سبق أعني كونه معصوما وهذا بيان للواقع، وأخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عمر موقوفا وهو أقوى إسنادا من المرفوع، وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه إن شاء يعذبه وإن شاء يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : كان ذكره مثل هذه القذاة " أخرج عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة موقوفا وابن عساكر في تاريخه عن معاذ بن جبل مرفوعا " أن يحيى عليه السلام مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقنا " ﴿ ونبيا ﴾ ناشئا ﴿ من ﴾ أصلاب ﴿ الصالحين ﴾ بعني النبيين المعصومين أو كائنا من عداد من لم يأت صغيرة ولا كبيرة.
﴿ قال ﴾ زكريا مناجيا إلى الله سبحانه من غير التفات إلى جبرائيل ﴿ رب أنّى يكون لي غلام ﴾ صدر هذا القول منه بمقتضى الطبع استبعادا عن مقتضى العادة أو استعظاما وتعجبا كل ذلك بمقتضى الطبع، فإن مقتضى الطبع قد يغلب على مقتضى العقل وإلا فالعقل والعلم يحكمان بأنه لا استبعاد في قدرة الله تعالى. ولا تعجب، كما أن موسى عليه السلام اعترض على خضر بعدما عهد منه ﴿ قال ستجدوني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ﴾ وقال عكرمة والسدي : أنه لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال : يا زكريا هذا الصوت ليس من الله إنما هو من الشيطان ولو كان من الله لأوحاه إليك فقال ذلك دفعا للوسوسة، وقال الحسن أنه قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه يعني بأي وجه يكون لي غلام بأن تجعلني وامرأتي شابين وتزيل عقمها أو تهب لي الولد من امرأة أخرى أو تهبه إيانا مع كوننا على حالتنا الأولى ﴿ وقد بلغني الكبر ﴾ هذا مقلوب أي قد بلغت الكبر وشخت، أو المعنى أدركني كبر السن وضعفني وكان يومئذ ابن سنتين وتسعين سنة كذا قال الكلبي، وقال الضحاك : كان ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ﴿ وامرأتي عاقر ﴾ لا تلد، يستوي فيه المذكر والمؤنث ﴿ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي يولد لك مع كونك شيخا وامرأتك عاقرا، أو خبر والمبتدأ الله يعني كذلك الله وبيانه يفعل ما يشاء من العجائب، أو الله مبتدأ والجملة بعده خبره وكذلك في محل النصب على المصدرية يعني الله يفعل ما يشاء فعلا كذلك الفعل أي مثل ما وعدناك وإن كان على خلاف العادة، أو على الحالية من ما يشاء.
﴿ قال رب اجعل لي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمر وأسكنها للباقون ﴿ آية ﴾ أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك ﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ﴾ يعني لا تقدر على التكلم مع الناس مع قدرتك على الذكر ﴿ ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ أي الإشارة بنحو يد أو رأس وأصله التحريك، والاستثناء منقطع وقيل متصل، والمراد بالكلام ما دل على ما في الضمير، وقال عطاء : أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا ﴿ واذكر ربك كثيرا ﴾ يعني حين تظهر لك الآية شكرا ﴿ وسبح ﴾ أي صل ﴿ بالعشي ﴾ أي من الزوال إلى ذهاب بعض الليل يعني والظهر والعصر والمغرب والعشاء ﴿ والإبكار ﴾ من صلاة الفجر إلى الضحى.
﴿ وإذ قالت ﴾ عطف على إذ قالت امرأة عمران ﴿ الملائكة ﴾ يعني جبرائيل عليه السلام شفاها ﴿ يا مريم إن الله اصطفاك ﴾ أي اختارك لنفسه بالتجليات الذاتية، الدائمية التي عبرها الصوفية بكمالات النبوة وهي بالأصالة للأنبياء عليهم السلام وبالتبعية والوراثة للصديقين وكانت هي صديقة قال الله تعالى :﴿ وأمه صدّيقة ﴾ ﴿ وطهّرك ﴾ عن الذنوب بالحفظ والمغفرة وعدم تطرق الشيطان إليها كما مر من حديث أبي هريرة برواية الشيخين، وقيل : طهرها من مسيس الرجال، وقيل : من الحيض ﴿ واصطفاك ﴾ أي فضلك ﴿ على نساء العالمين ﴾ أي عالمي زمانهم عن علي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة " متفق عليه، وفي رواية قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " رواه الترمذي، وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " متفق عليه. قلت : لعل معنى قوله صلى الله عليه وسلم لم يكمل من النساء من الأمم السابقة إلا مريم وآسية، يدل عليه قوله عليه السلام " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " فإن هذه الجملة تدل على فضل عائشة على مريم وآسية، وفي الصحيحين من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين " وروى أبو داود والنسائي و الحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة " فهذه الأحاديث تدل على أن فاطمة أفضل من مريم لأن نساء أهل الجنة عام لا يحتمل التخصيص بزمان دون زمان بخلاف قوله تعالى :﴿ واصطفاك على نساء العالمين ﴾ فإنه يحتمل أن يكون المراد منه عالمي زمانها كما قلنا، لكن ورد فيما روى أبو يعلي وابن حبان والحاكم والطبراني عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم " وروى الترمذي عن أم سلمة عن فاطمة قالت أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم " أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت بنت عمران " فهذين الحديثين يدلان على استثناء مريم من المفضولية ولا يدلان على كونها أفضل من فاطمة عليها السلام، وما في الصحيحين من حديث المسوّر بن مخرمة قوله صلى الله عليه وسلم :" فاطمة بضعة مني " وعند أحمد والترمذي والحاكم عن ابن الزبير نحوه يقتضي فضل فاطمة على جميع الرجال والنساء، كما قال مالك : لا نعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، لكن عند جمهور أهل السنة خص منه من علم فضلهم قطعا من الأنبياء وبعض الصديقين وبقي من سواهم في العموم والله أعلم.
﴿ يا مريم اقنتي ﴾ أي أطيلي في الصلاة شكرا ﴿ لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ أي مع المصلين بالجماعة ولم يقل مع الراكعات لأن النساء تتبع الرجال دون العكس فيكون أشمل.
﴿ ذلك ﴾ مبتدأ أي ما ذكر من القصص ﴿ من أنباء الغيب ﴾ أي أخباره خبره نوحيه ﴿ إليك ﴾ خبر بعد خبر وجاز أن يكون أحدهما خبرا والآخر حالا ﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ﴾ للاقتراع، تقرير لما سبق من كونه وحيا على سبيل التهكم لمنكريه لأن أسباب العلم منحصرة في الثلاثة العقل أو سماع الخبر أو الحس وكون القصص غير مدرك بالعقل بديهي، وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم لكونه صلى الله عليه وسلم أميّا وكون الأخبار منقطعة، فبقي أن يكون باحتمال العيان ولا يظن به عاقل، فبيان القصص منه صلى الله عليه وسلم على ما هو الواقع المعلوم عند أهل العلم بالأخبار معجزة له صلى الله عليه وسلم دليل قطعي على كونه نبيا، وكون ما يتلو عليهم وحيا من الله تعالى والله أعلم
﴿ أيهم يكفل مريم ﴾ جملة استفهامية متعلقة بمحذوف دل عليه ما قبله أي يلقون أقلامهم يقولون أيهم يكفل مريم وليعلموا أيهم يكفل مريم
﴿ وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ في كفالتها.
﴿ إذ قالت الملائكةّ ﴾ بدل من إذ قالت الأولى وما بينهما معترضات، ذكرت منة على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيحاء إليه تنبيها للكفار على جهلهم وعدائهم ﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه ﴾ مبتدأ والضمير فيه إلى الكلمة نظرا إلى المعنى فإن معناه مذكر يعني عيسى عليه السلام ﴿ المسيح ﴾ خبره لاسمه والجملة في موضع صفة لكلمة، قال في القاموس : المسيح أن يخلق الله الشيء مباركا أو معلونا من الأضداد. والمسيح عيسى صلى الله عليه وسلم سمي لبركته والدجال لشؤمه وملعونيته انتهى، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك، وقيل سمي عيسى مسيحا لأنه مسح منه الأقذار وطهر من الذنوب، وقال ابن عباس سمي عيسى مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل : سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في المكان، في القاموس المسيح الكثير للسياحة، وقال إبراهيم النخعي المسيح الصديق وهو عيسى والمسيح الكذاب وهو الدجال فهو من الأضداد كذا في القاموس، وفي الصحاح قال بعضهم : المسيح هو الذي مسح إحدى عينيه وقد روي أنّ الدجال لعنه الله ممسوح اليمنى، وقيل في عيسى ممسوح اليسرى، ومعنى القولين أن الدجال قد مسحت وأزيلت عنه الخصال المحمودة من الإيمان والعلم والعقل والحلم وسائر الأخلاق الحميدة وإن عيسى قد مسحت وأزيلت عنه الخصال الذميمة بالكلية من الجهل والشره والحرص والبخل وغير ذلك، قال صاحب القاموس : ذكرت لاشتقاق لفظ المسيح خمسين قولا في شرحي لمشارق الأنوار وغيره ﴿ عيسى ﴾ لفظ عبراني. قيل : هو معرّب اليشوع بمعنى السيد خبر بعد خبر وجاز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو عيسى وهذا علمه والمسيح لقبه والاسم أعم منهما ومن الكنية فإنه عبارة عن كل ما يميز الشيء عما عداه ﴿ ابن مريم ﴾ لما كانت صفة تميز له تميز الأسماء نظمت في سلكها، ولم يقل أسماءه المسيح عيسى ابن مريم لأن الاسم اسم جنس مضاف للاستغراق، والاستغراق وإن كان بمعنى كل فرد لكن يجوز حمل المتعدد على مجموع يتضمنه الاستغراق بمعنى كل واحد نحو ﴿ وما من دابة ﴾ وجاز أن يكون ابن مريم خبر مبتدأ محذوف أي هو، ولا يجوز أن يكون ابن مريم صفة لعيسى في التركيب لأن اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم، وإنما قال ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد ينسب إلى الآباء ولا ينسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب والله أعلم ﴿ وجيها ﴾حال مقدرة لكلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة، وتذكيره لتذكير المعنى أي شريفا رفيقا ذا جاه وقدر ﴿ في الدنيا ﴾ بالنبوة وكونه مطاعا للخلائق ﴿ والآخرة ﴾ بالشفاعة للأمم وعلو درجته في غرف الجنة ﴿ ومن المقربين ﴾ لله تعالى بالقرب الذاتي والتجليات الذاتية الدائمية عطف على وجيها.
﴿ ويكلم الناس في المهد ﴾ يعني رضيعا حال من الضمير المرفوع ليكلم ﴿ وكهلا ﴾ معطوف عليه يعني يكلم الناس رضيعا وكهلا على نسق كلام الأنبياء بلا تفاوت من أول عمره إلى آخره، وفيه إشارة إلى أنه يعمر بعد نزوله من السماء فإنه رفع إلى السماء قبل سن الكهولة، وقال مجاهد : معناه حليما والعرب يمدح الكهولة لأنه الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي والتجربة، فإن قبل ذلك يقل التجربة أو لا يبلغ العقل إلى كماله وبعد ذلك يضعف العقل، وقوله ويكلم الناس عطف على ومن المقربين، وفي ذكر يكلم الناس في المهد تسلية لمريم من خوف لوم الناس إياها على معطوفا على يكلم الناس أي كائنا من الصالحين لا يتطرق إليه نوع من النقص و الفساد في الدين وذلك شأن الأنبياء فكأن معناه ومن النبيين.
﴿ قالت ﴾ مريم ﴿ رب أنى يكون لي ولدا ولم يمسسني بشر ﴾ تعجب أو استبعاد عادي أو استفهام من أن يكون بتزوج أو غيره ﴿ قال ﴾ الله على لسان جبرائيل ﴿ كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا ﴾ أي قدّر أن يكون شيء ﴿ فإنما يقول له كن فيكون ﴾ يعني كما أنه تعالى قادر على أن يخلق الأشياء بالتدريج بأسباب عادية ومواد قادر أن يخلقها دفعة بلا أسباب.
﴿ ويعلّمه ﴾ قرأ نافع وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة عطفا على يخلق أو على يبشرك، والباقون بالنون على التكلم عطفا على ما ذكر على طريقة الالتفات، أو ابتداء تطييبا لقلبها وإزاحة لهمها من خوف اللوم لما علمت أنها تلد من غير زوج ﴿ الكتاب ﴾ أي الكتابة والخط فكان أحسن الناس خطا في زمانه، وقيل : المراد به جنس الكتب المنزلة يعني يعلمه علوم الكتب السماوية المنزلة وخص الكتابان لمزيد الاهتمام وحيث كان الواجب عليه الاقتداء بهما في فروع الأعمال وأما في أصول الدين فمقتضى الكتب كلها واحد ﴿ والحكمة ﴾ الفقه.
﴿ والتوراة والإنجيل ٤٨ ورسولا ﴾ منصوب بمضمر معطوف على يعلمه والتنوين للتعظيم تقديره ونجعله رسولا عظيما.
﴿ والتوراة والإنجيل ٤٨ ورسولا ﴾ منصوب بمضمر معطوف على يعلمه والتنوين للتعظيم تقديره ونجعله رسولا عظيما.
﴿ إلى بني إسرائيل ﴾ قيل : كان رسولا في حالة الصبا، وقيل : إنما أرسل بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف عليه السلام وآخرهم عيسى عليه السلام ﴿ أنّي ﴾ منصوب بنزع الخافض متعلق برسولا أي رسولا بأني أو بالعطف على الأحول المتقدمة متضمنا معنى النطق يعني ناطقا بأني ﴿ قد جئتكم بآية ﴾ أي معجزة دالة على رسالتي، وإنما قال بآية وقد جاء بآيات لأن الكل في الدلالة على صدقه كآية واحدة ﴿ من ربكم ﴾ جاز أن يكون ظرفا مستقرا صفة لآية وأن يكون ظرفا فألغوا متعلقا بجئتكم ﴿ أنّي ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وأسكنها الباقون، وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح فيجوز نصبه على أنه بدل من أني قد جئتكم ويجوز جره على أنه بدل من آية ويجوز رفعه على تقدير المبتدأ أي هي أني ﴿ أخلق ﴾ أصور وأقدر ﴿ لكم من الطين ﴾ صورة ﴿ كهيئة ﴾ الهيئة الصورة المهيأة ﴿ الطير ﴾ قرأ أبو جعفر الطائر هاهنا وفي المائدة ﴿ فأنفخ فيه ﴾ أي في الطين أو الضمير راجع إلى الكاف في هيئة أي في ذلك في المماثل ﴿ فيكون طيرا ﴾ قرأ الأكثرون بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا، وقرأ نافع ويعقوب وأبو جعفر طائرا على الإفراد لأن كل واحد منها كان طائرا، قال البغوي لم يخلق غير الخفاش، وإنما خص الخفاش لأنها أكمل الطير خلقا لأن لها ثديا وأسنانا وهي تحيض، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط وهي ميتا ليتميز ما لصنع العبد فيه مدخل مما لا مدخل فيه ﴿ بإذن الله ﴾ أي بأمره وقوله كن نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا من غيره
﴿ وأبرئ الأكمة ﴾ الذي ولد أعمى أو الممسوح العين كذا قال ابن عباس، وقال الحسن والسدي : هو الأعمى، وقال عكرمة : هو الأعمش يعني ضعيف البصر مع سيلان الدمع كثيرا، وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار دون الليل ﴿ والأبرص ﴾ الذي به وضح، وهذان الداءان يعجز عنهما الأطباء، وكان في زمن عيسى الطب غالبا فأراهم المعجزة من جنس ذلك كما كان في زمن موسى السحر غالبا فأرى عجز كل سحار عليهم، وفي زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كان البلاغة في الكلام فأعجزهم القرآن وقال :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ قال وهب بن منبه : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى، وكان يدعو للمرضى والزمنى والعميان وغيرهم بهذا الدعاء : اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك، وأنت جبّار من في السماوات وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، سلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم أنك على كل شيء قدير، قال وهب : هذا للفزع والجنون يقرأ عليه ويكتب ويسقى ماؤه إن شاء الله تعالى يبرأ. ﴿ وأحيي الموتى بإذن الله ﴾ كرر قوله بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية، قال البغوي : قال ابن عباس : قد أحيا أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر، وسام بن نوح عليه السلام. أما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام إن أخاك عازر يموت وكان بينه وبين عيسى مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجده قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له. وأما ابن العجوز مر به ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له. وأما ابنة العاشر فكان والدها يأخذ العشق وماتت له بنت بالأمس فدعا الله عز وجل فأحياها وبقيت وولدت. وأما سام بن نوح فإن عيسى جاء إلى قبره فدعاه باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : قد قامت القيامة قال : لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له : مت، قال : بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل ﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ﴾ مما لم أعاينه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء، وقال السدي : كان عيسى في الكتاب يحدث الغلمان بما صنع آباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقال لا تلقوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا ليسوا هاهنا، فقال : فما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير، قال عيسى : كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمّت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمه حملته على حمير لها وخرجت هاربة إلى أرض مصر. وقال قتادة : إنما هذا في المائدة وكانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا فخانوا وخبئوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير ﴿ إن في ذلك ﴾ المذكور من الأمور الخارقة للعادة ﴿ لآية ﴾ على صدق عيسى في دعوى النبوة ﴿ لكم ﴾ لتهتدوا بها ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي موفقين للإيمان فآمنوا.
﴿ ومصدقا ﴾ عطف على رسولا أو منصوب بفعل مقدر دل عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقا ﴿ لما بين يديّ من التوراة ﴾ وهكذا شأن الأنبياء يصدقون الكتب السماوية كلها ويصدق بعضهم بعضا. ﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ أي أنسخ حرمة بعض ما في التوراة من اللحوم والشحوم المحرمة فيها، والنسخ لا ينافي التصديق كما أن القرآن ينسخ بعضه بعضا، مقدر بإضمار جئتكم أو مردود على قوله :﴿ أني قد جئتكم بآية ﴾ ومعطوف على معنى مصدقا أي لأصدق ولأحل ﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ جاز أن يكون المراد بالآية هاهنا آيات الإنجيل، وجاز أن يقال إنه تكرير للتأكيد، ولتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه قوله ﴿ فاتقوا الله ﴾ اتقوا عذاب الله في مخالفتي وتكذيبي ﴿ وأطيعون ﴾ فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته.
﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه ﴾ تفصيل لما أجمل من قوله :﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ فإن في قوله :﴿ إن الله ربي وربكم ﴾ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، أقرّ أولا في هذه الجملة بالعبودية على نفسه سدا لباب الفتنة التي يأتي من قومه من قولهم وابن الله وثلث ثلاثة، وفي قوله فاعبدوه إشارة إلى استكمال القوة العلمية بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي ثم أكد الجملتين بقوله ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ يعني الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالخير، وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم :" قل آمنت بالله ثم استقم " في جواب من قال : مر لي في الإسلام ولا أسأل عنه بعدك ؟ رواه أصحاب السنن وأحمد والبخاري في التاريخ.
﴿ فلما ﴾ ظرف زمان فيه معنى الشرط جوابه قال من أنصاري ﴿ أحسّ عيسى منهم ﴾ أي من بني إسرائيل ﴿ الكفر ﴾ يعني سمع منهم تكذيبه والقول بمثل ﴿ عزير ابن الله ﴾ وأبصر منهم ما يدل على الكفر، وفي الكلام حذف اختصار يدل على المحذوف ما مر من البشارة تقديره فولدت مريم عيسى، وكلم عيسى قومه في المهد، وبلغ الكمال حتى صار نبيا عالما بالتوراة والإنجيل، ودعا الناس إلى الهدى وأتى بالمعجزات المذكورات وأنكره بنو إسرائيل وكذبوه وأتوا بما يدل على الكفر فلما أحس عيسى منهم ذلك ﴿ قال من أنصاري ﴾ فتح الياء نافع وأسكنها الباقون ﴿ إلى الله ﴾ إلى هاهنا بمعنى مع كما في قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ وبمعنى في أو بمعنى اللام يعني من أنصاري مع الله أو في الله يعني في سبيل الله أو لله، أو هو بمعناه ويعتبر في النصرة معنى الإضافة يعني من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، فعلى هذه الوجوه الجار والمجرور ظرف لغو، وجار أن يكون ظرفا مستقرا على أنه حال من الياء أي من أنصاري ملتجئا إلى الله أو ذاهبا إلى ما أمر به أو ضامّا إليه ﴿ قال الحواريّون ﴾ حواري الرجل خالصته من الحور بمعنى البياض الخالص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حين ندب الناس يوم الخندق ثلاثا فانتدب كل مرة زبير بن العوام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لكل نبي حواريا وحواريّي الزبير " متفق عليه. وفي القاموس الحواري الناصر أو ناصر الأنبياء والقصار والحميم سمي أصحاب عيسى به لخلوص نيتهم في الدين ولكونهم ناصرا له كذا قال الحسن وسفيان، وقيل كانوا ملوكا استنصر بهم عيسى من اليهود وسموا بها لما كانوا يلبسون الثياب البيض، وأخرج ابن جرير عن أبي أرطأة كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها، وقال الضحاك : سموا بها لصفاء قلوبهم يعني لتطهرهم من الذنوب، وقال ابن المبارك : سموا به لما عليهم أثر العبادة ونورها وأصل الحور عند العرب شدة البياض، وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون الأصفياء وكانوا اثني عشر رجلا، قال روح بن القاسم : سألت قتادة عن الحواريين، قال : هم الذين يصلح لهم الخلافة، وعنه قال : الحواريون الوزراء، وقال مجاهد والسدي : كانوا صيادين السمك، وقيل : كانوا ملاّحين ﴿ نحن أنصار الله ﴾ أي أنصار دينه ﴿ آمنا بالله واشهد ﴾ يا عيسى يوم تشهد الرسل لقومهم وعليهم ﴿ بأنا مسلمون ﴾ فيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد.
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت ﴾ من الكتب والإنجيل وغيره ﴿ واتّبعنا الرسول ﴾ عيسى عليه السلام في كل ما أمرنا به ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ بوحدانيتك ولأنبيائك بالصدق، وقال عطاء : مع النبيين لأن كل نبي شاهد لأمته، وقال ابن عباس : مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل على البلاغ.
﴿ ومكروا ﴾ أي الذين أحسّ عيسى منهم الكفر حيث أرادوا قتله، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : استقبل عيسى رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر بن الساحرة فقذفوه وأمه فلعنهم عيسى ودعا عليهم فمسخهم الله خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وبادروا إليه ليقتلوه فبعث الله جبرائيل، فأدخله خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ألقي عليه شبه عيسى فلما أخرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه، وذلك قوله تعالى ﴿ ومكر الله ﴾ والمكر في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة فلا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والازدواج، مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي أقواهم وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.
﴿ إذ قال الله ﴾ ظرف لمكر الله أو لمضمر مثل وقع ذلك ﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ﴾ أي إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، قال الحسن والكلبي وابن جريج معناه أني قابضك ورافعك إلي من الدنيا من غير موت. قال البغوي : لهذا المعنى تأويلان : أحدهما أني رافعك إلي وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت كذا أي استوفيته إذا أخذته تاما، والآخر إني متسلمك من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته، وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس المراد بالتوفي النوم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء فحينئذ معناه أني منيمك ورافعك إلي كما قال :﴿ وهو الذي يتوفّاكم بالليل ﴾ وقال بعضهم : المراد بالتوفي الموت روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس معناه أني مميتك، قال البغوي فعلى هذا أيضا له تأويلان : أحدهما ما قاله وهب توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه، وقال محمد بن إسحاق : النصارى يزعمون الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه كذا أخرج ابن جرير عنه، ثانيهما ما قاله الضحاك معناه أني متوفيك بعد إنزالك من السماء ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما إياك من قتل اليهود ورافعك إلي قبل ذلك والواو للجمع المطلق لا للترتيب، وهذا التأويل يأباه قوله تعالى في المائدة :﴿ فلما توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ فإنه يدل على أن قومه إنما تنصروا بعد توفّيه ولا شك أنهم تنصروا بعد رفعه إلى السماء، فظهر أن المراد بالتوفي إما الرفع إلى السماء وإما التوفي قبل الرفع، والظاهر عندي أن المراد بالتوفي هو الرفع إلى السماء بلا موت يشهد به الوجدان بعد ملاحظة قوله تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ﴾ ولولا نفي الموت عنه لما كان من نفي القتل فائدة إذ الغرض من القتل الموت والله أعلم. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها " ثم قال أبو هريرة :
" فاقرؤوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته " " الآية متفق عليه، وفي رواية لهما " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " وفي رواية لمسلم : وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء، والتباغض، والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال :" ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون " كذا قال البغوي، وروى ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى بن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر " وعن جابر قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال : فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم تعال صل لنا، فقال : لا إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة " رواه مسلم، وفي حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم " رأى عيسى بن مريم في السماء الثانية " متفق عليه ﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ من سوء جوارهم ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ يعني يعلونهم بالحجة والسيف في غالب الأحوال، ومتعبوه الحواريون ومن كان من بني إسرائيل على دينه الحق قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد ووصيته باتباع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :﴿ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ وقيل : أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة إلى الآن لم يسمع غلبة اليهود عليهم وذهب ملك اليهود فلم يبق لهم ملك ودولة، والملك والدولة من بني إسرائيل في النصارى، فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ﴿ ثم إليّ مرجعكم ﴾ ضمير المخاطب لعيسى ومن تبعه ومن كفر به، وغلّب المخاطبين على الغائبين ﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ٥٥ ﴾ من أمر الدين. ثم فصّل ذلك الحكم فقال :﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا ﴾.
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا ﴾ بالقتل والأسر وضرب الجزية والذل. ﴿ والآخرة ﴾ بالنار ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ يمنعهم من عذابنا.
﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم ﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم ﴿ أجورهم والله لا يحب الظالمين ﴾ أي لا يرحم الكافرين وإذا لم يرحمهم عذبهم على ما اقتضاه كفرهم.
قال أهل التاريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى بمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إلى عيسى وهو ابن ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت مريم بعد رفعه ست سنوات، وفي رواية أنه لما قتل وصلب من شبه بعيسى جاءت مريم وامرأة أخرى كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى فقال لهما : علام تبكيان إن الله رفعني ولم يصلبني إلا خير وإن هذا شيء شبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى اهبط على مريم المجد لابنها في جبلها فإنه لم يبك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله إليه، وتلك الليلة هي التي تدّخر فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم.
﴿ ذلك ﴾ مبتدأ خبره ﴿ نتلوه ﴾ بمعنى الذي ذكر من أمر عيسى ومريم والحواريين نتلوه ﴿ عليك من الآيات ﴾ حال من الضمير المنصوب في نتلوه، وجاز أن يكون نتلوه حالا من المشار إليه والعمل فيه معنى من الإشارة والخبر من الآيات، وأن يكونا خبرين وأن ينتصب ذلك مضمر يفسره نتلوه، والمراد بالآيات إما آيات القرآن أو المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة نبوته، فإنه لم يكن عالما بتلك القصص وأخبر على ما كان عند أهل العلم منهم ﴿ والذكر الحكيم ﴾ أي القرآن ذي الحكمة، وقال مقاتل : الحكيم المحكم الممنوع من الباطل، وقيل : الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض.
﴿ إن مثل عيسى ﴾ يعني شأنه الغريب ﴿ عند الله كمثل آدم ﴾ كشأنه ثم فسره، وبين وجه التشبيه فقال ﴿ خلقه ﴾ أي صوّر قالبه، يعني آدم ﴿ من تراب ثم قال له ﴾ أي لذلك القالب ﴿ كن ﴾ بشرا حيا ﴿ فيكون ﴾ حكاية عن الحال الماضية أو المعنى قدر خلقه من تراب ثم ﴿ قال له كن فيكون ﴾ وجاز أن يكون ثم لتراخي الخبر عن الخبر دون المخبر، يعني أخبر أولا أنه خلق آدم من تراب ثم أخبر بأنه إنما خلقه بأن قال له كن فكان يعني لم يكن هناك أب ولا أم ولا حمل ولا رضاع ولا فطام، فشأن عيسى في الغرابة شابه شأن آدم من حيث كونه بلا أب فقط وشأن آدم أغرب منه بوجوه : فشبه الغريب بالأغرب وما هو خارق للعادة بالأخرق ليكون أقطع لنزاع الخصم وأحسم لمادة الشبهة. نزلت الآية في وفد نجران لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تشتم صاحبنا ؟ قال : ما أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد، قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا : وهل رأيت إنسانا قط من غير أب ؟ فأنزل الله تعالى لإلزامهم وإقحامهم هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن الحسن قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم راهبا نجران فقال أحدهما : من أبو عيسى ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعجل حتى يأمره ربه فنزل عليه :﴿ ذلك نتلوه عليك ﴾ إلى قوله ﴿ من الممترين ﴾ فإنهم كانوا يعترفون بخلق آدم بغير أب وأم من تراب، وما أجهل النصارى لعنهم الله قالوا هل رأيت إنسانا قط من غير أب، وما تفكروا في أنفسهم أنهم هل رأوا إنسانا تلد شاة أو شاة تلد إنسانا مع اتحاد الجنس في الحيوانية واختلافهما في النوع فكيف حكموا بأن الله الأحد الصمد القديم لذاته الذي ليس كمثله شيء ولد عيسى جسما مخلوقا حادثا يأكل الطعام وينام ويموت بل هو الذي ﴿ لم يلد ولم يولد ٣ ولم يكن له كفوا أحد ٤ ﴾.
( فائدة ) : في هذه الآية دلالة على حجية القياس، لأن الله سبحانه نبه على الحكم بجواز خلق عيسى من غير أب قياسا على خلق آدم.
﴿ الحق ﴾ خبر مبتدأ محذوف أو فاعل لفعل محذوف يعني هو الحق أو جاء الحق وجاز أن يكون مبتدأ خبره ﴿ من ربك ﴾ أي الحق المذكور من الله، وعلى التقديرين الأولين من ربك متعلق بجاء المحذوف أو حال من الضمير في الحق ﴿ فلا تكن ﴾ أيها المخاطب المنكر ﴿ من الممترين ﴾ الشاكين في أمر عيسى عليه السلام كما افترت اليهود حتى بهتوا أمه وافترت النصارى حتى قالوا أنه ابن الله.
﴿ فمن ﴾ شرطية، وجاز أن يكون استفهامية لإنكار وجود من يحاجه من بعد أن النصارى عجزوا من المخاصمة ﴿ حاجك ﴾ أي جادلك من النصارى ﴿ فيه ﴾ أي في عيسى أو في الحق ﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾ بأن عيسى عبد الله ورسوله، وفي ذكر هذا القيد للمباهلة تنبيه على أن المسلم لا ينبغي أن يباهل الأبعد بعد كمال اليقين ﴿ فقل ﴾ يا محمد ﴿ تعالوا ﴾ أمر من التفاعل من العلو، قال الفراء : معناه كأنه قال ارتفعوا، قلت : كأنه يطلب منه أن يظهر على مكان عال ليبصر ما خفي عن بصره ثم استعير وغلب استعماله في طلب التأمل والتوجه من المخاطب بالرأي فيما خفي عنه، فحاصل المعنى هلموا بالرأي والعزم، وقد يستعمل للدعاء إلى مكان قريب من الداعي ﴿ ندع ﴾ مجزوم في جواب الأمر
﴿ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾ يعني ندع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله من الأبناء والنساء فنضمهم إلى أنفسنا حتى يعم ما نزل بالكاذب من العذاب أجمعهم، وقدمهم على النفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم ولأن الأصل في الدعاء المغايرة بين الداعي والمدعو والمغايرة بين والرجل وبين أبنائه ونسائه حقيقي وبينه وبين نفسه اعتباري فقدم الحقيقي على الاعتباري. روى مسلم والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية، دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال :" اللهم هؤلاء أهل بيتي " ﴿ ثم نبتهل ﴾ افتعال ومعناه التفاعل، واختير الافتعال هاهنا على التفاعل لأن المقصود منه جلب اللعنة إلى نفسه إن كان كاذبا ودفعها إلى خصمه إن كان صادقا وجلب الشر إلى نفسه أسرع وقوعا من دفعه إلى غيره فكان الغرض منه اكتساب اللعنة، والبهلة بالضمة والفتحة وأصله الترك يقال بهلت الناقة إذا تركتها بلا إصرار وفي اللعينة الترك من الرحمة والبعد من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة وذلك يقتضي وقوع العذاب لأن العصمة من العذاب لا يتصور إلا برحمته، وفي كلمة ثم إشارة أن اللائق من العاقل التأخير والتراخي في المباهلة ﴿ فنجعل لعنت الله على الكاذبين ٦١ ﴾ عطف تفسيري على نبتهل وبالفاء إشارة إلى أن وقوع اللعنة لا يتراخى عن الابتهال بل يعقبه بلا مهلة، قال البغوي : فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا نأتيك غدا، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمدا نبي مرسل ووالله ما لاعن قوم نبيا قط، فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا لرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة يمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا عن مكانه لأزاله لا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فأبوا، قال :" فإني أنابذكم " فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفا في صفر وألفا في رجب، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال :" والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا " وكذا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طرق عن ابن عباس.
واستدل الروافض قبحهم الله بهذه الآية على نفي خلافة الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم وكون عليّ عليه السلام وهو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا : المراد بالأبناء في هذه الآية الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبأنفسنا عليّ فجعل الله سبحانه عليا نفس صلى الله عليه وسلم، وأراد الله تعالى به كون علي رضي الله عنه مساويا له صلى الله عليه وسلم في الفضائل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالتصرف في الناس من أنفسهم قال الله تعالى :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ فكان علي كذلك فهو الإمام والجواب عنه بوجوه :
أحدها أن الأنفس بصيغة الجمع يدل على نفس النبي ونفس من تبعه ولا يدل ذلك على كون نفسهما واحدا مع كونه ظاهر البطلان،
ثانيها : أنه جاز أن يكون عليّ أيضا مرادا بالأبناء كالحسن والحسين بعموم المجاز فإن الختن يطلق عليه الابن عرفا،
وثالثها : أنه جاز أن يكون المراد بأنفسنا من يتصل به نسبا ودينا كما في قوله تعالى :﴿ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ وقوله تعالى ﴿ تقتلون أنفسكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ﴾ وقوله تعالى ﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ فحينئذ لا يلزم المساواة بينهما أصلا،
ورابعها : أن مساواة عليّ النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الصفات باطل باتفاق الفريقين والمساواة في بعضها لا يفيد المساواة فيما نحن فيه، خامسها : أنه لو كانت الآية دالة على كون علي أولى بالتصرف لزم كونه كذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وأنتم لا تقولون به لكن هذه القصة تدل على كون هؤلاء الكرام أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ إن هذا ﴾ يعني ما ذكر من قصص عيسى ومريم ﴿ لهو القصص الحق ﴾ هو فصل بين اسم إن وخبرها أو مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر إن وجاز دخول اللام على الفصل لأن أصلها أن تدخل على المبتدأ ولذا سميت لام الابتداء، وجاز دخولها على الخبر إذا لم يكن بينهما ضمير فصل وإن كان هناك ضمير فصل، دخلت عليه لكونه أقرب إلى المبتدأ من الخبر ﴿ وما من إله ﴾ من مزيدة لتأكيد استغراق النفي ردا على النصارى في قوله بالتثليث ﴿ إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ هذا في التركيب نظير قوله تعالى ﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾ يعني أنه تعالى لا يساويه أحد في العزة والقدرة التامة والحكمة البالغة فكيف يشاركه في الألوهية.
﴿ فإن تولوا ﴾ عن الحجج وأعرضوا عن التوحيد ﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ﴾ وعيد لهم تقديره فإن تولوا فإن الله يعذبهم فحذف يعذبهم وأقيم عليم بالمفسدين مقامه إقامة العلة مقام المعلول، فإن علمه تعالى بإفسادهم في الآفاق بإشاعة الكفر والمعاصي وصد الناس عن الإيمان وفي أنفسهم بكفران المنعم وعصيانه وترك شكره ومخالفة رسوله سبب لتعذيبهم والله أعلم، وفيه إشارة إلى أن التولي عن الحق إفساد والله أعلم.
قال المفسرون : قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام، فقالت اليهود : ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله تعالى ﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾.
﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾ الخطاب يعم أهل الكتابين ﴿ تعالوا إلى كلمة ﴾ قال البغوي العرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة ﴿ سواء ﴾ مصدر بمعنى مستوية ولم يؤنث لأن المصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ﴿ بيننا وبينكم ﴾ ظرف متعلق بسواء يعني لا يختلف فيه القرآن والتوراة والإنجيل ﴿ ألا نعبد إلا الله ﴾ يعني لا نشرك به أحدا غيره في العبادة لا إنسانا ولا صنما ولا ملكا ولا شيطانا، محل أن رفع على إضمار هو أو جر بدلا من الكلمة، وقيل نصب بنزع الخافض أي بأن لا نعبد ﴿ ولا نشرك به ﴾ في وجود الوجود ﴿ شيئا ﴾ كما فعلت اليهود
والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله فعبدوهما وقالت النصارى ثالث ثلاثة ﴿ ولا يتخذ بعضنا ﴾ أي بعض الناس ﴿ بعضا ﴾ أي بعضهم ﴿ أربابا ﴾ يعني لا يطيع بعض الناس بعضا ﴿ من دون الله ﴾ أي بغير إذن من الله تعالى. عن عدي بن حاتم أنه لما نزلت ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال :" أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " ؟ قال : نعم، " قال : هو ذاك " رواه الترمذي وحسنه، فما كان من إطاعة الرسول فهو إطاعة الله لا غير قال الله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ وكذا ما كان من إطاعة العلماء والأولياء والسلاطين والحكام على مقتضى الشرع قال الله تعالى :
﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ وما كان منها على خلاف مقتضى الشرع فهو الاتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " رواه الشيخان في الصحيحين وأبو داود والنسائي، وعن عمران بن حصين والحكيم بن عمرو الغفاري مرفوعا :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ومن هاهنا يظهر أنه صح عند أحد حديث مرفوع من النبي صلى الله عليه وسلم سالما عن المعارضة ولم يظهر له ناسخ وكان فتوى أبي حنيفة رحمة الله مثلا خلافه وقد ذهب على وفق الحديث أحد من الأئمة الأربعة، يجب عليه اتباع الحديث الثابت ولا يمنعه الجمود على مذهب من ذلك كيلا يلزم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. روى البيهقي في المدخل بإسناد صحيح إلى عبد الله بن المبارك قال : سمعت أبا حنيفة يقول : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم وإذا جاء من التابعين زاحمناهم، وذكر عن روضة العلماء قال : اتركوا قولي بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة، ونقل أنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإنما قلت في العمل بالحديث أن يكون ذلك الحديث قد ذهب إليه أحد من الأئمة الأربعة كيلا يلزم العمل على خلاف الإجماع فإن أهل السنة قد افترق بعد القرون الثلاثة أو الأربعة على أربعة مذاهب ولم يبق مذهب في فروع المسائل سوى هذه الأربعة فقد انعقد الإجماع المركب على بطلان قول يخالف كلهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تجتمع أمتي على الضلالة " وقال الله تعالى :﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ﴾ وأيضا لا يحتمل كون الحديث مختفيا عن الأئمة الأربعة وعن أكابر العلماء من تلامذتهم فتركهم قاطبة العمل بحديث دليل على كونه منسوخا أو مؤولا.
( فائدة ) لا يجوز لأحد أن يقول في أمر أفتى علماء الشرع على حرمته أو كراهته أن مشايخ الصوفية سنوّا كذلك ونحن نتبع سنتهم، والصحيح أن الصوفية الكرام ما فعلوا قط على خلاف مقتضى الشرع وإنما الفساد من جهال أتباعهم.
( فائدة ) لا يجوز ما يفعله الجهال بقبور الأولياء والشهداء من السجود والطواف حولها واتخاذ السرج والمساجد عليها، ومن الاجتماع بعد الحول كالأعياد ويسمونه عرسا، عن عائشة وابن عباس قالا : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم مرض طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك :" لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت : فحذر عن مثل مما صنعوا متفق عليه، وكذا روى أحمد والطيالسي عن أسامة بن زيد، وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس :" لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " وروى مسلم من حديث جندب بن عبد الملك قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول :" ألا لا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " ﴿ فإن تولوا ﴾ يعني أهل الكتاب عن تلك الكلمة العادلة المستقيمة المستوية المتفق عليها الكتب والرسل ﴿ فقولوا ﴾ أيها النبي والمؤمنون ﴿ اشهدوا ﴾ يا أهل الكتاب ﴿ بأنّا مسلمون ﴾ بالكتب السماوية كلها دونكم، عن ابن عباس " أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به وحيه إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه :" بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) " متفق عليه.
( فائدة ) قراءة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران وكتابته إلى هرقل وتسليمهم وعدم ردهم إياها بالإنكار وبالقول بأن هذه الكلمة ليست في كتبنا حجة قاطعة على نبوته صلى الله عليه وسلم وكون تلك الكلمة مجمعا عليها الكتب والرسل، فظهر أن قولهم بأن عزيرا ابن الله وعيسى ابن الله إنما كان بناء على آرائهم الفاسدة والتقليد دون الاستناد إلى الكتب، ومن ثم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم هل رأيت إنسانا من غير أب، قال البيضاوي : انظر إلى ما روعي في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بيّن أولا أحوال عيسى وما تعاود عليه من الأطوار المنافية للألوهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم بقوله مثل عيسى عند الله كمثل آدم فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لما رأى أنهم أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا يغني عنهم أعرض عن ذلك وقال ﴿ واشهد بأنّا مسلمون ﴾ والله أعلم.
روى ابن إسحاق بسنده المتكرر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أجمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى ﴿ يا أهل الكتاب ﴾ الخطاب يعم الفريقين ﴿ لم تحاجّون ﴾ تختصمون ﴿ في ﴾ دين ﴿ إبراهيم وما أنزلت التوراة ﴾ فحدث دين اليهود ﴿ و ﴾ ما أنزلت ﴿ الإنجيل ﴾ فحدث دين النصارى ﴿ إلا من بعده ﴾ أي بعد إبراهيم بزمان طويل كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ألفا سنة ﴿ أفلا تعقلون ﴾ بطلان قولكم، لعلهم كانوا يدعون أن إبراهيم في فروع الأعمال كان عاملا بأحكام التوراة أو الإنجيل بل ما اخترعه الفريقان بعد موت موسى ورفع عيسى، وتحريفهم الكتابين وهذا هو محل النزاع بين الفريقين وظاهر البطلان، فإن فروع الأعمال ينسخ في الشرائع بعد مضي الدهور على ما هو عادة الله تعالى نظرا إلى مصالح كل عصر فكيف يكون دين إبراهيم اليهودية أو النصرانية، وأما في أصول الدين وما لا يحتمل النسخ من الفروع كحرمة العبادة لغير الله تعالى والكذب والظلم فالشرائع والملل الحقة كلها متفقة عليها لا يحتمل فيها الاختلاف. والله أعلم.
﴿ ها أنتم ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو حيث وقع بالمد من غير همز، وورش أقل مدا وقنبل بالهمز من غير ألف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز، فالبزي يقصر على أصله في المنفصل والباقون على أصولهم في المد، فها للتنبيه على قراءة الكوفيين والبزي وابن ذكوان وعلى قراءة قنبل أصله أأنتم أبدلت همزة الاستفهام هاء كقوله هرقت في أرقت فصار ها أنتم، وكذا على قراءة ورش غير أنه يبدل الهمزة الثانية ألفا كما هو مذهبه عند اجتماع الهمزتين إذا كانتا مفتوحتين، وعلى قراءة أبي عمرو وقالون وهشام جاز الأمران فإن كان أصله أأنتم على الاستفهام أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قيل على قراءة قنبل وورش، وزيدت ألف فاضلا بين الهمزتين على أصلهم ثم حذفت الهمزة الثانية تخفيفا على قراءة أبي عمرو وقالون وبقيت على قراءة هشام، وإن كان أصله ها أنتم على الخبر فلا تغير في قراءة هشام وعند أبي عمرو وقالون حذفت الهمزة تخفيفا فالكلام إما استفهام إنكاري، أو تنبيه عن حالهم الذي غفلوا عنه، وأنتم مبتدأ ﴿ هؤلاء ﴾ خبره وما بعده جملة أخرى مبيّنة للأولى وجاز أن يكون هؤلاء منادى بحذف حرف النداء والجملة التالية خبر لأنتم تقديره يا هؤلاء أنتم أو ها أنتم ﴿ حاججتم ﴾ أي خاصمتم، وقيل : هؤلاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر لأنتم، قال نحاة الكوفة : جاز وضع اسم الإشارة موضع الموصول يعني أأنتم أو ها أنتم الذين جادلتم ﴿ فيما لكم به علم ﴾ من أمر موسى وعيسى وادعيتم أنكم على دينهم وقد علمتم ما كان دينهم من التوراة والإنجيل وإن كنتم لبستم بعض ما هو في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإن دين موسى وعيسى سينسخ بدين محمد النبي الأميّ المبعوث في آخر الزمان فافتضحتم فيه بإظهاره تعالى ما لبستموه مع علمكم بما في التوراة والإنجيل ﴿ فلم تحاجّون ﴾ أيها الحمقاء الغافلون عن ظهور بطلان قولكم ﴿ فيما ليس لكم به علم ﴾ من دين إبراهيم وشريعته، حيث لم يذكر في التوراة والإنجيل دينه وملته وكان قبلكم بألوف سنين ﴿ والله يعلم ﴾ ما أنزل على كل نبي من الأحكام ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ إلا ما علمكم الله في كتابكم بل أنتم لا تعلمون أصلا حيث تركتم ما أنزل الله عليكم ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم حتى لم تؤمنوا بمحمد، وقد أخذ الله ميثاقكم فتفتضحون في تلك المحاجة بالطريق الأولى إذ لا يصلح محاجة الجاهل العالم، وفيه تنبيه على أن محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة لكونه عالما بتعليم الله تعالى.
ثم بين الله تعالى دين إبراهيم فقال ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ﴾ يعني ما كان دين إبراهيم موافقا لدين موسى وعيسى في كثير من الفروع ﴿ ولكن كان حنيفا ﴾ مائلا عن العقائد الزائغة، وقيل الحنيف الذي يوحد ويضحي ويختن ويستقبل الكعبة ولم يكن ذلك في اليهود والنصارى ﴿ مسلما ﴾ منقادا لله تعالى فيما أمر به غير متبع لهواه، وأنتم لا تنقادون لما أمركم الله به حيث لا تؤمنون بالنبي الأمي الذي تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل وتشركون بالله فتقولون ثالث ثلاثة وتقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله، فكيف تدعون أنكم على دين إبراهيم وملته ﴿ وما كان ﴾ إبراهيم ﴿ من المشركين ٦٧ ﴾ بل كان من الموحدين.
﴿ إن أولى الناس ﴾ أولى مشتق من الوالي بمعنى القريب يعني أخصهم وأقربهم دينا ﴿ بإبراهيم للذين اتبعوه ﴾ من أمته حيث كانوا على دينه بلا شبهة ﴿ وهذا النبي ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والذين آمنوا ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم لموافقتهم لإبراهيم في أكثر الشرائع فإنهم يوحدون ويضحون ويختتنون ويصلون إلى الكعبة ويحجون ويعتمرون ويتمون بكلمات ابتلى بها إبراهيم ربه فأتمّهنّ، ﴿ والله ولي المؤمنين ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يؤمنون بجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم بخلاف اليهود والنصارى.
قال البغوي : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناد أنه لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان وقعة بدر اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا : إن لنا في الذين هم عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع الهدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة، فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون، وإنهم بعثوا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه منا أحد إلا السفهاء وإنّا كنا قد ضيّقنا عليهم وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال : فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر، فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بإذن الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك، فقال لهم النجاشي ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق، قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك وإنما كانت تلك التحية ونحن نعبد الأصنام فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال : أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله ؟ قال جعفر : أنا، قال : فتكلم، قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا، فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشي سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار ؟ قال : بل أحرار كرام، قال النجاشي : نجوا من العبودية، ثم قال جعفر : سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا ؟ قال : لا ولا قطرة، قال جعفر : سل هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه ؟ قال النجاشي : إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، قال عمرو : لا ولا قيراطا، قال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه اصدقني ؟ قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل ابن مريم موافقا له، فقال له النجاشي : تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا ؟ قالوا : اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمر بأن نعبد الله وحده لا شريك له. قال : اقرأ علي مما يقرأ عليكم، فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع، فقالوا : زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال ما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذي العين، قال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون، من سبكم أو آذاكم غرّم، ثم قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون وادعوا في دين إبراهيم، ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملّكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار وأنزل الله تعالى ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل ﴿ إن أولى الناس ﴾ الآية.
﴿ ودت طائفة من أهل الكتاب ﴾ نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي الله عنهم حين دعاهم اليهود إلى دينهم، يعني تمنت جماعة من اليهود ﴿ لو يضلّونكم ﴾ عن دينكم ويردونكم إلى الكفر، لو مصدرية بمعنى إن عاملة في المعنى دون اللفظ في محل النصب لودّت، أو هي للتمني بيان للوداد ﴿ وما يضلّون ﴾ أحدا ﴿ إلا أنفسهم ﴾ يعني إنما يعود وبال الإضلال إلى أنفسهم فيضاعف لهم العذاب والمسلمون محفوظون من شرهم بحفظ الله تعالى فلا يلزم إضلال الضال ﴿ وما يشعرون ﴾ إن إضرارهم يعود إليهم.
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في التوراة والإنجيل، أو بالقرآن ﴿ وأنتم تشهدون ٧٠ ﴾ أي تعترفون فيما بينكم على سبيل الكتمان أنه نبي حق مذكور نعته في التوراة والإنجيل أو أنتم تعلمون بالمعجزات إنه نبي حق.
﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ﴾ أي تخلطون الحق الذي أنزل على موسى من آيات التوراة بالباطل الذي كتبته أيدكم بالتحريف
﴿ وتكتمون الحق ﴾ النازل في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ ذلك وتفعلون ما تفعلون عمدا، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عبد الله بن الضيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض : نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى يلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله تعالى فيهم يا أهل الكتاب
لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.
﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب ﴾ إلى قوله واسع عليم ﴿ آمنوا ﴾ يعني أظهروا الإيمان باللسان ﴿ بالذي أنزل على الذين آمنوا ﴾ يعني بالقرآن ﴿ وجه النهار ﴾ يعني أوله فأنه أول ما يواجه ﴿ واكفروا ﴾ به ﴿ آخره ﴾ يعني آخر النهار وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك وظهر لنا كذبه ﴿ لعلهم ﴾ أي المسلمون يشكون في دينهم ﴿ يرجعون ﴾ عن دينهم ظنا منهم بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم، قال البغوي قال الحسن : تواطأ على ذلك اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة، وكذا أخرج ابن جري عن السدي، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، وقال كعب بن الأشرف وأصحابه : آمنوا بأمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار.
﴿ ولا تؤمنوا ﴾ عطف على ﴿ آمنوا بالذي أنزل ﴾ يعني لا تؤمنوا حقيقة الإيمان بمواطأة القلب ولا تصدقوا لأحد ﴿ إلا لمن تبع دينكم ﴾ أي لأهل دينكم، أو المعنى لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم قبل ذلك فإن رجوعهم أرجى وأهم، وجاز أن يكون لا تؤمنوا بيانا لا كفروا والمعنى واكفروا آخر النهار ولا تؤمنوا آخر النهار إلا لأهل دينكم ﴿ قل ﴾ يل محمد للكفار ﴿ إن الهدى ﴾ الذي أعطى المسلمين ﴿ هدى الله ﴾ لا تستطيعون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم والله متم نوره فلا يضر المؤمنين مكركم، أو المعنى قل يا محمد لنفسك وللمؤمنين إن الهدى هدى الله لا يضركم كيد كائد ﴿ أن يؤتى ﴾ قرأ ابن كثير بالمد على الاستفهام والباقون بلا مد على الخبر : متعلق بمحذوف يعني مكرتم ذلك المكر حسدا أو أمكرتم لأن يؤتى ﴿ أحد مثل ما أوتيتم ﴾ من الكتاب والحكمة ﴿ أو يحاجّوكم ﴾ عطف على يؤتى منصوب بأن، والضمير المرفوع عائد إلى أحد وهو وإن كان مفردا لفظا لكنه جمع معنى بمعونة المقام لأنه في حيز النفي أو الاستفهام، يعني أو مكرتم لأن يغلبكم أحد ﴿ عند ربكم ﴾ يوم القيامة لكونهم على الهدى دونكم، يعني أن الحسد حملكم على ذلك المكر ولا ينبغي ذلك المكر والحسد، وجاز أن يكون أن يؤتى متعلقا بلا تؤمنوا أو على هذا ثلاث تأويلات : أحدها أن يكون اللام في لمن تبع دينكم زائدة كما في قوله تعالى ( ردف لكم ) أي ردفكم والمستثنى من أحد فاعل يؤتى والمستثنى مقدم عليه، و أو في يحاجوكم بمعنى الواو لكونه في حيز النفي نحو :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾ والمعنى لا تصدقوا ولا تقرؤوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم ولا تصدقوا بأن يغلبكم أحد عند ربكم، ثانيها أن يكون اللام للانتفاع أو زائدة والاستثناء مفرغ واحد في قوله تعالى أن يؤتى أحد مظهر موضع المضمر أبرز لحذف المرجع من الصدر والمعنى لا تصدقوا أحدا أو لا تقروا لأحد أي في حق أحد ﴿ إلا لمن تبع دينكم ﴾ يعني إلا من تبع دينكم و إلا في حق من تبع دينكم بأن يؤتى ذلك الأحد مثل ما أوتيتم أو بأن يغلبكم أحد عند ربكم لأنكم أصح دينا هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة ابن كثير فمعناه أتصدقون وتقرون بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم لا ينبغي ذلك الإقرار والتصديق منكم وهذا معنى قول مجاهد.
وثالثها : أن تكون لا تؤمنوا بمعنى لا تظهروا واللام صلة والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم يعني إلا خفية لأشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين كيلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين كيلا يدعوهم إلى الإسلام، ومعناه على قراءة ابن كثير أتظهرون عند غيركم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم لا ينبغي ذلك الإظهار، وعلى هذه التأويلات جملة ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ معترضة لبيان إن كيدهم لا يفيدهم ولا يضر بالمسلمين وعلى قراءة الجمهور جاز أن يكون أن يؤتى خبر إن على أن هدى الله بدل عن الهدى. و أو في أو يحاجوكم بمعنى حتى والمعنى إن هدى الله الإيتاء لمن شاء من أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب حتى يغلبوكم يوم القيامة عند ربكم، وقيل معناه قالت اليهود لسفلتهم لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أي لئلا يؤتى كما في قوله تعالى :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ أي لئلا تضلوا يعني لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم بالعلم ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرضتم إن ديننا حق ولم تؤمنوا أو هذا معنى قول ابن جريج وهو أبعد التأويلات ﴿ قل ﴾ يا محمد لليهود ﴿ إن الفضل بيد الله ﴾ لا بأيديكم ﴿ يؤتيه من يشاء ﴾ وقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿ والله واسع ﴾ الفضل ﴿ عليم ﴾ بمن هو أهل له.
﴿ يختص برحمته ﴾ ونبوته ﴿ من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾.
﴿ ومن أهل الكتاب ﴾ يعني عبد الله بن سلام وأشباهه مؤمني أهل الكتاب ﴿ من إن تأمنه بقنطار ﴾ أي مال كثير ﴿ يؤدّه إليك ﴾ لأجل ديانتهم وإيمانهم، قال البغوي : قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا أودع عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه ﴿ ومنهم ﴾ يعني كعب بن الأشرف وأشباهه من كفار اليهود كذا قال مقاتل ﴿ من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ﴾ قال البغوي : استودع رجل من قريش فخاص بن عازوراء من اليهود دينارا فخانه. قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة يؤده ولا يؤده إليك ونؤته منها في الموضعين وفي النساء نوله ونصله وفي الشورى نؤته منها بإسكان الهاء في السبعة لأن الهاء وضعت موضع الجزم وهو الياء الذاهب، وقرأ قالون وأبو جعفر ويعقوب باختلاس كسرة الهاء اعتبروا الياء الساكنة المحذوفة موجودة، والهاء بعد الحرف الساكن يختلس حركته وكذا عن هشام في الباب كله، وقرأ الباقون بإشباع الكسرة لأن الأصل في الهاء بعد المتحرك الإشباع والوقف للجميع بالإسكان ﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾ قال ابن عباس قائما أي ملحا يقال يقوم عليه يعني يطالبه بالإلحاح والتقاضي والترافع إلى الحكام ﴿ ذلك ﴾ أي عدم الأداء والاستحلال ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أن اليهود الكفار ﴿ قالوا ليس علينا في الأميين ﴾ أي في شأن من ليس بأهل الكتاب ﴿ سبيل ﴾ أي سبيل مؤاخذة عند الله، قالوا : أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في الدين ﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ إن الله أحل لهم ذلك
﴿ وهم يعلمون ﴾ إنهم يكذبون.
﴿ بلى ﴾ يعني ليس كما قالوا بل عليهم سبيل في المؤمنين أو عصمة المال بالإيمان أو عقد الذمة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " متفق عليه من حديث أبي موسى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإن هم أبوا يعني إن كان الكفار أبوا عن الإسلام فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " متفق عليه في حديث طويل من حديث سليمان بن بريد عن أبيه ﴿ من ﴾ شرطية أو موصولة ﴿ أوفى بعهده ﴾ الضمير المجرور وراجع إلى من يعني بعهده الذي عاهد رب المال بأداء الأمانة، أو راجع إلى الله تعالى أي عهد الله عهد إليه في التوراة من الإيمان بجميع الأنبياء وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة ﴿ واتّقى ﴾ الكفر والخيانة ﴿ فإن الله يحب المتقين ﴾ وضع المظهر موضع الضمير إشعارا بأن التقوى ملاك الأمر كله وهو يعم الوفاء بالعهد وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي، ولذلك العموم ناب مناب الراجع إلى من أوفى، والجملة مستأنفة مقررة لجملة سدت بلى مسدها. عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " متفق عليه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث " زاد مسلم " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " ثم اتفقا " إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " والله أعلم.
روى الشيخان في الصحيحين عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فأنزل الله تعالى تصديق ذلك ﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ﴾ الآية- فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فقالوا : كذا وكذا، فقال : فيّ نزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بينتك أو يمينه " قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو غضبان " كذا روى البغوي بسنده من طريق البخاري. وفي رواية أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن الأشعث بن قيس قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" ألك بينة " ؟ قلت : لا، قال لليهودي : احلف، قلت : يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : لا منافاة بين الحديثين بل يحمل أن النزول كان بالسببين جميعا والمعنى أن الذين يشترون بعهد الله في أداء الأمانة وأيمانهم الكاذبة ثمنا قليلا يعني شيئا من متاع الدنيا قليلا كان أو كثيرا فإنها بالنسبة إلى نعماء الجنة قليل جدا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الآية نزلت في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين يكتمون ما أنزل الله في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوه بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المأكل والرشي التي كانت لهم من أتباعهم، قال ابن حجر : والآية محتملة لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح، قلت : سياق الكلام يقتضي صحة ما روى ابن جرير عن عكرمة والحديثين المذكورين في الصحيحين لا ينافيان رواية ابن جرير كما لا يتنافيان لجواز كون أسباب النزول كلها جميعا والله أعلم. وعن علقمة بن وائل عن أبيه قال : جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي : هي أرضي وفي يدي ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال : لا، قال : فلك يمينه، قال : يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه فليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر : لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض " رواه مسلم، وفي رواية هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان، وفي رواية لأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال :" لا يقطع أحد مالا بيمين إلا لقي الله وهو أجذم " فقال الكندي هي أرضه، وقال البغوي : روي أنه لما هم الكندي أن يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف واقرأ لخصمه ودفعها إليه ﴿ أولئك لا خلاق لهم ﴾ أي لا نصيب لهم ﴿ في ﴾ نعيم ﴿ الآخرة ﴾ عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة " فقال له رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال :" وإن كان قضيبا من أراك " رواه مسلم، وفي رواية قالها ثلاثا ﴿ ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ﴾ قيل معناه لا يكلمهم الله كلاما يسرهم ولا ينظر إليهم نظر رحمة، والصحيح أن هذا كناية عن الغضب والإعراض فكأنّ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله والأشعث لقي الله وهو عليه غضبان، وفي حديث وائل :" ليلقين الله وهو عنه معرض " تفسير لهذين الجملتين ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي لا يثني عليهم والظاهر أن معناه لا يغفر الله ذنبه لأنه من حقوق العباد وفيه القصاص لا محالة، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدواوين ثلاثة : فديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفر الله، أما الديوان الذي لا يغفر الله فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أوصلاه تركها، وأما الديوان الذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة " رواه الحاكم وأحمد وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وأبي هريرة والبزار مثله من حديث أنس – وإن كان الآية في اليهود في كتمان نعت النبي صلى الله عليه وسلم فعدم المغفرة لأجل كفرهم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ على ما فعلوه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فقال أبو ذر : خابوا وخسروا مَن هم يا رسول الله، قال " المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف به بالله لأخذه بكذا كذا فصدّقه، وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعط منها لم يف " متفق عليه ورواه أحمد والأربعة، وفي رواية متفق عليها عنه مرفوعا :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم يعمل يداك " وعن سلمان نحوه بلفظ " شيخ زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه " رواه الطبراني والبيهقي وروى الطبراني عن عصمة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.
﴿ وإن منهم ﴾ أي من أهل الكتاب ﴿ لفريقا ﴾ طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وسفنة بن عمرو الشاعر﴿ يلوون ﴾ أي يصرفون ﴿ ألسنتهم بالكتاب ﴾ أي منتسب بقراءة الكتاب عن المنزل إلى ما حرفوه ﴿ لتحسبوه ﴾ أي لتظنوا أيها المؤمنون ذلك المحرف المفهوم من قوله تعالى يلوون كائنا ﴿ من الكتاب ﴾ المنزل ﴿ وما هو من الكتاب ﴾ المنزل ﴿ ويقولون ﴾ أي اليهود تصريحا ﴿ هو ﴾ أي ذلك المحرف كائن ﴿ من عند الله ﴾ فيه تشنيع عليهم ﴿ وما هو من عند الله ﴾ تأكيد لما سبق يعني ما هو من الكتاب ﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أنه كذب، تأكيد بعد تأكيد وتسجيل عليهم بتعمد الكذب على الله، قال الضحاك عن ابن عباس : أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرقوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
أخرج إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت أحبار اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ؟ قال : معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله ما لذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني، فأنزل الله تعالى ( ما كان لبشر ) إلى قوله ( مسلمون ). وأخرج عبد في تفسيره عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال :" يا رسول الله نسلم عليكم كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله " فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مقاتل والضحاك : كان نصارى نجران يقولون أن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا، فأنزل الله تعالى ﴿ ما كان ﴾ جائز ﴿ لبشر ﴾ يعني لمحمد ولا لعيسى صلى الله عليهما، والبشر اسم جنس كالإنسان ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو جمعا وقد يثنى كما في قوله تعالى :﴿ أنؤمن لبشرين مثلنا ﴾ ويجمع أبشارا كذا في القاموس، وقال البغوي : البشر جميع ابن آدم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد ﴿ أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ﴾ يعني الحكمة والسنة أو إمضاء الحكم ﴿ والنبوة ثم يقول ﴾ عطف على يؤتي منصوب بأن ﴿ للناس كونوا عبادا لي من دون الله ﴾ أي من دون توحيد الله، وفيه إشارة إلى أن عبادة غير الله تنافي عبادة الله، وعبادته منحصر في توحيده، وأن في محل الرفع على أنه اسم كان يعني ما كان إيتاء الكتاب والنبوة وبعد ذلك القول بعبادة غير الله جائزا لبشر لمنافاة بين النبوة التي هي دعاء الناس إلى الإيمان بالله وحده وهذا القول الذي هو دعاء إلى الشرك
﴿ ولكن ﴾ عطف على يقول بتقدير القول يعني ولكن يقول ﴿ كونوا ربانيين ﴾ وجاز أن يكون ولكن كونوا معطوفا على مفهوم ما سبق فإنه يفهم منه، لا تكونوا قائلين للناس كونوا عبادا لي، ولكن كونوا ربانيين مبلغين ما أتاكم ربكم، قال علي وابن عباس في تفسير قوله تعالى كونوا ربانيين : كونوا فقهاء علماء، وقال قتادة : حكماء علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين، وقال عطاء : علماء حلماء نصحا لله في خلقه، عن سعيد بن جبير : الذي يعمل بعلمه، وقال أبو عبيد : سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي العارف بأنباء الأمة، ما كان وما يكون، وقيل : الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين جمعوا بين العلم والبصارة بين الناس، وحاصل الأقوال الرباني الكامل المكمل في العلم والعمل والإخلاص، ومراتب القرب سمي بذلك لأنهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين لصغار العلوم قبل كبارها وكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه فقد ربه بربه، وعن علي أنه يرب علمه بعمله واحده ربان كما يقال ريان وعطشان ثم ضمت إليه ياء النسبة، وقيل : هو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كاللحياني لعظيم اللحية والرقباني لعظيم الرقبة وطويلهما إذ لو أريد بالنسبة إلى اللحية والرقبة بدون المبالغة لقيل لحيي ورقبي، قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس : مات رباني هذه الأمة ﴿ بما كنتم تعلّمون الكتاب ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بالتشديد من التعليم أي يعلمون الناس والباقون بالتخفيف من علم ﴿ وبما كنتم تدرسون ﴾ أي تديمون على قراءة الكتاب وتحفظونه وجاز أن يكون معناه تدرسونه على الناس فيكون بمعنى تعلّمون من التعليم، قال في الصحاح : درس الدار معناه بقي أثرها ودرس الكتب والعلم أي تناول آخره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس قال الله تعالى :﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ وبما كنتم تدرسون يعني تديمون القراءة وتحفظون وقوله بما كنتم متعلق بقوله كونوا، وما مصدرية والمعنى كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين الكتاب ومعلميه الناس دائمين على قراءته وحفظه، فإن فائدة العلم العمل به وإصلاح نفسه وفائدة التعليم إصلاح غيره وذلك فرع إصلاح نفسه لئلا يخاطب بقوله تعالى :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ وقوله تعالى :﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾.
﴿ ولا يأمركم ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالرفع على الاستئناف يعني ولا يأمركم الله، وجاز أن يكون حالا من فاعل يقول يعني يأمركم بعبادة نفسه والحال أنه لا يأمركم بل ينهى من ﴿ أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ﴾ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لا يأمرك بالنصب عطفا على قوله ثم يقول ويكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ﴾ ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر أن يتخذ الملائكة والنبيين أربابا كما فعل قريش والصابئون حيث قالوا الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وجاز أن يكون لا غير زائدة والمعنى ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر بل ينهى باتخاذ أكفائه من الأنبياء والملائكة أربابا
﴿ أيأمركم ﴾ استفهام على التعجب والإنكار ﴿ بالكفر ﴾ يعني بعبادة غير الله تعالى ﴿ بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ بالله تعالى، إن كان الخطاب مع المسلمين المستأذنين السجود للنبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الحسن فلا غبار عليه، وكذا إن كان ردا لقول النصارى إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا لأنهم كانوا مسلمين في زمن عيسى عليه السلام، وأما على تقدير كونه خطابا لليهود والنصارى القائلين : أتريد يا محمد أن نعبدك ؟ فتأويله إن هذا الخطاب على سبيل الفرض والتقدير يعني على تقدير أن تسلموا وتنقادوا لأمر محمد صلى الله عليه وسلم أيأمركم حينئذ بالكفر بعد الإسلام.
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ﴾ أراد أن الله أخذ الميثاق من كل نبي أن يؤمن بمن بعده ويأمر أمته أن يتبعوه، وهذا معنى قول ابن عباس، وقال علي بن أبي طالب : لم يبعث الله نبيا آدم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ العهد على قومه لتؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه، وقيل : معناه أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ففي الكلام إما حذف مضاف تقديره أخذ الله ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل أهل الكتاب وإما سماهم نبيين تهكما لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، وإما إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل والمعنى إذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم ويؤيده قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب : والصحيح هو المعنى الأول المنطوق من القراءة المتواترة فأخذ الله الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ويأمر قومه أن يؤمنوا به، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويأمر قومه أن يؤمنوا به، ومن ثم قال عيسى ﴿ يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ والقراءة المتواترة لا ينافي قراءة ابن مسعود لأن العهد من المتبوع عهد من التابع ﴿ لما آتيتكم ﴾ قرأ حمزة بكسر اللام على أنها جارة وما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، أو موصولة يعني أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له، والباقون بفتح اللام توطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما حينئذ يحتمل أن يكون شرطية ولتؤمنّنّ به ساد مساد جواب القسم، وجزاء الشرط جميعا والمعنى أخذ الله الميثاق النبيين واستحلفهم لئن آتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به، ويحتمل أن يكون موصولة مبتدأ بمعنى الذي وخبره لتؤمنن به يعني للذي آتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به. قرأ نافع آتيتكم على التعظيم كما في قوله تعالى :﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ والآخرون بالإفراد ﴿ من كتاب وحكمة ﴾ أي سنة أوفقه في الدين ﴿ ثم جاءكم رسول مصدق لما ﴾ للكتاب الذي جاء ﴿ معكم ﴾ جملة ثم جاء عطف على الصلة والعائد فيه إلى الموصول مظهر وضع موضع المضمر وهو لما معكم تقديره مصدقا له، قيل المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لكونه مبعوثا إلى كافة الأنام وهو المستفاد من قول ابن عمر وما ذكر من قول علي، والصحيح عندي أن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص ولا شك أن الإيمان بجميع الأنبياء والقول :﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ واجب على جميع الأمم السابقة اللاحقة وقد قال الله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ وقول علي وابن عباس رضي الله عنهما بتخصيص ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لإلزام أهل الكتاب المعاندين فإن الكلام معهم إنما كان في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا غير، وليس المقصود من قولهما نفي الحكم عما عداه وجاز أن يكون تخصيص العهد لمحمد صلى الله عليه وسلم لإظهار فضله، وفي قوله تعالى مصدقا لما معكم إشارة إلى أن تكذيبه يستلزم تكذيب ما معكم ﴿ لتؤمنن به ﴾ أي بالرسول ﴿ ولتنصرنه ﴾ بأنفسكم أدركتموه أو بآمركم بالنصر لمن أدركه من أتباعكم إن لم تدركوه، قال البغوي : حين استخرج الله الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج أخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قال ﴾ استئناف بيان لأخذ الميثاق كأنه قيل كيف أخذ الله الميثاق، أو ناصب لإذ أي قال إذ أخذ الله الميثاق وعلى الأول ناصبه اذكر ﴿ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ﴾ أي عهدي استفهام تقرير ﴿ قالوا ﴾ أي الأنبياء أو هم والأمم جميعا يوم الميثاق ﴿ أقررنا قال ﴾ الله للرسل ﴿ فاشهدوا ﴾ على أنفسكم وعلى أتباعكم بالإقرار يوم القيامة ﴿ وأنا معكم من الشاهدين ﴾ عليكم وعليكم، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى لملائكته فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور.
﴿ فمن تولى ﴾ من اتباع الرسل ﴿ بعد ذلك ﴾ الإقرار، وهم اليهود والنصارى ﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ الخارجون من الإيمان إلى الكفر هذا صريح في أن الميثاق كان على النبيين والأمم أجمعين واكتفى بذكر المتبوعين عن الاتباع.
﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ معطوف على ﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ والهمزة توسطت للإنكار أو على محذوف تقديره أيفسقون فغير دين الله يبغون، أو تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وتقديم المفعول للتخصيص والإنكار للمخصص تقديره أتخصصون غير دين الله بالطلب وفيه إشارة إلى أن طلب دين الله لا يجامع طلب غير دينه. قرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة نظرا إلى قوله فأولئك هم الفاسقون، والجمهور بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله آتيتكم وقيل تقديره قال لهم أفغير دين الله تبغون، قال البغوي : ادعى كل من اليهود والنصارى أنه على دين إبراهيم واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله تعالى ﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ ﴿ وله ﴾ أي لله ﴿ أسلم ﴾ أي خضع وانقاد، والجملة حال من الله الواقع في حيز المفعول ﴿ من في السماوات ﴾ أي الملائكة ﴿ والأرض ﴾ أي الجن والإنس ﴿ طوعا ﴾ أي الطائعين باختيارهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين انقادوا باختيارهم فيما أمروا به من الأوامر التكليفية والأفعال الاختيارية، ورضوا بقضاء الله سبحانه وأحبوا ما أجرى عليهم محبوبهم من الأوامر التكوينية ﴿ وكرها ﴾ أي كارهين بالسيف أو معانية ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق الإشراف على الموت في الأوامر التكليفية أو مسخرين بلا اختيارهم في الأوامر التكوينية ﴿ وإليه يرجعون ﴾ قرأ حفص ويعقوب بالياء للغيبة على أن الضمير راجع إلى من والجمهور بالتاء للخطاب على نسق تبغون، وكذا قرأ أبو عمرو مع أنه قرأ يبغون بالغيبة على طريقة الالتفات أو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ آمنا ﴾ أمر رسوله أن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له، أو أمره أن يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالإيمان، وجاز أن يكون الخطاب لكل مخاطب منهم أمر كل واحد أن يخبر عن نفسه وإخوانه المؤمنين ﴿ بالله ﴾ وحده ﴿ وما أنزل علينا ﴾ يعني القرآن فإن كان الكلام إخبارا عن جميع المؤمنين فنزوله عليهم بتوسط تبليغه النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، أو يقال : المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم والنزول قد يعدى بإلى كما في سورة البقرة لأنه ينتهي إلى الرسل وقد يعدى بعلى لأنه من فوق ﴿ وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ يعني الأنبياء من أولاد يعقوب من الكتب والصحف ﴿ وما أوتي موسى وعيسى ﴾ خصهما بالذكر بعد دخولهما في الأسباط إما لمزيد فضلهما وإما لأن المنازعة كانت غالبا مع اليهود والنصارى فلدفع توهم مخالفة موسى وعيسى خصهما بالذكر، أو المراد بما أوتي الوحي الخفي وبما أنزل الوحي الجلي، أو المراد بما أوتي من المعجزات والفضائل ﴿ والنبيّون ﴾ كرر في البقرة ما أوتي ولم يكرر هاهنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لما آتيتكم ﴿ من ﴾ عند ﴿ ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ بالتصديق والتكذيب ﴿ ونحن له ﴾ أي لله ﴿ مسلمون ﴾ منقادون.
﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ﴾ غير التوحيد والانقياد لحكم الله، أو المراد غير دين محمد صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الأديان ﴿ دينا ﴾ تمييز وجاز أن يكون مفعولا ليبتغ وغير الإسلام حالا منه مقدما عليه لتنكيره ﴿ فلن يقبل منه ﴾ لأنه غير ما أمر الله به وارتضاه ﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ لأنه معرض عن الإسلام وطالب لغيره فهو فاقد للنيع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة، قال البغوي : نزلت هذه الآية وما بعدها في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
﴿ كيف يهدي الله ﴾ إلى الجنة والثواب استفهام للإنكار يعني لا يهدي الله واستبعاد لهم عن المدينة ﴿ قوما كفروا بعد إيمانهم ﴾ كما فعل هؤلاء الرجال الاثنا عشر ﴿ وشهدوا أن الرسول حق ﴾ عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل يعني بعد أن آمنوا أو شهدوا، ولك أن تجعل الفعل بمعنى المصدر كما في قوله تسمع بالمعيدي خير من أن تراه يعني بعد إيمانهم وشهادتهم وإن تقدر زمانا مضافا إلى الفعل يعني بعد إيمانهم وزمان شهدوا، وجاز أن يكون معطوفا على كفروا لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وجاز أن يكون الجملة حالا بإضمار قد، وفيه دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ﴿ وجاءهم البينات ﴾ أي الدلائل الواضحة كالقرآن وسائر المعجزات ﴿ والله لا يهدي ﴾ طريق الجنة ﴿ القوم الظالمين ﴾ أي الكافرين.
﴿ أولئك ﴾ مبتدأ ﴿ جزاؤهم ﴾ بدل اشتمال من المبتدأ أو مبتدأ ثان وما بعده خبره والمجموع خبر المبتدأ ﴿ أن عليهم لعنة الله ﴾ أي غضبه المستلزم لعبده من رحمته ﴿ والملائكة ﴾ أي الدعاء منهم بالبعد من الرحمة ﴿ والناس أجمعين ﴾ المراد به المؤمنون منهم أو المراد مؤمنهم وكافرهم أجمعين، فإن الكفار أيضا يلعنون منكري الحق وإن كانوا لا يعرفون الحق بعينه أو هم يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة، قال الله تعالى :﴿ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾.
﴿ خالدين فيها ﴾ أي في اللعنة أو في النار وإن لم يجر ذكرها لدلالة الكلام عليها حال من الضمير في عليهم ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾ أي يمهلون.
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك ﴾ الارتداد ﴿ وأصلحوا ﴾ عطف تفسيري على تابوا أي صاروا صالحين أي مسلمين أو أصلحوا إيمانهم وأنفسهم إذا أصلحوا ما أفسدوا في الأرض ﴿ فإن الله غفور ﴾ يقبل توبتهم ويغفر ما فرطوا في حقوق الله تعالى ﴿ رحيم ﴾ بهم يدخلهم الجنة، روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قوله أن أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي توبة ؟ فنزل قوله تعالى :﴿ كيف يهدي ﴾ إلى قوله ﴿ فإن الله غفور رحيم ٨٩ ﴾ فأرسل إليه قومه فأسلم. وأخرج ابن المنذر في مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا ﴾ إلى قوله ﴿ رحيم ﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث : إنك والله ما عملت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة، فرجع فأسلم فحسن إسلامه.
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا ﴾ قال قتادة والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ أي ذنوبا في حال كفرهم، وقال مجاهد : نزلت في الكفار أجمعين أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقهم ﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه، وقال الحسن : كلما نزلت آية كفروا به فازدادوا كفرا، وقال الكلبي : نزلت في أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث إلى الإسلام أقام بقيتهم على الكفر بمكة، وقال بعض الأفاضل : المراد بالذين كفروا ثم ازدادوا كفرا المنافقون فإن كفرهم زائد على كفر المجاهرين بالكفر لأنهم احتملوا مشقة إخفاء الكفر ومشقة الصلاة والصوم مع كمال كراهتهم وهذا نهاية محبة الكفر ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ إن كان المراد بالذين كفروا ما قال أصحاب الأقوال المتقدمة فمعناه لن تقبل توبتهم من الذنوب ما دموا على الكفر لكن توبتهم من الكفر مقبولة ما لم يغرغر، فإنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل من أصحاب الحارث بن سويد في الإسلام قبلت توبته وإن كان المراد به المنافقون على ما قال بعض الأفاضل فمعناه لن تقبل توبتهم باللسان مع إصرارهم على الكفر بالجنان ﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ عن سبيل الحق.
﴿ إن الذين كفروا ﴾ ولم يتوبوا من الكفر حتى ﴿ وماتوا وهم كفار فلن يقبل ﴾ يوم القيامة، أدخل الفاء في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذانا بكون الموت على الكفر سببا لعدم القبول ﴿ من أحدهم ملء الأرض ﴾ أي قدر ما يملؤها ﴿ ذهبا ﴾ منصوب على التمييز يعني لن يقبل منه ﴿ ملء الأرض ذهبا ﴾ فرضنا أنه تصدق به في الدنيا وعدم قبول ما دونها يعلم منه بالطريق الأولى، فإن الإيمان شرط لقبول الصدقات والعبادات بل العبادة لا تكون عبادة إلا بالنية المترتبة على الإيمان والإخلاص ﴿ ولو افتدى به ﴾ أي يملأ الأرض ذهبا في الآخرة فرضا لا يقبل منه أيضا، وجاز أن يكون معناه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يفتدي به من عذاب يوم القيامة ولو افتدى بمثله معه كقوله تعالى :﴿ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه ﴾ والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين في حكم شيء واحد، وقيل الواو في ﴿ ولو افتدى به ﴾ فائدة مقحمة، والمعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو افتدى به، وكون لو ها هنا للوصل لا يستقيم لأنه يقتضي كون نقيض الشرط أولى بالجزاء فيكون تقديره لن يقبل من أحدهم ملء الأرض لو لم يفتد به ولو افتدى به كما في قوله تعالى :﴿ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ﴾ يعني يضيء لو مسه النار ولو لم تمسسه وقد يوجه بأن المراد من قوله لا يقبل منه أحدهم ملء الأرض ذهبا لا يقبل من فدية أصلا، لأن غاية أن يفتدي ملء الأرض ذهبا وذلك لا يقبل منه فكيف ما هو أقل منه فالمعنى لا يقبل منه فدية أصلا لو لم يفتد بملأ الأرض بل بأقل منه ولو افتدى به ﴿ أولئك لهم عذاب أليم ﴾ مبالغة في التحذير وإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء قلّما يعفى تكرما ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ في دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق. عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة : لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم، فيقول : أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي } متفق عليه.
﴿ لن تنالوا البر ﴾ في القاموس البر : الصلة والجنة والخير والاتساع في الإحسان والصدق والطاعة، قلت : البر المضاف إلى العبد الطاعة والصدق والاتساع في الإحسان وضده الفجور والعقوق، والبر المضاف إلى الله الرضاء والرحمة والجنة وضده الغضب والعذاب. فقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد المراد هاهنا الجنة، وقال مقاتل بن حبان : التقوى وقيل : الطاعة، وقيل الخير، وقال الحسن : لو تكونوا أبرارا يعني كثير الخير والمتسع في الإحسان والطاعة، قال البيضاوي : لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضاء والجنة، فاللام على الأول للجنس وعلى الثاني للعهد، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " رواه مسلم وأحمد والترمذي، وعن أبي بكر الصديق مرفوعا " عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار " الحديث رواه أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب ﴿ حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ كلمة من للتبعيض والمراد بما تحبون أصناف في المال كلها فإن الناس يحبونها ويؤثرونها ويميل إليه القلوب، فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكاة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا، فبهذه الآية ثبت فرضية إنفاق البعض من كل صنف من المال وثبت أنه من كان عنده مال طيب ومال خبيث لا يجوز له الإنفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ والقدر القليل جدا لا يجزئ عن الواجب إجماعا ولأن عنوان الأحبية لا يقتضي ذلك، فالآية مجملة في مقدار الواجب من كل مال والتحق الأحاديث الواردة في مقادير الزكاة بيانا لها بقي الكلام في أن الآية تدل على وجوب الزكاة في كل مال ناميا كان أولا، بالغا قدر النصاب أولا، فاضلا عن الحاجة الأصلية أولا، حال عليه الحول أولا لكن ثبت بالآيات والأحاديث مثل قوله تعالى :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ وقوله عليه الصلاة السلام :" ليس في العوامل ولا الحوامل ولا العلوفة صدقة " وقوله عليه الصلاة والسلام : في جواب من قال : هل عليّ غيرها ؟ قال :" لا إلا أن تطوع " وقوله عليه الصلاة والسلام :" لا صدقة إلا عن ظهر غني " وغير ذلك أنه لا زكاة إلا في السوائم أو النقدين أو عروض التجارة إذا بلغت نصابا وحال عليه الحول، وإلا في الزرع والثمار وانعقد عليه الإجماع، فقلنا إن هذه الآية مخصوصة بالبعض، فالمراد بالآية الزكاة كذا روى الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد والكلبي : هذه الآية نسختها آية الزكاة وليس هذا القول بشيء لجواز حملها على الزكاة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ، ولو كان المراد هاهنا وجوب الإنفاق من أحب الأموال كما قيل، فذلك لا يقتضي عدم الوجوب في غير ذلك الأموال ولا على وجوب مقدار سوى الزكاة فكيف يتصور النسخ على أن هذه الآية مدنية وآيات الزكاة مكيات والله أعلم. وفي تعبير الأموال بما تحبون إشارة إلى أنّ كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه في سبيل أفضل، وبدلالة النص يثبت أن الواجب وإن كان إنفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب إليه من الأموال كان أبر الناس وأطوع والله أعلم، وقال الحسن : كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر، ومقتضى قول الحسن إن الإنفاق هاهنا يشتمل الإنفاق الواجب والمستحب غير أن نفي البر وإطلاق الفجور لا يجوز إلا عند فقد الإنفاق مطلقا حتى الزكاة المفروضة، وقال عطاء : لن تنالوا البر يعني شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء. عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس : فلما نزلت ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها إني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه " متفق عليه. وجاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال : هذا في سبيل الله فحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد قبله منك " أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا، وفيه أن الفرس يقال له سبيل، ورواه ابن جرير عن عمرو بن دينار مرسلا وعن أبي أيوب السجستاني معضلا. قال البغوي : روي عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولا يوم فتحت، فدعا بها فأعجبته فقال : إن الله عز وجل يقول ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ فأعتقها عمر. وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : خطرت على قلب عبد الله بن عمر : هذه الآية ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قال ابن عمر : فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما كان أعجب حينئذ شيء إليّ من فلانة هي حرة لوجه الله تعالى، وقال : لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها. هذه الأحاديث والآثار تدل على أن الإنفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الإعارة والإقراض والإعتاق ونحو ذلك مما يبتغى به وجه الله أيضا وعلى أن الأفضل الإنفاق على أقرب الأقارب ﴿ وما تنفقوا من شيء ﴾ محبوب أو غيره، ومن لبيان ما ﴿ فإن الله به عليم ﴾ يعني أن الله يجازيه على حسب العمل والنية ذكر السبب أعني العلم موضع المسبب أعني الجزاء والثواب للدلالة على أن علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء والثواب لا محالة، وفيه غاية المبالغة في علمه تعالى حيث لم يقل وما أنفقتم بصيغة الماضي وذكر صيغة المستقبل للدلالة على أنه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الإنفاق أو كبيرا، وفيه إشارة إلى أنه تعالى غني عن إبداء الإنفاق وتحريض على الإخفاء.
قال البغوي : قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كان ذلك حلالا لإبراهيم " فقالوا : كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، وكانوا ينكرون نسخ الأحكام فأنزل الله تعالى لتكذيبهم ﴿ كل الطعام ﴾ مصدر بمعنى المفعول معناه تناول الغداء والمراد هاهنا الغداء، واللام للعهد يعني كل مطعوم من الطيبات التي حرم في التوراة بظلم من الذين هادوا، فلا يشتمل ذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث كالسباع ونحوها ﴿ كان حلاّ ﴾ مصدر يقال حل الشيء حلا نعت به فيستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع والواحد قال الله تعالى :﴿ لا هن حل لهم ﴾ يعني كان ذلك المطعومات حلالا ﴿ لبني إسرائيل ﴾ أي لأولاد يعقوب كما كان حلالا على يعقوب وأبويه إبراهيم وإسحاق ﴿ إلا ما حرم إسرائيل ﴾ يعني يعقوب ﴿ على نفسه ﴾ وهي لحوم الإبل وألبانها وذلك " لأنه كان به عرق النسا فنذر إن شفي الله له لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه " أخرجه أحمد والحاكم وغيرها عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح، وكذا ذكر البغوي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل والكلبي، وذكر البغوي رواية جويبر عن ابن عباس : أنه لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقال البغوي : قال الحسن : حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدا لله عز وجل فسأل بعد أن يجيز ذلك له فحرمه الله على ولده، وقال عطية : إنما كان ذلك محرما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه كان قد قال إن عافاني الله لم يأكله ولد لي ولم يكن محرما عليهم من الله تعالى ﴿ من قبل أن تنزل التوراة ﴾ الظرف لا يجوز أن يتعلق بحرم إسرائيل كما هو الظاهر إذ لا فائدة حينئذ في التقييد فإن تجريم إسرائيل لا يتصور بعد نزول التوراة، ولو جعل متعلقا بكان حلا لزم قصر الصفة قبل تمامها فهو متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق وهو كأنه في جواب متى كان حلا، وتقديره كان حلا من قبل أن تنزل التوراة فلما نزل التوراة حرم عليهم الطيبات بظلمهم قال الله تعالى :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ وقال :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم ﴾ وقال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا أوصب عليهم رجزا وهو الموت، وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله في التوراة وإنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عز وجل فكذبهم الله، وهذا ليس بشيء حيث قال الله تعالى :﴿ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ وقال :﴿ حرمنا عليهم شحومهما ﴾ لما في الصحيحين أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها " ﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ ﴾ أمر الله سبحانه رسوله بمحاجتهم بكتابه وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بظلمهم ما لم يكن محرما قبل ذلك، فبهتوا ولم يأتوا بالتوراة، وفيه دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم وكونه على ملة إبراهيم عليه السلام ورد على اليهود في منع النسخ.
﴿ فمن افترى على الله الكذب ﴾ وقال أن الله حرم ذلك على نوح وإبراهيم ﴿ من بعد ذلك ﴾ أي من بعد لزوم الحجة عليهم بالتوراة ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ الذين يكابرون الحق بعد الوضوح.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ صدق الله ﴾ في قوله ﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾ وكذب اليهود والنصارى في ادعائهم أنهم على دين إبراهيم وأنه كان هودا أو نصارى ﴿ فاتبعوا ﴾ يا هؤلاء الذين يبتغون دين إبراهيم ﴿ ملة إبراهيم ﴾ يعني الإسلام دين محمد وأمته فإن هو ملة إبراهيم إما بناء لكمال مشابهته به أو لأنه هو ملته في زمنه، ولم يقل فاتبعوا إبراهيم لأن الواجب اتباع هذا الدين من حيث أنه يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم لا من حيث أنه يتبع إبراهيم إذ لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم مثل أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا لتبليغ شريعة موسى عليه السلام، والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا بها إلى مدراج القرب وصلاح الدارين والفرق بينه وبين الدين أن الملة لا يضاف إلا إلى النبي الذي يسند إليه ولا يضاف إلى الله ولا إلى آحاد الأمة ولا يستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحاده، فلا يقال ملة الله ولا ملتي ولاملة زيد ولا يقال للصلاة ملة الله كما يقال دين الله، وأصل الملة من أمللت الكتاب كذا في الصحاح ﴿ حنيفا ﴾ حال من إبراهيم أي مائلا من الأديان الباطلة إلى الدين الحق. والأولى أن يقال مائلا من الإفراط والتفريط إلى الاعتدال فإنه كان في دين اليهود الإفراط والشدة وفي دين النصارى التفريط ﴿ وما كان ﴾ إبراهيم ﴿ من المشركين ﴾ تعريض على اليهود والنصارى فإنهم كانوا يشركون ومع ذلك كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم.
قال البغوي : قالت اليهود للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله تعالى ﴿ إن أ ول بيت وضع للناس ﴾ أي وضعه الله تعالى لهم قبلة، وقيل : وضع للناس يحج إليه، وقال الحسن والكلبي : معناه أن أول مسجد ومعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ﴾ يعني المساجد ﴿ للذي ﴾ أي للبيت الذي ﴿ ببكّة ﴾ قيل هي مكة نفسها والعرب يعاقب بين الباء والميم يقال نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم، وقيل : بكة بالباء موضع البيت أو هو مع المطاف، ومكة بالميم اسم البلد سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، وقال عبد الله بن الزبير : لأنها تبك أعناق الجبابرة أي يدقها فلم يقصده جبار بسوء إلا قصمه الله كأصحاب الفيل، وأما مكة سميت بها لقلة الماء. واختلف العلماء في معنى أوليته ؟ فقال ابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته، وقيل : هو أول بيت بني في الأرض. روي عن علي بن الحسين عليه وعلى آبائه السلام :" إن الله وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور فأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقد ره فبنوه وسموه الصراح وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور " وروي " أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة : برّ حجك حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام "، ويروي عن ابن عباس قال : أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض أخرجه الأرزقي في تاريخ مكة. وفي الصحيحين عن أبي ذر قلت : يا رسول الله " أي مسجد وضع في الأرض أولا ؟ قال :" المسجد الحرام "، قلت : ثم أيّ ؟ قال :" المسجد الأقصى " قلت : كم كان بينهما ؟ قال :" أربعون سنة "، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلها فإن الفضل فيه " وقيل : هو أول بيت بناه آدم فرفع زمن الطوفان، وقيل : انطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم، قيل : ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي أنه لما بنى إبراهيم البيت بعد ما رفع زمن الطوفان بوّأه الله مكان البيت فبعث ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول فبناه على الأساس القديم، وقيل : المراد أنه أول بالشرف دون الزمان يروى ذلك عن علي عليه السلام، قال الضحاك : أول بيت وضعت في البركة حيث قال الله تعالى ﴿ مباركا ﴾ منصوب على الحال أي ذا بركة وكثرة في الأجر والثواب فإن بعض العبادات يختص به كالحج والهدايا والعمرة وما عداها من الصلاة والصوم والاعتكاف يكثر أجرها فيه من سائر الأمكنة، ومن ثم قال أبو يوسف رحمة الله : من نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا يجزئ عنه أن يصلي في غيره لحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة " رواه ابن ماجه، وروى الطحاوي عن عطاء بن الزبير قال :" صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا " وروي عن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثله ولم يرفعه، وروى نحوه عن جابر بن عبد الله مرفوعا، وروى ابن الجوزي عن جابر مرفوعا بلفظ " وصلاة في المسجد الحرام أ فضل من مائة ألف صلاة " لكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان : هذا الفضل محمول على الصلوات المكتوبات خاصة دون النوافل لحديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " متفق عليه. قلت : والاعتكاف في حكم الصلوات المكتوبات لأنه تربص في المسجد لانتظار الصلوات المكتوبات فكأنه فيها، وروى ابن الجوزي في فضائل مكة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحرورة في سوق مكة :" والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى عز وجل ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " وكذا روى ابن الجوزي من حديث أبي هريرة مرفوعا ﴿ وهدى للعالمين ﴾ لأنه قبلتهم وفيه آيات عجيبة تهدي إلى الإيمان بالله ورسوله عطف على مباركا.
﴿ فيه آيات بينات ﴾ منها أن الطير تطير فلا تعلو فوقه، ومنها أن الجارحة تقصد صيد أخارج الحرام فإذا دخلت الصيد في الحرم كفت عنه ومنها ﴿ مقام إبراهيم ﴾ مبتدأ محذوف خبره أو بدل من آيات بدل البعض من الكل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء البيت حين ارتفع البناء وكان فيه أثر قدميه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، فأثر الصخرة الصماء، وغوصهما فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الآية من بين الصخار وبقاؤه دون آثار سائر الأنبياء، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة كل ذلك آية، ومن ثم قيل : إن مقام إبراهيم عطف بيان الآيات وقيل أراد بمقام إبراهيم جميع الحرم ﴿ ومن دخله ﴾ أي الحرم ﴿ كان آمنا ﴾ من القتل والنهب، جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام إبراهيم يعني آيات بينات زمنها مقام إبراهيم، ومنها الأمن لمن دخل الحرم فإن العرب في الجاهلية كانت تقتل بعضهم بعضا وتغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم لا يتعرضونه كذا قال الحسن وقتادة وأكثر المفسرين نظيرة قوله تعالى :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾ وقال أبو حنيفة رحمه الله : معناه من دخله كان آمنا لا يجوز قتله، فمن وجب عليه القتل قصاصا أو حدا خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم لا يستوفى منه لكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشاري حتى يخرج فيقتل كذا قال ابن عباس، وقال الشافعي وغيره : يستوفى منه القصاص وإن دخل فيه وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفى منه عقوبته اتفاقا ومر في تفسير قوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه ﴾ أنه لا يجوز في الحرم البداية في القتال مع الكفار أيضا، فلو غلب الكافرون ودخلوا الحرم والعياذ بالله أخرجهم بالأيدي أو ضربهم بالسياط ونحوها أو حاصرهم وحبس عنهم الطعام والشراب حتى يخرجوا عن الحرم فيقاتلهم أو يبتدئون بالقتال فيقاتلهم ثمة، فهذه الآية خبر بمعنى الأمر يعني من دخله فأمّنوه كقوله تعالى :﴿ فلا رفث ولا فسوق ﴾ يعني لا ترفثوا ولا تفسقوا، وقيل معناه من دخله معظما له متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة من العذاب، أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من حديث سلمان والطبراني في الأوسط من حديث جابر والدارقطني في سننه من حديث حاطب أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار " وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، ثم أذهب إلى أهل بقيع الغرقد فيبعثون معي، ثم أنظر إلى أهل مكة حتى يأتوني فأبعث بين أهل الحرمين " وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن سالم عن أبيه موصولا، وأخرج الخطيب عن نافع عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحشر يوم القيامة بين أبي بكر وعمر حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل المدينة وأهل مكة " ﴿ ولله ﴾ أي استقر له وافترض ﴿ على الناس ﴾ المراد بالناس الأحرار العقلاء البالغون فلا يجب الحج على المجانين والصبيان لعدم أهليتهم للخطاب ولا على العبيد بالإجماع، فلو حج الكافر أو الصبي العاقل أو العبد ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، وأعتق العبد يجب عليه حجة الإسلام ثانيا بالإجماع، وسند الإجماع حديث ابن عباس :" أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابّي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى " رواه الحاكم، والمراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فإن مشركي العرب كانوا يحجون، قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ورواه ابن أبي شيبة فذكر نحوه وروي أبو داود مرسلا عن محمد بن كعب القرظي، وفي الباب عن جابر وسنده ضعيف، وهذه الأحاديث تلقته الأمة بالقبول وانعقد على مقتضاه الإجماع فجاز به تخصيص الكتاب ﴿ حج البيت ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص بكسر حاء حج البيت في هذا الحرف خاصة والباقون بالفتح والكسر لغة نجد والفتح لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد، وفي المدارك أن بالكسر اسم وبالفتح مصدر. والحج في اللغة : القصد، والمراد هاهنا عبادة مخصوصة فيها إجمال التحق بيانه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآيات مثل قوله تعالى :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ وقوله تعالى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ﴾ ونحو ذلك. ( مسألة ) : أجمع الأمة على أن الحج أحد أركان الإسلام فرض على الأعيان. عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " متفق عليه، وفي الباب أحاديث كثيرة ﴿ من استطاع إليه ﴾ أي إلى البيت﴿ سبيلا ﴾ الموصول بدل من الناس بدل البعض خصص له فلا يجب الحج على غير المستطيع، والسبيل الطريق منصوب على المفعولية، وإليه حال منه مقدم عليه والمراد به الذهاب على طريقة جري النهر يعني من استطاع ذهابا إلى البيت. ولأجل قصر الحكم على المستطيع أجمع العلماء على أنه يشترط لوجوب الحج أن يكون الطريق آمنا والمنازل المأهولة معمورة يوجد فيه الزاد والماء وعند فوات الأمن لا يجب الحج، وكونه البحر بينه وبين مكة إذا كانت السلامة غالبا لا يمنع فوات وجوب الحج عندهم خلافا لأحد قولي الشافعي، وكذلك يشترط عند أبي حنيفة ومالك الصحة فلا يجب عندهما على الضعيف والزمن وإن كان له مال يمكن أن يستنيب من يحج عنه لأنه غير مستطيع بنفسه، والحج عبادة بدنية والمقصود من العبادات البدنية إتعاب النفس فلا يحصل مقصودة بلا ستنابة، وقال الشافعي وأحمد : هو مستطيع بماله، قال البغوي : يقال في العرف فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه وإنما يفعله بماله وبأعوانه، قلنا : هو غير مستطيع على الحج الذي هو عبارة عن أركان مخصوصة وإنما هو مستطيع على الإنفاق والمقصود في البناء ليس إتيانه بنفسه بخلاف العبادات البدنية فلا يجري فيه ذلك العرف. واحتج الشافعي وأحمد بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الفضل دون النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يمسك على الرحل أفأحج عنه ؟ قال : نعم " وفي رواية " لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل تقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : نعم، وذلك في حجة الوداع " متفق عليه. والجواب : أنه حديث آحاد لا يجوز به نسخ الكتاب المقتضى لاشتراط الاستطاعة، قد قيل في الجواب : أن معناه فريضة الله على عباده في الحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة عدم الاستطاعة أفأحج عنه أي هل يجوز لي ذلك، أو هل فيه أجر ومنفعة له ؟ فقال : نعم. وتعقب بأن في بعض ألفاظه والحج مكتوب عليه ونحوه، وأجيب بأنه لو صح تلك الألفاظ فهو ظن من امرأة ظنت ظنا، وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجابها عن سؤالها ولو كان ظنها غلطا لبينّه لها، وأجيب بأنه إنما أجابها عن سؤالها أفأحج عنه فقال حجي عنه لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، ويؤيده ما رواه عبد الرازق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث " حجي عن أبيك فإن لم تزده خيرا لم تزده شرا " لكن جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة، والأولى أن يحمل الحديث على من استقر في ذمته صحيحا ثم طرأ عليه ضعف وزمانة فإنه لا يسقط عنه الحج بل يجب عليه أن يحج عنه غيره من ماله ما دام حيا أو يوصي به عند موته، وإذا مات ولم يحج يحج عنه وارثه أو يحج عنه أجنبيا من ماله إن شاء فالحج عن الغير قضاء بمثل غير معقول ثبت بهذا الحديث كما ثبت الفدية عن الصوم في حق الشيخ الفاني بنص الكتاب، وافتراض الحج كان علم الحديبية سنة بقوله تعالى :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ وهذه قصة حجة الوداع فلعل أباه ضعف في تلك السنين بعد الوجوب والله أعلم. وكذا يشترط البصارة عند أبي حنيفة فلا يجب الحج على الأعمى وإن وجد قائدا لأنه غير مستطيع بنفسه والاستطاعة بالغير غير معتبر عنده، وقال أبو يوسف ومحمد والجمهور : الأعمى إذا وجد قائدا يجب عليه الحج وكذا الخلاف في وجوب الجمعة على الأعمى ولأجل اشتراط الاستطاعة يشرط عند أبي حنيفة في حق المرأة أن يكون معها زوجها أو ذو محرم منها إذ كان بينها وبلين مكة ثلاثة مراحل، وقال أحمد : يشترط ذلك مطلقا طالت المسافة أو قصرت فإن لم يكن لها رجل كذلك، أو كان ولا يخرج معها أو كان لا يخرج معها إلا بأجرة وهي لا تقدر على الأجرة لا يجب عليها الحج وذلك أنها ممنوعة عن السفر إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها، والمهجور شرعا كالمهجور عادة فصارت غير مستطيعة. وجه قول أبي حنيفة في اشتراط مسافة ثلاثة أيام : حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تسافر المرأة ثلاثا إلا معها ذو محرم " متفق عليه، وفي رواية لمسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم " وفي رواية " فوق ثلاث " وفي الباب مقيدا بثلاثة أيام حديث أبي هريرة رواه مسلم والطحاوي، وفي رواية للطحاوي " فوق ثلاث ليال " وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده يلفظ " ثلاثة أيام " رواه الطحاوي، وحديث أبي سعيد الخدري رواه مسلم والطحاوي بلفظ " ثلاث أيام فصاعدا " وفي رواية لمسلم بلفظ فوق ثلاث وبلفظ أكثر من ثلاث. وقال أحمد : التقييد بالثلاث أو أكثر من الثلاث اتفاقي مع أن المفهوم غير معتبر عند أبي حنيفة فكيف يستدل به على إباحة السفر فيما دون ذلك ولو كان احترازيا لتعارض رواية ثلاث برواية فوق ثلاث، ووجه قول أحمد في المنع في دون الثلاث أنه وقع ففي الصحيحين حديث أبي هريرة بلفظ مسيرة يوم وليلة، وفي رواية لمسلم مسيرة يوم، وفي لفظ له مسيرة ليلة وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه مسلم وغيره مسيرة يومين وعند الطحاوي مسيرة ليلتين، وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والطحاوي " لا تسافر المرأة بريدا إلا مع زوج أو ذي رحم محرم " رواه ابن حبان في صحيحة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وللطبراني في معجمه ثلاثة أميال فظهر أن التقييد بيوم أو يومين أو ثلاثة أيام ليس إلا تمثيلا لأقل الأعداد واليوم الواحد أول العدد وأقله. والبريد مرحلة واحدة غالبا، والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع وأقله وقد ورد من الأحاديث بلا تقييد منها حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم " فقال رجل : يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج ؟ قال :" اخرج معها " متفق عليه، وفي الباب حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وقال الشافعي : جاز للمرأة أن تخرج للحج مع نساء ثقات وفي رواية مع امرأة واحدة ثقة، وإذا خرجت مع نساء ثقات يشترط أن يكون مع إحداهن ذو محرمها، وفي المنهاج أنه لا يشترط ذلك وفي رواية عن الشافعي جاز لها الخروج
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وتخصيصهم بالخطاب لأن كفرهم مع علمهم بالكتاب أقبح ﴿ والله شهيد ﴾ والحال أنه مطلع ﴿ على ما تعملون ﴾ من الكفر والتحريف فيجازيكم عليها ولا ينفعكم استسرار الحق.
﴿ قل يا أهل الكتاب لم تصدّون ﴾ تمنعون ﴿ عن سبيل الله ﴾ يعني عن الإسلام الذي هو الموصل إ ليه تعالى شأنه ﴿ من آمن ﴾ يعني أراد الإيمان منصوب على المفعولية من تصدون، يعني تصدون عن الإيمان من أراد أن يؤمن، كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب ﴿ تبغونها ﴾ أي السبل ﴿ عوجا ﴾ أي معوجة مصدر بمعنى المفعول، أو المعنى تبغون لها عوجا أي اعوجاجا، وجملة تبغون حال من فاعل تصدون، وكانت اليهود يلبسون على الناس الحق بتحريف صفة النبي صلى الله عليه وسلم والقول بأن دين موسى مؤبد وبما يحرشون بين المؤمنين ليختلف كلمتهم ويأتون الأوس والخزرج ويذكّرونهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ﴿ وأنتم شهداء ﴾ على ما تعملون أو على ما في التوراة مكتوبا عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم إن دين الله هو الإسلام ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ وتختانون في صد المؤمنين عن الإيمان، أخرج ابن إسحاق وأبو الشيخ وابن جرير عن زيد مرسلا وذكره البغوي أنه مر شماس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد أن كان بينهم في الجاهلية من العداوة، وقال ما اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال : أعمد إليهم وأجلس معهم ثم ذكّرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحييين على الركب أوس بن قطبي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهم لصاحبه إن شئتم والله رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة، فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها في بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين فقال :" يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ بعد إذ كرّمكم الله في الإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله " فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدا من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانقوا بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله تعالى في أوس وجبار ومن كان معهما ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ يعني الأنصار ﴿ إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ يعني شماسا وأصحابه ﴿ يردوكم بعد إيمانكم ﴾ بالله ونبيه والقرآن ﴿ كافرين ﴾ يعني على أعمال الكفر، قال زيد فقال جابر فما رأيت قى يوما أقبح أولا وأحسن آخر من ذلك اليوم، ونزل في شماس بن قيس ﴿ يا أهل الكتاب لم تصدون ﴾ الآية حاطب الله المؤمنين بنفسه وأمر رسوله بخطاب أهل الكتاب إجلالا للمؤمنين وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يكلمهم الله، وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر فبينما هم جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت﴿ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله ﴾.
﴿ وكيف تكفرون ﴾ عطف على يردوكم والاستفهام للتعجب والإنكار ﴿ وأنتم تتلى عليكم آيات الله ﴾ على لسان الرسول غضة طرية يعني القرآن ﴿ وفيكم رسوله ﴾ ينهاكم ويعضكم ويزيح شبهكم، يعني والحال أن الأسباب الداعية إلى الإيمان المانعة من الكفر مجتمعة لكم، قال قتادة في هذه الآية : علمان بينان كتاب الله ونبي الله، أما نبي الله فقد قضى وأما كتاب الله فأبقاه الله رحمة منه ونعمة، قلت : ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى من ينوبه بعده من خلفائه إلى يوم القيامة. عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا فمحمد الله وأنثى عليه ثم قال :" أما بعد أيها الناس : إنما بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله في الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " وفي رواية " كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة " رواه مسلم ورواه الترمذي بلفظ :" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعثرتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما " وروى الترمذي عن جابر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فيقول :" يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي " قلت : أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل البيت لأنهم أقطاب الإرشاد في الولايات، أولهم علي عليه السلام ثم أبناؤه إلى الحسن العسكري وآخرهم غوث الثقلين محي الدين عبد القادر الجيلي رضي الله عنهم أجمعين، لا يصل أحد من الأولين والآخرين إلى درجة الولاية إلا بتوسطهم كذا قال المجدد رضي الله عنه، ثم أولياء أمة النبي صلى الله عليه وسلم وعلماؤها كلهم أتباع لأهل البيت داخلون فيهم بحكم الوراثة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العلماء ورثة الأنبياء " ﴿ ومن يعتصم ﴾ أصل العصمة المنع فكل مانع شيئا فهو عاصم، والاعتصام أن يتمسك بشيء حتى يمتنع عن الهلاك ﴿ بالله ﴾ أي بدينه وبدوام التوجه إليه ﴿ فقد هدى إلى صراط مستقيم ﴾ طريق واضح لا يضل سالكه أبدا.
قال البغوي : قال مقاتل بن حبان : كانت بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية، وقتال حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوس منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، وعاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر، ومنا سعد بن معاذ اهتز عرش الرحمن له ورضي الله بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي : منا أربعة أحكموا القرآن أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم وجرى الحديث بينهما، فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ أصل تقاه وقية قلبت واوها المضمونة تاء كما في تودة وتخمة والياء ألفا لانفتاحهما بعد حرف صحيح ساكن وموافقة الفعل. أخرج عبد الرزاق الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم والطبراني في المعجم والحاكم في المستدرك وصححه وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود موقوفا، وقال أبو نعيم : روي عنه مرفوعا أيضا " هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى " وقال البغوي : قال ابن مسعود وابن عباس : هو أن يطاع فلا يعصى وهذا إجمال ما ذكر. قلت : أما قوله يذكر فلا ينسى فمناطه فناء القلب وأما قوله يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر فمناطه فناء النفس واطمئنانه والإيمان الحقيقي، فمقتضى هذه الآية وجوب اكتساب كمالات الولاية وكذا يقتضيه سبب نزوله فإن تفاخر الأوس والخزرج إنما كان من بقايا رذائل النفس فأمروا بتهذيبها وتطهيرها عن الرذائل وتحلية القلب بمكارم الأخلاق وخشية الله ودوام الذكر، وقال مجاهد أن تجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا يأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا الله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم، وعن أنس قال : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه، قلت : وقول مجاهد وأنس بيان للطريق الموصل إلى كمالات الولاية فإن الرياضيات والمجاهدات بقلة الطعام والمنام مع الذكر على الدوام وحفظ اللسان عن فضول الكلام المستلزم للعزلة وقلة المخالطة مع العوام وترك مبالاة الناس في رعاية حقوق الملك العلام هي الطريقة الموصلة إلى تلك الكمالات، قال البغوي : قال أهل التفسير : فلما نزلت هذه الآية شق ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله ومن يقوى على هذا فأنزل الله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ فنسخت هذه الآية، قال مقاتل : ليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذه الآية : قلت : ليس المراد منه أن حق التقوى صار منسوخا وجوبه، كيف ورذائل النفس من الكبر والغضب في غير محله والحسد والحقد والنفاق وسوء الأخلاق وجب الدنيا وقلة الالتفات إلى الله واشتغال القلب بغيره ما زال حراما ولا يتصور نسخ حرمتها حتى تصير مباحة، بل المراد منه أن إزالة رذائل النفس دفعة ليست في مقدور البشر، بل يتوقف ذلك جريا على عادة الله تعالى على مصاحبة أرباب القلوب والنفوس الزاكية والمجاهدات المذكورة، فالله سبحانه رخص لعباده في ذلك وأوجب عليهم بذل الجهد في تزكية النفس وتصفية القلب ما ستطاع، فمن أعرض عن ذلك بالكلية والتفت إلى الشهوات فعليه إثم الرذائل كلها :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ﴾ ومن اشتغل في طلب الطريقة وبذل جهده في دفع الرذائل ومات قبل تحصيل الكمالات فقد أتى بما وجب عليه وأرجو أن يغفر له ما ليس في وسعه والله أعلم ﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ بالإسلام الحقيقي المنقادون لله تعالى في أوامره ونواهيه مخلصون له مفوضون أموركم إليه راضون بقضائه يعني لا تكونن على حال سوى حال الإسلام حتى يدرككم الموت، فالنهي عن الفعل المقيد بحال أو وصف أو غيرهما قد يتوجه بالذات إلى الفعل نحو لا تزن في أرض الله وقد يتوجه إلى القيد كما في هذه الآية، وقد يتوجه إلى المجموع دون كل واحد منهما نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وقد يتوجه إلى كل واحد منهما نحو لا تزن حليلة جارك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته الآية فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره " رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح.
﴿ واعتصموا بحبل الله ﴾ يعني بدين الإسلام قال الله تعالى :﴿ ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ﴾ وبكتابه لقوله صلى الله عليه وسلم " كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض " وقد مر، استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب للنجاة عن التردي في النار كما أن التمسك بالحبل سبب للنجاة عن التردي من فوق وللوثوق به والاعتماد عليه بالاعتصام ترشيحا للمجاز﴿ جميعا ﴾ حال من فاعل اعتصموا أو من مفعوله أعني بحبل الله أو منهما جميعا فعلى تقدير كونه حالا من الفاعل معناه حال كونكم مجتمعين في الاعتصام، يعني خذوا في تفسير كتاب الله وتأويله ما اجتمع عليه الأمة، ولا تذهبوا إلى خبط آرائكم على خلاف الإجماع. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولي الله أمركم، ويسخط لكم قيلا وقالا وإضاعة المال وكثرة السؤال " رواه مسلم وأحمد، وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار " رواه الترمذي، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار " رواه ابن ماجه، وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة " رواه أحمد، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " رواه أحمد وأبوا داود، وعلى تقدير أن يكون حالا من المفعول فالمعنى اعتصموا بجميع كتاب الله ولا تقولوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض فإن بعض طاقات الحبل لا يقوي على الحفظ ﴿ ولا تفرقوا ﴾ عطف على ما سبق وهذه الجملة تأكيد على أحد التأويلين وتأسيس على الآخة يعني لا تفرقوا عن الحق باختلاف كأهل الكتاب، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليأتيّن على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذروا النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي " رواه الترمذي، وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية " اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " قلت : فلم يتفرق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وأول بغي كان على الإمام الحق خروج أهل المصر على عثمان رضي الله عنه، وأول اختلاف وقع في أمر الخلافة كان من معاوية غفره الله تعالى وقال :﴿ و كلا وعد الله الحسنى ﴾ وأول اختلاف وقع في الدين اختلاف الحرورية الذين خرجوا على علي عليه السلام، ثم أوقع الخلاف ورفض الحق عبد الله بن سبأ منشأ الروافض، ثم ظهر مذهب الاعتزال في زمن التابعين فتشبثوا بأذيال الفلاسفة واشتغلوا بقيل وقال وأحبوا كثرة الجدال وتزكوا ظواهر كتاب الله المتعال وسنة نبيه ومذهب السلف أهل الكمال بتقليد آرائهم الكاسدة المنشآت الضلال.
﴿ واذكروا ﴾ يا معشر الأنصار ﴿ نعمة الله عليكم ﴾ التي من جملتها الهداية للإسلام المودي إلى التالف ﴿ إذ كنتم أعداء ﴾ قبل الإسلام ﴿ فألف بين قلوبكم ﴾ بالإسلام ﴿ فأصبحتم ﴾ أي صرتم ﴿ بنعمته ﴾ برحمته وهدايته ﴿ إخوانا ﴾ في الدين والولاية والمحبة، قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل فتطاولت العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بدء إسلامهم وألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه قدم مكة حاجا أو معتمرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى ربه عز وجل وإلى الإسلام، فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان يعني حكمته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرضها علي فعرضها، فقال : إن هذا حسن ومعي أفضل من هذا قرآن أنزل الله عز وجل نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه وقال : إن هذا القول حسن، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وإن قومه ليقولون قد قتل وهو مسلم. ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم، فقال هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم أن لا تشركوا بالله شيئا. وأنزل علي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا : أي قوم هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة. وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفرا أسعد بن زرادة، زعوف بن الحارث وهو ابن عفراء، ونافع بن مالك العجلاني، وعطية بن عامر، وعقبة بن عامر، ة وجابر بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم، قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم، قالوا : بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن اليهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وهم كانوا أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد آدم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا تسبقنك إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا إنا قد تركنا قوما ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا : أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وعطية بن عامر فهؤلاء خزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويمر بن الساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا إلى آخره فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم بشيء من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم – قال : وذلك قبل أن يعرض عليهم الحرب – فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئي، وكان منزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ أسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد ابن خالي ولولا ذلك لكفيتك وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط، فلما رآه أسعد بن زرادة قال لمصعب هذا أسيد قومه قد جاءك فاصدق الله تعالى فيه، قال مصعب : إن يجلس أكلّمه، قال فوقف عليهما متشمتا فقال لما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إن كان لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال : أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقال : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن وهو سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فلما وقف على النادي، قال له سعد : ما خلفت ؟ قال : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالك ليخفروك فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره من بني حارثة فأخذ الحربة وقال : والله ما أراك أغنيت، شيئا، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلناك ما تكره ؟ قال سعد : أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام وقرآ عليه القرآن، فقالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قال : تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا وأ
﴿ ولتكن منكم ﴾ من للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له كل أحد حيث يشترط له شروط من العلم والتمكن على الاحتساب وطلب من الجميع، خاطب الجميع وطلب فعل البعض ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو ترك الكل أئموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم وهذا شأن فروض الكفاية، وجاز أن يكون من للتبيين ويكون النهي عن المنكر واجبا على كل أحد وأقله أن ينكر بقلبه يعني كونوا﴿ أمة يدعون ﴾ الناس ﴿ إلى الخير ﴾ يعني خير العقائد والأخلاق والأعمال التي فيها صلاح الدين والدنيا. أخرج ابن مردوديه عن أبي جعفر محمد الباقر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخير اتباع القرآن وسنتي " قال السيوطي : معضل عن عثمان أنه قرأ " ولتكن منكم أمة يدعون الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستغيثون على ما أصابهم وأولئك هم المفلحون " قلت : يعني يدعون لدفع البلاء عن الناس ﴿ ويأمرون بالمعروف ﴾ أي ما عرف من الشرع حسنه واجبا كان أو مندوبا ﴿ وينهون عن المنكر ﴾ يعني ما أنكره الشرع من المحرمات والمكروهات، عطف الخاص على العام إيذانا بفضله ﴿ وأولئك ﴾ يعني الداعون إلى الخير والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ﴿ هم المفلحون ﴾ خاب وخسر من لم يفعل ذلك. عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم، وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا مالك ؟ قال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوّا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم " رواه البخاري، وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم ليدعوا به فلا يستجاب لكم " رواه الترمذي، وعن أبي بكر الصديق قال :" يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه " رواه ابن ماجه والترمذي وصححه وروى أبو داود نحوه، وعن جرير بن عبد الله نحوه رواه أبو داود وابن ماجه، وعن عدي بن عدي الكحدي قال : حدثنا مولى لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرون فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة " رواه البغوي في شرح السنة، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا قال :" لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا " رواه الترمذي وأبو داود. فإن قيل هل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الآية على من لا يأتي بالمعروف ويرتكب المنكر ؟ قلنا : نعم يجب عليه الأمر بالمعروف عبارة وإتيانه اقتضاء والنهي عن المنكر عبارة والانتهاء عنه اقتضاء كيلا يلزمه قوله تعالى :﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ٢ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه ويقولون : أي فلان. ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولم آته وأنهاكم عن المنكر وآتيه " متفق عليه، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رأيت ليلة أسرى بي رجالا يقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم " رواه البغوي في شرح السنة، والبيهقي في شعب الإيمان نحوه.
﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا ﴾ يعني اليهود تفرقوا على اثنتين وسبعين فوقة ﴿ واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ﴾ الدلائل الواضحة القاطعة من الآيات المحكمة والأخبار المتواترة المحكمة من الأنبياء ونحو ذلك كإجماع هذه الأمة سواء كان ذلك الاختلاف في أصول الدين كاختلاف أهل الأهواء مع أهل السنة، أو في الفروع المجمع عليها كمسألة غسل الرجلين ومسح الخفين في الوضوء وخلافة الخلفاء الأربعة، واحترز بهذا القيد عن اختلاف بالاجتهاد في ما ثبت بالأدلة الظنية فإن الاختلاف فيها ضروري ضرورة خطأ بعض المجتهدين في الاجتهاد، فذلك الاختلاف بعد بذل الجهد بلا مكابرة وتعصب معفو بل هو رحمة وسعة للناس. روى عبد بن حميد في مسنده والدرامي وابن ماجه والعبدري في الجمع بين الصحيحين وابن عساكر والحاكم عن عمرو بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي فأوحى الله يا محمد إن أصحابك عندي كالنجوم بعضها أقوى من بعض " وفي رواية بعضها أضوأ من بعض ولكل نور فمن أخذ بشيء عما هم عليه اختلافهم فهي عندي على هدى " رواه الدارقطني في فضائل الصحابة وابن عبد البر عن جابر والبيهقي في المدخل عن ابن عباس، وروى البيهقي أيضا في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به ولا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة نبي ماضية، فإن لم يكن سنة نبي فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة " وأخرج البيهقي في المدخل وابن سعد في الطبقات عن القاسم بن محمد قال : اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله، والبيهقي عن عمر بن عبد العزيز نحوه ﴿ وأولئك ﴾ الذين تفرقوا بعد القواطع ﴿ لهم عذاب عظيم ﴾.
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ التنوين عوض عن المضاف إليه يعني تبيض وجوه المؤمنين ﴿ وتسود وجوه ﴾ أي وجوه الكافرين أو التنوين التكثير أي وجوه كثيرة ويوم منصوب على الظرفية من الظرف المستقر أي لهم أو بعظيم أو باذكر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية قال : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وأخرج الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدع " ﴿ فأما الذين اسودت وجوههم ﴾ يقال لهم ﴿ أكفرتم ﴾ بالقطعيات وتفرقتم في الدين واتبعتم تأويل المتشابهات ﴿ بعد إيمانكم ﴾ بالنبي والكتاب والاستفهام للتوبيخ والتعجيب عن حالهم ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ والآية في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن الأمم السابقة كذا قال أبو أمامة وقتادة، روى أحمد وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الله :" هم الخوارج " وأيضا في أهل الهواء حديث أسماء بنت أبي بكر قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي، فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم " رواه البخاري، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويسمي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل " رواه مسلم وأحمد والترمذي. وقيل : هذه الآية في المرتدين، وقيل : في أهل كتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بموسى والتوراة أو بعد إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وقيل : في جميع الكفار كفروا بعد ما أشهدهم الله على أنفسهم أو بعد ما تمكنوا من الإيمان بالنظر إلى الدلائل.
﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ﴾ يعني أهل السنة ﴿ ففي رحمة الله ﴾ يعني الجنة والثواب المخلد عبر عن الجنة بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :" ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " رواه الشيخان في الصحيحين وأحمد، وروى الشيخان عن أبي هريرة نحوه ولمسلم من حديث جابر " لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا رحمة من الله " وقد ورد هذا أيضا من حديث أبي سعيد رواه أحمد ومن حديث أبي موسى وشريك بن طارق رواهما البزار، ومن حديث شريك بن طريق وأسامة بن شريك وأسد بن كرز رواها الطبراني واستشكل هذا مع قوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ وأجيب بأن للجنة منازل ودرجات ينال بالأعمال وذلك محمد الآية وأما أصل دخولها الخلود فيها بفضل الله ورحمته وذلك معنى الأحاديث ويدل عليه قول ابن مسعود " تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم " رواه هناد في الزهد وأبو نعيم عن عون بن عبد الله مغله ﴿ هم فيها ﴾ أي في الرحمة أو الجنة ﴿ خالدون ﴾ أخرجه مخرج الاستيناف للتأكيد كأنه في جواب كيف يكونون فيها وللتنبيه على أن الرحمة نعمة والخلود نعمة مستقلة.
﴿ تلك ﴾ الآيات ﴿ آيات الله ﴾ الواردة في وعده وعيده ﴿ نتلوها عليك ﴾ خبر بعد خبر متلبسة ﴿ بالحق ﴾ بحيث لا شبهة فيها ﴿ وما الله يريد ظلما للعالمين ﴾ إذ لا يتصور منه الظلم لأنه لا يجب عليه فعل شيء ولا تركه، فيظلم بترك ما وجب عليه لأنه المالك على الإطلاق يتصرف في ملكه كيف يشاء، قلت : والظاهر أن المراد بالظلم هاهنا ما هو ظلم من العباد فيما بينهم، والمعنى أن الله لا يريد أن ينقص ثواب من عمل خيرا بفضله ولا أن يزيد في عذاب المعاصي على قدر جريمته والكفر بالله تعالى أعظم الخطايا لا ذنب فوقه فيعذب بالنار المخلدة عذابا لا يكون عذاب فوقه جزاء وفاقا.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا فهو تعليل لعدم إرادة الظلم على التأويل الأول وبيان لقدرته على إجراء وعده ووعيده على التأويل الثاني ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ فيجازي كلا على حسب وعده ووعيده.
قال البغوي : قال عكرمة : إن مالك بن الضيف ووهب بن يهودا من اليهوديين قالا لابن مسعود ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة : نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعونا إليه فأنزل الله تعالى ﴿ كنتم خير أمة ﴾ إضافة صفة إلى موصوفة مثل أخلاق ثياب والمفضل منه محذوف يعني كنتم أمة خير الأمم كلها، وكانت تدل على ثبوت خبرها لاسمها في الماضي ولا تدل على عدم سابق ولا انقطاع لاحق إلا بقرينة خارجية قال الله تعالى :﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ فهذه الجملة دلت على خيريتهم فيما مضى ويدل على خيريتهم في الحال والاستقبال قوله تعالى :﴿ تأمرون ﴾ الخ ويحتمل أن يكون كنتم في علم الله أو في الذكر في الأمم السابقة خير أمة ﴿ أخرجت ﴾ يعني أظهرت وأوجدت والخطاب إما للصحابة خاصة كذا قال جويبر عن الضحاك، وروي عن عمر بن الخطاب قال كنتم خير أمة يكون لأولنا ولا يكون لآخرنا، وعن ابن عباس أنهم هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعن عمر أنه قال لو شاء الله لقال أنتم ولكن قال كنتم في خاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ وأما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة وكلا المعنيين ثابت بالنصوص وعلى منهما انعقد الإجماع فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الأمم كلها والأفضل منهم قرن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال الله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ١٠٥ ﴾ وقال :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الجنة حرمت على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى يدخلها أمتي " رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن عن عمر بن الخطاب، وروي أيضا عن ابن عباس مرفوعا " الجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي الأول فالأول " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنة، ثم قال : أرجوا أن يكون ثلث أهل الجنة، ثم قال أرجو أن يكون الشطر " رواه أحمد والبزار والطبراني بسند صحيح عن جابر، وقال صلى الله عليه وسلم :" أهل الجنة عشرون ومائة صفا ثمانون منها من هذه الأمة والباقون من سائر الأمم " رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وروى الطبراني مثله من حديث أبي موسى وابن عباس ومعاوية بن جندة وابن مسعود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه والدرامي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والبغوي عن أبي سعيد الخدري نحوه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره " رواه الترمذي عن أنس ورزين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه وقال عليه السلام :" إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجه والبيهقي. وفي الفضل الثاني قوله صلى الله عليه وسلم :" خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " رواه الشيخان في الصحيحين والترمذي وأحمد من حديث ابن مسعود والطبراني نحوه ومسلم عن عائشة نحوه، والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين نحوه، وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا تلبسوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وقوله عليه الصلاة والسلام " ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة " رواه الترمذي عن بريدة ﴿ للناس ﴾ قيل هذا متعلق بخير أمة، قال أبو هريرة معناه : خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام أخرجه أبو عمرو، قلت : رجال هذه الأمة أكثر إرشادا وأقوى تأثيرا في الناس بالجذب إلى الله تعالى من رجال الأمم السابقة. وكان قطب إرشاد كمالات الولاية علي عليه السلام ما بلغ أحد من الأمم السابقة درجة الأولياء إلا بتوسط روحه رضي الله عنه، ثم كان بتلك المنصب الأئمة الكرام أبناؤه إلى الحسن العسكري وعبد القادر الجيلي ومن ثم قال : ووقتي قبل قلبي قد صفالي، وهو على ذلك المنصب إلى يوم القيامة، ومن ثم قال ( شعر ) :
أفلت شموس الأولين وشمسنا *** *** *** *** أبدا على أفق العلى لا تغرب
وقيل : للناس متعلق بأخرجت يعني أخرجت للناس ﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ استئناف لبيان خيريتهم أو خبر ثان لكنتم أو صفة ثانية لأمة، والمراد تفضيلهم على أمم موصوفين بهذه الصفات يعني كنتم أمة كذلك خيرا من كل أمة كذلك ﴿ وتؤمنون بالله ﴾ قيل : المراد بالإيمان بالله الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به لأنه المعتد به، يدل عليه قوله تعالى :﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ مع كونهم مؤمنين بالله وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث طلحة بن عبيد الله :" أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس " متفق عليه، وإنما أخّر ذكر الإيمان وكان حق الإيمان بالله أن يقدم لقصد الإشعار على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا لا رياء فصار كأنه قيد للأمر بالمعروف أو لقصد ارتباط قوله :﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ كلهم كما تؤمنون ﴿ لكان خيرا لهم ﴾ فإنهم يدخلون حينئذ في خير الأمم، قلت : وجا ز أن يكون المراد بالإيمان بالله الإيمان الحقيقي، يعني تخلية القلب عما سواه وتزكية النفس عن الرذائل وتمرينه بالمحبة الصرفة التي لا تشوب فيها اقتضاء نفسه من الأغراض الدنيوية أو الأخروية ﴿ منهم ﴾ أي من أهل الكتاب ﴿ المؤمنون ﴾ إيمانا يعتد به كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ وأكثرهم الفاسقون ﴾ الخارجون عن الإيمان إلى الكفر، هذه الجملة مبينة لما سبق فإن المطلوب إيمان الجميع والموجود إيمان بعضهم دون أكثرهم وفيه دفع لسوء الظن بالمؤمنين منهم الذي لشاء من قوله تعالى :﴿ ولو آمن ﴾ الخ.
﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ أي ضرارا يسيرا باللسان ونحوه، قال مقاتل : لما أراد رؤوس اليهود السوء بمن آمن منهم عبد الله بن سلام وأصحابه أنزل الله تعالى هذه الآية لتسليتهم ﴿ وإن يقاتلكم ﴾ اليهود أيها المؤمنون ﴿ يولوكم الأدبار ﴾ منهزمين ولا يضروكم بقتل أو نهب أو أسر ﴿ ثم لا ينصرون ﴾ بل يكون النصر لكم عليهم هذه الآية بيان لقوله :﴿ لن يضروكم ﴾ وهو إخبار بالغيب وقد وقع كذلك على قريظة والنضير وبني قنيقاع وخيبر وفدك.
﴿ ضربت عليهم ﴾ أي اليهود ﴿ الذلة ﴾ أي الهوان ودلك بسلب العصمة عن دمائهم وأموالهم وأهليهم ﴿ أين ما ثقفوا ﴾ وجدوا ﴿ إلا ﴾ متلبسين ﴿ بحبل ﴾ كائن ﴿ من الله ﴾ يعني القرآن أو دين الإسلام الحاكم بعدم تعرض الكفار المستأمنين وأهل الذمة قال الله تعالى :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ﴾ وقال :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ ﴿ وحبل من الناس ﴾ عهد من المؤمنين بالأمان بعد الاستئمان أو عقد الذمة بعد قبول الجزية، فالمراد بحبل الله وحبل الناس واحد ولو كان كل واحد منهما على حدة لكان الأنسب أو مقام الواو، والمستثنى منصوب على الحالية يعني ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلا في حال الاستئمان أو عقد الذمة ﴿ وباءوا ﴾ أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الموت أو الحياة بعد الموت قال الله تعالى :﴿ وكنتم أمواتا فأحييناكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾ ﴿ بغضب من الله ﴾ مستوجبين له ﴿ وضربت عليهم المسكنة ﴾ فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، يعني ضربت عليهم البخل والحرص فإن البخيل لا ينفق ماله ويكون دائما على هيئة المساكين والحريص يكون دائما في تعب وجد لطلب المال، قال البيضاوي : اليهود غالبا فقراء مساكين ﴿ ذلك ﴾ أي ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب ﴿ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء ﴾ أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء ﴿ بغير حق ﴾ يعني أنهم يعرفون كونهم ظالمين غير محقين ﴿ ذلك ﴾ الكفر والقتل ﴿ بما عصوا ﴾ ربهم تعنتا وعنادا عمدا لا خطأ ﴿ وكانوا يعتدون ﴾ حدود الله، وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب على عصيانهم واعتدائهم من حيث أنهم مخاطبون بالفروع أيضا، قلت : وعلى هذا التأويل كان المناسب إيراد العاطف بين الإشارتين.
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مندة في الصحابة عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله من سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن تبيعة وأسد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد وتبعه إلا شرارنا ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله في ذلك ﴿ ليسوا سواء ﴾ إلى قوله ﴿ من الصالحين ﴾ وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال :" أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم " و أنزلت هذه الآية ﴿ ليسوا سواء ﴾ يعني ليست اليهود متساويين فيما ذكر من المساوي بل منهم على ما ذكر بيانه قوله تعالى :﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة في الصلاة ﴾ كما يدل عليه ما بعده، وقال ابن عباس : أي مهتدية قائمة على أمر الله لم يضيعوه، وقال مجاهد : عادلة من أقمت العود فقام، وقال السدي : مطيعة قائمة على كتاب الله وحدوده، والمراد بهذه الأمة عبد الله بن سلام وأمثاله من اليهود ﴿ يتلون آيات الله ﴾ أي القرآن، حال من فاعل قائمة أو صفة بعد صفة لأمة ﴿ آناء الليل ﴾ أي ساعاته واحدة أنى ظرف للقيام والتلاوة ﴿ وهم يسجدون ﴾ عطف على قائمة، وجاز أن يكون حالا من فاعل قائمة ومعناه وهم يصلون، قال ابن مسعود : المراد به صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها. وعن عبد الله بن عمر قال : مكثنا ذات ليلة ننتظر صلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل فلا ندري أشيء شغله أو غير دلك فقال حين خرج :" إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى " رواه مسلم. قلت : والظاهر أن المراد به قيام الليل دون صلاة العشاء لأن سياق الآية يقتضي كون دوام حالهم ذلك وقصة تأخير صلاة العشاء واقعة حال ونزول الآية في تلك القصة لم يذكر في الصحيح، وأيضا صيغة يتلون للجمع والتالي في صلاة العشاء إنما هو الإمام دون القوم إلا مجازا، وقال عطاء المراد بأمة قائمة أربعون رجلا من أهل نجران من العرب واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام وصدقوا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء ابن معرور ومحمد بن مسلمة ومحمود بن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون لما عرفوا من شرائع الحنيفة حتى جاءهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه.
﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ﴾ لكمال خشيتهم وقصر أملهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بادروا بالأعمال هرما ناغضا وموتا خالسا ومرضا حابسا وتسويفا مويسا " رواه البيهقي عن أبي أمامة. وقوله يؤمنون وما عطف عليه صفات أخر لأمة وصفهم بخصائص متضادة لخصائص اليهود فإنهم كانوا منحرفين عن الحق نائمين غافلين بالليل والنهار مشركين بالله ملحدين في صفاته واصفين اليوم الآخر بخلاف ما هو عليه آمرون بالمنكر ناهون عن المعروف يسارعون في الشرور ﴿ وأولئك ﴾ الموصوفون بتلك الصفات على وجه الكمال ﴿ من الصالحين ﴾ ممن صلحت أجسادهم بصلاح قلوبهم وزكاء نفوسهم.
﴿ وما يفعلوا من خير فلن يكفره ﴾ يعني لن نضيعه ولننقص ثوابه سمى ذلك كفرانا كما سمى توفية الثواب شكرا وعدي إلى المفعولين لتضمنه معنى الحرمان، قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على الغيبة إخبارا عن الأمة القائمة على نسق ما سبق والباقون بالتاء على نسق ﴿ كنتم خير أمة ﴾ وأبو عمرو يرى القراءتين جميعا ﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ تبشير وتعليل لقوله تعالى :﴿ فلن يكفروه ﴾ فإن علم الكريم بحسنات عبده علة للإثابة وفيه إشعار بأن الصالح والمتقي أسماء للموصوفين بالصفات المتقدمة.
﴿ إن الذين كفرا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ مر تفسيره في أوائل السورة ﴿ وأولئك أصحاب النار ﴾ ملازموها ﴿ هم فيها خالدون ﴾.
﴿ مثل ما ينفقون ﴾ ما مصدرية أي مثل إنفاق الكفار عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم أو مفاخرة وبطرا كإنفاق كفار قريش في الحروب أو تقربا كإنفاق اليهود على علمائهم وكفار قريش للأصنام أو رياء كإنفاق المنافقين ﴿ في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ﴾ أي برد شديد كذا في القاموس وحكى عن ابن عباس أنها السموم الحارة التي تقتل ﴿ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿ فأهلكته ﴾ يعني كما أن الريح المذكور تهلك الحرث كذلك إنفاق الكفار أموالهم تهلكهم، باستجلاب الإنفاق عذاب الله إليهم أو باستئصال أموالهم بلا منفعة في الدنيا ولا في الآخرة، وجاز أن يكون ما في ﴿ ما ينفقون ﴾ موصولة والتشبيه مركبا أريد تشبيه القصة بالقصة ولذلك لم يبال بإدخال كلمة التشبيه على الريح دون الحرث، ويجوز أن يراد تشبيه المال الذي أنفقوه وضيعوه بالحرث المذكورة ويقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بذلك ﴿ ولكن أنفسهم يظلمون ﴾ بارتكاب إنفاق أموالهم لا على وجه يفيدهم عند الله تعالى أو بارتكاب ما استحق به أهل الحرث العقوبة.
أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة ﴾ البطانة السريرة، ويقال الصاحب الذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به ﴿ من دونكم ﴾ أي من دون المسلمين أي من هو أدنى منكم رتبة وأسفل، فيه نعت المسلمين بأنهم هم الأعلون في الدنيا والآخرة وإرشاد على طلب الأعالي للمصاحبة دون الأداني، فإن العزلة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من العزلة، وصيغة من دونكم يشتمل أهل الأهواء أيضا من الروافض والخوارج وغيرهم فلا يجوز مباطنتهم كما لا يجوز مباطنة الكفار، وقوله ﴿ من دونكم ﴾ متعلق بقوله لا تتخذوا أو ظرف مستقر صفة لبطانة أي لا تتخذوا من دون المسلمين بطانة أو بطانة كائنة من دونهم ﴿ لا يألونكم ﴾ أي لا يقصرون أي من هو على غير دينكم لكم ﴿ خبالا ﴾ شرا وفسادا بل يبذلون جهدهم فيما يورثكم شرا وفسادا منصوب على أنه مفعول ثان للا يألونكم على تضمين معنى المنع أو النقص أو منصوب بنزع الخافض أي لا يألونكم في الخبال ﴿ ودّوا ما عنتم ﴾ ما مصدرية أي تمنوا شدة الضر والمشقة بكم ﴿ قد بدت البغضاء من أفواههم ﴾ حيث لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم فيقولون فيكم ما يسوءكم بلا اختيار وقصد ﴿ وما تخفي صدورهم ﴾ من البغضاء ﴿ أكبر ﴾ مما يبدون لأنهم يظهرون مودتكم مكرا وخديعة ﴿ قد بينا لكم الآيات ﴾ الدالة على عداوتهم أو على وجوب الإخلاص لله وموالاة المؤمنين ومعاداة الكفار. والجمل الأربعة مستأنفات على التعليل ويجوز أن يكون الثلاث الأول صفات لبطانة، وعلى كلا التقديرين التعليل بهذه الجمل أو التقييد بها يفيد أن الكافر إذا لم يكن له عداوة مع مؤمن لأجل إيمان ولا يقصد خبالا وكان بينه وبين مؤمن مودة لقرابة أو غير ذلك لا بأس به كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي طالب وعباس قبل إسلامه. عن عباس رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحومك أو يغضب لك ؟ قال :" نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " رواه مسلم، وأخرج البزار مثله عن جابر ومسلم عن حذيفة وأبي سعيد الخدري ﴿ إن كنتم تعقلون ﴾ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعني فانتهوا عن موالاتهم وعادوهم أو أخلصوا لله ووالوا المسلمين.
﴿ ها أنتم أولاء تحبونهم ﴾ لقرابتهم منكم أو لصداقتهم ﴿ ولا يحبونكم ﴾ لمخالفة في الدين، ها للتنبيه عن غفلتهم في خطائهم وأنتم مبتدأ وأولاء خبره، يعني أنتم أولاء الخاطئون في محبة الكفار، وما بعده جملة مبينة لخطأهم، قال الرضي : الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة لبيان المستغرب ولا محل لها من الإعراب وهي مستأنفة، وقال البيضاوي : هو خبر ثان لأنتم أو خبر لأولاء والجملة خبر أنتم، وجاز أن يكون جملة تحبونهم حالا والعامل فيه معنى الإشارة، وجاز أن يكون أولاء منادى بحذف حرف النداء وما بعده خبر أنتم يعني أنتم يا أولاء الخاطئون بموالاة الكفار تحبونهم، وجاز أن يكون أولاء منصوبا بفعل يفسره ما بعده والجملة خبر أنتم والمشار إليه بأولاء الكفار والواو في ﴿ ولا يحبونكم ﴾ للحال، والمعنى ها أنتم أيها المؤمنون تحبون أولاء الكفار والحال أنهم لا يحبونكم ﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾ واللام للجنس أي تؤمنون بجنس الكتب كله أو للعهر أي تؤمنون بالتوراة كلها، والجملة حال من مفعول لا يحبونكم بتقدير المبتدأ حتى يصح الواو للحال تقديره وأنتم تؤمنون وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلى للحصر يعني الكفار لا يؤمنون، والمعنى لا يحبونكم والحال أنتم تؤمنون بكتابهم كله فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم بل يؤمنون بكل التوراة أيضا حيث ينكرون نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ﴿ وإذا لقوكم قالوا ﴾ نفاقا ﴿ آمنا ﴾ كما آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ﴿ وإذا خلوا ﴾ إلى أنفسهم ﴿ عضوا عليكم الأنامل من ﴾ أجل ﴿ الغيظ ﴾ في الصحاح الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان في ثوران دم قلبه يعني يعضون أناملهم تأسفا وتحسرا حين يرون دولتكم ولا يجدون سبيلا إلى أضراركم من أجل غيظهم عليكم أو لكراهتهم قولهم آمنا واضطرارهم إليه، وجاز أن يكون هذا مجازا عن شدة الغيظ وإن لم يكن ثمة عض ﴿ قل ﴾ يا محمد أو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم بعداوتهم وحث لهم بخطابهم خطاب الأعداء فإنه أقطع للمحبة من جراحة السنان ﴿ موتوا ﴾ أيها الكفار والمنافقون ﴿ بغيظكم ﴾ قيل : هذا ادعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام، وفيه أن المدعو عليه لا يخاطب بل الله سبحانه يخاطب في الدعاء والظاهر أنه إخبار بأنكم لن تروا ما يسركم وإعلام بأنا مطلعون على عداوتكم ﴿ وإن الله عليم بذات الصدور ﴾ أي بأمور ذات الصدور يعني ما في صدورهم من الغيظ وهو يحتمل أن يكو ن داخلا في المقول أي قل لهم أن الله يعلم ما في قولكم فيفضحكم في الدنيا ويعذبكم في الآخرة ولا يفيدكم إخفاؤكم، وجاز أن يكو ن خارجا عنه متصلا بما قبله كالجمل اللاحقة يعني وإن لم تعلموا أنهم لا يحبونكم ويعضون عليكم الأنامل فالله يعلم ذلك فعليكم اتباع ما أمركم الله به من البغض في الله دون المحبة لأجل وصلات بينكم.
﴿ إن تمسسكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ حسنة ﴾ نعمة من ظهور الإسلام وغلبتكم على عدوكم ونيل عدوكم ونيل الغنيمة وخصب في المعاش ﴿ تسؤهم ﴾ تحزنهم ذلك حسدا أو في لفظ المس إشعار إلى أنهم يحزنون على أدنى حسنة أصابتكم ﴿ وإن تصبكم سيئة ﴾ أي ما يسوءكم من
إصابة عدو منكم أو حدب أو نكبة ﴿ يفرحوا بها ﴾ شماتة بما أصابكم الجملة الشرطية بيان لتناهي عداوتهم متصلة بالشرطية السابقة وبينهما اعتراض ﴿ وإن تصبروا ﴾ على أذاهم أو على المصائب كلها لو على مشاق التكليف ﴿ وتتقوا ﴾ موالاتهم وغيرها مما حرم الله عليكم ﴿ لا يضركم ﴾ قرأ أهل الكوفة والشام بضم الضاد والراء من الضرر مجزوم في جواب الشرط، وضمة الراء للإتباع كضمة مد وأهل الحرمين والبصرة بكسر الضاد وسكون الراء للجزم من ضار يضير الأجوف ﴿ كيدهم ﴾ يعني قصد الكفار أضراركم على سبيل الإخفاء ﴿ شيئا ﴾ من الضرر يعني لا يضركم كيدهم بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين، ولأن المجد في الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريا على الخصم وكان المؤمن يرجو في المصيبة ثوابها الموعود فيفرح بها أشد مما يفرح في النعمة والعاشق بعلمه إن ما أصابه إنما هو من محبوبه يلتذّ بالمصيبة أكثر مما يلتذ بالنعومة لأن مراد المحبوب ألذ عنده من مراد نفسه. عن ابن عباس قال : كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال :" يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه أحمد والترمذي وقال : حسن صحيح، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ " رواه أحمد وابن ماجه والدارمي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال ربكم عز وجل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيت عليهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولم لأسمعهم صوت الرعد " رواه أحمد، وعن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عجبا لأمر المؤمن أن أمره له كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " رواه مسلم ﴿ إن الله بما يعملون ﴾ أي الكفار من إضرارهم بالمؤمنين ﴿ محيط ﴾ بعلمه فيجازيهم عليه ويحفظكم عن إضرارهم إن شاء ويجازيكم على الضراء إن أراد بكم.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين ﴾ تنزلهم وتسوّي وهي لهم ﴿ مقاعد ﴾ مواطن ومواقف من الميمنة والقلب والساقة ﴿ للقتال ﴾ متعلق بتبوئ ﴿ والله سميع ﴾ لأقوالهم ﴿ عليم ﴾ لنياتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال الحسن : هو يوم بدر، وقال مقاتل : يوم الأحزاب، وقال سائر المفسرين : وهو الصحيح أنه هو يوم أحد، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا ﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ إلى قوله :﴿ إذ همت طائفتنا منكم أن تفشلا ﴾ قال : هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله :﴿ ولقد كنتم تمنّون الموت ﴾ الآية، قال : هو تمني المؤمنين لقاء العدو وإلى قوله :﴿ أفأين مات أو قتل انقلبتم ﴾ قال : هو صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد إلى قوله :﴿ أمنة نعاسا ﴾ قال : ألقي عليهم النوم إلى آخر ستين آية، يعني إلى قوله تعالى :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ ويتلوه قوله تعالى :﴿ لقد سمع الله ﴾ قال ابن إسحاق رحمة الله : وكان مما أنزل الله تعالى في يوم أحد يعني في شأن يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم ذلك ومعاتبة من غاب منهم. قال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة وكانوا ثلاثة آلاف فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها. فقال هم وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا إلى عدو منا قط إلا أصاب منا ولا دخلها إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعوهم فإن أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ودماههم النساء وصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وكان هذا رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار رضي الله عنهم غالبهم أحداث لم يشهدوا بدر وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : أخرج بنا يا رسول الله إلى هذه الأكلب لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت في منامي بقرا فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولتها هزيمة، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وكان يعجبه أن يدخلوا عليهم المدينة فيقاتلوهم في الأزقة. روى أحمد والنسائي والدرامي بسند صحيح بلفظ " رأيت في درع حصينة ورأيت بقرا تنحر فأولت أن الدرع الحصينة المدينة وان البقر خير والله " وروى البزار والطبراني عن ابن عباس قال : لما نزل أبو سفيان وأصحابه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر وهي مصيبة، ورأيت بقرا تذبح وهي مصيبة، ورأيت عليّ درعي وهي مدينتكم لا يصلون إليها إن شاء الله " قال ابن إسحاق وابن عقبة وابن سعد وغيرهم : كانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة، قال عروة : وكان الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه، وقال ابن هشام : وأما الثّلم في السيف فرجل من أهل بيتي يقتل " وفي رواية : ثم هززته يعني السيف مرة أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح، وقال حمزة : والذي أنزل عليك لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما، وقال النعمان بن مالك : يا رسول الله لا تحرمنا فوالذي نفسي بيده لأدخلنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمه ؟ قال : إني أحب الله ورسوله، وفي لفظ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله : ولا أفر يوم الزحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدقت " فاستشهد يومئذ، وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك على الخروج للقتال.
فلما أبوا إلا ذلك صلى الجمعة بالناس فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم وكره ذلك المخرج بشر كثير، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس وحضر أهل العوالي ورفعوا النساء في الآطام ودخل بيته ومعه أبو بكر وعمر وقد صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال للناس : استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم له ما قلتم والوحي ينزل إليه من السماء فردوا الأمر إليه فما أمركم به فافعلوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل السيف من أدم واعتمّ وتقلد السيف، وندم الناس على إكراهه فقالوا : يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، انظروا ما آمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم " ووجد مالك بن عمرو النجاري قد مات ووضعوه عند موضع الجنائز فصلى عليه ثم خرج. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه السكب وتقلد القوس وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وكل منهما دراع والناس عن يمينه وشماله، حتى إذا انتهى إلى رأس الثنية رأى كتيبة خشنا لها رجل فقال : ما هذا ؟ قالوا : هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي من اليهود، فقال : أسلموا ؟ فقيل : لا، فقال : إنا لا نستنصر بأهل الشرك. على أهل الشرك وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعسكر بالشيخين وهما اطمان، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر، فاستصغر غلمانا فردهم رد سبعة عشر وهم أبناء أربعة عشر وعرضوا عليه وهم أبناء خمسة عشر فأجازهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بدن أرقم والبراء بن عازب وأبو سعيد الخدري وأوس بن ثابت الأنصاري، وأجاز رافع بن خديج بعد الرد لما قيل إنه رام، فقال سمرة بن جندب : أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تصارعا فصرع سمرة رافعا فأجازه. فلما فرغ العرض وغابت الشمس أذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات بالشيخين واستعمل على الحرس. تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان السحر فصلى الصبح ثم قال أين الأدلاء من رجل يخرج بنا من كثب لا يمر بنا عليهم ؟ فقام أبو خيثمة الحارثي فقال : أنا يا رسول الله، فسلك به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قنطي وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب في وجوههم ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وأخذ حفنة من تراب ثم قال : والله لو أعلم أني لا أصيب غيركم لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زبدة الأشهلي قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس فشجه. وكان رسول الله خرج إلى أحد في ألف رجل وقيل في تسعمائة وخمسين رجلا، فلما بلغوا السوط انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاثمائة وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أبي ﴿ لو نعلم قتالا لأتبعناكم ﴾ وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة وفرسه وفرس لأبي بردة وقال ابن عقبة : لم يكن من المسلمين فرس، وهمت بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته وقال :{ إذ همت طائفتان منكم والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنين
﴿ إذ همت ﴾ بدل من قوله إذ غدوت أو ظرف عمل فيه سميع عليم، ( طائفتان ) يعني بني حارثة وبني أسلمة ﴿ منكم ﴾ فيه تعريض على ابن أبيّ أنهم ليسوا منكم ولذا لم يذكر رجوعهم ﴿ أن تفشلا ﴾ أي أن تجبنا وتضعفا ﴿ والله وليهما ﴾ أي محبهما، أو المعنى عاصمهما عن اتباع تلك الخطوة، أو المعنى والله ناصرهما ومتولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا يتوكلان ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنين ﴾ وتقديم الظرف للحصر يعني فليتوكلوا عليه لا على غيره فلا يفشلوا بفرار المنافقين، عن جابر بن عبد الله قال : فينا نزلت هذه الآية، قالوا : ما سرّنا أنّا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبر الله تعالى أنه وليّنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال الحسن : هو يوم بدر، وقال مقاتل : يوم الأحزاب، وقال سائر المفسرين : وهو الصحيح أنه هو يوم أحد، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا ﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ إلى قوله :﴿ إذ همت طائفتنا منكم أن تفشلا ﴾ قال : هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله :﴿ ولقد كنتم تمنّون الموت ﴾ الآية، قال : هو تمني المؤمنين لقاء العدو وإلى قوله :﴿ أفأين مات أو قتل انقلبتم ﴾ قال : هو صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد إلى قوله :﴿ أمنة نعاسا ﴾ قال : ألقي عليهم النوم إلى آخر ستين آية، يعني إلى قوله تعالى :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ ويتلوه قوله تعالى :﴿ لقد سمع الله ﴾ قال ابن إسحاق رحمة الله : وكان مما أنزل الله تعالى في يوم أحد يعني في شأن يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم ذلك ومعاتبة من غاب منهم. قال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة وكانوا ثلاثة آلاف فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها. فقال هم وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا إلى عدو منا قط إلا أصاب منا ولا دخلها إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعوهم فإن أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ودماههم النساء وصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وكان هذا رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار رضي الله عنهم غالبهم أحداث لم يشهدوا بدر وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : أخرج بنا يا رسول الله إلى هذه الأكلب لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت في منامي بقرا فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولتها هزيمة، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وكان يعجبه أن يدخلوا عليهم المدينة فيقاتلوهم في الأزقة. روى أحمد والنسائي والدرامي بسند صحيح بلفظ " رأيت في درع حصينة ورأيت بقرا تنحر فأولت أن الدرع الحصينة المدينة وان البقر خير والله " وروى البزار والطبراني عن ابن عباس قال : لما نزل أبو سفيان وأصحابه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر وهي مصيبة، ورأيت بقرا تذبح وهي مصيبة، ورأيت عليّ درعي وهي مدينتكم لا يصلون إليها إن شاء الله " قال ابن إسحاق وابن عقبة وابن سعد وغيرهم : كانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة، قال عروة : وكان الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه، وقال ابن هشام : وأما الثّلم في السيف فرجل من أهل بيتي يقتل " وفي رواية : ثم هززته يعني السيف مرة أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح، وقال حمزة : والذي أنزل عليك لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما، وقال النعمان بن مالك : يا رسول الله لا تحرمنا فوالذي نفسي بيده لأدخلنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمه ؟ قال : إني أحب الله ورسوله، وفي لفظ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله : ولا أفر يوم الزحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدقت " فاستشهد يومئذ، وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك على الخروج للقتال.
فلما أبوا إلا ذلك صلى الجمعة بالناس فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم وكره ذلك المخرج بشر كثير، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس وحضر أهل العوالي ورفعوا النساء في الآطام ودخل بيته ومعه أبو بكر وعمر وقد صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال للناس : استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم له ما قلتم والوحي ينزل إليه من السماء فردوا الأمر إليه فما أمركم به فافعلوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل السيف من أدم واعتمّ وتقلد السيف، وندم الناس على إكراهه فقالوا : يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، انظروا ما آمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم " ووجد مالك بن عمرو النجاري قد مات ووضعوه عند موضع الجنائز فصلى عليه ثم خرج. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه السكب وتقلد القوس وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وكل منهما دراع والناس عن يمينه وشماله، حتى إذا انتهى إلى رأس الثنية رأى كتيبة خشنا لها رجل فقال : ما هذا ؟ قالوا : هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي من اليهود، فقال : أسلموا ؟ فقيل : لا، فقال : إنا لا نستنصر بأهل الشرك. على أهل الشرك وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعسكر بالشيخين وهما اطمان، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر، فاستصغر غلمانا فردهم رد سبعة عشر وهم أبناء أربعة عشر وعرضوا عليه وهم أبناء خمسة عشر فأجازهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بدن أرقم والبراء بن عازب وأبو سعيد الخدري وأوس بن ثابت الأنصاري، وأجاز رافع بن خديج بعد الرد لما قيل إنه رام، فقال سمرة بن جندب : أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تصارعا فصرع سمرة رافعا فأجازه. فلما فرغ العرض وغابت الشمس أذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات بالشيخين واستعمل على الحرس. تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان السحر فصلى الصبح ثم قال أين الأدلاء من رجل يخرج بنا من كثب لا يمر بنا عليهم ؟ فقام أبو خيثمة الحارثي فقال : أنا يا رسول الله، فسلك به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قنطي وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب في وجوههم ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وأخذ حفنة من تراب ثم قال : والله لو أعلم أني لا أصيب غيركم لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زبدة الأشهلي قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس فشجه. وكان رسول الله خرج إلى أحد في ألف رجل وقيل في تسعمائة وخمسين رجلا، فلما بلغوا السوط انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاثمائة وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أبي ﴿ لو نعلم قتالا لأتبعناكم ﴾ وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة وفرسه وفرس لأبي بردة وقال ابن عقبة : لم يكن من المسلمين فرس، وهمت بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته وقال :{ إذ همت طائفتان منكم والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنين
ثم ذكرهم ما يوجب التوكل مما يسر لهم الله من الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة فقال :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ الأكثرون على أن بدرا اسم لموضع بين مكة والمدينة وقيل اسم لبئر هناك، قيل : كانت بدر بئرا لرجل يقال له بدر قاله الشعبي وأنكره الآخرون ﴿ وأنتم أذلة ﴾ جمع ذليل حال من الضمير، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل ليدل على قلتها مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح فإنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومعهم سبعين بعيرا يعتقبون عليها، وفرسان فرس لمقداد وفرس لزبير بن العوام ﴿ فاتقوا الله ﴾ في الثبات ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصره، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سببه، وفيه تنبيه على أنه لا بد أن يكون نظر العبد في الإنعام على الشكر وأنه إنما يرغب في الإنعام لأنه وسيلة للشكر.
﴿ إذ تقول للمؤمنين ﴾ ظرف لنصركم على ما قال قتادة إنه كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال :﴿ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة ﴾ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن الشعبي أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاء من التفعيل على التكثير هاهنا وفي العنكبوت ﴿ إنا منزلون ﴾ والآخرون بسكون النون والتخفيف من الإنزال استفهام لإنكار أن لا يكفيهم ذلك، وجيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم.
﴿ بلى ﴾ إيجاب لما بعد لن أي بلى يكفيهم ذلك، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا عليهما وتقوية لقلوبهم ﴿ إن تصبروا ﴾ على القتال ﴿ وتتقوا ﴾ خلاف ما يأمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ويأتوكم ﴾ أي المشركون ﴿ من فورهم هذا ﴾ أي من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدر فارت القدر فورا إذا غلت فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا تراخي عنه والمعنى أن يأتوكم في الحال حال ضعفكم وقوتهم، قلت : الظاهر أن التقييد بالفور لا مفهوم له بل للترقي والمعنى أن يأتوكم بالتراخي بعد ما تقوون على قتالهم ينصركم الله بالطريق الأولى وأن يأتوكم من فورهم هذا أيضا ﴿ يمددكم ربكم ﴾ الإمداد إعانة الجيش بالجيش ﴿ بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ﴾ روى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الشعبي : أنه بلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين فلم يمد المسلمين بخمسة آلاف والله أعلم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم مسومين بكسر الواو على وزن اسم الفاعل والباقون بالفتح على وزن اسم المفعول من التسويم بمعنى الإعلام، قال قتادة والضحاك : كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عمرو بن إسحاق مرسلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر :" تسوّموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوت الأبيض في قلانسهم ومغافرهم " وكذا أخرج ابن جرير وزاد وقال : وهو أول يوم وضع فيه الصوف أو بمعنى الإسامة يعني الإرسال يعني مرسلين، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، وقال هشام بن عروة والكلبي : عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم، قال قتادة : فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم بخمسة آلاف كما وعد، وقال الحسن : فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة يعني بفرط الصبر والتقوى، وقال ابن عباس ومجاهد : لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا ومددا، وقال جماعة وعد الله المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه أن يمدهم في حروبهم كلها فلم يصبروا إلا في : يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة والنضير، قال عبد الله بن أبي أوفى : كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله تعالى فلم يفتح لنا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرائيل عليه السلام فقال وضعتم أسلحتكم ولم يضع الملائكة أوزارها ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدّنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسير، وقال الضحاك وعكرمة : كان قوله تعالى :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ﴾ الآية حكاية عن يوم أحد وعدهم المد وإن صبروا واتقوا فلم يصبروا وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يمدوا، وعلى هذا قوله تعالى إذ تقول بدل ثان من إذ غدوت، وقال مجاهد والضحاك : معنى قوله تعالى من فورهم من غضبهم هذا لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر وقد أمد الله تعالى رسوله في تلك الوقعة بجبرائيل وميكائيل لصبره وتقواه، عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد " متفق عليه، والرجلان جبرائيل وميكائيل. قال محمد بن إسحاق : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقى سعد بن مالك يرمي وفتى شاب ينبل له فلما فني النبل أتاه به جبرائيل فتثره فقال أرم أبا إسحاق مرتين، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف.
﴿ وما جعله الله ﴾ أي ما جعل إمدادكم بالملائكة ﴿ إلا بشرى ﴾ أي بشارة ﴿ لكم ﴾ بالنصر﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ فلا تجزعون من كثرة أعدائكم وقلتكم فإن الإنسان معتاد بتشبث الأسباب فيطمأن قلبه عند ملاحظة الأسباب بالنصر عند كثرة الأعوان ﴿ وما النصر ﴾ في الحقيقة ﴿ إلا من عند الله ﴾ لا من العدة والعدد لأن الأسباب كلها عادية وأفعال العباد بشرا كان أو ملائكة مخلوقة لله تعالى ﴿ العزيز ﴾ الغالب الذي لا يغلب عليه أحد ﴿ الحكيم ﴾ الذي ينصر أو يخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة تفضلا من غير أن يجب عليه شيء.
﴿ ليقطع ﴾ متعلق بقوله لقد ﴿ نصركم الله ﴾ وبقوله يمددكم أو بقوله وما النصر إن كان اللام للعهد ﴿ طرفا ﴾ أي طائفة ﴿ من الذين كفروا ﴾ في القاموس الطرف الناحية وطائفة من الشيء والرجل الكريم يعني نصركم لكي يهلك جماعة منهم فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون وأسر سبعون، ومن حمل الآية على حرب أحد فقال : قد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكانت النصرة للمؤمنين حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلب عليهم ﴿ أو يكبتهم ﴾ في الصحاح الكبت الرد بعنف، وفي القاموس كبته يكبته صرعه وأخزاه وصرفه وكسره ورد العدو بغيظة وأذلة، قلت : وهذه المعاني كلها لازمة للهزيمة وكلمة أو للتنويع لا للتردد يعني نصركم لكي يهلك طائفة من الكفار ويهزم سائرهم ﴿ فينقلبوا ﴾ إلى بلادهم ﴿ خائبين ﴾ لم ينالوا شيئا مما أرادوا. روى مسلم وأحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال :" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل الله تعالى ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾.
ٍ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ شيء اسم ليس ولك خبره واللام بمعنى إلى كما في قوله :﴿ مناديا ينادي للإيمان ﴾ ومن الأمر حال من شيء. روى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اللهم العن فلانا " وفي رواية " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية " فنزلت هذه الآية على آخرها فتيب عليهم كلهم " وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه، قال الحافظ ابن حجر : طريق الجمع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المذكورين في صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد فنزلت الآية في الأمرين معا فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أحد ما نال أصحابهم من جزع الآذان والأنوف وقطع المذاكير قالوا : لئن أنالنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا ولنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل : أراد النبي أن يدعوا عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية، وذلك لعلمه تعالى فيوهم بأن كثيرا منهم يسلمون. لكن يشكل ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الفجر " اللهم العن رعلا وذكوان وعصية " حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، فإن قصة رعل وذكوان بعد ذلك وهم أهل بئر معونة بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من القراء ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو، فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد من ذلك وجدا شديد أو قنت شهرا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين، قال الحافظ : ثم ظهرت لي علة في حديث أبي هريرة هذه وأن فيه إدراجا فإن قوله حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمن بلغه بيّن ذلك مسلم وهذا البلاغ لا يصح، ويحتمل أن يقال أن قصة رعل وذكوان كان عقيب غزوة أحد بأربعة أشهر في صفر سنة أربع من الهجرة فلعلها نزلت في جميع ذلك وتأخير تزول الآية عن سبب نزولها قليلا غير مستبعد، وورد في سبب نزول الآية أيضا ما أخرجه البخاري في تاريخه وابن إسحاق عن سالم بن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنك تنهى عن الشيء ثم تحول فحول قفاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكشف أسته فلعنه ودعا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم أسلم الرجل فحسن إسلامه، وهو مرسل غريب ﴿ أو يتوب عليهم ﴾ إن أسلموا ﴿ أو يعذبهم ﴾ في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار إن أصروا على الكفر﴿ فإنهم ظالمون ﴾ تعليل للتعذيب، قال الفراء كلمة أو في قوله :﴿ أو يتوب عليهم ﴾ بمعنى حتى، وقال ابن عيسى إنها بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي يعني ليس مفوضا إليك من أمرهم من التعذيب أو الإنجاء شيء حتى يتوب الله عليهم بإسلامهم فتفرح به أو يعذبهم بظلمهم فتشفى منهم، وقيل يحتمل أن يكون أو يتوب عليهم معطوفا على الأمر أو على شيء بإضمار أن، والمعنى ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم والأمر كله لله، قال التفتازاني فهو من قبيل عطف الخاص على العام وفي مثله بكلمة أو نظر، وأجيب بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن ولك أن تجعل الأمر بمعنى التكليف والإيجاب، والمعنى ليس ما أمر به من عندك وليس الأمر وإيجاب الواجبات بيدك، ولا التوبة عليهم ولا التعذيب، قلت ولو كان نزول الآية متصلا بما قبله فالظاهر أن يكون قوله أو يتوب عليهم معطوفا على قوله أو ﴿ يكبتهم ﴾ والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل، أو يكبت طائفة منهم بالهزيمة أو يتوب عل طائفة منهم بالإسلام أو يعذب طائفة منهم بالأسر وأخذ الفدية فهو بيان لأنواع أحوال الكفار وقوله :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ جملة معترضة لمنعه عن الدعاء عليهم.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا فله الأمر كله لا لغيره ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ مغفرته بفضله بعد توفيقه للإسلام سواء تاب أو لم يتب ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ تعذيبه صريح في نفي وجوب التعذيب عليه ﴿ والله غفور رحيم ﴾ فلا تبادر بالدعاء عليهم.
أخرج الفرابي عن مجاهد قال كانوا يتبايعون إلى الأجل فإذا حل الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافنا مضاعفة ﴾ أي زيادات مكررة فهو نهى عن الربا مع توبيخ على ما كانوا يعملونه لا للاحتراز ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما نهيتم عنه من الربا وغيره ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ راجين الفلاح.
﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ١٣١ ﴾ قال البيضاوي فيه تنبيه على أن النار بالذات الفلاح للكافرين وبالعرض لعصاة المؤمنين، قلت : والظاهر أن النعت للتخصيص والنار المعدة للكافرين مغائره للنار المعدة للعصاة فيكون فيه إشارة إلى أن أكل الربا يوجب قساوة القلب بحيث ربما يفضي إلى الكفر ويؤيده ما في المدارك أنه كان أبو حنيفة رحمه الله يقول هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وقد أمد ذلك بما اتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله :﴿ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾.
﴿ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾ راجين رحمته، وعلى كلا التأويلين يعني سواء كانت النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة أو كانت النار المعدة للكافرين مغايرة للنار المعدة للعصاة في هذه الآية رد على المرجئة حيث قالوا : لا يضر مع الإيمان معصية، قال أكثر المفسرين : إن لعل وعسى من الله تعالى للتحقيق والظاهر أنه لا يفيد الوجوب بل يفيد الرجاء مع بقاء الخوف، وقال البيضاوي : إن لعل وعسى في أمثال ذلك دليل على التوصل إلى ما جعل خبرا له.
﴿ وسارعوا ﴾ معطوف على أطيعوا. قرأ نافع وابن عامر بحذف واو العطف والباقون بالواو ﴿ إلى مغفرة من ربكم وجنة ﴾ قال ابن عباس : إلى الإسلام وروي عنه إلى التوبة قاله عكرمة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلى أداء الفرائض، وروي عن أنس بن مالك : أنها التكبيرة الأولى. ومرجع الأقوال كلها إلى ما يستحق به مغفرة الذنوب الموجب من النار ورحمة الله تعالى الموجب لدخول الجنة من الإسلام ولاعتقادات الحقة والأخلاق والأعمال الصالحة، وقد مر فيما سبق حديث أبي أمامة :" بادروا بالأعمال هرما ناغضا " الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم :" بادروا بالأعمال سبعا ما تنظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فإنه شر منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمرّ " رواه الترمذي والحاكم ﴿ عرضها ﴾ أي سعتها صفة للجنة ﴿ السماوات والأرض ﴾ أي كعرضهما وسعتهما وهذا على التمثيل دون الحقيقة فإن أوسع المسافات المكانية في ظن العوام سعة السماوات والأرض فمثّل في هذه الآية بها كما مثل في قوله تعالى :﴿ خالدين فيها مادمت السماوات والأرض ﴾ للمسافة الزمنية للخلود في الجنة بمدة دوامها يعني عند ظنكم، قال البغوي : سئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة أفي السماء أم في الأرض ؟ فقال : فأي أرض وسماء تسع الجنة ؟ فقيل : فأين هي ؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش، وقال قتادة : كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع، أخرج أبو الشيخ في العظيمة من طريق أبي الزعراء عن عبد الله قال : الجنة في السماء السابعة العليا ( قلت : يعني فوقها ) والنار في الأرض السابعة السفلى، قلت : يعني تحتها ﴿ أعدت للمتقين ﴾ حقيقة التقوى وهم الذين اتقوا من شغل قلوبهم بغير الله ومن رذائل أنفسهم، ويجري فيه التأويلان كما جرى في النار التي أعدت للكافرين.
﴿ الذين ينفقون في السراء ﴾ : أي المسرة بكثرة المال، ﴿ والضراء ﴾ : أي النقص في الأموال كذا في القاموس أي لا يخلون في حال ما من الإنفاق بما قدروا عليه من قليل أو كثير، قال البغوي : أول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل " رواه الترمذي عن أبي هريرة، وذكر البغوي بلفظ " أحب إلى الله من العالم البخيل " رواه البيهقي عن جابر والطبراني عن عائشة وعن ابن عباس مرفوعا " السخاء خلق الله الأعظم " رواه ابن النجار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات في الدنيا، فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار أغصانها متدليات في الدنيا، فمن أخذ بغصن من أغصانها قاده ذلك الغصن إلى النار " رواه الدارقطني والبيهقي عن علي عليه السلام وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه، والخطيب عن أبي سعيد رضي الله عنه وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه، والديلمي في مسند الفردوس عن معاوية رضي الله عنه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبق درهم مائة ألف، فقال رجل : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ فقال : رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به " رواه النسائي وصححه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم. ﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ : الكظم حبس النفس عند امتلائها يعني الكافين أنفسهم عن إمضاء الغيظ مع القدرة من كظمت القربة إذا ملأتها وشددت رأسها، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " رواه أحمد وعبد الرزاق وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وروى البغوي عن أنس مرفوعا بلفظ " من كظم غيظا وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أيّ الحور شاء " وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عمر مرفوعا " من كف غضبه ستر الله عورته " ﴿ والعافين عن الناس ﴾ قال الكلبي : العفين عن المملوكين سوء الأدب، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : العافين عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصم الله " رواه الثعلبي في تفسيره عن مقاتل والبيهقي في مسند الفردوس من حديث ابن مالك ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ اللام للجنس ويدخل تحته هؤلاء أو للعهد فيكون إشارة إليهم ووضع المظهر موضع المضمر للمدح والإشارة إلى أن تلك صفات المحسنين، عن الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متأجّرة، وقال رسول الله صلى الله عيه وسلم فيما رواه الشيخان في الصحيحين من حديث عمر في قصة سؤال جبرائيل :" الإحسان أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قلت : فالمحسنون هم الصوفية ولعل كظم الغيظ كناية عن فناء النفس لأن الغيظ منشأة رذائل النفس من الكبر والحسد والحقد والبخل ونحو ذلك، ولعل العفو عن الناس كناية عن فناء القلب لأن بفناء القلب يسقط الناس عن نظر اعتباره ويرى الأفعال كلها منسوبة إلى الله تعالى فلا يرى جواز مؤاخذة أحد من الناس بشيء مما أتى به إلا لحق الله تعالى على حسب ما أمر به امتثالا وتعبدا، ولعل الإنفاق في السراء والضراء عبارة عن عدم اشتغال قلوبهم بأمتعة الدنيا والله أعلم.
لما ذكر الله سبحانه في هذه الآية المتقين المحسنين العارفين عقبهم بذكر اللاحقين بهم التائبين فقال :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾.
﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ فعلى هذا الموصول مبتدأ وجملة ﴿ أولئك جزاؤهم ﴾ " الآية خبره، وجاز أن يكون الموصول معطوفا على المتقين أو على الذين ينفقون فعلى هذا جملة أولئك مستأنفة والأظهر هو الأول. قال ابن مسعود : قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارته مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عطاء : نزلت في نبهان التمّار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها فقالت له : اتق الله فتركها ونذم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها قم نذم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع عليه الثقفي لم يستقبل الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله، ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا وقال الأنصاري هلكت وذكر القصة، فقال أبو بكر : ويحك ما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : مثل مقالتهما فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد، المراد بالفاحشة هاهنا الكبيرة لخروجه عن الحد في القبح والعصيان، وقال جابر : الفاحشة الزنا﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾ بالصغائر أو بما دون الزنا من القبلة والمعانقة واللمس، وقيل : فعلوا فاحشة قولا أو ظلموا أنفسهم فعلا، وقيل : الفاحشة ما يتعدى إلى غيره وظلم النفس ما ليس كذلك وهذا أظهر ﴿ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ يعني ذكروا وعيد الله وأن الله سائلهم فندموا وتابوا واستغفروا، وقال مقاتل بن حبان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب، قلت : يمكن أن يقال المراد بذكر الله صلاة الاستغفار لحديث علي عن أبي بكر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من عبد مؤمن " وفي رواية " ما من رجل يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم ما يستغفر الله إلا غفر الله له " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وزاد الترمذي ثم قرأ ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ﴾ الآية. ﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ استفهام بمعنى النفي حتى صح المفرغ يعني لا يغفر الذنوب أحد إلا الله فإن العافين عن الناس من الناس إنما يعفون حقوقهم دون الذنوب والمعاصي التي هي حقوق الله تعالى، أو يقال العافي عن الناس منهم يعفوا رجاء لمغفرة الله تعالى فهو المنجز وغافر الذنب بلا غرض ومنفعة إنما هو الله تعالى، والجملة معترضة بين المعطوفين لبيان سعة رحمة الله وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة، وجاز أن يكون حالا بتقدير القول يعني قائلين ومن يغفر أو معطوفة على مفعول ذكروا، يعني ذكروا الله وذكروا مغفرته وتوحده في تلك الصفة ﴿ ولم يصروا ﴾ الإصرار التقعد في الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع كذا في الصحاح، يعني لم يقيموا ﴿ على ما فعلوا ﴾ من الذنوب وبهذا يظهر أن العزم على ترك الفعل شرط للاستغفار كالندم على الفعل فلابد للاستغفار من العزم على الترك وإن صدر منه بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر الصديق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه " رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس ( مسألة ) الإصرار على الصغيرة تكون كبيرة، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " رواه الديلمي في مسند الفردوس ﴿ وهم يعلمون ﴾ حال من الضمير في لم يصروا يعني تركوا الإصرار على المعصية لعلهم كونها معصية خوفا من الله تعالى لا لكسالة أو تنفر طبعي أو خوف من العباد أو عدم تيسر فإن الجزاء إنما هو على كف النفس بنية الطاعة دون عدم الفعل مطلقا لكن عدم الفعل مطلقا مانع من الجزاء المترتب على المعصية أن من العصمة إن لا تقدر، وقال الضحاك : وهم يعلمون الله يملك مغفرة الذنوب، وقال الحسين بن الفضل : وهم يعلمون أن له ربا يغفر الذنوب، وقيل وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت، وقيل : يعلمون إنهم إن استغفروا غفر لهم، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن عبدا أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء ثم أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي فليفعل ما شاء " متفق عليه، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا " رواه الطبراني والحاكم بسند وصحيح.
﴿ أولئك ﴾ : إن كانت الجملة مستأنفة، فالمشار إليهم المتقون والتائبون جميعا، وإن كان هذا خبرا للموصول فالمشار إليهم هم التائبون ﴿ جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾، وتنكير جنات لدلالة على أن ما لهم أدون مما للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة في الآية المقدمة، ولذا فصل آيتهم ببيان أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله تعالى حافظون على حدود الشرع، وفصل هذه الآية بقوله :﴿ ونعم أجر العالمين ﴾ فإن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيله بعض ما فوت على نفسه لكن كم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم أجر العاملين المغفرة والجنات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس والقشيري في الرسالة وابن النجار عن علي.
( فائدة ) : ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، وجاز أن يقال العصاة المصرون على الكبائر يدخلهم جزاء الله الجنة بعد تطهيرهم من الذنوب بالمغفرة إما بعد العذاب بالنار فإن النار في حق المؤمن كالكير يدفع خبث الفلز وإما بالمعفرة بلا تعذيب فحينئذ يلحق العاصي بالتائب في التطهّر، قال ثابت البناني : بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ إلى آخرها.
﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ١٣٧ ﴾ : السنة الطريقة المتبعة في الخير أو الشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " وجاز أن يكون في الكلام حذف المضاف أي أهل سنن، وقيل : السنن بمعنى الأمم والسنة الأمة قال الشاعر :
ما عاين الناس من فضل كفضلهم *** *** *** ولا رأوا مثلهم في سالف السنن
ومعنى الآية : قد مضت قبلكم طرق من الخير والشر وأهل طرق، فانظروا كيف كانت عاقبة طريقة التكذيب وماآل إليه أمر المكذبين من الهلاك، وقال مجاهد : قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب أجله الذي أجلته لإهلاكهم، ثم أهلكتهم ونصرت أنبيائي ومن تبعهم فسيروا وانظروا لتعتبروا، وقال عطاء : السنن الشرائع، وقال الكلبي : مضت لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم ومن كذبه ولم يتبعه أهلكه الله فانظروا عاقبة المكذبين.
﴿ هذا ﴾ أي القرآن أو قوله قد خلت أو مفهوم قوله فانظروا ﴿ بيان للناس ﴾ عامة ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة ﴿ وموعظة للمتقين ﴾ خاصة فإنهم هم المنتفعون به، وقيل : هذا إشارة إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين وقوله قد خلت اعتراض للحث على الإيمان والتوبة.
﴿ ولا تهنوا ﴾ : أي لا تضعفوا ولا تجنبوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح يوم أحد، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سبعون رجلا، ﴿ ولا تحزنوا ﴾ : على من قتل منكم، ﴿ وأنتم الأعلون ﴾ : والحال أنكم أعلى شأنا منهم فإنكم ترجون من الأجر والثواب على ما أصابكم ما لا يرجوه الكفار وقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، نظيره قوله تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ قال الكلبي : أمر النبي صلى الله عليه سلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح يوم أحد، فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية، أو المعنى أنتم الأعلون عاقبة الأمر بالنصر من الله والظفر، قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فاقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم لا يعلنّ علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك " وبات نفر من المسلمين رماة فصعدوا والجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموا فذلك قوله تعالى :﴿ وأنتم الأعلون ﴾ ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، يعني إن صح إيمانكم فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن مقتضى الإيمان رجاء الثواب وقوة القلب بالتوكل على الله، أو المعنى إن صح إيمانكم فأنتم الأعلون في العاقبة فإنه حق علينا نصر المؤمنين.
﴿ إن يمسسكم قرح ﴾ : يوم أحد، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء والباقون بالفتح، وهما لغتان معناهما عض السلاح ونحوه مما يجرح البدن كذا في القاموس، وقال الفراء : القرح بفتح الجراحة وبالضم ألم الجراحة ﴿ فقد مس القوم ﴾ أي قوم الكفار من قريش ﴿ قرح مثله ﴾ يوم بدر وهم لم يضعفوا عن معاودتكم للقتال فأنتم أولى بذلك، نزلت هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن وليجترؤا على عدوهم ﴿ وتلك الأيام ﴾ يعني أوقات النصر ﴿ نداولها ﴾ نصرفها ﴿ بين الناس ﴾ يعني كذلك جرت عادتنا فيكون النصر تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، والأيام صفة لتلك وهو مبتدأ خبره نداولها أو الأيام خبر ونداولها حال والعامل فيه معنى الإشارة. عن البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير، فقال :" إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القول وأطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " فهزمهم، قال : وأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذاك قوله تعالى :﴿ والرسول يدعوكم في أخراكم ﴾ إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاث مرات، ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه، فقال : أما هؤلاء قد قتلوا، فما ملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال : كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك، فقال : يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولا تسؤني ثم أخذ يرتجز : اعل هبل اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل، قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ قال :" قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " رواه البخاري وغيره. وفي رواية فقال أبو سفيان : قد أنعمت هلم يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر " ائته فانظر ما شأنه " فجاءه فقال أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر أقتلنا يا محمد ؟ قال : اللهم لا إنه يسمع كلامك الآن قال : أنت عندي أصدق من ابن قمية وأبر وقد قال ابن قمية لهم : إني قتلت محمدا، ثم قال أبو سفيان : ألا إن موعدكم بدر الصغرى على رأس الحول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل نعم هو بيننا وبينكم موعد، وانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذ في الرحيل وروي هذا المعنى عن ابن عباس. وفي حديثه قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال الزجاج : الدولة تكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ وإنما كانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ : عطف على علة محذوفة، وفائدة الحذف الإيذان بأن العلة المحذوفة متعددة يطول ذكرها، واللام متعلق بنداولها أي نداولها لحكم ومصالح لا يحصى وليعلم الله المؤمنين ممتازين عند الناس بالصبر والثبات على الإيمان من غيرهم، وجاز أن يقال المعطوف عليه غير محذوف بل هو المفهوم من قوله تعالى :﴿ وتلك الأيام نداولها ﴾ كأنه قال داولنا بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وليعلم والخلق والإفتاء من قبيل مداولة الأيام، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات عمله تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم في الخارج ونفيه على طريقة البرهان لأن علم الله تعالى لازم للمعلوم وبالعكس، ونفي المعلوم مستلزم لنفي العلم كيلا ينقلب العلم جهلا فأطلق الملزوم وأريد به اللازم، فمعنى الآية ليتحقق امتياز المؤمنين من غيرهم عند الناس، وقيل : معناه ليعلم الله علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا، ﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾ : أي يكرم ناسا منك بالشهادة يريد شهداء أحد، أو المعنى وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بالثبات والصبر على الشدائد. أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالا : حي، قالت : فلا أبالي يتخذ الله من عبادة شهداء، فنزل القرآن على ما قالت ﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾. ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ : الكافرين المنافقين الذين لم يظهر منهم الثبات على الإيمان، جملة معترضة بين المعطوفين، وفيه تنبيه على أن الله لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدرجا لهم وابتلاء للمؤمنين.
﴿ وليمحص الله ﴾ التمحيص : التطهير والتصفية ﴿ الذين آمنوا ﴾ من الذنوب ﴿ ويمحق ﴾ المحق نقض الشيء قليلا قليلا ﴿ الكافرين ﴾ يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتميز والاستشهاد والتمحيص وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
﴿ أم حسبتم ﴾ : أم منقطعة بمعنى بل أحسبتم، ﴿ أن تدخلوا الجنة ﴾ : والاستفهام للإنكار، ﴿ ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ﴾، يعني ولما يتحقق الجهاد من بعضكم، ﴿ ويعلم الصابرين ﴾ : نصب بإضمار أن، والواو للجمع كما في نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أو جزم للعطف على يعلم الله وحركت الميم لالتقاء الساكنين بالفتح لفتحة ما قبلها.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أن رجالا من الصحابة كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر أوليت لنا يوما ليوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلى فيه خيرا آو نلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق، فأشهدهم الله أحدا فلم يلبثوا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله تعالى ﴿ ولقد كنتم تمنون الموت ﴾ في سبيل الله، أو المراد به الحرب فإنه سبب الموت ﴿ من قبل أن تلقوه ﴾ تشاهدوه وتعرفوا شدته ﴿ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ﴾ حال من فاعل رأيتموه، وفائدته بيان أن المراد بالرؤية رؤية البصر دون العلم، يعني عانيتم الموت حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم، وفيه توبيخ على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها أو على تمني الشهادة فإنها يستلزم تمني غلبة الكفار.
أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبي الله قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل، وقال ناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به. وأخرج ابن المنذر عن عمر قال : تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد، فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمد، إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي نجيح أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له : أشعرت أن محمد قتل ؟ فقال : إن كان محمد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت هذه الروايات ﴿ وما محمد إلا رسول ﴾ يعني ليس هو ربا يستحيل عليه الفناء والموت وما هو يدعوا الناس إلى عبادته، في القاموس الحمد الشكر والرضا والجزاء وقضاء الحق والتحميد حمد الله مرة بعد مرة ومنه محمد كأنه حمد مرة بعد مرة، قلت : إلى ما لا نهاية لها، قال البغوي : محمد هو المستغرق لجميع المحامد لأن الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمد في الكمال قال حسان ين ثابت :
*** *** *** ألم تر أن الله أرسل عبده *** *** *** *** ببرهانه والله أعلى وأمجد
*** *** *** *** وشقه من اسمه ليجله *** *** *** *** فذو العرش محمود وهذا محمد
﴿ قد خلت ﴾ مضت وماتت ﴿ من قبله الرسل ﴾ فسيموت هو أيضا ﴿ أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ أي رجعتم إلى دينكم الأول من الكفر، إنكار على ارتدادهم بموته صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بموت من سبقه من الأنبياء وبقاء دينهم، وقيل : الفاء للسببية و الهمزة لإنكار أن يجعل موته سببا لارتدادهم ﴿ ومن ينقلب على عقبيه ﴾ أي يرتد عن دينه ﴿ فلن يضر الله شيئا ﴾ بارتداده بل يضر نفسه ﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ على نعمة الإسلام بالثبات عليه.
ذكر أصحاب المغازي أنه نزل رسول لله صلى الله عليه وسلم بالشعب من أحد في سبعمائة وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة كما ذكرنا من حديث البراء بن عازب فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب العدو حتى يثخن ؟ فأخذ أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري رضي الله عنه، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع " فعلق به هام المشركين، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم وأنزل الله تعالى نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوا المشركين بالسيف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا. وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة وكانت الرماة تحمي ظهور المسلمين ويرشقون خيل المشركين بالنبل فلا يقع إلا في فرس أو رجل فتولى هوارب، وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن طلحة صاحب لواء المشركين وكبر المسلمون وشدوا على المشركين يضربونهم حتى اختلت صفوفهم، قال الزبير بن العوام : فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدامهن ما دون أخذهن شيئا. فلما نظر الرماة أصحاب عبد الله بن جبير إلى القوم قد انكشفوا اذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون كما ذكرنا من حديث البراء لم يبق مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، نظر خالد إلى الجبل وقلة أهله واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حملهم من خلفهم وتبعه عكرمة فهزموهم وقتلوهم وثبت أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه فقاتل حتى قتل فجردوه ومثلوه به أقبح المثل، فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم حمل خالد بن الوليد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون من كل وجه وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا وكانت الريح أول النهار صباء فصارت دبورا وكر الناس منهزمين فصاروا ثلاثا ثلثا جريحا وثلثا منهزمين وثلثا قتيلا. روى البيهقي عن المقداد والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه شبرا واحدا وإنه لقى وجه العدو وتفيء إليه طائفة من أصحابه وتفترق مرة فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه ويرمي بالحجر، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا ثمانية من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح، وسبعة من الأنصار الحباب بن منذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن صمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم أجمعين.
روى عبد الرزاق مرسلا عن الزهري قال :" ضرب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون ضربة بالسيف وقاه الله شرها كلها، ورمى عتبة بن وقاص لعنه الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أحجار فكسر منها رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى. قال الحافظ : المراد السن الذي بين الثنية والناب، قال حاطب بن بلتعة : فقلت عتبة بن وقاص وجئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسره ذلك ودعا لي رواه الحاكم. وشجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن شهاب الزهري وأسلم بعد ذلك وسال الدم حتى اخضلّ الدم لحيته الشريفة، ورماه عبد الله بن قمية فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأقبل عبد الله بن قمية يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذبه مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمية وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال : إني قتلت محمدا وصارخ صارخ ألا إن محمد قد قتل ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله. روى الطبراني عن أبي أمامة أنه قال صلى الله عليه وسلم لابن قمية " أقماك الله " فسلط الله عليه تيس جمل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوجب طلحة " ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا، ونقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلي عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا كل يقول وجهي دون وجهك ونفسي دون نفسك وعليك السلام، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت ستة قوسه ونثر رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال له :" رام فداك أبي وأمي " رواه البخاري، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول : انشرها لأبي طلحة، وكان إذا رمى استشرفه النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى موضع نبله، وأصيب يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أبو داود الطيالسي وابن حبان عن عائشة قالت : قال أبو بكر ذلك اليوم كله لطلحة، وذكر محمد بن عمر أن طلحة أصيب يومئذ في رأسه فنزف الدم حتى غشي عليه فنضح أبو بكر الماء في وجهه حتى أفاق، فقال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : خيرا هو أرسلني إليك، فقال : الحمد لله كل مصيبة بعده جلل، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت إن نجوت، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه حتى إذا دنا منه ( وكان أبيّ قبل ذلك يلقي رسول الله صلى الله عليه : فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله ) فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهداه عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول : قتلني محمد، فحمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس، قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم، أليس قال لي أنا أقتلك ؟ فلو بزق علي بعد تلك المقالة قتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف. روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال :" اشتد غضب الله على من قتله نبي، واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " قالوا : وفشا في الناس أن محمدا قد قتل بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه : يا قوم إن كان قد قتل محمد صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات، ثم قال : اللهم إني أعتذرك إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن أسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار، فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا أنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فويلنا مدبرين فأنزل الله تعالى ﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ﴾ الآية.
﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ أي إلا بمشيئة الله وقضائه، أو بإذنه لملك الموت في قبض روحه ﴿ كتابا ﴾ مصدر مؤكد أي كتب كتابا ﴿ مؤجلا ﴾ صفة له أي مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر، فيه تحريض وتشجيع على القتال ﴿ ومن يرد ﴾ بعمله ﴿ ثواب الدنيا نؤته منها ﴾ أي من الدنيا تعريض بمن شغلهم الغنائم عن القتال يعني نؤته منها ما نشاء مما قدرناه له ﴿ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ أي من الآخرة يعني ثوابها ﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾ قلت : لعل المراد بهذه الجملة أنه من يرد بعمله نفس الشكر لا يريد به ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة سيجزيه الله تعالى جزاء لا يدركه فهم ولا يتطرق إليه وهم، يدل عليه إبهام الجزاء يعني يكون جزاؤه ذاته تعالى، في القاموس الشكر عرفان الإحسان ونشره. عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها إلا ما كتب له " . رواه البغوي، وعن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه.
﴿ وكأيّن ﴾ قرأ لابن كثير بالمد والهمزة على وزن كاعن، وبتلين الهمزة أبو جعفر والباقون بهمزة مفتوحة والتشديد ومعناه كم ﴿ من نبي قاتل ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر من المفاعلة على البناء للفاعل والباقون قتل من المجرد على البناء للمفعول ﴿ معه ربّيّون كثير ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : جموع كثيرة، وقال ابن مسعود : الربيون الألوف، قتال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف، وقال الضحاك : الربية الواحدة ألف، وقال الحسن : فقهاء علماء، وقيل : هم الأتباع فالربانيون الولاة والربيون الرعية، وقيل : منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب، وإسناد قتل على قراءة أهل الحجاز والشام إلى الربيون لا إلى ضمير النبي ويكون معه ربيون حالا عنه لأنه يستلزم حينئذ الإضمار ويكون تقدير الكلام ومعه ربيون كثير، ولما قال سعيد بن جبير ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال، وكلمة كأين تدل على الكثرة فالمعنى كأين من نبي قتل معه أي في عسكره وفي قتاله ربيون، وكذا على قراءة الباقين إسناده القاتلة إلى ربيون بالمطابقة ويفهم منه قتال النبي استلزما ﴿ فما وهنوا ﴾ أي ما وهن من بقي منهم بعد القتل وما جبنوا ﴿ لما أصابهم في سبيل الله ﴾ من الجروح والشدائد وقتل الأصحاب ﴿ وما ضعفوا ﴾ عن الجهاد ﴿ وما استكانوا ﴾ يعني ما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وما ذلوا وما تضرعوا ولكن صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم، وأصل استكن من السكون فإن الخاضع الذليل يسكن لصاحبه فيفعل به ما يريد، وهذا تعريض لمن طلب الأمان عن أبي سفيان أو جنبوا عن الحرب ﴿ والله يحب الصابرين ﴾ فينصرهم ويعظم قدرهم.
﴿ وما كان قولهم ﴾ خبر كان ﴿ إلا أن قالوا ﴾ اسمه، وإنما جعل اسما لكونه أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدوث ﴿ ربنا اغفر لنا ذنوبنا ﴾ الصغائر ﴿ وإسرافنا ﴾ أي تجاوزنا عن حد العبودية ﴿ في أمرنا ﴾ في شأننا يعني الكبائر ﴿ وثبت أقدامنا ﴾ على صراطك المستقيم وعلى الجهاد في مقابلة العدو ﴿ وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ يعني ما كان غير هذا القول مقالتهم بعد ما أصابهم الشدائد، ووجه هذه المقالة أن الله سبحانه وعد للمؤمنين النصر والغلبة حيث قال :﴿ حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ وقال :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ﴾ وإن ما يصيبهم من ضرر ومصيبة فإنما هو لأجل ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم حيث قال الله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ﴾ فيجب على المؤمن عند إصابة الضر الاعتراف بذنبه ليحصل الندم والاستغفار ثم دعاء النصر منه تعالى وطلب التثبت :﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ والدعاء بعد الاستغفار والتطهر من الذنوب أقرب إلى الإجابة.
﴿ فآتاهم الله ﴾ ببركة هذا القول ﴿ ثواب الدنيا ﴾ من النصر والغنيمة والملك وحسن الذكر ﴿ وحسن ثواب الآخرة ﴾ من الجنة ومراتب القرب ورضوان من الله أكبر، وخص ثوابها بالحسن لأنه المعتد به عنده ولفضله ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ وضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأنهم هم المحسنون لأن الإحسان أن تعبد ربك كأنك تراه يعني بكمال الحضور وطرد الغفلة فمقتضاه هذا القول، وهذه المعرفة يعني معرفة أن السراء والضراء إنما هو من الله تعالى وأن الكريم :﴿ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ من الطاعة فحينئذ يغير ما بهم من النعمة ويذيقهم بعض النقمة كي يتنبهوا ويستغفروا وكي يتطهروا عن الذنوب باستيفاء جزائها في الدنيا.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ﴾ قال علي رضي الله عنه : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ولو كان محمد نبيا ما قتل، وقيل : معناه إن تطيعوا أبا سفيان ومن معه وتستكينوا لهم وتستأمنوهم ﴿ يردّوكم على أعقابكم ﴾ يعني يرجعوكم إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام من الشرك ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ مغبونين خسران الدنيا والآخرة.
﴿ بل الله مولاكم ﴾ محبكم وناصركم وحافظكم على دينه فلا تتولوا غيره تعالى ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره.
روي أن أبا سفيان والمشركين لما ارتحلوا يوم أحد ١٦ شوال متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به وأنزل الله تعالى ﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا ﴾ يعني أبا سفيان وأشياعه ﴿ الرعب ﴾ أي الخوف. قرأ ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين حيث وقع والباقون بسكونها، وجاز أن يكون إلقاء هذا الرعب حين أراد المشركون نهب المدينة عند الارتحال إلى مكة ولو كان نزول الآية بعد تلك الوقعة فالسين لمجرد التأكيد مجردا عن التسويف، وصيغة المضارع حكاية عن الحال الماضي ﴿ بما أشركوا ﴾ أي بسبب إشراكهم ﴿ بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ أصل السلطنة القوة والمراد به الحجة، والمعنى أشركوا بالله آلهة لم يقم على إشراكها حجة وبرهانا بل أقام الله الحجج والبراهين والعقلية والنقلية على التوحيد ﴿ ومأواهم ﴾ أي المشركين ﴿ النار ﴾ عطف على سنلقي ﴿ وبئس مثوى الظالمين ﴾ النار، فالمخصوص بالذم محذوف ووضع المظهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل.
قال محمد بن كعب : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحد إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه عليه السلام من أين هذا ؟ وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى ﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ بالنصر بشرط التقوى والصبر حين نصركم في ابتداء القتال كما ذكرنا ﴿ إذ تحسّونهم ﴾ متعلق بصدقكم أي تقتلونهم قتلا ذريعا من أحسه إذا أبطل حسه، وقال أبو عبيدة الحسن الاستئصال بالقتل ﴿ بإذنه ﴾ أي بقضائه ﴿ حتى إذا فشلتم ﴾ أي جبنتم وضعفتم، وقيل : معناه ضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل ﴿ وتنازعتم في الأمر ﴾ كما مر أنه تنازع أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المؤمنين وانهزام المشركين فقال أكثرهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ فقال عبد الله : أنسيتم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، وقال عبد الله ومن معه : لا نجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وعصيتم ﴾ أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الواو زائدة ومعناه إذا فشلتم تنازعتم وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي تقدم الفشل على التنازع والواقع أن الفشل أي الجبن إنما وجد بعد التنازع والعصيان فإنهم اجترءوا أول الأمر حيث كروا على عسكر المشركين للنهب، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم، فلا إشكال على كون الواو زائدة، والأظهر أن الواو ليست بزائدة وجواب إذا محذوف يعني إذ فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم منعكم نصره وألقاكم فيما أصابكم، والواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا يقتضي تقديم الفشل على التنازع والعصيان ﴿ من بعد ﴾ متعلق بفشلتم ﴿ ما أراكم ﴾ الله﴿ ما تحبون ﴾ من الظفر والغنيمة ﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ يعني تركوا المركز وأقبلوا على النهب ﴿ ومنكم من يريد الآخرة ﴾ يعني ثبتوا مع عبد الله بن جبير، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الآية، يعني لم يرد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا هؤلاء النفر في ذلك اليوم فقط حتى نزلت فيهم هذه الآية ﴿ ثم صرفكم ﴾ أيها المسلمون بشؤم عصيانكم ﴿ عنهم ﴾ أي عن الكفار بالهزيمة حتى حالت الحالة فغلبوكم ﴿ ليبتليكم ﴾ أي ليمتحنكم حتى يظهر المؤمنين من المنافقين، أو المعنى لينزل البلاء عليكم بما صنعتم، وبهذا يظهر أنه قد يبتلي العامة بمعصية بعضهم فيكون ذلك عقوبة للعاصي وسببا لمزيد الأجر للمطيع ﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ قل يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة تفضلا أو بعدما ندمتم عن المخالفة ﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ يتفضل عليهم بالعفو إذ شاء أو يتفضل عليهم في الأحوال كلها فإن إنزال المصيبة بالمؤمنين بعد معصيتهم أيضا تفضل من الله تعالى حيث يمحصهم من الذنوب، روى البغوي بسنده عن علي أبي طالب قال : ألا أخبركم بأفضل آية من كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ﴾ وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحكم من أن يعود بعد عفوه ".
﴿ إذ تصعدون ﴾ متعلق بصرفكم أو بيبتليكم أو عفا عنكم أو بمقدر كاذكر، قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة تصعدون بفتح التاء من المجرد والقراءة المجمع عليها بضم التاء من الأفعال، قال المفضل : صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد، وقال أبو حاتم : أصعدت إذا مضيت حيال وجهك يعني في مستوى الأرض وصعدت إذا ارتقيت في جبل، وقال المبرد : أصعد أبعد في الذهاب، قال البغوي : كلا الأمرين وقعا فكان منهم مصعّد وصاعد ﴿ ولا تلوون ﴾ أعناقكم ﴿ على أحد ﴾ يعني لا يلتفت بعضكم إلى بعض لشدة الدهش ﴿ والرسول يدعوكم في أخراكم ﴾ يقول : إليّ عباد الله فأنا رسول الله من يكر فله الجنة، الجملة في موضع الحال ﴿ فأثابكم ﴾ فجازاكم عن فشلكم وعصيانكم عطف على صرفكم، جعل الإثابة وهو من الثواب موضع العقاب على طريقة قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ إشارة إلى أنه تعالى عاقبكم على ما فعلتم مكان ما كنتم ترجون من الثواب ﴿ غما بغم ﴾ أي غما متصلا بغم من الاغتمام من القتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل : الغم الأول فوت الغنيمة والثاني ما نالهم من القتل والجرح والهزيمة، وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجرح والثاني ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فأنساهم الغم الأول، وقيل : الغم الأول إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين والثاني إشراف أبو سفيان عليهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة فلما رأوه وضع رجل سهما في قوله فأراد أن يرميه فقال أنا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا على باب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم. قلت : لعل قوله تعالى :﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ صار نازلا في هذا المقام حيث ألقى الرعب في قلب أبي سفيان ومن معه. قلت وجاز أن يكون الغم الثاني ما روي أنه لما أخذ أبو سفيان وأصحابه الرحيل إلى مكة أشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغير المشركون على المدينة فيهلك الذراري والنساء فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وسعد بن أبي وقاص لينظرا، فقال : إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فهي الغارة والذي نفسي بيده لئن ساروا عليها لأسيرنّ إليهم ثم لأناخرنهم، فسار علي وسعد وراءهم فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل بعدما تشاوروا في نهب المدينة فقال صفوان بن أمية : لا تفعلوا، وقيل : معنى الآية فأثابكم غما بسبب غم أذقتم النبي صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ﴾ من الفتح والغنيمة ﴿ ولا ما أصابكم ﴾ من القتل والجرح والهزيمة، ولا زائدة ومعناه لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم، وقيل : معنى الآية أثابكم غما بغم لتمتروا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا على ضر لاحق، قلت : وجاز أن يكون المعنى فأثابكم الله غما بغم يعني أطاعكم الله ثواب غم متصلا بغم وأخبركم بذلك عل لسان نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم بل تفرحوا بثوابه، وقيل : الضمير المرفوع في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم فأساءكم في الاغتمام من آسيته بمالي أي جعلته أسوتي فيه، والباء للسببية أو البدلية يعني اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
﴿ ثم أنزل عليكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ من بعد الغم ﴾ يعني اطمئنانا في قلوب وسكينة يدركه الصوفي عند نزول الرحمة ﴿ نعاسا ﴾ بدل اشتمال من أمنة، وجاز أن يكون مفعولا لأنزل وأمنة حال منه مقدم عليه، ولعل النعاس هاهنا عبارة عن استغراق يحصل للصوفي عند نزول الرحمة بحيث يغفل عما سواه لكمال مشابهته بالنعاس ﴿ يغشى ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا إلى الأمنة والباقون بالياء ردا إلى النعاس ﴿ طائفة منكم ﴾ وهم المؤمنون حقا، روى البخاري وغيره عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس ﴿ وطائفة ﴾ مبتدأ وهم المنافقون ﴿ قد أهمّتهم أنفسهم ﴾ صفة لطائفة يعني ألقتهم أنفسهم في الهموم وكانوا محرومين عن نزول الأمنة والسكينة عليهم، أو المعنى ما كان همهم الإخلاص أنفسهم ﴿ يظنون ﴾ خبر لطائفة ﴿ بالله غير الحق ﴾ منصوب على المصدرية، أي يظنون غير الظن الحق أي الذي يحق أن يظن به تعالى، يعني أنه لا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه لو كان محمد نبيا ما قتل ﴿ ظن الجاهلية ﴾ بدل من غير الحق أو منصوب بنزع الخافض يعني كظن أهل الجاهلية والشرك، والجملة صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله، وجملة وطائفة الخ حال من فاعل يغشى أو من مفعوله ﴿ يقولون ﴾ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو في أنفسهم بدل من يظنون ﴿ هل لنا ﴾ استفهام بمعنى الإنكار﴿ من الأمر ﴾ الذي وعد الله من النصر ﴿ من شيء ﴾ يعني ما لنا من ما وعد نصيب قط، قيل : أخبر ابن أبيّ بقتل بني الخزرج فقال ذلك، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء. أخرج ابن راهويه أنه قال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم فما منا أحد إلا وذقته في صدره، والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها فأنزل الله في ذلك ﴿ ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ﴾ إلى قوله ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن الأمر ﴾ أي الحكم ﴿ كله لله ﴾ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، أو أمر الغلبة الحقيقية لله وأوليائه ﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ وإن كان في بعض الأحيان لم يظهر ذلك لحكمة، قرأ أبو عمر وكله بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والباقون بالنصب على التأكيد، والجملة معترضة ﴿ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ﴾ حال من ضمير يقولون أي يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر ويقولون مخفين بعضهم إلى بعض غير ذلك ﴿ يقولون ﴾ بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان يعني يقولون مخفين منكرين لقولك ﴿ إن الأمر كله لله ﴾ ﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ﴾ كما وعد محمد صلى الله عليه وسلم أو زعم أن الأمر لله ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح المدينة كما كان يقول ابن أبي وغيره ﴿ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل ﴾ في اللوح المحفوظ وقدّر الله عليهم القتل ﴿ إلى مضاجعهم ﴾ أي يخرجون إلى مصارعهم ولم ينفعهم الإقامة بالمدينة بل لا يستطيعون الإقامة ﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم ﴾ أي ليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق ومعطوف على محذوف متعلق بقوله برز تقديره لبرزوا إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء ولمصالح كثيرة وللابتلاء، أو متعلق بفعل محذوف والجملة معطوفة على جملة سابقة يعني ثم أنزل عليكم تقديره وفعل ذلك ليبتلي أو معطوف على قوله كيلا تحزنوا ﴿ وليمحص ﴾ أي ليكشف ويميز ﴿ ما في قلوبكم ﴾ أو المعنى يخلص ما في قلوبكم أيها المؤمنون من الوساوس ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ قبل إظهارها وغنى عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين وإقامة الحجة عليهم.
﴿ إن الذين تولوا منكم ﴾ أي انهزموا منكم يا معشر المسلمين ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وقد انهرم أكثرهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر كما ذكرنا، ولا مع عبد الله بن جبير إلا عشرة ﴿ إنما استزلّهم الشيطان ﴾ أي طلب زلتهم أو حملهم على الزلة يعني المعصية بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، قيل : أزل واستزل بمعنى واحد ﴿ ببعض ما كسبوا ﴾ أي بشؤم ذنوبهم، قال بعضهم : بتركهم المركز وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم وسوسة الشيطان ﴿ ولقد عفا الله عنهم ﴾ هذا هو الذي. قال ابن عمر : لما وقع بعض أهل المصر في عثمان رضي الله عنه وذكر فراره يوم أحد وغيبته عن بدر وعن بيعة الرضوان، فقال : أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه " وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه فبعثه إلى مكة وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى :" هذه يد عثمان " فضرب بها على يده وقال :" هذه لعثمان " ثم قال ابن عمر اذهب بها الآن معك " رواه البخاري، فلا يجوز لأحد الطعن في الصحابة لأجل هذا الفرار، وأيضا كان هذا الفرار قبل ورود النهي عنه ﴿ إن الله غفور حليم ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ﴾ يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه فإنه " من تشبه بقوم فهو منهم " رواه أبو داود عن ابن عمر مرفوعا والطبراني عن حذيفة مرفوعا، لاسيما إذا كان وجه المشابهة موجبا للكفر كما في ما نحن فيه فإن ذلك القول إنكار للقدر وهو كفر ﴿ وقالوا ﴾ كلمة قالوا صيغة ماض لكنه بمعنى الاستقبال بدليل جعل ظرفه إذا دون إذ وإذ للمستقبل وإن دخل على الماضي، وإنما ورد صيغة الماضي لتدل على تحققه قطعا كما في قوله تعالى :﴿ إذ السماء انشقت ١ ﴾ ﴿ لإخوانهم ﴾ في النسب أو في النفاق، قال بعض المفسرين : يعني قالوا لأجل إخوانهم وفيهم لأن قولهم ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ يدل على أنهم لم يكونوا مخاطبين، قلت : وجاز أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار بعضهم الحاضرين وضمير لو كانوا إليهم باعتبار بعضهم المقتولين أو الأموات، والإسناد إلى الجميع باعتبار البعض شائع وتفسير الأخوة بأخوة النفاق لا بتصور إلا في المخاطبين وإلا فالذين كانوا عزّى لم يكونوا منافقين غالبا ﴿ إذ ضربوا في الأرض ﴾ أي ذهبوا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها وإذا متعلق بقالوا ويعتبر ذلك الزمان ممتدا وقع فيه الضرب والموت والقول، قال البيضاوي وكان حقه إذ لقوه قالوا لكنه جيء على حكاية الحال الماضي، واعترض عليه بأن الماضي مع إذا كلمة استقبال لا يكون للحال فكيف يصح حكاية عن الحالة الماضية بفرض وجود ذلك الزمان الآن أو بفرضك متكلما في الماضي فالأول ما قلنا أن قالوا للاستقبال ﴿ أو كانوا غزى ﴾ جمع غازي كعاف وعفّى يعني كانوا على سفرا غزّى فماتوا أو قتلوا ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ مقولة قالوا، وإنما قالوا ذلك لعدم إيمانهم بالقدر فكذلك القدرية ﴿ ليجعل الله ﴾ اللام للعاقبة كما في قوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ ﴿ ذلك ﴾ الاعتقاد الذي دل عليه القول ﴿ حسرة في قلوبهم ﴾ قوله ليجعل إما متعلق بقالوا فالمعنى يصير عاقبة قولهم واعتقادهم ذلك حسرة، وإما متعلق بلا تكونوا والمعنى لا تكونوا مثلهم في النطق بهذا القول والاعتقاد وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي، والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم فإن مخالفتكم إياهم يغمهم ﴿ والله يحيي ويميت ﴾ لا تأثير للسفر والجهاد في الموت ولا لضدهما في الحياة فإنه قد يموت المقيم القاعد دون المسافر الغازي ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ تهديد للمؤمنين على مماثلتهم على قراءة الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء على الغيبة على أنه وعيد للذين كفروا.
﴿ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ﴾ في سبيله. قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم متم مت متنا حيث وقع من مات يمات على وزن خاف يخاف، وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر بالضم حيث وقع من مات يموت على وزن قال يقول وحفص بالضم في هذين الحرفين خاصة وفي الباقي بالكسر ﴿ لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة، و الباقون بالتاء على الخطاب جواب للقسم ساد مسد الجزاء للشرط يعني أن السفر والجهاد لا تأثير له في الموت ولا لضده في الحياة فإن الله هو يحيي ويميت، ولئن كان له نوع تأثير في الموت على سبيل جري العادة فما يترتب على ذلك الموت من مغفرة من الله ورحمته خير مما يجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم يموتوا، فليطلب ذلك الخير ولا يجوز التحسر على ما فات من الدنيا.
﴿ ولئن متم أو قتلتم ﴾ على أي وجه كان ﴿ لإلى الله تحشرون ﴾ لا إلى غيره فعليكم بذل الجهد فلي تحصيل الإنس به تعالى والمحبة حتى يكون حشركم إلى المحبوب وخلاصا عن سجن الفراق.
﴿ فبما رحمة ﴾ تقديم الجار والمجرور للحصر وما مزيدة للتأكيد ومزيد الدلالة على الحصر كائنة ﴿ من الله ﴾ عليك وعلى أمتك ﴿ لنت لهم ﴾ أي للمؤمنين ورفقت بهم واغتممت لأجلهم بعدما خالفوك بتوفيق الله تعالى وحسن إلهامه، ثم بيّن وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله ﴿ ولو كنت فظا ﴾ سيء الخلق جافيا ﴿ غليظ القلب ﴾ قاسيا ﴿ لانفضوا ﴾ تفرقوا ﴿ من حولك ﴾ ولم يسكنوا إليك وحينئذ يتخلعوا عن رقبة الإسلام واستحقاق الجنة ويقل أجرك بقلة أتباعك ﴿ فاعف عنهم ﴾ فيما كان حقك ﴿ واستغفر لهم ﴾ في حقوق الله تعالى.
﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ أمر الحرب وغيره مما يتعلق بالمشاورة وليس فيه عندك علم من الله تعالى استظهارا برأيهم وتطيبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة، روى البغوي بسنده عن عائشة قالت : ما رأيت رجلا أكثر استشارا للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فإذا عزمت ﴾ على شيء بعد المشاورة ﴿ فتوكل على الله ﴾ أي فوّض أمرك إليه واعتمد عليه وكان هذا شأنه عليه الصلاة والسلام، ولذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد :" لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " يعني بعد المشاورة اعتمد على الله تعالى لا على رأيك وآراء المتشاورين لأن بناء المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الأفكار بناء على جري العادة ولا يعلم ما في الواقع من الغيب إلا الله تعالى، وقد يتخبط العقول في النظر وقد يفعل الله تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء، والتوكل أن يلتجئ إلى الله خاصة ويطلب منه أن يجعل عاقبة سعيه خيرا ويحسن الظن به في ذلك، قيل : التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك، وهذا القول مستلزم للالتجاء ولا التجاء في المعصية، وقيل : معناه أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره، قلت : وتخصيص الالتجاء والطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخلون الجنة سبعون ألفا من أمتي بغير حساب، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " متفق عليه، وكذا روى البغوي عن عمران بن حصين. وعن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " رواه الترمذي وابن ماجه. فإن قيل الظاهر من حديث ابن عباس أن المتوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء والاستراق، قلت : لا بل ترك الاعتماد على الأسباب ألا ترى أن الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فالله سبحانه أمر الاستشارة ثم بترك الاعتماد عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث وعلى ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون ولا يسترقون فإن العطف يقتضي المغايرة، ولعل ذلك السبعون ألف لا يتشبثون بالأسباب غالبا، أو المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة، كيف وتشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فإن الأكل والشرب من أسباب الحياة عادة والصلاة والصوم من أسباب دخول الجنة غالبا والواجب إتيانها ﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾ عليه وكونه محبوبا لله تعالى هو المقصد الأسنى، وأيضا التوكل على الله يفضي إلى أن ينصرهم الله ويهديهم إلى الصلاح قال الله تعالى :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ وقال في الحديث القدسي :" أنا عند ظن عبدي بي " .
﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ أحد، إذ يستحيل أن يكون المنصور من الله مغلوبا فإنه يستلزم عجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ﴿ وإن يخذلكم ﴾ ومنعكم نصره ﴿ فمن ذا الذي ينصركم ﴾ يعني لا أحد ينصركم لأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فلا يتصور حقيقة النصر من أحد على تقدير خذلانه منه تعالى ﴿ من بعده ﴾ أي من بعد خدلانه، أو المعنى بعدما جاوزتم الله في الاستنصار لا يتصور النصر من غيره، فهذه الآية برهان على وجوب التوكل على الله عقلا بعدما ثبت وجوبه سمعا بصيغة الأمر ﴿ وعلى الله ﴾ خاصة ﴿ فليتوكل المؤمنون ﴾ لعلمهم وإيمانهم بأنه لا ناصر سواه.
﴿ وما كان لنبي أن يغلّ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغل بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول، والغلول الخيانة في الغنائم فعلى القراءة الأولى قال محمد بن إسحاق : هذا في الوحي والمعنى أنه ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة، وقيل : إن الأقوياء ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه في المغنم فأنزل الله تعالى ﴿ وما كان لنبي أن يغل ﴾ فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله تعالى ﴿ وما كان لنبي أن يغل ﴾ يعني أن الأخذ من الغنيمة لا يحل للنبي وهو غلول، وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسمها كما لم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :" ألم أعهدوا إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري " قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم فانزل الله تعالى هذه الآية، واخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير عن الضحاك مرسلا : أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية، فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة. وعلى القراءة الثانية لها وجهان أحدهما : أن يكون المعنى ما كان للنبي أن ينسب إلى الغلول ويكون مرجع القراءتين واحد، وثانيهما : أن يكون معناه ما كان لنبي أن يخان يعني أن يخونه أمته، قال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه، وأخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فردت رايته ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب فنزلت هذه الآية ﴿ وما كان لنبي أن يغلّ ﴾ ﴿ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ﴾ قال الكلبي : يمثل له ذلك الشيء في النار فيقال له : انزل فخده، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه يفعل ذلك به. عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم يغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع، قال : فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أسود يقال له مدعم، قال : فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم طائر فأصابه فقتله، فقال : الناس هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا والذي نفسي بيده أن الشملة التي أخذ يوم خيبر من الغنائم لم يصبها القاسم تشتعل عليه نارا " فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" شراك أو شراكان من نار " رواه البغوي، وفي الصحيحين عنه هذا الحديث بلفظ :" أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له مدعم " الحديث نحوه، وعن يزيد بن خالد الجهني أنه قال في رجل يوم خيبر فذكروا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فزعم يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن صاحبكم قد غل في سبيل الله " قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز اليهود ما يساوي درهمين " رواه مالك وأبو داود والنسائي. وعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولا ني الله فيأتي أحدكم فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى يأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله تعالى يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر " متفق عليه، وفي رواية ثم رفع يديه ثم قال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ ". وعن عدي بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة " رواه مسلم، وعن أبي هريرة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الغلول وقال :" ألا لا ألقين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني، أقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك " ثم ذكر على رقبته فرس على رقبته شاة على رقبته صامت فذكر نحوه متفق عليه. وعن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه رواه أبو بعلى والبزار، وورد نحو هذا من حديث سعد بن عبادة عند أحمد وابن عمر وعائشة عند البزار وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن مسعود عند الطبراني كلهم في سعاة الصدقة إذا غلوا منها. وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقطع أحدهما من حق صاحبه ذراعا إذا يقطعه طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة " وروي عن قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول ﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾. وروي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه " وروي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه " رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر. وقال : كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها رواه البخاري. عن ابن عباس قال : حدثني عمر قال : كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس : أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنين ثلاثا " رواه مسلم ﴿ ثم توفي كل نفس ما كسبت ﴾ يعطي جزاء ما كسبت وافيا كاملا، كان المناسب بما سبق ثم يوفى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ بالطاعة وهم المهاجرون والأنصار ﴿ كمن باء ﴾ رجع ﴿ بسخط من الله ﴾ بالمعاصي والغلول وهم المنافقين وبعض الفساق ﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ جهنم.
﴿ هم ﴾ يعني من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله ﴿ درجات ﴾ شبهو بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب أو المعنى هم أولوا درجات متفاوتة ﴿ عند الله ﴾ بعض المؤمنين أقرب إلى الله من بعض وبعض الكفار والعصاة في درك أسفل من النار من بعض ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ عالم بأعمالهم فيجازيهم على حسبها.
﴿ لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾ قيل : المراد من آمن من قومه خاصة وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لسائر للمؤمنين لزيادة انتفاعهم به واكتسابهم مزيد الفضل بسببه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الناس تبع لقريش مؤمنهم وكافرهم لكافرهم " متفق عليه، وقال عليه السلام :" لا يزال هذا الأمر - يعني الخلافة – في قريش ما بقي منهم اثنان " متفق عليه، وقيل : أراد به مؤمنو العرب كلهم لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم ينسب إلا بني تغلب قال الله تعالى :﴿ هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم ﴾ ومعنى كونه من أنفسهم يعني من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونون واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به. عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تبغضني فتفارق دينك " قلت : يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال : تبغض العرب فتبغضني " رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن، وقيل : أراد به جميع المؤمنين كما في قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ يعني من الإنس دون الملائكة حتى يتحقق التأثير والتأثر لكمال المناسبة، قال الله تعالى :﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ﴾ ﴿ يتلوا عليهم آياته ﴾ يعني القرآن بعدما كانوا جهالا ﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهر قلوبهم عن العقائد الفاسدة والاشتغال بغير الله ونفوسهم عن الرذائل وأبداتهم عن الأنجاس والأخباث والأعمال القبيحة ﴿ ويعلّمهم الكتاب ﴾ يعني العلوم المستنبطة من الكتاب أو ما يصلح أن يكتب في الصحف ﴿ والحكمة ﴾ العلوم الحقة المستحكمة التي يستفيدها الحكيم من الحكيم بلا توسط كتاب ولا بيان ﴿ وإن كانوا ﴾ مخففة من المثقلة واسمه ضمير الشأن يعني أنه كانوا ﴿ من قبل ﴾بعثته ﴿ لفي ضلال مبين ﴾ أي ظاهر.
﴿ أولما أصابتكم مصيبة ﴾ يوم أحد من قتل سبعين والهزيمة ﴿ قد أصبتم ﴾ يوم بدر من الكفار ﴿ مثليها ﴾ روى أحمد والشيخان والنسائي عن البراء قال :" أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا " . قلت : جعل الله سبحانه الأسير مثل القتيل لكونهم قادرين على قتلهم وكان قتلهم هو المرضى من الله تعالى، وإنما كان عدم القتل باختيارهم الفداء من عند أنفسهم، والظرف يعني لما متعلق بقوله تعالى ﴿ قلتم ﴾ متعجبين أنّى هذه الهزيمة والقتل علينا ونحن مسلمون وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهمزة لإنكار هذا القول والمنع عنه، والجملة معطوفة على ما سبق من قصة أحد إما على قوله ﴿ ولقد صدقكم الله ﴾ يعني ولقد صدقكم الله وعده وقلتم أنى هذا حين المصيبة وإما على قوله ﴿ استزلّهم الشيطان ﴾ ويحتمل العطف على قوله ﴿ لقد منّ الله ﴾ يعني وجود الرسول الله صلى الله عليه وسلم منة من تعالى عليكم وأنتم تريدون أن تنسبوا إليه المصيبة وتجعلوها بسببه، أو معطوف على محذوف تقديره إنما وعدكم النصر بشرط الصبر والتقوى لم تصبروا ولما أصابتكم مصيبة قلتم أنى هذا، أو تقديره أتنازعتم وعصيتم الرسول وفشلتم ولما أصابتكم مصيبة قلتم أنى هذا، جاز أن يكون معطوفا على القول المحذوف إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد تقديره أقلتم أقوالا غير واحد لا ينبغي ولما أصابتكم مصيبة قلتم أنى هذا ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو من عند أنفسكم ﴾ أي بما اقترفتم من المعصية بترك المركز فإن الوعد كان مشروطا بالصبر والتقوى، وقيل يعني باختياركم الفداء عن أسارى بدر. أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل سبعون وفرّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته وهشت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله تعالى ﴿ أو لما أصابتكم مصيبة ﴾ الآية، وقال البغوي : روى عبيدة السلماني عن علي قال : جاء جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فيضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ فداهم نتقوي به على قتال عدونا يستشهد منا عدتهم، فقتل يوم أحد سبعون عدد أسارى أهل بدر فهذا قوله :﴿ هو من عند أنفسكم ﴾.
( فائدة ) : روى سعيد بن منصور عن أبي الصخر مرسلا قال : قتل يوم أحد سبعون أربعة من المهاجرين : حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار، وروى ابن حبان والحاكم عن أبيّ ين كعب قال : أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة، قال الحافظ وكان الخامس سعد مولى حاطب بن بلتعة والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي وروى البخاري عن قتادة قال : ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا من الأنصار، قال قتادة حدثنا أنس قال : قتل منهم يوم أحد سبعون ويوم بئر معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون. ونقل الحافظ محب الطبري عن مالك أن شهداء أحد خمسة وسبعون منها أحد وسبعون من الأنصار، وعن الشافعي أنهم اثنان وسبعون، وسرد في العيون أسماء شهداء أحد فبلغ ستة وتسعين من المهاجرين أحد عشر ومن الأوس ثمانية وثلاثون ومن الخزرج سبعة وأربعون، وفي العيون عن الدمياطي مائة وأربعة أو خمسة وكتاب الله على كونه سبعين ﴿ إن الله على كل شيء ﴾ من النصر والخذلان وغيرهما ﴿ قدير ﴾.
﴿ وما أصابكم ﴾ من المصيبة ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين يعني يوم أحد ﴿ فبإذن الله ﴾ فهو قد حصل بقضاء الله وقدره وسماه إذنا لأنه الأمر التكويني في قوله ﴿ كن فيكون ﴾ والمستحيل في ما لا يشرع هو الأمر التكليفي دون الأمر التكويني ﴿ وليعلم ﴾ يعني لمصالح كثيرة وليعلم ﴿ المؤمنين ﴾.
﴿ وليعلم الذين نافقوا ﴾ ممتازين عند الناس، يعني يتحقق امتيازهم عند الناس فيعرفوا إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء ﴿ وقيل لهم ﴾ أي للمنافقين، عطف على نافقوا أو كلام مبتدأ ﴿ وتعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾ هذا مقولة القول يعني قاتلوا الكفار في سبيل الله إن استطعتم وإلا فادفعوهم بتكثيركم سواد المؤمنين فاستقيموا ولا تفروا، أو المعنى قاتلوا في سبيل الله بالإخلاص إن كنتم مؤمنين حقا أو ادفعوا الأعداء عن ذراريكم إن لم تقاتلوا الله تعالى ﴿ قالوا ﴾ يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه في جواب المؤمنين حين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة ﴿ لو نعلم قتالا ﴾ هذه المصادمة قتالا ﴿ لأتبعناكم ﴾ لكنه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس في التهلكة، أو المعنى أنه لو تكونوا على الحق ونعلمه قتالا في سبيل الله لاتبعناكم، أو المعنى لو نعلم أنه قتال معنا لاتبعناكم لكن ليس هذا قتالا معنا ولا قصد للمشركين إلا قتالا معكم، أو المعنى لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه إنما قالوه استهزاء بهم ﴿ هم ﴾ أي المنافقون ﴿ للكفر ﴾ اللام بمعنى إلى أي إلى الكفر ﴿ يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ أي إلى الإيمان يعني أن المنافقين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر كالشاة العائرة بين الغنمين إن أصابهم في الإسلام خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا إلى الكفر، فلما كان يوم أحد يوم الفتنة صاروا اقرب إلى الكفر فإنه أول يوم ظهر فيه كفرهم ونفاقهم، قيل : معناه هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان فإن انخزالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيل للمؤمنين ﴿ يقولون بأفواههم ﴾ يعني يظهرون الإسلام بأفواههم ﴿ ما ليس في قلوبهم ﴾ وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد لنفي صدروه عن الاعتقاد وتحقير لهم، يعني ليس لهم من الإيمان إلا مجرد القول، وهذه الجملة بيان لحالهم مطلقا لا في هذا اليوم ولذا فصل عما سبق ﴿ والله أعلم بما يكتمون ﴾ من النفاق منكم.
﴿ الذين قالوا ﴾ مرفوع بدلا من الضمير المرفوع في يكتمون أو منصوب على الذم والوصف للذين نافقوا، أو مجرور بدلا من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم ﴿ لإخوانهم ﴾ أي لأجل إخوانهم في النسب وفي حقهم عمن قتل يوم أحد ﴿ وقعدوا ﴾ حال بتقدير فد أي قالوا قاعدين عن القتال ﴿ لو أطاعونا ﴾ في القعود ﴿ ما قتلوا ﴾ كما لم نقتل، قرأ هشام ما قتّلوا بالتشديد لتكثير والباقون بالتخفيف ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فادرءوا ﴾ فادفعوا ﴿ عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ إن الحذر يدفع القدر.
روى الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن خزيمة وصححه والبغوي عن جابر بن عبد الله قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا جابر مالي أراك منكسرا ؟ قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا، قال :" أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت بلى يا رسول الله قال :" ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء الحجاب وأحيا أباك وكلمه كفاحا، قال : يا عبدي تمنّ عليّ أعطيك، قال : يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية، قال الرب تبارك وتعالى : إنه سبق مني أنهم لا يرجعون، قال : فأنزلت فيهم ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا ﴾ الآية. وروى مسلم وأحمد وأبو داود والحاكم والبغوي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى لله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعدّ الله لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا رأوا ما نحن فيه من النعمة وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فقال الله تعالى عز وجل : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى " وروى ابن المنذر عن أنس قال : لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا : يا ليت مخبرا يخبر إخواننا الذي صرنا إليه من كرامة الله، فأوحى إليهم ربهم أنا رسولكم إلى إخوانكم فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذ أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء وقالوا نحن في النعمة وآباؤنا وإخواننا في القبور فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا ﴾ قرأ هشام لا يحسبن بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب، وقرأ ابن عامر قتّلوا هنا وفي الحج بتشديد التاء فيهما لكثرة المقتولين، والباقون بالتخفيف، والخطاب لأولياء الشهداء أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون خطابا للمنافقين الذين قالوا﴿ لو أطاعونا ما قتلوا ﴾ ويكون حينئذ داخلا تحت قل، وعلى قراءة هشام الضمير راجع إلى أولياء الشهداء وجاز إسناده إلى ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الضمير راجع إلى المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا، وجاز إسناده إلى الذين قتلوا أو المفعول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة وإنما لا يجوز حذف أحد المفعولين بلا قرينة لأنه شطر الجملة ﴿ في سبيل الله ﴾ يعني في الجهاد، لفظ في سبيل الله عام يشتمل من مات في شيء من أمور الخير غير أن لفظ القتل لا يشتمله عبارة لكن بدلالة النص يدخل فيه بالطريق الأولى أو بالمساواة أو بالقياس من جاهد في الله مع نفسه جهادا أكبر فإنه أشد وأشق من الجهاد الأصغر ﴿ أمواتا ﴾ غير مشتعرين باللذات والنعماء ﴿ بل أحياء ﴾ روى أبو حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى بل أحياء قال : في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا، قال البغوي أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. روى ابن مندة عن طلحة بن عبد الله رضي الله عنه قال : أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :" ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت فيها " وعلى هذا القول يكتسب الشهيد الدرجات وثواب الطاعات بعد الموت أيضا، والشهيد لا يبالي في القبر ولا يأكله الأرض وهذا أيضا أثر من آثار حياته. روى البيهقي من طرقه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وابن سعد والبيهقي من طرق أخر عنه ومحمد بن عمرو عن شيوخه عن جابر قال : استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين فأتيناهم فأخرجناهم رطابا تثنى أطرافهم، قال شيوخ محمد بن عمرو : وجدوا والد جابر ويده على جرحه فأميطت يده على جرحه فانبعث الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر : فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم والنمرة التي كفن فيها كما هي على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة، وأصابت المسحاة رجل رجل منهم، قال الشيوخ وهو حمزة فانبعث الدم، قال أبو سعيد الخدري : لا ينكر بعد هذا منكر ولقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا نثرة من التراب فاح عليهم ريح المسك، قال البغوي : قال عبيد بن عمير : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أشهد أن هؤلاء عند الله يوم القيامة، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه " وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة والبيهقي عن أبي ذر وابن مردويه عن خباب بن الأرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرأ ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾ الآية، ثم قال :" لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلة ولا أحسن لمة منك "
( مسألة ) هل يبلغ غير الشهيد درجة الشهيد ؟ قلت : نعم وما ورد في فضائل الشهداء لا يقتضي نفي الحكم عمن عداهم، وقد روى أبو داود والنسائي عن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين فقتل أحدهما في سبيل الله ثم مات آخر بعد جمعة أو نحوها فصلوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما قلتم ؟ قالوا : دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله ؟ أو قال : صيامه بعد صيامه بينهما أبعد مما بين السماء والأرض " وقد ذكرنا بحث مقر الأنبياء والشهداء والصديقين والمؤمنين وغيرهم في تفسير سورة المطففين ومسألة حياة الشهداء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ﴾ ﴿ عند ربهم ﴾ أي ذو زلفى وقرب منه تعالى قربا بلا كيف. قال الشيخ الشهيد شيخي وإمامي رضي الله عنه ورضي عنا بسره السامي أنه يرى بنظر الكشف تجليات ذاتية على الشهداء لما بلوا ذواتهم في سبيل الله قال الله تعالى :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ فهم قدموا لأنفسهم بدل الذوات فجزاهم الله تعالى بالتجليات الذاتية الصرفة ﴿ يرزقون ﴾ من الجنة تأكيد لكونهم أحياء.
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ﴾ أبهم الله سبحانه ما آتاهم لكونه بحيث لا يدركه فهم ولا يحيط بتفصيله عبارة. روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في المصنف وأحمد ومسلم وابن المنذر عن مسروق قال : سألنا عبد الله يعني ابن مسعود عن هذه الآيات فقال قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أرواحهم في جوف طير خضر " ولفظ عبد الرزاق " أرواح الشهداء كطير خضر لها قناديل من ذهب معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ ففعل ذلك ثلاث مرات " وفي رواية فقال :" سلوني ما شئتم، فقالوا : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ؟ فلما رأوا أنهم لم تتركوا من أن يسألوا شيئا، قالوا : يا ربنا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " ﴿ ويستبشرون ﴾ يسرون ويفرحون ﴿ بالذين لم يلحقوا بهم ﴾ الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والطاعة والجهاد، أو المعنى لم يلحقوا بهم في الدرجة ﴿ من خلفهم ﴾ زمانا أو رتبة ﴿ ألا خوف ﴾ بدل اشتمال من الذين أي بأن لا خوف ﴿ عليهم ولا هم يحزنون ﴾ قيل : معناه يحتمل أهم يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم أن لا خوف عليهم يعني على الشهداء من جهتهم، أي من جهة الإخوان لأجل حقوق العباد في ذمتهم ومخاصمتهم معهم لأنه تعالى سيرضيهم منهم ويمنعهم عن المخاصمة، قلت : ويحتمل أنهم يستبشرون بإخوانهم وأحبائهم الذين لم يلحقوا بهم في درجتهم أن لا خوف على إخوانهم ولا هم يحزنون لما أعطى الله الشهداء درجة الشفاعة في إخوانهم وأحبابهم. أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته " وأخرج أحمد والطبراني مثله من حديث عبادة بن الصامت والترمذي وابن ماجه مثله من حديث المقدام بن معد يكرب، وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " وأخرج البزار وزاد في آخره ثم المؤذنون، قلت : لعل المراد بالعلماء الذين سبقوا على الشهداء في الشفاعة العلماء الراسخون علماء الحقيقة.
﴿ يستبشرون ﴾ كرره للتأكيد، أو يقال الأول بشارة بدفع الضرر وهذا بشارة بجلب النفع ﴿ بنعمة من الله ﴾ ثوابا لأعمالهم ﴿ وفضّل ﴾ زيادة عليه من الله تعالى وذلك رؤية الله ومراتب قربه وتنكيرهما للتعظيم ﴿ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ قرأ الجمهور بفتح أن عطفا على فضل فهو من جملة المستبشر به. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تكفل الله لمن جاهد في سبيل الله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من نال من أجر وغنيمة " وقال :" والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه تبعث دما اللون لون الدم والريح ريح المسك " رواه. وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة " رواه الدرامي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، ورواه النسائي بسند صحيح ورواه الطبراني في الوسط عن أبي قتادة بسند صحيح، والآية تدل على عدم ضياع أجر للمؤمنين عامة شهيدا كان أو غيره كأن الشهداء يستبشرون بحال جميع المؤمنين، وقرأ الكسائي على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم ومن لا إيمان له أعماله محبطة لا أجر عليها، وقيل : هذه الآية نزلت في شهداء بدر كانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وهذا القول ضعيف، وقراءة قتّلوا بالتشديد يأبي عنه لدلالتها المقتولين.
وقال قوم : نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق وعبد الله بن أبي عن أنس رضي الله عنه وغيره قال : قدم عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة العامري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له فرسين وراحلتين فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال :" لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك " فلم يسلم ولم يبعد وقال : يا محمد إن الذي تدعوا إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني أخشى عليهم أهل نجد " فقال أبو براء : أنا لهم جار، فبعث المنذر بن عمر رضي الله عنه أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين من الأنصار يسمون القراء وفيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر في صفر سنة أربع حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فبعثوا حرام بن ملحان رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر، فقال حرام بن ملحان : إني رسول رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم استصرخ عامر بن الطفيل عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لا تخفوا جوار أبي براء فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعل وذكوان فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوهم حتى قتلوا كلهم إلا كعب بن زيد تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر له الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عمل أبي براء، فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخبار عامر إياه. روى محمد بن إسحاق كان يقول : عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه ؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله. وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على عدوهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحبطون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان " وروى أحمد والشيخان والبيهقي عن أنس والبيهقي عن ابن مسعود والبخاري عن عروة أن أناسا جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث معنا رجالا يعلمون القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان قالوا اللهم بلغ نبينا وفي لفظ إخواننا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، فأوحى الله أنا رسولهم إليكم أنهم قد رضوا ورضي عنهم، قال أنس فقرأنا فيهم بلغوا عنا قومنا إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ، فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين صباحا على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان الذين عصوا الله ورسوله " قال البغوي في قول أنس : فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله عز وجل ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ﴾ الآية، قلت : والاختلاف وإن وقع في سبب نزول هذه الآية كما ذكرنا لكن بحسب عموم اللفظ جميع الشهداء داخلون في حكم هذه الآية والله أعلم.
( مسألة ) أجمعوا على أن الشهيد لا يغسل لأن شهداء أحد لم يغسلوا وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أن ينزع الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس، وروى النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن ثعلبة قوله صلى الله عليه وسلم :" زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في سبيل الله إلا هو يأتي يوم القيامة بدماء لونه لون الدم وريحه ريح المسك " وفي الباب حديث جابر " رمي رجل بسهم في صدره فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه أبو داود بإسناد على شرط مسلم.
( مسألة ) واختلفوا في مجنب استشهد هل يغسل أم لا ؟ فقال أبو حنيفة وأحمد : يغسل، وقال مالك والشافعي : لا يغسل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :" زملوهم بدمائهم " ولنا : قصة حنظلة بن أبي عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني رأيت الملائكة تغسل وحنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة " قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنه خرج وهو جنب فولده يقال بنو غسيل الملائكة " رواه ابن الجوزي من حديث محمد بن سعد مرسلا، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده، قال الحافظ : ظاهره أن الضمير في قوله عن جده يعود على عباد فيكون الحديث من مسند الزبير وهو الذي يمكنه السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، ورواه الحاكم في الإكليل من حديث أبي أسيد وفي إسناده ضعف، ورواه الحاكم في المستدرك والطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس، وفي إسناده الحاكم معلى بن عبد الرحمن متروك، وفي إسناد الطبراني حجاج مدلس، وفي إسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي ضعيف.
( مسألة ) اختلفوا في الصلاة على الشهيد ؟ فقال الشافعي : لا يصلى عليه، وقال أبو حنيفة ومالك : يصلى عليه وعن أحمد كالمذهبين. قلنا : الصلاة إما لمغفرة الذنوب أو لرفع الدرجات تكريما للميت والشهيد أولى بالتكرمة ولو كان التكريم في وترك الصلاة كان النبي صلى اله عليه وسلم أولى به وقد صلى عليه إجماعا – والأصل هو الصلاة، احتج الشافعي بحديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول : أيهما أكثر قرآنا ؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في ثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا " رواه البخاري والنسائي وابن ماجه وابن حبان، وحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يوم أحد يكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحر ودفنهم ولم يصل عليهم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن والحاكم وصححه، وقد أعله البخاري وقال : غنه غلط فيه أسامة بن زيد فقال : عن الزهري عن أنس ورجح رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر يعني هو الحديث الأول والله أعلم. وأجيب عن احتجاج الشافعي بأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد لما كان به من ألم الجراح وكسر الرباعية ولعله صلى عليهم غيره صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا الاحتمال ما روى أبو داود في المراسيل والحاكم والطحاوي من حديث أنس أيضا قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، زاد الطحاوي قال عليه السلام :" أنا شهيد عليكم يوم القيامة " فإن قيل : روى هذا الحديث الدارقطني وقال : لم يقل هذه الزيادة غير عثمان بن عمرو وليست محفوظة ؟ قلنا : قال ابن الجوزي : عثمان مخرج عنه في الصحيحين والزيادة من الثقة مقبولة، قال الطحاوي : لو كان ترك الصلاة على الشهيد سنة لما صلى على حمزة، فظهر أنه صلى على حمزة لفضله ولم يصل على غيره لما كان به من وجع، وقد ورد ما يعارض ما تقدم عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها حديث جابر قال : فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال : رجل رأيته عند تلك الشجرة، فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب، ثم جيء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلى عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم وقال :" حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة " رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه إلا في سنده مفضل بن صدقة أبو حماد الحنفي قيل هو متروك وضعفه النسائي ويحيى، لكن قال الأهوازي : كان عطاء بن مسلم يوثقه وكان أحمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما، وقال ابن عدي : ما أرى به بأسا فالحديث لا يسقط عن درجة الحسن. ومنها حديث ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجّي ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتل فيوضعون إلى حمزة فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة " رواه ابن إسحاق قال : حدثني من لا أتهمه عن مقسم مولى ابن عباس عنه وفي مقدمة مسلم عن شعيبة عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد فسألت الحكم فقال : لم يصل عليهم " قال السهيلي : الحسن بن عمارة ضعيف، وقال الحافظ : وروى هذا الحديث الحاكم وابن ماجه والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله، قال الحافظ : يزيد فيه ضعف يسير، وقال ابن الجوزي : قال ابن المبارك ارم به، وقال البخاري : منكر الحديث، وقال النسائي : متروك. ومنها حديث ابن مسعود نحوه يعني صلى على حمزة سبعين صلاة رواه أحمد والحديث ضعيف، وقال ابن همام : لا ينزل عن درجة الحسن. ومنها حديث أبي مالك الغفاري أخرجه أبو داود في المراسيل " أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى ع
روى الفرابي والنسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال :" لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين فانتدبوا الحديث. قال محمد بن عمرو : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد يوم السبت ١٥ باتت وجوه الأوس والخزرج على بابه خوفا من كرة العدو فلما طلع الفجر من يوم أحد ١٦ أذن بلال وخرج ينتظر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرج أخبره رجل مزنيّ قول سفيان حين بلغوا الروحاء ارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول : يا قوم لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم صفوان وما كان برشيد والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما فقالا : يا رسول الله اطلب العدو ولا يقحمون على الذرية، فأمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم لا يخرج معنا إلا من شهد القتال أمس، قال أسيد بن حضير وبه تسع جراحات يريد أن يداويها لما سمع النداء سمعا وطاعة لله ورسوله ولم يعرج على دواء جرحه، وخرج من بني سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا وبخراش بن الصمة عشر جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا وبعطية بن عامر تسع جراحات، ووثب المسلمون إلى سلاحهم وما عرجوا على دواء جراحاتهم. قال ابن عقبة :. وأتى عبد الله بن أبي فقال : يا رسول الله أنا أركب معك، قال : لا، قال ابن إسحاق ومحمد بن عمرو : أتى جابر بن عبد الله فقال : يا رسول الله إن مناديك نادى أن لا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصا على الحضور ولكن أبي خلفني على أخوات لي سبع، وفي لفظ تسع وقال : لا ينبغي لي ولك أن نترك هذه النسوة ولا رجل معهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله تعالى يرزقني الشهادة وكنت رجوتها فتخلفت عليهن فاستأثر علي بالشهادة فأذن لي يا رسول الله أسير معك فأدن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جابر : فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري استأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم. قال ابن إسحاق ومتابعوه : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا بهم قوة وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد موضع من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم الاثنين أو يوم الثلاثاء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران فتوقد كل رجل نارا فأوقدوا خمسمائة نار ولقي معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك، وجزم أبو عمرو وابن الجوزي بإسلامه. وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك من أصحابك ولوددنا أن الله كان قد عفاك ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقي أبا سفيان بالروحاء وقد أجمعوا للرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لقد أصبنا جلة أصحابهم وقادتهم لنكرنّ على بقيتهم فلنفرغن عنهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : وما وراءك ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الخنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال : فإني والله أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك مع كلام صفوان أبا سفيان ومن معه وقت أكبادهم فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب. ومر بأبي سفيان ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة للميرة : فقال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نعم، فإذا جئتموه فأخبروا أنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قاله أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك الاثنين ١٧ الثلاثاء ١٨ والأربعاء ١٩ وأنزل الله تعالى ﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ دعاءه بالخروج للقتال ﴿ من بعد نما أصابهم القرح ﴾ الجراح يوم أحد، الموصول منصوب على المدح أو مبتدأ خبره الجملة الواقعة بعده ﴿ للذين أحسنوا منهم واتقوا ﴾ من للبيان والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل دون التقييد لأن المستجيبين كلهم كانوا محسنين متقين ﴿ وأجر عظيم ﴾ وجاز أن يكون الموصول صفة للمؤمنين وتم الكلام على قوله :﴿ من بعد ما أصابهم القرح ﴾ وما بعده ابتداء، وقال مجاهد وعكرمة خلافا لأكثر المفسرين : أنه نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال : يا محمد موعد ما بيننا وبينك بموسم بدر الصغرى القابل إن شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيننا وبينك إن شاء الله، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان من مكة في قريش وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل مجنة في ناحية مر الظهران، ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الأشجع وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني واعدت محمد وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرءة ولأن الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمر ويضمنها فضمنها سهيل، وأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعدنا أبا سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها، فقال : بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد، فكره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج واستبشر المنافقون واليهود وقالوا : محمد لا يفلت من هذا الجمع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خشي أن لا يخرج معه أحد، وجاء أبو بكر وعمر وقد سمعا ما سمعا وقالا : يا رسول لله إن الله مظهر دينه ومعز نبيه وقد واعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف فسر لموعدهم فوالله إن ذلك لخير فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي بيده لأخرجن ولو وحدي " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وأتوا بدر الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنين ﴿ حسبنا الله نعم الوكيل ﴾ حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها يقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليال خلون منه فإذا مضت ثمان ليال تفرق الناس إلى بلادهم، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحد من المشركين، وواقفوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين وانقلبوا إلى المدينة سالمين غانمين فحينئذ قوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله ﴾ الخ، والصحيح هو القول الأول واقتضاه صنيع البخاري ورجحه ابن جرير، قلت : ويؤيد القول الأول سياق الآية حيث قال الله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ﴾ مدحهم بأنهم خرجوا للجهاد واستجابوا لله وللرسول مع كونهم مجروحين متألمين بالجراحات وليس ذلك إ لا في غزوة حمراء الأسد، وأما غزوة بدر الصغرى فكانت بعد سنة وحينئذ كانوا أصحاب سالمين وبعدية إصابة القرح إن لم يحمل على الفور، فلا وجه لتخصيص هذه الآية بغزوة بدر الصغرى بل يصدق على غزوة الخندق وغيرها والله أعلم.
﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ إن كان نزول الآيتين معا فيكون الذين قال لهم الناس بدلا من الذين استجابوا، وإن كان نزولهما على التعاقب والتفرق فالموصول هاهنا أيضا إما منصوب على المدح أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين قال لهم الناس أو مبتدأ خبره فانقلبوا، قال أكثر المفسرين : المراد بالناس هاهنا الركب من عبد القيس الذين جاءوا من أبي سفيان والنبي صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد كما مر ذكره، وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالناس هاهنا نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء في المدينة بخبر أبي سفيان والمشركين والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتجهزون لغزوة البدر الصغرى للموعد، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسه كما يقال فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه، والظاهر عندي أن نزول هذه الآية في غزوة بدر الصغرى والمراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي والآية في غزوة حمراء الأسد وبينهما سنة، ووجه قولي إن الظاهر نزول هذه الآية في بدر الصغرى أن قوله :﴿ إن الناس قد جمعوا لكم ﴾ يدل على حدوث جمعهم الآن بعد ما لم يكن وذالا يتصور إلا في بدر الموعد وأما حين انصرافهم من المدينة بعد وقعة أحد فهم كانوا مجتمعين على غزوتين يعرف أحدهما بغزوة حمراء الأسد وهي المذكورة في الآية المتقدمة والثانية بغزوة البدر الصغرى وهي المذكورة في هذه الآية والله أعلم ﴿ إن الناس ﴾ يعني أبا سفيان وغيره من المشركين ﴿ قد جمعوا لكم ﴾ جموعا وآلات الحرب ﴿ فاخشوهم فزادهم إيمانا ﴾ عطف على قال لهم الناس والضمير المستكن لله تعالى أو للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده، والبارز راجع إلى الموصول والمعنى أنهم لم يلتفتوا أو لم يضعفوا وأظهروا حمية الإسلام وبهذا العمل اقتربوا إلى الله سبحانه وصعدوا مدارج الرفعة زيادة الإيمان بزيادة مدارج القرب، ومن قال : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فنظره مقصود على الإيمان المجازي ﴿ وقالوا ﴾ عطف على زادهم ﴿ حسبنا الله ﴾ حسب مصدر بمعنى الفاعل أي حسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه، ويدل على أنه بمعنى الحسيب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك كما لا يستفيد اسم الفاعل ﴿ ونعم الوكيل ﴾ أي نعم الموكول إليه الأمور هي المخصوص بالمدح محذوف، وفي عطف نعم الوكيل وهو إنشاء على جملة حسبنا الله وهو خير مبارزة بين الفحول، فقيل العطف من الحاكي ولا عطف في الكلام والحكي تقديره قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل يعني قالوا هذا القول وهذا القول، والظاهر أن المحكي هو المشتمل على العطف لما روي عن ابن عباس قال :" حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقال محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " رواه البخاري. فإن إفراد الضمير في قوله قالها إبراهيم يدل على أن الواو من المحكي لو كان من الحكاية لقال حسبنا الله ونعم الوكيل قالهما إبراهيم بضمير التثنية، فقال بعض الأفاضل في توجيه العطف : أن قولهم حسبنا الله كناية عن قولهم اعتمدنا على الله وقولهم نعم الوكيل كناية عن قولهم إنا وكلنا أمورنا إلى الله، والصحيح عندي أن الجمل التي لا محل لها من الإعراب جاز أن يعطف بعضها على بعض من غير مبالاة بالاختلاف خبرا وإنشاء، وقد ورد في الحديث أنه جاءت امرأة فقالت : يا رسول الله إن أبي زوجني ابن أخيه ونعم الأب هو الحديث، وقال الله تعالى :﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ﴾.
﴿ فانقلبوا ﴾ فانصرفوا ﴿ بنعمة من الله ﴾ بما ذهبوا به معهم من المدينة من الإيمان والعافية والأموال والعز ﴿ و فضّل ﴾ زيادة في الإيمان بكثرة الثواب وزيادة في الأموال بربح في التجارة وزيادة في العز حيث ذهبوا لقتال العدو وفشل عدوهم وزيادة الأموال إنما يتصور في غزوة بدر الصغرى فإنهم وافقوا هناك سوقا فاتجروا وربحوا كما ذكرنا، وأما في غزوة حمراء الأسد فلم يكن هناك تجارة ﴿ لم يمسسهم سوء ﴾ الجملة حال من فاعل لم يصبهم أي في حال لم يصبهم أذى من جراحة أو قتل أو نهب ﴿ واتبعوا رضوان الله ﴾ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين، قال البغوي : قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي الله عنهم ﴿ والله ذو فضل عظيم ﴾ فيه تحسر للمتخلف وتخطئة رأيه.
﴿ إنما ذلكم ﴾ يعني نعيما أو أبا سفيان ﴿ الشيطان ﴾ خبر وما بعده بيان شيطنته، أو ما بعده صفة على طريقة ولقد أمر على اللئيم يسبني، أو الشيطان صفة والخبر ما بعده، وجاز أن يكون ذلك إشارة إلى قولهم :﴿ إن الناس قد جمعوا لكم ﴾ والشيطان خبره بتقدير المضاف يعني ذلك القول فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوكم وتجنبوا عنهم ﴿ يخوف أولياءه ﴾ القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون أولياءه منصوبا بنزع الخافض والمفعول محذوف تقديره يخوفكم بأوليائه وكذلك قراءة أبيّ بن كعب، وقال السدي : يعظم أولياءه، في صدوركم لتخافوهم ولما قرأ ابن مسعود يخوفكم أولياءه، وعلى هذين الوجهين أولياءه أبو سفيان وأصحابه ﴿ فلا تخافوهم ﴾ إذ لا قوة لأحد إلا بالله الضمير المنصوب للناس الثني على الوجه الأول وللأولياء على الوجهين الأخيرين ﴿ وخافون ﴾ أن لا أجعلهم غالبين عليكم كما جعلت يوم أحد فإن الغلبة من عندي فلا تخالفوني في أمري ونهيي وجاهدوا مع رسولي، أثبت الياء في الوصل فقط أبو عمرو وحذفها الباقون في الحالين ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ فإن مقتضى الإيمان أن يخاف الله ولا يخاف غيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت استعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعونك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا أن يضروك بشيء لا يضرونك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس.
﴿ ولا يحزنك ﴾ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من الأفعال، هذا وقوله تعالى ليحزنني وليحزن حيث وقع إلا في الأنبياء ﴿ لا يحزنهم الفزع ﴾ وقرأ أبو جعفر من الأفعال في الأنبياء خاصة لا غير والباقون بفتح الياء وضم الزاي في الكل ﴿ الذين يسارعون في الكفر ﴾ قال الضحاك : هم كفار قريش، وقال غيره : هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار وهو الأصح، يعني لا يحزنك مسارعتهم في الكفر لا خوفا على الإسلام والمسلمين لما ﴿ إنهم لن يضروا الله ﴾ أي أولياء الله بمسارعتهم في الكفر وإنما يضرون بها أنفسهم ﴿ شيئا ﴾ يحتمل المفعول والمصدر، ولا ترحما على الكافرين لأنه ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظا ﴾ نصيبا ﴿ في ﴾ ثواب ﴿ الآخرة ﴾ حيث كانوا مخلوقين أشقياء وكان مبادئ تعيناتهم مستندة إلى اسمه المضل ونحوه فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر ﴿ ولهم ﴾ مع الحرمان عن الثواب ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان ﴾ يعني استبدلوا الكفر بالإيمان وهم أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه فإذا جاء بالبينات اختاروا الكفر وتركوا الإيمان حرصا على الدينار وعنادا ﴿ لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ﴾.
﴿ ولا يحسبن ﴾ قرأ حمزة بالتاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريضا بالذين كفروا لأنهم هم الحاسبون دون النبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يحسب، والباقون بالياء على الغيبة، فعلى قراءة الجمهور فاعله ﴿ الذين كفروا ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾ مفعول قائم مقام المفعولين والإملاء الإمهال وإطالة العمر وتخليهم وشأنهم، وعلى قراءة حمزة الذين كفروا مفعول وما بعده بدل منه وهو ينوب عن المفعولين، أو هو المفعول الثاني على تقدير مضاف في أحد المفعولين يعني لا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لهم، وما مصدرية كان حقها أن يفصل في الخط ولكنها وقعت في الأمام متصلة فاتبع ﴿ إنما نملي لهم ﴾ استئناف لبيان علة ما تقدم من الحكم ﴿ ليزدادوا إثما ﴾ اللام لام الإرادة، والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وإرادة المعاصي وعند المعتزلة اللام لام العاقبة ﴿ لهم عذاب مهين ﴾ قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة، وقتال عطاء : في قريظة والنضير. عن أبي بكر قال : سئل رسول صلى الله عليه وسلم أي " أي الناس خير ؟ قال :" من طال عمره وحسن عمله " قيل : فأي الناس شر ؟ قال :" من طال عمره وساء عمله " رواه أحمد والترمذي والدارمي، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ينادي منادي يوم القيامة أين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله تعالى ﴿ أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾ " رواه البيهقي في الشعب.
﴿ ما كان الله ليذر ﴾ اللام لتأكيد النفي ﴿ المؤمنين على ما أنتم عليه ﴾ من اختلاط المخلصين بالمنافقين والخطاب لعامة المخلصين والمنافقين المختلطين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ حتى يميز ﴾ قرأ حمزة والكسائي هاهنا وفي الأنفال بضم الياء كسر الميم وإسكان الياء مخففة من الأفعال، والباقون بفتح الياء من ماز يميز يقال مزت الشيء ميزا إذا فرقته يعني يفرق ﴿ للخبيث ﴾ الكافر﴿ من الطيب ﴾ أي المؤمن أما بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما ﴾ أو بالوقائع مثل واقعة أحد حيث تميز فيه المنافقون بالانخزال عن المؤمنين ﴿ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ حتى تعرفوا المنافقين من المؤمنين قبل التميز من الله تعالى ﴿ ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ﴾ فيطلعه على البعض من علوم الغيب أحيانا كما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أحوال المنافقين بنور الفراسة، نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجن :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا ٢٦ إلا من ارتضى من رسول ﴾ وقد ذكرنا بحث الاطلاع على علم الغيب في تفسير تلك الآية. قال البغوي : قال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عرضت علي أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأنثى عليه ثم قال :" ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به " فقام عبد الله بن حذافة السهمي : فقال من أبي يا رسول الله ؟ فقال " حذافة " فقام عمر فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" فهل أنتم منتهون هل أنتم منتهون " ثم نزل عن المنبر فأنزل الله تعالى الآية. قال الشيخ جلال الدين السيوطي : لم أقف على هذه الرواية : قلت : لو صحت هذه الرواية فوجه مناسبة الآية برد قولهم أن الرسول مجتبي بالاطلاع على الغيب ليس له أن يشارك غيره معه في هذا العلم إلا بإذن الله فيما يأذنه فهو يعرف كفركم ولا يظهر لاجتبائه بتلك المعرفة ﴿ يشاء فآمنوا بالله ﴾ بصفة الإخلاص كيلا تفضحوا ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ بالإخلاص ﴿ وتتقوا ﴾النفاق والمعاصي ﴿ فلكم أجر عظيم ﴾.
﴿ ولا يحسبن ﴾ قرأ حمزة بالتاء خطأ بالنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يحسب والباقون بالياء وضمير الفاعل راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من يحسب وقوله :﴿ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ﴾ أي يبخلون بالزكاة مفعوله الأول بتقدير المضاف أي لا تحسبن بخل الذين ليطابق المفعولين ﴿ هو ﴾ ضمير الفصل ﴿ خيرا لهم ﴾ مفعوله الثاني وجاز أن يكون الموصول فاعلا للفعل على قراءة الجمهور والمفعول الأول محذوفا، وجاز أن يكون الضمير المرفوع أعني هو المفعول الأول وضع موضع الضمير المنصوب والمعنى على التقديرين لا يحسبن الذين يبخلون بالزكاة بخلهم خيرا لهم أو إيتاء الله المال خيرا لهم أو ما آتاهم الله خيرا لهم وهذا التقدير أوفق بقوله تعالى :﴿ سيطوّقون ما بخلوا به ﴾ ﴿ بل هو ﴾ يعني البخل أو إيتاء الله المال أو ما آتاهم الله ﴿ شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ نزلت الآية في ما نعي الزكاة كذا قال ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل والشعبي والسدي. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم تأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ الآية " رواه البخاري، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطأه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاءت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس " متفق عليه، وروى عطية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم وبقوله :﴿ سيطوقون ما بخلوا به ﴾ أنهم يحملون أوزارهم وآثامهم ﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ يعني أنه الباقي بعد فناء خلقه وهم يموتون ويتركون الأموال فيعطي أموالهم لمن يشاء من ورثتهم ومن غيرهم ويبقى عليهم الحسرة والعقوبة فما لهم يبخلون ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴿ والله بما تعملون ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء للغيبة، والضمير راجع إلى الذين يبخلون والباقون بالتاء خطابا للناس أجمعين أو للذين يبخلون على الالتفات ﴿ خبير ﴾ فيجازي عليه.
أخرج محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس :" أنه كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء أو كان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء، وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أنظر ما صنع بي صاحبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت الله وضربت وجهه، فجحد ذلك فخاص فأنزل الله تعالى ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾.
﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ كذا قال عكرمة والسدي ومقاتل. وأخرج أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ قالت : اليهود : إن الله فقير يستقرض منا، وذكر الحسن أن قائل هذا الكلام حيي بن أخطب ﴿ سنكتب ﴾ في كتاب الحفظة يعني يكتب الكرام الكاتبون بأمرنا نظيره :﴿ وإنا له كاتبون ﴾ ﴿ ما قالوا وقتلهم ﴾ قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء على البناء للغائب للمجهول وقتلهم بالرفع، والباقون بالنون وضم التاء على البناء للمتكلم المعروف وقتلهم بالنصب ﴿ الأنبياء بغير حق ﴾ يعني رضاءهم بفعل آبائهم الذين قتلوا الأنبياء بغير حق، ضم إلى قولهم ذلك قتلهم الأنبياء تنبيها على أن هذا ليس أول جريمة منهم ﴿ ونقول ﴾ في الآخرة على لسان الملائكة جزاء لما قالوا وما فعلوا، قرأ الجمهور بالتكلم على نسق سنكتب وحمزة بالغيبة يعني يقول الله ﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ فعيل بمعنى الفاعل يعني عذاب النار والمحرق كما في عذاب أليم أو الإضافة بيانية ومعناه العذاب المحرق يقال لهم ذلك إذا ألقوا فيها، والذوق إدراك الطعوم ويستعمل في إدراك سائر المحسوسات مجازا، ولما كان كفر اليهود لمأكلهم الرشي من أتباعهم لأجل تلك المناسبة ذكر في الجزاء الذوق.
﴿ ذلك ﴾ العذاب ﴿ بما قدمت أيديكم ﴾ من القتل وغير ذلك من المعاصي، وعبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر الأعمال المحسوسة بهن وأفعال القلوب واللسان يلزمها ويظهرها أعمال الجوارح ﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ عطف على ما قدمت، ووجه سببيته نفي الظلم من الله تعالى لتعذيب الكفار أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء. فإن قيل : نفي الظلم لازم لذاته تعالى لأن الظلم من القبائح التي يجب تنزيه الله تعالى عنه، وإذا كان نفي الظلم مستلزما للعدل المستلزم لإثابة المحسن ومعاقبة العاصي يلزم وجوب الإثابة والمعاقبة وذلك مذهب المعتزلة خلافا لأهل السنة ؟ قلنا : الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه وذلك غير متصور من الله تعالى لأنه يستلزم التصرف في غير ملكه بغير إذن المالك أو على خلاف ما أمره به، والله سبحانه لو عذب أهل السماوات والأرض بغير جرم منهم لا يكون ذلك ظلما لأنه المالك على الإطلاق يتصرف في ملكه كيف يشاء، فالظلم المنفي في هذا المقام ليس بمعناه الحقيقي بل أريد هاهنا فعله تعالى بعبده ما يعد ظلما لو جرى فيما بينهم وإن لم يكن ذلك ظلما لو صدر منه تعالى، ونفي الظلم بهذا المعنى ليس بواجب عليه سبحانه بل هو مبني على الفضل. وجاز أن يقال معنى الآية أن عدم انتقام الأنبياء من الذين قتلوهم وظلموهم وكذبوهم في صورة الظلم على الأنبياء، وذلك وإن لم يجب على الله تعالى في ذاته لكن بمقتضى فضله على الأنبياء الانتقام من أعدائهم تعذيبهم فالمراد بالعبيد هاهنا الأنبياء وفيه منقبة لهم بكمال انقيادهم وعبوديتهم طوعا مثل انقياد جميع الأشياء له تعالى قسرا وكرها، وهاهنا توجيه آخر وهو أن يقال : إن فيه إشارة إلى أن الكفار استحقوا العذاب بحيث لو لم يعذبهم الله تعالى لكان ظلما عليهم ومنعا لحقهم، فهذه الجملة كأنها تأكيد لوقوع العذاب عليهم.
قال الكلبي : إن كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وزيد بن التابوت وفخاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا محمد تزعم أن الله بعثك رسولا إلينا وأنزل عليك كتابا و ﴿ إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول ﴾ يزعم أنه من عند الله ﴿ حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى ﴿ الذين قالوا ﴾ محله الجر بدلا من الموصول السابق أو الرفع بناء على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين قالوا ﴿ إن الله عهد إلينا ﴾ يعني أمرنا وأوصانا في التوراة ﴿ ألا نؤمن لرسول ﴾ أي لا نصدق رجلا يدّعي الرسالة من عند الله ﴿ حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ القربان في الأصل كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من نسيكة وصدقة وعمل صالح فعلان من القربة، ثم صار اسما للذبيحة التي كانوا يتقربون بها إلى الله تعالى وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل، فكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها، لها دوي وحفيف فيأكل ويحرق ذلك القربان والغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم تقبل بقيت على حالها، قال السدي : إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان. قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ قد جاءكم ﴾ يا معشر اليهود ﴿ رسل من قبلي بالبينات ﴾ المعجزات الواضحات سوى القربان ﴿ وبالذي قلتم ﴾ من القربان كزكريا ويحيى وسائر من قتلوهم من الأنبياء ﴿ فلم قتلتموهم ﴾ يعني كذّبهم أسلافهم وقتلوهم واتبعهم أولادهم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم والرضاء بالكفر بهم فلذلك توجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ شرط حذف جزاؤه، يعني إن كنتم صادقين في أن امتناعنا عن الإيمان بك لأجل ذلك العهد فلم لم تؤمنوا بزكريا ويحيى وأمثالهما، فإذا لم تؤمنوا بهم ظهر أن امتناعنا عن الإيمان ليس لأجل هذا بل عنادا وتعصيا.
﴿ فإن كذبوك ﴾ فلا تحزن ﴿ فقد كذب رسل من قبلك ﴾ فعلى هذا التأويل جزاء الشرط محذوف أقيم سببه مقامه، وجاز أن يكون المعنى فإن كذبوك فتكذيبك تكذيب لرسول من قبلك حيث أخبروا ببعثك ﴿ جاؤوا بالبينات ﴾ المعجزات الواضحات ﴿ والزبر ﴾ كصحف إبراهيم ﴿ والكتاب المنير ﴾ كالتوراة والإنجيل، وعلى التأويل الأول تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاصبر كما صبروا، وعلى التأويل الثاني إلزام لليهود فإن تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام تكذيب الذين جاءوا بالقربان. قرأ هشام بالزبر وبالكتاب المنير بزيادة الباء فيهما وهكذا خط هشام عليهما في كتابه عن أصحابه عن ابن عامر، وقرأ ابن ذكوان بزيادة الباء في الزبر وحده والباقون بغير باء فيهما، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصود على الحاكم من زبرت الشيء إذا أحسنته.
﴿ كل نفس ﴾ مؤمنة أو فاجرة ﴿ ذائقة الموت ﴾ قال البغوي في الحديث :" أنه لما خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا ويدفن في التربة التي خلق منها " والحاصل أنه ليست الحياة الدنيا ونعماؤها جزاء للطاعات ﴿ وإنما توفون أجوركم ﴾ أي جزاء أعمالكم ﴿ يوم القيامة ﴾ إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فأجازيك على الصبر والطاعة وأجازي الكفار على تكذيب الحق، وهذه الآية أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون بعض الأجور قبلها قال الله تعالى :﴿ وآتيناه ﴾ يعني إبراهيم ﴿ أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " رواه الترمذي ورواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ﴿ فمن زحزح ﴾ أي أبعد ﴿ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ أي ظفر بالمطلوب ونال المراد ﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ أي العيش فيها ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ المتاع كما يتمتع وينتفع به، والغرور إما مصدر من غره يغره غرا وغرورا فهو مغرور وغرّه أي خدعه وأطمعه بالباطل أو جمع غار، شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به البائع على المستام ويغرّه حتى يشتريه يعني متاعا نظرا إلى الظاهر ولا حقيقة لها، ذلك لأن لذاتها مشوبة بالمكاره والآلام ومع ذلك لإبقاء لها كالأحلام، قال قتادة : هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور الباطل، وقال الحسن هي كخضر النبات ولعب البنات لا حاصل له، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل :" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أدن سمعت ولا خطر على قلب بشرا فاقرؤوا إن شئتم ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ ﴿ وظل ممدود ٣٠ ﴾ ولموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم ﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ رواه البغوي بسنده والفصل الأول متفق عليه عنه، وكذا الفصل الثاني والثالث في الصحيحين غير قوله اقرؤوا إن شئتم ﴿ وظل ممدود ٣٠ ﴾ اقرؤوا إن شئتم ﴿ فمن زحزح ﴾ الآية.
﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ﴾ بالأمور التكليفية من الزكاة والصدقات والصوم والصلاة والحج والجهاد وبالمصائب من الجوائح والعاهات والخسران والأمراض وموت الأحباب ﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ من هجاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها لتوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال وتستعدوا للقائها. روى ابن المنذر وابن حاتم في مسنده بسند حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قول ﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ كذا قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده وكتب إليه كتابا وقال لأبي بكر لا عليّ بشيء حتى ترجع، فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأ قال قد احتاج ربك إلى أن نمده، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا علي بشيء حتى ترجع فكفّ ونزلت هذه الآية. وذكر عبد الرزاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك : أنها نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين، قلت : وذلك بعد وقعة بدر لما رأى دولة الإسلام وقتل صناديد قريش وذهب إلى مكة ينتدب المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت قريش أديننا أهدى أم دين محمد ؟ قال : بل دينكم، وهجاه حسان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله شعره وقوى المشركين علينا " فقال محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه : أنا لك يا رسول الله هو خالي أنا أقتله، قال :" أنت افعل إن قدرت على ذلك " فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسولا الله صلى الله عليه وسلم لم تركت الطعام والشراب ؟ قال : يا رسول الله قلت قولا ولا أدري أفي به أم لا ؟ فقال :" إنما عليك الجهد " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاور سعد بن معاذ، فقال : توجه إليه واشك له الحاجة وسله أن يسلفك طعاما، فاجتمع محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة سلكان بن سلامة وكان أخ كعب من الرضاعة والحارث بن عبس والحارث بن أوس بن معاذ بعثه عمه سعد بن معاذ وأبو عبس بن حبر، فقالوا : يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل بيننا فإنه لا بد لنا أن نقول فيك، قال : قولوا ما بدا لكم وأنتم في حل من ذلك، فقدّموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه وتناشدوا الشعر، كان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها فاكتم علي، قال : أفعل، قال : كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس، فقال كعب : لقد كنت أخبرتك أن الأمر سيصير إلى هذا، فقال أبو نائلة : إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك، قال : ترهنوني أبناءكم، قالوا إنا نستحيي أن نعير أبناءنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين، وقال ترهنوني نساءكم، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك ؟ وأية امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك الحلقة – يعني السلاح- وقد علمت حاجتنا إلى السلاح، قال : نعم إن في السلاح لوفاء، وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فواعده أن يأتيه، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فأخبروه. روى ابن إسحاق وأحمد بسند صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال : انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في ليلة مقمرة مثل النهار ليلة أربع عشرة من شهر ربيع الأول، فمضوا حتى انتهوا إلى حصن ابن الأشرف ليلا، وقال أبو نائلة لأصحابه إني فاتل شعره فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فهتف به أبو نائلة وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس فوثب في ملحفه فأخذت امرأته بناحتيها، وقالت إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة وإني أسمع صوتا يقطر منه الدم فكلمهم من فوق الحصن، فقال إنه ميعاد عليّ وإنما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة لو وجدوني نائما ما أيقظوني وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، فنزل إليهم متوحشا بملحفة يفوح منها ريح الطيب فتحدث معهم ساعة ثم قالوا : يا ابن الأشرف هل لك في أن نتماشا إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه ؟ قال : إن شئتم، فخرجوا يتماشون فماشوا ساعة فقال أبو نائلة : نجد منك ريح الطيب، قال : تحتي فلانة من أعطر نساء العرب، قال : فتأذن لي أن أهمّ، قال نعم، فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده، فقال : ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، وكان كعب يدهن بالمسك الغتيب بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه وكان جدعا جميلا، ثم مشى أبو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن إليه وسلسلت يده في شعره ثم عاد فأخذ بقرون رأسه حتى استمكن، وقال لأصحابه اضربوا عدو الله فاختلف أسيافهم فلم تغن شيئا، قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال : فوضعته في تندؤته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله، وعند ابن سعد فطعن أبو عبس في خاصرته، فجزوا رأس كعب، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا نشتد نخاف من يهود الأرصاد وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس لجرح في رأسه ونزفه الدم، فناداهم اقرؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام فعطفوا عليه، فاحتملوه حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد آخر الليل كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم بالبقيع كبرّو عرف أن قد قتلوه، ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلحت الوجوه، قالوا : ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله تعالى على قتله، ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرحه فلم يؤذه، فرجعوا إلى منازلهم. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على شغينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله، وكان خويصة بن مسعود إذا ذاك لم يسام وكان أسن من محيصة، فلما قتله جعل خويصة يضربه ويقول : أي عدو الله قتله أما والله لرب شحم في بطنك من ماله، قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال نعم، قال : والله إن دينا بلغ بك هذا العجب فأسلم خويصة، فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا وخافوا أن يبيتوا كما بيّت ابن الأشراف. وعند ابن سعد فأصبحت اليهود مذعورين فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قتل سيدنا غيلة، فذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يخص عليه ويحرض في قتاله ويؤذيه، ثم دعاهم أن يكتبوا بينهم وبينه صلحا فكان ذلك الكتاب مع علي رضي الله عنه. ( مسألة ) احتج الشافعي بهذه القصة على جواز قتل من سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار أو انتقصه أو آذاه سواء كان بعهد أو بغير عهد، وقال أبو حنيفة : لا يقتل المعاهد بسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن سبّه كفر والكفر لا ينافي العهد، وعند أبي حنيفة إنما قتل ابن الأشرف لأنه نقض العهد وذهب إلى مكة لتحريض المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدا وقد أهانهم. ( مسألة ) لا يجوز ان يقال إن هذا كان غدرا من محمد بن مسلمة وأبو نائلة رضي الله عنهما، وقد قال ذلك رجل في مجلس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فضرب عنقه، وإنما يكون الغدر بعد أمان ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته رضي الله عنهم بحال وإنما كلمه في أمر البيع والرهن إلى أن تمكن منه. ( فائدة ) : وقع في الصحيح إن الذي خاطب كعبا محمد بن مسلمة وأكثر أهل المغازي على أنه أبو نائلة، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون كل منهما كلمه في ذلك ﴿ وإن تصبروا ﴾ على ما ابتليتم به ﴿ وتتقوا ﴾ مخالفة أمر الله تعالى ﴿ فإن ذلك ﴾ الصبر والتقوى ﴿ من عزم الأمور ﴾مصدر بمعنى المفعول أي من معزومات الأمور التي يجب عليها العزم أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه، والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه، وقال عطاء يعني من حقيقة الإيمان، قلت : والمراد بالصبر عدم الجزع والانقياد عند ابتلاء الله العبد وترك الاعتراض عليه وذا لا ينافي الانتقام من الكفار إذا آذوا المسلمين كما دل عليه قصة ابن الأشرف لعنه الله والله أعلم.
﴿ وإذ أخذ الله ﴾ أي اذكر وقت أخذ الله ﴿ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي العلماء منهم أخذ منهم العهد في التوراة ﴿ لتبيننّه ﴾ أي الكتاب ﴿ للناس ولا تكتمونه ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالياء على الغيبة فيهما والباقون بالتاء على الخطاب ﴿ فنبذوه ﴾ أي الكتاب ﴿ وراء ظهورهم ﴾ يعني ضيعوه وتركوا العمل به وكتموا ما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ واشتروا به ﴾ أي أخذوا بدله ﴿ ثمنا قليلا ﴾ يعني المأكل والرشي ﴿ فبئس ما يشترون ﴾ ما يختارون لأنفسهم، قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة، وقال أبو هريرة يوما : أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية ﴿ وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من النار " رواه أحمد والحاكم بسند صحيح، وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس. قال البغوي : قال الحسن بن عمارة : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني، فقال : أما علمت أني تركت الحديث، فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك، فقال : حدثني فقلت حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى الجزار قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :" ما أخذ الله على أهل الجهل إن يتعلموا حتى أخذ عن أهل العلم أن يعلموا، قال : فحدثني أربعين حديثان، ورواه الثعلبي في تفسيره من طريق الحارث عن أبي أسامة وهو في مسند الفردوس من حديث علي مرفوعا.
﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ﴾ أي بما فعلوا من إضلال الناس والتدليس وكتمان الحق أو من مطلق المعاصي ﴿ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ﴾ من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق وغير ذلك من الحسنات وجه فرحهم كون ما فعلوا بتمسكاتهم في تكذيب نبوته صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون المراد بالموصول المنافقين الذين لم يفعلوا الطاعات على الحقيقة ويظهرونها رياء ويحبون أن يحمدوا بأنهم زهاد مطيعين لله ﴿ فلا تحسبنهم بمفازة ﴾ قرأ الكوفيون لا تحسبن فلا تحسبنهم بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وبفتح الباء على الإفراد، فعلى هذا المفعول الأول للفعل الأول الموصول والثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للفعل الأول وفاعله ومفعوله الأول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء للغيبة فيهما وضم الباء في ﴿ تحسبنهم ﴾ لأن الضمير راجع إلى الذين، فعلى هذا الفاعل للفعل الأول الموصول ومفعولاه محذوفان تدل عليهما مفعولا مؤكده، أو المفعول الأول محذوف ومفعوله الثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للأول وفاعله ومفعوله الأول يعني لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة، وقرأ نافع وابن عامر بالياء للغيبة في الأول على أن مفعوليه محذوفان يدل عليهما المفعولان للفعل الثاني وبالتاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وحده في الفعل الثاني ﴿ من العذاب ﴾ في الدنيا بالفضيحة والذم والرد ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة. روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وكذا روى البغوي من طريق البخاري عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين، فقال ابن عباس ومالكم ولهذه ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فخرجوا قد أرده أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم سألهم عنه ثم قرأ ابن عباس ﴿ وإذ أحذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ﴾ وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري " أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا آن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت ﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا الآية ﴾ وأخرج عبد في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خدريج وزيد بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية ﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ﴾ ؟ قال رافع : نزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم : اعتذروا وقالوا ما حسبنا عنكم إلا الشغل فلوددنا أنا كنا معكم فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكأن مروان أنكر ذلك فخرج رافع من ذلك فقال لزيد : أنشدك بالله هل تعلم ما أقول ؟ قال : نعم. قال الحافظ ابن حجر : يمكن الجمع بينهما بأنها نزلت في الفريقين، وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود ونحن أهل الكتاب الأول والصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك، ورجحه ابن جرير ولا مانع أن تكون نزلت في ذلك أيضا، قال البغوي : قال عكرمة : نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل علم، وقال مجاهد : هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم م وهم براء من ذلك، وقال قتادة ومقاتل : أتت يهود خيبر نبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا قال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله هذه الآية ﴿ ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ﴾.
﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على عقابهم، وفي هذه الآية رد لقولهم إن الله فقير.
أخرج الطبراني وابن حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بما جاءكم موسى من الآيات ؟ قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت ﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ وما فيهما من العجائب وإفاضة الوجود على ماهيات لا يقتضي لذواتها وجودها ﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ تعاقبهما على نسق بديع ونظام حكيم وما يتعاقبان عليه ﴿ لآيات ﴾ دلائل واضحة على وجود الصانع وكمال قدرته وإرادته وحكمته ﴿ لأولي الألباب ﴾ لذوي العقول المنزهة عن شوائب الأوهام ووساوس الشيطان. عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " أخرجه ابن حبان في صحيحه. وعن بن عباس أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام ختم نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هذا الآيات ثم أوتر بثلاث " رواه مسلم.
﴿ الذين ﴾ صفة لأولي الألباب، فإن مقتضى العقل الاتصاف بالذكر والفكر والتسبيح والإيمان والاستغفار والدعاء والتضرع إليه، ومن لم يتصف بها فهو كالأنعام بل أضل منها فإن الأنعام يسبحون الله نوع تسبيح ﴿ يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾ قال البغوي : قال علي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما والنخعي وقتادة هذا في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطيع فعلى جنب ونظيره هذه الآية في سورة النساء ﴿ فإذا قضيتم الصلوات فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت بي بواسير فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة، زاد النسائي فإن لم يستطع فمستلقيا " ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ وعن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يصلي المريض قائما إن استطاع فإن لم يستطع صلى قاعدا فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجدوه أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع يصلي على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة " رواه الدارقطني وفي إسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسن المغربي وهو متروك. ومن هاهنا قال الشافعي : إن المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا وإذا عجز عن القعود يضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يستطيع استلقى على ظهره ويستقبل رجليه الكعبة حتى يكون إيماؤه في الركوع والسجود إلى القبلة وبه قال مالك وأحمد، غير أنه لو صلى مستلقيا وهو قادر على الصلاة على جنبه الأيمن جاز عندهما حلافا للشافعي، وقال أبو حنيفة إذا عجز عن القعود صلى مستلقيا ورجلاه إلى الكعبة فإن لم يستطع أن يصلي مستلقيا صلى على جنبه، قال أبو حنيفة : إن هذه الآية والتي في سورة النساء ليستا في صلاة المريض بل المراد بها عامة المفسرين المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلما يخلوا عن هذه الحالات الثلاث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " رواه ابن شيبة والطبراني من حديث معاذ، ولو سلمنا أن الآية في صلاة المريض فهي لا تنفي صلاة المستلقي ولا تدل على الترتيب الذي ذكره الشافعي، وكذا ما في الصحيحين من حديث عمران حصين، قال ابن همام : كان مرض عمران بن حصين البواسير وهو يمنع الاستلقاء ولذا لم يذكر إلا أن ما رواه النسائي وزاد فيه صلاة المستلقي لو صح لكان حجة للشافعي، وحديث علي ضعيف لا يصلح للاحتجاج. ثم وجه قول أبي حنيفة في تقديم الاستلقاء على الصلاة على جنبه إن المقصود الأهم في الصلاة الركوع والسجود، ولذا قال أبو حنيفة زمن لم يستطع الركوع والسجود ويقدر على القيام الأفضل أن يصلي قاعدا بالإيماء فإن إيماءه أقرب إلى السجود خلافا للجمهور، وإيماء المستلقي على ظهره إذا كان رجلاه إلى الكعبة يقع إلى الكعبة بخلاف إيماء من يصلي على جنبه مستقبلا إلى القبلة يقع إلى جهة رجليه فكان الاستلقاء أولى. وقال الشافعي ومالك وأحمد القيام كالركوع والسجود في كونه مقصودا فلا يجوز الصلاة قاعدا لمن يقدر على القيام وإن لم يقدر على الركوع والسجود بل عليه أن يصلي قائما بالإيماء ولا شك أن مدة القيام في الصلاة أكثر من مدة الركوع والسجود فمن صلى مستلقيا يكون غالب حاله التوجه إلى السماء لا إلى جهة الكعبة، ومن صلى على جنبه يكون غالب حاله التوجه إلى الكعبة وذلك هو المأمور به في قوله تعالى :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ والله أعلم.
﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ وما أبدع فيهما وما أودع فيهما ليستدل بها على وجود صانع قادر عليم حكيم واحد لا شريك له، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا عبادة كالتفكر " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن حبان في الضعفاء وضعفاه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " رواه أبو الشيخ وابن حبان والثعلبي. والفكر عبارة عن ترتيب أمور معلومة لتحصيل مجهول في القاموس هو أعمال النظر في الشيء، قال الجوهري في الصحاح الفكرة قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون الحيوان ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي " تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله " لكون الله تعالى منزها بأن يوصف بصورة، وقال بعض العلماء : الفكر عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها انتهى كلام الجوهري. قلت : ورد في الحديث " تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك " رواه أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس وعنه بلفظ في " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره " وعن أبي ذر نحوه بلفظ " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا " وروى أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله " وروى أبو الشيخ والطبراني في الأوسط وابن عدي والبيهقي بسند ضعيف بلفظ " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " فهذه الأحاديث تدل على المنع عن التفكير في مرتبة الذات واقتصاره في مراتب الأفعال والصفات والأسماء، وبهذا يظهرا امتناع تعلق العلم الحضوري بحضرة الذات بلا شائبة الأسماء والصفات، وقال المجدد رضي الله عنه : العلم الحضوري أيضا ساقط من تلك المرتبة العليا لأن جولانه إلى نفس العالم وما هو عينه يعني إلى مرتبة العينية والاتحاد وذلك كفر الحقيقة، والله سبحانه أقرب إلينا من أنفسنا فهو سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء في جانب القرب لا في جانب البعد فلا سبيل للعلم الحضوري أيضا إلى تلك المرتبة الأسنى، فدوام الحضور والعلم اللدني البسيط الحاصل للصوفي المتعلق بحضرة الذات وراء العلمين لا يدري ما هو، ولا يجوز إطلاق التفكير عليه إلا مجازا كما أطلق عليه بعض الصوفية، وقد ورد في الشرع التعبير عنه بالذكر كان رسول الله صبى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه إنما هو ذلك لا الذكر اللساني فإنه لا يمكن استدامته، ولما كان دوام الذكر أهم وأسنى، وإنما الفكر طريقا إليها وصف الله سبحانه أولي الألباب أولا بدوام الذكر وبعد ذلك بالتفكر الموصل إلى علم هو كالظل له حيث قال :﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾ يعني يديمون الذكر في جميع الأحوال ﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ وأيضا في تقديم الذكر على الفكر تنبيه بأن العقل غير مستقل بإفادة الأحكام الحقة ما لم يستضيء بنور الذكر والهداية من الله سبحانه ﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا ﴾ على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك، والباطل ضد الحق كذا في القاموس والحق قد يطلق على موجود متأصل الوجود لا يحتاج في تحققه ووجود ولا في شيء من الأشياء إلى غيره وهو الله سبحانه، وقد يطلق على موجود في الخارج بلا نحت الوهم والخيال وإن كان مقتبسا تحققه من الوجود الحق، وقد يطلق على موجود يشتمل وجوده على حكم ومصالح لا يكون عبثا ضائعا من غير حكمة ذاهبا بلا فائدة يترتب عليه، والباطل ضد الحق على المعاني كلها. فباعتبار المعنى الأول قال رسول الله صلى الله عيه وسلم :" ألا أحسن القول قول لبيد : كل شيء ما خلا الله باطلا " وجاز اعتبار المعنى الثاني في البيت يعني كل معبود ما خلا الله باطل لا حقيقة له منحوت للوهم والخيال وباعتبار المعنى الثالث أطلق الباطل على الشيطان قال الله تعالى :﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾ والباطل هاهنا إن كان بالمعنى الثاني فمعنى الآية ما قال أهل الحق أساسا للاستدلال على الصانع ( خلافا للسوفسطائية ) إن حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق، وإن كان بالمعنى الثالث فالمعنى ما خلقت الخلق عبثا بل لحكمة عظيمة دليلا على معرفتك باعثا على شكرك وطاعتك، وهذا إشارة إلى السماوات والأرض وتذكيره بإرادة المتفكر فيه أو لأنهما في معنى المخلوق، أو إلى الخلق على أنه أريد به المخلوق من السماوات والأرض أو أريد به التخليق، وجاز أن يراد به التفكر في خلق كل جزء من أجزائها فهذا إشارة إلى هذا الجزء، وباطلا منصوب على الحالية من هذا، وجاز أن يكون باطلا بمعنى هازلا حالا من فاعل خلقت فعلى هذا قوله تعالى :﴿ سبحانك ﴾ مؤكد للحال يعني أنه تعالى منزه عن الهزل لكونه رذيلة وعلى التأويل الأول اعتراض ﴿ فقنا عذاب النار ﴾ للإخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه، والفاء تدل على أن خلق السماوات والأرض للاستدلال والشكر والطاعة يقتضي ثواب المطيع وعذاب العاصي غالبا والعلم بنفي البطلان والبعث عنهما يستلزم الرجاء والخوف، وهما يقتضيان طلب الثواب والاستعاذة من العذاب، وقدّم الاستعاذة لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع، وقيل دخلت الفاء لمعنى الجزاء تقديره إذ نزهناك فقنا عذاب النار.
﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ تكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها والتمسك بإيفاء صفة الربوبية وباعترافهم بأنه هو الذي رباهم، ومعنى خزاه قهره وكفه عن هواه وخزي كرضي وقع في بلية وأخزاه الله فضحه كذا في القاموس ﴿ وما للظالمين ﴾ أي مالهم يعني لمن دخل الناس، وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ﴿ من أنصار ﴾ لأن النصرة دفع بقهر ولا يتصور القهر في مقابلة القهار وإلا يلزم عجزه وزهو ينافي الربوبية، وهذا لا ينفي الشفاعة. فإن قيل : قد قال الله تعالى :﴿ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال هاهنا ﴿ من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ فكيف التوفيق ؟ قلنا : معناه أنك من تخلده في النار فقد أخزيته كذا قال سعيد بن منصور أن هذه خاصة لمن لا يخرج منها، وروي عن جابر إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزيا.
﴿ ربنا إننا سمعنا مناديا ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر الناس : يعني محمد الله صلى الله عليه وسلم، وقال القرطبي : يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم قلت : من سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر فقد سمعه، أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على المسموع، وفي تنكير المنادى وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأن المنادى وشأن النداء فإنه لا منادى أعظم ممن ينادي للإيمان ولا نداء أعظم من ذلك النداء ﴿ ينادي للإيمان ﴾ النداء يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص ﴿ أن آمنوا بربكم ﴾إن مفسرة للنداء إذ فيه يعني القول أو مصدرية بتقدير الباء أي بأن آمنوا ﴿ بربكم فآمنا ﴾ به، فيه إشعار على أن الإيمان على حقيقة يترتب على الأدلة السمعية، واستدل به أبو منصور الماتريدي على بطلان الاستثناء في الإيمان ووجوب القول أنا مؤمن حقا ﴿ ربنا فاغفر لنا ﴾ الفاء للسببية فإن الإيمان سبب للمغفرة ولا يتصور المغفرة بلا إيمان ﴿ ذنوبنا ﴾ يعني الكبائر﴿ وكفر عنا سيئاتنا ﴾ يعني الصغائر والتفعيل للتكثير فإن وقوع السيآت يغلب يعني أسترها مرة بعد أخرى ﴿ توفنا مع الأبرار ﴾ جمع بر أو بار بمعنى الصادق وكثير الخير والمتسع في الإحسان، ومعنى التوفي مع الأبرار التوفي حال الاختصاص بصحبتهم معدودين في زمرتهم لا المعية الزمانية فإن ذلك غير متصور عادة ولا مفيد، ولم يقل وتوفنا بارين هضما لأنفسهم وإعدادا لأنفسهم غير بارين وفيه نهاية الخضوع وهو المحبوب عند الله تعالى. فإن قيل : هذا سؤال الموت وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت والدعاء به من قبل أن يأتيه كما ذكرنا في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى :﴿ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ قلنا : قد ذكرنا تحقيق المسألة هناك أن التمني بالموت إنما لا يجوز إذا كان لضر نزل به في مال أو جسم أو نحوه لا مطلقا، على أن المقصود من هذا الدعاء هاهنا الدعاء باستدامة وصف البر والإحسان أبدا إلى وقت الموت وحلول الأجل، وليس الغرض منه السؤال بتعجيل الموت كما أن قول تعالى :﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ ليس المقصود منه النهي عن الموت فإنه غير مقدور للعبد بل النهي عن حال غير حال الإسلام في شيء من الأزمنة حتى يأتيه الموت عند حلول أجله وهو مسلم.
﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا ﴾ من الثواب في الجنة والرؤية والرضاء ومراتب القرب والنصر على الأعداء في الدنيا ﴿ على رسلك ﴾ على تصديق رسلك، أو المعنى ما وعدتنا على ألسنة رسلك، أو متعلق بمحذوف تقديره ما وعدتنا منزلا على رسلك، وجاز أن يكون على بمعنى آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا، والغرض منه أداء حق الرسالة وتكثير فضل أنفسهم ببركة مشاركة الرسل، والمراد بضمير المتكلم في قوله ما وعدتنا معشر المسلمين يعني آتنا ما وعدت المسلمين الصالحين، فهذا السؤال ليس مبنيا على الخوف من خلف الوعد منه تعالى عن ذلك بل مخافة أن لا يكون السائل من الموعودين بسوء عاقبته نعوذ بالله منها أو لقصور في إيمانه وطاعته، وجاز أن يكون هذا السؤال تعبدا واستكانة فإن الله غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾ وقيل لفظه دعاء ومعناه الخبر أي لتؤتينا، تقديره فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ولا تخزنا يوم القيامة لتوتينا ما وعدتنا على رسلك من الفضل والرحمة، وقيل : إنما سألوا تعجيل ما وعدهم الله من النصر على الأعداء، قالوا معناه قد عملنا أنك لا تخلف وعدك من النصر لكن لا صبر لنا على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم ﴿ ولا تخزنا ﴾ أي لا تفضحنا ولا تدخلنا النار ﴿ يوم القيامة ﴾ أي يوم القيام من القبور دفعة واحدة بأن تعصمنا عن ارتكاب ما يقتضي الخزي وتغفر لنا وتستر ما صدر عنا. عن أبي هريرة قال :" يدني الله العبد منه يوم القيامة ويضع كنفه عليه فيسره من الخلائق ويرفع إليه كتابه في ذلك السر فيقول الله عز وجل : اقرأ كتابك فيمر بالحسنة فتبيض بها وجهه ويسر بها قلبه ويقول : أتعرف يا عبدي ؟ فيقول : نعم أي رب أعرف، فيقول : إني قد قبلتها منك فيخر ساجدا فيقول : ارفع رأسك وانظر في كتابك، فيمر بالسيئة فيسود بها وجهه ويجل بها قلبه، فيقول الله تعالى : أتعرف يا عبدي ؟ فيقول : نعم أي رب أعرف، فيقول : إني أعرف بها منك إني قد غفرتها لك، فلا يزال يمر بحسنة يقبل فيسجد وبسيئة يغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه إلا السجود حتى يناجي الخلائق بعضه بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه بين الله مما قد وقف عليه " رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وأخرج البيهقي عن أبي موسى نحوه، وفي الباب عن ابن عمر في الصحيحين ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ولما كان السؤال بقوله :﴿ وآتنا ما وعدتنا ﴾ موهما لاحتمال خلف الوعد عقبه بهذه الجملة دفعا لذلك الوهم.
﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ أي طلبتهم وهو أخص من أجاب، ويعدي بنفسه وباللام كذا قال البيضاوي وقيل أجاب واستجاب بمعنى واحد ﴿ أني ﴾ أي بأني أو قائلا أني ﴿ لا أضيع ﴾ أي لا أحبط ﴿ عمل عامل منكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ عن أم سلمة قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية " أخرجه الترمذي والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وسعيد بن منصور ﴿ بعضكم من بعض ﴾ قال الكلبي في الدين والنصرة والموالاة، وقيل : في النسب والإنسانية فإن كلكم من آدم وحواء الذكر من بطن الأنثى والأنثى من صلب الذكر فتثاب النساء على الأعمال كما يثاب الرجال، والجملة معترضة لبيان شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال. ثم فصل عمل العاملين على سبيل التعظيم فقال :﴿ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي ﴾ في طاعتي وديني أو بسبب إيمانهم بي ومن أجلي ﴿ وقاتلوا وقتلوا ﴾ قرأ ابن عامر وابن كثير قتلوا بتشديد التاء للتكثير، قال الحسن يعني أنهم قطعوا في المعركة والباقون بالتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي قتلوا وقاتلوا بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل على عكس قراءة الجمهور، وعكس الترتيب في الذكر لا يوجب الاختلاف في المعنى لأن الواو لمطلق الجمع دون الترتيب، وقيل في وجه قراءة حمزة والكسائي أن معناه قتل بعضهم وقاتل بقيتهم ولم يهنوا وما استكانوا بقتل أصحابهم يقول العرب قتلنا بني فلان أي بعضهم، وقيل : معناه قتلوا وقد قاتلوا قبل ذلك يعني ما قتلوا منهزمين بل مقبلين على القتال والله أعلم ﴿ لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ لأسترنها وأمحونها ﴿ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا ﴾ قال المبرد : مصدر مؤكد أي لأثيبنهم بذلك ثوابا وإلا ظهر أن ثوابا حال من جنات وكأنه أراد جعل ثوابا من عند الله جزاء فوق الجنات ﴿ من عند الله ﴾ تفضلا منه على ثواب جزاء أعماله، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وجملة لأكفرن وما عطف عليه جواب قسم محذوف، والقسم مع الجواب خبر للموصول ﴿ والله عنده ﴾ في قدرته ويختص به ﴿ حسن الثواب ﴾ أي الثواب الحسن أو أحسن الثواب الذي لا يقدر عليه غيره، أو المعنى والله تعالى درجات قربة وعنديته أحسن ثوابا من الجنات وما فيها.
قال البغوي : كان المشركون في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى ﴿ لا يغرنك ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته أو الخطاب لكل أحد ﴿ تقلب الذين كفروا ﴾ يعني ضربهم في الأرض وتصرفهم ﴿ في البلاد ﴾ للتجارات والمكاسب، والمعنى لا تنظر إلى ما هم فيه من السعة ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في المعاش، فالنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تغبطن فاجرا فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته، إن له عند الله قاتلا لا يموت يعنى النار " رواه البغوي في شرح السنة.
﴿ متاع قليل ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي ذلك متاع قليل أو مبتدأ خبره ظرف محذوف أي لهم متاع قليل لقصر مدته وقلته كما وكيفا، عن المسور بن شداد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما جعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع " رواه مسلم ﴿ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾ ما مهدوا لأنفسهم يعني جهنم.
﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ لكن للاستدراك عند النحاة أي دفع توهم نشأ مما قبل، وذلك التوهم أن متاع الكافرين المتنعمين في الدنيا لما كان قليلا فمتاع المتقين المعروضين عن اللذات يكون أقل قليلا فقال الله تعالى لدفع ذلك التوهم ﴿ لكن الذين اتقوا ﴾ الآية يعني أن المتقين اكتسبوا في الدنيا ما يكون لهم وسيلة لنعماء الآخرة فهم تمتعوا من الدنيا ما لا مزيد عليه، وعند علماء المعاني لكن لرد اعتقاد المخاطب وذلك أن الكافرين يزعمون أنهم متمتعون من الدنيا والمتقين في خسران عظيم ﴿ نزلا من عند الله ﴾ صفة لنزلا، والنزل ما يعد للضيف النازل من الضيافة، ففي لفظة نزلا بيان لرفعة قدر المتقين حيث جعلهم أضياف الله الكريم يجعل خير ما عنده وما يقدر عليه للضيف، ونزلا منصوب على الحال من جنات والعامل فيه الظرف، وقيل إنه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا، وجاز أن يكون منصوبا على التميز، وقيل تقديره جعل ذلك نزلا ﴿ وما عند الله ﴾ من الثواب ودرجات القرب والرضاء والرحمة ﴿ خير ﴾ ومن متاع الدنيا ومن كل شيء ﴿ للأبرار ﴾ وضع المظهر موضع المضمر للمدح والتعظيم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرفة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرطا مصبورا وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال :" أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة " وفي رواية قلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، قال :" أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " متفق عليه، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن للمؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة " رواه البغوي في شرح السنة، وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء " رواه أحمد والترمذي والله أعلم.
روى النسائي عن أنس وابن جرير نحوه عن جابر قال لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلوا عليه " قال : قال يا رسول الله نصلي على عبد حبشي فأنزل الله تعالى ﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ الآية، وكذا في المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت في النجاشي، قال البغوي : لما مات النجاشي نعاه جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي " فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء : نزلت في أهل نجران أربعين رجلا اثنان وثلاثون من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم وإن من أهل الكتاب ﴿ لمن يؤمن بالله ﴾ حق إيمانه بصفاته وأسمائه دخلت اللام على اسم أن للفصل بالظرف ﴿ وما أنزل إليكم ﴾ من القرآن ﴿ وما أنزل إليهم ﴾ من التوراة والإنجيل والزبور ﴿ خاشعين لله ﴾ أي خاضعين متواضعين حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى ﴿ لا يشترون بآيات الله ﴾ حال بعد حال أي غير مشترين بآيات التوراة التي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ثمنا قليلا ﴾ كما يفعله المحرفون من الأحبار لأجل المأكل ﴿ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي أجرا مخصوصا بهم زائدا على أجود غيرهم كما في قوله تعالى :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴾ وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلمبييذذأألل'' " :" ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد " الحديث متفق عليه ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ لعلمه بالآمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل، روي أنه تعالى يحاسب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، والمراد أن الأجر الموعود سريع الوصول إليهم فإن سرعة الحساب كناية عن سرعة الجزاء.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ﴾ على دينكم ومشاق التكليفات ومخالفة الهوى وعلى محبة ربكم وطاعته لا تدعوها في شدة ولا رخاء وعلى جهاد أعدائكم وعلى البليات والشدائد، قال جنيد : الصبر حبس النفس على المكروه بغير جزع ﴿ واصبروا ﴾ يعني غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب ﴿ فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ تخصيص بعد التعميم، والمصابرة كما يوجد في مقابلة الكفار في الجهاد الأصغر يوجد في مقابلة النفس في الجهاد الأكبر أيضا فإن النفس يتحمل من الشدائد والمكاره في طلب الدنيا وشهواتها ما لا يخفى، وقد يتحمل لنيل النعيم الباقية في الجنات العلى، فلا بد للصوفي أن يتحمل أكثر من ذلك كله في طلب المولى جل وعلا ﴿ ورابطوا ﴾ أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، أو أنفسكم وقلوبكم وأبدانكم في ذكر الله والطاعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة في المساجد وحلق الذكر وأصل الربط الشد يعني شد الخيل في الثغور، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه وإن لم يكن له مركب، ثم قيل لكل مقيم على شيء يدفع عنه ما يمنعه، والمرابطة المغالبة في الرباط على من عداه يعني أن الأعداء يربطون لمحاربتكم فأنتم غالبوهم في ذلك. عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها " رواه البغوي من طريق البخاري والفصل الأول في الصحيحين عن سهل والفصل الثالث فيهما عن أنس. وعن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من ربط يوما وليلة في سبيل الله كان له أجر، صيام شهر مقيما ومن مات مرابطا أجرى له مثل ذلك الأجر، وأجري عليه من الرزق وأمن من الفتان " رواه البغوي، ورواه مسلم بلفظ " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان " وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة بلفظ " من رابط يوما أو ليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة " وعن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر " رواه الترمذي وأبو داود ورواه الدارمي عن عقبة بن عامر، وعن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " رواه الترمذي والنسائي، وقال البغوي : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة، ودليل هذا التأويل حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط " رواه البغوي وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة نحوه ﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ الفلاح الفوز بالمحبوب بعد الخلاص من المكروه، ولعل لتغيب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال.