ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
تضمنت هذه الآية الكريمة: إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع هذه الطوائف- التي فصل عقائدها الباطلة قبل هذا- والشهادة ببطلان أقوالهم، ومذاهبهم. وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية، والحقائق الإيمانية.
فتضمنت هذه الآية: أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها من أجلّ شاهد، بأجل مشهود.
وعبارات السلف في «شهد» تدور على: الحكم والقضاء، والإعلام والبيان والإخبار.
قال مجاهد: حكم وقضى. وقال الزجاج: بيّن. وقالت طائفة: أعلم وأخبر.
وهذه الأقوال كلها حق، لا تنافي بينها. فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد، وخبره وقوله: وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب:
وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم هو به مع نفسه، ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، وبخبره به، ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها، ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط: تضمنت هذه المراتب الأربع: علم الله سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
أما مرتبة العلم: فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال الله تعالى: ٤٣: ٨٦ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «على مثلها فاشهد»
وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر: فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به.
وإن لم يتلفظ بالشهادة. قال تعالى: ٦: ١٥٠ قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وقال تعالى:
٤٣: ١٩ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «١»
وشهادة الزور: هي قول الزور، كما قال تعالى: ٢٢: ٣١ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ وعند هذه الآية
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله»
فسمى قول الزور شهادة. وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة، قال تعالى:
أخرجه الترمذي عن خريم بن فاتك بلفظ: عدلت شهادة الزور بالشرك..
برقم ٢٣٠٠.
وفي الحديث الصحيح في قصة ما عز «فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»
وقال تعالى: ٧: ٣٧الُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة، وظاهر كلام أحمد. ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك.
وقد قال ابن عباس: «شهد عندي رجال مرضيّون- وأرضاهم عندي عمر- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»
ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلم بالجنة: لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة، بل
قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة- الحديث».
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فقد دخل في الإسلام، وشهد شهادة الحق، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة. وقد دخل في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله»
وفي اللفظ الآخر: «حتى يقولوا: لا إله إلا الله» «١»
فدل على أن قولهم:
«لا إله إلا الله» شهادة منهم، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده في الكتاب والسنة. فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه. والله أعلم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار: فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل.
أورده الترمذي عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله..»
الحديث. برقم ٢٦٠٦ و ٢٦٠٧.
وأخرجه الحاكم في المستدرك ١/ ٣٨٧ و ٢/ ٥٢٢.
وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه: يكون بقوله تارة، وبفعله تارة أخرى.
فالقول: هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مما قد علم بالاضطرار: أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو. وأخبر بذلك. وأمر عباده أن يشهدوا به.
وشهادته سبحانه: «أنه لا إله إلا هو» معلومة من جهة كل من بلّغ عنه كلامه.
وأما بيانه وإعلامه بفعله: فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة.
وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة، والإرشاد والبيان، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ. وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما، لقيامه مقامه، وأدائه مؤداه. كما قيل:
وقالت العينان: سمعا وطاعة... وحدّرتا بالدّر لمّا يثقّب
وقال الآخر:
شكا إليّ جملي طول السّرى... صبرا جميلي، فكلانا مبتلى
وقال الآخر:
امتلأ الحوض، وقال: قطني... مهلا رويدا، قد ملأت بطني
والمقصود: أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه. فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية، فتتطابقت شهادة القول وشهادة الفعل، كما قال تعالى: ٤١: ٥٣ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي أن القرآن هو الحق. فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية.
وهذه الشهادة الفعلية: قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير.
قال ابن كيسان «١» : شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه:
أنه لا إله إلا هو.
فصل
وأما المرتبة الرابعة: وهي الأمر بذلك والإلزام به، وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه، وتتضمنه.
فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به كما قال تعالى: ١٧: ٢٣ وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقال تعالى:
١٦: ٥١ وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وقال تعالى: ٩٨: ٥ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقال تعالى: ١٧: ٢٢ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وقال تعالى: ٢٦: ٢١٣
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد: «أنه لا إله إلا هو» فقد أخبر، وبين، وأعلم وحكم وقضى: أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم. فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره. وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتي، أو يستشهد، أو يستطب من ليس أهلا لذلك، ويدع من هو أهل، فتقول له: هذا ليس بمفت، ولا شاهد، ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان. فإن هذا أمر منك ونهي.
وأيضا فإن الآية دلت أنه وحده هو المستحق للعبادة. فإذا أخبر أنه وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده.
وأيضا: فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت. قال تعالى:
٣٧: ١٥١- ١٥٤ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو: متضمن للإلزام. والله سبحانه أعلم.
فصل
وقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ.
«القسط» هو العدل. فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله. والتوحيد والعدل: هما جماع صفات الكمال. فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال، والمجد والتعظيم الذي لا
فهذا توحيد الرسل وعدلهم: إثبات حقائق الأسماء والصفات على ما يليق بالرب سبحانه، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإثبات القدر، والحكم والغايات المحمودة بفعله وأمره، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية. الذي هو إنكار الصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعدلهم، الذي هو التكذيب بالقدر، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الرب لأجلها ويأمر.
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته: يتضمن أمورا.
أحدها: أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق، وإنكارها وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق. فلا أعدل من توحيد الرسل، ولا أظلم من الشرك. فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا، حيث شهد بها وأخبر، وأعلم عباده وبيّن لهم تحقيقها وصحتها، وألزمهم بمقتضاها، وحكم به، وجعل الثواب والعقاب عليها، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها.
فالدين كله من حقوقها. والثواب كله عليها. والعقاب كله على تركها. وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة.
فأوامره كلها تكميل لها. وأمر بأداء حقوقها. ونواهيه كلها صيانة لها عما يهدمها ويضادها.
وثوابه كلها عليها. وعقابه على تركها، وترك حقوقها.
وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها.
وهي الحق الذي خلقت به المخلوقات. وضدها: هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه، وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض.
٣٠: ٨ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ؟ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ وقال تعالى: ١٥: ٨٥ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وهذا كثير في القرآن.
والحق الذي خلقت به السموات والأرض، ولأجله: هو التوحيد وحقوقه: من الأمر والنهي. والثواب والعقاب، والشرع والقدر، والخلق، والثواب والعقاب: قائم بالعدل. والتوحيد صادر عنهما. وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى. قال تعالى حكاية عن نبيه هود أنه قال: ١١: ٥٦ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله. فهو يقول الحق ويفعل العدل: ٦: ١١٥ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٣٣: ٤ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى: هو مقتضي التوحيد والعدل. قال تعالى: ١٦: ٧٦ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
والمقصود: أن قوله تعالى قائِماً بِالْقِسْطِ:: هو كقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقوله: قائِماً بِالْقِسْطِ: نصب على الحال. وفيه وجهان.
أحدهما: أنه حال من الفاعل في «شهد الله» والعامل فيه معنى الفعل. والمعنى على هذا على هذا: شهد الله حال قيامه بالقسط: أنه لا إله إلا هو.
والثاني: أنه حال من قوله: «هو» والعامل فيها معنى النفي، أي لا إله إلا هو حال كونه قائما بالقسط.
وبين التقديرين فرق ظاهر. فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى: شهد الله متكلما بالعدل به، آمرا به، فاعلا له، مجازيا عليه: أنه لا إله إلا هو.
فإن العدل يكون في القول والفعل، و «المقسط» هو العادل في قوله وفعله.
فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا: أنه لا إله إلا هو. وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط. وهي أعدل شهادة، كما أن المشهود به أعدل الشيء، وأصحه وأحقه.
وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية: ما يشهد بذلك. وهو «أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلّى الله عليه وسلّم. فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا:
وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة. فإن أخبرتنا بها آمنا بك.
قال سلاني. قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية».
فصل
وأما التقدير الثاني- وهو أن يكون قوله: «قائما» حالا مما بعد «إلا» - فالمعنى: أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل. فهو وحده المستحق الإلهية، مع كونه قائما بالقسط.
قال شيخنا: وهذا التقدير أرجح. فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم، يشهدون له بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
قلت: مراده: أنه إذا كان قوله: «قائما بالقسط» حالا من المشهود به: فهو كالصفة له. فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها. فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها، كان كلاهما مشهودا به. فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو.
والتقدير الأول لا يتضمن ذلك. فإنه إذا كان التقدير: شهد الله قائما بالقسط: أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو- كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده.
وأيضا: فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة.
قلت: فائدته ظاهرة. فإنه لو قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم- أو هم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله «قائما بالقسط» ويحسن العطف لأجل الفصل. وليس المعنى على ذلك قطعا. وإنما المعنى على خلافه. وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية. فهو وحده الإله المعبود المستحق للعبادة. وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل.
قوله: «لا إله إلا هو» ذكر محمد بن جرير الطبري «١» أنه قال: الأولى وصف وتوحيد. والثانية: رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
ومعنى هذا: أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها.
والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة الله، لا عن شهادته هو. وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي. فيكون شاهدا هو بها أيضا.
وأيضا: فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد. والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله: «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فتضمنت الآية توحيده وعدله، وعزته وحكمته.
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء، وان كان هو الذي جعله مستحقا.
والعزة تتضمن كمال قدرته، وقوته وقهره.
والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهي، وخلق وقدر، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.
فاسمه «العزيز» يتضمن الملك. واسمه «الحكيم» يتضمن الحمد.
وأول الآية يتضمن التوحيد، وذلك حقيقة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنبيون من قبله.
و «الحكيم» الذي إذا أمر بأمر كان المأمور به حسنا في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان المنهي عنه قبيحا في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلا كان صوابا. وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره.
وهذا الوصف على الكمال: لا يكون إلا لله وحده.
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم، وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب.
ففيها: الشهادة له بالتوحيد والعدل والقوة، والعلم والحكمة، ولهذا كانت أعظم شهادة.
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف. إلا أهل السنة، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها.
وطوائف الاتحادية: هم أبعد خلق الله منها من كل وجه.
وطائفة الجهمية: تنكر حقيقتها من وجوه.
منها: أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه، وإنابة.
وعندهم: أن الله لا يحبّ، ولا يحبّ.
ومنها: أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به. وهو عندهم: لا يقول ولا يتكلم، ولا يشهد ولا يخبر.
ومنها: أنها تضمنت مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم: أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم، وليس فوق العرش إله يعبد، ولا رب يصلى له ويسجد. وعند حلوليتهم: أنه حال في كل مكان بذاته، حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكرها. فهؤلاء الجهمية، وأولئك نفاتهم.
ومنها: أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله. وعندهم: أنه لم يقم به فعل، في مقدوره ما يكون ظلما ولا قسطا، بل الظلم عندهم: هو المحال الممتنع لذاته. والقسط: هو الممكن. فنزه نفسه سبحانه- على قولهم- عن المحال الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت القدرة.
ومنها: أن العزة هي القوة والقدرة. وعندهم: لا يقوم به صفة.
ومنها: أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودها أولى من عدمها. وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه وتعالى. فلا يفعل لحكمة، ولا غاية لفعله ولا أمره. وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل.
ومنها: أن الإله: هو الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهو
فصل
فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب. ووجهه لا يراد، ولا يلتذ بالنظر إليه، ولا تشتاق القلوب إليه، فهم في الحقيقة منكرون لإلهيته.
والقدرية: تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه. فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه.
والجبرية: تنكر حكمته، وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها. فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده.
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما: ينكرون أن يكون ربهم ماهية غير الوجود المطلق، وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود. فهم في الحقيقة منكرون لذات ربنا وصفاته وأفعاله، لا يتحاشون من ذلك.
والاتحادية: أدهى وأمرّ. فإنهم رفعوا القواعد من الأصل، وقالوا: ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق، بل الخلق المشبّه هو عين الحق المنزه، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة.
فهذه الشهادة العظيمة: كل هؤلاء هم بها غير قائمين. وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده، كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده. وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل. ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل التوحيد والإثبات الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا.
فصل
وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه لعباده، ودلالتهم وتعريفهم لما شهد به، وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا بها، ولم يقم عليهم بها الحجة، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة، ولم يبينها. بل كتمها: لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع، والبصر، والعقل.
أما السمع: فبسمع آياته المتلوة القولية، المتضمنة لإثبات صفات كماله. ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سماواته، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن يشاء من عباده تكلما وتكليما، حقيقة لا مجازا.
وفي هذا إبطال لقول من قال: إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية: من إثبات معانيها، وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها. فإن هذا ضد البيان والأعلام. ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان. وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من الله. وأخبر أنه من أظلم الظالمين.
فإذا كانت عند العبد شهادة من الله تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته، وتوحيد مرسله، وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم، وكتم هذه الشهادة- كان من أظلم الظالمين، كما فعله أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم الشهادة الحقّ التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة، ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها، ولا يجامعها بوجه ما؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه القاهر فوق عباده، وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم، وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر،
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها، والاستدلال بها. فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية. وآيات الرب: هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف لعباده. فيها يعرفون أسماءه وصفاته، وتوحيده وأمره ونهيه.
فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به، وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك، وهي آياته العيانية. والعقل يجمع بين هذه وهذه. فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتنفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.
وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر، وإقامته للحجة- لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به. قال تعالى: ٥٧: ٣٥ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وقال تعالى: ١٦: ٤٣، ٤٤ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وقال تعالى: ٣: ١٨٣ قُلْ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
وقال تعالى: ٣٥: ٢٥ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ حتى أن من أخفى آيات الرسل: آيات هود حتى قال له قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ومع هذا فبينته من أظهر البينات. وقد أشار إليها بقوله ١١: ٥٤ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهذا من أعظم الآيات: أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، في غير جزع ولا فزع، ولا خور، بل هو واثق بما قاله جازم به. قد أشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه، إشهاد واثق به، معتمد عليه، معلم لقومه أنه سبحانه وليه وناصره، وغير مسلطهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة: أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم، واحتقارهم، وازدرائهم، وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده، وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، وفي ضمن ذلك: أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك، وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين.
ثم قرر دعوته أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله، القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم. فلا يخذل من توكل عليه، وآمن به، ولا يشمت به أعداءه، ولا يكون معهم عليه. فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله: يمنع ذلك ويأباه.
وتحت هذا الخطاب: أن من صراطه المستقيم: أن ينتقم ممن خرج عنه، وعمل بخلافه، وينزل به بأسه. فإن الصراط المستقيم: هو العدل الذي الرب تعالى عليه. ومنه: انتقامه من أهل الشرك والإجرام، ونصره
فأي آية وبرهان ودليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم، بينها لعباده غاية البيان، وأظهرها لهم غاية الإظهار، بقوله وفعله،
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
. ومن أسمائه تعالى «المؤمن» وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم. فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم، قضاء وخلقا. فإنه سبحانه أخبر، وخبره الصدق. وقوله الحق:
أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية: ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسوله حق. فقال تعالى ٤١: ٥٣ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي القرآن. فإنه هو المتقدم في قوله ٤١: ٥٢ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ثم قال ٤١:
٥٣ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟.
فشهد سبحانه لرسوله بقوله: أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا.
ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء. فإن من أسمائه «الشهيد» الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليهم بتفاصيله.
وهذا الاستدلال بأسمائه وصفاته. والأول: استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
قلت: أجل، وهو لعمر الله كما ذكرت، وشأنه أجل وأعلى. فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان.
فاعلم أن الله سبحانه- في الحقيقة- هو الدال على نفسه بآياته. فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات. وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالتقليد والتعطيل والجحود: أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
فالكمال كله والجلال، والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء: كله من لوازم ذاته، يستحيل أن يكون على غيره ذلك. فالحياة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له، والسمع، والبصر والإرادة، والمشيئة والرحمة، والغناء والجود، والإحسان والبر: كله خاص له، قائم به. وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه، بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه.
ومن كماله المقدس: اطلاعه على كل شيء، وشهادته عليه. بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله، ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا. ومن هذا شأنه، كيف يليق بالعباد أن يشركوا به غيره، وأن يعبدوا معه غيره، ويجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقرّ من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك، ويؤيده ويعلي كلمته، ويرفع شأنه ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر؟ وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر، ساع في الأرض بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته على كل شيء،
والقرآن مملوء من هذه الطريق. وهي طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة، هم الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله، وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك. فيبديه ويعيده لمن له فهم، وقلب واع عن الله. قال الله تعالى: ٦٩: ٤٤ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ٤٦ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ٤٧ أفلا تراه كيف يخبر سبحانه: أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل أن يجعله عبرة لعباده. كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه. وقال تعالى: ٤٢: ٢٤ أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ هاهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ: أنه يمح الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: ٦: ٩١ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمة كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس، وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك، كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله ٥٩: ٢٢- ٢٣ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ،
وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن.
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة، وأن كماله المقدس يمنع من شرعها، كقوله ٧: ٢٨ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا، وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش، والقول على الله بلا علم ١٧: ٣٨ كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو سبحانه يكرهه، وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا، فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به، ويحبه ويبغضه، ويثيب عليه ويعاقب عليه، ولكن هذه الطريقة لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة. فلذا كانت طريقة الجمهور والدلالات بالآيات المشاهدة. فإنها أوسع وأسهل تناولا، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض، ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره. فإنه الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود له، وهو الحكم والدليل، وهو الدعوى والبينة. قال الله تعالى: ١١: ١٣ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي من ربه وهو القرآن. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله له: ٢٩: ٥٠، ٥١ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي من كل آية، ففيه الحجة، والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله.
وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة والنجاة من العذاب. ثم قال ٢٩:
وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته، وقدرته وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه وأمره، ورحمته عند ذكره إرسال رسله، وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم، وسمعه عند دعائه ومسألته وعزته، وعلمه عند قضائه وقدرته.
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب.
فصل
ومن هذا قوله تعالى: ١٤: ٤٣ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا. قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. ولا بد أن تعلم هذه الشهادة، وتقوم بها الحجة على المكذبين له.
وكذلك قوله ٦: ١٩ قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وكذلك قوله ٤: ١٦٦ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
وكذلك قوله ٣٣: ١- ٣ يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقوله ٢: ٢٥٢ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّكَ لَمِنَ
وقوله ٦٣: ٢ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وقوله ٤٨:
٢٩ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فهذا كله شهادة منه لرسوله. قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده. وأقام الحجة عليهم.
فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة: عقليّها، ونقليّها، وفطريها، وضروريها، ونظريها.
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها، وصدقه بسائر التصديق: بقوله الذي أقام به البراهين على صدقه فيه، وبفعله وإقراره، وبما فطر عليه عباده، من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا يليق به. وكل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة، والظفر والتأييد. ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال، والعقوبات المعجلة، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة ٤٨: ٢٨ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فيظهره ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان والدلالة، وظهورا بالنظر والغلبة والتأييد، حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا.
وقوله ٤: ١٦٦ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله، كما قال في الآية الأخرى ١١: ١٣:
١٤ أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ. قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله، وأنه معلوم له، كما يعلم سائر
إنزاله مشتملا على علمه. فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده، وأنه حق وصدق.
ونظير هذا قوله ٢٥: ٦ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر سبحانه ذلك تكذيبا وردا على من قاله: افتراه.
فصل
ومن شهادته أيضا: ما أودعه في قلوب عباده: من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه ووحيه.
فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته، بل يوقع أعظم الريب والشك، وتدفعه الفطر والعقول السليمة، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة، التي لا تغذى، كالأبوال والأنتان. فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه، ومحبته. وفطرها على بغض الكذب والباطل، والنفور عنه، والريبة به. وعدم السكون إليه. ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن. فإن كل من تدبره أوجب له تدبّره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق. وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأكملهم علما وعملا ومعرفة، كما قال تعالى: ٤: ٨٢ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وقال تعالى:
٤٧: ٢٤ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية: من الفرح والألم،
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له «فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
فقال: لا. فقال له: وكذلك الايمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد».
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله ٢٩: ٤٩ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وقوله ٣٤: ٦ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وقوله ٢٢: ٥٤ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ وقوله ١٣: ١٩ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ وقوله ١٣: ٢٧ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.
يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية، بل الله هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم على أعظم آية وأجابها: وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكر الله الذي أنزله. فقال ١٣: ٢٨ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فطمأنينة القلوب الصحيحة، والفطر السليمة به. وسكونها إليها: من أعظم الآيات، إذ يستحيل في العادة: أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل.
فإن قيل: فلم لم يذكر سبحانه شهادة رسله مع الملائكة. فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل، وهم أعظم شهادة من أولي العلم؟.
قيل: في ذلك عدة فوائد:
أحدها: أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء. فيدخلون هم وأتباعهم.
ففي هذا بيان أن من لم يشهد له سبحانه بهذه الشهادة، فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا ما لم يعلمه غيره. فهو من أولي الجهل، لا من أولي العلم.
وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة وأداها على وجهها إلا أتباع الرسل:
أهل الإثبات. فهم أولو العلم. وسائر من عداهم أولو الجهل، وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال.
ومنها: الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة: أنهم أولو العلم.
فشهادته سبحانه لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة، والفرعونية لهم: بأنهم جهال، وأنهم حشوية، وأنهم مشبهة، وأنهم مجسمة، ونوابت ونواصب.
فكفاهم شهادة أصدق الصادقين لهم: بأنهم من أولي العلم، إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه، من غير تحريف ولا تعطيل. وأثبتوا له حقيقة هذه الشهادة بكل مضمونها. وخصومهم نفوا عنه حقائقها، وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها.
فصل
وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية: الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم. فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته. واستشهد
فصل
قد فسرت شهادة أولي العلم: بالإقرار. وفسرت بالتبيين والإظهار.
والصحيح: أنها تتضمن الأمرين. فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء لله على الناس يوم القيامة. قال الله تعالى: ٢: ١٤٢ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وقال تعالى: ٢٢: ٧٨ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا، ونوّه بذكرهم قبل أن يوجدهم، لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة. فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة، وإقرارا ودعوة، وتعليما وإرشادا، فليس من شهداء الله. والله المستعان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
اختلف المفسرون: هل هو كلام مستأنف، أو داخل في مضمون هذه الشهادة. فهو بعض المشهود به.
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر «إن» وفتحها. فالأكثرون على كسرها. على الاستئناف. وفتحها الكسائي وحده.
والوجه: هو الكسر. لأن الكلام الذي قبله قد تم. فالجملة الثانية:
مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها. وهذا أبلغ في التقرير، وأدخل في المدح والثناء. ولهذا كان كسر «إن» من قوله ٥٢: ٢٨ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ أحسن من الفتح. وكان الكسر في قول الملبي «لبيك
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين. فهي واقعة على إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وهو المشهود به. ويكون فتح «أنه» من قوله «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» على إسقاط حرف الجر، أي بأنه لا إله إلا هو. وهذا توجيه الفراء. وهو ضعيف جدا. فإن المعنى على خلافه، وأن المشهود به: هو نفس قوله «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» فالمشهود به «إن» وما في حيّزها.
والعناية إلى هذا صرفت، وبه حصلت.
ولكن لهذا القول- مع ضعفه- وجه. وهو أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده: أن الدين عند الله الإسلام. والإسلام: هو توحيده سبحانه.
فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه: أنه الإسلام لا غيره.
الوجه الثاني: أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا، كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها. والتقدير: وأن الدين عنده الإسلام. فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه، كما وقع الاستغناء عنها في قوله: ١٨: ٢٢ سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فيحسن ذكر الواو وحذفها، كما حذفت هاهنا، وذكرت في قوله ١٨: ٢٢ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
الوجه الثالث: - وهو مذهب البصريين- أن يجعل «ان» الثانية بدلا من الأولى. والتقدير: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام. وقوله «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» توطئة للثانية وتمهيد. ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول. فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله، هو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها. ولك أن تجعله على هذا الوجه- من باب بدل
فإن قيل: فكان ينبغي- على هذه القراءة- أن يقول: إن الدين عند الله الإسلام. لأن المعنى: شهد الله أن الدين عنده الإسلام. فلم عدل إلى لفظ الظاهر؟
قيل: هذا يرجح قراءة الجمهور، وأنها أفصح وأحسن. ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر. وقد ورد في القرآن، وكلام العرب كثيرا.
قال الله تعالى: ٢: ١٩٦ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وقال ٢: ٢٣٥ اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ وقال تعالى:
٧: ١٧٠ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
قال ابن عباس: افتخر المشركون بآبائهم، فقال كل فريق: لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه، فأكذبهم الله تعالى فقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ يعني الذي جاء به محمد، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس الله دين سواه ٣: ٨٥ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وقد دل قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ على أنه دين أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه. قال أول الرسل نوح فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وقال إبراهيم وإسماعيل رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ٢: ١٣٢ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ- إلى قوله- وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وقال موسى لقومه إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ
وقالت ملكة سبأبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فأديان أهل الأرض ستة: واحد للرحمن وخمسة للشيطان. فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان: اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين.
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآيات العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
«اللهم» لا خلاف أن لفظ «اللهم» معناها: يا الله: ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب. فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اللهم اغفر لي وارحمني.
واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم.
فقال سيبويه: زيدت عوضا من حرف النداء. ولذلك لا يجوز الجمع بينهما في اختيار الكلام، فلا يقال «يا اللهم» إلا فيما ندر، كقول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألمّا... أقول: يا اللهم، يا اللهم
ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا. إذ هو في غير محل المحذوف. فإن كان في محله سمّي بدلا، كالألف في «قام، وباع» فإنها بدل من الواو والياء. ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضا. فلا يقال:
يا اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه.
والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد. وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها. وهذا من خصائص هذا الاسم. كما
وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة. والتقدير: يا الله أمنّا بخير، أي اقصدنا ثم حذف الجار والمجرور، وحذف المفعول. فبقي في التقدير:
يا الله أمّ. ثم حذفت الهمزة، لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم، فبقي «يا اللهم» وهذا قول الفراء.
وصاحب هذا القول يجوّز دخول «يا» عليه. ويحتج بقول الشاعر:
يا اللهم ما اردد علينا سحا مسلما
وبالبيت المتقدم وغيرهما.
ورد البصريون هذا بوجوه.
أحدها: أن هذه التقادير لا دليل عليها، ولا يقتضيها القياس، فلا يصار إليها بغير دليل.
الثاني: أن الأصل عدم الحذف، فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل.
الثالث: أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره. فلا يصح هذا التقدير فيه.
الرابع: أن الاستعمال الشائع الفصيح يدل على أن العرب لم تجمع بين «يا» و «اللهم» ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع. بل كان استعماله فصيحا شائعا. والأمر بخلافه.
الخامس: أنه لا يمتنع أن يقول الداعي: اللهم أمّنا بخير. ولو كان التقدير كما ذكره، لم يجز الجمع بينهما، لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه.
السابع: أنه لو كان التقدير ذلك لكان «اللهم» جملة تامة، يحسن السكوت عليها. لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب. وذلك باطل.
الثامن: أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده، ولم يوصل باسم المنادى كما يقال: يا الله قه «١»، ويا زيد عه «٢»، ويا عمرو فه «٣». لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة. هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل.
التاسع: أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد: اللهم أمّني بكذا بل هذا مستكره من اللفظ والمعنى. فإنه لا يقال: اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان، فيقول له: اقصدني. وأما من كان لا يفعل إلا بإرادته، ولا يضل ولا ينسى. فلا يقال له: اقصد كذا.
العاشر: أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء.
كقوله صلّى الله عليه وسلّم في الدعاء «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكي، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله»
وقوله «اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك: أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك»
وقوله تعالى: ٣: ٢٦ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ- وقوله:
٣٩: ٤٦ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي».
(٢) عه: فعل أمر من الوعي.
(٣) فه: فعل أمر من الإيفاء.
وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم، كزيادتها في زرقم، لشديد الزرقة، وابنم في ابن.
وهذا القول صحيح. لكن يحتاج إلى تتمة. وقائله لحظ معنى صحيحا، لا بد من بيانه.
وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك.
وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى. كما هو مذهب أساطين العربية. وعقد له أبو الفتح ابن جنى بابا في الخصائص. وذكره عن سيبويه. واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى.
ثم قال: ولقد مكثت برهة يرد عليّ اللفظ لا أعلم موضوعه، فأجد معناه من قوة لفظه، ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى. ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه. فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جنى. فقال:
وأنا كثيرا ما يجرى لي ذلك. ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى. والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف. والمتوسطة للمتوسط. فيقولون: عزّ يعز. بفتح العين- إذا صلب. وأرض عزاز: صلبة. ويقولون: عز يعزّ- بكسرها- إذا امتنع.
والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره. ثم يقولون: عزّه يعزّه. إذا غلبه. قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام ٣٨: ٢٣ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ والغلبة أقوى من الامتناع، إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه، متحصنا عن عدوه، ولا يغلب غيره. فالغالب أقوى من الممتنع، فأعطوه أقوى الحركات- وهو الضمة- والصلب أضعف من الممتنع. فأعطوه أضعف الحركات- وهو الفتحة- والممتنع المتوسط بين المرتبتين حركة الوسط.
ونظير هذا قولهم «ذبح» - بكسر أوله- للمحل الذبوح: و «ذبح» -
وتأمل هذا في «الحبّ والحبّ» فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب، ومضمومه للمصدر، إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم، ولطف موقعه من أنفسهم وحلاوته عندهم، وثقل حمل الحب ولزومه، كما يلزم الغريم غريمه، ولهذا يسمى غراما. ولهذا كثر وصفهم تحمله بالشدة والصعوبة، وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب من حمله، ولم يستقل به. كما هو كثير في أشعار المتقدمين والمتأخرين وكلامهم. فكان الأحسن: أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية، والمحبوب الحركة التي هي أخف منها.
ومن هذا: قولهم «قبض» بسكون وسطه للفعل، و «قبض» بتحريكه للمقبوض. والحركة أقوى من السكون والمقبوض أقوى من المصدر.
ونظيره: «سبق» بالسكون للفعل، و «سبق» بالفتح: للمال المأخوذ في هذا العقد.
وتأمل قولهم «دار، دورانا» و «فارت القدر، فورانا» و «وغلت، غليانا» كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى.
فطابق اللفظ المعنى.
وتأمل قولهم «حجر» و «هواء» كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد
وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى.
ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن، ورقة طبع. ولا تتأتى مع غلظ القلوب، والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأملها وتدبرها، والنظر إلى حكمة الواضع، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق عن أكثر العقول. وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه ٢٤: ٤٠ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
وانظر في تسميتهم الغليظة الجافي بالعتلّ والجعظري، والجواظ، كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني.
وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعشنّق. وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطول، وتسميتهم القصير بالبحتر، وموارتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل، وهو العشنق، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر، كيف يقتضي اللفظ الأول: انفتاح الفم، وانفراج آلات النطق، وامتدادها، وعدم ركوب بعضها بعضا، وفي اسم البحتر الأمر بالضد.
وتأمل قولهم: طال الشيء، فهو طويل، وكبر كبير. فإن زاد طوله وكبره قالوا: طوالا، وكبارا، فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا، وأطول من الياء في الأطول. فإن زاد كبر الشيء، وثقل موقعه من النفوس ثقّلوا اسمه، فقالوا: كبّارا بشد الباء.
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه، واستعصى على الضبط.
فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول:
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم، كيف تجد الجمع معقودا بها، مثل لمّ الشيء يلتمه، إذا جمعه. ومنه لمّ الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. ومنه قولهم: دار لمومة. أي تلم الناس وتجمعهم. ومنه: الأكل اللّمّ، جاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب صاحبه. وأصله من اللم، وهو الجمع، كما يقال: لفه يلفّه. ومنه: ألم بالشيء، إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه.
ومنه اللمم. وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر. ومنه الملمة، وهي النازلة التي تصيب العبد. ومنه اللّمّة، وهي الشعر الذي قد اجتمع، وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن، ومنه لمّ الشيء، وما تصرف منها.
ومنه: بدر التّم: إذا كمل واجتمع نوره.
ومنه: التوأم للولدين المجتمعين في بطن.
ومنه: الأم. وأم الشيء: أصله الذي تفرع منه. فهو الجامع له، وبه سميت مكة أم القرى، والفاتحة أم القرآن. واللوح المحفوظ: أم الكتاب.
قال الجوهري: أم الشيء أصله، ومكة: أم القرى. وأم مثواك:
صاحبة منزلك. يعني التي تأوى إليها وتجتمع معها، وأم الدماغ: الجلدة التي تجمع الدماغ ويقال لها: أم الرأس. وقال تعالى في الآيات المحكمات
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» ».
ومنه: الإمام الذي يجتمع المقتدون به على أتباعه.
ومنه: أمّ الشيء يؤمه إذا جمع قصده وهمه إليه.
ومنه: رمّ الشيء يرمه، إذا أصلحه. وجمع متفرقه.
قيل: ومنه سمي الرمان: لاجتماع حبه وتضامه.
ومنه: ضم الشيء يضمه: إذا جمعه.
ومنه: هم الإنسان، وهمومه، وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه.
ومنه: قولهم للأسود: أحم، والفحمة السوداء: حممة، وحم رأسه إذا اسود بعد حلقه كله. هذا لأن السواد لون جامع للبصر، لا يدعه يتفرق.
ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود، من شعر أو خرقة، ليجمع عليه بصره فتقوى القوة الباصرة.
وهذا باب طويل. فلنقتصر منه على هذا القدر.
وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم قد ألحقوها في آخر هذا الاسم «اللهم» الذي يسأل العبد به ربه سبحانه في كل حاجة، وكل حال، إيذانا بجمع أسمائه تعالى وصفاته. فإذا قال السائل: اللهم إني أسألك، كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته.
فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم، إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «ما أصاب عبدا قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا. قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» «١».
فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما في الاسم الأعظم
«اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» «٢»
وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى، كما ذكر في غير هذا الموضع «٣».
والدعاء ثلاثة أقسام.
أحدها: أن تسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته. وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: ٧: ١٨٠ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها.
والثاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلّك. فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير، ونحو ذلك.
والثالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكروا أحدا من الأمرين.
فالأول أكمل من الثاني. والثاني أكمل من الثالث. فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل.
(٢) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم.
(٣) في كتاب الوابل الصيب.
وفي الدعاء الذي علمه صدّيق الأمة رضي الله عنه «١» ذكر الأقسام الثلاثة. فإنه
قال في أوله «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»
وهذا حال السائل. ثم
قال: «وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»
وهذا حال المسؤول، ثم قال «فاغفر لي» فذكر حاجته وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه.
وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف. قال الحسن البصري «اللهم» مجمع الدعاء وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله «اللهم» فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى، وقال النضر بن شميل: من قال «اللهم» فقد دعا الله بجميع أسمائه.
وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع، فإنها من مخرجها. فكأن الداعي بها يقول: يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامة الجمع. وهي الواو والنون في «مسلمون» ونحوه.
وعلى الطريقة التي ذكرناها وهي أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا.
بقي أن يقال: فهلا جمعوا بين «يا» وبين هذه الميم، على المذهب الصحيح؟.
فالجواب: أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم، لمكان الألف واللام منه. وإنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه، واضطرارهم إليه، واستغاثتهم به. فإما أن يحذفوا الألف واللام منه. وذلك لا يسوغ للزومهما، وإما أن يتوصلوا إليه بأيّ، وذلك لا يسوغ،
فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة. فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جمع الاسم، جعلوها عوضا عن حرف النداء، فلم يجمعوا بينهما، والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٣]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
هذا مما قدم بالفضل، لأن السجود أفضل، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض. والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع؟.
الجواب أن يقال:
انتبه لمعنى الآية، من قوله ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ولم يقل:
اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها. ثم قال لها «ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» أي صلى مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده، دون أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات، تريد الصلاة، لا الركوع بمجرده.
فصارت الآية متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود.
لأن السجود أفضل حالات العبد. وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع. لأنه في الفضل دون السجود.
وكذلك صلاتها مع المصلين، دون صلاتها في بيتها وحدها في محرابها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم. فتشاحّ عليها بنو إسرائيل. فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها. فقرع زكريا، وكان زوج أختها، فضمها إليه. ونحوه عن مجاهد.
وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
تضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ. فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل أن تنزل التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه. ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده، إلى حين تنزل التوراة. ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل. وهذا محض النسخ.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة. وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
هل تجدون فيها أن إسرائيل حرّم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم، أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة؟ وإذا كان إنما حرم هذا وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه: ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى في نسخها.
فتأمل هذا الوضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه. وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام، عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح، والأفعال والأقوال. وذلك نسخ بحكم البراءة الأصلية. فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب. إذ هذا شأن كل الشرائع. وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، وتحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب. فلم ينكره أحد من أهل الملل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعة ربه ومرضاته.
فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء، وحسن الذكر، ولا يبتغون به وجه لله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله وأتباع رسله- بالزرع الذي يزرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا، يحرق بردها كل ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
وقال ابن الأنباري: إنما وصفت الريح بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب.
وقيل: الصر: الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها.
والأقوال الثلاثة متلازمة. فهو برد شديد محرق ليبسه الحرث، كما تحرقه النار وفيه صوت شديد.
وفي قوله صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم. فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة، حتى أهلكت زرعهم وأيبسته. فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
أما الخذلان
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها: خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري.
ولخذلان: أن يخلق الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه، ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به ويعينه، ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه فقد هلك كل الهلاك. ولهذا كان
من دعائه صلّى الله عليه وسلّم «يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت،
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه. وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان، كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟.
قيل: لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان، كما قال الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا، مع ضعفها. فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم، فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة؟ فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها؟ وقد أراها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة: سمعت ابن أبي الدنيا يقول: إن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد القطان حدثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه: أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر، فيقول: أتدرون ما تقول هؤلاء؟ فيقولون: لا، فيقول:
تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب؟ إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتغثو، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. قال: تقول للسخلة: الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك
أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه. قال: فانتهينا إليهم. فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه، قال: فأناخوا البعير وحطوا عنه، فإذا هو كما قال.
فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح ١٤: ٢٣ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه.
والمصابرة: مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة، تستدعي وقوفها بين اثنين، كالمشاتمة والمضاربة- فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه.
والمرابطة، وهي الثبات واللزوم، والإقامة على الصبر والمصابرة.
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر، ويرابط من غير تعبد بالتقوى.
فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله: التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها.
فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان، فيزيله عن مملكته.