بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران وهي مدنيةﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمرانوهي مدنية
قوله: ﴿الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾.
قد تقدم ذكر ﴿الم﴾ في أول البقرة، وذكر ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ عند ذكر آية الكرسي.
وأجاز الأخفش كسر الميم في ﴿الم * الله﴾ لالتقاء الساكنين.
ومن فتح فإنه حرك الميم لسكونها وسكون الياء قبلها، ولم يكسر لاستثقال الكسر بعد الياء وقد قال الفراء: " من فتح ألقى حركة الهمزة على الميم ".
وأحسن ما قيل فيه: إنه القائم على كل شيء، الذي لا يزول، الدائم.
قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ يعني القرآن. ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما تقدمه من كتب الله.
وقوله: ﴿وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل﴾ أي: من قبل نزول القرآن.
وقوله ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾: يعني اليهود والنصارى، وهذا كله رد على من جحد القرآن.
وكان سبب هذه السورة في نزولها بالتوحيد، وذكر يحيى وعيسى: أن طائفة من النصارى قدموا على النبي ﷺ من نجران فحاجوه في عيسى وألحدوا، فأنزل الله في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفاً وثمانين آية من أولها، احتجاجاً عليهم، ودعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام فقالوا: قد أسلمنا فقال ﷺ: كذبتم.
وكان من أول ما سألوه أن قالوا: من أبو عيسى عليه السلام؟ فسكت النبي ﷺ. فأنزل الله صدر السورة بتوحيده وتعظيمه رداً عليهم، ووصف نفسه بالحياة تقريعاً لهم، لأنهم يعبدون عيسى وهو عندهم قد مات وقال: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٦]. وقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩].
وكان ممن قدم عليه ثلاثة رؤساء (لهم) منهم: أحدهم العاقب، وهو
والآخر: السيد، وهو الأيهم.
والثالث أبو حارثة بن علقمة، أخو بكر بن وائل.
والإنجيل " الأصل من: نجلته " الشيء: أخرجته، ويقال نجله أبوه أي: جاء به وجمعه أناجيل، وهو إفعيل وجمع التوراة: توار.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، (أي) لما قبله من كتاب ورسول ".
قوله: ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾.
هو ما يفرق به بين الحق والباطل في أمر عيسى.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.
أي: إن الذين حجدوا بآيات الله وقالوا: إن عيسى ولده واتخذوه إلأهاً ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.
معناه: من كان بهذه الحال يا محمد كيف يخفى عليه ما يضاهي به هؤلاء في عيسى.
قوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾.
أي: يجعل هذا ذكَراً وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر فلذلك خلق عيسى لا من رجل كيف شاء، ولو كان إلهاً ما اشتملت عليه الآرحام، وانتقل من حالة إلى حالة.
قوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾.
قال ابن عباس: [هي]:
وقال مجاهد وعكرمة، ويحيى بن يعمر: المحكمات: الحلال والحرام والأمر والنهي، وما سوى ذلك فمتشابه يصدق بعضه بعضاً.
وقال الضحاك: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.
وأهل المعاني على (أن) المحكم ما قام بنفسه، وفهم في ظاهر لفظه، ولم يحتمل إلآ ذلك، والمتشابه ما احتاج إلى تأويل وتفسير واحتمل المعاني.
وقيل: سماهن أم الكتاب لأن فيهن الدين من: حلال وحرام وأمر ونهي وفرض وغير ذلك، فهذا الأصل الذي تعبدنا به.
وإنما وحد الأم لأن معناه: هن أصل الكتاب.
وقيل: المعنى هن الشيء الذي كل واحدة منهن أم الكتاب.
قوله: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾. قيل معناه: اشتبهت على اليهود إذ سمعوها وهي أوائل السور: حروف التهجي، متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني.
وقال ابن عباس: متشابهات: هو المنسوخ، والمقدم والمؤخر.
وقيل: المحكمات ما حكمت في ألفاظ قصص الأنبياء والأمم، والمتشابهات ما حكمت فيه ألفاظ القص والأخبار، قاله، قاله ابن زيد.
[قال:]: نحو ﴿فاسلك فِيهَا﴾ [المؤمنون: ٢٧]، ﴿احمل فِيهَا﴾ هود: ٤٠]، ﴿اسلك يَدَكَ﴾ [القصص: ٣٢]....... [ادخل يدك]، ﴿حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ٢٠]، ﴿ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الشعراء: ٣٢]، ونحوه، فهذا المتشابه.
وقيل: المحكم ما علم تأويله العلماء، والمتشابه ما لم يعلم تأويله أحد، وقد أفردنا الكلام على هذه الآية في كتاب مفرد متقصى فيه
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾.
أي: ميل عن الحق وهو الشك ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ وهو ما احتمل التأويلات " يبتغون بذلك الفتنة " أي: الكفر.
قال ابن عباس: يحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم يلبسون على الناس.
وقال السدي: يعترضون في الناسخ والمنسوخ فيقولون: ما بال هذه وما بال هذه. وعنى بهذا الوفد من نصارى نجران ومن هو مثلهم. لأنهم خاصموا النبي ﷺ في عيسى.
وقال قتادة: إن لم يكونوا الحرورية فما أدري من هم؟.
قال السدي والربيع ﴿ابتغاء الفتنة﴾ أي: الشرك
وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات.
قال ابن عباس معنى: ﴿ابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ هو طلب الأجل في مدة محمد وأمته من قبل الحروف التي في أوائل السور وذلك أنهم حسبوها على حروف الجمل بالعدد فقالوا: هذه مدة محمد وأمته.
قال السدي: أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن وهو تأويله متى ينسخ منه شيء.
قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾.
أي: ليس يعلم متى تقوم الساعة وتنقضي مدة أمة محمد عليه السلام إلا الله.
﴿والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾.
أي: يسلمون ويقولون صدقنا، وهو قول ابن عباس وعائشة وابن مسعود، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك.
وروى عن نافع ويعقوب والكسائي، إن الوقف ﴿إِلاَّ الله﴾ وهو قول
ومعنى التأويل: التفسير وهو عند أكثرهم قيام الساعة لأنه ما تؤول إليه الأمور.
ومعنى: ﴿والراسخون فِي العلم﴾ الذين قد أتقنوا علمهم، وأًله من: رسخ إذا ثبت.
(وقال في رواية ابن وهب عنه: العالم العامل بما علم المتبع له).
وعن أسامة أن النبي ﷺ سئل عن الراسخون في العلم فقال: " من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعَفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم ".
وقيل: الراسخ في العلم من وقف حيث انتهى به علمه.
قوله: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾.
أي: ما نسخ وما لم ينسخ من عند الله.
قال عروة بن الزبير: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولكن يقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾.
قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾.
أي ما يتذكر فيعلم الحق فيؤمن به إلا أولو العقول.
قوله: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾.
أي: لا تملها عن إيمانها بالمتشابه والمحكم فأنت هديتنا.
قوله: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس...﴾.
أي: ويقولون أيضاً مع قولهم: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ﴾، ومع قولهم ﴿آمَنَّا بِهِ﴾: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾. لا شك فيه.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ....﴾.
قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
أي: كعادتهم، وقيل كصنعهم: وقيل كشأنهم.
وقيل: كسنتهم في التكذيب والكفر، أي: تكذيب هؤلاء (كتكذيب هؤلاء) وصنعهم كصنعهم، وسنتهم كسنتهم والدأب: العادة
قوله: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾.
من قرأ بالتاء فعلى الخطاب لهم لقوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ كأنه قال: [قل] يا محمد للذين
ومن قرأ بالياء فعلى معنى، قل لليهود سيغلب المشركون.
فمن قرأ بالتاء كان المعنى: إن الله أمر النبي ﷺ أن يقول لهم هذا القول بعينه.
[ومن قرأ بالياء فالمعنى: إن الله أمر النبي ﷺ أن يقول لغيرهم هذا القول وهم اليهود.
واحتج] من قرأ بالتاء أن النبي عليه السلام جمع يهود بعد وقعة بدر، فقال لهم: أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً يوم بدر، فأبوا، وقالوا: لا تغرنك نفسك أنك قاتلت قريشاً وكانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت ما نحن عليه فأنزل الله [تعالى] ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ إلى قوله ﴿الأبصار﴾.
قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا....﴾ الآية.
قرأ الحسن ﴿فِئَةٌ﴾، ﴿كَافِرَةٌ﴾ بالخفض فيهما على البدل، من ﴿فِئَتَيْنِ﴾.
ومن رفع فعلى إضمار مبتدأ.
وقال الزجاج: النصب بمعنى أعني.
ومن قرأ ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ بالتاء فعلى المخاطبة لليهود، أي ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين.
ومن قرأ بالياء جعل الرؤية للمسلمين، أي: يرى المؤمنون المشركين مثلي أنفسهم.
وكان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً. وقيل ثلاثة عشر، والمشركون تسعمائة وخمسون.
وقيل: كانوا ألفاً.
وقد وعد الله المؤمنين بأن الرجل منهم يغلب الرجلين فأراهم الله المشركين مثليهم لتقوى نفوسهم، وكانت تلك آية أن رأوا الكثير قليلاً كما قال: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤].
وأنكر أبو عمرو قراءة من قرأ بالتاء وقال لا يلزم أن يقرأ مثليكم، هذا الرد إنما يلزم لو كانت الرؤية تنصرف على المسلمين، ولا يمكن إلا ذلك.
وقراءة التاء تنصرف على اليهود الذين تقدم ذكرهم.
والمعنى: قد كانت لكم أيها اليهود علامة في صدق محمد ﷺ وصحة ما دعاكم إليه بنصر (الله) تعالى إياه يوم بدر وأعداؤه مثلا من معه.
وقال ابن كيسان: الضمير في ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ يعود على ﴿أخرى كَافِرَةٌ﴾. والهاء والميم في ﴿مِّثْلَيْهِمْ﴾ يعودان على فئة.
وقال الفراء: معنى " مثليهم " ثلاثة أمثالهم.
قال ابن كيسان: كأنه جعل ترونهم يرجع إلى الكل أي: ترون الكل ثلاثة أمثال أصحابكم: هذا على [معنى] من قرأ بالتاء ".
[ومن قرأ بالياء فعلى معنى يرى المؤمنون الكل ثلاثة أمثالهم،
وتكون التاء مخاطبة لليهود فيكون المعنى ترون أيها اليهود الكل ثلاثة أمثال المؤمنين] وهذه كله يوم بدر.
﴿والله يُؤَيِّدُ﴾ اي: يقوي ﴿بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
هذا توبيخ لليهود إذ آثروا الدنيا على الآخرة، فنبذوا اتباع محمد ﷺ خوف أن تذهب رياستهم.
وروي عن عمر أنه قال لما نزلت هذه الآية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾: " الآن يا رب حين زينتها " فنزل ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ الآية.
فالمعنى: زين الله للناس ذلك ابتلاءً واختباراً منه كما قال:
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٧]، فأخبر بالعلة التي من أجلها جعل ما في الأرض زينة لها.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية ".
وقال ابن عباس: القنطار اثنا عشر ألف درهم.
وقال ابن المسيب: القنطار ثمانون ألفاً.
وعن أبي هريرة: أنه اثنا عشر ألف أوقية.
وعن ابن عباس أنه قال: " هو دية أحدكم " وعنه: ثمانون ألف درهم [وعنه سبعون] ألفاً.
وقال قتادة: القنطار ثمانون ألف درهم.
وقيل: هو مائة رطل من ذهب، وهو قول قتادة.
وعن مجاهد: القنطار سبعون ألف دينار.
وقيل: [هو] أربعون أوقية من ذهب أو فضة.
وقال القتبي وغيره: هو ملء مسك ثور من ذهب، والمقنطرة المكملة.
وقال الفراء: المقنطرة: المضعفة.
وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقل من تسعة قناطير.
وقال السدي معنى المقنطرة: المضروبة دراهم ودنانير.
وواحد الخيل عند أبي عبيدة: خايل. سمي بذلك لأنه يختال في مشيته وهو
وقيل: هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه.
والمسومة: الراعية، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة ومجاهد.
وعن مجاهد أيضاً: هي الحسان المطهمة الحسنة الصورة.
وعن ابن عباس أيضاً: المسومة: الممرجة، يريد الراعية في المروج.
وقال ابن زيد: المسومة: المعدة للجهاد.
والمآب: المفعل، من آب يؤوب، وأصله المأوب، ثم نقلت فتحة الواو على الهمزة، وانقلب [الواو] ألفاً كالمقال والمجال.
قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ الآية.
(رفع ﴿جَنَّاتٌ﴾ على) الابتداء.
ويجوز الخفض على البدل من ﴿بِخَيْرٍ﴾.
ويكون للذين متعلق بـ ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾.
وقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ أي زيادة الرضا بعد دخول الجنة.
وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: أعطيكم أفضل من هذا؟ فيقولون أي ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: أحل لكم رضواني ".
وهذه الآية نزلت تعزية للمهاجرين الذين أخرجوا وتركوا ديارهم وأموالهم [فأعلمهم الله أن خيراً مما تركوا من الدنيا الجنة للذين اتقوا.
قوله: ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي: ذو بصر بمن يتقيه ويخافه ممن
وروي أن هذه الآية نزلت تعزية وتصبيراً للمهاجرين إذ فارقوا ديارهم وأموالهم] قدموا بلداً لا مال لهم فيه [ولا] ديار، فأُعلموا أن خيراً مما تركوا من الدنيا: الجنة، ثم مدحهم الله فقال: ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ....﴾ الآية.
قوله: ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ....﴾ الآية.
في هذه الآية صفة من يتقيه ويخافه.
ومعنى ﴿فاغفر لَنَا﴾: استر علينا ذنوبنا.
ثم وصفهم فقال: ﴿الصابرين والقانتين﴾. الآية.
ومعنى ﴿الصابرين﴾ الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس أي: في القتال.
وقال قتادة: صبروا عن محارم الله، وصبروا على طاعة الله ( تعالى).
وقيل: الصابرون هم الصائمون، يقال لشهر رمضان شهر الصبر.
ومعنى ﴿والصادقين﴾ في قول قتادة: هم قوم صدقت نياتهم. وعنه (هم) قوم صدقت أفواههم واستقامت قلوبهم وألسنتهم.
والقانتون: المطيعون، وقيل: المصلون.
والمنفقون: الذين يزكون كما أمر الله.
ومعنى: ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾.
قال قتادة: هم الذين يصلون بالأسحار.
وروي عن ابن مسعود أنه الاستغفار بعينه.
(و) عنه: أنه سمع رجلاً بالسحر يقول: أمرتني فأطعتك وهذا سحرك،
قال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
وقال زيد بن أسلم: " والمستغفرون بالأسحار " هم الذين يشهدون صلاة الصبح.
وقيل: هو الاستغفار بعينه.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن الله يتنزل في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا يقول من يدعوني أستجب له من يستغفرني أغفر له ".
قوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ...﴾ الآية.
نفى الله تعالى بهذه الآية ما أضافته إليه النصارى الذين حاجوا النبي عليه السلام - في عيسى - وغيرهم، أنه إله فأخبرهم أنه ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، وأن ذلك شهد به هو،
قال أبو عبيدة: معنى شهد الله: قضى الله، أي: علم. وأنكر ذلك جماعة، ومعنى ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ أي: بالعدل.
وقرأ أبو المهلب: " شهدآء الله " رده على ما قبله، ونصبه على الحال.
وروى عنه: شهداءَ الله على الحال أيضاً.
وعنه: شهداءُ الله، رفع بالابتداء.
قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام...﴾ الآية.
﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ منصوب بفعل دل عليه (اختلف) كأنه: اختلفوا بغياً بينهم،
وقال الأخفش: [نصبه] باختلف، هذا الظاهر تقديره: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم).
وقيل: مفعول من أجله.
ومن كسر إن فعلى الابتداء، ومن فتح رده على شهداء أي: ويشهد بأن الدين.
وقال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى، لأن الإسلام تفسير بمعنى [الدين] الذي هو التوحيد.
وعن ابن عباس: شهد الله إنه، بالكسر فجعله خبراً وتفتح أن الدين برفع الشهادة عليها.
وقد ألزم من قرأ بالفتح في أن الدين أن يقرأ: أن الدين عنده الإسلام،
وقال المحتج للكسائي: وقع الإظهار هنا للتعظيم والتفخيم كما قال: لا أرى الموت يسبق الموت (شيء).
على التعظيم للموت.
والذي هو أحسن من هذا، أن النحويين إنما منعوا الإظهار [فيما يمكن أن يتوهم أن الثاني غير الأول فيخاف الالتباس عند الإظهار]، والآية لا يمكن ذلك فيها، لأن هذا الاسم ليس هو إلا لواحد لم يتسم به غيره، لا إله إلا هو، فإظهاره مرة بعد مرة لا يوهم أن الثاني غير الأول، وإظهار زيد مرة [بعد
فليست الآية تشبه ما يقع في الكلام من غلإظهار بعد الإظهار، إذ زيد وغيره يصلح لكل أحد، وأما الموت فإنما ظهر في الثاني لأنه لا لبس فيه، إذ ليس ثم غير موت واحد، فليس يتوهم أن الثاني غير الأول وفي الإظهار مع زوال الالتباس معنى التعظيم والتفخيم كما تقدم.
والدين: الطاعة
ومعنى الإسلام: شهادة أن لا إلأه إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
وأصل الإسلام: الخشوع والانقياد.
وروى ابن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
فالإسلام: هو الإيمان إذا استوى الباطن والظاهر، فإن خالف الظاهر الباطن فيهما فليسا بدين يتقبله الله، نحو قوله: ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] ونحو قوله ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾
[البقرة: ٨] لم يحصلوا على شيء لما خالف باطنهم ظاهرهم.
وقد قيل: " إن الإسلام أعم من الإيمان، لأن الإيمان ما صدق به الباطن، والإسلام ما صدق به الباطن ونطق به الظاهر.
ومعنى ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ أي: الإنجيل، وهم النصارى الذين اختلفوا في محمد ﷺ. وقيل: في عيسى للبغي من بعدما جاءهم العلم، فعلوا ذلك طلباً للرياسة والدنيا، قوله: ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ أي: أحصى كل شيء بلا معاناة ولا عدد.
قوله: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ...﴾
(أي): فإن حاجك يا محمد، النفر من نصارى نجران في أمر عيسى، فقل: أخلصت وجهي لله، أي: عبادتي لله، ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ أخلص أيضاً،
" من " في موضع رفع عطف على التاء في ﴿أَسْلَمْتُ﴾ أي ": أسلمت أنا ومن تبعني وجوهنا لله.
وقيل: هي موضع خفض عطف على " الله " ومعنى الكلام أخلصت نفسي لله ول: " من اتبعني "
وقيل: نسبوا إلى مكة، وهي أم القرى.
أسلمتم أي: أقررتم بالتوحيد، ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ﴾ أي: انقادوا وخضعوا لله ولدينه ﴿فَقَدِ اهتدوا﴾ والكلام يراد به الأمر وأخرج مخرج الاستفهام.
والمعنى: قل لهم أسلموا، ولذلك دخلت الفاء في الجواب وهي مثل قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] أي: انتهوا.
[قوله: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ هذا منسوخ.
بالأمر بالقتال].
قال أبو العالية: جاء النبيون إلى ناس من بني إسرائيل يدعونهم إلى الله فقتلوهم، فقام ناس من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم.
وعن عبد الله: إن بني إسرائيل كانت تقتل في اليوم سبعين نبياً، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من (أول) النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل منهم، واثنا عشر رجلاً من عبادهم، فأنكروا عليهم، فقتلوا جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم " ثم تلا الآية.
دخلت الفاء في الخبر من أجل: إن الذي فيه إبهام فدخل به في حيز المجازات، فجاز دخول الفاء في الخبر وحسن مع " إن " لأنها للتأكيد لا تغير
وخوطب من كان بالحضرة بالآية، وهم لم يقتلوا، وإنما ذلك لأنهم على مذهب من فعل ذلك في آبائهم، راضون بفعلهم، مصرون على ذلك إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فلو وجدوا إلى قتل النبي ﷺ ما تركوه، فخوطبوا بذلك لأنهم وآباؤهم سواء.
قوله: ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي: بطلت، فلا ثناء عليهم في الدنيا ولا محمدة، ولا خير لهم في الآخرة ولا رحمة، وما لهم من ينصرهم من عذاب الله، وعقابه.
وقرأ أبو السَمّال: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، بالفتح وهي لغة شاذة.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ [أي إنما أبوا أن يحكم بينهم كتاب الله،
﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾، أي: غرهم افتراؤهم وهو كذبهم وهو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقولهم: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾.
قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ﴾.
أي: فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت، وقد قدموا الافتراء والكذب والكفر، والتبديل واتباع المتشابه، وفضلوا الدنيا وزينتها على الآخرة.
والمعنى: جمعناهم لحساب يوم لا شك فيه.
وقال الكسائي: اللام بمعنى: في، والمعنى عنده: في يوم.
قوله: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك﴾ الآية.
ذُكِرَ أن النبي عليه السلام سأل الله أن يجعل مُلك فارس والروم لأمته، فأنزل الله:
وروي أن النبي عليه السلام، بشر أصحابه بفتح الشام وملك قيصر وكسرى، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: هيهات، هيهات، فعظموا ما صغر الله من ملك الكفار، فقال الله لنبيه ﷺ: قل يا محمد ﴿اللهم مَالِكَ الملك﴾ الآية.
فلما سمعوا بذلك ذلوا، (طلبوا الموادعة)، فكانوا في رفاهية من العيش حتى بغوا، فرد الله بغيهم عليهم، فقُتِلوا، وأُجْلُوا.
قال مجاهد: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾: النبوة
وقيل: الملك، والمال، والعبيد.
وقيل: هو الغلبة.
قوله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل...﴾.
قال ابن عباس: ما ينقص في (ذا) يزيد في ذا
ومعنى تولج: تدخل
قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾.
قال مجاهد: الإنسان الحي من النطفة الميتة (ويخرج الميت من الحي): النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك قال: الضحاك والسدي: وقتادة وغيرهم.
وقيل المعنى: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة والسنبل من الحب والحب من السنبل، والبيض من الدجاج والدجاج من البيض، قال ذلك عكرمة والسدي.
وقال الحسن: معنا: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن روي ذلك
فالمؤمن حي القلب والكافر ميت القلب.
قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: ليس يخاف نقصاً فيخرج الأشياء بالحساب والتحصيل.
قوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ...﴾.
قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار يتخذوهم أولياء، إلا أن يكون الكفار لهم القوة والغلبة، فيظهر لهم اللطف بالقول لا غير وهو قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة﴾.
قال الضحاك: التقية أن يحمل على أمر يتكلم به بلسانه من معصية الله فيفعل
قال الحسن: ذلك في المشركين يكرهون المؤمنين على الكفر وقلوبهم كارهة.
وقال قتادة: التقاة: أن تصل رحمك من الكفار من غير أن توليهم على المؤمنين فتصله لقرابة منك ولا تواليه في الدين.
ويقال: إنها نزلت في عمار بن ياسر، وحاطب بن أبي بلتعة، أما عمار فخاف أن يقتله المشركون فكلمهم ببعض ما أحبوا، وأما حاطب فكتب إلى المشركين يعلمهم بأخبار النبي عليه السلام ليحفظوه في أهله بمكة وهو مطمئن بالإيمان.
وقرأ مجاهد وجابر بن زيد وحميد والضحاك: تقية
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ (أي) من نفسه، أي: تركبوا ما نهيتم عنه.
قوله: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ الآية.
معناه: قل يا محمد للذين نهوا أن يتخذوا الكافرين أولياء ﴿أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾: إن تخفوا ما في أنفسكم من ولاية الكافرين أو تبدوه فذلك سواء، الله يعلم الجميع فيجازيكم عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء ".
قوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ الآية.
أي: هو على كل شيء قدير ذلك اليوم.
وقيل المعنى: واذكر يوم تجد.
وقيل (المعنى): ويحذركم الله نفسه يوم تجد.
وقال ابن جريج: أجلاً بعيداً.
وقال الحسن: لا يسر أحدكم أن يلقى عمله أبداً.
وقال الزجاج معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عنه بالنفس.
وقال غيره: المعنى: عقابه، ثم حذفت.
قوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني﴾ الآية.
قال الحسن: قال قوم على عهد النبي ﷺ إنا نحب ربنا فأنزل الله: " قل (يا محمد) ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله﴾ (كما زعمتم) ﴿فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾.
وقيل إنها نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم ادعوا في عيسى ﷺ ما
ثم قال: قل [يا] محمد اطيعوا الله في اتباعي، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به، كله مخاطبة للنصارى من وفد نجران.
وعن مالك أنه قال: معناه من أحب طاعة الله أحبه وحببه إلى خلقه.
" قوله: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً﴾ الآية.
نصب ﴿ذُرِّيَّةً﴾ عند الأخفش على الحال، وعلى القطع عند الكوفيين.
وأجاز الزجاج نصبها على البدل مما قبلها فيعمل فيها ﴿اصطفى﴾ والذرية
فذكر الله في هذه الآية رجلين، وأهل بيتين، وفضلهم على العالمين فمحمد ﷺ من آل إبراهيم، وآل الرجل قد يكون أتباعه.
قال مالك: [آل محمد ﷺ: أهل الاتباع له. وعنه أنه قال]: آل محمد ﷺ كل تقي، وهو مروي عن النبي ﷺ.
ومعنى، بعضها من بعض أي: في الدين والمعاونة على الإسلام والنية والإخلاص.
وقيل معناه: متقاربون في النسب مجتمعون.
قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ﴾ الآية.
وقيل: واذكر إذ قالت.
وقال أبو عبيدة: ﴿إِذْ﴾ زائدة، وأنكر ذلك جماعة النحويين.
وقال الزجاج: المعنى: اصطفى آل عمران إذ قالت.
واسم امرأة عمران حنة، وزكريا هو ابن آذر، وعمران هو ابن ماتان وكلاهما من ولد داود النبي من سبط يهود بن يعقوب صلى الله عليهم ويلم أجمعين.
وذلك أن زكريا وعمران تزوجا اختين، فكانت أم مريم عند عمران، وأم يحيى عند زكريا، فهلك عمران، وأم مريم حامل بها وكانت في حياة عمران قد أمسك عنها الولد حتى يبست، وكانوا أهل بيت [لهم] عند الله مكان، فبينا هي ذات يوم
قال الكلبي: لما وضعتها لفتها في خرقتها ثم أرسلت بها إلى بيت المقدس، فوضعتها فيه، فتنافست الأحبار بنو هارون.
فقال زكرياء: أنا أحقكم بها عندي خالتها، فذرها لي.
فقالت الأحبار: لو تركت لأفقر الناس إليها لتركت لأمها، ولكنا نقترع عليها، فاقترعوا عليها بأقلامهم [التي]، يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكريا عليه السلام، واسترضع لها حتى إذا شبت بنى لها محراباً في المسجد على الباب فلا يرقى إليها إلا بِسلم.
ومعنى ﴿مُحَرَّراً﴾ عتيقاً لعبادتك لا ينتفع به لشيء من أمور الدنيا.
ونصب ﴿مُحَرَّراً﴾ على أنه نعت لمفعول محذوف أي: غلاماً محرراً.
وكانوا إنما يحررون الغلمان، فظنت أنه تلد غلاماً فلما وضعت أنثى قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ تريد أنه إنما يحرر الغلمان للخدمة.
وقيل المعنى إن الأنثى تحيض فلا تصلح لخدمة بيتك.
ثم دعت لها فقالت: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾ فاستجاب الله لها وأعاذها وذريتها منه. وأصل المعاذ: الملجأ والمفعل، والهاء في " وضعتها لما على المعنى.
وقيل: لمريم ولم يجر لها ذكر ولكن المعنى مفهوم فحسن. ومن قرأ ﴿وَضَعَتْ﴾ بإسكان التاء ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ فهذا من كلامها، ثم قال تعالى إخباراً منه ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾.
وقرأ ابن عباس: " وضعتِ " بكسر التاء ومعْناه إنه خطاب من الله لها.
قال ابن عباس: ما ولد مولود إلا قد استهل سوى عيسى ابن مريم ﷺ فإنه لم يسلط عليه الشيطان لأن الله أجاب دعاء أم مريم في قولها: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ الآية.
قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى ﷺ أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد انكسرت رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث، فقال: مكانكم، وطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً، ثم طار ثانية فوجد عيسى ﷺ قد ولد عند مدوذ حمار، والملائكة قد حفت به، فرجع إليهم فقال لهم: إن نبياً قد ولد البارحة مت حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها
وقال النبي عليه السلام " كل آدمي طعن الشيطان في جلده إلا عيسى ابن مريم وأمه جعل بينها وبينه حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من لمس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " (ثم) يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾.
قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾: أي: رضيها مكان المحرر ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ من غذائه.
وقرأ مجاهد: وتقبلْها بالإسكان، ﴿رَبُّهَا﴾ بالنصب عن النداء و " أنبتها " بكسر الباء والإسكان، و " كفلْها " بالإسكان " زكرياءَ " بالنصب.
وقوله: ﴿بِقَبُولٍ﴾ أتى مصدراً على غير المصدر، وكان القياس ضم القاف
وقال غيره، قد أتى منه الولوع والوجود والسعوط كل مصدر على فعول بالفتح.
قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ المد في زكرياء لغة، وزكري لغة، وزكر، وحكى أبو حاتم بغير صرف، وهو غلط عند النحويين لأن ما كانت في هذه الياء. والتخفيف في كفلها على أن زكريا الفاعل. ومن شدد فمعناه كفلها الله زكرياء لأنه تعالى أخرج قلمه إذ ساهم مع أحبار بني إسرائيل عليها من يكفلها.
وكان زكريا زوج خالتها.
وقيل زوج أختها كان.
وامرأة زكريا بني امرأة عمران، فهي أخت مريم.
فلما همت بالبلوغ فكانت تخدم في صغرها (مسجد) بيت المقدس، أراد زكريا، أن يكفلها، وقال: هي ابنة عمي، وأختها زوجتي، فلم يتركها له جماعة الأحبار والأنبياء، فتساهموا عليها، وأتوا بسهامهم إلى عين، فطرحوها فيها فغرقت سهامهم كلهم، إلا سهم زكرياء، فضمها زكرياء لنفسه فكانت عنده في غرفة بسلم.
وقوله: ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾.
قال الضحاك: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
وقال ابن إسحاق: كفلها زكرياء بعد هلاك أمها [و] ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، فأصابت بني إسرائيل ضدة، فضعف زكرياء عن حملها فتقارع بنو إسرائيل عليها: من يقوم بها؟ وكلهم يشتكي من الشدة ما يشتكي زكرياء، ولكن لم يكن لهم بد من حملها، فخرج السهم لحملها على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له جريج، [فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه،
قد تقدم في البقرة تفسير قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ والاختلاف في ذلك.
والمحراب: هو مقدم كل مجلس ومصلاه.
وهو أيضاً: المكان العالي.
فلما رأى زكرياء من الله لها ما رأى، طمع بالولد مع كبر سنه من المرأة العاقر فدعا الله في الولد من ذلك الوقت، وهو قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ فبشر وهو يصلي بالمحراب.
وقيل: بشر يحيى بعد أربعين سنة من وقت دعائه ولذلك قال عند البشارة: ﴿رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ لأنه نسي دعاءه لطول المدة التي بين الدعاء والإجابة.
وقال الطبري: المحراب: " مقدم كل مجلس ومصلى " وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها.
والذرية في هذا الوضع: الولد، ويكون في غيره للجميع.
قوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ أي: من عندك.
ومعنى: ﴿طَيِّبَةً﴾ زكية مباركة.
﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء﴾ أي: تسمع من دعاك.
قوله: ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة﴾.
قال قتادة وغيره: جبريل ناداه.
وأكثر الناس على أن الجماعة من الملائكة نادوه.
ومن ذَكَّر فعلى المعنى، ولتذكر الجمع.
ومن كسر (إن) أجرى النداء مجرى القول.
[وفي قراءة عبد الله: يا زكريا إن الله، فهذا يدل على إضمار القول].
ومن فتح: أعمل النداء لأنه فعل.
وسمي بيحيى لأن الله أحياه بالإيمان.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾، أي: بعيسى ابن بنت خالته ".
وقيل: بابن خالته هو.
قال ابن عباس: كانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى وتقدمه في ذلك، ويحيى أكبر من عيسى.
وقال أبو عبيدة: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾، أي: بكتاب من الله وأكثر المفسرين على أن الكلمة عيسى.
وسمي كلمة لأن الناس يهتدون به.
ويجوز أن يكون سمي كلمة لأنه من غير ذكر بقوله: " كن " أي: فهذه الكلمة.
والسيد: الشريف في العلم والعبادة.
وقال الضحاك: السيد الحليم التقي.
وقال مجاهد السيد: الكريم.
وقيل: الحصور الذي لا يولد له، وليس له ماء.
وقيل: الهيوب.
وقال ابن عباس: هو الذي لا ينزل الماء.
وقال ابن المسيب: كان يحيى حصوراً معه مثل الهُدْبَة.
وقيل: الحصور هنا هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها أي: ممنوعاً منها.
وروي أن امرأة كانت طلبته فامتنع، فاشتكت إلى صاحبها أنه طلبها فقتله.
وروي أن جباراً من الجبابرة استفتاه: هل يتزوج بنت أخيه؟ فمنعه من ذلك، فسعت ابنة أخيه في قتله فقتل بها.
قال ابن شهاب: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى. قال مجاهد: كان طعام يحيى العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه يحرقه، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خدِّه.
وقال أبو عبيدة، الكلمة هنا: الكتاب يعني التوراة، ولا يجوز أن يكون
قوله ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي: من أي وجه وأنا كبير ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ أي: بلغته ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾.
والعلة التي من أجلها سأل زكريا فقال: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ فإنه روي أنه لما سمع نداء الملائكة بالبشارة أتاه الشيطان فقال: إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان، فسأل عندما لبس عليه ليتثبت لا على طريق الإنكار بقدرة الله ولا لاعتراض لما يورد الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
وقال: لما سأل (عن ذلك) ليعلم هل من زوجته العاقر يكون ذلك، أو من غيرها؟. وقيل: إنما سألأ عن ذلك عن طريق التواضع والإقرار فكأنه يقول: بأي منزلة أستوجب هذا عندك يا رب...!
وقيل: إنما سأل: هل يرزق ذلك وهو شيخ وامرأته عاقر، أو يرد شاباً، وامرأته
وقيل: إنما سأل لأنه نسي دعاءه بأن يهب له غلاماً، وكان بين دعائه والبشارة بيحيى أربعين عاماً.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اجعل [ليا] آيَةً﴾... الآية.
معناه: قال زكريا: رب كان هذا الصوت من عندك فاجعل لي علامة تدل على أن ذلك من عندك، فجعل الله آيته أن منعه من الكلام ثلاثة أيام إلا إيماء أو إشارة.
قال قتادة: عوقب بذلك لسؤاله بعد مشافهة الملائكة بالبشارة فسأل الآية على ذلك.
ويروى أن لسانه ربا في فيه حتى أطلقه الله بعد ثلاث. وأكثرُ أهل التفسير على أن الله جعل احتباس لسانه عن الكلام علامة يعلم بها الوقت الذي يهب له فيه الغلام، وليس بعقوبة.
وقيل: هو تحريك الشفتين من غير صوت.
وقال الضحَّاك: هو تحريك اليدين.
وقرأ علقمة بن قيس " إلا رُمُزا " بالضم فيهما.
وقرأ الأعمش " رَمَزا " بفتحتين، وهما اسمان.
وقراءة الجماعة على المصدر.
وقيل: إنما منعه الكلام وهو يقدر على ذلك، وأباح له الإشارة باليد، أو بالرأس، ثم نسخ الله ذلك بقول النبي " لا صمت يوماً إلى الليل " وهذا على قول
وقيل: إنما منع النبي الصمت عن ذكر الله، فأما عن الهدر، وما لا فائدة فيه' فالصمت عنه حسن.
ودل على هذا القول أمره تعالى [زكرياء] بالذكر والتسبيح فلو منعه الكلام كافة لم يأمره بالذكر والتسبيح اللذين لا يكونان مع الآفة.
وقد قال: إنها آفة دخلت عليه في الثلاثة الأيام، جماعة من المفسرين.
وقيل: فعل به ذلك عقوبة له إذ سأل فقال: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ وهذا قول مرغوب عنه.
ومعنى: " [و] سبح " نزه ربك من السوء بالعشي والإبكار.
وقرىء ﴿بالعشي والإبكار﴾ جمع بكر.
والكسر مصدر أبكر.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم...﴾ الآية (إذ) عطف على ما تقدم.
وقيل: المعنى واذكر إذ قالت. ﴿اصطفاك﴾ اختارك، ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ " أي: طهر دينك من الريب والشكوك، وقاله مجاهد وقيل معناه: طهرك من الحيض والنفاس.
﴿واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ أي اختارك على نساء عالم زمانك.
وقيل ﴿على﴾ جميع العالم وذلك بعيسى إذ ولدته من غير ذكر. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".
ومعنى ﴿اقنتي﴾: أخلصي الطاعة.
وقيل معناه: أطيعي القيام والركوع.
وقال النبي عليه السلام " أفضل الصلاة طول القنوت " أي: القيام.
وقال مجاهد: لما قيل لمريم ذلك قامت حتى ورم قدماها.
قوله: ﴿" ذلك " نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ الآية.
أي هذه الأشياء التي أخبرناك بها من الغيب الذي كنت لا تعلمه، وهو أدل ما يكون على نبوتك، إذ لست ممن يقرأ الكتب وتخبر بما فيها، ولا صاحبت أهل الكتاب فتنقل عنهم، إنما ذلك عندك بوحي من عندي.
معناه ينظرون أيهم كما تقول: اذهب، فانظر أيهم قائم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾ أي: سهامهم على مريم من يكفلها.
وقال ابن عباس: اقترعوا بأقلامهم التي [كانوا] يكتبون [بها] الوحي، فقرعهم زكرياء، فما كنت يا محمد عندهم في جميع ذلك فإخبارك بما لم تشهده دليل على صدقك في النبوة وأنه وحي من عندي.
وقال عكرمة: ألقوا أقلامهم في الماء فذهب [ت] أقلامهم مع الجرية، وأصعد قلم زكرياء يغالب الجرية فذهب [ت] بأقلامهم غير قلم زكرياء، فكفلها.
وقيل: هي أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة.
وقيل: هي السهام التي يقترع بها.
قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم﴾ الآية معناه: لم تكن يا محمد عندهم إذ
وقيل: المعنى وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة كذا وكذا إذ يختصمون، فلم تكن يا محمد عندهم وقت بشارة الملائكة لمريم، وما قالت وما قيل لها، فإخبارك به يصحح دعواك في نبوتك.
ومعنى ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ هو بشارته التي بشرت بها مريم.
وقيل: ﴿بِكَلِمَةٍ [مِّنْهُ]﴾ هو قوله ﴿كُنْ﴾ فسماه كلمة لأنه عن كلمته (كان). وقال ابن عباس: الكلمة هو عيسى اسم له. والهاء في ﴿اسمه﴾ تعود على الكلمة لأنها عيسى في المعنى. وفي الظاهر على قول ابن عباس. والمسيح: فعيل: فنقول في مفعول: أصله ممسوح أي: مسحه الله فطهره من الذنوب.
وقيل: مسحه بالبركة.
وقال النخعي: المسيح الصّدِّيق
وقيل: سمي المسيح لأنه كان إذا مسح بيده على أهل العاهة أفاقوا كما ذكر الله فيكون فاعلاً غير منقول عن مفعول.
وذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه قال: المسيح تفسيره الملك. وفسره ابن حبيب فقال: سمي ملكاً لأنه ملك إبراء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى، وغير ذلك من الآيات.
قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾.
أي: من أين يكون لي ولد؟ أمن بعل أتزوجه، أم تبتدئ [خلقه] من غير بشر أتزوجه؟، فأعلمها الله أنه يخلق ما يشاء، فيعطي الولد من غير فحل لك، ويحرم ذلك نساء العالمين، وإذا أراد أمراً ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، والهاء في " له " تعود على الأمر.
[وقيل المعنى: فإنما يقول (له) من أجله ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: من أجل، الأمر]
قال ابن عباس: وضعت مريم عيسى عليه السلام لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من (ولد) لثمانية أشهر.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ أي: يكتب بيده، ﴿والحكمة﴾: السنة التي توحَى إليه، ﴿والتوراة﴾: هي التي أنزلت فبله على موسى عليه السلام و ﴿والإنجيل﴾ أي: الكتاب الذي أنزل عليه، ولم يعطه أحد قبله، وتعليمه إياه إلهام منه إليه بذلك، و ﴿رَسُولاً﴾ أي: ويجعله رسولاً، فالابتداء به حسن
وقيل المعنى: ويكلمهم رسولا
وقيل: هو معطوف على وجيه، فالابتداء به على ذلك.
ومن فتح ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ فهو متعلق برسول، أي: فإني قد جئتكم بآية تصدقني أني رسول.
قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ من فتح أني جعلها بَدَلاً من (أن) الأولى، وإن شئت بدلاً من (آية)، (و) إن شئت على إضمار هي فتكون أن في موضع رفع.
وقرأ يزيد بن القعقاع (أخلق لكم من الطين كهيأة الطائر) فيكون طائراً.
وقال ابن اسحاق: حبس [عيسى] عليه السلام يوماً مع غلمان في الكتاب [فأخذ طيناً]
قال ابن جريج وغيره: قال لهم: أيُّ الطير أشد خلقاً؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم، ففعل مثله من الطين، وقال في هذه الصمورة ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ﴾ رده على الطير، وفي المائدة ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ [المائدة: ١١٠] رده على الهيأة، ويجوز رد الهاء في هذه السورة] على الهيأة لأنها
ولا يجوز في سورة المائدة رجوع الهاء على الطير لأنه اسم جمع.
وقوله: ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه﴾.
قال مجاهد: هو الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار.
وقال الأوزاعي: هو الذي لا يبصر بالليل، وهو الذي به عشى.
وقال قتادة: هو الذي ولد أعمى، وكذلك قال أكثر المفسرين.
وعن ابن عباس وغيره: هو الأعمى حَدَث به ذلك، أو ولد [به]
وقال عكرمة: هو الأعمش.
وقال وهب: كان عيسى عليه السلام قد هربت [به] أمه إلى أرض مصر من قومها
وقد روي عن النبي ﷺ :" أنه نعى نفسه لفاطمة حين بلغ سنّة ستين سنة وقال: " ما من نبي إلا يعمر مثل نصف عمر من قبله (و) أن عيسى عمّر مائة سنة وقد بلغت ستين سنة وما أراني إلا ميتاً في هذا العام " أو كلام هذا معناه " ".
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفاً من أطاق أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، فكان عيسى يداويهم بالدعاء وكان يُحْيي الموتى.
أصل تدخرون: تفتعلون من ذخرت، فلما اختلف الحرفان، بأن كانت الذال حرفاً مجهوراً، والتاء حرفاً مهموساً أبدل من التاء حرفا مجهوراً يشبه الدال في الجهر، ويقرب منها في المخرج وهو الدال، ثم ادغمت الذال في الدال.
قال ابن إسحاق: لما بلغ [عيسى] تسع سنين أو عشراً، أدخلته أمه الكتاب، فلا يذهب المؤدب يعلمه شيئاً إلا بادره عيسى ﷺ قبل أن يعلمه إياه، فيقول المؤدب ألا تعجبون لابن هذه الأرملة، أذهب أعلمه شيئاً إلا وجدته أعلم به مني.
قال ابن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان بما صنع في بيوتهم وبما صنع آباؤهم، ويقول يا فلان: إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من طعام، ويقول للصبي: انطلق فإن أهلك يأكلون كذا وكذا، ويقول: إنطلق فقد خبأ لك أهلك كذا وكذا. فينطلق
فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا لأولادهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وحبسوا أولادهم عنه، فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام (يطلبهم فقالوا: ليس هم هنا، فقال عيسى عليه السلام): وما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير! فقال عيسى عليه السلام: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله (تعالى): ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ٧٨]
قال قتادة: معنى قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ذلك في أمر المائدة التي نزلت عليهم كانت خواناً تنزل أين ما كانوا بثمر من ثمار الجنة، وأمروا ألا يخونوا فيه ولا يدخروا لغد، ابتلاهم الله بذلك فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئاً، وادخروا لغد انبأهم عيسى ﷺ به، فهو قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ أي: من المائدة التي نهوا عن ادخار ما
وقرأ مجاهد والزهري تدخرون، بدال مخففة.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً﴾، أي: في جميع ما ذكر آية، أي: في نبوة عيسى.
وقوله ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة﴾ أي: ما قبلي من التوراة إيماناً بها، وتصديقاً بما فيها، وإن كانت شريعته تخالفها فإنه، ونحن مؤمنون بما صح منها، ولم يبدل ولم يغير على أن عيسى ﷺ كان عاملاً بالتوراة لم يخالف فيها شيئاً إلا ما خفف الله أشياء كانت حراماً فيها وهو قوله ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وذلك أنه حلل لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان كانت في التوراة محرمة.
واللام متعلقة بفعل محذوف والمعنى، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم.
وكان أبو عبيدة يجيز أن يكون البعض هنا بمعنى الكل، وهذا يوجب أن يحل لكم القتل والسرق والزنى وغيره لأن كل ذلك كان محرماً عليهم في الوراة، فلا يجوز
وقد قيل: إنما أحل لهم عيسى ﷺ أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة في التوراة، فهو غير مخالف للتوراة.
وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم ذنوب اكتسبوها ولم يكن في التوراة تحريمها نحو: أكل الشحوم وكل ذي ظفر.
قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ أي: بعلامة تعلمون بها أني صادق فيما أقول لكم ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾.
قوله: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر...﴾ الآية معناه: فلما (علم) عيسى ﷺ أنهم يريدون قتله وأحس بمعنى: وجد وعلم برزية أو غيرها.
يقال: أحس الأمر إذا علمه، وحس القوم قتلهم، والحس حس الدابة من الغبار، والحس ضد البرد.
﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ أي: من أعواني على هؤلاء (مع الله). وإلى بمعنى: " مع ".
وكان من قصة عيسى ﷺ ما حكاه السدي في حكاية طويلة نذكر معناها مختصراً، قال: كذبت بنو إسرائيل عيسى ﷺ، وأخرجته حين دعاهم إلى الإيمان به، فخرج هو وأمه، فنزل على رجل، فأضافهما وأحسن إليهما، وكان على تلك المدينة جبار معتد (فجاء) صاحب البيت يوماً وعليه، حزن وهم، فقالت مريم لزوجته: ما شأن زوجك؟ أراه حزيناً؟ فأبت أن تخبرها بشيء، فقالت لها مريم: أخبريني لعل الله تعالى يفرج كربته، قالت المرأة لمريم: إن لنا ملكاً جباراً يجعل على كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وقد بلغت نوبته اليوم علينا [وليس معنا سعة، فقالت مريم لها: فقولي له: فلا يهتم فإني آمر لبني [أن] يدعو له، فَيُكْفَى]. فقالت مريم لعيسى ﷺ في ذلك، فقال عيسى ﷺ: " يا أمه إني إن
فلما رأى أهل المملكة الغلام عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: قد أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه، فاقتلوه.
ومر عيسى ﷺ وأمه فصحبهما يهودي وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى ﷺ رغيف فقال له عيسى ﷺ: تشاركنا؟ فقال اليهودي: نعم، فلما رأى اليهودي أن ليس مع عيسى إلا رغيف ندم فلما نام جعل اليهودي يأكل الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى ﷺ: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء حتى
ثم انطلقوا حتى مروا براعي غنم فقال عيسى ﷺ: يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك، قال الراعي: نعم، أرسل صاحبك يأخذها: فأرسل عيسى ﷺ اليهودي فجاءه بالشاة، فذبحوها وشووها ثم قال لليهودي: كل ولا تكسر عظماً. فأكلوا حتى شبعوا فرد عيسى ﷺ العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة، فقال: يا صاحب الغنم: خذ شاتك فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى إبن مريم، قال له: أنت الساحر، وفر منه، فقال عيسى ﷺ لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها، كم كان معك رغيفاً؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد.
فمروا بصاحب بقر، فسأله عيسى ﷺ عجلاً فأعطاه عجلاً فذبحه، وشواه وأكله، وصاحب البقر ينظر، ثم جمع عيسى ﷺ العظام في الجلد وقال: قم بإذن الله، فقام وله خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك فقال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى، قال: عيسى الساحر، ثم فر منه، فقال عيسى ﷺ لليهودي: بالذي أحيى الشاة بعدما
ثم انطلقا حتى أتيا قرية، فنزل عيسى ﷺ في أسفلها واليهودي في أعلاها، فأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى ﷺ وقال: أنا أحيي الموتى وكان يملك تلك القرية مرض شديد فانطلق اليهودي ينادي من يبتغي طبيباً؟ حتى أتى باب الملك، فأخبر بمرض الملك فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، فدخل عليه فأخذ برجله، وضربه بالعصا كما كان عيسى ﷺ يفعل، فمات الملك من الضربة فأخذ اليهودي ليصلب فبلغ عيسى ﷺ الخبر، فأتى ووجده قد رفع على الخشبة [فقال]: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركو لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيى عيسى ﷺ الملك، وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة، والله لا أفارقك أبداً، قال له عيسى ﷺ: أنشدك بالذين أحيى الشاة والعجلة بعدما أكلناها وأحيى هذا بعد [ما] مات، وأنزلك من الجذع بعدما رفعت عليه كم كان معك رغيفاً؟ فحلف اليهودي بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد.
فانطلقا حتى مرَّا على كنز قد حفرته السباع فقال اليهودي: يا عيسى هذا المال؟ فقال له عيسى ﷺ: دعه فإن له أهلاً يهلكون عليه وجعل اليهودي يتشوق إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى ﷺ، فانطلقا.
فلما جاء صاحباهما، قتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا، فرجع عيسى ﷺ إلى المال فوجد القوم عليه موتى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقسمه، فأخرجه اليهودي فجعل عيسى ﷺ يقسمه على ثلاثة، فقال اليهودي: اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت، ما هذه الثلاثة؟ فقال له عيسى ﷺ: هذا لي، وهذا لك، وهذا لصاحب الرغيف، قال اليهودي: وإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال؟ قال [عيسى] ﷺ: نعم، قال: أنا هو، فقال له عيسى ﷺ: خذ حظي وحظك، وحظ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة، فلما حمله مشى [به] شيئاً
وانطلق عيسى ﷺ فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك فأعلمهم بنفسه فآمنوا به وانطلقوا معه فذلك قوله: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾.
وقيل: إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين.
وقيل: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب.
وقيل: كانوا غسالين يغسلون الثياب.
وقال قتادة: " الحواريون خاصة الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة.
وقال الضحاك: الحواريون الأصفياء الأنبياء صلوات الله عليهم.
وروي أن مريم دفعت عيسى ﷺ في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يبيضون الثياب، ويصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألأواناً شتى من ماء واحد فآمنوا به واتبعوه.
قوله: ﴿واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ هذا قول الحواريين لعيسى ﷺ، فدل ذلك أن عيسى ﷺ كان على ذلك، لا على اليهودية ولا على النصرانية ولكن كان مسلماً وكذلك برأ الله إبراهيم ﷺ من سائر الأديان إلا من الإسلام.
قول: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ أي: أثبت أسماءنا مع أسماء من يشهدون بالحق، وأقروا بالتوحيد، واجعلنا في عددهم وهذا كله احتجاج على أهل نجران الذين خالفوا النبي ﷺ في أمر عيسى ﷺ، فأخبروا أن قول من اتبع عيسى كان خلاف قولهم.
وقال ابن عباس: (اكتبنا مع الشاهدين)، قال مع محمد ﷺ، وأمته الذين شهدوا له أنه ققد بلغ الرسالة، وشهدوا للرسل عليهم السلام أنهم قد بلغوا.
وقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله﴾: هذا إخبار عن الذي أَحَسَّ عيسى منهم الكفر وهو ما اجتمعوا عليه من قتل عيسى ﷺ، وتكذيبه فيما أتى به، فمكرهم هو ما نووا من قتله، ومكر الله سبحانه ما ألقى من الشبه على بعض أتباع عيسى ﷺ حتى قتله الماكرون يظنونه عيسى ﷺ، ثم رفع الله عيسى ﷺ.
والمكر: الحيلة، المكيدة، والمكر من الله سبحانه عقوبة، وجزاء من حيث لا يعلم العبد.
قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ قيل هي وفاة نوم.
وقيل معناه إني قابضك من الأرض حياً ورافعك إلي، وذلك أن عيسى لما رأى كثرة من كذبه، وقلة من اتبعه شكا ذلك إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾.
وقال النبي عليه السلام: كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها.
وقال كعب: (يبعث) عيسى ﷺ على الأعور الدجال فيقتله ثم يعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة ثم يموت ميتة الحي.
وحكي أن الله تعالى أوحى ذلك إلى عيسى ﷺ مع قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾
وقال ابن زيد في قوله: ﴿تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً﴾ أن كلامه وهو كهل حين ينزل
وقيل معنى ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾: قابل عملك ومتقبله منك.
وقال ابن عباس، معنى ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ هي وفاة موت (يعني) بعد نزوله من السماء.
وقال وهب بن منبه: توفي عيسى ﷺ ثلاث ساعات ثم أحيي ورفع. والنصارى يزعمون أنه توفي سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه. وقيل: 'ن الكلام تقديماً وتأخيراً. والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك. وذلك إذا نزل لقتل الدجال في الدنيا، والواو يحسن فيها ذلك.
قوله: ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾: هذا خطاب لعيسى ﷺ وأمته، جعلهم الله تعالى فوق اليهود: في النصر والحجة والإيمان بعيسى والتصديق به وقول الحق فيه.
وقيل: هو خطاب لمحمد ﷺ.
قوله: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا﴾ هو القتل والسبي وأداء الجزية ﴿والآخرة﴾ هو
قوله: ﴿ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ﴾: الإشارة إلى ما تقدم من ذكر قصص الأنبياء والحجج ﴿والذكر﴾ القرآن ﴿الحكيم﴾ المحكم أي: ذو الحكمة.
قوله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ...﴾ (و) هذا احتجاج على نصارى نجران، الذين خاصموه في عيسى وقالوا للنبي: بلغنا أنك تذكر صاحبنا، وتأول أنه عبد، قالوا له: هل رأيت عيسى؟ فأنزل الله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ الآية.. أي: خلق هذا من غير ذلك وهذا كذلك.
وقيل: إنهم قالوا للنبي ﷺ: كل إنسان له أب فما شأن عيسى ﷺ ليس له أب فأنزل الله تعالى هذه الآية: وقوله ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ ابتداء المماثلة، وليس بمتصل بآدم ﷺ إنما هو تبيين قصة آدم ﷺ، لأن الماضي لا يكون حالا.
قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
قال بعض أهل المعاني: إن هذا الكلام أتى على خبرين منفصلين، ولو كان على
وأبين هذا أن يكون المعنى: قد قدر خلقه من تراب فلما أراد تعالى ذكره إظهار ما قدر قال: ﴿كُن﴾ فكان ما قدر بقوله ﴿كُن﴾.
قوله: ﴿الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي: هو الحق، أي هذا الذي أنبأتك به هو الحق ﴿فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ أي: الشاكين ومعناه: قل يا محمد للشاكين في ذلك (لا تكن من الممترين).
قوله: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ﴾ أي: في عيسى وقيل في الحق الذي ذكر، ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي من بعدما بين لك فادعوهم إلى المباهلة، ومعنى نبتهل أي نجتهد في الدعاء باللعنة ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله﴾ على من كذب في أمر عيسى ﷺ.
قوله: ﴿وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ﴾ أي: أهل ديننا ودينكم فرضوا بالجزية وبأشياء شرطها عليهم يؤدونها.
وروي أنهم قالوا: نباهلك فأخذ النبي ﷺ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما رأوا ذلك نكصوا وعلموا أن اللعنة عليهم واقعة، فرضوا بالجزية ولم يباهلوا. وروي أن رئيسهم العاقب قال لهم: قد علمت أنه نبي وما لاعن نبي قوماً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن فعلتم فهو استئصال، فوادعوا محمداً وانصرفوا إلى بلادكم فرضوا بالجزية، وبعث معهم النبي ﷺ أبا عبيدة بن الجراح ولم يباهلوه.
قوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق﴾ أي: إن الذي أنبأتك به في أمر عيسى ﷺ أنه رسول، وكلمته ألقاها الله تعالى إلى مريم: هو الحق ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ هذا رد على من جعل عيسى إله من أهل نجران وغيرهم.
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ﴾
الكلمة ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله﴾ وما بعده.
وقيل: الكلمة لا إله إلا الله
والسواء: النَصَفَة والعدل والقصد.
ونزلت هذه الآية فيمن كان حول المدينة من اليهود، وهم الذين حاجوه في إبراهيم ﷺ.
وقيل: نزلت في الوفد من نصارى نجران لأنه دعاهم فأخبرهم بالقصص الحق في أمر عيسى ﷺ، فأبوا أن يبلوه، فأمر أن يدعوهم إلى المباهلة فأبوا، فأمر أن يدعوهم إلى ما ذكر آخراً فأبوا، فأمر الله المؤمنين أن يقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون.
وقيل: هي في موضع رفع، وذلك على التأويل الأول أي: هي ألا نعبد، ولا نفعل، ولا نصنع.
﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً﴾: هو طاعة العوام الرؤساء فيما يأمرونهم به من المعاصي كما قال ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: ٣١] يأمرونهم بالمعصية وينهونهم عن الطاعة فيسمعون ويطيعون.
وقيل ﴿أَرْبَاباً﴾: هو سجود بعضهم لبعض قاله عكرمة.
وقيل معناه: لا نعبد عيسى من دون الله كما عبدت النصارى، ولا عزيراً كما عبدت اليهود، ولا الملائكة كما عبدت جماعة المشركين، ولا نقبل من الرهبان تحريمهم علينا ما لم يحرمه الله كما فعلت اليهود والنصارى والمشركون.
قوله: ﴿يا أهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ﴾ هذا خطاب لليهود والنصارى ولأنهم ادعاه كل فريق منهم، وأنه على دينهم فرد الله ذلك عليهم، وأراهم المناقضة فيما يدعون لأن اليهود تدعي أنه على ما في التوراة دينه، والنصارى تدعي أنه على ما في الإنجيل دينه، وفي الكتابين إنما أنزل بعد إبراهيم ﷺ فهذا تناقض أن يكون دينه على شيء لم يكن بعده.
قوله: ﴿هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ...﴾.
معناه: أنتم القوم الذين خاصمتم فيما لكم به علم من أمر دينكم، وما لحقتم من زمانكم، وجاز ذلك بينكم، فلم تخاصمون فيما لا علم عندكم فيه؟ وهو دين إبراهيم ﷺ، ولم يكن في زمانكم. ﴿والله يَعْلَمُ﴾ أي: يعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك فتخاصموه فيه.
قوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً...﴾.
ذلك رد لقولهم وادعائهم ﴿وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً﴾ أي: حاجاً وأصل
والمسلم: المتذلل لأمر الله تعالى.
فأما معنى قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون﴾ [المائدة: ٤٤] ﴿الذين أَسْلَمُواْ﴾ [المائدة: ٤٤] ولا يكون نبي إلا مسلم
فإنه يريد النبيين الذين استسلموا أو سلموا لما في التوراة من أحكام الله تعالى التاركون التعقب وكثرة السؤال عما فيها.
وروي أن عزيراً أكثر السؤال عن القدر، فمحي من ديوان النبوة.
ومن هذا قول ابراهيم ﷺ: ﴿ واجعلنا مُسْلِمَيْنِ﴾ [البقرة: ١٢٨]. أي: مسلمين لأمرك،
قوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه﴾.
أي أخفهم بولايته ونصرته من اتبع دينه ﴿وهذا النبي﴾ هو محمد ﷺ ﴿ والذين آمَنُواْ﴾ أي: الذين صدقوا محمداً ﷺ، وقال النبي ﷺ: " لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليلي إبراهيم ﷺ " ثم قرأ الآية " ".
قوله: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾.
أي: جماعة من أهل نجران ومن اليهود لو يصدونكم عن الإسلام فتهلكوا، وما يُهلكون إلا أنفسهم أي أتباعهم وأنفسهم وكلهم يود ذلك، و [من] ليست للتبعيض، وإنما هي للإبانة والجنس.
ومعنى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (ليس هو أنهم يجهلون ما يفعلون فيكون ذلك عذراً لهم
قوله ﴿يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي بالتوراة والإنجيل ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، هذا توبيخ لهم، لأنهم جحدوا نبوة محمد ﷺ، وهم يعلمون أنه نبي مكتوب عندهم في كتابهم في التوراة والإنجيل، فهو قوله ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي: تشهدون أنه نبي حق، ثم تكفرون حسداً وبغياً.
وقيل: المعنى: وأنتم تشهدون أن آية الله حق وأن ما جاء به حق.
قوله: ﴿يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل﴾.
أي تظهرون من الإقرار بمحمد ﷺ خلاف ما تعتقدون فتخلطون الحق بالباطل.
وقيل: [لم] تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن الدين الذي لا يقبل غيره: الإسلام.
قوله: ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ﴾ الآية.
معناها أن اليهود قال بعضهم لبعض: آمنو بالنبي وما أنزل إليه أول النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون معكم.
وقال ابن عباس: نظر اليهود إلى النبي ﷺ يصلي الصبح إلى بيت المقدس، فأعجبهم ذلك، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر إلى الكعبة، فقالت اليهود: ﴿آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار﴾ أي بصلاة الصبح إذا صلوها إلى بيت المقدس ﴿واكفروا آخِرَهُ﴾ أي: بصلاة الظهر لأنهم صلوها إلى الكعبة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى قبلتكم.
وقال السدي: قالت اليهود لضعفائها: آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا: قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء لعلهم يرجعون عن دينهم ويشكون فيه.
قال المبرد: فيها تقديم وتأخير، وتقديرها عنده: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى مثلما أوتيتم ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾
وقيل تقديرها: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لمن تبع [دينكم] واللام زائدة.
ومعنى ذلك أنهم قالوا لضعفائهم: لا تصدقوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم من علم ورسالة وشرف، إلا لمن تبع دينكم، فصدقوا أن يؤتى مثلما أوتيتم.
وقيل معناها على هذا التقدير: ولا تصدقوا أن تكون الرسالة إلا فيكم. وقيل: تقديرها قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أي كراهة أن يؤتى كأنه بعد أن يؤتى اليهود مثلما أوتي المؤمنون، فتكون على هذا المخاطبة للنبي ﷺ وأمته.
وقرأ الأعمش (إن يؤتي بكسر إن فجعلها بمعنى " ما " على معنى ما يؤنى أحد مثلما أوتيتم.
وقد زعم قوم أنه لحن لحذف النون من يحاجوكم وليس هو لحن عند أهل النظر لأن (أن) تضمر مع أو، فهي مضمرة ناصبة للفعل، ومن جعل في الكلام تقديماً
ومن قدر الآية على وجهها، ولم يقدر تقديماً ولا تأخيراً جعل اللام أيضاً زائدة أو متعلقة بمصدر، كأنه: لا تجعل تصديقكم إلا لمن تبع دينكم بأن يؤتى أحد.
وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله " دينكم " ثم قال لمحمد ﷺ: ﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ أي: البيان بيان الله ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ﴾، أو: لا يؤتى أحد، " وإن عنده بمعنى لا، ولذلك دخلت " أحد " في الكلام هنده.
وقوله: ﴿إِنَّ الهدى هُدَى﴾ معناه: الهدى إلى الخير بيد الله يؤتيه من يشاء، فلا تتنكروا أيها اليهود أن يؤتى أحد سواكم مثلما أوتيتم، فإن أنكروا وهو معنى " يحاجوكم عند ربكم " فقل يا محمد: ﴿إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾.
وقال الأخفش: ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ معطوف على ﴿تؤمنوا﴾ معناه ولا تصدقوا أن يحاجوكم، أي: قالت اليهود لضعفائها: لا تصدقوا بأن يحتجوكم أحد عند ربكم فيما أنكرتم من نبوة محمد ﷺ.
وقال الفراء: أو بمعنى حتى (و) إلا: أن.
وقوله ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ﴾.
قيل: هو إخبار عما قالت اليهود لضعفائها، أي: لا تكون النبوة إلا فيكم.
وقيل معناه: لا يكون العلم والشرف إلا فيكم.
وقيل: هو إخبار من الله تعالى للنبي ﷺ معناه: لا يؤتي أحد من الأمم مثلما أوتيت يا محمد وأمتك من الإسلام والهدى، وهذا قول السدي.
ومعنى: ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ إلا أن يحاجوكم، وهذا التأويل لا اعتراض فيه، ولا تقديم ولا تأخير، وأن في موضع رفع خبر عن الهدى، والتأويل الأول يقع فيه التقديم والتأخير وأن في موضع نصب على ما ذكرنا، وذلك حسداً، قالوا لضعفائهم من
وقال الزجاج: معنى الآية: أن اليهود قالت لا تجعلوا تصديقكم لنبي في شيء مما جاء به إلا اليهود، ولا تقولوه للمشركين، فإن ذلك إن قلتموه لهم كان عوناً لهم على تصديقه.
وقال أكثر المفسرين: معناه لا تصدقوا أن يعطى أحد مثلما أوتيتم من علم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم أحد: لا يكونوا لأحد حجة عند الله إلا من كان مثلكم.
قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
بمعنى: النبوة، وقيل: الإسلام والقرآن.
قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ الآية.
وجه من قرأ بالإسكان في يؤده وشبهه أنها لغة العرب يسكنون الهاء كما
بيت لدى البيت العتيق أخيله | ومطواي مشتقاقان له ارقان |
وقيل: اسكنت الهاء على التوهم أن الجزم عليها وقع.
ومعنى الآية أن الله أخبر أن من أهل الكتاب المؤتمن ومنهم الخائن، والناس لا يميزون الخائن منهم، فصارت الفائدة أنها تحذير من الله للمؤمنين أن يأتمنوهم لأن منهم الخائن وغيره، وهم لا يميزون ذلك فاجتنابهم أخلص.
ومعنى ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾: إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
والباء في بقنطار " و " بدينار بمعنى على، وهما يتعاقبان في مثل هذا.
وقيل: معنى ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ أي: يقر بالأمانة ما دمت قائماً على رأسه في وقت عطائها، فإذا ذهب ثم جئت تطلبها كابرك وجحدك.
وقيل: قائماً بمعنى ثابتاً لازماً له، حكى سيبويه: قام بمعنى ثبت.
وقال ابن جريج: كان لرجل من المسلمين على اليهود ديون داينهم بها قبل أن يسلموا، فلما أسلموا طالبوهم بها فقال اليهود: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لأنكم تركتم دينكم الذي (كنتم) عليه، وإنما كان حقوقكم واجبة علينا في الأمانة، وغيرها قبل أن ترجعوا عن دينكم، فلما تركتم دينكم ورجعتم إلى الإسلام لم تلزمنا لكم حقوق ولا أداء أمانة، وادعوا أنهم يجدون ذلك في كتابهم، فرد الله عليه قولهم بقوله عقب الآية: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
وعنوا بالأميين العرب، نسبوا إلى ما عليه الأمة قبل أن يتعلموا الكتابة.
وقيل: نسبوا إلى الأم لأنها لا تعرف تكتب.
قوله: ﴿بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ﴾ الآية.
معناها ليس الأمر كما يقول هؤلاء من أنه ليس في أموال الأميين حرج لكن من أوفى بعهد الله وهي وصيته إياهم في التوراة من الإيمان بمحمد ﷺ وما جاء به.
فالهاء في ﴿بِعَهْدِهِ﴾ تعود على الله جل ذكره.
ومعنى ﴿وَاتَّقَى﴾ أي: واتقى الشرك قاله ابن عباس وقيل: المعنى، واتقى الله ولم يكذب.
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله﴾... الآية.
معنى الآية: إن الذين يستبدلون بعهد الله الذي عهد إليهم في كتابهم وبإيمانهم الكاذب عوضاً قليلاً أي: خسيساً من عرض الدنيا، ﴿لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة﴾ أي: لا حظ لهم فيها أي: لا نصيب ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ معناه: لا يكلمهم بما يسرهم.
وقيل معناه: غضب عليهم كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً أي: هو غاضب عليه.
﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ﴾، أي: لا يعطف عليهم بخير، كما يقال: انظر إلي نظر الله إليك أي: اعطف علي عطف الله عليك.
ما زالت هذه الآية في أحبار اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بم الأخطب.
وقيل: " إنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له اختصما في أرض، فقال النبي ﷺ لليهودي: احلف، فقال الأشعت: إذن يحلف فيذهب حقي "، فأنزل الله الآية، وقال النبي عليه السلام بعقب ذلك: " من حلف بيمين كاذبة ليقطع بها حق أخيه
وروي عن مجاهد أنه قال: نزلت في رجل أقام سلعة في أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه فيها، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها بهذا العطاء فأنزل الله الآية.
وقال ابن المسيب: اليمين الفاجرة من الكبائر وتلا هذه الآية.
وقال قتادة: من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها حق أخيه فليتبوأ مقعده من النار، ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن مسعود: كنا نرى ونحن مع رسول الله ﷺ أن من الذنب الذي لا يغفر: يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها.
وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يقول أعطيت بسلعتي كذا وكذا كذباً.
وروى ابن مسعود بأن النبي عليه السلام قال " من حلف بيمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ الآية ".
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب﴾ الآية.
ومعناها وإن من اليهود الذين جرى ذكرهم لفريقاً يحرفون ألسنتهم بالكتاب لتظنوا أنه من الكتاب وما ذلك من الكتاب أي: وما ذلك الذي حرفوا من الكتاب، ويزعمون أن الذي حرفوا من عند الله: أي ما نزل على أنبيائه ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ وإنما
يقال: لويته عدلته عن قصده.
وقال القتبي: يلوون: يقلبون ألسنتهم بالتحريف والزيادة
قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة﴾ أي: ما ينبغي لبشر أن ينزل الله عليه الكتاب ويعطيه الحكم، وهو الفقه في الدين، ويعطيه النبوءة ثم يدعو الناس إلى عبادته، بل يدعوهم إلى الله وإلى عبادته.
وروي أنها نزلت في النفر من اليهود والنصارى الذين دعاهم النبي ﷺ إلى الإسلام. " وروي أن اليهود قالت له: تريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟
وقال الرئيس من نصارى نجران: ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال النبي ﷺ: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثت فأنزل الله جل ذكره ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ الآية ".
قال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده، فإن الله تعالى يقول: ﴿ولكن كُونُواْ ربانيين﴾ فقهاء علماء بعلم الكتاب ودرسكم إياه.
هذا على قراءة من خفف.
(ومن شدد فمعناه: بتعليمكم الكتاب وبدرسكم إياه ") وكل معلم عالم، وليس كل عالم معلماً، فالتشديد أعم وأبلغ وأمدح. " ونزلت هذه الآية حين قالت اليهود من أهل نجران وغيرهم: أتريد يا محمد أن نعبدك فقال النبي ﷺ: معاذ الله أن
ومعنى ﴿ولكن كُونُواْ ربانيين﴾ أي: ما ينبغي لبشر أن يفعل ذلك مع الناس وأن يقول لهم ذلك، ولكن يقول لهم كونوا ربانيين "
. أي حكماء علماء.
وقيل: فقهاء علماء فتركوا القول لدلالة الكلام عليه.
وقال ابن زيد: الربانيون ولاة الأمر، وقرأ ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون﴾، وقال: هم ولاة الأمر.
والألف والنون في " ربانيين " دخلت للمبالغة كجماني للعظيم الجمة، وكذلك غضبان للمتلئ غيظاً ومعنى الرباني العالم بدين الرب، وكأنه في الأصل الربي منسوب إلى الرب ثم دخلت الألف والنون للمبالغة، وجمع جمع السلامة بالياء والنون والألف والنون.
قال مجاهد: الربانيون، فوق الأحبار.
من قولهم: ربَّ فلان الأمر إذا أصلحه.
وقد قيل في ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي: الفقه.
والأحسن أن يكون مردوداً على ما قبله فتكون الدراسة للكتاب الذي جرى ذكره، ولم يجر ذكر للفقه.
والكتاب هنا القرآن، قاله عاصم.
قوله ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين﴾ الآية من نَصَبَ يأمركم عطفه على الأول على ﴿يُؤْتِيهُ﴾ كأنه وما كان لبشر أن يأمركم. ومن رفع قطعه من الأول وتقديره عند سيبويه: ولا يأمركم الله، وعند الأخفش: وهو لا يأمركم.
ثم قال: ﴿أَيَأْمُرُكُم بالكفر﴾ أي أيأمركم نبيكم بالكفر فهذا ظاهر الآية والتفسير، وهو تابع لقراءة النصب في المعنى.
وقيل المعنى أيأمركم الله بالكفر فهذا رد على قراءة من قراء بالرفع.
قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم﴾.
أي: واذكر إذ أخذ الله. واللام في " لما " لام تأكيد " وما " بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء، و (من) لبيان الجنس والهاء محذوفة من آتيناكم و، ﴿مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ الخبر هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وقال الكسائي: ما للشرط وهي في موضع نصب، واللام لام تأكيد كما تقول والله لئن زيد ضربت لأضربنك به.
ومن كسر اللام في " لما " فهي لام الجر أي: أخذ الميثاق الذي أتاهم من كتاب وحكمة، ويكون ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ من أخذ الميثاق وكأن تقول: أخذت ميثاقك لا تفعلن.
وفي قراءة ابن مسعود ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾، وكذلك قرأها أبي بن كعب، ودليله قوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ وهو محمد ﷺ ولم يأتِ إلا لأهل الكتاب، وغيرهم دون النبيين، ثم ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ فليس في هذا أمر من نبيين، إنما هو أمر لمن أخذ الله عليه الميثاق، وهم أهل الكتاب، وهذا المعنى مروي عن مجاهد وغيره قالوا: إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب في الإيمان بالأنبياء والنصر لهم، ولم يؤخذ على النبيين نصر لقومهم، ولا إيمان بقومهم.
وقال ابن عباس: المعنى وأخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وقال طاووس: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.
وقال قتادة: أخذ الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً وأن يبلغوا كتاب الله تعالى ورسالته إلى قومهم ففعلوا وأخذوا على القوم أن يؤمنوا بما بلغت إليهم رسلهم، وكان فيما بلغت إليهم الرسل الأمر بالإيمان بمحمد ﷺ والتصديق به، والنصر له.
وقال السدي: لم يبعث الله نبياً من لدن نوح ﷺ إلا أخذ ميثاقه أن يؤمن بمحمد ﷺ وبنصره إن بعث وهو حي وأن يأخذ الميثاق على قومه بذلك إن بعث وهم أحياء.
وقوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ أي: بالميثاق على نحو ما تقدم " ﴿وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي﴾ أي: عهدي ﴿قالوا أَقْرَرْنَا﴾.
قيل: الضمير يعود على الأنبياء أي قال الأنبياء: أقررنا بما التزمنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتب.
﴿قَالَ فاشهدوا﴾ أي: اشهدوا أيها النبيون بما أخذت به ميثاقكم عليكم، وعلى
وقيل: إن الضمير راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على تقدير الاختلاف المذكور.
﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك﴾: أي من أعرض بعد العهد الذي أخذ عليه، فهو فاسق أي خارج من دين الله.
وفي هاتين الآيتين تذكير - لمن كان على عهد رسول الله ﷺ من أهل الكتاب - وتخويف.
قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ﴾ أي: أفغير طاعة الله يا أهل الكتاب تطلبون، وهو الذي خضع له من في السماوات والأرض، وأسلم طائعاً، وهم: الملائكة، والنبيون والمؤمنون ﴿وَكَرْهاً﴾ وهم الذين آمنوا بالتوحيد، وأشركوا عن علم كما قال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧].
وقيل: إسلام الكاره هو حين أخذ عليه الميثاق.
وقال مجاهد: إسلام الكاذب سجود ظله.
والطائع: المؤمن.
وقال قتادة: إسلام الكاره هو حين لا ينفعه إسلامه، وذلك في الآخرة، وحين رأى الموت، قال الله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
وقيل المعنى: له خضع الجميع طائعين، وكارهين لأنه جبلهم على ذلك، وخلقهم كذلك.
وفي تفسير الحسن ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات﴾ انقطع الكلام. ثم قال: ﴿والأرض﴾ طوعاً أو ركهاً أي أسلم من في الأرض طوعاً وكرهاً، فالكاره المنافق لا ينفعه إيمانه.
وقيل: إن أهل الأرض أسلموا كلهم حين أخذ الله عليهم الميثاق واستخرجهم من ظهر آدم، فالتأويل: أفغير طاعة الله تريدون وهذه صفته. ثم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام وأمته أن يقولوا: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ﴾ ومن ذكر بعده [وأن] لا يفرقوا بين أحد منهم، وأعلمهم الله تعالى أنه لا يقبل ديناً غير الإسلام، وأن من ابتغى غيره فهو خاسر في الآخرة. أي: يخسر نفسه وذلك الخسران المبين.
قوله ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ الآية. قال ابن عباس: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، وهو الحارث بن سويد فأرسل إلى قومه أن يسألوا النبي ﷺ: هل لي من توبة؟ فأنزل الله تعالى ﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ثم أنزل الله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فأرسل إليه قومه وأسلم.
وقال مجاهد: نزلت الآيتان بعد ارتداد الحارث بن سويد فحملهما إليه رجل فقرأ عليه الآية الأولى ثم قرأ عليه الآية ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ الآية فقال الحارث: إنك - والله ما علمت - لصدوق، وإن رسول الله ﷺ أصدق منك. وإن الله سبحانه لأصدق الثلاثة ثم رجع فأسلم وحسن إسلامه.
قال السدي: نزلت في الحارث بن سويد حين ارتد ثم نسخها الله بقوله:
وروي أنه كان يظهر الإسلام فلما كان يوم أحد قتل المجذر بن زياد بدم كان له عليه، وقتل قيس بن زيد، وارتد ولحق بمشرك، فأمر رسول الله ﷺ عمر أن يقتله إن ظفر به، ففاته، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة، فأنزل الله تعالى ﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله﴾ الآيتين.
وقال كثير من المفسرين: إنما نزلت في اليهود لأنهم وجدوا في التوراة إن الله جل ذكره ناجى موسى عليه السلام وكان في مناجاته " يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى عليه السلام: جعلت وفادتي لغيري "، وذلك قوله تعالى لمحمد ﷺ: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: ٤٦] " أي: إذ ناجينا موسى بهذا أن: يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني إلى آخر القصة.
وقيل: نزلت في قوم ارتدوا.
وقيل: نزلت في أهل الكتاب لأنهم عرفوا محمداً ﷺ وصفته، ثم كفروا به عن
وقال القرظي: [كان] ناس من أهل مكة أتوا النبي ﷺ فآمنوا، فمكثوا ما شاء الله في المدينة، ثم خرجوا وارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله ذلك فيهم ثم تعطف عليهم فأنزل الله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ﴾ الآية.
قوله: ﴿وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ﴾: معطوف على الفعل الذي تضمنه المصدر وهو إيمانهم، تقديره بعد أن آمنوا وشهدوا ولا يجوز عطفه على ﴿كَفَرُواْ﴾ لفساد المعنى. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى عرفوا صفة محمد ﷺ عندهم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وكذبوه وأنكروا حسداً وبغياً، وقلوبهم تشهد أنهم مبطلون في ذلك.
قوله ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ الآية.
معناه: جزاء من هذه حاله بعنة الله، أي: يبعده من الرحمة ولعنة الملائكة والناس أي: يلعنهم كل من خالفهم يوم القيامة من المخلوقين كما قال: ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [العنكبوت: ٢٥]:
ويجوز أن يكون الناس يراد بهم من كان مؤمناً. ويجوز أن يكون أراد بهم: لعن
﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ أي: لا ينقص عنهم: ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي: لا يؤخرون عن الوقت. وقيل: لا ينظرون لمعذرة يعتذرون بها.
وكل ما في القرآن من اللعنة فالخط فيها في المصحف بالهاء إلا في موضعين كتبت بالتاء: في آل عمران ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾ [آل عمران: ٦١] و [في] النور ﴿والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين﴾ [النور: ٧] هذان بالتاء لا غير.
قوله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي: استثنى من تاب ممن ذكر قبله.
وقيل: هو ناسخ ل ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ﴾ الآية وقد ذكرناه.
ومعنى: ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي: أصلحوا أعمالهم، وقيل: معناه وعملوا الصالحات.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ عنى بها من كفر ببعض الأنبياء قبل محمد ﷺ ثم
قال قتادة: عنى بها اليهود لأنهم كفروا بالإنجيل - وبعيسى عليه السلام ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ بمحمد ﷺ - والقرآن.
وقيل: عنى بها اليهود والنصارى كفروا بكتابهم، فبدلوه، ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ بمحمد عليه السلام. وقيل: كفرهم الأول هو حجدهم بمحمد ﷺ وازدادوا كفراً [أي: ذنوباً].
وقيل: هم اليهود والنصارى كفروا بمحمد ﷺ، [ وازدادوا كفراً] لم يتوبوا مما فعلوا في الصحة لم تقبل توبتهم عند الموت.
وقيل: ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ ماتوا على الكفر.
[و] اختار الطبري أن يكون المعنى: ثم ازدادوا كفراً بما أصابوا من الذنوب، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ﴾ الآية.
معناه: لن يقبل ممن كان بهذه الصفة جزاء ولا فدية ولو كانت ملء الأرض ذهباً، روى أنس بن مالك أن النبي ﷺ كان يقول: " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت ما هو أيسر من ذلك ".
وقال الزجاج معناه: لو عمل من الخير فتصدق بملء الأرض ذهباً - وهو كافر - لم ينفعه ذلك مع كفره.
قوله: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
قال ابن مسعود وغيره: البر هنا الجنة.
ولما نزلت هذه الآية " جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فحمل النبي (عليه السلام) [عليها] أسامة بن زيد وهو ولده فوجد زيد في نفسه فلما رأى ذلك النبي ﷺ قال: أما إن الله قد تقبلها منك ".
وقيل: إن البر العمل الصالح الذي يدهو إلى الجنة.
وفي الحديث " عليكم بالصدق فإنه يدعوا إلى البر، والبر يدعو إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإنه يدعو إلى الفجور والفجور يدعو إلى النار ".
وقال الحسن: النفقة هنا يعني بها الزكاة الواجبة.
قوله: ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾ الآية.
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﷺ أخبرنا الله تعالى أن الأطعمة كلها كانت حلالاً لولده يعقوب إلا ما حرم يعقوب على نفسه قبل نزول التوراة، وحرمه وُلْدَه على أنفسهم من غير فرض من الله تعالى عليهم، وكان بيعقوب ﷺ عرق يسمى النساء، فيأخذه بالليل ويتركه بالنهار فحلف: إن الله عافاه منه ألا يأكل عرقاً أبداً، فحرَّم الله عليهم لبغيهم فنزلت التوراة بتحريم ما كانوا حرَّموه على أنفسهم، فذلك قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ثم قال: إن أنكرتم ذلك فاتوا بالتوراة فاتلوها فإنكم تجدون ذلك فهذا قول السدي.
وقيل: إن الذي حرموه على أنفسهم إنما تبعوا فيه يعقوب ﷺ، ولم تنزل التوراة بشيء منه، ولكنهم ادعوا أنه في التوراة فقال الله: قل يا محمد ايتوا بالتوراة فإنه لا شيء فيها مما يقولون.
وقال ابن عباس: حرم إسرائيل على نفسه وعلى ولده العرق وليس
فمجاهد وقتادة وابن عباس وغيرهم يقولون: الذي حرم إسرائيل على نفسه هو العرق لعرق كان به يؤذيه.
[وقال عطاء] وابن جريج: حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وهو قول الحسن.
" ويروى أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أي شيء حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال النبي ﷺ: أنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه منه، فنذر لله نذراً لئن عافاه الله منه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم ".
وروي انه حرم على نفسه أحب الطعام إليه إن برئ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وشحومها، وشحوم الضأن والبقر والمعز، فحرم ذلك على نفسه.
قوله: ﴿فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب﴾ الآية.
أي: فمن ادعى بعد قراءة التوراة - وعدم ما ادعيتم من تحريم العروق ولحوم
قوله: ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ معناه: قل يا محمد صدق الله في جميع ما أخبرنا به وأن إسرائيل حرم لحوم الإبل وألبانها من غير تحريم من الله في كتابه، فإن كنتم أيها اليهود على حق في قولكم ﴿فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ فإنه لم يكن مشركاً.
والوقف على قوله ﴿قُلْ صَدَقَ الله﴾ حسن.
قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...﴾ الآية.
أخبر الله تعالى: أن أول بيت وضع للناس مبارك وهدى للعالمين هو الذي ببكة، وكان قبله بيوت إلا أنه ليس لهن هذه الصفة، هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ فهو على قوله أول بيت وضعت فيه البركة والهدى مقام إبراهيم. وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض.
وقال ابن عمر: هو أول بيت وضع في الأرض، خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء على زبد وبيضاء فدحيت الأرض من تحته.
وقال مجاهد: أو بيت خلق الله: الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وقال السدي.
وقيل: إن موضع الكعبة موضع أول بيت وضعه الله في الأرض. وقال قتادة:
ومعنى وضع للناس [أي]: لعبادة الله.
وسئل النبي عليه السلام عن أول مسجد وضع؟ فقال: " المسجد الحرام، ثم مسجد بيت المقدس وكان بينهما أربعون سنة ".
وبكة: حول البيت مع الطواف (من) قولهم بكة: إذا زحمه، فسميت بذلك البقعة للازدحام [الذي يكون] فيها وما عدا ذلك في خارج المسجد: مكة.
قال ابن شهاب: بكة البيت والمسجد، ومكة الحرم كله.
وقال مالك: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع.
قال ابن القاسم: يريد القرية.
وروي عن ابن وهب أنه قال: بكة موضع البيت، ومكة ما حول البيت
وقيل: إنما سميت مكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها.
قال مقاتل: بكة ما بين الجبلين، ومكة الحرم كله وإنما سميت بمكة لأنها تمك المخ من العظم أي تمحقه لما يحتاج (إليه) الإنسان من السعي والطواف والعمل.
يقال: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه.
وقيل: سميت مكة لأن الناس كانوا يمكون، ويضجون فيها من قوله:
﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: ٣٥] يقول: تصفيق وصفير.
وقال الضحاك: بكة هي مكة، وعلى ذلك أهل اللغة أن الميم بدل من الباء كما يقال: لازب، ولازم وسبل شعره وسمله إذا استأصله.
وسميت بكة لأن الناس يتباكون حولها الرجال والنساء يعني يزدحمون، وقيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة.
قوله ﴿فِيهِ ءايات بينات...﴾ الآية.
هي: مقام إبراهيم، المشعر الحرام ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾.
وقال مجاهد: مقام إبراهيم الحرم كله، وهي آيات كثيرة.
منها: الصفا والمروة والركن والحطيم والملتزم والحجر وغير ذلك، ومنها: أن الطائر لا يعلو البيت صحيحاً ويعلوه مريضاً للتشفي [به] ومنها: أن الجارح يتبع
ومنها: أن الجمار تزداد فيه كل عام لا يحصى كثرة وهي ترى على قدر واحد. وأمثال ذلك كثيرة لا تحصى.
وعلى هذا القول يكون ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ خبر مبتدأ.
وقد قرأ " فيه آيات بينة " على أنها المقام الموجود الساعة ويكون أيضاً ما بعد مبتدأ.
ومعنى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ كان أهل الجاهلية من جنى منهم جناية ثم لجأ إلى حرم الله لم يطلب، ولم ينتصف وأما في الإسلام فليس يمنع من حدود الله تعالى مانع.
وعن يحيى بن جعدة ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ قيل: كان آمناً من النار.
وأهل التفسير على أن المعنى: ومن دخله فاراً من غيره مستجيراً به أمن ممن يطلبه.
وقيل: [المقام] هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم عليه السلام.
قوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً...﴾.
هذا فرض من الله واجب علينا مع وجود الاستطاعة.
قال ابن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهـ: الاستطاعة: الزاد والراحلة، وهو قول ابن جبير والحسن.
وعن ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل.
وقال الضحاك: إن قدر [أن] يؤاجر نفسه ويمشي فهو مستطيع.
وعن علي رضي الله عنهـ أنه قال: من ملك زاداً وراحلة يبلغانه إلى بيت الله تعالى فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.
وقال عكرمة: السبيل: الصحة.
وقال ابن زيد: السبيل القوة في النفقة والجسم والحملان.
وقيل السبيل الطاقة بأي وجه. وهو اختيار (الطبري) وجماعة من العلماء، وهو مذهب مالك وأصحابه.
والهاء في " إليه " تعود على البيت " وقيل على الحج ".
وقيل: معناه من لزمه فرض الحج فأنكره فإن الله غني عن حجه.
وقال ابن عباس: من كفر من قال الحج ليس بفرض.
وقيل: معناه من اعتقد أنه لا أجر له في سعيه وحجه، ولا إثم عليه في تأخيره قاله مجاهد. " وسأل رجل من هذيل النبي ﷺ قال: " يا نبي الله من تركه كفر؟ قال النبي ﷺ: " من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذلك " أي: كافر.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: معنى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ أي: وكفر بالله واليوم الآخر، ويروى أن النبي ﷺ جمع الناس عند نزول فرض الحج، وخطبهم وأمرهم بالحج وأنه فرض عليهم. فحج البيت هو ملة واحدة وهي: من آمن بالله، وتركه خمس ملل، وهم الذين لم يؤمنوا بالنبي ﷺ فأنزل تعالى: ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾.
وعن ابن عباس أنه قال لما نزلت: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ الآية، قالت: الملل كلها نحن مسلمون فأنزل الله ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ فحج المؤمنون وقعد الكافرون.
قال ابن زيد معناه ومن كفر بهذه الآية يعني التي تقدم ذكرها وهي: مقام
قال عطاء: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ بالبيت.
وقال السدي: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ معناه: من وجد ما يحج به ثم لم يحج فهو كافر.
ويروى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى كل رجل لم يحج وهو واجد فيضربون عليه الجزية ما هم بمسلمين.
وعنه أنه قال: لو أن ناساً تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما قاتلناهم على الصلاة والزكاة.
واختار بعضهم أن يكون المعنى: ومن كفر فأنكر فرض الله ووجوبه.
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾.
هذا خطاب لليهود والنصارى وتوبيخ لهم لأنهم كفروا بمحمد وهم يشهدون أنه حق يجدونه عندهم في التوراة مكتوباً والله يشهد عليهم بأنهم على باطل في إنكارهم له وهم يعلمون أنه نبي حق.
قوله ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ﴾ الآية.
هو أيضاً لليهود والنصارى، ومعنى صدهم عن سبيل الله هو جحدهم
﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ " أي يبغون لها أي: السبيل أي: يطلبون السبيل المعوج وهو الميل عن الحق في الدين.
العوج بالفتح يكون في الحائط والعود ونحوه.
قال السدي: وكانوا إذا سألهم أحد هل يجدون محمداً ﷺ في التوراة؟ قالوا: لا، فيصدون عن الإيمان به، والإيمان بمحمد ﷺ هو السبيل إلى الله سبحانه.
قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً﴾ الآية.
نزلت هذه الآية في قوم من اليهود أرادوا أن يحدثوا الفتنة بين الأوس والخزرج، وقد كان بين القبيلتين فتنة فذهبت بالنبي عليه السلام، فأراد قوم من اليهود أن يحدثوها بينهم، فنهى الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أنهم إن أطاعوهم كفروا، ثم قال:
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [معناه: وعلى أي حال تكفرون أيها المؤمنون وآية الله تقرأ عليكم ورسوله] بين أظهركم يدعوكم إلى الحق ويبينه لكم، فليس لكم عذر في ارتدادكم عن الحق ﴿وَمَن يَعْتَصِم بالله﴾ أي: يمتنع
قال ابن جريج: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بالله﴾: من يؤمن بالله.
قال ابن العباس: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾، ونزلت ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾.
وروي أن شاس بن قيس كبير اليهود دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب والدعاء طمعاً أن يقرف إلفتهم، فلما ذكروا بذلك ثار بينهم سر حتى أخذوا السلاح، فخرج النبي ﷺ وأصحابه ووعظهم وذكرهم بالله والإسلام، فرجع القوم، وعلموا أنها نزعة من الشيطان، فبكوا وتعانقوا [وانصرفوا] مع النبي ﷺ، فنزلت الآيات في توبيخ أهل الكتاب على فعلهم وتذكير الأنصار ووعظهم.
قوله ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾.
هذا خطاب للمؤمنين، ومعنى ﴿اتقوا الله﴾ راقبوه ودوموا: على طاعته. ومعنى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: حق خوفه وهو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر،
﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾: لربكم.
وعن ابن عباس ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أن يجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وعن قتادة إنها منسوخة بقوله: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ وكذلك قاله الربيع ابن أنس، وقاله السدي وابن زيد.
وأهل النظر على أن هذا لا نسخ فيه لأن الأمر بالتقوى لا ينسخ ولكنه خفف بالآية الأخرى. ومعنى ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ﴾ أي: كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت، وليس ينهاهم عما لا يملكون ولكن هذا معناه.
وحكى سيبويه: لا أرينك هاهنا، وهو لم ينه نفسه، وإنما المعنى لا يكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه.
قوله: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾.
قال ابن مسعود: حبل الله الجماعة.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " كتاب الله حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ".
وقيل: حبله، عهده وأمره، وأكثر المفسرين على أنه القرآن، وقال أبو العالية حبل الله الإخلاص والتوحيد.
وقال ابن زيد: حبل الله: الإسلام.
وقال القتبي: حبل الله: دينه.
وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ، أنه قال: " أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة هو خير مما
وهذا تذكير للأنصار إذ كانوا يقتتلون في كل شهر فلما أتى الإسلام واجتمعوا عليه ألف الله بينهم وزالت العداوة التي كانت بينهم عشرين ومائة سنة، وقد كانوا بني عم.
ومذهب البصريين أن ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ تمام الكلام، ومذهب الكوفيين أن ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾ متصل بـ ﴿واذكروا﴾.
﴿وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار﴾، هذا مثل لما كانوا عليه من الكفر، أنقذهم الله من ذلك بالإسلام.
وشفا الحفرة: طرفها.
وقيل: ﴿فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا﴾ بمحمد ﷺ قاله السدي، فالآية للأنصار خاصة لما أزال الله عنهم من القتل الذي كان بينهم.
وقيل: هي لقريش لأن بعضهم كان يغير على بعض فلما دخلوا في الإسلام حرمت عليهم الأموال والدماء فأصبحوا إخواناً.
والهاء في ﴿مِّنْهَا﴾ تعود على النار، وقيل على الحفرة.
معناها: ولتكن منك أيها المؤمنون جماعة مستقيمة يدعون [الناس] إلى الخير، وهو الإسلام، ويأمرونهم بالمعروف أي: باتباع محمد عليه السلام. وما جاء به، وينهونهم عن المنكر، وهو التكذيب لمحمد ﷺ وما جاء به أولئك الذين يكونون هكذا من المفلحين.
وقيل: إن [من] هاهنا لبيان الجنس، ولأن المعنى ولتكونوا كلكم أمة مستقيمة يدعون إلى الخير. [ومن] مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ومثله ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] فلم يأمرهم باجتناب بعض الأوثان وإنما المعنى: فاجتنبوا الأوثان فإنها رجس، فكذلك لم يأمر بعض المؤمنون بالدعاء إلى الخير دون البعض إنما أمرهم كلهم، ودل على ذلك قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [آل عمران: ١١٠].
وقال من زعم أن [من] للتبعيض، إنما أمر الله بعض المؤمنين بالدعاء إلى الخير، لأن الدعاء ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون الناس إليه، وليس كل الخلق علماء، فالأمر واقع لمن فيه علم، وهو بعض الناس، فمن للتبعيض على أصلها.
والأمة: الجمعة، والقائمة: المستقيمة، الطريقة الصحيحة: الديانة.
قوله: ﴿(وَلاَ تَكُونُواْ) كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ حذر الله المؤمنين أن يكونوا مثل اليهود الذين اختلفوا في كتابهم وتفرقوا فرقاً.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالجماعة، وينهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالاختلاف والمراء والخصومات في دين الله.
وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا في دينهم فنهانا الله عن مثل ذلك.
ثم أخبر أن هؤلاء المختلفين لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه أي: عذاب عظيم في هذا: اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
ويجوز في غير القرآن كسر التاء في ﴿تَبْيَضُّ﴾ و ﴿وَتَسْوَدُّ﴾.
قوله ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ معناه: فيقال لهم أكفرتم؟ قال جماعة من العلماء: عنى بهذا بعض أهل القبلة من المسلمين وروي أن النبي ﷺ قال: " والذي نفسي بيده ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
قال أبو أمامة ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾: (هم) الخوارج.
وعن أبي بن كعب أنه قال صاروا يوم القيامة فريقين: يقال لمن اسود وجهه:
وقال الحسن: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾ هم المنافقون أظهروا الإيمان وأسروا الكفر. واختار الطبري قول أبي بن كعب أن يكون للكفار، ويكون الإيمان هو الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من ظهور آدم كالذر فأقروا بأنه ربهم ثم كفروا بعد ذلك.
وذكر النحاس في قوله: ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ قال: عنى بها اليهود بشروا بالنبي ﷺ واستفتحوا به قبل بعثه فكان ذلك منهم إيماناً، فلما بعث كفروا به هذا معنى قوله.
قوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ أي: في ثواب رحمة الله وهي الجنة وتأولها مالك في أهل الأهواء.
وروى أبو أمامة: أنها في الحرورية، سمعته من رسول الله ﷺ غير مرة، ولا
وروى عبد الملك بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله ﷺ: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله تبارك وتعالى: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية مسودة وجوههم زرقاً عيونهم قد دلعوا ألسنتهم يسيل لعابهم على صدورهم يقذرهم كل من في القيامة فيقولون: ما لنا؟ ما عبدنا شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، فيأتيهم النداء من عند الله صدقتم ما عبدتم شمساً ولا قمراً
ولا وثناً ولكن جاءكم الكفر من حيث لا تحتسبون ".
قوله ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ أي: هذه آيات الله تتلى عليكم يا محمد بالحق...
أعيد ذكر الاسم في الآية لأنه أفخم ولأنه لا يقع فيه أشكال إذ هذا الاسم إنما هو للرب لا يشركه فيه أحد. وقال الكوفيون: إنما أعيد ظاهراً، لأن كل واحد من الاثنين في قصة مفارق معناها للأخرى وليس مثل قول البيت في قول الشاعر:
" لا أرى الموت يسبق الموت شيء ". | لأن الثاني من تمام الأول وإنما أظهر في البيت اضطراراً وليس كذلك الآية. |
قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقيل: هو خطاب لأصحاب رسول الله ﷺ كلهم.
وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ ابن جبل.
وقال الحسن وغيره: الخطاب لأمه سيدنا محمد عليه السلام كلهم وكانوا يقولون نحن آخرها وأكرمها على الله.
وعن الحسن أنه قال: معناها كنتم خير الناس للناس.
وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة بمنزلة قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ [البقرة: ١٤٢] أي: أنت عليها وبمنزلة ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ [النمل: ١٤٢]، وقد ذكر هذا كله في مواضعه وفي بعضه اختلاف.
وقيل: المعنى كنتم في اللوح المحفوظ خير أمة، ومثله
﴿واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً﴾ [الأعراف: ٨٥] أي إذ أنتم.
وقيل المعنى: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف أي: إذا كان هذا حالكم
ومعنى: ﴿تَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ تشهدون ألا إله إلا الله وتقرون بما أنزل الله وتنهون عن المنكر تقاتلون على ذلك.
والمنكر: هو التكذيب بمحمد ﷺ وبما جاء به هذا قول ابن عباس. وأصل المعروف هو فعل كل ما كان مستحسناً جميلاً غير مستقبح.
قوله: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ الآية هذا خطاب للنبي ﷺ معناه لم يضروكم أيها المؤمنون أهل الكتابين ﴿إِلاَّ أَذًى﴾ بألسنتهم لا غير يسمعونكم تكذيب نبيكم ﷺ وقوله البهتان في عيسى وعزير صلى الله عليهما وسلم، وهو استثناء منقطع.
قوله ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله﴾ الآية. معناها: ألزم الله المكذبين بمحمد الذلة وهي الصغار حيثما وجدوا، فهم تحت أقدام المسلمين لا منعة لهم فهم في ذلة وخوف ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله﴾ [أي بسبب من الله]. أو بسبب من المؤمنين، فإنهم يأمنون على أنفسهم، وذرياتهم، والذلة لا تفارقهم، والسبب هو العهد إذ عوهدوا.
وتقدير الآية عند الكوفيين إلا أن يعتصموا بحبل من الله وحبل من المؤمنين، ولذلك دخلت الباء وهي متعلقة بهذا الفعل المحذوف. وقال بعض الكوفيين - أيضاً -: هو استثناء من الأول محمول على المعنى لأن المعنى ضربت عليهم الذلة بكل مكان إلا بموضع من الله.
وقال بعض البصريين: هو استثناء ليس من الأول.
قوله: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾، أي: تحملوا وانصرفوا ورجعوا به، وحقيقته: لزمهم ذلك، يقال: تبوأت الدار أي: لزمتها.
(تم السفر الأول من كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية والحمد لله الذي بعونه..).
قوله: [ تعالى] ﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي: تبوءهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، فكأنهم ألزموا الذلة، والغضب لفعلهم هذا، ثم قال: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي: فعل بهم ذلك بعصيانهم واعتدائهم كذلك في موضع نصب وهو ذلك الثاني.
قوله: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾.
هذا مردود على [قوله] ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ ثم قال: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ أي: ليس المؤمنون والفاسقون سواء وتم الكلام، ويعني بذلك من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن.
وأبو عبيدة يجعل ﴿لَيْسُواْ﴾ على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ويجعل ﴿أُمَّةٌ﴾ اسم ليس و ﴿سَوَآءً﴾ الخبر ويقدر محذوفاً، وهو ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهو بعيد لأن ذكر أهل الكتاب قد تقدم، فليس [هو] مثل أكلوني البراغيث لأنه لم يتقدم [له] ذكر.
وتصغير ﴿آنَآءَ﴾ أوينا تبدل من الألف التي هي فاء الفعل واواً كما تقول: أويد في آدم، ومعنى الآية: أنه تعالى أعلمنا أنه ليس أهل الإيمان من أهل الكتاب والكفر سواء، والضمير في ﴿لَيْسُواْ﴾ يعود على ما تقدم من ذكر المؤمنين والفاسقين (من أهل الكتاب فقال): من أهل الكتاب ﴿أُمَّةٌ﴾ شأنها بالمدح والثناء هذا
والكوفيون يجعلون أمة مرفوعة بسواء والكلام عندهم متصل، وقد تقدم ما يدخل عليهم كأن تقديره عندهم لا يستوون من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة، قالوا: وترك ذكر الأخرى لدلالة ذكر المؤمنة عليها ومن مذهبهم ألا يجوز سواء [علي] قمت حتى تقول أم قعدت، وأجازوا هنا الحذف، ويجيزون الحذف إذا كان الكلام مكتفياً بواحد نحو ما أبالي، وما أدري لاكتفاء ما أبالي بواحد، أجازوا ما أبالي أقمت، وما أدري أجليت يريدون أم فعلت كذا ويحذفونه، ويلزمهم الا يجيزوا الآية على تأويلهم لأنهم لا يجيزون الحذف مع سواء لنقصانه، وقد أجازوه في الآية، وهذا تناقض لأنهم أجازوا في الآية ما لا يجوز في الكلام.
روى ابن وهب عن مالك: أمة قائمة أي قائمة بالحق وهو قول مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس وروي مثله عن ابن عباس.
ونزلت هذه الآية في قول عكرمة وابن جبير وابن عباس في عبد الله بن سلام
وقال الحسن: إن قوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يريد ما بين المغرب والعشاء.
وقال ابن مسعود: معناها ليس أهل الكتاب سواء وأمة محمد ﷺ، القائمة يتلون آيات الله ويؤمنون بالله، ويفعلون كذا وكذا. قال مجاهد: قائمة عادلة.
وقال قتادة: قائمة على كتاب الله تعالى وفرائضه وحدوده.
وقال ابن عباس: قائمة أي: مهتدية على أمر الله سبحانه مستقيمة.
وقال السدي: قائمة مطيعة. وقال الأخفش: من أهل الكتاب أمة (أي: ذو أمة) بمعنى: ذو طريقة حسنة.
وواحد آناء الليل اني: كقُنو وأقناء، وقيل واحد أني كمعي وأمعاء وحكى
وقال قتادة: آناء الليل ساعاته أي: يتلون في ساعات الليل. وقال السدي: هي جوف الليل. وقال ابن مسعود: [آيات الله] آناء الليل صلاة العتمة يصلونها، وما سواهم لا يصليها وروى ابن مسعود " أن النبي ﷺ خرج عليهم ليلة، وقد أخر الصلاة قال: فجاء النبي عليه السلام ومنا المصلي ومنا المضطجع فبشرنا، وقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب: فأنزل الله تعالى ﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ الآية ".
وروى الثوري عن منصور أنه نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
ومعنى يتلون آناء الليل: يتبعون بعضها بعضاً، (ومعنى) ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي: يصلون.
ثم وصفهم الله فقال: ﴿يُؤْمِنُونَ بالله﴾ أي: يصدقون به وبما أنزل على أنبيائه من غيب الآخرة ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ أي: بالإيمان بالله ورسوله ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ أي: ينهون الناس عن الكفر بالله، وبمحمد ﷺ، ودل هذا من وصفهم على أن غيرهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
قوله: ﴿مِنَ الصالحين﴾. أي: من عداد الصالحين.
قوله: ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ﴾ الآية.
من قرأ بالتاء رده على المخاطبة في ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ تفعلون وتصنعون. ومن قرأ بالياء رده على الإخبار في قوله: ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله﴾ ويفعلون كذا وكذا ثم قال ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ﴾.
والياء فيها تخصيص لهؤلاء المذكورين.
والتاء فيها عموم لجميع الأمة واختار الطبري وغيره التاء.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ الآية. هذه الآية وعيد بالأمة الفاسقة من أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم، ومعنى الكفر هنا تغطية ما أتى به محمد ﷺ وجحوده، ومعنى (ذلك) أن أموالهم لم تمنع عنهم ما ينزل بهم من العذاب في الآخرة شيئاً.
قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا﴾ الآية.
المثل هنا بمعنى الشبه ومعناها: شبه ما يتصدق به الكافر يا محمد كشبه ريح فيها صر، وهو البرد الشديد ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ أي: زرعهم الذي أملوا إدراكه كما أمل الكفار وجود عملهم في الآخرة.
ومعنى ﴿ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾: عصوا الله ورسوله فأهلكته فصدقة الكافر كزرع هذا الظالم لنفسه، ونفقة الكافر هنا: صدقاتهم على أقربائهم تقرباً إلى الله تعالى.
وقيل: نفقتهم هو ما ينفقون على قتل النبي ﷺ وأذاه.
وقيل: هي نفقة الكافر في الدنيا.
ومعنى ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾ أي: كمثل مهلك ريح، فتحقيق المثل إنما هو للحرث.
والتقدير: مثل نفقة هؤلاء كمثل حرث أصابته ريح فيها صرٌ فأهلكته، فهو بمنزلة قوله: ﴿كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً﴾ [البقرة: ١٧١] والمعنى: [كمثل] المتعوق به أي: مثلهم في أنهم لا يعقلون ما يقال لهم كمثل الغنم لا تعقل بما يقال لها.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ...﴾.
نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين والمنافقين أولياء في هذه الآية. والبطانة: الدخيلة الذين يطلعهم الرجل على سره لأنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين، فأمر الله المؤمنين ألا يداخلوهم.
وقيل: البطانة: الأصدقاء، وقيل: للأخلاء، والمعنى في ذلك متقارب ومعنى ﴿مِّن دُونِكُمْ﴾ أي: من دون أهل دينكم كما قال: ﴿فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي: على أهل دينكم
﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ أي: لا يقصرون في السوء والشتات بينكم، وهي البطانة
وقيل: " ودوا عَنَتكم، أي: ما شق عليكم، وما نزل بكم من مكروه وضر. وأصل هذا أن يقال: أكمة عنوت: إذا كانت طويلة شاقة.
ويقال: عنت العظم: إذا انكسر بعد جبر، ومنه قوله ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت [مِنْكُمْ]﴾ [النساء: ٢٥] أي: المشقة.
ونزلت هذه الآية في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة قال ذلك ابن عباس. فنهاهم الله أن يصادقوهم دون المؤمنين وأن يستهجوهم في شيء من أمر دينهم فإنهم لا يقصرون في الخبال والشر لهم.
وأكثر أهل التفسير على أنها نزلت في النهي عن مصافاة اليهود والمنافقين
وقوله: ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ هو خبر مستأنف وليس بحال من البطانة.
وقد قيل: إن ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ صفة ثانية للبطانة والصفة الأولى ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾.
﴿قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي: ظهرت بألسنتهم وهو إقامتهم على الكفر، أو النفاق، والذي تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة لكم مما بدا لكم بألسنتهم ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ﴾ أي: العبارات من أمر هؤلاء ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ عن الله آياته ومواعظه.
﴿هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ الآية.
معناها: " أنتم أيها المؤمنون تحبون الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
وقيل [هم] المنافقون نهى الله المؤمنين عن محبتهم لأن المؤمنين أحبوهم لما أظهروا الإيمان، فأخبر الله بما يسرون من العداوة والبغضاء لهم، ولأنهم لا يحبونهم، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ فقال: ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي: بل يبطنون لكم
وأولاء عند الطبري بمعنى: الذين، وهي على بابها عند غيره وأنتم: ابتداء، وأولاء: الخبر.
وذهب القتبي إلى أنه نداء والمعنى: أنتم يا هؤلاء.
وقيل: الضمير للمنافقين بدليل قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾
وقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾ الكتاب هنا بمهنى: الكتب كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس، يريد الدراهم.
وقال ابن عباس: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾ أي: بكتابكم وبكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك. وهذا يدل على أن الآية التي قبلها في اليهود دون المنافقين لأنهم أهل كتاب، ولا كتاب للمنافقين.
قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ أي: عضوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم - والأنامل أطراف الأصابع - ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ أي: بالغيظ
[قوله] ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾.
معناها أي: إن تنالوا سروراً، [وظفر] بعدوكم وزيادة الناس في الدخول في الإسلام، وتصديق النبي ﷺ ساء ذلك اليهود. وقيل: يعني المنافقين - وإن يصبكم ضرر من عدوكم واختلاف بينكم فرح بذلك اليهود.
وقيل: هم المنافقون.
﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾.
من قرأ بكسر الضاد، والتخفيف، فهو من ضاره يضيره، وجزمه لأنه جواب الشرط. ومن قرأ يضركم فهو يحتمل ثلاثة أوجه: يجوز أن يكون ضم لالتقاء الساكنين مع الإدغام، وأصله يضرركم من ضره يضره فيم على لغة من قال: مد يا في كمن قال مديا.
وقال الكسائي والفراء: رفعه على إضمار الفاء على معنى فليس [يضركم].
وقيل: هو مرفوع على تقدير التقديم والمعنى لا يضركم كيدهم إن تصبروا كما قال:
يا أقرع بن حابس يا أقرع | إنك إن يصرع أخوك تصرع |
وروى المفضل عن عاصم لا يضركم بالتشديد والفتح، وهو أحسن من
قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين﴾ الآية. معناه واذكر إذ غدوت.
واليوم الذي عنى به ذلك: يوم أحد عند مجاهد، وهو قول ابن عباس والسدي. وقال الحسن: هو يوم الأحزاب.
واستدل من قال يوم أحد بقوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ ولم يختلف المفسرون، وأهل السير أن الطائفتين هم بنو سلمة وبنو حارثة، وأن الذي ذكر من أمرهما إنما كان يوم أحد.
واحتج من قال هو [يوم] الأحزاب بأن أهل الأخبار والتواريخ يقولون: إنما راح النبي ﷺ إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعدما صلى الجمعة بالناس في المدينة والله يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ ولم يقل: وإذ رحت. وقيل: " إنما أمرهم النبي ﷺ يوم الجمعة غدوة أن يفتقدوا مواضع لنفسهم وجلس حتى صلى عليه السلام ثم خرج، فتبوؤه كان بالغداة بأمره لهم ومشورته إياهم ".
و" لما شاورهم النبي ﷺ فيما يصنع أتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله، لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق، لأدخلن الجنة. فقال: بم؟ قال: يا
قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾.
معناه: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾. والعامل في " إذ " ما قبله. والفشل: الجبن والضعف. والطائفتان هم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك يوم أحد هموا بأمر فعصم الله منه، وهم خيار الأنصار.
قال جابر بن عبد الله: نحوهم بنو سلمة وما يسرنا أنها لم تكن.
فمعنى: إذ همت طائفتان منك أن تفشلا [لقول الله] والله وليهما.
قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ...﴾.
هذا تذكير من الله لنبيه عليه السلام وللمؤمنين بنصره لهم في بدر، فالمعنى: فكذلك ينصركم فيما بقي.
قال مالك: فقتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ومن الأنصار سبعون.
قال مالك: " بلغنا أن رسول الله ﷺ - يوم أحد كسرت رباعيته وأصيبت وجنته، وجرح في وجهه وتهشمت البيضة على رأسه وأنه أتى بماء في جحفة فكان يغسل به عنه الدم، وأحرق له حصير فأتى به فقال النبي ﷺ: اشتد غضب [الله] على قوم أدموا وجه رسوله " فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ الآية ".
قال أبو سعيد الخدري: " رمى عتبة بن أبي وقاص يومئذ رسول الله [ ﷺ] فكسرت رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قميئة جرح وجنته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله ﷺ في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى
وسمي الموضع بدراً لأنه كان لرجل يسمى بدراً، فسمي الموضع باسم صاحبه. وقيل: كان هناك بير يسمى صاحبه بدراً، فسمي الموضع باسم صاحب البير، وقيل هو اسم للموضع وهي قرية بين المدينة والجار، وهو أول قتال قاتله النبي عليه السلام، اجتمع فيه مع المشركين على غير تواعد.
وقوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي: قد كنتم قليلين فنصرتم بلزومكم الطاعة، وقد نزل بكم ما نزل يوم أحد وأنتم كثرة، وذلك لمخالفتكم لأمر نبيكم ﷺ وهو ما فعل الرماة جعل الله تعالى
" ما أصيب من المشركين يوم أحد عقوبة لما فعل الرماة، إذ عهد إليهم النبي عليه السلام ألا يبرحوا من مكانهم فمضوا للنهب وظنوا أن المشركين قد فرغ منهم، وقد كان قال لهم النبي عليه السلام: " لا تبرحوا، فلن يزال النصر لنا ما ثبتم في مكانكم " فلما رأوا المشركين قد انهزموا اطمأنوا وزالوا من مكانهم طمعاً في النهب فرجعت الهزيمة على المسلمين، فأصيب خلق كثير كل ذلك بذنوب الرماة ومخالفتهم ما أمر به نبيهم ﷺ فذلك قوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي: لا تعصوا النبي ﷺ في أمره لكم.
وقال ابن عباس: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من تكون. قال: فبينما نحن على الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم قال: أما ابن عمي فأكشف قناع فلبه فمات مكانه، أما أنا فكدت
وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وإنما كانوا في غيره من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون.
وحكى أبو داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري.
وحكى ابن عباس عن أبي رافع أنه قال: كنت أسلمت مع العباس بمكة، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان قد خرج مع القوم وكنت أجلس في حجرة زمزم أنحت القداح، فوصل إلينا خبر أهل بدر وما نزل بهم، فسرنا، فدخل أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال له: أخبرني كيف كان أمر
قال ابن عباس: " أسر أبو اليسر كعبُ بنُ عمرو العباسَ وكان أبو اليسر رجلاً مجموا وكان العباس رجلاً جسيماً فقال رسول الله ﷺ: كيف أسرت العباس؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك، ولا بعده هيأته كذا وكذا، فقال رسول الله ﷺ: لقد أعانك عليه والله ملك كريم ".
وقيل: إن قوله: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ وما بعده في قصة يوم أحد هو كله وإنما وعدوا يوم بدر بأن يمدهم الله بألف من الملائكة مردفين.
قال قتادة: قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي: قليلون. ثم رجع إلى قصة أحد فقال: إذ تقول للمؤمنين الآيات ووعد الله [تعالى] المؤمنين يوم أحد أنهم إن ثبروا واتقوا بعد هذا اليوم أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسمين ففروا يوم أخد، ولم يتقوا النبي ﷺ [ في أمره، فلم يمدهم بشيء.
ومعنى ﴿مِّن فَوْرِهِمْ هذا﴾ أي: من وجههم هذا.
وقيل: من غضبهم هذا لأنهم غضبوا يوم بدر.
واستدل من قال أنه تعالى قد أمدهم بقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾.
وقال مجاهد: معنى مسومين " معلَّمين مجززة أذناب خيلهم ونواصيها [فيها] الصوف العهن، وذلك التسويم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن سيماهم يومئذ الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها وأنهم
وقيل: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر، وكذلك كانت عمامة الزبير.
وهذا كله يوم بدر، على كسر الواو لأنها سومت أنفسها، ومن فتح أضاف تسويمها إلى الله [تعالى ذكره. ومن فتح الواو أيضاً احتج بقوله ﴿مُنزَلِينَ﴾ بإضافة النزول إلى الله] سبحانه فكذلك التسوم، كانوا أنزلوا مسومين.
وقيل: معنى مسومين: مرسلين من سومت الخيل: أرسلتها إلى السائمة. وحكى بعض النحويين سوم الرجل غلامه أرسله، وخلا سبيله فيكون المعنى على هذا مرسلين إلى الكفار وكذلك (قال) الأخفش معناه: مرسلين.
وأكثر الناس على أن معنى مسومين معلمين: من السومة.
قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ﴾ الآية.
أي: ما جعل الله النصر والمدد والوعد بذلك إلا بشرى لكم ولتسكن إليه قلوبكم.
وقال مجاهد: لم يقاتلوا معهم يوم أحد، ولا قبله ولا بعده إلا في يوم بدر.
﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾. قال ابن زيد: لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل لأنه عزيز في انتقامه حكيم في تدبيره.
فالهاء في ﴿جَعَلَهُ﴾ تعود على الإمداد، ودل عليه ﴿يُمِدَّكُمْ﴾ وقيل: تعود على المدد، وهم الملائكة لدلالة يمددكم على الملائكة الين يُمَدُّ السلمون بهم، وقيل: تعود على التسويم.
وقيل: تعود على الإنزال لدلالة [منزلين] على ذلك.
وقيل: تعود على العدد لأن خمسة آلاف عدد، فرجعت الهاء على المعنى.
قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا﴾ الآية. المعنى: ليقطع طرفاً من الذين كفروا
والطرف: الطائفة [من الكفار بمحمد ﷺ].
[ وتقدير الآية ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ﴾ فيهلك من الذين كفروا بمحمد ﷺ].
قال قتادة: قطع الله بدر طرفاً من الذين كفروا، وقتل صناديد رؤسائهم في الشر. وقال السدي: عنى بذلك يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلاً، فذكرهم الله في قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً﴾، ثم ذكر الشهداء فقال بعد ذلك ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [آل عمران: ١٦٩] ومعنى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر ﴿فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾.
وقيل: معناه: أو يصرعهم لوجوههم سُمِعَ من العرب كبته الله لوجهه بمعنى صرعه. ذكره أبو عبيدة، وعن أبي عبيدة أيضاً، الكبت: الهلاك، وقيل: معناه: يغيظهم ويخزيهم ومنه ﴿كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [المجادلة: ٥].
والأصل فيه عند أهل النظر يكبدهم من أصاب كبده بشر وحزن وغيظ، ثم أبدل من الدال تاء لقرب مخرجهما كما قال: هرت التوب وهردت إذا حرضه يقال قد
قوله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ الآية.
هذا معطوف عند الطبري وغيره على ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾، والمعنى عنده: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ ففي الكلام في قوله تقديم وتأخير. وعند غيره أو بمعنى إلا، فهي الناصبة بإضمار إن، ولا تقديم ولا تأخير في الكلام.
ومعنى الآية: ليس لك يا محمد من الحكم في عبادي شيء، أو أتوب عليهم برحمتي إن شئت، فيؤمنوا أو أعذبهم فيموتوا على كفرهم ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي: قد استحقوا العذاب بظلمهم. وكان سبب نزول هذه الآية " أن النبي عليه السلام لما أصابه بأحد ما أصابه قال كالآيس منهم أن يؤمنوا: " كيف يفلح قوم فعلوا [هذا] بنبيهم " وقد كانوا كسروا رباعيته، وشج، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول " كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم "؟ فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ الآية فكف رسول الله ﷺ عن الدعاء حين نزلت عليه الآية، وكان قد دعا عليهم قبل الآية وقال، في عتبة بن أبي وقاص حين كسرت رباعيته، ووشاء وجهه فقال
وقال ابن عمر: كان النبي ﷺ يقول: " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ الآية ".
وروى أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام " أن النبي ﷺ صلّى الفجر فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم انجِ عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم اشدد وطأتك
وروى ابن وهب عن رجاله يرفعه إلى النبي عليه السلام " أنه كان يدعو على مضر إذ جاء جبريل ﷺ فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال يا محمد: إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، وإنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذاباً ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ قال: ثم علمه القنوت " اللهم إنا نستعينك... إلى آخره ملحق ".
وقال بعض الكوفيين: إن هذه ناسخة للقنوت الذي كان النبي عليه السلام جعله في صلاة الصبح، وأكثر الناس على أنه ليس بمنسوخ.
قوله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾. هذا تأكيد لما قبله أن الله له كل الأشياء يفعل ما يريد ويحكم ما يريد فيغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء ويعذب من يشاء.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة﴾ [أضعافاً]: حال من الربا.
ومعنى ﴿أضعافا﴾ أي: تضعفون الدين إذا أخرتم الأجل، كان الذي عليه الدين يقول: أخرني، وأزيدك فإذا حان قال: أخرني وأزيدك، فيتضاعف الدين عليه.
﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: تنجون. والمفلح الذي أدرك ما أمل ونجا مما خاف.
﴿وَأَطِيعُواْ الله والرسول﴾ أي: أطيعوه فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وأطيعوا الرسول أن تخالفوه كما خالفتموه يوم أحد فهذه معاتبة من الله تعالى للذين عصوا يوم أحد، قال ابن عباس.
قوله: ﴿سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ الآية. معناه: بادروا بالأعمال الصالحات، أي: إلى ستر ذنوبكم من ربكم، والمغفرة الستر - ومنها المغفر. وسارعوا أيضاً إلى جنة هذه صفتها.
ومعنى ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾.: أي عرضها كعرض السماوات السبع، والآراضين السبع إذا ضم بعضها إلى بعض. قال ابن عباس: تقرن السماوات السبع، والآرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذلك عرض الجنة ولا يصف أحد طولها لاتساعه، والله أعلم بذلك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لو أن السماوات بسطن، ثم وصل بعضها إلى بعض ما كُنَّ في سعة خلق الله إلا بمنزلة
[وروي أن لله تعالى اثني عشر عالماً السماوات والأرض] منها عالم واحد.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: والله أعظم من ذلك كله، ويقدر على أكثر من ذلك كله لا إله إلا هو.
وقد قيل معنى ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ أي: سعتها كسعتهن ومن قول العربي أرض عريضة أي: واسعة، وليس يريد العرض الذي هو خلاف الطول.
قال أنس بن مالك: يعني بالمسارعة: التكبيرة الأولى.
وسئل النبي عليه السلام وقيل له: " هذه الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال: هذا النهار إذا جاء فأين الليل؟ " وروي أن بعض أهل نجران سألوا عمر عن ذلك فأجابهم بذلك فقالوا: لقد نازعت بمثل ما في التوراة.
قوله: ﴿الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء﴾ الآية.
هذه صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة ينفقون أموالهم في الله في حال السرور.
والسراء مصدر سرني مسرة وسروراً.
والضراء مصدر، قد ضُرَّ فلان إذا أصابه الضر، وهو الضيق والجهد. قال ابن
﴿والكاظمين الغيظ﴾ أي: الذين يتجرعون غيظهم عند امتلاء أنفسهم. وقيل الكظم: الحبس، فمعناه: والحابسين غيظهم ﴿والعافين﴾ أي: الصافحين عن جنايات الناس وذنوبهم وهم على الانتقام قادرون.
قال أبو العالية: ﴿عَنِ الناس﴾ أي: عن المماليك.
وقال النبي صلى الله عليه سلم " من كظم غيظاً، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً " وقال ابن عباس: هذا كقوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى ٣٤] ﴿والعافين عَنِ الناس﴾ مثل قوله:
﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ﴾ [النور: ٢٢]... إلى قوله: ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ [النور: ٢٢] الآية.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " ما تجرع عبد جرعة خير له من جرعة غيظ ".
﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي: يحب من عمل بهذه الصفات. وعن الحسن أنه قال: ﴿والكاظمين الغيظ﴾ عن الأرقاء ﴿والعافين عَنِ الناس﴾ إذا ما جهلوا عليهم.
قوله: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ الآية.
هذا كله من نعت المتقين الذين أعدت لهم جنة عرضها السماوات والأرض. وروي عن جابر أنه قال: الفاحشة هنا: الزنا وكذلك (قال) السدي.
وقيل: هي كل فعل قبح [في] الشر [ع].
ومعنى ﴿أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعلوا غير الذي ينبغي.
قال النخعي: الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم.
ومعنى ﴿فاستغفروا﴾ أي: استدعوا الغفران من الله تعالى وهو الستر على فعلهم ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ أي: من يسترها على فاعلها إلا الله.
وقال عطاء بن أبي رباح: قال أصحاب النبي ﷺ: " يا نبي الله، بنو إسرائيل
قال ثابت البناني لما نزلت. ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية: بكى إبليس فزعاً منها، قال: وبلغني أنه بكى حين نزلت ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية.
قال علي بن أبي طالب: كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثاً ينفعني الله منه بما يشاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر قال: " سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله إلا غفر له " ثم تلى هذه الآية ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾.
وروي عنه زيادة في هذا الحديث وهو أنه قال: ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر.
وقال النبي عليه السلام: " إن الله يغضب للغزاة كما يغضب للمرسلين ويستجيب لهم كما يستجيب للمرسلين ".
وروي أن نبهان التمار أقام ثلاثة أيام صائماً حزيناً يبكي على ذنبه، فلما نزلت الآية أعلمه النبي ﷺ بها فشكر الله، ثم قال: يا نبي الله هذه توبتي قبلها الله مني، فكيف حتى يتقبل شكري؟ فأنزل الله
﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل﴾ [هود: ١١٤] الآية. ومعنى ﴿ذَكَرُواْ الله﴾ [أي]: ذكروا نهي الله عما ركبوا وما أحدثوا فاستغفروا ﴿لَمْ يُصِرُّواْ﴾ أي: لم يتمادوا ولم يثبتوا على ما فعلوا.
وقيل ﴿لَمْ يُصِرُّواْ﴾ أي: لم يسكتوا عن الاستغفار قاله السدي.
والمعنى عند أكثر المفسرين، وأهل اللغة لم يقيموا متعمدين على الذنب، وترك التوبة منه.
وقال السدي: معنى ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لم يقيموا على ترك الاستغفار وهم يعلمون [أنهم اذنبوا. وقيل: المعنى يعلمون أن الذي أتوا معصية. وقيل المعنى ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾] أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل المعنى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إني معاقب على الإصرار. وقيل: المعنى: وهم يذكرون ذنوبهم.
قوله ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ الآية.
المعنى: أولئك الذين مضت صفتهم جزاؤهم مغفرة أي: ثوابهم مع ما ذكر مما أعد لهم ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ أي: ثواب المطيعين.
قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض﴾.
وقيل: ﴿سُنَنٌ﴾ هنا أمثال فيمن كان قبلكم.
قوله: ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ الآية.
وقال الحسن: ﴿هذا﴾ إشارة إلى القرآن، وقاله قتادة.
وقال الربيع: ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ عامة وهو القرآن ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ خاصة.
وقال ابن اسحاق: ﴿هذا﴾ إشارة إلى قوله ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ الآية.
وقال الشعبي: ﴿وَهُدًى﴾ من الضلال ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾ من الجهل وذلك لمن اتقى المحارم.
قوله: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ الآية هذه الآية تعزية لأصحاب محمد ﷺ فيما
قال ابن جريج: " لما انهزم أصحاب النبي عليه السلام يوم أحد في الشعب قالوا: ما فعل فلان، ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضاً، وتحدثوا أن الرسول ﷺ [ قتل، فكانوا في هم وحزن على النبي ﷺ] فبينا هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد [الجبل] بخيل من المشركين فلما رأى المسلمون النبي ﷺ فرحوا، وثاب قوم من الرماة [من المسلمين فصعدوا الجبل فرموا المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فنزل ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ فقال النبي ﷺ " اللهم لا قوة إلا بك وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر " ".
قال ابن عباس: لما أتى خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل بخيل معه، قال النبي عليه السلام: " اللهم لا يعلون علينا " فأنزل الله: ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾ الآية.
قوله ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ﴾ الآية.
هذا تعزية للمسلمين فيما أصابهم من الجراح والقتل يوم أحد وأنهم إن كان
وقال الفراء: الفتح اسم الجرح، والضم اسم الألم.
ولم يعرف أبو عمر الضمن. وقال يعقوب الحضرمي: المفتوح ما كان بسلاح، والمضموم الجهاد كذا وقع عنه.
قال ابن عباس: " لما كان يوم أحد وأصاب المسلمين ما أصاب صعد النبي ﷺ الجبل فجاء أبو سفيان فقال يا محمد: الحرب سجال يوم لنا، ويوم لكم فقال النبي عليه السلام: أجيبوه فقالوا له: لا سواء لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في الناؤ. فقال له أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال النبي ﷺ أجيبوه. فقالوا: الله مولانا ولا مولى
قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله الذين﴾ أي: داوها ليعلم الله المؤمنين من المنافقين علم مشاهدة، وهو عالم بهم قبل أن يخلقهم الله ولكن أراد العلم الذي يقع عليه الجزاء ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ أي: يكرم من أراد بالشهادة.
والشهداء جمع شهيد، وسمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة.
قال ابن جريج: كان المسلمون يسألون الله أن يريهم مثل يوم بدر، فيقاتلون ويلتمسون فيه الشهادة، فابتُلوا بيوم أحد، فخالف الرماة، فقتل من المسلمين، واتخذهم الله شهداء، فبلغهم أملهم الذي كانوا قد أملوا وسألأوا.
وقال ابن عباس: يسألون الشهادة فقتلوا يوم أحد.
تم الجزء التاسع
المعنى: داول الله [الأيام] بين الناس، فيعلم المؤمنين من المنافقين، وليمحص ذنوب المؤمنين. يقال: محصه إذا خلصه فمعناه على هذا: وليخلص الله المؤمنين من ذنوبهم داول الأيام بين الناس، ومنه قولهم: اللهم محص عنا ذنوبنا أي خلصنا من عقوبتها. وقيل: معنى ليمحص ليبتلي.
ومعنى: ﴿وَيَمْحَقَ الكافرين﴾ أي: يستأصلهم. وقيل يمحق أعمالهم. وقيل: ينقصهم ويفنيهم.
يقال: محق فلان الطعام إذا نقصه وأفناه.
وقال مجاهد: وليمحص وليختبر.
قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ﴾ الآية.
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر ﴿وَيَعْلَمَ الصابرين﴾ عطفاً على ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾.
ومن نصب في ظهر " أن " عند الخليل وسيبويه، وعلى الصرف عند الكوفيين،
والمعنى: أم حسبتم أيها المؤمنون أت تنالوا الكرامة، ولم تختبروا بالشدة والبأساء، فيعلم منه صدقكم وصبركم واقعاً وقد كان تعالى ذكره، علمه غيباً، ولكن لا تقع المجازاة إلا على ما خرج من الأفعال إلى الوجود.
قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت﴾ الآية.
المعنى: لقد كنتم يا أصحاب محمد تتمنون الموت، وذلك أن أناساً فاتهم حضور بدر، وما أ'طي أهل بدر من الفضل، فكانوا يتمنون الموت أن يجاهدوا، فيبلوا العذر في القتال في الله تعالى.
ومعنى: ﴿تَمَنَّوْنَ الموت﴾ أي: القتل الذي هو سبب الموت ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: رأيتم سبب الموت ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أي: بصراء تشهدون ذلك عن قرب.
قال القتبي ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾: يعني أسباب الموت وهي السيف والسلاح.
وقيل: الهاء في رأيتموه تعود على محمد ﷺ.
فلما كان يوم أُحد حضروا القتال، فولى قوم وأبلى [قوم] العذر، وأوفوا بما
وقيل: إنهم كانوا يتمنون الشهادة في القتال فقتلوا يوم أحد.
قال الحسن: لما سألوا، ابتلوا بيوم أحد [فلا] والله ما كلهام صدق.
قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ الآية.
معنى الآية أن الله أخبرهم أن محمداً كبعض رسله المتقدمين في الرسالة والدعاء، الذين قد مضوا وخلوا، فلما حضرت آجالهم ماتوا فمحمد ﷺ مثلهم ميت عند انقضاء أجله، وهذا إنما هو معاتبة من الله للمؤمنين على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل فب أحد إن محمد ﷺ قد قتل، ومقبحاً لهم انهزام من انهزم منهم حين سمع ذلك.
ومعنى: ﴿انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: ارتددتم عن دينكم لو مات، وهل هو إلا مثل من تقدمه من الرسل ميت عند انقضاء أجله؟ فلو مات أكنتم تكفرون؟
﴿وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ﴾ أي: من يرتدد عن دينه ﴿فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً﴾ سبحانه ارتداده. وفي
أو قولهم ﴿وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾ أي: وسيثيب الله تعالى من شكره على هدايته له، وتوفيقه إياه.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أبو بكر أمير الشاكرين، فالآية إنما نزلت فيمن انهزم من أصحاب النبي ﷺ. قال قتادة: لما كان يوم أحد من الشناعة ما
وقال ناس من عليه أصحاب النبي ﷺ: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله، أو تلحقوا به، فأنزل الله تبارك وتعالى في عتاب من قال: لو كان نبياً ما قتل ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾.
وذكر الربيع أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً ﷺ قد قتل؟ فقال الأنصاري: وإن كان محمد ﷺ قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال السدي: " لما برز رسول الله ﷺ إليهم يوم أحد بعد صلاة لجمعة يوم الجمعة، أمر الرماة فقاموا في أصل الجبل في وجوه خيل المشركين. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن لأسود على المشركين فهزموهم وحمل ﷺ وأصحابه فهزموهم وهزموا أبا سفيان.
ويروى " أن الذي قال ذلك واعتذر: أنس بن النضر، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وانطلق رسول الله ﷺ يدعو حتى أتى أصحاب الصخرة فلما رأوه أراد رجل منهم أن يرميه، ولم يعرفه فقال: أنا رسول الله، ففرحوا وفرح رسول الله بهم، وذهب عنهم الحزن وأنزل الله تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ الآية ".
وقال الضحاك: نادى منادٍ يوم أحد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول فأنزل الله ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ﴾ الآية.
قوله ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ الآية معناه: لا تموت نفس إلا بإذن الله، وليس هو نهي للنفس، لأن ذلك ليس هو في يديها وهو بمنزلة
هذا نعنى لا تموت نفس إلا بإذن الله، أخبرهم الله في هذه الآية أن محمداً ﷺ وغيره لا يموت إلا بإذن الله، وإذا أتى أجله. " وكتاباً " منصوب على المصدر أي كتب الله ذلك كتاباً.
قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من يرد بعمله أعراض الدنيا دون ما عند الله يعطه ما قسم الله منها يرزق أيام حياته، ولا حظ له في الآخرة، ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة﴾، أي ما عند الله من الكرامة ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين﴾ أي: سنتيب من أطاعني وقبل أمري، لأن اتباع أمر الله والعمل بطاعته من أعظم الشكر.
قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ﴾ الآية.
وأما من قرأ وكأي فإنها عند الخليل (أي): دخلت عليه كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم، فيجب على قوله أن تقف بغير نون في قراءة الجماعة كما تقف على (أي): وهو مذهب سيبويه وكذلك حكى عن أبي عمرو، والكسائي، وروي عنهما الوقف على النون.
فمن وقف بالنون في هذه القراءة، فإنما ذلك لأنه اتبع السواد وهو في المصحف بالنون على قراءة من قدم الألف قبل الهمزة وهي قراءة ابن كثير ومن قرأ: " قتل ": فالمعنى عند عكرمة أن القتل إخبار عما فعل بالأنبياء عليهم السلام، وأنهم قتلوا فيما مضى، وأن من كان معهم لم يضعف بعده ولا تضعضع.
ثم أخبر عن قولهم بعد نبيهم ﷺ، وثباتهم على دينهم، فيكون التمام على هذا قتل وفيه بعد لأن ما بعده من صفة نبي ويكون معنى الآية: أن الله وبخ بذلك
وقيل: المعنى أن الله تعالى أخبر أنه قد قتل مع الأنبياء عليهم السلام ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ فما وهن من بقي ولا ضعف ولا ذل، فيتأسى المسلمون بهذا، فلا يضعفون لما أصاب أصحابهم من القتل يوم أحد، فلا يكون التمام على هذا قتل لأن " الربيون " مرفوع بقتل، والأول أحسن لأن كعب بن مالك قال: أول من عرف رسول الله ﷺ يوم أحد أنه لم يقتل: أنا، رأيت عينيه تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله ﷺ فأومأ إلي النبي ﷺ أن: اسكت.
وكان قد صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فانهزم المسلمون إلا قليلاً منهم، فأنزل الله تعالى ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ﴾ أي: كثير من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان بعده ولا ذل، فكيف اردتم أيها المؤمنون أن تضعفوا حين سمعتم الشناعة بأن محمداً ﷺ قد قتل، فتأسوا أيها المؤمنون بمن كان قبلكم من أصحاب الأنبياء صلوات الله عليهم، الربيين.
ومن قرأ قاتل حمله على معنى أنهم وهنوا لقتل أصحابهم وجراحم، فأنزل الله تعالى عليهم يعلمهم أن كثيراً من الأنبياء قاتل مع أصحابه وأتباعه، فلم يضعفوا لما أصابهم من قتل وجراح فتأسوا بهم.
واختار بعض أهل اللغة قاتل لأنه أبلغ في المدح من قتل لأن الله تعالى إذا مدح من قاتل كان من قتل أدخل في المدح لأنه لم يقتل إلا بعد القتال، فالقاتل والمقتول ممدوحان في قراءة من قرأ قاتل وهو إذا مدح من قتل فليس من قاتل، ولم يقتل بالممدوح، فقاتل أبلغ في المدح للجميع.
" والربيون " الذين يعبدون الرب نسبوا إليه لعبادتهم إياه وإقرارهم له، وهو معنى مروي عن الحسن وغيره.
واحدهم ربي منسوب إلى الرب ولكن كسرت الراء اتباعاً للكسرة التي بعدها كما قالوا: نسي وعصي فكسروا الأول للاتباع، وقيل: الربانيون الجماعات.
وقيل: هم العلماء الألوف.
وقال ابن جبير: علماء كثير.
وقال الحسن: فقهاء وعلماء.
وقال ابن المبارك: أتقياء صُبُر.
وقال ابن زيد: الربانيون الأتباع، والربانيون الولاة.
وقيل الربانيون: منسوب إلى الرب أيضاً واحد ربي وزيدت الألف والنون للمبالغة كالنسبة إلى الجهة: جهاتي ثم جمع بعد الزيادة وقد مضى ذكره.
وقال ابن زيد: هذا عتاب من الله تعالى لأصحاب النبي عليه السلام حين صاح إليهم الشيطان يوم أُحد أن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء: رقبيون بضم الراء غُير أوله بالضم كما قالوا في النسب إلى الدهر دهري.
قوله: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ أي: ما ضعفوا، ولا عجزوا لما أصابهم من آلام الجراح، وقتل أصحابهم: وقيل: لم يعجزوا لما أصابهم من قتل نبيهم ﷺ ولا آلام جراحهم، ولم يعجزوا عن القتال في سبيل الله تعالى بعد نبيهم ﷺ.
وكان سعيد بن جبير يقول: لم أسمع بنبي قتل في الحرب، فلا يكون الوقف على قوله: قتل البتة.
قوله: ﴿وَمَا استكانوا﴾ أي: ما خشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم، ولكن مضوا على بصيرتهم في نصر دينهم وصبروا. قال ابن اسحاق: ما وهنو لفقد نبيهم،
وما ضعفوا عن قتال عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الحرب.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾.
حكى الله تعالى للمؤمنين قول الربيين الذين ذكرهم ليتأسوا بهم، فأخبرهم أنهم لم يعتصموا إلا بالصبر ومجاهدة عدوهم، ومسألة ربهم المغفرة والنصرة على عدوهم.
ومعنى: ﴿وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا﴾ أي: خطايانا وظلمنا لأنفسنا.
وقال الضحاك: هي الكبائر وسألوه المغفرة فيها.
قوله: ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا﴾ الآية]، المعنى: فأعطى الله المؤمنين الربيين ثواب الدنيا أي: النصر على عدوهم والظفر والغنيمة ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة﴾ أي: خير
قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية. هذه الآية تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يطيعوا المنافقين والكافرين بمحمد في أمر، أو يقبلوا منهم نصيحة، وأ'لمهم أنهم إن قبلوا منهم ردوهم كافرين مثلهم، فيخسرون دنياهم وآخرتهم. قوله ﴿بَلِ الله مَوْلاَكُمْ﴾ أي: بل الله وليكم ينقذكم من طاعة الكافرين التي ترديكم فأطيعوه ولا تستنصروا بغيره فهو خير من استنصرتم به.
قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ الآية.
بشر الله تعالى المؤمنين بما صنع بالمشركين، ويصنع بهم.
قال السدي: " ارتحل المشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة إذا بلغوا بعض الطريق ندموا فقال لهم أبو سفيان: بئس ما صنعنا، قاتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وانهزموا، فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً فقالوا له: إذا لقيت محمداً، وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم. كذباً منهم لما قد جعل في قلوبهم من الرعب، وأعلم الله تعالى نبيه ﷺ بأمرهم ورعبهم، فخرج النبي ﷺ في طلبهم فلم يلحقهم، وقال النبي ﷺ " نصرت بالرعب " ".
أعلم الله تعالى المؤمنين أنه قد صدقهم وعده الذي أتاهم على لسان نبيه، وهو قوله للرماة بأحد: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا هزمناهم، فإن لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره.
وقال لمن معه غير الرماة: إذا هزمناهم فلا تتبعوهم فقام الرماة بأصل الجبل.
ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم من أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار، فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط، وانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم ابن عم، فتركه وكبّر النبي ﷺ، وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجيز عليه؟ فقال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه، [ثم شد الزبير بين العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزمهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه وهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فنقمع، ثم أيقن الرماة بأن المشركين انهزموا، وأن
ومعنى: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر﴾ هو اختلاف الرماة قال قائلون: نمضي للغنيمة. وقال آخرون: لا نبرح ولا نخالف أمر رسول الله ﷺ فمضى الأكثر وكان ذلك سبب قتل من بقي.
ومعنى: ﴿فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم، وتخاذلتم، وعصيتم النبي ﷺ فيما أمركم به وقد كان الله تعالى: صدقكم وعده الذي أخبركم به نبيكم ﷺ ﴿ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ من النصر إذ هزم عدوكم ولكنكم اخترتم الدنيا وهي الغنيمة.
قال مالك: لما نزلت يوم أحد: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ قال عبد الله بن مسعود: والذي بعث محمداً ﷺ بالحق ما ظننت أن فينا أحداً يريد الدنيا.
ومعنى: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ أي: يريد الغنيمة، وأخذ الأموال وقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي: ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد أن استوليتم عليهم، ورأيتم ما تحبون من هزيمتهم، وقتل صاحب رايتهم فعل ذلك بكم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي يختبركم ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ هذا لمن عصى من الرماة خاصة. وقال ابن جريج: معنى
قوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ الآية.
العامل في إذ عفا، كأنه قد عفا الله عنكم أيها المؤمنون ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ أي: تلوون منهزمين في الوادي والرسول يدعوكم إليّ عباد الله، فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية اصتعاد، وفي الجبل صعود لأنه كالسلالم والدرج.
وقرأ الحسن " إذ تَصعَدون " بفتح التاء والعين على تأويل إنهم صعدوا الجبل منهزمين، وقد روي أن بعضهم صعد الجبل.
قال السدي: " لما وقعت الهزيمة على المسلمين دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل النبي ﷺ يقول: إلي عباد الله إلي عباد الله ".
وقال القتبي: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ تبعدون في الهزيمة يقال: اصتعد في الأرض إذا أمعن
﴿وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ أي: لا ترجعون ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً من عدوكم ﴿فأثابكم غَمّاًً بِغَمٍّ﴾ أي: جزاكم بفراركم عن نبيكم ﷺ، وفشلكم عن عدوكم، ومخالفتكم غماً على غم، الباء في موضع على. ومعنى: ﴿فأثابكم﴾ جعل ما يقوم مقام الثواب لكم غماً بعد غم مثل: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، والانشقاق: ٢٤]. فالغم الأول: ما لحقهم على نبيهم ﷺ حين سمعوا أنه قتل. والثاني: ما لحقهم من الجراح، وقتل أصحابهم لأنه قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين.
قوله: ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ﴾ أي: من الغنيمة ﴿وَلاَ مَآ أصابكم﴾ من ألم الجراح والقتل. وقيل: الغم الأول: ما صاحبهم على قتل أصحابهم، وجراحهم. والثاني: ما أصابهم حين سمعوا أن محمداً ﷺ قتل. وقيل: الغم الأول: أسفهم على ما فات من الغنيمة. والثاني: اطلاع أبي سفيان عليهم في الجبل، فخافوا حين أتاهم، فرموه، فرجع عنهم وقد كانوا فزعوا منه أن يميل عليهم فيقتلهم فهو الغم الثاني.
وكان من قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين.
النعاس: بدل من أمنة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله. وأمنة مصدر في الأصل. وقيل: هو اسم فاعل.
أخبرهم الله تعالى أنه جعلهم طائفتين طائفة أمنة حتى نعست، وطائفة أهمتها نفسها حين ظنت بالله غير الحق: أي ساء ظنها بالله سبحانه.
وسبب ذلك فيما ذكر السدي: " أن المشركين انصرفوا [من أحد] بعدما كان منهم، واعدوا النبي ﷺ بدراً من قابل فقال لهم: نعم، فتخوف المسلمون أن ينزل المشركون المدينة فبعث النبي ﷺ رجلاً: أنظر، فإن رأيتهم قعوداً على أثقالهم، وجنبوا خيلهم، فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله، واصبروا وَوَطَّنهم على القتال، وإن رأيتهم سراعاً عجالاً، فليس ينزلون المدينة، فلما أبصرهم الرسول - قعود على الآثقال - سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك أمنوا وناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتوهم فطار عنهم النوم، ولم يركنوا إلى قول النبي ﷺ وما أخبرهم به: أنهم لا ينزلون المدينة ".
ثم أخبر تعالى نبيه ﷺ أن هؤلاء المنافقين يخفون في أنفسهم ما لا يبدون للنبي ﷺ، وأن الذي يخفون منه قولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا﴾ وأمر نبيه ﷺ أن يقول لهم: ﴿لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين﴾ قدر الله عليهم القتل إلى مضاجعهم التي سبق في علمه أنهم يقتلون بها. ومعنى: ﴿لَبَرَزَ الذين﴾ [أي]: لصاروا إلى براز من الأرض، وهو المكان المنكشف.
وقرأ أبو حياة: لبُرِّز الذين. مشدداً على ما لم يسم فاعله.
قوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ يعني به: المنافقون يبرزون من بيوتهم إلى مضاجعهم التي يموتون بها.
وقيل المعنى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ فرض عليكم القتال. وقال الطبري: معناه وليختبر الذي في صدوركم من الشك فيميزكم بما يظهر للمؤمنين من نفاقكم، فيميزكم المؤمنون.
قوله: ﴿إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان﴾ الاية.
هذه الآية إعلام من الله تعالى أنه قد غفر لهم انهزان بوم أحد من أصحاب النبي ﷺ، وأخبرنا تعالى أنهم إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان ببعض ما تقدم لهم من أمرهم فانهزموا.
قيل: إنه ذكرهم بذنوب لم يتوبوا منها، فكرهوا أن يلقوا الله - تعالى - على غير توبة، فانهزموا لئلا يقتلوا قبل التوبة، فغفر الله لهم فرارهم.
وقال السدي: عنى بذلك من دخل المدينة منهزماً خاصة دون أن يصعد الجبل. وقيل: " نزلت في رجال لأعيانهم فروا، منهم: عثمان بن عفان وغيره، فروا وأقاموا على فرارهم ثلاثاً، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فقال لهم: لقد ذهبتم في أرض عريضة، فاعلمنا الله تعالى أنه عفا عنهم ".
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ﴾ الآية. نهى الله المؤمنين أن يكونوا مثل المنافقين ﴿كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض﴾ أي: إذا خرجوا إلى سفر في تجارة ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ أي: خرجوا لغزو، فهلكوا في سفرهم أو غزوهم، ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُو﴾ في سفرهم ﴿وَمَا قُتِلُواْ﴾ في غزوهم، جعل الله قولهم ذلك حسرة في قلوبهم. روي أن المنافقين قالوا في من بعثه النبي ﷺ من السرايا إلى بئر معونة، فقتلوا رحمة الله
أي: أزورك، فكذلك وقعت إذا وهي للمستقبل موضع إذ، ومثله ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ﴾ [الحج: ٢٥] وقع [كفروا] موضع يكفرون لأن الذي فيه معنى الجزاء، فجاز فيه ما يجوز في الجزاء، ودل على يكفرون قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ﴾. ثم أخبر تعالى [أنه] يحيي من يشاء ويميت من يشاء ليس جلوسهم عندهم بمنجيهم من الموت، ولا مسيرهم لسفر أو غزاة بمقرب لما بعد من آجالهم ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: بعمل هؤلاء المنفقين بصير، فهذا على قراءة من قرأ بالياء، فذكر المنافقين أقرب. ومن قرأ بالتاء رده على أول الكلام في قوله ﴿لاَ تَكُونُواْ كالذين﴾ وكان الياء أقوى لأن الذين وضع عليهم الدم أولى بالتهديد من غيرهم، وكلا الأمرين حسن.
هذا خطاب للمؤمنين خاصة، لأنهم إن ماتوا في سبيل الله أوم قتلوا فإنهم يصيرون إلى مغفرة ورحمة، وذلك خير مما يجمع المنافقون هذا على قراءة من قرأ يجمعون بالياء. ومن قرأ بالتاء، رده على المخاطبة، وأن المغفرة والرحمة خير مما تجمعون أيها المؤمنون من حطام الدنيا الذي يمنع من الجهاد.
وقال ابن اسحاق معناها: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله خير لو علموا وأيقنوا. وتأويل الكلام: ليغفرن الله لكم وليرحمنكم. ثم أعلمهم أن الرجوع إليه في كل حال من موت، أو قتل فقال: ﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ وهذا الأمر خطاب للمؤمنين والمشركين أعلمهم أن مصير الجميع إليه، فيجازي كل صنف بعمله.
قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ الآية.
هذا خطاب للنبي ﷺ، والمعنى: فبرحمة من الله لنت للمؤمنين حتى آمنوا بك فسهلت عليهم الأمر، وبينت لهم الحجج، وحسنت خلقك، وصبرت على الأذى ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي: لتركوك ﴿فاعف عَنْهُمْ﴾ أي: تجاوز عنهم، واصفح فيما نالك منهم، ثم قال: ﴿واستغفر لَهُمْ﴾ أي: ادع ربك لهم بالمغفرة. وقوله ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ أَمَر الله تعالى نبيه ﷺ أن يشاور أصحابه عند الحرب ولقاء العدو،
قال أبو اسحاق: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ معناه: ليريهم أنه يستعين بهم، ويسمع من آرائهم، فيكون أطيب لأنفسهم وقد كان عنهم غنياً لتوفيق الله تعالى له بالوحي.
وقيل: إنما أمره بذلك لما فيه من الفضل وليتأسى أمته ﷺ بذلك بعده. روى ابن وهب أن مالكاً قال: ما تشاور قوم قط إلا هُدوا. و " سئل النبي ﷺ عن الحزم فقال " تستشيروا الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى أمرك به " ويقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد بتوحيد رأي. وقال النبي عليه السلام " المستشار بالخيار ما لم يتكلم، فإذا تكلم فحق عليه أن ينصح ".
قال الحسن والله ما تشاور [قوم] قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم.
قال أبو هريرة رضي الله عنهـ: ما رأيت من الناس أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ. قال ابن شهاب: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
وقال الشعبي: مكتوب في التوراة من لم يستشر يندم.
أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار ".
وقال ابن عباس: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ أبو بكر وعمر رضي الله عنهـ.
وقيل: إنما أمر أن يشاورهم فيما لم يكن عنده علم فيه وحي لأنه قد يكون عند بعضهم فيه علم، والناس قد يعرفون من أمور الدنيا ما لا تعرف الأنبياء صلوات الله عليهم.
﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ أي: إذا ثبت الرأي على أمر ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ فيه، وامض فيه، إن الله يحب من يتوكل عليه ويفوض الأمر إليه.
قوله: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ الآية.
هذا خطاب للمؤمنين أن الله تعالى إن نصرهم لم يغلبهم أحد، وإن خذلهم لم ينصرهم أحد، فجميع الأمور إليه ترجع، والهاء في ﴿مِّنْ بَعْدِهِ﴾ تعود على الله تعالى ذكره. وقيل: تعود على الخذلان لدلالة يخذلهم عليه.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ الآية.
وروى الضحاك أنهم قالوا: بادروا الغنائم لئلا تؤخذ فقال الله تعالى: ما كان لنبي أن يوجد خائناً
أي: ما ينبغي ذلم ولا يكون.
وقيل: المعنى: ما ينبغي لنبي أن يغل منه أي: يخان منه. وقد قيل: إن المعنى: أن يخون، وهذا لا يصلح لأنه يلزم أن يكون يغل. وقد قيل: إنه لما اجتمعت ثلاث لامات حذفت الواحدة. ومن قرأ بفتح الياء فمعناه أن يخون: أي: لا ينبغي أن يخون النبي ﷺ أصحابه ولا يكون ذلك.
قال محمد بن كعب معناه: ما كان له أن يكتم شيئاً من كتاب الله تعالى، وما أمر به. وقيل: إن قوماً من المنافقين اتهموا النبي ﷺ في شيء من المغنم، فأنزل الله جل ذكره ذلك، وعليه أكثر المفسرين.
فالقراءة [على الفتح] بمعنى: لا ينبغي أن يخون هو، وبالضم: ما كان لنبي أن يوجد خائناً، ولا يمكن ذلك مثل أحمدته. أو يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخون، فيتهم
وقد قوى قراءة الضم بأن الآية نزلت في قوم غلوا فنفى الله أن يخان النبي ﷺ، وأنه لا ينبغي أن يخان. وقوى آخرون قراءة الفتح بأن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت من الغنائم يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله أخذها، وأكثر في ذلك فأنزل الله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي: يخون أصحابه.
وقال سعيد بن جبير القراء [ة] ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء قال: وأما يُغل فقد كان، والله يغل ويغتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ وغيره أنه قال: نزلت الآية في طلائع كان رسول الله ﷺ وجههم في أمر فلم يقسم لهم، فأعلمه الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له أن يقسم لطائفة دون آخرين فيخون في أنفسهم. وقال الضحاك: يغل بالفتح معناه أن يعطي بعضاً، ويترك بعضاً وبالفتح كان يقرأ. وقال ابن اسحاق: نرى ذلك في النفي عن النبي ﷺ أنه لا ينبغي له أن يكتم من الوحي شيئاً فالفتح أولى به على هذا.
﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة﴾ أي: من يخن من غنائم المسلمين شيئا يأتي به يوم القيامة.
قال ابن عباس رضي الله عنهـ قال رسول الله ﷺ: " لا أعرف أحدكم يأتي يوم القيامة
قوله: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ الآية.
معناها أفمن ترك الغلول، فاتبع رضوان الله بذلك كمن غل فرجع بسخط، من الله على غلوله قال معناه الضحاك، وقيل الآية عامة في كل من عمل خيراً، ومن عمل شراً.
قوله: ﴿هُمْ درجات عِندَ الله والله﴾ الآية.
قيل المعنى: أن الغال، وغير الغال، والصالح وغير الصالح، أصحاب درجات عند الله، رداً على ما قبله.
والدرجات: الجنة والنار.
وقيل المعنى: ﴿هُمْ درجات عِندَ الله﴾: يعني من اتبع رضوانه خاصة قاله مجاهد والسدي. وقيل: المعنى هم طبقات عند الله أي: أهل الرضوان طبقات. وقيل: المعنى: هم ذوو درجات، يعني المؤمنين، وذلك في الفضل بعضهم أرفع من بعض، كذلك قال القتيبي وغيره. قوله: ﴿والله بَصِيرٌ﴾ أي: بما يعمل الجميع، فيوفي كلاً بقسطه.
﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ منهم، والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، قاله قتادة وغيره، وقيل: معنى ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: بشر مثلهم يظهر البراهين، فيعلم أنه نبي إذ هو بشر مثلهم يأتي بما لا يمكن أن يأتوا بمثله هم، وما كانوا من قبله إلا في ضلال مبين أي: في جهالة وحية ظاهرة. فإن بمعنى: ما، واللام في ﴿لَفِي﴾ بمعنى: إلا هذا قول الكوفيين. ومذهب سيبويه أن أن مخففة من الثقيلة، واسمها [مضمر] والتقدير على قوله: وأنهم كانوا من قبل محمد ﷺ لفي ضلال مبين أي: أنهم لفي ضلال مبين كانوا قبل محمد ﷺ، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن على نحو هذا الاختلاف من تقدير أن وتقدير الكلام، فاعرف الأصل فيها إن تركنا ذكرها اكتفاء بما ذكرنا.
قوله: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾.
المعنى: أحين أصابكم أيها المؤمنون مصيبة، وهي ما قتل يوم أحد - وأنتم قد أصبتم مثليها أي: مثل المصيبة يعني يوم بدر إذ قتل المسلمون للمشركين سبعين،
قال قتادة: " لما قدم أبو سفيان بالمشركين رأى رسول الله ﷺ رؤيا، رأى بقراً تنحر، فتأولها قتلى في أصحابه، ورأى سيفه ذا الفقار انقسم، فكان قتل عمه حمزة، كان يقال: أسد الله، ورأى أن كبشاً أغبر قتل، فكان قتل صاحب لواء المشركين: عثمان ابن أبي طلحة أصيب يومئذ وكان معه لواء المشركين وهو منهم، فقال النبي ﷺ لأصحابه بعد هذه الرؤية: إنا في جُنَّة حصينة يعني المدينة فدعوهم يدخلون نقاتلهم، فقال أناس من الأنصار: يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع
فقتادة يذهب إلى [أن] الذنب الذي عدده الله عليهم في قوله ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ هو ما أشاروا به من رأي أنفسهم على النبي ﷺ في الخروج وكان قد قتل من الأنصار يومئذ ستة وستون، ومن المهاجرين أربعة.
" وروى ابن سيرين أن النبي ﷺ قال للمؤمنين في أسارى بدر: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، وتقووا به على عدوكم، فإن قبلتموه قتل منكم سبعون، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون، فأخذوا الفدية وقتل منهم يوم أحد سبعون. فيكون المعنى على هذا: قل يا محمد ما أصابكم يوم أحد من القتل فمن عند أنفسكم أي باختياركم أخذ الفدية من السبعين الذين أسرتم ببدر، ورضاكم أن يقتل فيكم بعددهم وتركتم قتلهم ".
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ: " إن جبريل أتى النبي ﷺ فقال: يا محمد، إن الله
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى﴾ [الأنفال: ٦٧] [أي]: ليس له إلا القتل حتى يتمكن في الأرض، ثمّ وبخ الله المؤمنين في أخذ الفدية فقال: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة﴾.
قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله﴾ الآية.
هذا خطاب للمؤمنين والمعني: الذي أصابكم أيها المؤمنون من القتل والجرح يوم أحد فبإذن [الله] [أي]: بقدره وقضائه وقيل: بعلمه. قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ المؤمنين﴾. أي: ليظهروا إيمان المؤمنين من نفاق المنافقين في قلة الصبر، وتحقيق معناها: أنه قد دار عليهم ما
قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾ يعني به عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين رجعوا من خلف رسول الله عليه السلام حين خرج إلى أحد فقال لهم المسلمون حين رأوهم راجعين: تعالى قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثير سوادنا ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ﴾ إنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولكن لا نرى أن يكون بينكم وبين القوم قتال فأظهروا من كلامهم ما ليس يعتثدون، وكان عبد الله بن أبي بن سلول انخذل عن النبي ﷺ لما خرج إلى أحد بنحو ثلث الناس، واتبعهم عبد الله بن عمرو ابن حزام وهو يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم، وقومكم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولك لا نرى أن يكون قتالاً فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، وسيغني الله عنكم، ومضى مع النبي ﷺ.
[ وقال السدي: رجع] عبد الله بن أبي " بن سلول " من وراء النبي ﷺ ومعه
﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي: يعلم ما يكتمون من النفاق، وأن قولهم خلاف ما يسرون.
قوله: ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ﴾ الآية.
أي: وليعلم الله الذين نافقوا، وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين ﴿وَقَعَدُواْ﴾ أي: قالوا ذلك وهم قعود عن الحرب مع النبي عليه السلام ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ (أي): لو تأخروا معنا ما قتلوا هناك، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قل لهم يا محمد: ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ " في قولكم إن إخوانكم لو قعدوا عندكم ما قتلوا " أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت، وهذا أقرب لأن من قدر أن يدفع الموت عن غيره فهو إلى دفعه عن نفسه أقرب.
قال قتادة: نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك فيمن قتل مع النبي ﷺ بأحد من قرابته وأهل معرفته.
قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
معناها: ولا تظنن أن من قتل بأحد من أصحابكم أمواتاً لا يلتذون، ولا يحسون شيئاً بل هم أحياء بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بثوابه وعطائه.
وقيل: إنهم لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغكم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
قال النبي ﷺ لجابر بن عبد الله رضي الله عنهـ وكان قد قتل أبوه عبد الله بأحد: " يا جابر ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله فقال: ما تحب يا عبد الله بن عمر أن أفعل بك؟ فقال: يا رب أحب أن تردني في الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ". ولما أتى جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ النبي ﷺ حزيناً قال له النبي ﷺ: أتحزن على رجل نظر الله إليه كفاحاً؟ ثم عاد فأقعده بين يديه فقال له: سلني ما شئت؟ فقال:
ودفن عبد الله بن جابر يوم أحد مع عمرو بن الجمح بقبر واحد، فروي أنهما أخرجا بعد خمسين سنة، فإذا هما وطاب لم ينثنوا ولم يتغيروا، ويد عبد الله على جرحه في وجهه إذا نزعت يده على وجهه يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت إلى الجرح، فحبست الدم، ووجد عمرو بن الجموح ويده على رأسه إذا نزعت يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت على الجرح. قال ابن مسعود رضي الله عنهـ: " أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة في أيتها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال: بينما هم كذلك اطلع عليهم ربك اطلاعه فقال: سلوني ما شئتم؟ فقالوا: يا ربنا ماذا نسألك " ونحن في الجنة نسرح في أيها شئنا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من [غير] أن يسألوا
وقال قتادة: قال رجل من أصحاب النبي ﷺ: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ﴾ الآية.
قال الضحاك: [كان] المسلمون يسألون الله تعالى يوماً كيوم بدر، فيبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ﴾ الآيات.
قيل معناه: ﴿أَمْوَاتاً﴾ أي: في دينهم بل هم أحياء كما قال: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢].
وروي: أن عبد الله بن عمرو أبا جابر رضي الله عنهـ قال لابنه جابر يوم أحد: يا بني كن مع أخوتك، - وكن تسعاً - فلا ندري ما يكون، فإن رزقت الشهادة كنت أنت معهن وإن سلمت رجوت أن يثيبك الله تعالى ثواب من حضر، واستشهد رحمه الله بأحد،
وقال ابن اسحاق :( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم ) أي : يفرحون بهم إذا لحقوهم( ٣ ) على ما تركوهم عليه من جهاد عدوهم فهم شهداء مثلهم لا خوف عليهم ولا حزن( ٤ ).
وروي( ٥ ) أنهم يقول بعضهم لبعض : تركنا إخواننا فلاناً وفلاناً يقاتلون العدو، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة والأمن ما لنا.
٢ - (أ): ويكونهم..
٣ - (ج): لحقوا بهم..
٤ - انظر: جامع البيان ٤/١٧٥..
٥ - عزاه الطبري لابن جريج في جامع البيان ٤/١٧٤..
وقال ابن اسحاق: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ أي: يفرحون بهم إذا لحقوهم على ما تركوهم عليه من جهاد عدوهم فهم شهداء مثلهم لا خوف عليهم ولا حزن.
وروي أنهم يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلاناً وفلاناً يقاتلون العدو، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة والأمن ما لنا.
قوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ الآية أي: يفرحون لما عاينوه من وفاء الوعد، وعظيم [الثواب] ويستبشرون بأن الله تعالى لا يضيع أجر المؤمنين: أي لا يبطل جزاء أعمالهم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنهـ: " أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت
قوله: ﴿الذين استجابوا للَّهِ والرسول﴾ الآية.
المعنى: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله من بعد ما أصابه الجرح والألم، وعنى بهذا من خرج مع رسول الله ﷺ في طلب أبي سفيان، وأصحابه بعد انصؤافه من أحد وبعدما نال من المسلمين من القتل والجرح. وذلك أن رسول الله ﷺ لما رجع من أحد، وقد قتل من أصحابه سبعون، وجرح خلق كثير، أمر بلالاً أن ينادي في الناس لينفروا في طلب عدوهم، فنفروا معه على ما بهم من ألم الجراح، والحزن على من قتل منهم، وكان أخوان من بني عبد الأشهل مثخنين بالجراح، فقال أحدهما للآخر: تفوتنا غزاة مع رسول الله ﷺ فقال الأخر: والله ما بي حراك! فقال له أخوه: غفر الله لك، توكأ علي، وأتوكأ عليك حتى نبلغ، فخرجا مجروحين.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت أحد في شوال لإحدى وثلاثين شهراً من الهجرة.
فلما كان يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله ﷺ في الناس بطلب العدو فقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر بالأمس فكلمه جلبر بن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال يا رسول الله: إن أبي كان خلفني على أخواتي لي تسع وقال لي: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أترك بالجهاد مع رسول الله ﷺ فتخلف على أخواتك، فتخلفت [معهن] فأذن له رسول الله ﷺ فخرج في طلب المشركين، وفعل النبي ﷺ ذلك ليرهب المشركين، ويبلغهم أنه لم
قال السدي: قال أبو سفيان لأصحابه حين انصرفوا [من أحد]: بئس ما صنعتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله عز ذكره رسوله ﷺ بذلك، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد رأس ثمانية أميال عن المدينة، فالذين خرجوا معه هم الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم الجراح بأحد.
ثم قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ معناه: للذين أحسنوا، فداموا على الطاعة، وأداء الفرائض، واتقوا المحارم حتى لحقوا بالله تعالى ﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
قوله: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ الآية.
المعنى: للذين أحسنوا أجر عظيم القائلين لهم الناس.
وقيل المعنى: وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس.
فالناس الأول قوم سألهم أبو سفيان أن يثبطوا النبي ﷺ وأصحابه، إذ خرجوا في طلبه لما دخله من فزع، [والناس] الثاني أبو سفيان وأصحابه.
وقيل: إن الناس الأول: نعيم بن مسعود، بعثه أبو سفيان، وأصحابه [أن يثبط النبي عليه السلام وأصحابه، ويخوفهم من المشركين ووعده بعشرة من الإبل إن هو ثبط النبي ﷺ وخوفهم. والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه].
﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ أي: فرجعوا سالمين مما خوفوا به، وهرب منهم عدوهم وأمِنُوا.
وقيل: إنهم اشتروا أدَماً وزبيباً، فربحوا فيه، وأقاموا ثلاثاً بحمراء الأسد " وهي
وقال السدي: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه عن أحد ندموا إذ لم يستأصلوا أصحاب النبي ﷺ ويقتلوهم، وأداروا الرأي في الرجوع، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، فهزموا فلقوا أعرابياً، وجعلوا له جعلاً، وقالوا له: إذا لقيت محمداً وأًحابه، فأخبرهم أنا قد جمهنا لهم، فأخبر الله تعالى نبيه ﷺ بذلك، فخرج في طبلهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا أعرابياً هنالك فأخبرهم ما قال له أبو سفيان من الكذب والتخويف، فقالوا: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾، أي: كافينا الله ونعم الكافي.
قال ابن عباس رضي الله عنهـ: كان آخر قول إبراهيم ﷺ حين ألقي في النار: [حسبي الله ونعم الوكيل] " فالناس الأول هو الأعرابي، والثاني أبو سفيان وأصحابه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وافى [أبو سـ]ـفيان عيراً واردة المدينة
فالناس الأول [أهل] العير، والثاني أبو سفيان وأصحابه.
وقال مجاهد: كان النبي ﷺ قد واعد أبا سفيان، وأصحابه من عام قابل من عام أحد: اللقاء بدر الصغرى، قال أبو سفيان: موعدكم ببدر حيث قتلتم أصحابنا.
فانطلق رسول الله ﷺ بموعده حتى أتوا بدراً الصغرى فوافقوا السوق فيها، ولم يأت المشركون فابتاعوا مما كان في السوق فذلك قوله: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله﴾ يعني الأجر ﴿وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ [سواء]﴾ وهي غزوة بدر الصغرى.
قوله: ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ الآية.
[يقال] خوفت الرجل إذا صيرته خائفاً، وخوفته أيضاً إذا صيرته بحال يخافه الناس. فالمعنى: يخوفوكموهم ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾. وقيل المعنى: إنما خوفتم به من عند الشيطان يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه أبو سفيان وأصحابه.
والمفعول الأول محذوف، والياء محذوفة كما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به | فقد تركتك ذا مال وذا نشب |
﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً﴾ [الكهف: ٢] أي: لينذركم [ببأس] ومن بأس ثم حذف المفعول الأول وحذف حرف الجر.
وقال أبو إسحاق: أولياؤه: الرهط الذين أتوا بالرسالة والتخويف من عند أبي سفيان. وقال السدي: إنما ذلكم أيها المؤمنون الشيطان يعظمكم أولياءه في أنفسكم فتخافوهم ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: مصدقين حقاً.
قوله ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
المعنى: ولا يحزنك يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر وهذا خطاب للنبي ﷺ ولأصحابه ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ كما أن مسارعتهم إلى الإيمان لو سارعوا لم تكن نافعة لله تعالى، قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا ثم ارتدوا، فاغتم النبي ﷺ وأصحابه لذلك فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
قوله: ﴿إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾. هذا أيضاً في المنافقين الذين ذكرهم لما استبدلوا الكفر بعد الإيمان صاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، ثم كرر نفي الضرر عن نفسه تعالى [بكفرهم للتأكيد] تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
من قرأ بالياء الذين هم الفاعلون و ﴿أَنَّمَا﴾ في موضع المفعولين وما مع نملي مصدر ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي، والهاء محذوفة من ﴿أَنَّمَا﴾، والمعنى: ولا يحسبن يا محمد الكافرون الإملاء خيراً لهم، فلما دخلت إن قامت مقام المفعولين فارتفع خير على خبر أن.
ومن قرأ بالتاء، فقد زعم أبو حاتم أنه لحن، وتابعه على ذلك غيره " لأن الذين كفروا " يكونون في موضع نصب، والمخاطب هو الفاعل وهو محمد ﷺ فلا
وقد قرأ يحيى بن وثاب بكسر إن والياء كأنه ليبطل عمل حسب مع أن كما أبطلها مع اللام وهو قبيح.
وتأويل قول النحاس فيها يدل على أن يحيى قرأه بالتاء وكسر إن وذلك قبيح
قال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر كسر: إن " يحتج به لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعلهم على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولا تحسبن الذين [كفروا] أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي خيراً لأنفسهم. قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفاً فصار: إن ما نملي لهم ليزدادوا إيماناً، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن، فحكه. ومعنى: نملي لهم نؤخر لهم في الأجل.
قال ابن مسعود رضي الله عنهـ: الموت خير للكافر، ثم تلا ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾، وقال الموت خير للمؤمن ثم تلا: ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٨].
وقيل: إن الآية مخصوصة أريد بها قوم بأعيانهم علم الله تعالى منهم أنهم لا يسلمون أبداً، وليست في كل كافر إذ قد يكون الإملاء له مما يدخله في الإيمان، فيكون
قوله ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآية.
معناها: إن الله تعالى ذكره أخبرهم أنه لم يكن ليدع المؤمن ملتبساً بالمنافق وما يعرف بعضهم بعضاً ولكن ميزهم يوم أحد فعرف نفاق من رجع، وإيمان من ثبت فالخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل المعنى: يميز المؤمن [من] الكافر. وقيل: يميزهم بالهجرة فيعلم المؤمن من الكافر.
قال السدي: قالوا إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن [منا] ممَن يكفر به.
وقيل المعنى: حتى يميزهم بالفرائض [ولا] يدعهم على الإقرار فقط.
ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ أي: وما كان الله ليطلع المؤمنين على الغيب فيما يريد أن يبتليكم به فتحذروا منه ﴿وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فيطلعه على ذلك. وقيل:
ومعنى يجتبي: يستخلص ويختار. وقيل المعنى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ﴾ من يصير كافراً بعد إيمانه، ومن يثبت على إيمانه، ولكن الله يطلع على ذلك من رسله من يشاء. وقيل: إنهم قالوا ما بالنا نحن لا نكون أنبياء؟ أي: المنافقين، فأنزل الله ذلك.
قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ الآية.
من قرأ بالياء فالذين فاعلون، والمفعول الأول محذوف دل عليه يبخلون و " خبراً " مفعول ثان، والتقدير ولا يحسبن الباخلون [البخل] هو خير لهم، وهو فاصلة عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، ودل يبخلون على البخل، لأنه منه أخذ.
[ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي ﷺ والمعنى: ولا تحسبن يا محمد بخل الباخلين عن الإنفاق في سبيل الله خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة].
وقيل: عنى بذلك الزكاة وهو إخبار عمن لم يؤد الزكاة: وقيل: إخبار عن اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما نزل عليهم من التوراة من أمر النبي ﷺ قاله ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهـ.
﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ أي: سيجعل ما بخل به المانعون الزكاة طوقاً من نار في أعناقهم يوم القيامة أي: كهيأة الطير، قال رسول الله ﷺ: " ما من ذي رحم يأتي [ذا] رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه، فيبخل عليه إلا أُخرج [له] يوم
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول له: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ﴾ ".
وقيل: يجعل الذي بخلوا به طوقاً من نار في أعناقهم.
وقال مجاهد: ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ سيكلفون أن يأتوا يوم القيامة بمثل الذي بخلوا به.
وقيل: المعنى سيطوقون جزاء ما بخلوا به وعقاب ما بخلوا به.
والتطوق: إلزام الله تعالى لهم ذلك، ومنعهم من التخلص منه. وقيل: المعنى سيكلفون يوم القيامة إحضار الأموال التي بخلوا بها، وهم لذلك غير مستطيعين، قال ابن مجاهد وغيره. وقيل: المعنى: سيطوق اليهود ثم الذين بخلوا [به]، هو صفة محمد ﷺ، والنبوة فيه كتموا ذلك، وهو عندهم في كتابهم.
قوله ﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ أعلم الله الخلق في هذه الآية أنهم سيفنون كلهم، فصار ما بقي بعدهم بمنزلة الميراث الذي يبقى بعد الميت فسماه ميراثاً على ذلك، وإلا فكل شيء له، أولاً وآخراً، ولكن سماه هنا ميراثاً إعلاماً منه أنهم سيفنون، وأن
قوله: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله﴾ الآية.
" نزلت هذه الآية في بعض اليهود، قالوا لأبي بكر وقد عرض عليهم الإيمان وقال لهم: قد علمتم أن محمداً ﷺ مكتوب عندكم في التوراة، فآمنوا به؟ فقالوا: ما بنا إلى الله من فقر، وإنه لفقير إلينا وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً ما استقرض من أموالنا، فغضب أبو بكر رضي الله عنهـ وضرب وجه رئيس لهم ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب المضروب إلى النبي ﷺ وشكا إليه بأبي بكر فخاطب النبي ﷺ أبا بكر وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، قال: قولاً شديداً، زعم عدو الله كيت كيت، وحكى ما سمع، فجحد اليهودي ذلك وقال: ما قلت من ذلك شيئاً، فأنزل الله تعالى تصديقاً لقول أبي بكر وتكذيباً لهم وإنكاراً لكفرهم ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ﴾ الآية. وقال لأبي بكر [حين] اشتد غضبه مما سمع، وللمؤمنين: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ الآية ".
وقال الحسن لما نزلت ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥، الحديد: ١١] الآية قالت اليهود: إن ربكم
قوله: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ أي: سنكتب قولهم، فنجازيهم عليه ونكتب قتلهم الأنبياء، فالقول كان ممن هو على عهد النبي ﷺ، والقتل كان لآبائهم، وقد مضى مثله في سورة البقرة، وإنما أضيف إليهم لأنهم راضون بما فعل آباؤهم فكأنهم فعلوا ذلك [فأضيف إليهم] لرضاهم به واتباعهم لما كان عليه سلفهم الذين قتلوا الأنبياء مثل زكرياء ويحيى وغيرهم.
قوله: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي: نقول لمن قال ذلك ورضي بقتل الأنبياء: ذق
عذاب النار المحرقة أي: الملهية ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي: ذلك العذاب بذنوبكم المتقدمة وبأن الله عدل لا يظلم عبيده.
قوله: ﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ الآية.
المعنى: لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء الذين قالوا
روي أن بني إسرائيل كانوا يذبحون لله إذا أرادوا أن يفعلوا شيئاً، ثم يأخذون الثوب، وأطايب اللحم فيضعه على موضع لهم في بيت كبير والسقف في ذلك الموضع مكشوف ثم يقوم النبي - ﷺ - بين ذلك الموضع يناجي ربه، وبنو إسرائيل دارجون حول البيت فلا يزال كذلك حتى تنزل نار فتأخذ ذلك الثوب، واللحم فهو القربان فيخر النبي ﷺ ساجداً ثم يوحى إليه بأمر قومه يفعلوا ما سألوا.
قوله: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية.
هذه تعزية للنبي ﷺ أنه إن كذبه من أرسل إليه فقد كذب رسل من قبله جاؤوا إلى أممِهِم بالآيات والزبر - وهو جمع زبور وهو الكتاب وكل كتاب زبور
قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾.
المعنى أن الآية: تهديد ووعيد لهؤلاء المفترين.
قوله ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ أي: نجا ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ أي: نجا وظفر ﴿وَما الحياة الدنيا﴾ أي: لذتها وشهوتها إلا متعة متعتكموها، و ﴿الغرور﴾: الخداع المضمحل.
وقال ابن سابط: الدنيا كزاد الراعي تزوده الكف من التمر أو شيء من الدقيق.
والغرور مصدر: غره، فإن فتحت العين فهو صفة الشيطان، لأنه يغر ابن آدم حتى يوقعه في المعصية.
روى أبو هريرة رضي الله عنهـ عن النبي ﷺ أنه قال: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " واقرؤوا إن شئتم ﴿وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾.
قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية. المعنى: لتختبرن بالمصائب في أموالكم،
وقيل: إنها نزلت في كعب بن الأشرف كان يهجو النبي ﷺ، ويشبب بنساء المسلمين، ذكر ذلك الزهري.
﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ على أذاهم ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ الله ﴿فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾. وقيل: المعنى أنه أخبرهم بأنه قد فرض عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم، وفرض عليهم الزكاة فذلك ابتداؤه إياهم.
قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ الآية.
من قرأه بالياء رده على ما قبله من اللفظ وهو قوله: ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ ورده أيضاً على ما بعده وهو قوله: فنبذوه وراء دبورهم واشتروا فالذي قبله والذي بعده يدل على الخبر عن غائب فكانت الياء أولى به.
وقيل: عنى بها كل من اوتي علماً بأمر الدين.
قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئاً، فليعلمه، وإياكم كتمان العلم فإن كتمانه هلكة.
قوله: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ الآية.
من قرأ بالتاء جعله خطاباً للنبي ﷺ و ﴿الذين﴾ مفعول أول ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ مكرر للتأكيد و ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ المفعول الثاني لحسب الأول، وحسب الثاني مع المصدر للتأكيد، ولطول القصة. وقيل: إنه ليس بتأكيد وأن ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ مفعول حسب الثاني محذوف لعلم السامع كما تقول في الكلام ظننت زيداً ذاهباً وظننت عمراً، يريد ذاهباً، ثم تحذف لدلالة الأول عليه كما قال: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] فحذف لدلالة الكلام على المحذوف.
ومن قرأ بالياء فقوله ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ للتأكيد، والهاء والميم مفعول أول. و ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ الثاني كأنه قال: لا يحسبن الكافرون أنفسهم بمنجاة من العذاب.
وقال مروان لأبي سعيد الخدري رضي الله عنهـ وقرأ هذه الآية: يا أبا سعيد إنا لنحب أن نحمد بما لم نفعل، ونفرح بما آتينا. فقال أبو سعيد: إن ذلك ليس كذلك، إنما ذلك أن أناساً من المنافقين كانوا يتخلفون عن النبي ﷺ، فإذا رجع على ما يحب حلفوا له ألا يتخلفوا عنه بعد ذلك، وأحبوا أن يحمدوا على هذا، وإن رجع النبي ﷺ على ما
فقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون يقولون للنبي ﷺ: لو خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج تخلفوا ورأوا أنهم قد احتالوا حيلة، وفرحوا بفعلهم ذلك.
وقال ابن جبير: نزلت في أحبار اليهود يفرحون بما جاءهم من الدنيا من الرشا على إضلال الناس، ويحبون أن يقول لهم الناس عُلماء، وليسوا بعلماء.
وقال الضحاك: نزلت في قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على الكفر بمحمد ﷺ وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام، فأحبوا أن يحمدوا بذلك وليسوا بأهل له.
وقال السدي: كتموا محمد ﷺ ففرحوا بذلك وقالوا: نحن على دين إبراهيم، ونحن أهل الصلاة والزكاة، وهم ليسوا كذلك، فأحبوا أن يزكوا أنفسهم بما لم يفعلوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ أيضاً: أنها نزلت في قوم من اليهود سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره ففرحوا بكتمانهم، وطلبوا المحمدة على ما أخبروه به من الكذب فقال ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ وقال قتادة: نزلت في يهود، حين أتوا النبي ﷺ فزعموا أنهم متبعوه وأخفوا الضلالة، ففعلوا ذلك ليحمدهم الله على إيمانهم بمحمد ﷺ، ويحمدهم النبي ﷺ على ذلك فأنزل الله الآية.
قوله: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾.
هذا تكذيب للذين قالوا ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ فأعلمهم الله أن له ما في السموات والأرض، فكيف يكون فقيراً؟ وله كل شيء.
قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ الآية.
معنى الآية: أنها تنبيه لخلق أولي العقول على قدرة الله تعالى، وإحكامه لما خلق من السماوات والأرض، وما دبر فيهما من المعايش واختلاف الليل والنهار، وأن ذلك علامات ظاهرات لأولي العقول، فكيف ينسب إلى من كان بهذه الصفة فقر أو نقص، ثم مدح أولي العقول ووصفهم فقال:
المعنى: قياماً في صلاتهم، وقعوداً في تشهدهم وغيره، وعلى جنوبهم مضطجعين.
وقال ابن جريج: هو ذكر الله تعالى في الصلاة وغيرها وقراءة القرآن. قال ابن مسعود رضي الله عنهـ في معنى الآية: من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو مضطجعاً.
وقيل: المعنى: أنهم كانوا يذكرون الله على كل حال.
وفي حكاية ابن عباس رضي الله عنهـ: " إذ بات عند رسول الله ﷺ: فاستوى عليه السلام قاعداً - يريد من نومه - ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات، ثم قرأ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار﴾ حتى ختم السورة ".
قوله: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ أي: يقولون ربنا ما خلقت هذا من أجل الباطل أي عبثاً، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ أي: في عظمة الله ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي: تنزيهاً لك من السوء أن تكون خلقت هذا باطلاً، والتفكر في عظمة الله تعالى من أعظم العبادة.
المعنى : قياماً في صلاتهم، وقعوداً في تشهدهم وغيره، وعلى جنوبهم مضطجعين.
وقال ابن جريج : هو ذكر الله تعالى في الصلاة وغيرها وقراءة القرآن( ١ ). قال ابن مسعود رضي الله عنه في معنى الآية : من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو مضطجعاً( ٢ ).
وقيل : المعنى( ٣ ) : أنهم كانوا يذكرون الله على كل حال.
وفي حكاية ابن عباس رضي الله عنه : إذ( ٤ ) بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاستوى عليه السلام قاعداً –يريد من نومه- ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات، ثم قرأ ( اِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) حتى ختم السورة( ٥ ).
قوله :( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ) أي : يقولون ربنا ما خلقت هذا من أجل الباطل أي عبثاً، ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ ) أي : في عظمة الله ( سُبْحَانَكَ ) أي : تنزيهاً لك من السوء أن تكون خلقت هذا باطلاً، والتفكر في عظمة الله عز وجل من أعظم العبادة.
وقال أبو الدرداء( ٦ ) رضي الله عنه : تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وقيل لأم الدرداء( ٧ ) : ما كان أفضل عمل أبي الدرداء ؟ قالت : التفكر( ٨ ). وقال كعب : من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكر يكن عالماً.
٢ - انظر: الدر المنثور ٢/٤٠٨..
٣ - انظر: هذا التوجيه في معاني الزجاج ١/٤٩٨..
٤ - (أ) (ج): إذا..
٥ - أخرجه البخاري في كتاب التفسير ٥/١٧٥..
٦ - هو أبو الدرداء عويمر بن مالك بن قيس الأنصاري الخزرجي توفي ٣٢ هـ صحابي من الحكماء، والفرسان والقضاة والقراء. انظر: صفة الصفوة ١/٦١٨ وأسد الغابة ٤/١٨ والإصابة ٣/٧٦..
٧ - هي أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت حي الوصابيةالحميرية توفيت ٨١ هـ تابعية كانت فقيهة ومحدثة كبيرة القدر. انظر: أسد الغابة ٦/٢٧٥ والتهذيب ١٢/٤٦٥..
٨ - انظر: الدر المنثور ٢/٤٠٩..
وقيل لأم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. وقال كعب: من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكر يكن عالماً.
قوله: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ الآية.
أي: يقولون: ربنا إنك من تدخل النار فقد أبعدته من رحمتك، وهذا الكافر، ولا يخلو مؤمن فيخزى، وقال أبو الدرداء رضي الله عنهـ: المؤمنون هم العجاجون بالليل والنهار والله ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجيب لهم.
وقيل: عنى بذلك كل من يدخل النار من مخلدين وغير مخلدين لأن كل من عذب بالنار فقد أخزي.
والخزي: هتك ستر المخزي وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه. يقال: أخزيته أذللته، وأشد الخزي أشد الذلة وأبلغها.
المعنى: يقولون ربنا إننا سمعنا، والمنادي القرآن.
وقال محمد بن كعب: هو القرآن وليس كلهم لقي نبي الله ﷺ، وليس كلهم بلغ إليه القرآن.
وقال ابن جريج: المنادي سيدنا محمد ﷺ، فالمعنى سمعنا نداء مناد، المنادي غير مسموع وإنما المسموع نداؤه.
وقال قتادة: سمعوا دعوة الله تعالى فأجابوها.
قوله ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ أي: في عددهم، وفي زمرتهم وقيل: المعنى وتوفنا أبراراً مع الأبرار، والأبرار جمع بر وهو فعل ككتف أكتاف، وهم الذين بروا الله بطاعتهم إياه وخدمتهم له رضي الله عنهم. وقيل واحدهم بربار على فاعل كصاحب وأصحاب.
قوله ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ الآية.
﴿وَلاَ تُخْزِنَا﴾ أي: لا تذلنا ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ أي: أنك قد وعدت من آمن بك ووحدك: الجنة في الآخرة والنصر في الدنيا على أعدائك.
قوله: ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الآية.
المعنى: فأجابهم ربهم ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ﴾ عمل خيراً، روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى ﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ أي ذكراً كان أو أنثى.
ومعنى: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ أن بعضكم في النصر والمذلة والجزاء من بعض أي حكم الجميع الذكر والأنثى سواء ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي لأمحونها عنهم ولأسترنها عليه ﴿ثَوَاباً﴾ مصدر لأنه كما قال ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِي﴾ كان بمعنى لأثيبنهم ثواباً.
قوله: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية. المعنى: لا يغرنك يا محمد تصرف الذين كفروا في البلاد أي: بالتجارات، والأموال بغير عذاب فالخطاب للنبي ﷺ، والمراد به أمته ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي: كسبهم وربحهم متاع قليل أي متعة يتمتعون بها
قوله: ﴿لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي﴾ الآية.
لكن الذين اتقوا الله، فعملوا بطاعته لهم جنات أي: بساتين ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾، و ﴿نُزُلاً﴾ منصوب على التفسير. وقيل: هو في موضع إنزال، لأن الكلام يدل على أنزلتموها ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ أي: ما عنده من كرتمة والرضوان خير للأبرار.
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن بالله﴾ الآية.
﴿خاشعين﴾ نصب على الحال من المضمر في ﴿يُؤْمِنُ﴾ عند البصريين والفراء ومن ﴿مِنْ﴾ عند الكسائي. وقال نصير: هو حال من المضمر في إليكم أو في إليهم، وهذه الآية نزلت في الأربعين رجلاً من أهل نجران منهم: اثنان وثلاثون من بني الحارث من الحبشة، وثمانية من الروم على دين عيسى ﷺ آمنوا بالنبي عليه السلام، وقيل: نزلت في النجاشي.
قال قتادة: " قال لهم النبي ﷺ إن أخاكم النجاسي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم قال فنزلت ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾ قال: وقالوا فإنه كان يصلي إلى القبلة، فأنزل الله ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ الآية ".
وأصحمة بالعربية: عطية.
وقيل عنى بالآية عبد الله بن سلام ومن آمن معه قاله ابن جريج.
قال مجاهد وغيره: عنى بذلك من آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وهو مثل القول الأول، والآية تدل على هذا لأنها عامة اللفظ في أهل الكتاب.
أي: لا يحرفون أمر محمد ﷺ فيقبلون على تحريفه وإنكاره - الرشا فهم يؤمنون بالله، وما أنزل إليكم وهو القرآن، وما أنزل إليهم وهو التوراة والإنجيل ﴿خاشعين للَّهِ﴾ أي: متذللين خائفين، و ﴿لاَ يَشْتَرُونَ﴾: في موضع الحال أيضاً لأن غير مشترين بآيات الله ثمناً قليلاً ﴿أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي عوض أعمالهم ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فهو يحتاج إلى حساب ذلك وإحصائه لئلا يبقى منه شيء.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ﴾ الآية.
﴿اصبروا﴾ على دينكم ﴿وَصَابِرُواْ﴾ عدوكم ﴿وَرَابِطُواْ﴾ في سبيل الله.
وقيل: المعنى وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا على أعدائكم حتى يرجعوا إلى دينكم، ويتركوا دينهم.
وقيل المعنى: ورابطوا على الصلوات: أي: انتظروها واحدة بعد واحدة، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمن رسول الله ﷺ غزو يرابط فيه، قال: ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة.