ﰡ
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد: (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الم (١) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله:"ألم" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢) وكذلك البيان عن قوله:"الله". (٣)
* * *
وأما معنى قوله:"لا اله إلا هو"، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه = (٤) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه =
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٠٥-٢٢٤.
(٣) انظر ما سلف ١: ١٢٢-١٢٦.
(٤) سياق العبارة:
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي"الألوهية" أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله ﷺ من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، (٧) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على
(٢) السياق"ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن...".
(٣) الإلاهة: عبادة إله، كما سلف في تفسيره ١: ١٢٤.
(٤) في المطبوعة: "ومتخذته دون مالكه... "، وهو لا يستقيم، وقد أشكل عليه قوله قبل"التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته"، فظن هذا معطوفا عليه، وهو خطأ مفسد للسياق، بل هو معطوف على قوله: "مقيما على عبادة وثن".
(٥) سياق الجملة: "ومعرفًا من كان من خلقه... مقيما على عبادة وثن... أنه مقيم على ضلالة... ".
(٦) في المطبوعة: "ومنعزل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي فيها غير منقوطة، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق: مال عنه وانحرف. يقال: عدل عن الشيء: حاد، وعدل عن الطريق: جار ومال واعوج سبيله.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "نيفًا وثلاثين آية"، وهو خطأ صرف، فالتنزيل بين عدده، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا"... إلى بضع وثمانين آية".
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله ﷺ بينه وبينهم. (١)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:-
٦٥٤٣ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله ﷺ وفد نجران: (٢) ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم:"العاقب" أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ"عبد المسيح" = و"السيد" ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه"الأيهم" = (٣) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (٤) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (٥)
(٢) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(٣) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(٤) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم، ويعني بقوله: "صاحب مدراسهم"، عالمهم الذي درس الكتب، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم.
(٥) في المطبوعة: "في دينه"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في السيرة ٢: ٢٢٢-٢٢٣، كما سيأتي في التخريج.
= قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم:"العاقب"، وهو"عبد المسيح"، والسيد، وهو"الأيهم"، و"أبو حارثة بن علقمة" أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وُنبيه، وخويلد، وعمرو، (٣) وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله ﷺ منهم:"أبو حارثة بن علقمة"، و"العاقب"، عبد المسيح، و"الأيهم" السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، (٤) مع اختلاف من أمرهم. يقولون:"هو الله"، ويقولون:"هو ولد الله"، ويقولون:"هو ثالث ثلاثة"، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم:"هو الله"، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. (٥)
(٢) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر، وهو من جياد الثياب.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وخويلد بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه من ابن هشام.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو من النصرانية"، والصواب من ابن هشام.
(٥) في ابن هشام: "ولنجعله آية للناس"، كنص الآية.
ويحتجون في قولهم:"إنه ثالث ثلاثة"، بقول الله عز وجل:"فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا". فيقولون:"لو كان واحدًا ما قال: إلا"فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت"، ولكنه هو وعيسى ومريم".
ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه ﷺ فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ"سورة آل عمران" إلى بضع وثمانين آية منها. فقال:"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، (٢) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، (٣) وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه = رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، (٤) وجعلوا معه من الأنداد = واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال:"اللهُ لا إله إلا هو"، أي: ليس معه شريك في أمره. (٥)
(٢) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر"ألم"، وأثبتها من ابن هشام.
(٣) في المطبوعة: "بتبرئة نفسه"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي ابن هشام: "بتنزيه نفسه".
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "وردًا عليه" بواو العطف، وهو خطأ، والصواب من ابن هشام.
(٥) الأثر: ٦٥٤٣ - في ابن هشام: "ليس معه غيره شريك في أمره". والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٢-٢٢٥.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة:
"أخبر عباده أن الألوهية خاصة به | احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم". |
قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار (الْحَيُّ الْقَيُّوم).
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: (الْحَيُّ الْقَيِّمُ).
٦٥٤٥ - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ:"الحيّ القيِّم".
قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
٦٥٤٦ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:-
٦٥٤٧ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ:"الحيّ القيَّام".
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، (١) وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، "الحي القيُّومُ".
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٤٨ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحي"، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله ﷺ من نصارى أهل نجران. (٢)
٦٥٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي"، قال: يقول: حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحي"، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة = كما وصفها
(٢) الأثر: ٦٥٤٨- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٥، وهو من بقية الأثر السالف: ٦٥٤٣.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: (١) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت = وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:-
٦٥٥٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الحي القيوم"، قال: القائم على كل شيء.
٦٥٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: القيام على مكانه". ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"القيوم"، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي ﷺ من أهل نجران في عيسى = عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته = من قول العرب:"فلان قائم بأمر هذه البلدة"، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.
* * *
وأما"القيَّام"، فإن أصله"القيوام"، وهو"الفيعال" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة من"قيوام""ياء" ساكنة، فجعلتا جميعًا"ياء" مشدّدة.
ولو أن"القيوم""فَعُّول"، كان"القوُّوم"، ولكنه"الفيعول". وكذلك"القيّام"، لو كان"الفعَّال"، لكان"القوَّام"، كما قيل:"الصوّام والقوّام"، وكما قال جل ثناؤه: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة: ٨]، ولكنه"الفيعال"، فقيل:"القيام".
* * *
وأما"القيِّم"، فهو"الفيعل" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة"ياء" ساكنة، فجعلتا"ياء" مشددة، كما قيل:"فلان سيدُ قومه" من"ساد يسود"، و"هذا طعام جيد" من"جاد يجود"، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان"القيوم" و"القيّام" و"القيم" أبلغ في المدح من"القائم"، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله،"القيام"، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من"الياء""الواو"، فيقولون للرجل الصوّاغ:
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب = يعني بـ"الكتاب"، القرآن ="بالحق" يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم ="مُصَدّقًا لما بين يديه"، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (٢) لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٥٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
(٢) في المخطوطة"ومخفو ما جاءت به رسل الله"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
٦٥٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه"، لما قبله من كتاب أو رسول.
٦٥٥٦ - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"نزل عليك الكتاب بالحق"، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (١)
٦٥٥٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: القرآن، ="مصدّقًا لما بين يديه" من الكتب التي قد خلت قبله.
٦٥٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأنزل التوراة"، على موسى ="والإنجيل" على عيسى ="من قبل"، يقول: من قبل الكتاب الذي نزله عليك = ويعني بقوله:"هُدًى للناس"، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه
٦٥٥٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"، هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه.
٦٥٦٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل التوراة والإنجيل"، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ"الفرْقان"، إنما هو"الفعلان" من قولهم:"فرق الله
(٢) الأثر: ٦٥٦٠ - هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها رقم: ٦٥٥٦، وفي المطبوعة"على من كان قبلهما"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى = وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال: معناه:"الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب":
٦٥٦١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل الفرقان"، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (٣)
* * *
ذكر من قال: معنى ذلك:"الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام":
٦٥٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل الفرقان"، هو القرآن، أنزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
٦٥٦٣ - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وأنزل الفرقان"، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل.
* * *
(٢) انظر ما سلف ١: ٩٨، ٩٩ / ثم ٣: ٤٤٨. وفي المطبوعة"بالأيدي" بالياء في آخره، وهو خطأ. والأيد: الشدة والقوة.
(٣) الأثر: ٦٥٦١ - هو بقية الآثار التي آخرها: ٦٥٦٠.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله:"نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه". ولا شك أن ذلك"الكتاب"، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و"الذين كفروا"، هم الذين جحدوا آيات الله = و"آيات الله"، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (١)
* * *
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٦٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. (٣)
٦٥٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"،
.........................................................................
............................................................................ (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة... "، وقوله: "عن" زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(٣) الأثر: ٦٥٦٤- هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٥٦١.
(٤) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم: ٦٥٦٥، والأخبار بعده، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:-
٦٥٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء"، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (٢) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في
(٢) في المطبوعة: "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.
٦٥٦٧ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: (١) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟ (٢)
٦٥٦٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما:-
٦٥٦٩ - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟
(٢) الأثر: ٦٥٦٧ - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٥٦٦ عن ابن إسحاق.
٦٥٧٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (٢) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال:"هو العزيز" الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (٣) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (٤) ثم أعلمهم أنه"الحكيم"
(٢) قوله: "ولجميع من ادعى... " معطوف على قوله: "وتكذيب للذين قالوا..".
(٣) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة، على وزن سمع) : هو الموئل، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم) : هو الملجأ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(٤) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.
٦٥٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل -: إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (٢) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (٣)
٦٥٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك الكتاب = يعني ب"الكتاب"، القرآن.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "في نصرته" وهو خطأ في المعنى، فإن"النصرة"، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو: الانتقام. وانتصر منه: انتقم.
(٣) في ابن هشام: "في حجته وعذره إلى عباده"، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا: بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.
* * *
وأما قوله:"منه آيات محكمات" فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب"الآيات" آيات القرآن.
وأما"المحكمات"، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك.
* * *
ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء"الآيات المحكمات"، بأنهن:"هُنّ أمّ الكتاب" (٢). يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
* * *
وإنما سماهن"أمّ الكتاب"، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء"أمًّا" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر:"أمّهم"، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة:"أمها".
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
ووحَّد"أمّ الكتاب"، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال:"هُنّ" = لأنه أراد جميع الآيات المحكمات"أم الكتاب"، لا أن كل آية منهن"أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن"أم الكتاب"،
(٢) في المخطوطة"بأنهن من الكتاب" وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) انظر ما سلف ١: ١٠٧، ١٠٨.
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل:"هن أم الكتاب"، ولم يَقل:"هن أمهات الكتاب" على وجه الحكاية، كما يقول الرجل:"ما لي أنصار"، فتقول:"أنا أنصارك" = أو:"ما لي نظير"، فتقول:"نحن نظيرك". (٣) قال: وهو شبيهُ:"دَعنى من تَمرْتَان"، وأنشد لرجل من فقعس: (٤)
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (٥)
(٢) في المطبوعة: "ولو كان مراده الخبر... " والصواب الجيد من المخطوطة.
(٣) ربما كان الصواب: "ما لي نصير"، فتقول: "نحن نصيرك"، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه.
(٤) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال: "منظور بن فروة بن مرثد"، وهو نفسه"منظور بن حبة الفقعسي الأسدي"، و"حبة" أمه، ويعرف بها.
(٥) مجالس ثعلب: ٦٠٢ (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية: ٢٤٨ - ٢٥١، وسر صناعة الإعراب ١: ١٧٧- ١٧٩ / ثم ٢٣٥، واللسان (طول) (قتل)، وغيرها. ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب"بمجاز حل"، والأخير"عن قتللى"، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته."والطول" (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، وإنما شدد الراجز. لم تأل: لم تقصر. والضمير في هذا الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات: مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ لَيْلَى؟ مَنْ لِي؟... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ؟
وقال: قال بعضهم: إنما هي:"أنْ قتلا لي"، ولكنه جعله"عينًا"، (٢) لأن"أن" في لغته تجعل موضعها"عن"، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت:"ضربًا لزيد".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، (٣) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، (٤) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن = وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله:"أمّ الكتاب"، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (٥)
* * *
وأما قوله:"وأخَرُ" فإنها جمع"أخْرَى". (٦)
* * *
وقوله"بمكان حل" ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين"مكان" و"مجاز"، وكسر الحاء من"حل". ولا أظنه صوابًا، فلم أجدهم يقولون: "مكان حل" بكسر الحاء، وإنما هو بفتحها بالإضافة، لا بالنعت: ": حل بالمكان حلولا وحلا". أي: نزل به.
وقوله: "على الحكاية" في سياق قوله: "وأنشد لرجل من فقعس... ".
(٢) في المطبوعة: "جعله عن"، ولا خير في هذا التغيير، والذي في المخطوطة عين الصواب.
(٣) في المطبوعة: "استشهد بها"، والذي في المخطوطة صواب عريق في العربية.
(٤) في المطبوعة: "حكايات حالهن"، وهو كلام لا مفهوم له. وفي المخطوطة"حالسهن" ولم يضع شرطة الكاف، فلذلك اشتبهت على الناسخ.
(٥) في المخطوطة: "أخرج ذلك محلر الحكاية"، وكأن الصواب المحض ما في المطبوعة، وهذا تحريف من عجلة الناسخ، أراد أن يكتب"مخرج"، فزاد القلم لامًا، ثم راجع راء، ثم أسقط الجيم.
(٦) انظر ما سلف ٣: ٤٥٩. وفي المطبوعة: "جمع آخر"، وفي المخطوطة، بغير مدة على الألف، ورجحت أن تكون"أخرى"، لما مضى من قوله في ذلك ولما سيأتي بعد قليل، ولأنه القياس.
فقال بعضهم: لم يصرف"أخر" من أجل أنها نعتٌ، واحدتها"أخرى"، كما لم تصرف"جُمَع" و"كُتَع"، لأنهن نعوتٌ.
* * *
وقال آخرون: إنما لم تصرف"الأخر"، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف"أخرى"، كما ترك صرف"حمراء" و"بيضاء"، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (١) ثم افترق جمع"حمراء" و"أخرى"، فبنى جمع"أخرى" على واحدته فقيل:"فُعَلٌ" و"أخر"، (٢) فترك صرفها كما ترك صرف"أخرى" = وبنى جمع"حمراء" و"بيضاء" على خلاف واحدته فصرف، فقيل:"حمر" و"بيض"، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.
* * *
وأما قوله:"متشابهات"، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [سورة البقرة: ٢٥]، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم (٣) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [سورة البقرة: ٧٠]، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. (٤)
* * *
(٢) المرجح عندي أن قوله: "فعل" زيادة من الناسخ.
(٣) انظر ما سلف ١: ٣٨٥-٣٩٤.
(٤) انظر ما سلف ٢: ٢٠٩-٢١١.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات"، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم:"المحكمات" من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ ="والمتشابهات" من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٧٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"منه آيات محكمات"، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام: ١٥١، ١٥٢]، إلى ثلاث آيات، (١) والتي في"بني إسرائيل": (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: ٢٣ - ٣٩]، إلى آخر الآيات. (٢)
(٢) الأثر: ٦٥٧٣- هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أخشى أن يكون سقط من إسناده"عن أبي إسحاق"، بعد"قال أخبرنا العوام". و"العوام" هو العوام بن حوشب، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في الإسناد"عمن حدثه" فإن ذلك كذلك، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي، هو"عبد الله بن قيس"، مذكور بروايته هذا الأثر، وراويه عنه هو أبو إسحاق السبيعي، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب ٥: ٣٦٥). والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٨ من طريق: "علي بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس". ونصه: "آيات محكمات، هي التي في الأنعام: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر الثلاث الآيات". وقال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي. من أجل ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري"عن أبي إسحاق"، ولكني لم أثبته في نصه.
٦٥٧٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وأخر متشابهات"، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
٦٥٧٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى قوله:"كل من عندنا ربنا"، أما"الآيات المحكمات": فهن الناسخات التي يعمَل بهن = وأما"المتشابهات" فهن المنسوخات.
٦٥٧٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، و"المحكمات": الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه = وأما"المتشابهات": فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
٦٥٧٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آيات محكمات"، قال: المحكم ما يعمل به.
٦٥٧٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
٦٥٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخات ="وأخر متشابهات"، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى.
٦٥٨١ - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ = وما تشابه منه: ما نسخ.
٦٥٨٢ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخ ="وأخر متشابهات"، قال: المنسوخ.
٦٥٨٣ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منه آيات محكمات"، يعني الناسخ الذي يعمل به ="وأخر متشابهات"، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به.
٦٥٨٤- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"منه آيات محكمات"، قال: ما لم ينسخ ="وأخر متشابهات"، قال: ما قد نسخ.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه ="والمتشابه" منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ="والمتشابه" منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات"، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه = (١) "وأخَرُ متشابهات"، في الصدق، (٢) لهن تصريف وتحريف وتأويل، (٣) ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة: "وأخر متشابهة"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. وليس في نص ابن هشام: "في الصدق"، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(٣) ليس في نص رواية ابن هشام"وتحريف".
(٤) الأثر ٦٥٨٧- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها: ٦٥٧١، من روايته عن ابن إسحاق.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٨٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: (ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: ١]، قال: وذكر حديثَ رسول الله ﷺ في أربع وعشرين آية منها: (٢) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) [سورة هود: ٤٩]، ثم ذكر (وَإِلَى عَادٍ)، فقرأ حتى بلغ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (٣) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين"أحكمت آياته ثم فصلت" = (٤) قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة
(٢) يعني من"سورة هود"، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف.
(٣) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود: ٨٩- ولكن هذه الآية في ذكر خبر شعيب عليه السلام، فلا أدري ما قوله بعد: "ثم مضى، ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا". وظني أن نص عبارته:
"أن عيسى حملته امرأة | " والصواب"أمه"، كما في الدر المنثور والبغوي. |
"ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا | " بإسقاط"ثم" الثانية. وانظر التعليق التالي. |
وهذا يقين ذلك يقين أحكمت | " وكأن الصواب ما أثبت. |
فمن أجل ذلك، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي، ورجحت أن تكون"يقين" في الموضعين: "تبيين".
* * *
وقال آخرون: بل"المحكم" من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره = و"المتشابه": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب"المتشابه"، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو"ألم" و"ألمص"، و"ألمر"، و"ألر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله ﷺ طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ
(٢) "منها" يعني من"سورة هود"، وكذلك سائر ما بعده.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: (٢) أن هذه الآية نزلت فيه، (٣) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (٤) [سورة البقرة: ٢]
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، (٥) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى= [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (٦) = وذلكَ
(٢) في المطبوعة: "بن رباب" وهو خطأ، والصواب ما أثبت و"رئاب" بكسر الراء. وانظر ما سلف ١: ٢١٦ وما سيأتي في التعليق: ٤، وفيه المرجع.
(٣) قوله: "فيه"، أي: في هذا القول. لا في"جابر بن عبد الله".
(٤) انظر ما سلف ١: ٢٤٥-٢٢٤ في تفسير"ألم"، والأثر رقم: ٢٤٦ والتعليق عليه.
(٥) في المطبوعة: "لخلقه"، وفي المخطوطة: "محلقه" غير منقوطة، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة، وصواب قراءته ما أثبت.
(٦) هذه الجملة التي بين القوسين، هكذا جاءت في المطبوعة، ومثلها في المخطوطة وإن كان قوله "اصطرته" غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى، وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع، فاختلط الكلام علينا وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها، ووضعتها بين قوسين، وحصرتها بين الخطوط، ليعرف مكانها، ومكان السقط الذي رجحت أنه سهو من الناسخ.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه = (٤) أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في
(٢) في المطبوعة: "بعد بالسنين... "، وفي المخطوطة: "بعد السنين... "، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من"بعدد".
(٣) في المطبوعة: "لا حاجة لهم" باللام، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة"مبينة"، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست"ميما"، وصواب قراءة النص هو ما أثبت.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب﴾
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (١) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"هن أم الكتاب"، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (٢)
ذكر من قال ذلك:
٦٥٨٩- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية:"محكمات هنّ أم الكتاب". قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين = وضرب لذلك مثلا فقال:"أمّ القرى" مكة،"وأم خراسان"، مَرْو،"وأمّ المسافرين"، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. (٣)
٦٥٩٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هن أم الكتاب"، قال: هن جماع الكتاب.
* * *
(٢) في المطبوعة: "نحو قلنا" وهو سهو صوابه من المخطوطة.
(٣) الأثر: ٦٥٨٩-"عمران بن موسى الفزار"، و"عبد الوارث بن سعيد" مضت ترجمتهما برقم ٢١٥٤. وانظر التعليق على الأثر رقم: ٦٥٩١، التالي.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٩١ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية:"منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال:"أم الكتاب" فواتح السور، منها يستخرج القرآن - (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ)، منها استخرجت"البقرة"، و (الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) منها استخرجت"آل عمران". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.
* * *
يقال منه:"زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا"، و"أزاغه الله" - إذا أماله -"فهو يُزيغه"، ومنه قوله جل ثناؤه: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لا تملها عن الحق = (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [سورة آل عمران: ٨].
* * *
(٢) الأثر: ٦٥٩١-"أبو فاختة" هو"سعيد بن علاقة الهاشمي"، مولى أم هانئ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم: ٦٥٨٩. فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور ٢: ٤، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال: "عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: هن أم الكتاب، فقال أبو فاختة... وقال يحيى بن يعمر... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٩٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فأما الذين في قلوبهم زيغٌ"، أي: ميل عن الهدى. (١)
٦٥٩٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"في قلوبهم زيغ"، قال: شك.
٦٥٩٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٥٩٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، قال: من أهل الشك.
٦٥٩٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أما الزيغ فالشك.
٦٥٩٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال:"زيغ" شك = قال ابن جريج:"الذين في قلوبهم زيغ"، المنافقون.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا = بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك = ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:-
٦٥٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فيتبعون ما تشابه منه"، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم.
٦٥٩٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فيتبعون ما تشابه منه"، أي: ما تحرّف منه وتصرف، (١) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (٢)
٦٦٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"فيبعون ما تشابه منه"، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:
(٢) الأثر: ٦٥٩٩- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٥٩٢، بإسناده عن ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٦"لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة".
وتركت ما في التفسير هنا على حاله، لأن روايته عن ابن إسحاق، غير رواية ابن هشام".
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله ﷺ من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، ثم
(٢) في المطبوعة: "يعد به النار" بالدال المهملة، ولا معنى له. وفي المخطوطة"عد به" غير منقوطة، وصواب قراءتها"يعذبه"، وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله ﷺ في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، (١) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله:"ألم و"ألمص"، و"ألمر" و"ألر"، فقال الله جل ثناؤه فيهم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق ="فيتبعون ما تَشابه منه" يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ="ابتغاءَ الفتنة".
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها"البقرة". (٢)
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٠٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة"، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، (٣) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر
(٢) انظر الأثر السالف رقم: ٢٤٦.
(٣) "الحرورية"، هم الخوارج، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة، فكان هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا، وأما "السبائية"، فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي"عبد الله بن سبأ" وهو الذي قال لعلي: "أنت أنت" يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة"السبائية"، وفي المطبوعة"السبئية"، وآثرت ما في المخطوطة لأنها هكذا هي في أكثر الكتب.
٦٦٠٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان = وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
٦٦٠٥ - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله:"وما يذَّكر إلا أولوا الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم. (٦)
(٢) ألاص الأمر: أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر: أداره على الشيء الذي يريده.
(٣) في المطبوعة: "أفلحه" بالحاء المهملة، وهو في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته: أظهرها، وجعل له الفلج، أي الفوز والغلبة.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "وإن كتموا... "، والسياق يقتضي حذف الواو.
(٥) عنى باليهودية والنصرانية، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مقالاتهم.
(٦) الحديث: ٦٦٠٥- هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا، كلها من رواية ابن أبي مليكة، إلا واحدًا، وهو الحديث: ٦٦١١. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل صحيح، كما سيأتي.
وابن أبي مليكة: هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، القرشي المكي. وهو تابعي كبير ثقة، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في الصغير، ص: ١٣١، وابن سعد ٥: ٣٤٧-٣٤٨، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٩٩-١٠٠، والمصعب في نسب قريش، ص: ٢٩٣.
فقال الترمذي: ٤: ٨٠، بعد أن روى الحديث بالوجهين، كما سيأتي-: "هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا فيه: عن القاسم بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم: عن القاسم بن محمد، في هذا الحديث. وابن أبي مليكة، هو"عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة أيضًا".
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر"القاسم" في الإسناد، كما زعم الترمذي. وسيجيء بيان ذلك، إن شاء الله.
وقال الحافظ في الفتح ٨: ١٥٧: "قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا، وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث..".
والحديث - من هذا الوجه، من رواية ابن علية، عن أيوب -: رواه أحمد في المسند ٦: ٤٨ (حلبي)، عن ابن علية، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه: ٤٧، عن محمد بن خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية، به.
ومحمد بن خالد بن خداش، هذا: مترجم في التهذيب. وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب عن أبيه".
ولم يترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد، مع أنه سكنها، كما في التهذيب.
والحديث ذكره ابن كثير ٢: ٩٧، عن رواية المسند. ثم قال: "هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، ليس بينهما أحد". ثم أشار إلى رواية ابن ماجه، وإلى روايات أخر، تذكر فيما سيأتي.
ولكن وقع في ابن كثير"يعقوب" بدل"أيوب"! وهو خطأ ناسخ أو طابع. وثبت في المسند على الصواب"أيوب".
مطر: هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة ١٢٥.
والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: ٧٥ بتحقيقنا، من طريق عاصم بن النضر الأحول، عن المعتمر بن سليمان، بهذا الإسناد.
وقال ابن حبان عقب روايته: "سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي مليكة جميعًا".
وهذا خطأ، فاتنا أن ننبه إليه هناك، إذ فهمناه على المعنى الصحيح، لم نتنبه إلى اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول: "سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق، جميعًا عن ابن أبي مليكة".
فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة، وهو قد ذكره في الثقات، ص: ٣٤٤-٣٤٥، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك، وأنه مات سنة ١٢٥، قيل: ١٢٩. ومع ذلك فلم يسلم له هذا، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: ٧٨، عن أبي زرعة، قال: "مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل".
ولكن يعكر على كلام ابن حبان- إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا-: أن رواية الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث. ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا، بلفظ"فاحذروهم"، وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله. ومطر وأيوب من طبقة واحدة.
٦٦٠٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي ﷺ نحوه. (٢)
٦٦٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم. (٣)
وأشار إليه ابن كثير ٢: ٩٧، من رواية ابن ماجه. ثم قال: "ورواه محمد بن يحيى العبدي، في مسنده، عن عبد الوهاب الثقفي، به".
(٢) الحديث: ٦٦٠٨- هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن كثير ٢: ٩٧، قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب".
ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق، مخطوطة دار الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة، إلى أوائل سورة النساء.
(٣) الحديث: ٦٦٠٩- الحارث: هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٢٨٢: "منكر الحديث". وكذلك قال في الصغير، ص: ١٨٥. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير، عن البخاري: "منكر الحديث، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا". وروى ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٩١-٩٢، عن أحمد بن حنبل، قال: "رجل صالح، ولم يكن يعرف بالحديث، ولا يحفظه، منكر الحديث".
وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا، فإن أصل الحديث صحيح، بالأسانيد الأخر: السابقة واللاحقة.
٦٦١١ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول الله
أبو أسامة: هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته: ٢٩٩٥.
يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ: ثقة ثبت. وثقه أحمد، ووكيع، وأبو حاتم، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم.
وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث، التي فيها زيادة"القاسم بن محمد"، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد: سمعه ابن أبي مليكة من عائشة، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين، تارة هكذا، وتارة هكذا.
والحديث - من هذا الوجه-: رواه أبو داود الطيالسي: ١٤٣٣، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد، نحوه، مختصرًا قليلا.
ورواه البخاري ٨: ١٥٧-١٥٩ (فتح). ومسلم ٢: ٣٠٣-٣٠٤. وأبو داود: ٤٥٩٨- ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي: ٤: ٨٠، عن عبد بن حميد، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، به، نحوه. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن حبان في صحيحه، رقم: ٧٢ بتحقيقنا، من طريق عبد الله - وهو ابن المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم، به.
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، فسيأتي بإسناد آخر: ٦٦١٥، بزيادة القاسم، وسيأتي أيضًا عقب هذا: ٦٦١١ من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه.
٦٦١٢ - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ابن أبي مليكة، حدثتني] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نزع:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه"، ولا يعملون بمحكمه. (٢)
عبد الرحمن: هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في: ٢٨٣٦.
وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد.
وقد نقله ابن كثير ٢: ٩٨. ثم قال: "ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به".
وانظر الحديث الآتي: ٦٦١٥.
وقوله: "نزع رسول الله" - يقال: انتزع بالآية والشعر: تمثل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله: "قد انتزع معنى جيدًا" و"نزعه"، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها"نزع" هنا -: استشهد، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا.
(٢) الحديث: ٦٦١٢- نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل، الجمحي القرشي المكي: ثقة، قال أحمد بن حنبل: "ثبت ثبت صحيح الحديث". وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٨٦، وابن سعد ٥: ٣٦٣. ونسب قريش للمصعب: ٤٠٠. وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٥٦، وتذكرة الحفاظ ١: ٢١٣.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا: "نافع عن عمر"! بدل"نافع بن عمر". وهو خطأ. تصويبه عن الفتح ٨: ١٥٧، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث"عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم" -".... ونافع بن عمر، وابن جريج، وغيرهما". وكذلك صححناه عن ابن كثير، كما سنذكر.
ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما: "عن نافع، عن عمر، عن عائشة"!! فحذف"ابن أبي مليكة" من الإسناد. ثم حذف تصريحه بالسماع من عائشة.
فصححنا الإسناد، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين، وهو ما زدناه بعد كلمة"عن"، بين علامتي الزيادة: [ابن أبي مليكة، حدثتني].
وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير ٢: ٩٨، حيث قال: "ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم، ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وقال نافع في روايته: عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة. فذكره".
فهذا هو الصواب، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله.
ثم إن الحديث سيأتي: ٦٦١٤، من هذا الوجه، على الصواب، من رواية خالد بن نزار، عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي-"عن ابن أبي مليكة، عن عائشة".
٦٦١٤- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية،"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، الآية،"يتبعها"، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله. (٢)
شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري: قال ابن المديني: "ثقة، كان يختلف إلى مصر في تجارة، وكتابه كتاب صحيح". وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ٢ / ٢٣٤، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٥٩.
و"الحبطي": بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى"الحبطات". بطن من تميم.
روح بن القاسم التميمي العنبري البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال سفيان بن عيينة: "لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن القاسم".
وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير ٢: ٩٨، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله.
(٢) الحديث: ٦٦١٤- خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي: ثقة. مترجم في التهذيب فقط. وشيخه نافع: هو ابن عمر الجمحي.
وهذا الحديث تكرار للحديث: ٦٦١٢، من رواية نافع الجمحي، ومؤيد لما ذكرنا أنه سقط من ذاك الإسناد.
فهؤلاء: أيوب، ونافع بن عمر، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - مباشرة، دون واسطة"القاسم" بينهما، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن أبي مليكة إياه من عائشة، كما مضى في: ٦٦١٢.
وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز:
فرواه الترمذي ٤: ٨٠، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - دون ذكر القاسم.
وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته: ٥٤٥٨.
وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير ٢: ٩٨، والحافظ في الفتح ٨: ١٥٧. وإسنادها صحيح.
ورواه أيضًا سعيد بن منصور، عن حماد بن يحيى، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة، نقله ابن كثير ٢: ٩٨. وهو إسناد صحيح.
وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٥٧، ولكن لم يذكر من خرجه. ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر.
* * *
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله ﷺ بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله، إمّا
وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة، كما ذكرنا في ٦٦٠٥. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة، في هذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ١٤٣٢، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
وقد جمع الروايتين: رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته عنهما. فرواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. نقله ابن كثير ٢: ٩٨، عن ابن أبي حاتم، وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٥٧.
وقد مضت من قبل: ٦٦١١ رواية حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم: رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم.
وهناك متابعة أخرى عن القاسم، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير ٢: ٩٨"ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به". فلم يذكر ما هي، ولا ما إسنادها، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح.
ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي ٢: ٥، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل.
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله ﷺ بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله:"وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله"، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا ﷺ وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (٣)
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك:
٦٦١٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ابتغاء الفتنة"، قال: إرادة الشرك.
٦٦١٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.
* * *
(٢) في المطبوعة: "... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد"، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها، "الآجال" جمع أجل، وهو الذي أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته.
(٣) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ٣: ٥٠٨ / ثم ٤: ١٦٣. وتفسير"الفتنة" فيما سلف، ٢: ٤٤٣، ٤٤٤ / ثم ٣: ٥٦٥، ٥٦٦، ٥٧٠، ٥٧١ / ثم ٤: ٣٠١.
ذكر من قال ذلك:
٦٦١٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا.
٦٦١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ابتغاء الفتنة"، الشبهات، قال: هلكوا به.
٦٦٢٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.
٦٦٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ابتغاء الفتنة"، أي اللَّبْس. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه:"إرادةُ الشبهات واللبس".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (٢) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "واحتمل صرفه في وجوه التأويلات"، وقد قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع، والتي تليها كلها أفراد، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ"صرف صرفه" (بغير ألف في: صارفه) كما كانت تكتب قديمًا، فظنها خطأ، فحذف الأولى"صرف" وأبقى الأخرى"صرفه"، فاضطربت الضمائر.
٦٦٢٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، (٣) فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس:"وما يعلم تأويله إلا الله"، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله:"ابتغاء الفتنة"، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم
(٢) هكذا كتبت هنا"سبئيًا"، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع الماضية"سبائيًا"، فتركت هذا الرسم كما هو، وهو صواب.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وما يلقون عند الفرار"، وهو كلام لا معنى له، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة والإخبات عند سماع القرآن، وذلك من أمر الخوارج مشهور، وهم الذين جاء في صفتهم: "تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم" في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس: "يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه" متعجبًا من فعلهم في خشوعهم، وضلالهم في تأويلهم المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"التأويل"، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"وابتغاء تأويله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد ﷺ وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل،"ألم"، و"ألمص"، و"ألر"، و"ألمر"، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، يعني تأويله يوم القيامة ="إلا الله".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"عواقبُ القرآن". وقالوا:"إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك".
ذكر من قال ذلك:
٦٦٢٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وابتغاء تأويله"، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة".
ذكر من قال ذلك:
٦٦٢٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وابتغاء تأويله"، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم = (١) "خلقنا"، و"قضينا".
* * *
قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ:"ابتغاء التأويل" الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة = والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه = (٢) أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - (٣) أولى بتأويل قوله:"وابتغاء تأويله"،
(٢) "جاء" اسم فاعل من الفعل"جاء يجيء فهو جاء". وسياق الجملة: "والقول الذي قاله ابن عباس... والذي ذكرنا عن السدي... أولى بالصواب".
(٣) قوله: "بمتشابه آي القرآن... " من صلة قولهم: "إن طلب القوم معرفة الوقت.." جار ومجرور، متعلق بقوله: "طلب".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، (١) وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون:"آمنا به، كل من عند ربنا" - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل"الراسخون" معطوف على اسم"الله"، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، (٢) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك:
(٢) في المطبوعة: "أوهم مستأنف... "، وأثبت ما في المخطوطة.
٦٦٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به) (٢)
٦٦٢٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية،"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
٦٦٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة:"وما يعلم تأويله إلا الله = والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
(٢) في المطبوعة"يقول الراسخون" بحذف الواو. والصواب إثباتها، لأنه سيأتي في ص: ٢٠٤ س:
٦٦٣١ - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله:"وما يعلم تأويله إلا اللهّ"، قال: ثم ابتدأ فقال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وليس يعلمون تأويله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون:"آمنا به كلّ من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
٦٦٣٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
٦٦٣٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
٦٦٣٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
٦٦٣٥ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله ويقولون:"آمنا به".
٦٦٣٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يعلم تأويله" الذي أراد، ما أراد، (١) "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا"، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع"الراسخين في العلم" بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره:"يقولون آمنا به". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في"يقولون". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي:"يقولون".
* * *
ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ"الراسخين" على اسم"الله"، فرفعهم بالعطف عليه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو:"يقولون"، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: (وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (٤) وفي قراءة عبد الله: (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ).
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى"التأويل" في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:
(٢) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد وزال.
(٣) الأثر ٦٦٣٦- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٦٢٥ بإسناده عن ابن إسحاق، وهو في سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٦.
(٤) انظر التعليق السالف على الأثر: ٦٦٢٧، ص: ٢٠٢ س: ٧، تعليق: ٢.
١٣ أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في الأصل"كان ابن عباس يقرأ""وما يعلم تأويله.."، ولكن الناسخ مضى على عجلته، فكتب مكان"يقرأ""يقول"، ثم أسقط الواو من"ويقول الراسخون | ". فلذلك أثبت الواو، وهي الصواب المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم]، لأن هذه قراءة في الآية، لا تفسير من ابن عباس، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة. |
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا | تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (١) |
ويعني بقوله:"تأوّلُ حُبها": تفسير حبها ومرجعه. (٢) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (٣)
أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع)، (ولى) فهي:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً | تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا |
أما الرواية الأولى، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي، وأما روايته الثانية، وهي قوله: "توابع حبها"، فإني لم أدر ما معناها، وأخشى أن يكون صوابها: "نزائع حبها". والنزائع جمع نزيعة، يقال: ناقة نازع من نوق نوازع. وناقة نزيعة: وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه: حن واشتاق.
(٢) في المخطوطة: "وتفسير حبها... " بزيادة الواو، وهو خطأ. وهذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٨٧، على خطأ فيه، إذ ظن الناشر أن قوله: "تفسيره"، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا: "تفسيره: ومرجعه" وعندئذ فلا معنى للواو في"ومرجعه"، والصواب ما أثبتناه.
(٣) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨٧.
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا | تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (١) |
القول في تأويل قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني ب"الراسخين في العلم"، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.
* * *
وأصل ذلك من:"رسوخ الشيء في الشيء"، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه:"رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا". (٢)
* * *
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
٦٦٣٧ - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال:"من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. (٣)
* * *
(٢) قوله: "رسخًا"، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة.
(٣) الحديث: ٦٦٣٧- فياض بن محمد الرقى: ترجمه البخاري ٤ / ١ / ١٣٥، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ٨٧، فلم يذكرا فيه جرحًا.
عبد الله بن يزيد بن آدم: ترجمه ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٩٧، قال: "روى عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع: أن النبي ﷺ سئل: كيف تبعث الأنبياء؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى... سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه. وهذا حديث باطل".
وترجمه الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد، قال: "أحاديثه موضوعة". وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد بالوضع.
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم"الراسخين
ولكن في هذا الإسناد"عبد الله بن يزيد الأودي". والراجح أن هذا خطأ من أحد الرواة، أو من الناسخين، وأن صوابه كالإسناد السابق"عبد الله بن يزيد بن آدم". وأما "عبد الله بن يزيد الأودي"، فهو غير هذا يقينًا. وقد مضى في: ٥٤٦١. وترجمته عند ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٠٠: أنه"روى عن سالم بن عبد الله، عن حفصة، في الصلاة الوسطى، روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية". والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة، والراوي هنا كذاب.
والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن محمد بن عوف الحمصي، عن نعيم بن حماد، عن فياض الرقى"حدثنا عبد الله بن يزيد"، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه"الأودي". ووقع في ابن كثير"عبيد الله"، بدل"عبد الله"، وهو خطأ.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٤"عن عبد الله بن يزيد بن آدم، قال: حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك... ". وقال: "رواه الطبراني، وعبد الله بن يزيد: ضعيف". فزاد في رواية الطبراني صحابيًا رابعًا، هو واثلة بن الأسقع.
وذكره السيوطي ٢: ٧، عن هؤلاء الصحابة الأربعة، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني. وهو تساهل منه، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم"واثلة بن الأسقع"، بل هو في رواية الطبراني فقط.
ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر: "من طريق عبد الله بن يزيد الأودي، سمعت أنس بن مالك يقول... ".
فهذا يرجح أن زيادة"الأودي" - خطأ من أحد الرواة، لا من الناسخين.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به، (١) قال:"الراسخون" الذين يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
٦٦٤٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والراسخون في العلم"، هم المؤمنون، فإنهم يقولون:"آمنَّا به"، بناسخه ومنسوخه ="كلٌّ من عند ربنا".
٦٦٤١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قال، عبد الله بن سلام:"الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم = قال ابن جريج:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، وهم الذين يقولون = (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ويقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الآية.
* * *
وأما تأويل قوله:"يقولون آمنا به"، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله، وقد:-
٦٦٤٢ - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: المحكم والمتشابه.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كل من عند ربنا"، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه ="من عند ربنا"، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
٦٦٤٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"كل من عند ربنا"، قال: يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ.
٦٦٤٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، قالوا:"كلّ من عند ربنا"، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
٦٦٤٥ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كل من عند ربنا"، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا.
٦٦٤٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله. (١)
٦٦٤٧ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"والراسخون في العلم" يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.
* * *
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل"الكل" و"البعض" في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسمًا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
* * *
(٢) انظر ما سلف عن"كل" ٣: ١٩٥ / ثم ٥: ٥٠٩.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، (١) وقد:-
٦٦٤٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، يقول: وما يذكر في مثل هذا = يعني: في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يَتّسقا على معنى واحد ="إلا أولو الألباب". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك ="لا تزغ قلوبنا"،
(٢) الأثر: ٦٦٤٨- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٦٣٦ بإسناده عن ابن إسحاق.
٦٦٤٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا (١) ="وهب لنا من لدنك رحمة". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به = من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون = ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: (٣) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا"، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم = بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (٤) = أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ
(٢) الأثر: ٦٦٤٩- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٦٤٨.
(٣) القدرية: هم نفاة القدر والصفات، ويعني المعتزلة.
(٤) في المطبوعة: "مسألتهم" بحذف الباء، والصواب من المخطوطة.
٦٦٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ قال:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ:"ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا"، إلى آخر الآية. (١)
٦٦٥١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٢)
عبد الحميد بن بهرام: ثقة، مضت ترجمته في: ١٦٠٥. وشهر بن حوشب: ثقة أيضًا، كما قلنا في: ١٤٨٩.
وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في: ٦٦٥٢، ونخرجه هناك، إن شاء الله. ويأتي بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك، في: ٦٦٥٨.
(٢) الحديث: ٦٦٥١ - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء، وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم المؤمنين.
ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري، وإلا رواية ذكرها ابن كثير، عن ابن مردويه.
قال ابن كثير ٢: ١٠٢ بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية: "ورواه ابن مردويه، من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدث: أن رسول الله ﷺ كان يكثر من دعائه... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث.
ثم قال ابن كثير: "وهكذا رواه ابن جرير، من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ثم قال: "ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه"عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن" - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين، في زيادة حرف"عن". وأن صوابه"عن أم سلمة أسماء... ".
و"أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية": صحابية معروفة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وكنيتها"أم سلمة". وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها، بل قال ابن السكن: "هو أروى الناس عنها". وكان من مواليها.
ولم نسمع قط أن"أم سلمة أم المؤمين" روت عن أسماء هذه، ولا روت عن غيرها من الصحابة.
وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث"أسد بن موسى" و"الحجاج بن منهال" - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان الآتيتان: ٦٦٥٢، ٦٦٥٨ -: فهي مشكلة، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه: "عن أم سلمة أسماء بنت يزيد".
ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري: ٦٦٥٠، ٦٦٥٢، ٦٦٥٨، التي فيها"عن أم سلمة" مراد بها"أم سلمة أسماء بنت يزيد".
فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن"أم سلمة" في هذه الروايات الثلاث - هي أم المؤمنين يقينًا، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا: ٦٦٥٢.
والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - ٦: ٢٩٤ (حلبي)، عن وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: "أن النبي ﷺ كان يقول: يا مقلب القوب، ثبت قلبي على دينك". وهذا نحو الرواية الماضية: ٦٦٥٠، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية.
ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - ٦: ٣٠١-٣٠٢، عن هاشم -وهو ابن القاسم أبو النضر- عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد، نحوه. إلا أنه قال في آخره: "وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا".
ثم رواه مختصرًا، بدون ذكر الآية، ولا قوله"فنسأل الله ربنا" -إلخ، ٦: ٣١٥ (حلبي)، عن معاذ بن معاذ، قال: "حدثنا أبو كعب صاحب الحرير، قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله ﷺ إذا كان عندك؟..".
ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه -: سألت أبي عن أبي كعب؟ فقال: ثقة، واسمه عبد ربه بن عبيد".
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٢٦٦، عن أبي موسى الأنصاري، عن معاذ بن معاذ، به. وقال: "هذا حديث حسن".
وأبو كعب صاحب الحرير، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي: وثقه أيضًا يحيى بن سعيد، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٤١-٤٢.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات، ٦: ٣٢٥، ٧: ٢١٠، ١٠: ١٧٦، عن رواية المسند، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب، "وهو ضعيف وقد وثق". وقال في الأخير: "إسناده حسن".
وذكره السيوطي ٢: ٨، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، دون فصل بين الروايات.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: ٥٥، من رواية ابن وهب، عن إبراهيم بن نشيط الوعلاني، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا.
ورواه أبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: ٣١٦، من وجهين آخرين، عن أم سلمة.
ووقع في المطبوعة: "ما خلق الله من بشر، من بني آدم"، بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه الكلمة.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٨-٢٨٩، من طريق الأعمش، بهذا الإسناد. وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور، لأن في أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي.
وذكره السيوطي ٢: ٩: وزاد نسبته للطبراني في السنة.
وأشار إليه الترمذي ٣: ١٩٩، كما سنذكر في الحديث بعده.
وقوله: "يقول بهما" هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة"يقول به".
قوله: "وسق بين إصبعيه"، وسق الشيء: جمعه. يريد: ضم إصبعيه.
ثم رواه: ١٣٧٣١ (ج ٣ ص: ٢٥٧ حلبي)، عن عفان، عن عبد الواحد، عن سليمان بن مهران - وهو الأعمش- به.
ورواه الترمذي ٣: ١٩٩، عن هناد، عن أبي معاوية، به. ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس. وروى بعضهم عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان عن أنس-أصح".
يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع: تابعي ثقة، سمع من جابر ومن أنس، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع التابعي الحديث الواحد من صحابيين.
ورواه الحاكم ١: ٥٢٦، مختصرًا، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، وصححه هو والذهبي.
ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر، فرواه: ٣٨٣٤، من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف".
وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى- في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي؛ وها هو ذا من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به.
وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد، ص: ١٠٠. فرواه مختصرًا، من طريق أبي الأحوص: "عن الأعمش، عن أبي سفيان ويزيد، عن أنس".
وذكره السيوطي ٢: ٨، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
أيوب بن بشر: لم أجد راويًا بهذا الاسم، ولا ما يقاربه في الرسم، إلا رواة باسم"أيوب بن بشير" ليسوا من هذه الطبقة، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن الرواة عن ابن جابر: "أيوب بن سويد الرملي". ومن القريب جدًا أن يروي عنه بلديه"علي بن سهل الرملي". ولكن تصحيف"سويد" إلى"بشر" صعب.
ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة، أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني: "يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشأم بعد الصحابة".
بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر: "هو أحفظ أصحاب أبي إدريس" يعني الخولاني.
و"بسر": بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه"عبيد الله": بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا"بشر". وهو تصحيف. وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر، ووقع في بعضها اسم أبيه"عبد الله". وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع.
أبو إدريس الخولاني: عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في: ٤٨٤٠.
النواس: بفتح النون وتشديد الواو، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: ١٧٧٠٧ (ج ٤ ص: ١٨٢ حلبي)، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: ١٩٩، من طريق صدقة بن خالد، عن ابن جابر، به. وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح".
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: ٥٤، وأبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: ٣١٧-٣١٨، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جابر.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٩، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: ٢٤٨- عن الحاكم، من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين.
وهذا الموضع في المستدرك، مخروم في أصله المطبوع عنه، فأثبته الناشر عن مختصر الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم.
ورواه الحاكم أيضًا ٤: ٣٢١، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا ١: ٥٢٥. عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن بشر بن بكر، عن ابن جابر، به.
وقال الحاكم في الموضعين: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"! ومن عجب أن يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور، وإن كان ثقة، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم شيئًا!!
والحديث ذكره السيوطي ٢: ٩، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى، لأنه لم يروه في السنن الصغرى.
محمد بن عبيدة: لا أدري من هو؟ ولا وجدت له ترجمة، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا لعمر بن عبد الملك الطائي، وذكره باسم: "محمد بن عبيدة، المددي، اليماني". ولم أجد معنى لنسبة"المددي" هذه، بدالين. ومن المحتمل أن تكون محرفة عن"المدري" بالراء، نسبة إلى"مدر" بفتح الميم والدال وآخرها راء، وهي قرية باليمن، على عشرين ميلا من صنعاء، كما في معجم البلدان ٧: ٤١٦.
الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي: ثقة، وهو مشهور في أهل الشام. وهو غير"الجراح بن مليح بن عدي" والد"وكيع بن الجراح".
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، أبو الهذيل الحمصي، قاضيها. وهو ثقة ثبت، قال ابن سعد ٧ / ٢ / ١٦٩: "كان أعلم أهل الشأم بالفتوى والحديث". وكان الأوزاعي"يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهري".
جويبر: هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين، ولا شأن لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر: ضعيف جدًا، كما بينا في: ٢٨٤. وإنما الحديث معروف عن"جبير بن نفير"، كما سيأتي.
سمرة بن فاتك الأسدي: هكذا ثبت في الطبري"سمرة" بالميم، فتكون مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه.
والصحيح الراجح أن اسمه"سبرة"، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة.
وهناك صحابي آخر، اسمه: "سمرة بن فاتك الأسدي". غير هذا. وكذلك فرق البخاري بينهما في التاريخ الكبير: ٢ / ٢ / ١٨٨، في"سبرة" و: ١٧٨ في"سمرة". وذكر هذا الحديث في"سبرة" وكذلك فرق بينهما ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٩٥، "سبرة" و: ١٥٥، "سمرة".
وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر، الذي اسمه"سمرة" -"سبرة". وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة ٣: ٦٣-٦٤، ١٣١-١٣٢: أنهما اثنان، كما قلنا، وأن راوي هذا الحديث هو"سبرة".
ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح: "سبرة" - لوجود القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا.
و"سبرة": بسكون الباء الموحدة، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته في الإصابة خطأ شديد، إذ قال الحافظ: "بفتح أوله وكسر ثانيه"؛ ولم يقل أحد ذلك في ضبط اسم"سبرة" مطلقًا، بل هو نفسه ضبط اسم"سبرة"، في غير هذه الترجمة"بسكون الموحدة". وضبط اسم هذا الصحابي بالسكون أيضًا، في المشتبه للذهبي، ص: ٢٥٥. ولم يذكر اسم آخر بهذا الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم.
و"الأسدي" - في هذه الترجمة: "بفتح الهمزة وسكون السين". وهو: الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص". قاله الحافظ في الإصابة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"سبرة بن فاتك". قال: "حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عمن حدثه، عن جبير بن نفير، عن سبرة بن فاتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الموازين بيد الله، يرفع قومًا ويضع قومًا، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، فإذا شاء أقامه، وإذا شاء أزاغه".
فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير- عنه البخاري.
وقال الحافظ في الإصابة: "وقد وقع لي في غرائب شعبة، لابن مندة، من طريق جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى، فقال: سمرة".
فلم نعرف رواية ابن مندة: أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير، أم عرف باسمه فيها؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون هذا المبهم - هو"عبد الرحمن بن جبير بن نفير" فإنه يروي عن أبيه، ويروي عنه الزبيدي.
ومما يرجح -عندي- أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات: أن الهيثمي ذكر هذا الحديث في مجمع الزوائد ٧: ٢١١"عن سمرة بن فاتك الأسدي"، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وذكره السيوطي ٢: ٨، ونسبه للبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطبراني. ولم يزد.
في المطبوعة: "إن شاء... وإن شاء". وأثبت ما في المخطوطة. وهو الموافق لرواية الكبير للبخاري.
٦٦٥٨ - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله ﷺ كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتقلَّب؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاءَ أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب. (٢)
* * *
أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة: هو عبد الله بن يزيد المعافري- بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي، ج ١ ص: ٦٤-٦٥، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: ٢١.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٦٥٦٩، عن أبي عبد الرحمن، وهو المقرئ، عن حيوة بن شريح، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم ٢: ٣٠١، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ.
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، ص: ٣١٦، بإسنادين، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: ٢٤٨ - كلاهما من طريق المقرئ.
وذكره السيوطي ٢: ٩، وزاد نسبته للنسائي.
(٢) الحديث: ٦٦٥٨- هو مختصر من الحديث: ٦٦٥٢. وقد وفينا تخريجه، وأشرنا إلى هذا هناك.
ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "من بني آدم بشر". ولعل الأجود أن يكون"من بشر"، كالروايات الأخر.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا = مع قولهم: آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا =: يا ربنا،"إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد".
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا، فإنك لا تخلف وَعْدك: أنّ من آمن بك، واتَّبع رَسُولك، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك، أنك غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم، (١) بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم، وجبتْ لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلَها من القوم: مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم.
* * *
وأما معنى قوله:"ليوم لا ريب فيه"، فإنه: لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (٢)
* * *
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٢٨، ٣٧٨ / ثم ٦: ٧٨.
* * *
"والميعاد""المفعال"، من"الوعد".
* * *
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد ﷺ من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ="لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم، (١)
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا، وهم في الآخرة ="وقودُ النار"، يعني بذلك: حَطبُها. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"الوقود" فيما سلف ١: ٣٨٠.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم = (١) ="والذين من قبلهم" من الأمم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا، (٢) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كدأب آل فرعون".
فقال بعضهم: معناه: كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كدأب آل فرعون"، يقول: كسنتهم.
* * *
وقال بعضهم: معناه: كعملهم.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٦٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان =
(٢) في المطبوعة: "فلن تغني عنهم... "، وهو مخالف للسياق. وفي المخطوطة: "فلن تغن عنهم... " وهو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.
٦٦٦١ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون.
٦٦٦٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعلهم، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل = وقرأ قول الله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) [سورة غافر: ٣١]، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأبُ العمل.
٦٦٦٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون.
٦٦٦٤ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كصنع آل فرعون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٦٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم"، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الدأب" من:"دأبت في الأمر دأْبًا"، إذا أدمنت
وَإنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ (١) كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِث قَبْلَهَا... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يعني بقوله:"كدأبك"، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه:"هذا دَأبي ودأبك أبدًا". يعني به. فعلي وفعلك، وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه:"دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا". وحكى عن العرب سماعًا:"دأبْتُ دأَبًا"، مثقله محركة الهمزة، كما قيل:"هذا شعَرٌ، ونَهَر"، (٢) فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة، (٣) فألحق"الدأب" إذ كان ثانية من الحروف الستة، كما قال الشاعر: (٤)
"الراسخون في العلم | "، بغير واو، وأثبت نص الآية. |
لَهُ نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ رِيحُهَا | وَإنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ (٥) |
وأما قوله:"واللهُ شديدُ العقاب"، فإنه يعنى به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه.
* * *
(٢) في المطبوعة: "بهر" بالباء، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بالنون.
(٣) "الحروف الستة"، يعني حروف الحلق.
(٤) هو كثير عزة.
(٥) ديوانه ٢: ١١٢، الحيوان ١: ٢٦٦، والبيان ٣: ١٠٩، ١١٢ واللسان (نعل). ورواية اللسان"وسط المجالس"، أما رواية الديوان فبخلاف هذا ولا شاهد فيها، كما سترى. والشعر مما قاله كثير حين بلغه وفاة عبد العزيز بن مروان بمصر، فرثاه، فكان مما قال فيه:
يَؤُوبُ أُولُو الحَاجَاتِ مِنْهُ إذَا بَدَا | إلَى طَيِّبِ الأَثْوَابِ غَيْرِ مُؤَمَّتِ |
كَأَنَّ اُبْنَ لَيْلَى حِينَ يَبْدُو فَتَنْجَلِي | سُجُوفُ الخِبَاءِ عَنْ مَهِيبٍ مُشَمَّتِ |
مُقَارِبُ خَطْوٍ لا يُغَيِّر نَعْلَهُ | رَهِيفَ الشِّرَاكِ، سَهْلَةَ المُتَسَمَّتِ |
إِذَا طُرِحتْ لَمْ تَطَّبِ الكَلْبَ رِيحُهَا | وَإِنْ وُضِعتْ في مَجْلِس القَوْم شُمَّتِ |
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في ذلك.
فقرأه بعضهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) بالتاء، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ). قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله:"ستغلبون"، كذلك، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية: أنّ الموعودين بأن يُغلبوا، هم الذين أُمِر النبي ﷺ بأن يقول ذلك لهم = أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نزل، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام:"قلت للقوم: إنكم مغلوبون"، و"قلت لهم: إنهم مغلوبون". وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ) [سورة الأنفال: ٣٨]، وهي في قراءتنا: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ).
* * *
وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ)، على معنى: قل لليهود: سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك
* * *
قال أبو جعفر: والذي نختار من القراءة في ذلك، قراءةُ من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، على قراءته بالياء، لدلالة قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ)، على أنهم بقوله:"ستغلبون"، مخاطبون خطابهم بقوله:"قد كان لكم"، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب.
= وأخرى أنّ:-
٦٦٦٦ - أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما أصاب رسولُ الله ﷺ قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، (٢) إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! (٣) فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد" إلى قوله:"لأولي الأبصار".
(٢) في سيرة ابن هشام: "لا يغرنك من نفسك". والأغمار جمع غمر (بضم فسكون) : وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب.
(٣) في ابن هشام: "لم تلق مثلنا".
٦٦٦٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله ﷺ جمعهم بسوق بني قَينُقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النِّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك! (٢) لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. (٣)
٦٦٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم:"قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد" إلى"لأولي الأبصار". (٤)
٦٦٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنزلت هذه الآية:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
* * *
(٢) في ابن هشام: "أنا قومك" بحذف الكاف، وهي جيدة جدًا، ولكن ما في التفسير موافق لما في التاريخ.
(٣) الأثر: ٦٦٦٨- سيرة ابن هشام ٣: ٥٠ / تاريخ الطبري ٢: ٢٩٧.
(٤) الأثر: ٦٦٦٩ - سيرة ابن هشام ٣: ٥١.
* * *
ومعنى قوله:"وتحشرون"، وتجمعون، فتجلبون إلى جهنم. (١)
* * *
وأما قوله:"وبئس المهاد"، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. (٢) وكان مجاهد يقول كالذي:-
٦٦٧١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وبئس المهاد"، قال: بئسما مَهدُوا لأنفسهم.
٦٦٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قُلْ، يا محمد، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك:"قد كان لكم آية"، يعني: علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول: إنكم ستغلبون، وعبرة، (٣) كما:-
٦٦٧٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(٢) انظر ما سلف ٤: ٢٤٦.
(٣) انظر تفسير"الآية" في (أيى) من فهارس اللغة.
٦٦٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله = إلا أنه قال: ومُتَفَكَّر.
* * *
="في فئتين"، يعني: في فرقتين وحزبين = و"الفئة" الجماعة من الناس. (١) ="التقتا" للحرب، وإحدى الفئتين رسولُ الله ﷺ ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش.
="فئة تُقاتل في سبيل الله"، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، (٢) وهم رسول الله ﷺ وأصحابه ="وأخرى كافرة"، وهم مشركو قريش، كما:-
٦٦٧٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، أصحابُ رسول الله ﷺ ببدر ="وأخرى كافرة"، فئة قريش الكفار. (٣)
٦٦٧٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. (٤)
٦٦٧٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
(٢) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ٢: ٤٩٧ / ثم ٣: ٥٦٣، ٥٨٣ / ثم ٤: ٣١٨ / ثم ٥: ٢٨٠.
(٣) الأثران: ٦٦٧٥، ٦٦٧٦ - سيرة ابن هشام ٣: ٥١ باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.
(٤) الأثران: ٦٦٧٥، ٦٦٧٦ - سيرة ابن هشام ٣: ٥١ باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.
٦٦٧٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين"، قال: في محمد وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر.
٦٦٧٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٦٨٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، قال: ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار.
* * *
قال أبو جعفر: ورفعت:"فئةٌ تقاتل في سبيل الله"، وقد قيل قبل ذلك:"في فئتين"، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء، كما قال الشاعر: (١)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ... وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ (٢)
(٢) ديوانه ١: ٤٦، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٩٢، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨٧، وسيبويه ١: ٢١٥، والخزانة ٢: ٣٧٦ وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير ٣٠: ٥٨ (بولاق)، وهو من قصيدته التائية المشهورة، وهذا البيت معطوف على أمنية تمناها في الأبيات السالفة: فَلَيْتَ قَلُوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيّدَ تْبِحَبْلٍ... ضَعيفٍ غُرَّ مِنْهَا فَضَلَّتِ
وغُودِرَ فِي الحَيِّ المُقِيمِينَ رَحْلُهَا... وكَانَ لَهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحةٌ......................
قال الأعلم: "تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وتضل ناقته فلا يرحل عنها". وقال آخرون: "تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة، فيكون ببقائه في حي عزة كذي رجل صحيحة، ويكون من عدمه لقلوصه كذي رجل عليلة". وقال ابن سيدهْ: "لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده، وثبت هو على عهدها، صار كذي رجلين: رجل صحيحة: هو ثباته على عهدها، وأخرى مريضة: وهو زللها عن عهده". وقال آخرون: "معنى البيت: أنه بين خوف ورجاء، وقرب وثناء"، ولي في معنى الأبيات رأي ليس هذا موضع بيانه.
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ... وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ (٢) فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ،... وَأَمَّا الّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه، إذا كان مع المكرر خبر: تردُّه على إعراب الأوّل مرة، وتستأنفه ثانيةً بالرفع، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كله، فخفض على الردّ على أوّل الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك: فكنت كذلك رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله:"فئة"، جائز على الردّ على قوله:"في فئتين التقتا"، في فئة تقاتل في سبيل الله.
وهذا وإن كان جائزًا في العربية، فلا أستجيز القراءة به، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله:"فئة"، جاء نصبًا، كان جائزًا أيضًا على قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"، مُختلفتين. (٣)
* * *
(٢) الوحشيات رقم: ١٨٣، وحماسة ابن الشجري: ٣٣، وخزانة الأدب ٢: ٣٧٨، وأزد شنوءة، وأزد عمان، كانا من القبائل التي قاتلت يوم صفين، وكانت أزد شنودة مع أهل الشام، وأزد عمان في أهل العراق. ورواية الشعر: "وكنتم كذي رجلين... "، والخطاب لبني تميم وغطفان في قوله قبل ذلك:بيد أن رواية البيت:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ | تَمِيمًا، وَهذَا الحَيَّ مِنْ غَطَفَان |
فأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزدُ شَنُوءةٍ | وأَمَّا التي صَحَّتْ فَأَزدُ عُمَانِ |
(٣) انظر أكثر هذا وأبسط منه في معاني القرآن للفراء ١: ١٩٢-١٩٤، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨٧، ٨٨.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة: (تَرَوْنَهُمْ) بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آيةٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرةٌ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم، يقول: إن لكم عبرةً، أيها اليهود، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم، بهؤلاء مع كثرة عددهم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم، يا معشر اليهود، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، (١) ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.
٦٦٨١ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يُضْعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: ٤٤]
* * *
فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم، يا معشر اليهود، آيةٌ في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عدد الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليلُ عددُها، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد، (١) فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم.
والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني، على ما قاله ابن مسعود: وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا).
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم، هم
ذكر من قال ذلك:
٦٦٨٢ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة"، أنزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا (١) وكان المشركون مثليهم، فأنزل الله عز وحل:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين.
فقال بعضهم: كان عددهم ألفًا = وقال بعضهم: ما بين التسعمئة إلى الألف.
ذكر من قال:"كان عددهم ألفًا".
٦٦٨٣ - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي قال: سار رسول الله ﷺ إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت، وأما مولى
٦٦٨٤ - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. (٤)
* * *
ذكر من قال:"كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف":
٦٦٨٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي ﷺ نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه، (٥) فأصابوا راويةً من قريش: (٦) فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما
(٢) في التاريخ: "عشرًا" وهي الأجود. والجزر جمع جزور: وهي الناقة المجزورة أو البعير المجزور، فهو يقع على الذكر والأنثى.
(٣) الأثر: ٦٦٨٣- تاريخ الطبري ٢: ٢٦٩.
(٤) الأثر: ٦٦٨٤-"أبو سعيد بن يوشع البغدادي"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب، وانظر رقم: ٦٦٩٠ أيضًا.
(٥) في المخطوطة: "يلتمسون له عليه" بينهما بياض، وأتمتها المطبوعة، كنص ابن هشام.
(٦) الرواية: هي المزادة فيها الماء، ثم سمي البعير الذي يستسقى عليه الماء"راوية"، وسمي الرجل المستسقى أيضًا"راوية". وجاء في روايته هنا بالإفراد"راوية"، وهي بمعنى الجمع، أي الذين يستقون للقوم، أو الإبل التي يستقى عليها.
٦٦٨٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، ذلكم يوم بدر، ألفٌ المشركون أو قاربوا، (٢) وكان أصحاب رسول الله ﷺ ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
٦٦٨٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة" إلى قوله:"رأي العين"، قال: يُضْعفون عليهم، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، يوم بدر.
٦٦٨٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين"، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمئة وخمسين، وكان أصحاب محمد ﷺ ثلثمئة وثلاثة عشر.
٦٦٨٩ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: كان أصحاب رسول الله ﷺ ثلثمئة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف.
* * *
(٢) في المخطوطة: "أللف"، وعلى اللام الأولى شدة، وأظنه كان أراد أن يكتب: "لألف".
* * *
وقال آخرون: كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا: أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله:"يرونهم مثليهم"، المخاطبين بقوله:"قد كان لكم آية في فئتين". قالوا: وهم اليهود، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه ﷺ أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (٢) [سورة يونس: ٢٢]
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل:"يرونهم مثليهم رأي العين"، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين؟
قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد:"أحتاج إلى مثله"، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، (٣) ثم يقول:"أحتاج إلى مثليه"، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. (٤) وكما يقول الرجل:"معي ألفٌ وأحتاج
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٩٥.
(٣) في المطبوعة: "أنا محتاج إليه وإلى مثله"، وهو إفساد. والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء ١: ١٩٤.
(٤) عبارة الفراء أوضح وهي: "فأنت إلى ثلاثة محتاج".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم.
وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: ٤٤]، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى.
* * *
قال أبو جعفر: وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهُمْ) بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات بالصواب، قراءةُ من قرأ:"يرونهم" بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم - يعني: مثلي عدد
(٢) في المطبوعة: "صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة"، وهو تصحيف، وفي المخطوطة: "اسرب" غير واضحة بل مضطربة، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(٣) قوله: "قال" يعني الفراء، فالذي مضى والذي يأتي نص كلامه أو شبيه بنص كلامه أحيانًا، وقلما يصرح أبو جعفر باسم الفراء، كما رأيت في جميع المواضع التي أشرنا إليها مرارًا، أنه نقل عنه نص كلامه.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "كما يقال إن لكم ضعفكم"، وهو كلام بلا معنى، واستظهرت صوابه من نص الفراء في معاني القرآن وهو: "ومثله في الكلام أن تقول: أراكم مثلكم - كأنك قلت: أراكم ضعفكم".
(٥) أكثر هذا بنصه من معاني القرآن للفراء ١: ١٩٤.
٦٦٩٠ - حدثني أبو سعيد البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تَرَاهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا.
* * *
وقد روى عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت:"ترونهم"، لكانت"مثليكم".
٦٦٩١ - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بذلك. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ، على
(٢) الأثر: ٦٦٩١-"عبد الرحمن بن أبي حماد" لم أعرف من هو على التحقيق. وقد مر"عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي القارئ" في رقم: ٣١٠٩، ٤٠٧٧، ولكن لم يرو عنه"المثنى" إلا بالواسطة، وإسناده: "حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد"، ولا أظنه هو هو. وقد جاء في تاريخ الطبري ١: ١٧١:
"حدثني المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد | "، فأكبر الظن أنهما رجلان. |
* * *
وأما قوله:"رأي العين"، فإنه مصدر:"رَأيتهُ" يقال:"رأيته رأيًا ورُؤْية"، و"رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ"، غير مُجْراة. يقال:"هو مني رَأيَ العين، ورِئاءَ العين"، (٤) بالنصب والرفع، يراد: حيث يقع عليه بصري، وهو من"الرأي" مثله. و"القوم رئاءٌ"، (٥) إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا.
* * *
فمعنى ذلك: يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم.
* * *
(٢) سياق الكلام على ما ترى: "فأخبر الله عز وجل... اليهود... إعلامًا منه لهم".
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "ببدرهم"، وهو كلام ليس بعربي، فآثرت حذف الضمير، وجعلتها"ببدر"، إلا أن يكون في الكلام تحريف لم أتبينه. هذا والناسخ كما ترى، في كثير من هذه الصفحات قد عجل فزاد وحرف ونقص. غفر الله له.
(٤) في المطبوعة: "ورأي العين"، وفي المخطوطة"ورآا العين"، وصواب قراءتها ما أثبت وإنما حمل الناشر الأول أن يقرأها كذلك، أنه لم يجد نصها في كتب اللغة، ولكن قوله بعد: "وهو من الرأى مثله"، إنما يعني به هذه الكلمة، ثم ما سيأتي في الجملة التالية: "والقوم رثاء"، مما استدل به على ذلك أيضًا. ولكن الناشر الأول، لم يحسن قراءة المخطوطة فتصرف فيه، وأعانه ذلك على التصرف في رسم الذي قبله، كما سنرى في التعليق التالي. وانظر أيضًا مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨٨.
(٥) في المطبوعة: "والقوم راأوا"، ولا أدري كيف أراد أن يقرأها الناشر الأول، وماذا ظنها!! والصواب ما أثبت، ورسمه في المخطوطة"والقوم رآء" وتحت الراء كسرة، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر التعليق السالف.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (١) "والله يؤيد"، يقوّي ="بنصره من يشاء".
* * *
= من قول القائل:"قد أيَّدت فلانًا بكذا"، إذا قوّيته وأعنته،"فأنا أؤيّده تأييدًا". و"فَعَلت" منه:"إدته فأنا أئيده أيدًا"، (٢) ومنه قول الله عز وجل: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ) [سورة ص: ١٧]، يعني: ذا القوة. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قد كان لكم = (٤) يا معشر اليهود، في فئتين التقتا، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم = (٥) معتبر ومتفكر، والله يقوّى بنصره من يشاء.
* * *
(٢) لم تذكر كتب اللغة هذا الفعل الثلاثي متعديًا، بل قالوا: "آد يئيد أيدًا، إذا اشتد وقوى"؛ فهذه زيادة لم أجدها في غير هذا التفسير الجليل.
(٣) انظر تفسير"الأيد" و"أيد" فيما سلف ٢: ٣١٩، ٣٢٠ / ثم ٥: ٣٧٩.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.
٦٦٩٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار"، يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم.
٦٦٩٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد ﷺ بعد علمهم بصدقه.
* * *
وكان الحسن يقول: منْ زَيْنِها، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها. (١)
٦٦٩٤ - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث عنه.
* * *
وأما"القناطير" فإنها جمع"القنطار".
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار.
فقال بعضهم: هو ألف ومئتا أوقية.
ذكر من قال ذلك:
٦٦٩٦ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل قال: القنطار: ألف ومئتا أوقية.
٦٦٩٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ مثله.
٦٦٩٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
٦٦٩٩ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال، أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
٦٧٠٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. (١)
* * *
وقال آخرون: القنطار ألف دينار ومئتا دينار.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٠٢ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ القنطارُ ألف ومئتا دينار.
و"شبابة" هو"شبابة بن سوار الفزاري". قال أحمد: "تركته لم أكتب عنه للإرجاء، كان داعية". وقال زكريا الساجي: "صدوق، يدعو إلى الإرجاء. كان أحمد يحمل عليه". وقد وثقه ابن معين وابن سعد على إرجائه. مترجم في التهذيب، و"مخلد بن عبد الواحد" أبو الهذيل البصري روى عن علي ابن زيد بن جدعان، وروى عنه شبابة. قال ابن حبان: "منكر الحديث جدًا". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٣٤٨. و"علي بن زيد بن جدعان" مضى برقم: ٤٠. و"عطاء بن أبي ميمونة" روى عن أنس وعمران وجابر بن سمرة، وغيرهم. وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه وكان قدريًا"، وقال ابن عدي: "في أحاديثه بعض ما ينكر عليه".
وقد روى ابن كثير هذا الأثر في تفسيره ٢: ١١٠ وقال: "وهذا حديث منكر أيضًا". والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة" - يعني كالأثر السالف الموقوف على أبي هريرة، وما قبله عن معاذ بن جبل وابن عمر.
٦٧٠٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
٦٧٠٥ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"القناطير المقنطرة"، يعني: المالَ الكثير من الذهب والفضة، والقنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
* * *
وقال آخرون: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٠٦ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
٦٧٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: القنطار ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم. (١)
٦٧٠٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا.
٦٧٠٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار اثنا عشر ألفا.
٦٧١١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله.
٦٧١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن قال: القنطار ألفُ دينار، ديةُ أحدكم.
* * *
وقال آخرون: هو ثمانون ألفًا من الدراهم، أو مئة رطل من الذهب.
ذكر من قال ذلك:
٦٧١٣ - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
٦٧١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
٦٧١٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق.
٦٧١٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
٦٧١٧ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: القنطار مئة رطل.
٦٧١٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
* * *
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفًا.
ذكر من قال ذلك:
٦٧١٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القناطير المقنطرة"، قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
٦٧٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٧٢١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عمر بن حوشب قال، سمعت عطاء الخراساني قال: سئل ابن عمر عن القنطار فقال: سبعون ألفًا. (١)
* * *
وقال أخرون: هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا. (٢)
ذكر من قال ذلك:
٦٧٢٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد الجرَيْري، عن أبي نضرة قال: ملءُ مَسك ثور ذهبًا.
٦٧٢٣ - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث، عن أبي نضرة: ملء مَسك ثور ذهبًا.
* * *
(٢) المسك (بفتح الميم وسكون السين) : هو مسلاخ الجلد الذي يكون فيه الثور وغيره.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"القناطير المقنطرة"، المال الكثير، بعضُه على بَعض.
* * *
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب: (١) أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول:"هو قَدْرُ وزنٍ". (٢)
قال أبو جعفر: وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. (٣) وقد قيل ما قيل مما روينا.
* * *
وأما"المقنطرة"، فهي المضعَّفة، وكأن"القناطير" ثلاثة، و"المقنطرة" تسعة. (٤) وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثيرُ بعضه على بعض، كما:-
٦٧٢٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة:"القناطير المقنطرة من الذهب والفضة"، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.
(٢) نص أبي عبيدة"هو قدر وزن، لا يحدونه"، بإضافة"قدر" إلى"وزن"، وهو كذلك في المخطوطة، ولكن المطبوعة زادت واوًا فجعلته"قدر ووزن".
(٣) في المطبوعة: "على تعنف"، وفي المخطوطة: "على تعنف" غير منقوطة، وأظن صواب قراءتها ما أثبت.
(٤) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ١٩٥ بتصرف، ونصه"والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، كذلك سمعت".
* * *
وقال آخرون: معنى"المقنطرة": المضروبة دراهم أو دنانير.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٢٧ - حدثنا موسى قالى، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"المقنطرة"، فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
* * *
وقد روي عن النبي ﷺ في قوله:"وآتيتم إحداهن قنطارًا" - خبرٌ لو صحّ سندُه، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما:-
٦٧٢٨ - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال، حدثنا زهير بن محمد قال، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) [سورة النساء: ٢٠]، قال: ألفا مئين يعني = ألفين. (١)
* * *
ولكن من شيوخ الطبري: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي الحافظ. روى عنه في: ٢٢ باسم"ابن البرقي". وفي: ١٦٠، باسم"أحمد بن عبد الرحيم البرقي". نسب إلى جده. وفي: ٥٤٤٤، باسم"ابن البرقي". وهو في الرواية الأخيرة يروى عن عمرو بن أبي سلمة، كمثل الرواية التي هنا.
فمن المحتمل أن يكون هو الذي هنا، وأن تكون كتابة"ابن عبد الرحمن" بدلا من"ابن عبد الرحيم" خطأ من الناسخين.
ولكن يعكر عليه اتفاق"بن عبد الرحمن" في رواية ابن أبي حاتم وما ثبت هنا. فإنه يبعد جدًا اتفاق الناسخين على خطأ واحد معين، في كتابين مختلفين، لمؤلفين، ليس أحدهما ناقلا عن الآخر.
فلعل"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" أو "البرقي" - شيخ آخر روى عنه الطبري وابن أبي حاتم لم تقع إلينا ترجمته.
عمرو بن أبي سلمة: مضت ترجمته في: ٥٤٤٤.
زهير بن محمد التميمي الخراساني المروزي: ثقة، وثقه أحمد وغيره.
أبان بن أبي عياش، واسم أبي عياش"فيروز": تابعي روى عن أنس، ولكنه ضعيف. قال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، وكان رجلا صالحًا، ولكن بلى بسوء الحفظ". وقال البخاري: "كان شعبة سيئ الرأي فيه".
ولكن ضعف أبان لا يؤثر في صحة هذا الحديث، لأن زهير بن محمد سمعه منه، وسمعه أيضًا من"حميد الطويل"، وحميد: ثقة، كما مضت ترجمته في: ٣٨٧٧.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٧٨، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "حدثنا حميد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله ﷺ عن قول الله عز وجل: (والقناطير المقنطرة) ؟ قال: القنطار ألفا أوقية". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ووقع في مختصر الذهبي المطبوع مع المستدرك"ألف أوقية" بالإفراد، وهو خطأ مطبعي، وثبت على الصواب في مخطوطة المختصر التي عندي، موافقًا لما في أصل المستدرك.
ونقله ابن كثير ٢: ١١٠ - كما قلنا من قبل - عن رواية ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن الرقي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "أنبأنا حميد الطويل، ورجل آخر قد سماه، يعني يزيد الرقاشي، عن أنس". وفيه: "يعني ألف دينار".
فالرجل الآخر المبهم في رواية الحاكم، يحتمل أن يكون أبان بن أبي عياش، كما في رواية الطبري هذه، ويحتمل أن يكون يزيد الرقاشي، كما في رواية ابن أبي حاتم، ويزيد بن أبان الرقاشي: ضعيف أيضًا، كما مضى في شرح: ٦٦٥٤.
وقد ذكر السيوطي رواية الحاكم، في هذا الموضع من تفسير آية آل عمران ٢: ١٠ وذكر رواية الطبري التي هنا، في موضعها من تفسير الآية: ٢٠ من سورة النساء، الدر المنثور ٢: ١٣٣.
ولفظ الحديث هنا اضطربت فيه النسخ، ففي المطبوعة: "ألفا مئين، يعني ألفين" وذكر مصححها بالهامش أن هذا في بعض النسخ، وأن في بعضها: "ألفًا ومئين". ورواية السيوطي - نقلا عن الطبري: "ألفا ومئتين، يعني ألفين".
والراجح عندي أن هذا كله تحريف، وأن الصحيح اللفظ الذي في رواية الحاكم.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"المسوَّمة".
فقال بعضهم: هى الراعية.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٢٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن
٦٧٣٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله.
٦٧٣١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير مثله.
٦٧٣٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني: السائمة.
٦٧٣٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة القناد قال، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
٦٧٣٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والخيل المسومة". قال: الراعية.
٦٧٣٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،:"والخيل المسومة" المسرَّحة في الرّعي.
٦٧٣٦ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"والخيل المسوّمة، قال: الخيل الراعية.
٦٧٣٧ - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقول: الخيل الراعية.
* * *
وقال آخرون:"المسوّمة": الحسان.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٣٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال: قال مجاهد:"المسوّمة"، المطهَّمة.
٦٧٣٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسومة"، قال: المطهَّمة الحسان.
٦٧٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٧٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة.
٦٧٤٣ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سألت عكرمة عن"الخيل المسوّمة"، قال: تَسويمها، حُسنها. (١)
٦٧٤٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سمعت عكرمة يقول:"الخيل المسوّمة"، قال: تسويمها: الحُسن. (٢)
٦٧٤٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الخيل المسوّمة والأنعام"، الرائعة.
* * *
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى، قال: الراعية.
* * *
وقال آخرون:"الخيل المسوّمة"، المعلَمة.
(٢) الأثر: ٦٧٤٤- في المخطوطة والمطبوعة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ. انظر التعليق السالف.
٦٧٤٦ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والخيل المسوّمة"، يعني: المعلَمة.
٦٧٤٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والخيل المسوّمة"، وسيماها، شِيَتُها. (١)
٦٧٤٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: شِيَة الخيل في وُجوهها.
* * *
وقال غيرهم:"المسوّمة"، المعدّة للجهاد.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٤٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والخيل المسومة"، قال: المعدّة للجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والخيل المسوّمة"، المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسنًا من رآها. لأن"التسويم" في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي"المطهَّمة"، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل:
بِضُمْرٍ كَالقِدَاحِ مُسوَّماتٍ | عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ (٢) |
(٢) ديوانه: ٨٦، من قصيدته حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، وقتلت بنو أسد منهم رجلين، فأراد عيينة بن حصن عون بني عبس، وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان، فقال:ثم أثنى عليهم، وذكر أيامهم، فمما ذكر:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا | فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي |
وَقَدْ زَحَفُوا لِغَسَّانٍ بزَحْفٍ | رَحِيبِ السَّرْبِ أَرْعَنَ مُرْجَحِنِّ |
بِكُلِّ مُحَرَّبٍ كاللَّيْثِ يَسْمُو | عَلَى أوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ |
وضُمْرٍ كَالقِدَاحِ..... | ................... |
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ | زُجَلا يُلُوحُ خِلالَهَا التَّسْوِيمُ (١) |
* * *
وأما قول من تأوّله بمعنى: الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل:"أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة"، إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله
إنِّي امْرُءٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ | ضَيْمِى، وقد جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ |
جَهَدُوا العَدَاوةَ كُلَّها، فأَصَدَّها | عِّني مَنَاكِبُ عِزُّها مَعْلُومُ |
حُوَيٌّ، والذُّهابُ، وقَبْلَهُ | يَوْمٌ بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ كَرِيمُ |
وغَدَاةَ قَاعِ القُرْنتين...... | .................. |
مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كآخَرَ مِثْلِهِ، | أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الأجْمَالِ! (١) |
* * *
* * *
وأما الذي قاله ابن زيد: من أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى"المسوّمة"، بمعزِلٍ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾
قال أبو جعفر: فـ" الأنعام" جمع"نَعَم"، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه: من الضّأن والمعِز والبقر والإبل. (١)
* * *
وأما"الحرث"، فهو الزّرع. (٢)
* * *
وتأويل الكلام: زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن كذا، ومن كذا، ومن الأنعام والحرث.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جَل ثناؤه:"ذلك"، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة
(٢) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف ٤: ٢٤٠-٢٤٣، ٣٩٧.
* * *
وأما قوله:"متاع الحياة الدنيا"، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً، فيتبلَّغون به فيها، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم، وسببًا لقضاء شهواتهم، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم، (١) دون أن تكون عدّة لمعادهم، وقُرْبة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلِك في سبيله، وأنفق منه فيما أمَر به. (٢)
* * *
وأما قوله:"والله عنده حسن المآب"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حُسن المآب = يعني: حسن المرْجع، كما:-
٦٧٥٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي:"والله عنده حسن المآب"، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة.
* * *
= وهو مصدر على مثال"مَفْعَل" من قول القائل:"آب الرجل إلينا"، إذا رجع،"فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا"، (٣) غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من"الواو" إلى"الألف" بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، (٤) وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت"ألفا"، كما قيل:"قال" فصارت عين الفعل"ألفًا"، لأن حظها الفتح."والمآب" مثل"المقال" و"المعاد" و"المجال"، (٥)
(٢) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف ١: ٥٣٩، ٥٤٠ / ثم ٣: ٥٥ / ثم ٥: ٢٦٠.
(٣) "أيبة" بفتح الهمزة وكسرها وسكون الياء، وهي على المعاقبة من الواو.
(٤) في المخطوطة: "قلنا كان حظها... " وهي من لطائف صاحبنا غفر الله له.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "المحال" بالحاء، والصواب ما أثبت.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"والله عنده حسن المآب"، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب؟
قيل: إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس، ومعنى ذلك: (١) والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها.
* * *
فإن قال: وما"حسن المآب"؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: قل، يا محمد، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه:"أؤنبئكم"، أأخبركم وأعلمكم (٢) ="بخير من ذلكم"، يعني: بخير وأفضل لكم ="من
(٢) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف ١: ٤٨٨، ٤٨٩.
* * *
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام.
فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله:"من ذلكم"، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم، فقيل:"للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، فلذلك رفع"الجنات".
* * *
ومن قال هذا القول لم يجز في قوله:"جنات تجري من تحتها الأنهار" إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله:"بخير"، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى"الخير" الذي أمر الله عز وجل نبيه ﷺ أن يقول: للناس: أؤنبئكم به؟ "والجنات" على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله:"للذين اتقوا عند ربهم".
* * *
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله:"للذين" من صلة"الإنباء"، جاز في"الجنات" الخفض والرفع: الخفضُ على الرد على"الخير"، والرفع على أن يكون قوله:"للذين اتقوا" خبرَ مبتدأ، على ما قد بيَّناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله:"عند ربهم"، ثم ابتدأ:"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار". وقالوا: تأويل الكلام:"قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم"، ثم كأنه قيل:"ماذا لهم". أو:"ما ذاك"؟ (١) فقال: هو"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار"، الآية.
* * *
* * *
ومعنى قوله:"للذين اتقوا"، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (٣) ="عند ربهم"، يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم.
* * *
"والجنات"، البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى = وأنّ قوله:"تجري من تحتها الأنهار"، يعني به: من تحت الأشجار، وأن"الخلود" فيها دوام البقاء فيها، وأن"الأزواج المطهرة"، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل
(٢) عند هذا انتهى آخر جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وأما قوله: ﴿خالدين فيها﴾ فمنصوب على القطع.
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطاهرين وسَلّم كثيرًا"
ويتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم".
"القطع"، يعني: الحال، كما بينت في ٢: ٣٩٢، والمراجع هناك، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. ثم انظر ما سيأتي: ص ٢٧٠، تعليق: ٣.
(٣) انظر تفسير"اتقى" في فهارس اللغة مادة"وقى".
* * *
وقوله:"ورِضْوَانٌ من الله"، يعني: ورضى الله، وهو مصدر من قول القائل:"رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى" منقوص"ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً". فأما"الرُّضوان" بضم الراء، فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير = رضْوانَه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة، كما:-
٦٧٥١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثني أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون: أيْ ربنا، أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (٢)
* * *
وقوله:"والله بصير بالعباد"، يعني بذلك: واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه، (٣) فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى
(٢) الأثر: ٦٧٥١- هذا خبر غير مرفوع، ولكن شاهده من المرفوع ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك! قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدًا".
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى حديث جابر في الفتح ١١: ٣٦٤، وقال: عند البزار وصححه ابن حبان". ولم أجد لفظه.
(٣) انظر تفسير"بصير" فيما سلف ٢: ١٤٠، ٣٧٦، ٥٠٦ / ثم ٥: ٧٦، ١٦٧.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [الذين] يقولون:"ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار".
* * *
وقد يحتمل"الذين يقولون"، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على"الذين" الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها"الذين" الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) [سورة التوبة: ١١١]، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [سورة التوبة: ١١٢]. ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا. (١)
* * *
ومعنى قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا": الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها ="وقنا عذاب النار"،
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
* * *
وأصل قوله:"قنا" من قول القائل:"وقى الله فلانًا كذا"، يراد: دفع عنه،"فهو يقيه". فإذا سأل بذلك سائلٌ قال:"قِنِى كذا". (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"الصابرين"، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ"الصادقين"، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ"القانتين"، المطيعين له.
* * *
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-
٦٧٥٢ - حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
(٢) انظر تفسير"الصابرين" فيما سلف ٢: ١١ / ثم ٣: ٢١٤، ٣٤٩ = وتفسير"الصادقين" فيما سلف ٣: ٣٥٦ = وتفسير"القانتين" فيما سلف ٢: ٥٣٨، ٥٣٩ / ثم ٥: ٢٢٨-٢٣٧.
* * *
وأما"المنفقون"، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (١)
* * *
وأما"الصابرين" و"الصادقين"، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا"، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله:"الذين يقولون" خفض، ردًّا على قوله:"للذين اتقوا عند ربهم". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٥٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، هم أهل الصلاة.
٦٧٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: يصلون بالأسحار.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٩٩.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٥٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (١)
٦٧٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
٦٧٥٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
٦٧٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.
* * *
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
٦٧٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، (١) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ"المستغفرين بالأسحار"، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله:"والمستغفرين بالأسحار"، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
* * *
="بالأسحار" وهى جمع"سَحَر".
* * *
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم.
=فـ"الملائكة" معطوف بهم على اسم"الله"، و"أنه" مفتوحة بـ"شهد".
* * *
قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله:"شهد الله"، قضى الله، ويرفع"الملائكة"، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم. (٢)
* * *
(٢) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٨٩، ولم يسمه الطبري، بل قال"بعض البصريين". وانظر رد الطبري قوله في ص: ٢٧٢.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إنّ" الثانية، أعني من قوله:
(٢) هو الكسائي، انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٠ وتفسير القرطبي ٤: ٤٢، ٤٣.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٩٩-٢٠٠.
* * *
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح"أنّ" من قوله:"أنّ الدين"، وهو ما:-
٦٧٦٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، (١) قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام.
* * *
فهذا التأويل يدل على أن"الشهادة" إنما هي عاملة في"أنّ" الثانية التي في قوله:"أن الدين عند الله الإسلام". فعلى هذا التأويل جائز في"أن" الأولى وجهان من التأويل: (٢)
= أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد = فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ="والشهادة" عاملة في"أن" الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم"لأنه واحد"، فتفتحها على ذلك التأويل.
= والوجه الثاني: أن تكون"إنّ" الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد
(٢) في المطبوعة: "في أن في الأولى وجهان"، أما المخطوطة فقد وضع فوق"أن""في" صغيرة. كأنه أراد: "جائز في الأولى"، بحذف"أن"، لأنه لم يضع علامة تدل على الزيادة. فلذلك أسقطتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قائمًا بالقسط"، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.
* * *
"والقسط"، هو العدل، من قولهم:"هو مقسط" و"قد أقسط"، إذا عَدَل. (٢)
* * *
ونصب"قائمًا" على القطع. (٣)
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من"هو" التي في"لا إله إلا هو".
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم"الله" الذي مع قوله:"شهد الله"، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: (وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ)، ثم حذفت"الألف واللام" من"القائم"، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، (٤)
(٢) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: ٧٧.
(٣) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: ٢٦١. تعليق: ٣. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن ١: ٢٠٠ إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.
(٤) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: ٢٦١. تعليق: ٣. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن ١: ٢٠٠ إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. (١)
* * *
ويعني ب"العزيز"، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه (٢) ="الحكيم" في تدبيره، فلا يدخله خَلل. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله ﷺ في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.
(٢) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف ٣: ٨٨ / ثم هذا ص: ١٦٨، ١٦٩ وفهارس اللغة (عزز).
(٣) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف ٣: ٨٨، وفهارس اللغة (حكم).
* * *
واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، (٤) كما قال جل ثناؤه: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [سورة الأنفال: ٤١]، افتتاحًا باسمه الكلام، (٥) فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.
* * *
فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله:"شهد"، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن"الشهادة"، معنًى،"والقضاء" غيرها. (٦)
* * *
(٢) سياق الكلام: فأعلمهم أن ملائكته... وأهل العلم منهم، منكرون...".
(٣) قوله: "وقول من اتخذ ربًا غيره..." بنصب"وقول" عطفًا على قولهم"ما هم عليه مقيمون"، وهو مفعول به لقوله: "منكرون".
(٤) في المطبوعة: "على ما نبينه"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها.
(٥) معنى ذلك: أن ذكر"الله" في آية الأنفال هذه، إنما هي افتتاح كلام، قال أبو جعفر في تفسيرها (١٠: ٣ بولاق) :"قال بعضهم: قوله: "فأن الله خمسه" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما. وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه". وهذا القول هو الذي رجحه الطبري في تفسير الآية هناك.
(٦) هذا رد على مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن، كما سلف في ص: ٢٦٧ تعليق: ٢.
٦٧٦١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم"، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى ="قائمًا بالقسط"، أي بالعدل. (١)
٦٧٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط"، بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى"الدين"، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر: (٢)
وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى رَبِيعَةَ كلَّها | وكَفَيْتَ كُلَّ مُواِكلٍ خَذّالِ |
كَزْمِ اليَدَيْنِ عَنِ العَطِيَّةِ مُمْسِكٍ | لَيْسَتْ تَبِضُّ صَفَاتُهُ ببِلالِ |
كابنِ البَزِيَعةِ، أو كآخَرَ مِثْلِه، | أَوْلَى لك ابْنَ مُسِيَمةِ الأَجْمَالِ! |
إِنَّ اللَّئِيمَ إذَا سَأَلْتَ بَهَرْتَهُ | وترَى الكَرِيمَ يَرَاحُ كالمُخْتَالِ |
وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّ | وَكَانَ النَّاسُ، إِلا نَحْنُ دِينَا (٣) |
(٢) لم أعرف قائله بعد.
(٣) سيأتي في التفسير ٢٦: ١١٥ (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين)، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت، ولم أعرف"يوم الحزن"، ما أراد به. وأظن"حشدت"، "حشرت" من"الحشر"، والبيت الذي يليه:
عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ، حتَّى | صَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَا |
وفي الطبري هناك"صحبنا" وهو خطأ. و"صبحنا"، من قولهم: "صبح القوم شرًا" أي جاءهم به، و"صبحتهم الخيل"، جاءتهم صبحًا. و"ألفًا" يعني: ألف فرس عليها فرسانها. و"المعلم": الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان، أو جعل على فرسه علامة، فهو فرس معلم. يريد: غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري"حرمة الجبار"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء، كما أسلفت.
كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (١)
يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ | ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (٢) |
* * *
وكذلك"الإسلام"، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه:"أسلم" بمعنى: دخل في السلم، كما يقال:"أقحط القوم"، إذا دخلوا في القحط،
رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ، بَعْدَ ما | كانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا |
تجزيك". وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌ | شَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَا |
فَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ، فَلاَ تُجِبْ | فَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَا |
نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةً | وعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَا |
وَإذَا وَعَدْنَ، فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍ | خُلْفًا، وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَا |
وَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً، | فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا! |
(٢) مضى بيان هذا البيت فيما سلف ٣: ٥٧١.
* * *
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله:"إنّ الدّين عند الله الإسلام": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (٢)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٦٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الدين عندَ الله الإسلام"، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، (٣) وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.
٦٧٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله:"إن الدين عند الله الإسلام"، قال:"الإسلام"، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له،
(٢) في المطبوعة: "في العبودية والألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص: ٢٧١، تعليق: ١. و"الألوهة، والإلاهة، والألوهية": العبادة، وانظر ما سلف ١: ١٢٤ وما قبلها.
(٣) قوله: "بما جاء به"، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، ولا تتم شهادة إلا به، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور ٢: ١٢، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ.
٦٧٦٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أَسْلَمْنَا) [سورة الحجرات: ١٤]، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب. (١)
٦٧٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الدين عند الله الإسلام"، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو"الكتاب" الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض ="إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم"، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (٣) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ
(٢) الأثر: ٦٧٦٦ - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق ٢: ٢٢٧، وأسقط"من" من قوله: "من التوحيد". وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٦١.
(٣) انظر تفسير"البغي" فيما سلف ٢: ٣٤٢ / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف ٤: ٢٨١، ٢٨٢.
٦٧٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم ="بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.
٦٧٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية:"إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، (١) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.
٦٧٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، (٢) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى
(٢) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا، وفي الدر المنثور ٢: ١٣، كأنه قال: استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها.
* * *
فقولُ الربيع بن أنس هَذا، (١) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب"، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم. (٢)
* * *
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٧٠ - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم"، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك ="بغيًا بينهم"، يعني بذلك النصارى. (٣)
* * *
(٢) قوله: "دون النصارى منهم" معناه: دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله: "وغيرهم"، أي: ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم ٦٧٦٨. وكان في المطبوعة: "دون النصارى منهم ومن غيرهم"، وهي جملة لا يستقيم معناها، فحذفت"من" لذلك.
(٣) الأثر: ٦٧٧٠- رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق ٢: ٢٢٧، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٦٦، وقوله: "يعني بذلك النصارى"، ليس في ابن هشام، وكأنه من تفسير الطبري للخبر.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه"سريع الحساب"، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"سريع الحساب"، كان مجاهد يقول:
٦٧٧١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب"، قال: إحصاؤه عليهم.
٦٧٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، إحصاؤه.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، (١) فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. (٢)
* * *
وأما قوله:"ومن اتبعني"، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و"من" معطوف بها على"التاء" في"أسلمت"، كما:-
٦٧٧٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فإن حاجُّوك" أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم:"خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا"، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق ="فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني". (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف ٢: ٥١٠-٥١٢، وتفسير"الإسلام" في مراجعه التي ذكرتها آنفًا ص: ٢٧٥ تعليق: ١.
(٣) الأثر: ٦٧٧٣ - رواه ابن هشام في سيرته ٢: ٢٢٧، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٧٠.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وقل"، يا محمد، = للذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى ="والأميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ="أأسلمتم"، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، (١) وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه ="فإن أسلموا"، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له ="فقد اهتدوا"، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. (٢)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فإن أسلموا فقد اهتدوا" عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل:"هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك"؟
قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة: ٩١]، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [سورة المائدة: ١١٢]، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل:"هل أنت
(٢) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف في فهارس اللغة. وتفسير"الأميين" فيما سلف: ٢٥٧-٢٥٩، والأثر رقم: ٥٨٢٧، وفي كلام الطبري نفسه ٥: ٤٤١، تعليق: ٢.
* * *
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل:
٦٧٧٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، الذين لا كتاب لهم ="أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا" الآية. (٣)
٦٧٧٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، قال: الأميون الذين لا يكتبون.
* * *
(٢) هذا نص ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٢.
(٣) الأثر: ٦٧٧٤- ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق ٢: ٢٢٧، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٧٣.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن تولوا"، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، (١) فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي ="والله بصيرٌ بالعباد"، (٢) يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (٣) "إن الذين يكفرون بآيات الله"، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:-
٦٧٧٦ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا،
(٢) انظر تفسير"بصير بالعباد" فيما سلف آنفًا: ٢٦٢. والمراجع في التعليق: ٣.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناءه" والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
وأما قوله:"ويقتلون النبيين بغير حقّ"، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ)، بمعنى القتل.
* * *
وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: (وَيُقَاتِلُونَ)، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: (وَقَاتَلُوا)، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: (وَيُقَاتِلُونَ).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه:"ويقتلون"، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، (٣) مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.
(٢) انظر تفسير"يقتلون النبيين بغير الحق" فيما سلف ٢: ١٤٠-١٤٢.
(٣) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وهي عبارة لا أرتضيها، وأظن صوابها"لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به". وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٢ في بيان قراءة الكسائي هذه.
٦٧٧٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [قومهم]- ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، (١) فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
٦٧٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم.
٦٧٧٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، (٢) فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
٦٧٨٠ - حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟
(٢) قوله: "كان ناس من بني إسرائيل... كان الوحي يأتي إليهم" بحذف خبر"كان" الأولى، عبارة فصيحة محكمة في العربية، قد نبهت إلى مثلها مرارًا فيما سلف.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه.
* * *
(٢) الأثر: ٦٧٨٠-"أبو عبيد الوصابي: محمد بن حفص الحمصي" مضت ترجمته برقم: ١٢٩ (وانظر ما سيأتي رقم: ٧٠٠٩)، وكان هناك في الإسناد"حدثني أبو عبيد الوصابي، قال حدثنا محمد بن حفص" فرجح أخي السيد أحمد أن يكون خطأ، وقد أصاب، وكان الأجود حذف"قال حدثنا" من ذلك الإسناد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر" والصواب من تفسير ابن كثير ٢: ١١٨."وابن حمير" هو: "محمد بن حمير بن أنيس القضاعي"، روى عن إبراهيم عن أبي عبلة، ومحمد بن زياد الألهاني، ومعاوية بن سلام وغيرهم. سئل عنه أحمد فقال: "ما علمت إلا خيرًا"، وقال ابن معين: "ثقة" وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وكان في المطبوعة: "ابن حميد" بالدال، وهو خطأ، صوابه من ابن كثير، والبغوي بهامشه: ٢: ١١٨. وهو مترجم في التهذيب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذكر أبا عبيد الوصابي هذا فقال: "أدركته وقصدت السماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". أما "أبو الحسن مولى بني أسد"، فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان ٦: ٣٦٤ قال؛: "أبو الحسن الأسدي" حدثنا عنه أبو كريب. مجهول، انتهى. ولم ينفرد عنه أبو كريب، بل روى عنه محمد بن حمير. وقال في روايته"مولى بني أسد، عن مكحول"، أخرج حديثه الطبري وابن أبي حاتم، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه". هذا وقد خرجه البغوي من طريق محمد بن عمرو بن حنان الكلبي، عن محمد بن حمير" (بهامش تفسير ابن كثير ٢: ١١٨).
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فبشِّرهم بعذاب أليم"، فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع. (١)
* * *
وأما قوله:"أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم ="الذين حبطت أعمالهم"، يعني: بطلت أعمالهم (٢) ="في الدنيا والآخرة". فأما في الدنيا، (٣) فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
* * *
وأما قوله:"وما لهم من ناصرين"، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه. (٤)
* * *
(٢) انظر تفسير"حبط" فيما سلف ٤: ٣١٧.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "فأما قوله: في الدنيا... "، وحذفت قوله، لأني أرجح أنها سبق قلم من الناسخ، لأن سياق كلامه وسياق قوله بعد: "وأما في الآخرة" يقتضي حذفها.
(٤) انظر معنى"نصر" فيما سلف ٢: ٣٥، ٣٦، ٤٨٩، ٥٦٤ / ثم ٥: ٥٨١.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد (١) ="إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب ="يدْعون إلى كتاب الله". (٢)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي عنى الله بقوله:"يدعون إلى كتاب الله".
فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٨١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله ﷺ بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، (٣) والحارث
(٢) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف ٤: ٢٠٦.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "نعيم بن عمرو" وكذلك جاء في تفسير القرطبي ٤: ٥٠، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) ٢: ١١٩، ولكن الذي جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته ٢: ٢٠١، "نعمان بن عمرو"، وكذلك جاء ذكره قبل ذلك في أعداء رسول الله ﷺ من سيرة ابن هشام ٢: ١٦١، وكذلك جاء أيضًا فيما أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ١٤، ونسبه إلى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!!
٦٧٨٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس = فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة (٢) = وقال أيضًا: فأنزل الله فيهما:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" = وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. (٣)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله ﷺ ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٨٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم
(٢) "فهلما"، يعني بالتثنية، وأما الرواية السالفة"فهلموا" جميعًا. وجاء في مطبوعة سيرة ابن هشام ٢: ٢٠١"فهلم" مفردة، وهو خطأ، فإن النسخة الأوروبية من سيرة ابن هشام، التي نشرت عنها طبعة الحلبي هذه، نصها"فهلما". فوافقت رواية الطبري. فهذا تحريف آخر من الطابعين!! وانظر إلى دقة أبي جعفر الطبري في إثبات الاختلاف اليسير في الرواية، وإلى استخفاف الناشرين من أهل دهرنا في إهمال ما هو مكتوب مرقوم بين أيديهم وتحت أبصارهم!!
(٣) الأثران: ٦٧٨١، ٦٧٨٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٠١، وتفسير القرطبي ٤: ٥٠، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) ٢: ١١٩، والدر المنثور ٢: ١٤.
٦٧٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون!
٦٧٨٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم"، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. (١) وكان النبي ﷺ يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود = الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله ﷺ في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة = أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، (١) فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، (٢) هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.
* * *
ومعنى قوله:"ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، (٣) ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم. (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة: "الذي دعوا إليه جملته"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "الذي دعوا إلى حمله" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، لأن الآية دالة عليه، وذلك قوله تعالى: "يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم" ولأن السياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي، بعد، س: ١٣ ما يدل على صواب ذلك أيضًا.
(٣) انظر معنى"التولي" فيما سلف ص: ١٤٤ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر معنى"الإعراض" فيما سلف ٢: ٢٩٨، ٢٩٩.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) ﴾
يعني جل ثناؤه بقوله:"بأنهم قالوا"، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: (١) "لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات" = وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل (٢) = ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم ="بما كانوا يفترون"، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. (٣) فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا ﷺ أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.
* * *
(٢) انظر تفسير قولهم: "لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة" فيما سلف ٢: ٢٧٤-٢٧٨.
(٣) التحلة (بفتح التاء وكسر الحاء، وتشديد اللام المفتوحة) : هو ما تكفر به يمينك. ويقال: "لم يفعل هذا الأمر إلا تحلة القسم": أي لم يفعله إلا بمقدار ما يحلل به قسمه ويخرج منه، غير مبالغ في ذلك الفعل. والمعنى: أن النار لا تمسهم إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف.
ذكر من قال ذلك:
٦٧٨٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا = قال الله عز وجل:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، أي قالوا:"نحنُ أبناء الله وأحباؤه".
٦٧٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود = قال: وقال قتادة مثله = وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل:"وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، حين قالوا:"نحن أبناد الله وأحباؤه".
٦٧٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، قال: غرّهم قولهم:"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات".
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فكيف إذا جمعناهم"، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله:"فكيف إذا جمعناهم" الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا. (١)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه"، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟
قيل: لمخالفة معنى"اللام" في هذا الموضع معنى "في". وذلك أنه لو كان مكان"اللام""في"، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول"اللام"، ولكن معناه مع"اللام": فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع"اللام" في"ليوم لا ريب فيه" نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد
* * *
وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
وعنى بقوله:"ووُفِّيت"، ووَفَّى الله ="كلُّ نفس ما كسبت"، يعني: ما عملت من خير وشر (٤) ="وهم لا يظلمون"، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾
قال أبو جعفر: أما تأويل:"قل اللهم"، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب"ميم""اللهم"، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ = وفي دخول"الميم" فيه، وهو في الأصل"الله" بغير"ميم".
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٢، ٢٠٣، وعبارته هناك."تقول في الكلام: جمعوا ليوم الخميس، وكأن اللام لفعل مضمر في"الخميس"، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس = لم تضمر فعلا. وقوله: جمعناهم ليوم لا ريب فيه = أي للحساب والجزاء".
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٢٨، ٣٧٨ / ثم ٦: ٢٢١.
(٤) انظر تفسير"كسب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ٣: ١٠١، ١٢٨ / ٤: ٤٤٩ / ٦: ١٣١.
* * *
أما قوله: "وهم"، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠٣، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن، فإذا هي كذلك"وهم"، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها، فعلقوا بما نصه: (كأنه يريد"هم" الضمير، وأصلها"هوم"، إذ هي جمع"هو"، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر)، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي: (قوله: "ودم" كذا في النسخ، والكلمتان دم، وهم، لعلهما محرفتان عن: ابنم، ودلهم، أو دلقم، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم، وذكرها السيوطي في المزهر ٢: ١٣٥).
والذي قاله ناشرو معاني القرآن، لا يقوم، لأن الميم في هم، وإن كانت زائدة من وجه، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في"فم" و"ابنم"، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن"دلهم أو دلقم"، فليس بشيء، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه، وعجيب أن يتفق تصحيفها، وتصحيف نسختين من معاني القرآن، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها، وقد استقصيت أمرها ما استطعت، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه، وفوق كل ذي علم عليم.
(٢) "زرقم، وستهم" (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله، زيدت الميم في آخره. وكذلك"رجل ستهم وامرأة ستهم": أسته، وهو العظيم الاست، الكبير العجز، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة:
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا... صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (٢)
ويُرْوَى:"سبَّحت أو كبَّرت". قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه"الميم" إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل:"الفم، وابنم، وهم"، (٣) قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها"أمَّ"، بمعنى:"يا ألله أمَّنا بخير"، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في"الهاء" من همزة"أم"، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب:"هلم إلينا"، مثلها. إنما كان"هلم"،"هل" ضم إليها"أمّ"، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح"الميم":"يا اللهُ اغفر لي" و"يا أللهُ اغفر لي"، بهمز"الألف" من"الله" مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها"ألف ولام"، مثل"الألف واللام" اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف،
(٢) لم يعرف قائله، والأبيات في معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٣، والجمل للزجاجي: ١٧٧ والإنصاف: ١٥١، والخزانة ١: ٣٥٩، واللسان (أله) وغيرها من كتب العربية والنحو، ومختلف من روايته، وجاءوا به شاهدًا على زيادة"ما" بعد"ياللهم" فروايته عند بعضهم"يا اللهم ما"، وبعد الأبيات زيادة زادها الكوفيون: مِنْ حَيْثُمَا وَكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا... فإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نَعْدَمَا
(٣) في المطبوعة: "مثل فم ودم وهم"، وأثبت نص المخطوطة، وهو موافق لنص الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠٣، وهو نص كلامه.
لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ | وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ |
مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ | عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (١) |
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح | يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (٣) |
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
(٢) هو الأعشى.
(٣) ديوانه: ١٩٣، ومعاني القرآن ١: ٢٠٣، والخزانة ١: ٣٤٥، واللسان (أله)، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر، وكانت بينه وبينهم نائرة، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة:أودى بها: أهلكها وذهب بها. وقوله: "فلما أن تآدوا" من قولهم: "تآدى القوم تآديًا وتعادوا تعاديًا": تتابعوا موتًا. وأصله من آدى الرجل: إذا كان شاك السلاح قد لبس أداة الحرب، يعني أخذوا أسلحتهم فتقاتلوا حتى تفانوا. ومن شرح البيت"تآدوا" بمعنى تعاونوا وكثروا، فقد أخطأ، وذهب مذهبًا باطلا. يقول: لما هلكت إرم ودعاد، أتت على آثارهم ثمود، و"قدار" هو عاقر الناقة من ثمود فسموا القبيلة باسمه، إذ كان سببًا في هلاكهم إذ دمدم عليهم ربهم فسواها. وأبو رياح (بياء تحتية) رجل من بني ضبيعة، كان قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة جارًا لهم، فسألوه أن يحلف، أو يعطي الدية؛ فحلف لهم، ثم قتل بعد حلفته. فضربته العرب مثلا لما لا يغني من الحلف. وفي المطبوعة"رباح" بالباء الموحدة، وهو خطأ، وهذا البيت الأخير، جاء في هذا الموضع من الشعر في ديوانه، ولكن الأرجح ما رواه أبو عبيدة في قول الأعشى لبني جحدر:
أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا | أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ |
بَادُوا، فلمَّا أنْ تآدَوْا | قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ |
كَحَلْفةٍ.......... | ................... |
أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ | إِلاّ عِرَارًا، فَذَا عِرَارُ |
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-
٦٧٨٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"قل اللهم مالك الملك"، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك. (٣)
* * *
وأما قوله:"تؤتي الملك ممن تشاء"، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله:"وتنزع الملك من تشاء"، يعني: وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، (٤)
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يسمعها الله والكبار"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٣، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة: "يسمعها الواحد الكبار".
(٣) الأثر: ٦٧٨٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٧، ونصه: "أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره"، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٧٧٦.
(٤) سقط من المطبوعة: "يعني: وتنزع الملك ممن تشاء"، فأثبتها من المخطوطة.
* * *
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (٢)
ذكر من قال ذلك:
٦٧٩٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله ﷺ سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى"إنك على كل شيء قدير".
٦٧٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله ﷺ سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.
* * *
وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى"الملك" في هذا الموضع: النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
٦٧٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، قال: النبوّة.
(٢) انظر تفسير"الملك" فيما سلف ١: ١٤٨، ١٤٩ / ٢: ٤٨٨ / ٥: ٣١٢، ٣١٥، ٣٧١.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وتعز من تشاء"، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له ="وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه ="بيدك الخير"، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-
٦٧٩٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"تؤتي الملك من تشاء"، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (١) ="إنك على كل شيء قدير"، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٦٧٩٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٧ وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٨٩.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تولج" تُدْخل، يقال منه:"قد ولَج فلان منزله"، إذا دخله،"فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً" (١) - و"أولجته أنا"، إذا أدخلته.
* * *
ويعني بقوله:"تولج الليل في النهار" تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا ="وتولج النهارَ في الليل"، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:-
٦٧٩٥ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل"، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.
٦٧٩٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. (٢)
٦٧٩٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في
(٢) الأثر: ٦٧٩٨-"حفص بن عمر العدني"، مترجم في الكبير ١ / ٢ / ٣٦٢، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ١٨٢. وقد مضى هذا الإسناد برقم: ٥٣٣، ١٤٠٦، وسيأتي أيضًا برقم: ٦٨١٤، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حفص عن عمر"، وهو خطأ.
٦٧٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات.
٦٧٩٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
٦٨٠٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر.
٦٨٠١ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
٦٨٠٢ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، (٢) سمعت الضحاك يقول في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.
(٢) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ".
ذكر من قال ذلك:
٦٨٠٤ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
٦٨٠٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.
٦٨٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٨٠٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.
٦٨٠٩ - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله."تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة. (١)
٦٨١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.
٦٨١١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ" الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك = قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة. (٢)
(٢) الأثر: ٦٨١١-"يزيد بن عويمر"، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف لم أهتد إليه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض".
ذكر من قال ذلك.
٦٨١٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله:"تخرج الحي من الميت"، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ.
٦٨١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله."تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن".
ذكر من قال ذلك:
٦٨١٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.
٦٨١٩ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن. (٢)
٦٨٢٠ - حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود = وأكبر ظني أنه عن سلمان = قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، (٣) فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، (٤) فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (٥)
(٢) الأثر: ٦٨١٩-"سعيد بن عمرو"، لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون سقط من إسناده شيء، وأن صوابه"عبد الوارث بن سعيد، عن... ". وعبد الوارث مترجم فيما سلف رقم: ٢١٥٤.
(٣) في المخطوطة: "ثم قال بعده فيه"، خطأ؛ وقوله: "قال بيده"، أي حرك يده.
(٤) في المخطوطة-: "ثم خلط بينهما وقال... فمن ثم يخرج"، وبين الكلام بياض، وأتمته المطبوعة من الدر المنثور.
(٥) الأثر: ٦٨٢٠-"بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي" من شيوخ أحمد وإسحاق. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". مترجم في التهذيب. و"سليمان التيمي"، هو: "سليمان بن طرخان التيمي"، روى عن أنس بن مالك وطاوس، ثقة. مترجم في التهذيب."وأبو عثمان" هو"أبو عثمان الصنعاني: شراحيل بن مرثد"، روى عن سلمان وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة وكعب الأحبار. قال ابن حبان في الثقات: "صاحب الفتوح، يروي المراسيل" وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٥، ونسبه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وأبو الشيخ في العظمة، (أخرج مثله، ونسبه لابن مردويه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
٦٨٢٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك. (٥)
* * *
(٢) في المطبوعة: "بهذه البلد"، وتاء"البلدة" في المخطوطة شبكت في دالها، واختلطت بها لام"لغرائب"، والذي أثبته هو نص ما في الإصابة، وفي ابن سعد"بهذه الأرض".
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "خلدة ابنة الأسود"، وأخشى أن يكون أصلها"خالدة" كما في سائر الكتب، ورسمت بحذف الألف كما كانوا يكتبون قديمًا. وهي خالة رسول الله ﷺ لأنها: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم"آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فهو أخت يغوث بن وهب. أما الأسود بن يغوث، فهو أحد المستهزئين حنى جبريل ظهره، ورسول الله ﷺ ينظر، فقال رسول الله: "خالي! خالي! "، فقال جبريل: "دعه عنك! "، فمات الأسود.
(٤) الأثر: ٦٨٢١- رواه ابن سعد في الطبقات ٨: ١٨١، وذكر طرقه الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"خالدة بنت الأسود".
(٥) الأثر: ٦٨٢٢-"محمد بن سنان الفزاز" سلفت ترجمته برقم: ١٩٩٩، ٢٠٥٦، و"أبو بكر الحنفي"، هو"عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك البصري"، روى عنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن بشار، ثقة. مترجم في التهذيب."وعباد بن منصور الناجي"، روى عن عكرمة، وعطاء والحسن، والقاسم بن محمد وغيرهم. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر رقم: ٦٨٢٧ فيما يلي.
وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة: ٢٨].
* * *
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن = فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالتشديد، وتثقيل"الياء" من"الميت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت.
* * *
* * *
وذلك أن"الميِّت" مثقل"الياء" عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات.
وأما"الميْت" مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا:"إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون". وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال:"هو الجائد بنفسه = والطائبة نفسه بذلك"، وإذا أريد معنى الاسم قيل:"هو الجوادُ بنفسه = والطيِّبة نفسه". (١)
* * *
قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد"الياء" من"الميِّت". لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل ="ويخرج الميِّت من الحيّ" النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، (١) بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، (٢) كما:-
٦٨٢٣ - حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وترزق من تشاء بغير حساب"، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، (٣) أو أنه لك ولدٌ = وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:-
٦٨٢٤ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهارَ في الليل وتخرجُ الحيّ من الميِّت وتخرج الميِّت من الحيّ"، أي: بتلك القدرة = يعني: بالقدرة التي تؤتي
(٢) انظر تفسير"بغير حساب" فيما سلف ٤: ٢٧٤، ٢٧٥.
(٣) في المطبوعة: "واتخذوه" والصواب من المخطوطة.
* * *
(٢) في المطبوعة: "كتمليك الملوك"، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(٣) في ابن هشام: "بأمر النبوة".
(٤) في المطبوعة: "فلم يكن"، وأثبت ما في ابن هشام وفي مطبوعة الحلبي من السيرة"أفلم تكن" من إحدى نسخه، وهي جيدة. وفي مطبوعة الطبري: "إذ لو كان إلهًا... "، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(٥) الأثر: ٦٨٢٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٧، ٢٢٨، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٩٤.
قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر"يتخذِ"، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر"الذال" منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. (١)
* * *
ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، (٢) وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك ="فليس من الله في شيء"، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ="إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:-
٦٨٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاةً".
(٢) انظر تفسير"الولي" و"الأولياء" فيما سلف ٢: ٤٨٩، ٥٦٤ / ثم: ٥: ٤٢٤ / ٦: ١٤١، ١٤٢ = والقول في"من دون" فيما سلف ٢: ٤٨٩.
٦٨٢٧ - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين. (٣)
٦٨٢٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، أما"أولياء" فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه = إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين.
٦٨٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان،
(٢) الأثر: ٦٨٢٦- لم أجده في سيرة ابن هشام التي بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق. وقوله: "بطنوا بنفر من الأنصار"، يقال: "بطن فلان بفلان يبطن بطونًا وبطانة" إذا كان خاصًا به، ذا علم بداخلة أمره، مؤانسًا له، مطلعًا على سره، ومنه المباطنة.
(٣) الأثر: ٦٨٢٧- انظر التعليق عل الأثر السالف رقم: ٦٨٢٢.
٦٨٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله.
٦٨٣١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة. (١)
٦٨٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٨٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل.
٦٨٣٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان.
٦٨٣٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة
* * *
وقال آخرون: معنى:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.
ذكر من قال ذلك:
٦٨٣٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله:"إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، (١) الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.
٦٨٣٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء"، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك.
٦٨٣٨ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة= فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، على تقدير"فُعَلة" مثل:"تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة"، من"اتقيت".
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً)، على مثال"فعيلة".
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها:"إلا أن تتقوا منهم تُقاة"، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب = (١) يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ="إن تخفوا ما في صدوركم" من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه ="يعلمه الله"، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:-
٦٨٣٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال:"إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه".
* * *
وأما قوله:"ويعلم ما في السموات وما في الأرض"، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
* * *
وأما قوله:"والله على كل شيء قدير"، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا،"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا" = يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
* * *
وكان قتادة يقول في معنى قوله:"محضرًا"، (١) ما:-
٦٨٤٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا"، يقول: موفَّرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك: (٢) واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع:"واتقوا يوم كذا، وحين كذا".
* * *
وأما"ما" التي مع"عملت"، فبمعنى"الذي"، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع"تجد" عليه. (٣) وأما قوله:"وما عملت من سوء"، فإنه معطوف على قوله:"ما" الأولى، و"عملت" صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل:"تود". (٤)
(٢) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(٣) الوقوع: التعدي، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قيل تود"، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠٦، ونص كلامه: "وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما)، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) "، ويعني بذلك أن جملة"تود" مفعول ثان لقوله: "تجد"، كما كان"محضرًا" مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره.
* * *
"والأمد" الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ | عُمْرِ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (١) |
٦٨٤١ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، مكانًا بعيدًا.
٦٨٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أمدًا بعيدًا"، قال: أجلا.
٦٨٤٣ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا
تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا | فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ |
وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ | إلى اليَوْمِ، يَوْمُهُ وغَدُهْ |
لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ، | وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ |
كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ، | وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ |
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: (٢) تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-
٦٨٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "ومن رأفته بهم"، وفي المخطوطة: "وأرض رأفته بهم"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) الأثر: ٦٨٤٤-"والحسن"، هو الحسن البصري بلا ريب، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٢٥، والسوطي في الدر المنثور ٢: ١٧، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن الحسن"، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما "عمرو"، فلم أستطع أن أقطع من يكون، فمن روى عن الحسن، ممن اسمه"عمرو" كثير.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا نحب ربنا"، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا ﷺ أن يقول لهم:"إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
٦٨٤٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنزل الله عز وجل:"قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل اتباع نبيه محمد ﷺ عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه.
٦٨٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنًا:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل الله اتباع نبيه محمد ﷺ علمًا لحبه، وعذاب من خالفه. (١)
٦٨٤٨- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن كنتم تحبون الله" الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله ﷺ يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال:"إن كنتم تحبون الله" الآية، كان اتباعُ محمد ﷺ تصديقًا لقولهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا ﷺ أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
٦٨٤٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل إن كنتم تحبون الله"، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - (٢) حبًّا لله وتعظيمًا له =،"فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي: ما مضى من كفركم ="والله غفور رحيم". (٣)
* * *
(٢) ما بين الخطين زيادة تفسير من أبي جعفر. وفي سيرة ابن هشام:
"إن كان هذا من قولكم حقًا، حبًا لله | " بزيادة"حقًا"، وأخشى أن يكون ناسخ الطبري قد أسقطها. |
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه. (١)
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، (٢) وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم = فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه = إن اتبعتموني وصدّقتموني على
(٢) في المطبوعة: "إن كنتم تزعمون... " بحذف"كما"، فأثبتها من المخطوطة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، (١) وأنهم منهم، (٢) بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:-
٦٨٥٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل أطيعوا الله والرسول"، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم="فإن تولوا" على كفرهم ="فإن الله لا يحبّ الكافرين". (٣)
* * *
"من كفر بجحد ما عرف | "، وأثبت ما في المخطوطة. |
"فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر | "، "وأنهم منهم"، أي من هؤلاء الذين لا يحبهم الله، بجحودهم نبوتك. |
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما = وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. (١)
وإنما عنى ب"آل إبراهيم وآل عمران"، المؤمنين.
* * *
وقد دللنا على أن"آل الرجل"، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه. (٢)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك روى القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.
٦٨٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران: ٦٨]، وهم المؤمنون.
٦٨٥٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.
٦٨٥٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم
(٢) انظر ما سلف ٢: ٣٧ / ٣: ٢٢٢، تعليق: ١.
٦٨٥٤ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم" إلى قوله:"والله سميع عليم"، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران"ذريةً بعضها من بعض".
* * *
ف"الذرية" منصوبة على القطع من"آل إبراهيم وآل عمران"، لأن"الذرية"، نكرة،"وآل عمران" معرفة. (٢)
ولو قيل نصبت على تكرير"الاصطفاء"، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض. (٣)
* * *
وإنما جعل"بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: ٧١]، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: ٦٧]، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله:
(٢) انظر ما سلف في معنى"القطع"، وهو الحال، قريبًا ص: ٢٧٠، تعليق: ٣.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٧.
٦٨٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
* * *
وقوله:"والله سميعٌ عليمٌ"، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) ﴾
يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع". (١)
* * *
وأمّا"امرأة عمران"، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، (٢) كذلك:-
٦٨٥٦ - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه = وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (٣)
* * *
فأما زوجها"عمران"، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري ٢: ١٣.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري ٢: ١٣.
٦٨٥٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.
* * *
وأما قوله:"رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا"، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.
* * *
ونصب"محرّرًا" على الحال مما في الصفة من ذكر"الذي". (٦)
* * *
"فتقبل مني"، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ ="إنك أنت السميع
(٢) في المطبوعة: "يويم"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وفي تاريخ الطبري: "يوثام" فجعلتها"ثاء" بغير ألف، مطابقة للرسم.
(٣) في تاريخ الطبري"عزريا" بغير ألف.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريهو" بالراء.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "يازم" بالزاي، وفي تاريخ الطبري: "يهشافاظ"، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة: "أشا" بالشين المعجمة، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا: "أسابرابان" والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري.
(٦) في المطبوعة: "ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) ". فغيروا ما في المخطوطة، وأساءوا أشد الإساءة، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل"محررًا" حالا من"ما"، والذي ذهب إليه الطبري أن"محررًا" حال من الضمير الذي في الجار والمجرور"في بطني"، والعامل في الجار والمجرور هو"استقر". وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان ١: ٤٣٧، وتفسير الألوسي ٣: ١١٨ وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى"الصفة"، وهو: حرف الجر، وحروف الصفات هي حروف الجر، كما مضى ١: ٢٩٩ تعليق: ١ / ٣: ٤٧٥ تعليق: ١ / ٤: ٢٢٧ تعليق: ١ / ثم: ٢٤٧ تعليق: ٣.
* * *
وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران = الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-
٦٨٥٨ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً = و"النذيرة"، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.
٦٨٥٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال = ثم ذكر امرأة عمران وقولها:"ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا = (٢) "فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم". (٣)
٦٨٦٠- حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة
(٢) نص ابن هشام: "أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا"، فتركت رواية الطبري على حالها.
(٣) الأثر: ٦٨٥٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٨، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٨٥٠.
٦٨٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.
٦٨٦٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا"، قال: فرّغته للعبادة.
٦٨٦٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.
٦٨٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.
٦٨٦٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للكنيسة يخدُمها.
٦٨٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٨٦٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
٦٨٦٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،
والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى، أو كنيسة اليهود.
٦٨٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: محرّرًا للعبادة.
٦٨٧٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.
٦٨٧١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: نذرت ولدها للكنيسة.
٦٨٧٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم"، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.
٦٨٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.
٦٨٧٤ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.
٦٨٧٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني
٦٨٧٦ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إذ قالت امرأة عمران" الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها. (١)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلما وضعتها"، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت"الهاء" عائدة على"ما" التي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، لكان الكلام:"فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى".
* * *
ومعنى قوله: (وضعتها) "، ولدتها. يقال منه:"وضعت المرأة تَضَع وضْعًا".
* * *
أما قوله: "سيبتها" هنا، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله، ليس لأحد عليها سبيل، وهو قريب من معنى"التحرير".
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة القرأة: (وَضَعَتْ)، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها:"ربّ إني وضعتها أنثى".
* * *
وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة:"والله أعلم بما ولدتُ مني".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ"والله أعلم بما وضعتْ"، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت = ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها -:"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس ="وإني سميتها مريم"، كما:-
٦٨٧٧ - حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (١)
٦٨٧٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:
٦٨٧٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليس الذكر كالأنثى"، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك = (١) يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها = مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: (٢) "ليس الذكر كالأنثى".
٦٨٨٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قالت رب إني وضعتها أنثى"، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال:"وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم".
٦٨٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك = يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها = لما يصيبها من الأذى.
٦٨٨٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله:"رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى"، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله:"والله أعلم بما وضعت"، فقالت:"إني سَمّيتها مريم".
(٢) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا أرجح أن الصواب: "فعن ذلك قالت"، أي من أجل ذلك قالت. و"عن" هنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالى: "وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك". وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: تعني بقولها:"وإني أعيذُها بك وذُريتها"، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.
* * *
وأصل"المعاذ"، الموئل والملجأ والمعقل. (١)
* * *
= فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.
* * *
٦٨٨٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت:"رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه. (٢)
(٢) الحديث: ٦٨٨٤ - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني: تابعي فقيه ثقة من الثقات، من شيوخ مالك، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة.
والحديث سيأتي، عقب هذا، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق، بهذا الإسناد، نحوه.
وأشار إليه ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٧، من رواية ابن إسحاق، دون تعيين في تخريجه.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٩٤، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هرير. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، قارئ أهل المدينة: ثقة مأمون، شارك مالكًا في أكثر شيوخه.
ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي: "يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن أبي هريرة". وزيادة"عن أبيه" في الإسناد - خطأ صرف، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية، ولم يذكره أحد في رواة الحديث.
ثم رواه ابن جرير بنحوه، بأسانيد متعددة، إلى رقم: ٦٨٩٩. وكلها عن أبي هريرة، إلا: ٦٨٩٣، فإنه عن ابن عباس.
٦٨٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
٦٨٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (١)
شعيب بن خالد البجلي، قاصي الري: ثقة، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة: "حفظ من الزهري ومالك شابًا".
وهو هنا يروي عن"الزهري". ووقع في المطبوعة"الزبير" بدل"الزهري". وهو خطأ. صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه البخاري ٦: ٣٣٨ - ٣٣٩، من طريق شعيب، عن الزهري، بهذا، بنحوه. و"شعيب" - في إسناد البخاري-: هو"شعيب بن أبي حمزة الحمصي". وأما "شعيب بن خالد" فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود.
وكذلك رواه مسلم ٢: ٢٢٤، من طريق شعيب بن أبي حمزة.
وانظر: ٦٨٩١.
٦٨٨٩ - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. (٢)
٦٨٩٠ - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن
والحديث: رواه أحمد في المسند: ٧٨٦٦، عن إسماعيل بن عمر: و: ٧٩٠٢، عن يزيد بن هارون، و: ٧٩٠٢، عن هاشم بن القاسم (٢: ٢٨٨، ٢٩٢، ٣١٩ حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٧، عن الرواية الأولى من روايات المسند.
وذكره في التفسير ٢: ١٣٠، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه.
(٢) الحديث: ٦٨٨٩ - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري: مضت ترجمته في: ١٣٨٧.
سليم - بضم السين - بن جبير، أبو يونس مولى أبي هريرة: تابعي مصري ثقة.
وقع في المطبوعة: "أن أبا يونس سليمان"، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة"سليما"، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق: "أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة"، فرسم بالتنوين دون ألف، على لغة ربيعة، في الوقوف على المنصوب بالسكون.
والحديث رواه مسلم ٢: ٢٢٤، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بهذا الإسناد.
٦٨٩١ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (٢)
٦٨٩٢ - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". (٣)
(٢) الحديث: ٦٨٩١- مضى بنحوه: ٦٨٨٧، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري.
وقد رواه أحمد في المسند: ٧٦٩٤، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ونقله ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٧، عن رواية المسند.
وكذلك رواه البخاري ٨: ١٥٩، ومسلم ٢: ٢٢٤ كلاهما من طريق عبد الرزاق.
ورواه أحمد أيضًا: ٧١٨٢، عن عبد الأعلى، عن معمر، به.
وكذلك رواه مسلم ٢: ٢٢٤، من طريق عبد الأعلى.
(٣) الحديث: ٦٨٩٢ - الحماني، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم: هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٢٩١، والصغير: ٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٦٨-١٧٠، وتاريخ بغداد ١٤: ١٦٧- ١٧٧، وتذكره الحفاظ ٢: ١٠-١١.
قيس: هو ابن الربيع الأسدي، وهو ثقة، كما رجحنا في: ٤٨٤٢.
والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٠، والتاريخ ٢: ٥٧ - تعليقًا عن قيس، دون أن يبين مخرجه.
ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري، يعني هذا الإسناد.
فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية: ٦٨٩٩، ثم قال: "وروي من حديث قيس، عن الأعمش..." - إلخ. فهذا الفعل"روى"، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل، فيكون معناه أن ابن جرير"روى من حديث قيس". ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه، بالبناء للمجهول، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل.
ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا، عطفًا عليه - ما نصه: "ومن حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة".
فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين.
فرأيت - تمامًا للسياق- أن أذكره هنا من رواية أحمد، واحتياطًا أيضًا:
فقال الإمام أحمد في المسند: ٨٨٠١ (ج ٢ ص ٣٦٨ حلبي) :"حدثنا هُشيم، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ، كيفَ يَصْرُخُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه".
وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي ٢: ١٩، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "عصره الشيطان..." - عصر العنب وغيره عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز، أي: شديده عليه وضغطه.
ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري، وكذلك ذكره السيوطي ٢: ١٩، ولم ينسبه لغيره.
وقوله"ولم ينهزه" - من"التهز"، وهو الدفع."تهزه ينهزه نهزًا": دفعه، مثل"نكزه"، و"وكزه".
٦٨٩٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، وذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء = وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. = وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.
(٢) الخافقان: أفق المشرق وأفق المغرب، محيطان بجانبي الأرض.
(٣) المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة.
(٤) أيس الرجل يأيس يأسًا، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة.
(٥) الأثر: ٦٨٩٤ - في المخطوطة"أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان"، أو كأنها تقرأ"معتمر" ثم ضرب على"معمر". والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق، وروى عنه معتمر بن سليمان، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري"حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال: أخبر المنذر بن النعمان الأفطس". والمنذر مترجم في الكبير ٤ / ١ / ٣٥٩، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٢٤٢، وتعجيل المنفعة: ٤١٠.
٦٨٩٧ - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (٢)
٦٨٩٨ - حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن
(٢) الحديث: ٦٨٩٧- جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري: ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة.
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني: تابعي ثقة مشهور، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند: ٧٢٧٦، وابن سعد ٥: ٢٠٩، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك، ومات سنة ١١٧.
والحديث ذكره ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٠، من رواية الليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه.
وقد رواه أحمد في المسند: ١٠٧٨٣ (ج ٢ ص ٥٢٣ حلبي)، عن عبد الملك بن عمرو، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحوه.
ونقله ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٧، عن رواية المسند. وقال: "وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه".
ووقع في ابن كثير"المغيرة، وهو ابن عبد الله الحزامي"، وهو خطأ مطبعي.
ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم"لم يخرجوه من هذا الوجه" - فإن البخاري رواه ٦: ٢٤٢، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحو روايتي المسند والطبري.
فهذا من هذا الوجه: يجتمع مع إسناد المسند في"أبي الزناد"، ومع إسناد الطبري في"الأعرج".
٦٨٩٩ - حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (٢)
* * *
ومعناه ثابت صحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
فرواه مسلم ٢: ٢٢٤، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه، عن أبي هرير، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان".
ثم معناه ثابت مرفوعًا، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة.
(٢) الحديث: ٦٨٩٩ - بقية بن الوليد الحمصي: ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة.
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة، روى له الشيخان.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٧، عن الموضع، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي"عبد الله بن الزبيدي"! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم.
وهذه الرواية، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه: ٦٨٨٧، ٦٨٩١، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان.
وقد أشار الحافظ في الفتح ٦: ٣٣٨ إلى هذه الرواية، عند رواية الزهري عن ابن المسيب، فقال: "كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري".
ووقع في الفتح"السدي" بدل"الزبيدي". وهو تحريف من الناسخين.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها = (١) "بقبول حَسن".
* * *
"والقبول" مصدر من:"قبِلها ربُّها"، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان:"فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا". وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم:"تكلم فلان كلامًا"، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل:"تكلم فلان تكلمًا". ومنه قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، ولم يقل: إنباتًا حسنًا. (٢)
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في"قبول"، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل:"الدُّخول، والخروج". قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.
٦٩٠٠ - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.
* * *
وأما قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-
(٢) انظر بيان ذلك فيما سلف ١: ١١٦، وقد عدد هناك شواهده / ثم ٥: ٥٣٣، ٥٣٤.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكفلها"
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (وَكَفَلَهَا) مخففة"الفاء". بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران: ٤٤].
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَكَفَّلَهَا) مشددة"الفاء"، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (١)
* * *
وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، (٤) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.
* * *
قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.
(٢) في المطبوعة: " رتب قدح زكريا"، ورتب الشيء: ثبت، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها"ارتز"، والراء مشبوكة بأسفل التاء، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و"رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا، فارتز فيه": أثبته فثبت، مثل رز السكين في الحائط، فهو يرتز فيه.
(٣) في المطبوعة: "فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها" لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة"فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه... "، وكان النساخ قد كتب"آية"، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم، ليجعل"آية""وعلمًا"، فاضطرب الخط، فلم يحسن الناشر قراءتها، فأسقطها، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة"المتنازعين فيها ها" فلم يحسن قراءة"ها" الأخيرة، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا.
(٤) في المطبوعة: "بل صعد قدح زكريا"، وفي المخطوطة"صاعد"، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال: "صعد"، و"اصعد" (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و"اصاعد" (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع.
* * *
وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف"الفاء"، من قول الله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله:"وكفلها" = فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (١)
ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل:"كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان". فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
* * *
قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"زكريا".
فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.
وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.
وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
* * *
غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ"زكريا" أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، (٢) ولأن قراءتنا في"كفَّلها" بالتشديد، وتثقيل"الفاء". فـ"زكرياء" منصوب بالفعل الواقع عليه. (٣)
* * *
(٢) الإجراء: الصرف. يعني: لا يصرف، لأنه ممنوع من الصرف، كما يقول النحاة.
(٣) الواقع عليه: المتعدي إليه. وقد سلف أن"الوقوع" هو"التعدي"، فاطلبه في فهرس المصطلحات.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر: (٢)
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (٣)
يراد به: (٤) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (٥)
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم:"هفا الظَّليم"، إذا أسرَع الطيران.
يقال منه للرجل:"ما لك تكفُل كلَّ ضالة"؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٠٢ - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
(٢) غاب عني قائله، وإن كنت أذكر الشعر.
(٣) "الهوام"، هي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: ٤٩٠.
(٤) في المطبوعة: "يراد أنه"، والصواب من المخطوطة.
(٥) "الهوام"، وهي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: ٤٩٠.
٦٩٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وكفلها زكريا"، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، (٢) فَقرَعهم.
٦٩٠٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، (٣) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. (٤) فلما أتوا بها اقترعوا
(٢) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "فاستقبلت"، ولست أرتضيها، وكأنها"واستعلت"، من قولهم: "علاه وتعلاه واستعلاه"، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه: "ومنه: وعال قلم زكريا الجرية، وجرت الأقلام مع جرية الماء"، وكأن هذا اللفظ"وعالى"، وكلتاهما صواب بمعنى: قهر وغلب، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله: "فقرعهم"، فقد سلف تفسيرها ص: ٣٤٥، تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة، وسنن البيهقي ١٠: ٢٨٦ هكذا"يجربونه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وأخشى أن يكون هذا خطأ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٠، خرج هذا الأثر، ونسبه للبيهقي في السنن، وفيه: "إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر، اقترعوا عليه... "، فكأن صواب هذا الحرف"يحررونه" اتصلت الراء بالواو فقرأوها"يجربونه". وهذا الأثر الذي رواه السدي، هو في سنن البيهقي، بإسناد السدي في التفسير، الذي مضى الكلام فيه في رقم: ١٦٨، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي، لما طال الكتاب.
(٤) في سنن البيهقي، والدر المنثور: "وكانت أخت مريم تحته"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم، كانا متزوجين بأختين، إحداهما عند زكريا، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران، وهي أم مريم، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري ٢: ١٣.
٦٩٠٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكفلها زكريا"، يقول: ضمها إليه.
٦٩٠٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وكفلها زكريا"، قال: سَهمهم بقلمه. (٤)
٦٩٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٦٩٠٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، (٥) فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.
(٢) القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال: لحد السيف والسنان والسهم وغيرها"قرنة"، وهو طرفه وذبابه.
(٣) الأثر: ٦٩٠٤- سنن البيهقي ١٠: ٢٨٦، والدر المنثور ٢: ٢٠.
(٤) ساهم القوم فسهمهم، وقارعهم فقرعهم: فاز سهمه، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه.
(٥) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "زوج أختها"، وظاهر أن كلام قتادة مختصر، كان في ذكر"أم مريم"، وأن قوله: " زوج أختها"، أي زوج أخت مريم، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص ٣٥٠ تعليق: ١. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد.
٦٩١٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل:"وكفلها زكريا" = قال حجاج قال، ابن جريج:"الكاهنُ" في كلامهم: العالمُ.
٦٩١١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وكفلها زكريا"، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (٢)
٦٩١٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
(٢) الأثر: ٦٩١٠- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٩، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم ٦٨٧٧.
٦٩١٣ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.
٦٩١٤ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.
* * *
وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (١) = وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع=. (٢)
٦٩١٥ - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "أشيع" بالياء، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٣) الأثر: ٦٩١٥-"وهب بن سليمان الجندي اليماني"، روى عن شعيب الجبأي، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير ٤ / ٢ / ١٦٩، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٢٧. و"شعيب الجبأي، الجندي البجلي"، منسوب إلى"جبأ" وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو: "شعيب بن الأسود". قال: يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير ٢ / ٢ / ٢١٩، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٥٣. وكان في المطبوعة: "شعيب الحياني" خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.
٦٩١٦ - حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.
= فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ:"وكفَلها زكريا" بتخفيف"الفاء"، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (١) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.
٦٩١٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (١)
٦٩١٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا"، قال: العنب في غير حينه.
٦٩١٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهة في غير حينها.
٦٩٢٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف = يعني في قوله:"وجد عندها رزقًا". (٢)
٦٩٢١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.
٦٩٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.
٦٩٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
٦٩٢٤ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.
٦٩٢٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(٢) الأثر: ٦٩٢٠-"أبو إسحاق الكوفي"، هو: عبد الله بن ميسرة، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة، روى عنه هشيم، وكناه أبا إسحاق، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري.
٦٩٢٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٦٩٢٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
٦٩٢٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
٦٩٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.
٦٩٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.
٦٩٣١ - حدثني موسى [بن عبد الرحمن] (١) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (٢)
(٢) الأثر: ٦٩٣١-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني" وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: ١٦٨.
٦٩٣٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس"كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.
٦٩٣٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.
٦٩٣٥ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها = يعني على مريم = المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٣٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن
* * *
قال أبو جعفر: وأما"المحراب"، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:
كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ | كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (٢) |
(٢) ديوانه في شعراء الجاهلية: ٤٥٥، وسيأتي في التفسير ٢٢: ٤٨ (بولاق)، يصف نساء، يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة: وهي البستان الحسن، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي"الروض" على الإفراد فقال: "زهره مستنير"، كأنه عده مفردًا مذكرًا، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد، مثل ثور ونور، وأشباهها فذكره للفظه، وإن كنت أستجيز أن يكون"الروض" مفردًا غير جمع، ولم أجد ذلك في كتب اللغة، ولكن البيت شاهد عليه، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد.
وقوله: "مستنير" من"النور"، وهو زهر الشجر والنبات. يقال: "نورت الشجرة وأنارت"، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة"استنارت الشجرة"، ولكن بيت عدي شاهد جيد، وهو من عتيق العربية.
يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون، فزادها بهاء، وزادته حسنًا.
وهذا البيت في المخطوطة: "وهو مشتق / مستنير" و"مستنير" مكتوبة في هامش الصفحة، ولم أدر كيف كان، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة، وأخشى أن يكون الناسخ كتب: "وهو مشتق" ثم عاد فقرأ"مشتق""مستنير" فكتبها في الهامش، فيكون الخطأ في كتابته"وهو"، التي هي: "زهره".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قال" زكريا:"يا مريم: أنَّى لك هذا"؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ (٢) قالت مريم مجيبة له:"هو من عند الله"، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
* * *
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله.
٦٩٣٧ - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.
٦٩٣٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.
٦٩٣٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله"، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة
(٢) انظر تفسير"أنى" فيما سلف ٤: ٣٩٨-٤١٦ / ثم ٥: ٣١٢، ٤٤٧.
* * *
وأما قوله:"إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب"، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، (١) ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير: "يرزق من يشاء بغير حساب" فيما سلف ٤: ٢٧٤ / ثم ٦: ٣١١.
قال أبو جعفر: وأما قوله:"هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (١) ومعاينته عندَها الثمرة
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
٦٩٤٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم: ٤-٦]، = وقوله: (٢) (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) = وقال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [سورة الأنبياء: ٨٩].
٦٩٤١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "وقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت، وذاك من عجلة الناسخ.
٦٩٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى قوله: (رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) الآية.
٦٩٤٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء"، ثم شكا إلى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) الآية.
* * *
وأما قوله:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، فإنه يعني بـ"الذرية" النسل، وبـ"الطيبة" المباركة، (١) كما:-
٦٩٤٤ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، يقول: مباركة.
* * *
ثم انظر تفسير"الطيب" فيما سلف ٣: ٣٠١ / ثم ٥: ٥٥٥.
* * *
وأما"الذرية"، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم: ٥]، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث"طيبة"، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر: (١)
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى | وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ، ذَاكَ الكَمَالُ (٢) |
فَمَا تَْزدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ | سُكَاتٍ، إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا (٤) |
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٨ سيأتي في التفسير ٤: ١٥٠ (بولاق).
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٨، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة: "كما تزدري... سكاب... ليس بأزدرا"، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية، فذاك أشد لها ولسمها، يقول عنترة:
أَصَمَّ جبَالِيٍّ، إِذا عَضَّ عَضَّةً | تَزَايَلَ عَنْهُ جِلْدُه فتبدّدَا |
* * *
وأما قوله:"إنك سميع الدعاء"، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ"سميع"، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له. (٢)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة:"فنادته الملائكة" على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع"الملائكة". وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها، أنَّثت أفعالها، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث، كقولهم: جاءَت الطَّلحات".
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، (٣) بمعنى فناداه جبريل، فذكروه للتأويل، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ، (٤) فكذلك يذكِّرون
(٢) انظر تفسير"سميع" فيما سلف ٢: ١٤٠، ٣٧٧، ٥٤٠ / ٣: ٣٩٩ / ٤: ٤٨٨.
(٣) يعني قراءة من قرأ"فناداه" ممالة، ورسمها في المصحف عندئذ"فناديه" بالياء، وهي قراء حمزة والكسائي.
(٤) انظر ص: ٣٦٢.
٦٩٤٥ - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، أنّ قراءة ابن مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ).
* * *
وكذلك تأوّل قوله:"فنادته الملائكة" جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٤٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فنادته الملائكة"، (١) وهو جبريل = أو: قالت الملائكة، وهو جبريل ="أنّ الله يُبشرك بيَحيى".
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل:"فنادته الملائكة"، و"الملائكة" جمع لا واحد؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام:"خرج فلان على بغال البُرُد"، وإنما ركب بغلا واحدًا ="وركب السفن"، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال:"ممن سمعتَ هذا الخبر"؟ فيقال:"من الناس"، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران: ١٧٣]، والقائلُ كانَ = فيما كان ذُكر - واحدًا = (٢) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٩٢، ٢٩٣ / ٤: ١٩١.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك، أنهما قراءتان معروفتان = أعني"التاء" و"الياء" = فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب، وذلك أنّ"الملائكة" إن كان مرادًا بها جبريل، كما روى عن عبد الله، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها.
وإن كان مرادًا بها جمع"الملائكة"، فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قَبلها، للفظها. (٢) وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها، أنثته، فقالت:"قالت النساء". وجائز التذكير في فعلها، بناءً على الواحد، إذا تقدم فعله، فيقال:"قال الرجال".
* * *
وأما الصّواب من القول في تأويله، فأنْ يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، وجبريلُ واحد.
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن (٣) إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل = ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم: قتادة، والربيع
(٢) في المطبوعة: "وهو من قبلها" والصواب من المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن يجوز... "، والأشبه بالصواب ما أثبت.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وهو قائم:" فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله:"وهو قائم"، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا.
وقوله:"يُصَلي" في موضع نصب على الحال من"القيام"، وهو رفع بالياء.
* * *
وأما"المحراب"، فقد بينا معناه، وأنه مقدّم المسجد. (٢)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أنّ اللهَ يبشرك".
فقرأته عامة القرأة: (أَنَّ اللَّهَ) بفتح"الألف" من"أن"، بوقوع"النداء" عليها، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بكسر"الألف"، بمعنى: قالت الملائكة: إنّ الله يبشرك، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) قالوا: وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله:"يا زكريا"، فباطلً أيضًا
(٢) انظر ما سلف قريبًا ص: ٣٥٧، ٣٥٨.
* * *
والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"أنّ الله يبشرك" بفتح"أن" بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر"إن" = منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك، فقرأوها كذلك = [لهم بعلة] (١) وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم، وقد اعترض بنداء زكريا بين"إن" وبين قوله:"فنادته"، (٢) وإذا اعترض به بينهما، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في"أنّ"، وتبطله عنها. أما الإبطال، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله، (٣) فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقعٌ. كسائر الأفعال. (٤)
وأما قراءتنا، (٥) فليس نداء زكريا ب"يا زكريا" معترضًا به بين"أن" وبين قوله:"فنادته". وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ:"ناديت" اسمَ المنادِى وأوقعوه عليه، أن يوقعوه كذلك على"أنّ" بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله، فقوله:"نادته"، قد وَقع على مكنيّ"زكريا"، (٦) فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على"أن" وعاملا فيها. (٧)
(٢) في المطبوعة: "وقد اعترض بيا زكريا" وفي المخطوطة: "بهذا زكريا"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المخطوطة أيضًا"فناداه"، مكان"فنادته".
(٣) في المطبوعة: "فإنه بطل عن العمل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٤) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(٥) في المخطوطة: "وأما قراءتها"، والصواب ما في المطبوعة.
(٦) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(٧) انظر تفصيل ما أجمله الطبري في معاني القرآن للفراء ١: ٢١٠، ٢١١.
* * *
وأما قوله:"يبشرك"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بتشديد"الشين" وضم"الياء"، على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس:"بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا"، أي: أتته بشارات البُشراء بذلك. (١)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ)، بفتح"الياء" وضم"الشين" وتخفيفها، بمعنى: أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك، من قول الشاعر: (٢)
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً | أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجُ يُتْلَى كِتَابُهَا (٣) |
وَإذَا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إلَى العُلَى | غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ (٥) |
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) معاني القرآن للفراء، وقال: "أنشدني بعض العرب".
(٤) هو عبد قيس بن خفاف البرجمي.
(٥) الأصمعيات رقم: ٨٧، والمفضليات رقم: ١١٦، ولسان العرب (كرب) (بشر) (يسر)، ومعاني القرآن للفراء ١: ٢١٢، وغيرها من المراجع. وهي نصيحته إلى ولده جبيل، وهي من حكيم الشعر.
بهش إلى الشيء: فرح به فأسرع إليه، وروايتهم"إلى الندى"، وهو الكرم. والقاع: أرض سهلة مستوية تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر. والممحل: المجدب. يقول: إذا رأيت الكرام الأسخياء، قد أجهدتهم السنة والقحط والجدب حتى اغبرت أيديهم من قلة ما يجدون، وكثرة ما بذلوا في معونة الناس.. فأعنهم.
فَأَعِنْهُمُ، وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ، | وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ (١) |
* * *
وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: (يبشرك)، بضم"الياء" وكسر"الشين" وتخفيفها. وقد:-
٦٩٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفيّ قال: من قرأ: (يُبَشِّرُهُمْ) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ: (يَبْشُرُهُمْ)، مخففة، بنصب"الياء"، فإنه من السرور، يسرُّهم.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك، ضم"الياء" وتشديد"الشين"، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة: (فَبِمَ تُبِشِّرُون) [سورة الحجر: ٥٤]، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره، أنْ يكون مثله في التشديد وضم"الياء".
* * *
(٢) انظر تفسير: "بشرى" و"بشر" فيما سلف ١: ٣٨٣ / ٢: ٣٩٣، / ٣: ٢٢١ / ٦: ٢٨٧.
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ | هَلا غَضِبْتَ لَنَا؟ وَأَنْتَ أَمِيرُ! (١) |
* * *
٦٩٤٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله يبشرك بيحيى"، قال: بشرته الملائكة بذلك.
* * *
وأما قوله:"بيحيى"، فإنه اسم، أصله"يفعل"، من قول القائل:"حيي فلانٌ فهو يحيَى"، وذلك إذا عاش."فيحيى""يفعل" من قولهم"حيي".
وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك، لأنه يتأوّل اسمه: أحياه بالإيمان.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٤٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أنّ الله يبشرُك بيحيى"، يقول: عبدٌ أحياه الله بالإيمان.
٦٩٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
كان في المطبوعة: "حق لبشرك التبشير"، وهو من سهو الناشر، كما سلف من سهوه، والصواب في المخطوطة وسائر المراجع.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (١) أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك، ="مصدّقًا بكلمة من الله"، يعني: بعيسى ابن مريم.
* * *
ونصب قوله:"مصدقًا" على القطع من"يحيى"، (٢) لأنّ"مصدقًا" نعتٌ له، وهو نكرة، و"يحيى" غير نكرة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٥١ - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربيّ، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال: فوضعت امرأةُ زكريا يحيى، ومريمُ عيسى، ولذا قال:"مصدِّقًا بكلمة من الله"، قال: يحيى مصدّق بعيسى.
٦٩٥٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله:"يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
(٢) القطع: الحال، كما سلف مرارًا، آخرها ص: ٣٢٧ تعليق ٢، والمراجع هناك.
٦٩٥٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدقًا بعيسى.
٦٩٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدّقًا بعيسى ابن مريم، وعلى سُنَّته ومنهاجه. (١)
٦٩٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، يعني: عيسى ابن مريم.
٦٩٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدقًا بعيسى ابن مريم، يقول على سننه ومنهاجه.
٦٩٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى، وهو كلمة من الله ورُوحٌ.
٦٩٥٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مصدقًا بكلمة من الله"، يصدق بعيسى.
٦٩٦٠ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.
٦٩٦٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى: سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى. (١)
٦٩٦٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: الكلمة التي صدق بها: عيسى.
٦٩٦٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى، وهذه حامل بيحيى، وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم: استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا: فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله:"مصدّقًا بكلمة من الله".
٦٩٦٥- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله:"أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة، (٢)
(٢) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن ١: ٩١.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَسَيِّدًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وسيدًا"، وشريفًا في العلم والعبادة.
* * *
ونصب"السيد" عطفًا على قوله:"مصدقًا".
* * *
وتأويل الكلام: أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا، وسيدًا.
* * *
"والسيد""الفيعل" من قول القائل:"سادَ يسود"، (٢) كما:-
٦٩٦٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وسيدًا" إي والله، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع.
٦٩٦٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا"، قال: السيدُ، لا أعلمه إلا قال: في العلم والعبادة.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٣١٩.
٦٩٦٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير،"وسيدًا"، قال: الحليم.
٦٩٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"وسيدًا"، قال: السيد التقىّ.
٦٩٧١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وسيدا"، قال: السيد الكريم على الله.
٦٩٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرّقاشي أنّ السيد، الكريم على الله.
٦٩٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الحليم التقي.
٦٩٧٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسيدًا"، قال: يقول: تقيًّا حليما.
٦٩٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله:"وسيدًا"، قال: حليما تقيًّا.
٦٩٧٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"وسيدًا"، قال: السيد: الشريف.
٦٩٧٧ - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية بن الوليد،
٦٩٧٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وسيدًا"، قال، يقول: حليما تقيًّا.
٦٩٧٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة:"وسيدًا"، قال: السيد الذي لا يغلبُه الغضب.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء، من قول القائل:"حَصِرْتُ من كذا أحْصَر"، إذا امتنع منه. ومنه قولهم:"حَصِرَ فلان في قراءته"، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك"حَصْرُ العدوّ"، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا،"حَصُور"، كما قال الأخطل:
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي | لا بِالَحصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ (١) |
وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الوُشَاةُ، فَصَادَفُوا | حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا (١) |
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٩٨٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن خلف قال، حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
٦٩٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله ﷺ يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله"سيدًا وحصُورًا". (٢)
كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي، بَعْدَ مَا | جَلَّلَ الرأسَ مشيبٌ وصَلَعْ |
(٢) الأثر: ٦٩٨١- انظر التعليق على الأثر: ٦٩٨٣.
٦٩٨٣ - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا عمر بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه -: ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. (١)
٦٩٨٤ - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله:"وحصورًا" قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
٦٩٨٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
٦٩٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد مثله.
٦٩٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد مثله.
٦٩٨٨ - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال،
٦٩٨٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الحصور: لا يقرَبُ النساء.
٦٩٩٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرقاشي:"الحصور" الذي لا يقرب النساء.
٦٩٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"الحصور"، الذي لا يولد له، وليس له ماء.
٦٩٩٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وحصورًا"، قال: هو الذي لا ماء له.
٦٩٩٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وحصورًا"، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء.
٦٩٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
٦٩٩٥ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله.
٦٩٩٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
٦٩٩٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينزل الماء.
٦٩٩٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد:"وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
٧٠٠٠ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وحصورًا"، قال: لا يقرب النساء.
* * *
وأمّا قوله:"ونبيًّا من الصالحين" فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم.
* * *
ويعني بقوله:"من الصّالحين"، من أنبيائه الصالحين. (١)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"النبوّة" وما أصلها، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"النبي" فيما سلف ٢: ١٤٠-١٤٢.
هذا، وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وكتب هنا ما نصه:
"يتلُوُه، إن شاء الله، القولُ في تأويل قوله:
﴿قال ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكِبَر وامرأتي عاقر﴾.
والحمد لله وحده على إحسانه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري".
قال أبو جعفر: يعني أنّ زكريا قال = إذ نادته الملائكة:"أنّ الله يُبشرّك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين" ="أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر"؟ يعني: مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ ="وامرأتي عاقر".
* * *
"والعاقر" من النساء التي لا تلد. يقال منه:"امرأة عاقر، ورجلٌ عاقرٌ"، كما قال عامر بن الطفيل:
لَبِئْسَ الفَتَى! إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا | جَبَانًا، فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!! (١) |
وأما"الكبر" فمصدر:"كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا".
وقيل:"بلغني الكبر"، وقد قال في موضع آخر: (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ)
لَعَمْري، ومَا عَمْري عَلَيَّ بِهَيَّنٍ | لقَدْ شَانَ حُرَّ الوَجْهِ طَعْنَةُ مُسْهِرِ |
فَبِئْسَ الفَتَى............ | ................... |
* * *
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله:"ربّ أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر"، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية!
قيل: كان ذلك منه ﷺ على غير ما ظننتَ، بل كان قِيله ما قال من ذلك، كما:-
٧٠٠١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه، (٢) وقال:"أنَّي يكون لي غلام"، ذكرٌ؟ = يقول: من أين؟ = (٣) "وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر".
٧٠٠٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم! نادتني ملائكتهُ ربي! (٤) قال: بل ذلك الشيطان!
(٢) قوله: "فشك مكانه"، أي من ساعته، من فوره. ويقال: "فعل ذلك على المكان"، أي من ساعته غير متلبث ولا متصرف، قبل أن يفارق مكانه.
(٣) في المطبوعة: "ومن أين" بالواو، وفي المخطوطة واو أيضًا، لكنه ضرب عليها.
(٤) في المطبوعة: "ناداني"، وأثبت ما في المخطوطة.
* * *
= فكان قولهُ ما قال من ذلك، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله:"أنى يكون لي غلام"، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة، فقال:"رب أنَّي يكون لي غلام"، مستثبتًا في أمره، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - (١) أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال:"رب اجعل لي آية".
* * *
وقد يجوز أن يكون قيله ذلك، مسألةً منه ربَّه: من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به؟ أمن زوجته؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك الله"، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة، كما:-
٧٠٠٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية = يقول: علامةً = أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك، كما:-
٧٠٠٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"رب اجعل لي آية"، قال: قال - يعني زكريا -: يا ربّ، فإن كان هذا الصوت منكَ، فاجعل لي آيةً.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"الآية"، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها، ومن شأنها همزُ كل"ياء" جاءت بعد"ألف" ساكنة.
فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت"أيَّة"، فثقُل عليهم التشديد، فأبدلوه"ألفًا" لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا:"أيْما فلانٌ فأخزاه الله". (٢)
* * *
وقال آخرون منهم: بل هي"فاعلة" منقوصة.
(٢) "أيما"، بمعنى "أما" مشددة الميم.
* * *
وقال آخرون: إنه"فَعْلة" صيرت ياؤها الأولى"ألفا"، كما فعل بـ"حاجة، وقامة".
فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. (٣)
وقال من أنكر ذلك من قِيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في"نواة" ناية، وفي"حَياة" حَاية. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا﴾
قال أبو جعفر: فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته = على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة
(٢) قائل ذلك، هو الكسائي وأصحابه. وسائلوه: هم الفراء وأصحابه. انظر لسان العرب مادة (أيا).
(٣) أولاد الثلاثة: يعني الاسم الثلاثي.
(٤) انظر تفصيل ما سلف، وبعضه بنصه في لسان العرب ١٨: ٦٦، وهذه الردود كلها للفراء، كما يظهر من نص اللسان، وكأن في نص الطبري بعض الاضطراب، فإن قوله: "فقيل لهم: إنما يفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة"، إنما هو رد على قول من زعم إنها"فاعلة" منقوصة، مثل حاجة وقامة، وأن أصلها حائجة وقائمة. وأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط، أو قدم شيئًا، فاضطرب الكلام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٠٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا"، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشَّرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا".
٧٠٠٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أن الله يبشرك بيحيى مصدِّقًا"، قال: شافهته الملائكة، فقال:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبةً عُوقب بها، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
٧٠٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله:"رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
وسياق هذه العبارة"فجعل آيته... آية من نفسه" وتلك الآية: أنه حبس لسانه فلم يكلم الناس إلا كما أمر، رمزًا.
٧٠٠٨ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت:"أنّ الله يبشرك بيحيى"، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخِذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول: يومئ إيماءً.
٧٠٠٩ - حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جُبير بن نُفير في قوله:"قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: ربَا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله:"ألا تكلم الناس"، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام = فكانت"أن" هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام = أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام = كان وجه الكلام الرفع. لأن"أن" كانت تكون حينئذ بمعنى
* * *
وأما"الرّمز"، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت:"الرمز"، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ: (١)
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزًا | وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ (٢) |
خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ (٤)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، وأيّ معاني"الرمز" عني بذلك؟
فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك:
وهو جؤبة بن عائذ النصري، فيما روى ابن السكيت في تهذيب الألفاظ: ١٢٥. أما الآمدي في المؤتلف والمختلف: ٨٣، فقد سماه: "عائذ بن جؤية بن أسيد بن جرار بن عبد بن عاثرة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذكره أيضًا البغدادي في الخزانة ١: ٤٧٦. والعجب لبعض من يعلق على تفسير الطبري أن يزعم كالقاطع الجازم أنه"جؤية بن عائذ الكوفي النحوي"!!
(٢) لم أجد البيت فيما بين يدي من الكتب، ولكني أذكره. وكان في المطبوعة: "وكان يكلم" والصواب ما أثبت.
(٣) لم أعرف هذا الراجز.
(٤) اللسان (رمز).
٧٠١١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: إيماؤه بشفتيه.
٧٠١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك:
٧٠١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"إلا رمزًا"، قال: الإشارة.
٧٠١٤ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا رمزًا"، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم.
٧٠١٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إلا رمزًا"، قال: الرمزُ: أنْ أخِذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده.
٧٠١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إلا رمزًا"، قال: والرمز الإشارة.
٧٠١٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، الآية، قال:
٧٠١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا رمزًا"، إلا إيماءً.
٧٠١٩ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٠٢٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا رمزًا"، يقول: إشارة.
٧٠٢١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"إلا رمزًا"، إلا إشارة.
٧٠٢٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: أمسكَ بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا،"آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، ="واذكر ربك كثيرًا"، فإنك لا تمنع ذكرَه، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، (١) وقد:-
* * *
وأما قوله:"وسبح بالعشي"، فإنه يعني: عَظِّم ربك بعبادته بالعشي.
* * *
و"العَشيّ" من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر: (١)
فَلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ، | وَلا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ (٢) |
* * *
(٢) ديوانه: ٤٠، وهو من قصيدته الجيدة التي قالها، لما تقدم عمر بن الخطاب إلى الشعراء، أن لا يشبب أحد بامرأة إلا جلده، فخرج من عقوبة عمر بأن ذكر"سرحة" وسماها"سرحة مالك" فشكا أهلها إلى عمر، فقال لهم: وَمَا لِيَ من ذَنْبٍ إِلَيْهِمْ عَلِمْتُهُ... سِوَى أنّني قَدْ قُلْتُ: "يَا سَرْحَةُ اسْلَمِى"
فكان رحمه الله خفيف الدم (كما يقول المصريون). أما الأبيات التي منها البيت المستشهد به، فإنه ذكر السرحة واستسقى لها، ووصفها واستجاد لصفتها مكارم الصفات، ثم قال:
تجرَّمَ أهْلُوهَا، لأَنْ كُنْتُ مُشْعَرًا | جُنُونًا بها!! يا طُولَ هذَا التَجَرُّمِ! |
بَلَى، فاسلِمي، ثُمَّ اسْلَمِي، ثُمَّتَ اسلمي، | ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ، وإن لم تَكَلَّمي |
فَيَا طِيبَ رَيَّاهَا، وَيَا بَرْدَ ظِلِّهَا | إذَا حَانَ من حَامي النّهارِ وُدُوقُ |
وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ | من السَّرْحِ، مَسدُودٌ عَلَيَّ طريقُ |
حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيقَةِ، خَائِفٌ | عَلَيْهَا غَرَامَ الطَّائِفينَ، شَفِيقُ |
فَلاَ الظِلَّ مِنْهَا بالضُّحَى تَسْتَطِيعُه | وَلاَ الفَيْءَ مِنْهَا بالعَشِيّ تَذُوقُ |
أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ (١)
ومن"البكور" قول جرير:
أَلا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا | وَشَقَّ العَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا (٢) |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٢٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وسبِّح بالعشيّ والإبكار"، قال:
(٢) ديوانه: ٢٩٣، والنقائض: ٧، يجيب حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جريرًا. قال أبو عبيدة: "شق العصا: التفرق، ومن هذا يقال للرجل المخالف للجماعة: قد شق العصا. وأميرها: الذي تؤامره، زوجها أو أبوها".
(٣) هذا نص خلت منه كتب اللغة، وحفظه أبو جعفر. وهو صواب، فإنهم قالوا: "البكيرة والباكورة والبكور" من النخل: التي تدرك في أول النخل، فذكروا الصفات، وتركوا الفعل. فهي زيادة ينبغي تقييدها.
٧٠٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله سميعٌ عليم إذ قالت امرأة عمران ربّ نذرتُ لك ما في بطني محرَّرًا"،"وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك".
* * *
ومعنى قوله:"اصطفاك"، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته. (٢)
* * *
وقوله:"وطهَّرك"، يعني: طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم (٣)
* * *
="واصطفاك على نساء العالمين"، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، (٤) بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهم، كما روى عن رسول الله صلى الله
(٢) انظر معنى"اصطفى" فيما سلف ٣: ٩١ / ثم ٥: ٣١٢ / ٦: ٣٢٦.
(٣) انظر معنى"طهر" فيما سلف ٣: ٣٨-٤٠، وفهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف ١: ١٤٣-١٤٦ / ٢: ٢٣-٢٦ / ثم ٥: ٣٧٥.
٧٠٢٦ - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا محاضر بن المورّع قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًّا بالعراق يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة. (١)
٧٠٢٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنّ رسول الله ﷺ قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. (٢)
والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الله بن نمير: ٦٤٠، وعن وكيع: ١١٠٩، وعن محمد ابن بشر: ١٢١١- ثلاثتهم عن هشام بن عروة. ورواه ابنه عبد الله، في المسند: ٩٣٨، عن طريق أبي خيثمة، ووكيع، وأبي معاوية - ثلاثتهم عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري ٦: ٣٣٩، و ٧: ١٠٠-١١٠، ومسلم ٢: ٢٤٣، والترمذي ٤: ٣٦٥- كلهم من طريق هشام بن عروة، به.
ورواه الحاكم في المستدرك ٣: ١٨٤، عن طريق ابن نمير، ثم من طرق المسند عن وكيع وابن نمير.
وذكره ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٨، وفي التاريخ ٢: ٥٩، عن رواية الصحيحين.
وذكره السيوطي ٢: ٢٣، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وابن مردويه.
(٢) الحديث: ٧٠٢٧- المنذر بن عبد الله بن المنذر الحزامي: ثقة، كان من سروات قريش وأهل الندى والفضل. ترجمه البخاري في الكبير ٤ / ١ / ٣٥٩، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٢٤٣- فلم يذكرا فيه جرحًا.
والحديث هو الحديث السابق. ولكنه هنا من حديث عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من حديثه عن عمه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهو إما مرسل صحابي، وإما قصر الراوي عن هشام، فترك ذكر علي، والأرجح أن يكون عبد الله بن جعفر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعه عنه بواسطة علي. فرواه على الوجهين. وهو صحيح بكل حال.
(٢) الحديث: ٧٠٢٨ - هو حديث مرسل. بل هو في حقيقته ثلاثة أحاديث، يقول قتادة في أول كل منها: "ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول":
فأولها -"حسبك بمريم... "-: ثبت موصولا. فرواه أحمد في المسند: ١٢٤١٨ (ج ٣ ص ١٣٥ حلبي) - عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - هو ابن مالك - مرفوعًا، بنحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ٣: ١٥٧-١٥٨، عن أبي بكر القطيعي - راوي المسند - عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن عبد الرزاق. ولكنه ذكر أنه رواه عن القطيعي "في فضائل أهل البيت، تصنيف أبي عبد الله أحمد بن حنبل". فلم يروه من كتاب (المسند)، إنما رواه من كتاب آخر لأحمد والإسناد واحد.
ورواه الترمذي ٤: ٣٦٦، وابن حبان في صحيحه (٢: ٣٧٥ من مخطوطة التقاسيم والأنواع) - كلاهما من طريق عبد الرزاق، به.
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: حسبك من نساء العالمين - يسوي بين نساء الدنيا".
وقد يوهم كلام الحاكم أن الشيخين روياه من حديث أنس بغير هذا اللفظ. والشيخان لم يروياه من حديث أنس أصلا.
ونقله ابن كثير في التاريخ ٢: ٥٩-٦٠، من رواية المسند، وفي التفسير ٢: ١٣٨-١٣٩، من رواية الترمذي. وأشار في الموضعين إلى رواية ابن مردويه إياه من طريق ثابت عن أنس. وسيأتي من رواية ثابت: ٧٠٣٠. وسنذكره هناك، إن شاء الله.
وأشار الحافظ في الفتح ٦: ٣٤٠، إلى رواية الترمذي إياه، وقال: "بإسناد صحيح".
وثانيها: "خير نساء ركبن الإبل... " - وسيأتي عقب هذا: ٧٠٢٩، من رواية قتادة، عن أبي هريرة. وسيأتي عقب هذا: ونذكر علته وتخريجه هناك، إن شاء الله.
وثالثها: "لو علمت أن مريم ركبت الإبل، ما فضلت عليها أحدًا". وهو لفظ منكر، ما علمته ثبت من طريق متصل. والصحيح أنه من كلام أبي هريرة، كما سيأتي في الحديث التالي.
ومتن الحديث صحيح:
فرواه أحمد في المسند: ٧٦٣٧، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، بنحوه، مطولا.
ورواه كذلك: ٧٦٩٥، بهذا الإسناد، مختصرًا.
ورواه: ٧٦٣٨، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، مختصرًا.
وذكره ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٨، عن الرواية الأولى من المسند، ثم قال: "ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد - كلاهما عن عبد الرزاق، به". وذكره أيضًا في التاريخ ٢: ٦٠، ثم أشار إلى رواية مسلم.
ورواية مسلم، هي في صحيحه ٢: ٣٧٠.
ورواه أيضا البخاري ٩: ١٠٧-١٠٨، و ٤٤٨، ومسلم ٢: ٣٦٩-٣٧٠، من طرق عن أبي هريرة.
والروايات الصحاح، هي أن أبا هريرة قال من عند نفسه، في آخر الحديث: "ولم تركب مريم بعيرًا قط".
وأما رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ الذي في الحديث السابق - فهو كما قلنا: "لفظ منكر".
قوله"صلح" - بضمتين: هكذا في المخطوطة. وكان ناسخها كتب"صوالح"، ثم ضرب عليها وكتب"صلح". و"صلح": جمع"صليح". يقال: صالح وصلح، وهو جمع محمول على"فعيل" في الأسماء، فقالوا في جمع الصفات: "نذير ونذر، وجديد وجدد"، كما قالوا في الأسماء"كثيب وكثب". وهذا حرف لم ينص عليه في كتب اللغة.
٧٠٣١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرّجال كثيرٌ،
وابن أبي جعفر: هو عبد الله الرازي. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٢٧.
أبوه "أبو جعفر الرازي": اختلف في اسمه، والراجح أنه"عيسى بن ماهان". وهو ثقة، وثقه ابن المديني، وابن سعد ٧ / ٢ / ١٠٩، وغيرهما. ترجم في التهذيب في الكنى، وترجمه ابن أبي حاتم في ترجمة"عيسى" ٣ / ١ / ٢٨٠. وقد أشرنا إلى ترجمته في: ١٦٤. ولم أستطع أن أجد ما يدل على أنه أدرك ثابتًا البناني.
ثم هذا الحديث ذكره ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٩، والتاريخ ٢: ٦٠ أنه رواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس. وزاد في التاريخ أنه رواه ابن عساكر من طريق تميم بن زياد، عن أبي جعفر الرازي، ولكنه لم يكشف عن سنده في ابن مردويه إلى ابن أبي جعفر، ولا عن سنده في ابن عساكر إلى تميم بن زياد، فلا نستطيع أن نتبين صحة هذين الإسنادين أو أحدهما.
وقد مضى في شرح ٧٠٢٨، أنه رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم - من حديث معمر، عن قتادة، عن أنس. فأغنى ثبوته من ذاك الوجه الصحيح عن هذا الوجه الضعيف، أو المشكوك في صحته. والحمد لله.
٧٠٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود المصري قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته: أن فاطمة بنت رسول الله ﷺ قالت: دخل رسول الله ﷺ يومًا وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيتُ، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله ﷺ سألتها عائشة فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتًا في عامي هذا، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت: فبكيتُ، ثم قال: أنت سيدة
عمرو بن مرة: هو الجملي المرادي. مضى توثيقه: ١٧٥. واسم جده"عبد الله بن طارق". فمرة أبوه، غير"مرة الهمداني" شيخه هنا. فإنه"مرة بن شراحيل الهمداني" الثقة التابعي المخضرم. وقد مضى مرارًا. والحديث رواه البخاري ٦: ٣٤٠، عن آدم - وهو ابن أبي إياس العسقلاني، بهذا الإسناد، مطولاً.
ورواه أيضا ٦: ٣٢٠، من طريق وكيع، عن شعبة، ورواه أيضًا ٧: ٨٣، عن آدم، وعن عمرو - وهو ابن مرزوق - كلاهما عن شعبة.
ونقله ابن كثير في التفسير ٢: ١٣٩، عن هذا الموضع من الطبري، ثم قال: "وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة، به". ثم ذكر أنه استقصى طرقه في التاريخ. ولكنه لم يفعل، فإنه ذكره فيه ٢: ٦١، منسوبًا إلى"الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة".
وذكره السيوطي ٢: ٢٣، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
٧٠٣٣ - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال
عمارة بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء التحتية - بن الحارث، الأنصاري المازني المدني: ثقة، وثقه ابن سعد، والدارقطني، وغيرهما، وأخرج له مسلم في الصحيح.
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ثقة، وثقه النسائي، والعجلي، وغيرهما. وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا". وكان جوادًا ممدحًا. وهو المعروف بالديباج، لحسنه. وأبوه"عبد الله بن عمرو بن عثمان": هو المعروف بالمطرف، لحسنه أيضًا.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة"محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان". وهو خطأ يقينًا في اسم والد"محمد". فهو"عبد الله"، لا"عبد الرحمن".
وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: تابعية ثقة. كانت تحت ابن عمها"الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، وأعقبت منه، فلما مات تزوجت"المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان". زوجه إياها ابنها عبد الله بن حسن بن حسن، بأمرها، فأعقبت منه أولادًا، منهم "محمد" الراوي عنها هنا. وعمرت فاطمة حتى قاربت التسعين.
وروايتها عن جدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ - رواية منقطعة، ظاهرة الإرسال، لأن الزهراء ماتت بعد أبيها بستة أشهر، وكان ولدها الحسن والحسين صغيرين.
فهذا الحديث ضعيف الإسناد، لهذا الانقطاع.
ولم أجده في شيء من الدواوين غير هذا الموضع.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح مرتين، لم ينسبه فيهما لغير الطبري:
فأشار إليه ٦: ١٠٤، وجعله"عند الطبري من وجه آخر عن عائشة"، وهو وهم، فإنه من حديث فاطمة، كما ترى.
ثم أشار إليه ٧: ٨٢ على الصواب، من حديث فاطمة.
ووقع فيه في الموضعين غلط من ناسخ أو طابع.
وأصل هذه القصة ثابت من حديث عائشة، في الصحيحين وغيرهما. ولكن ليس فيه ذكر عيسى وعمره، ولا أنه"لم ترزأ امرأة... ".
وعمر عيسى المذكور - في هذه الرواية- منكر جدًا، لم نجد أحدًا قال مثل هذا، فيما نعلم. وهو من دلائل ضعف هذه الرواية.
وانظر حديث عائشة في البخاري ٦٥: ٤٦٢، و ٧: ٦٣-٦٤، و ٨: ١٠٣-١٠٤ (فتح)، ومسلم ٢: ٢٤٨-٢٤٩، وابن سعد ٢ / ٢ / ٣٩-٤٠، و ٨: ١٧.
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله:"وطهرك"، أنه: وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب، قاله مجاهد. (٢)
٧٠٣٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن الله اصطفاك وطهرك"، قال: جعلك طيبةً إيمانًا.
٧٠٣٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
٧٠٣٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح:"واصطفاك على نساء العالمين"، قال: ذلك للعالمين يومئذ. (٣)
* * *
وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا.
٧٠٣٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال:
أما أبو زياد الحميري: فلم نعرف من هو؟ ولم نجد له ترجمة ولا ذكرًا. والغالب أنه محرف عن شيء لا ندريه.
وأما "عمار بن سعد بن عابد المؤذن": فإنه المعروف أبوه بلقب"سعد القرظ" المؤذن. وعمار هذا تابعي، نص في التهذيب على أن روايته عن النبي ﷺ مرسلة. وقد ترجمه الحافظ في الإصابة ٥: ٨٣، في القسم الثاني، الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "قال مجاهد"، والصواب ما أثبت كما يدل عليه السياق.
(٣) انظر ما سلف ص: ٣٩٣ تعليق: ٤، مراجع تفسير"العالمين".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم:"يا مريم اقنتي لربك"، أخلصي الطاعة لربك وحده.
* * *
وقد دللنا على معنى"القنوت"، بشواهده فيما مضى قبل. (٢) والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معنى"اقنتي"، أطيلي الرُّكود.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٣٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(٢) انظر ما سلف ٢: ٥٣٨، ٥٣٩ / ثم ٥: ٢٢٨، ٢٣٧ / ٦: ٢٦٤.
٧٠٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٠٤٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"اقنتي لربك"، قال قال مجاهد: أطيلي الركود في الصّلاة = يعني القنوت.
٧٠٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى وَرِم كعباها.
٧٠٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى ورمت قدَماها.
٧٠٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد:"اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود.
٧٠٤٤ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة. يقول: اركدي لربّك: أي انتصبي له في الصلاة ="واسجدي واركعي مع الراكعين".
٧٠٤٥ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تصلي حتى تَرِم قدماها.
* * *
وقال أخرون: معناه: أخلصي لربك.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أخلصي لربك.
* * *
وقال أخرون: معناه: أطيعي ربك.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٤٨ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"اقنتي لربك"، قال: أطيعي ربك.
٧٠٤٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اقنتي لربك"، أطيعي ربك.
٧٠٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله. (١)
٧٠٥١ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"يا مريم اقنتي لربك"، قال يقول: اعبدي ربك.
* * *
* * *
فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دَهرك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا"، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فقال: هذه الأنباء من"أنباء الغيب"، أي: من أخبار الغيب.
ويعني ب"الغيب"، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا ﷺ أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا ﷺ أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من
(٢) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت صواب ما في المخطوطة، والطبري يكثر من استعمالها كذلك. انظر ما سلف: ٢٧١؛ والتعليق: ١.
* * *
وأما"الغيْب" فمصدر من قول القائل:"غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً". (١)
* * *
وأما قوله:"نُوحيه إليك"، فإن تأويله: نُنَزِّله إليك.
* * *
وأصل"الإيحاء"، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [سورة النحل: ٦٨]، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) [سورة المائدة: ١١١]، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز: (٢)
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (٣)
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم: ١١]، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. (٤) والأصل
(٢) هو العجاج.
(٣) ديوانه ٥، واللسان"وَحَى"، وسيأتي في التفسير ٤: ١٤٢ (بولاق)، وغيرها. ورواية ديوانه، وإحدى روايتي اللسان"وحى" ثلاثيًا، وقال: "أراد أوحى"، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف"، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (١٦: ٤١ بولاق). والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله:
الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ | بِإِذْنِه السَّماءُ، وَاطْمأَنَّتِ |
بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ | وَحَى لَهَا القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ |
وَشدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثَّبتِ | رَبُّ البِلادِ والعِبَادِ القُنَّتِ |
وأما"الوحْي"، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب"وحيًا"، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير:
أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (٣)
يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب:"وحَى" بغير ألف، ومنه قول رؤبة:
كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (٤)
* * *
(٢) قوله: "لأنذركم به ومن بلغ"، ليس في المخطوطة.
(٣) ديوانه: ٦٤، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف ١: ١٠٦، وهي قصيدة جيدة، يرد فيها ما قاله فيه مزرد، أخو الشماخ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه، فغضب مزرد وهجاه، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير: فَإِنْ تَسْأَلِ الأَقْوَامَ عَنِّي، فَإِنَّنِي... أَنَا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ
أنَا ابنُ الَّذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً... فَلَمْ يَخْزَ يَوْمًا في مَعَدٍّ وَلَمْ يُلَمْ
وَأَكْرَمَهُ الأكْفَاءُ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ... كِرَامٍ، فَإِنْ كَذَّبْتَني، فَاسْأَلِ الأُمَمْ
أَتَى العُجْمَ................................
(٤) ديوانه: ١٤٩، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح، وهو غريب الكلام، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه، وعفته الرياح. وقوله: "تدهمه" تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون) : كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا: ضربها فأثر فيها، كما يثم الفرس الأرض بحوافره: أي يدقها، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب: رقشه وزخرفه وأدق حظه: وقارب بين حروفه الدقاق، وتلك هي النمنمة.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كنت لديهم"، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ.
* * *
ومعنى قوله:"لديهم"، عندهم.
* * *
ومعنى قوله:"إذ يلقون"، حينَ يلقون أقلامهم.
* * *
وأما"أقلامهم"، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله:"وكفَّلها زكريا". (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وما كنت لديهم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
٧٠٥٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
٧٠٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٠٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها،"فكفَّلها زكريا"، يقول: ضمها إليه. (١)
٧٠٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يلقون أقلامهم"، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا.
٧٠٥٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون".
٧٠٥٨ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد
٧٠٥٩ - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم"، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد ﷺ حين أخبرَه الله.
* * *
وإنما قيل:"أيهم يكفل مريم"، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل:"إذ يلقون أقلامهم"، دلالة على محذوف من الكلام، وهو:"لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه".
* * *
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في"أيهم" النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن"النظر" و"التبين" و"العلم" مع"أيّ" يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ"أىّ" في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل:"لأنظُرَنّ أيهم قام"، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم:"لأعلمن".
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى"يكفل"، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.
وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟
كما:-
٧٠٦٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما كنت لديهم إذ يختصمون"، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت الملائكة"، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك.
* * *
* * *
وقوله:"بكلمة منه"، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل:"ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها"، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) [سورة النساء: ١٧١]، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها.
* * *
فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.
* * *
وقد قال قوم - وهو قول قتادة -: إن"الكلمة" التي قال الله عز وجل:"بكلمة منه"، هو قوله:"كن".
٧٠٦١ - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"بكلمة منه"، قال: قوله:"كن".
* * *
فسماه الله عز وجل"كلمته"، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء:"هذا قدَرُ الله وقضاؤُه"، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) [سورة النساء: ٤٧ سورة الأحزاب: ٣٧]، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (٢)
* * *
(٢) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
* * *
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"الكلمة" هي عيسى.
٧٠٦٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه"، قال: عيسى هو الكلمة من الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل:"اسمه المسيح"، فذكَّر، ولم يقُل:"اسمُها" فيؤنث، و"الكلمة" مؤنثة، لأن"الكلمة" غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى"فلان"، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية"الذرّية" و"الدابّة" والألقاب، (١) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (٢)
* * *
فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى = ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال:"اسمه المسيح"، وقد قال:"بكلمة منه"، و"الكلمة"، عنده هي عيسى = لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا)، ثم قال (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا) [سورة الزمر: ٥٦- ٥٩]، وكما يقال:"ذو الثُّدَيَّة"، لأن يده
(٢) انظر ما سلف ٢: ٢١٠ / ثم هذا الجزء: ٣٦٢، ٣٦٣، ومواضع أخرى.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ"الهاء" من ذكر"الكلمة"، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله"اسمه"، و"الكلمة"، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل:"اسمه"، وقد قدّمت"الكلمة"، ولم يقل:"اسمها"، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ"فلان" و"فلان"، وذلك، مثل"الذرّية" و"الخليفة" و"الدابة"، ولذلك جاز عنده أن يقال:"ذرية طيبة" و"ذرّيةً طيبًا"، ولم يجز أن يقال:"طلحة أقبلت = ومغيرة قامت". (٢)
* * *
وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ"ذي الثدية"، وقالوا: إنما أدخلت"الهاء" في"ذي الثدية"، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل:"كنا في لحمة ونَبيذة"، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
* * *
وأما قوله:"اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم"، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، (٣) كما:-
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٣٦٢، ٣٦٣.
(٣) في المطبوعة: "قذفت به"، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء: رماه به واتهمه، فهو مقروف. وقوله: "المفترية" مرفوعة فاعل"قرفت أمه به"، ويعني الفئة المفترية.
* * *
وأما"المسيح"، فإنه"فعيل" صرف من"مفعول" إلى"فعيل"، وإنما هو"ممسوح"، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم:"المسيح" الصدّيق... (٢)
٧٠٦٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
٧٠٦٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
* * *
وقال آخرون: مُسح بالبركة.
٧٠٦٦ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي"المسيح"، لأنه مُسِح بالبركة.
* * *
(٢) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى"إبراهيم" ثم يليه الأثر رقم: ٧٠٦٤، فيه أن المسيح هو الصديق، كما ذكر. وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط: "وقال آخرون: مسح بالبركة"، وهو كلام لا يستقيم، كما ترى، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم: ٧٠٦٦، واستجزت أن أصنع ذلك، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة.
هذا، وفي تفسير"المسيح" أقوال أخر كثيرة، لا أظن الطبري قد غفل عنها، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا.
قال أبو جعفر: يعني بقوله"وجيهًا"، ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس"وجيه"، يقال منه:"ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً" ="وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً"، و"الجاه" مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل:"جاه"، وإنما هو"وجه"، و"فعل" من الجاه:"جاهَ يَجوه". مسموع من العرب:"أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا"، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
* * *
وأما نصب"الوجيه"، فعلى القطع من"عيسى"، (١) لأن"عيسى" معرفة، و"وجيه" نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على"الكلمة" كانَ جائزًا.
* * *
وبما قلنا (٢) = من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله = قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.
٧٠٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وجيهًا"، قال: وجيهًا في الدنيا والأخرة عند الله. (٣)
* * *
وأما قوله:"ومِنَ المقرّبين"، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-
(٢) في المطبوعة: "كما قلنا"، والصواب من المخطوطة.
(٣) الأثر: ٧٠٦٧- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٠، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧٠٦٣.
٧٠٦٩ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن المقرّبين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
٧٠٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويكلمُ الناس في المهد"، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
= ف"يكلم"، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة"يفعل" بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (١)
بِتُّ أُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ | يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ (٢) |
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ٢١٣ وأمالي ابن الشجري ٢: ١٦٧، والخزانة ٢: ٣٤٥، واللسان (كهل). وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر، "ويعشيها" من العشاء، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم، والعضب: السيف القاطع، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.
هذا، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء ١: ٢١٣، ٢١٤.
٧٠٧١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"ويكلم الناس في المهد"، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.
* * *
وأما قوله:"وكهلا"، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (١) ودُون الشيخوخة، يقال منه:"رجل كهل = وامرأة كهلة"، كما قال الراجز: (٢)
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيَّا | أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصَّبِيَّا (٣) |
(٢) هو عذافر الفقيمي.
(٣) الجمهرة ٣: ٣٣٩، المخصص ١: ٤٠ أمالي، القالي ٢: ٢١٥، والسمط: ٨٣٦، شرح أدب الكاتب لابن السيد: ٢١٧، ٣٨٩، وللجواليقي: ٢٩٥، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم)، وغيرها، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة، فأكرى معه رجل من بني حنيفة، من أهل البصرة، بعيرًا يركبه هو وزوجته، وكان اسمها"شعفر"، فقال يرجز بهما:
لَوْ شَاءَ رَبِّي لَمْ أكُنْ كَرِيَّا | وَلَمْ أَسُقْ بَشَعْفَرَ المطَّيا |
بَصْرِيّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيَّا | يُطْعِمُهَا المَالِحَ والطَّرِيَّا |
وَجَيِّدَ البُرِّ لَهَا مَقْلِيَّا | حَتَّى نَتَتْ سُرَّتُها نَتِيَّا |
وَفَعَلَتْ ثُنَّتُها فَرِيَّا | ................... |
والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام.
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (٤) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (٥) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله ﷺ فيه، واحتج به عليهم
(٢) قوله: "وبالغًا" معطوف على قوله آنفًا: "طفلا في المهد". ثم قوله: بعد"بوحي الله" جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: "ويكلم الناس..".
(٣) في المطبوعة: "وما تقول عليه"، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة، مستفسدة مستصلحة، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!
(٤) في المطبوعة: "بالباطل"، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: "الباطل" منصوب مفعول به لقوله: "القائلين... "
(٥) في المطبوعة: "وأنه كان في معناه أشياء مولودًا... "، وفي المخطوطة: "وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا... "، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا، حتى ضفت به، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن"معه أشيا" هي"منذ أنشأه" كما أثبتها. والسياق: "أنه كان... يتقلب في الأحداث"، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.
٧٠٧٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين": يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (١)
٧٠٧٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين"، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
٧٠٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
٧٠٧٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكهلا ومن الصالحين"، قال: الكهلُ الحليم.
٧٠٧٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.
٧٠٧٧ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.
* * *
ذكر من قال ذلك:
٧٠٧٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.
* * *
ونصب"كهلا"، عطفًا على موضع"ويكلم الناس".
* * *
وأما قوله:"ومن الصالحين"، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم = إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه =:"ربِّ أنَّى يكون لي ولد"، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ (١) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، (٢) ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها ="كذلك الله يخلق ما يشاء"، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد
(٢) في المخطوطة: "أي تبتدئ"، وهو خطأ، وفي المطبوعة: "أو تبتدئ" وآثرت الذي أثبت.
٧٠٧٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء"، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر ="إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن"، مما يشاء وكيف يشاء ="فيكون" ما أراد. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: (وَيُعلِّمُهُ) بالياء، ردًّا على قوله:"كذلك الله يخلق ما يشاء"،"ويعلمه الكتاب"، فألحقوا الخبرَ في قوله:"ويعلمه"، بنظير الخبر في قوله:"يخلق ما يشاء"، وقوله:"فإنما يقول له كنْ فيكون".
* * *
(٢) الأثر: ٧٠٧٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٠ من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧٠٧٢، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إذا قضى أمرًا... "، وظاهر أن"أي" لا مكان لها هنا، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا"فإنما يقول له كن فيكون، مما يشاء... ". وظاهر أيضًا زيادة"فيكون" هنا، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا، ولأنها ستأتي بعد، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام"فيكون، كما أراد"، وكلاهما صواب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه.
* * *
وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده = والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب = والتوراة، وهي التوراة التي أنزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى = والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.
وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي ﷺ الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ونعلمه الكتاب"، قال: بيده.
٧٠٨٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، قال:"الحكمة" السنة ="والتوراة والإنجيل"، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.
٧٠٨٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة.
٧٠٨٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال:"ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة" التي كانت فيهم من عهد موسى ="والإنجيل"، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ورسولا"، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر"ونجعله" لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (٢) |
(٢) مضى البيت وتخريجه في ١: ١٤٠.
٧٠٨٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، أي: يُحقق بها نبوّتي، أني رسولٌ منه إليكم. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، ثم بين عن الآية ما هي، فقال:"أني أخلق لكم".
* * *
فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
* * *
(٢) في المطبوعة: "نبي وبشير ونذير"، والصواب من المخطوطة. هذا، وقوله: "ونجعله رسولا... "، إلى قوله: "ونذيري" بيان عن قول الله تعالى لمريم: "رسولا إلى بني إسرائيل" - ثم ابتدأ في بيان قول عيسى عليه السلام: "أني قد جئتكم بآية"، فقال عيسى عليه السلام: "وحجتي على صدقي في ذلك... ". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "على صدقي على ذلك"، وهو لا يستقيم، خطأ أو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.
(٣) الأثر: ٧٠٨٥- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٠، تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧٠٨٤، وكان في المطبوعة:
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا)، على التوحيد.
* * *
وقرأه آخرون: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا)، على الجماع فيهما. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا، على الجماع فيهما جميعًا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به، أعجب إليّ من خلاف المصحف.
* * *
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:-
٧٠٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال:"كن طائرًا بإذن الله"، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم،
* * *
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ فقيل له: الخفاش، كما:-
٧٠٨٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قوله:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"فأنفخ فيه"، وقد قيل:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"؟
قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك:"فأنفخ فيها". كان صحيحًا جائزًا، كما قال في المائدة، (فَتَنْفُخُ فِيهَا) [سورة المائدة: ١١٠] :(٢) يريد: فتنفخ في الهيئة. (٣) وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين:"فأنفخها"، بغير"في". (٤) وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول:"رب ليلة قد بتُّها، وبتُّ فيها"، قال الشاعر: (٥)
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فأنفخ فيها"، وهو مخالف للتلاوة في سورة المائدة، وهو سهو من الناسخ لقرب عهده بآية آل عمران، وتابعه الناشرون.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "فأنفخ" أيضًا، وهو متابعة للسهو السالف.
(٤) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٢١٤، وهو: (وفي إحدى القراءتين: "فأنفخها" وفي قراءة عبد الله بغير"في"، وهو مما تقوله العرب: رب ليلة قد بت فيها وبتها). ولعله تصرف واختصار من الطبري نفسه كعادته في الذي ينقله عن الفراء، وظني أن في نص الفراء خطأ، وصوابه: "وهي قراءة عبد الله..".
(٥) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري.
تحقق بها نبوتي، وأني رسول | "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ابن هشام. |
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ | وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ (١) |
إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا | حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ (٣) |
إِنَّ الَّذِي عَاشَ خَتَّارًا بِذِمَّتِه | وعاشَ عبدًا، قَتِيلُ الله بالزَّابِ |
العَبْدُ لِلْعَبْدِ، لا أَصْلٌ وَلاَ طرَفٌ، | أَلْوَتْ بِهِ ذَاتُ أظْفَارٍ وأنْيَابِ |
إِنّ المَنَايَا إِذَا ما زُرْنَ طَاغِيَةً | هَتَكْنَ عَنْهُ سُتُورًا بَيْنَ أبْوَابِ |
هَلاَّ جُمُوعَ نِزَارٍ إذْ لَقِيتَهُمُ | كُنْتَ امْرَءًا مِنْ نِزَارٍ غَيْرَ مُرْتَابِ |
لاَ أنْتَ زَاحَمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمنَعَهُ | وَلاَ مَدَدْتَ إلَى قَوْمِ بأَسْبَابِ |
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا نَاحَتْكَ نَائِحَةٌ | ................... |
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) "بنو عيذ الله" (بتشديد الياء المكسورة)، وهم بنو عيذ الله بن سعد العشيرة بن مذحج."استمر بها": ذهب بها."حلو العصارة": حلو الأخلاق. والعصارة والعصير: ما يتحلب من الشيء إذا عصر. يقول: ذهب بها فلن تعود إلى يوم الدين.
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأبرئ"، وأشفي. يقال منه:"أبرأ الله المريض"، إذا شفاه منه،"فهو يُبرئه إبراءً"، و"بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ"، وقد يقال أيضًا:"بَرئ المريض فهو يبرَأ"، لغتان معروفتان.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الأكمه".
فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويُبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٨٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمَّه. (١)
٧٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٩٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّثُ أن"الأكمه"، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين. (٢)
٧٠٩١ - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأبرئ الأكمه والأبرص"، قال: كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى، مضموم العينين. (٣)
* * *
(٢) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: " مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائى للخط. والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذ ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.
(٣) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: "مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائي للخط، والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذا ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.
* * *
وقال آخرون: بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٩٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأبرئ الأكمه"، هو الأعمى.
٧٠٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الأعمى.
٧٠٩٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الأعمى.
٧٠٩٦ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمى.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمش.
ذكر من قال ذلك:
٧٠٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمش.
* * *
قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى"الكمه"، العَمى، يقال منه:"كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا، وأكمهتها أنا" إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:
كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا | فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ (١) |
هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ | فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ (٢) |
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن: الكَمَه والبرص لا علاج لهما، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله: إنه لله رسول، لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته.
* * *
فأما ما قال عكرمة من أن"الكمه"، العمش، وما قاله مجاهد: من أنه
مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ | فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ |
مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كانَ بِهِ | غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أنْ تُقْتَلَعْ |
غَلَبَتْ عَادًا وَمَنْ بَعْدَهُمْ | فَأَبَتْ بَعْدُ، فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ |
لاَ يَرَاها النَّاسُ إِلا فَوْقَهُمْ | فَهْيَ تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ |
وَهْوَ يَرْمِيهَا، وَلَنْ يَبْلُغَها، | رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ |
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ....... | ................... |
(٢) ديوانه: ١٦٦، واللسان (كمه) (هرج) (تهته) وجاز القرآن ١: ٩٣، وسيرة ابن هشام ٢: ٢٣٠، من قصيدة يذكر فيها نفسه وأيامه، وقد سلفت منها أبيات كثيرة، يذكر قبله خصما له قد بالغ في ضلاله، فرده وزجره، "هرج بالسبع": صاح به وزجره. و"الغائلات": التي تغوله وتهلكه. و"المتهته": الذي تهته في الأباطيل. أي تردد فيها. ورواية الديوان"في غائلات الخائب.."، وهي قريب من قريب.
ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا، من أنّ"الأكمه"، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة: - من أنه المولود كذلك - أشبهُ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاجُ الأبرص.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له، كما:-
٧٠٩٨ - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معفل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه = قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى
* * *
وأما قوله:"وأنبئكم بما تأكلون"، فإنه يعني: وأخبرُكم بما تأكلون، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه ="وما تدّخرون"، يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبَأونه ولا تأكلونه.
= يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته = مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه، وآيةً له على حقيقة قوله، من أنبيائه ورسله، وَمن أحبّ من خلقه = (١) إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه، عليه. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب؟
قيل: إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك، (٣) أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج، ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه، (٤)
(٢) قوله"عليه" من تمام قوله: "الذي لا سبيل لأحد... ".
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "عند من يخبره بذلك" وسياق الضمائر يقتضي ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: "ولكن ابتدأ"، والصواب ما أثبته، ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة.
٧٠٩٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان، (٢) فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! !
٧١٠٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم.
٧١٠١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم"، قال: كان عيسى ابن مريم، إذْ كان في الكتّاب، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون.
٧١٠٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب:
(٢) المكتب (بضم الميم وفتح الكاف وتشديد التاء المكسورة) على وزن"معلم": هو الذي يعلم الصغار الكتابة. ويقال أيضًا"المكتب" (بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء) على وزن"مبصر" وهو المعلم أيضًا.
* * *
قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله.
* * *
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧١٠٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه = عيسى ابن مريم يقوله.
٧١٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧١٠٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" - قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علمه الله إياه.
٧١٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال:"ما تأكلون"، ما أكلتم البارحةَ من طعام، وما خبأتم منه.
٧١٠٧ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم، وبما يَرْفعون لهم، وبما يأكلون. ويقول للغلام:
٧١٠٨ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما تدخرون في بيوتكم"، قال: ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه. (٢)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها.
ذكر من قال ذلك:
٧١٠٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة، (٣) فأمر القوم أن
(٢) في المطبوعة: "ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء"، زاد في نص المخطوطة"لا"، و"شيء". أما المخطوطة ففيها"... الذي يمسك أن يخلفه". وكلاهما لا معنى له. والمخطوطة مضطربة الحروف في هذا الموضع، وأخشى أن يكون صواب الجملة: "ما تخبأون مخافة عليه، الذي تمسكون خيفة عليه". وتركت نص المخطوطة، على حاله في الأصل.
(٣) في المطبوعة: "فكانت جرابًا ينزل عليه"، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المخطوطة"حوابا" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. والمائدة، هي الخوان، وقال أهل اللغة: "لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان".
٧١١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون"، قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلتْ: أن يأكلوا ولا يدّخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سورة المائدة: ١١٥].
= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك.
* * *
وأصل"يدخرون" من"الفعل"،"يفتعلون" من قول القائل:"ذخرتُ الشيء" بالذّال،"فأنا أذخره". ثم قيل:"يدّخر"، كما قيل:"يدَّكِرُ" من:"ذكرت الشيء"، يراد به"يذتخر". فلما اجتمعت"الذال" و"التاء" وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا"دالا" مشددة، صيروها عَدْلا بين"الذال" و"التاء". (١) ومن العرب من يغلب"الذال" على"التاء"، فيدغم"التاء" في"الذال"، فيقول: وما تَذَّخِرون"،"وهو مذّخَر لك"،"وهو مُذَّكِر".
واللغة التي بها القراءةُ، الأولى، وذلك إدغام"الذال" في"التاء"، وإبدالهما
إنّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ | عَفْوًا، وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فَيَظَّلِمُ (٢) |
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة = لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم:"إني رسولٌ من ربكم إليكم"، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ="إن كنتم مؤمنين"، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
* * *
(٢) ديوانه: ١٥٢ وسيبويه ٢: ٤٢١، والمخصص ٢: ٢٠٦، ٢٠٧، واللسان (ظلم) وغيرها. هكذا جاء به أبو جعفر، وصواب روايته ما جاء في ديوانه، لأن قبله:
إنّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ وَلـ | ـكِنَّ الجوادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ |
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ | ................... |
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة، ولذلك نصب"مصدّقًا" على الحال من"جئتكم".
والذي يدل على أنه نصب على قوله:"وجئتكم"، دون العطف على قوله:"وجيهًا"، قوله:"لما بين يديّ من التوراة". ولو كان عطفًا على قوله"وجيهًا"، لكان الكلام: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. (١)
* * *
وإنما قيل:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة"، (٢) لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها، كما:-
٧١١١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار. (٣)
(٢) انظر تفسير"لما بين يدي" و"لما بين يديه" فيما سلف من هذا الجزء: ١٦٠، ١٦١.
(٣) الآصار جمع إصر (بكسر فسكون) : وهو العهد، أي ما عقد من عقد ثقيل عليهم، مثل قتلهم أنفسهم، وما أشبه ذلك من قرض الجلد إذا أصابته النجاسة، وغير ذلك من الأحكام المشددة.
٧١١٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال: وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحومُ الإبل والثُّروب، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له، (٢) وفي أشياء حرّمها عليهم، وشدّدها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
٧١١٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا.
٧١١٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
(٢) صيصية الديك (بكسر الصاد الأولى والثانية وفتح الياء الأخير)، وجمعها الصياصي: هي الشوكة التي في رجل الديك. وقرون البقر يقال لها"الصياصي"، ومنه قيل للحصون"الصياصي" لأن المقاتلين يحتمون بها كما تحتمي البقر بقرونها.
٧١١٦ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان حرّم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم، يبتغي بذلك شُكْرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما:-
٧١١٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، قال: ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
٧١١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها.
* * *
ويعني بقوله:"من ربكم"، من عند ربكم.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول ="فاتقوا الله"، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه ="وأطيعون"، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه، (١) كما:-
٧١١٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم"، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني: ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم ="فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، أي: هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إن الله ربي وربكم فاعبدوه".
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بكسر"ألف""إنّ" على ابتداء الخبر.
* * *
وقرأه بعضهم: (أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، بفتح"ألف""أنّ"، بتأويل:
(٢) الأثر: ٧١١٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣١، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧١١٥.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار، وذلك كسر ألف"إن" على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة.
* * *
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد ﷺ على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر"، فلما وَجد عيسى منهم الكفر.
* * *
فأما"الحَسُّ"، بغير"ألف"، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: (إذ تحسونهم بإذنه) [سورة آل عمران: ١٥٢].
"والحَسُّ" أيضًا العطف والرقة، ومنه قول الكميت:
هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ، | أَوْ يُبْكِيَ الدَّارَ مَاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ؟ (١) |
* * *
فتأويل الكلام: فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودًا لنبوّته، وتكذيبًا لقوله، وصدًّا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال:"مَن أنصاري إلى الله"؟، يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، (٢) والمولِّين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، ="إلى الله" عز وجل؟
* * *
ويعني بقوله:"إلى الله"، مع الله.
وإنما حَسُن أن يقال:"إلى الله"، بمعنى: مع الله، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه، جعلوا مكان"مع"،"إلى" أحيانًا، وأحيانًا تخبر عنهما بـ"مع" فتقول:"الذود إلى الذود إبل"، بمعنى: إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ"إلى"، ولم يجعلوا مكان"مع""إلى".
(٢) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف ٢: ٤٨٩ / ٥: ٥٨١.
* * *
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله:"مَنْ أنصاري إلى الله"، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧١٢٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله. (٢)
٧١٢١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله.
* * *
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا.
فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:-
٧١٢٢ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفتْه بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنزل في قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينًا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يُفرِّج كربته! قالت: فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه هو وجنودَه
(٢) الأثر: ٧١٢٠- مضى هذا الإسناد قديمًا برقم: ٢١٠٠، "محمد بن الحسين بن موسى ابن أبي حنين الكوفي"، روى عن عبيد الله بن موسى، وأحمد بن المفضل، وأبي غسان مالك بن إسماعيل. وهو صدوق قاله ابن أبي حاتم في كتابه ٣ / ٢ / ٢٣٠. و"أحمد بن المفضل القرشي الأموي" الكوفي الحفري. روى عن الثوري، وأسباط بن نصر، وإسرائيل. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما قال أبو حاتم: "كان صدوقًا، وكان من رؤساء الشيعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٧٧.
٧١٢٢م - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله"، الآية قال: استنصر فنصرَه الحواريون، وظهر عليهم.
* * *
وقال آخرون: كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ، لأن من استنصرَ الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله.
ذكر من قال ذلك:
٧١٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فلما أحس عيسى منهم الكفر"، قال: كفروا وأرادُوا قتله، فذلك حين استنصر قومه ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصارُ الله".
* * *
"والأنصار"، جمع"نصير"، (٨) كما"الأشراف" جمع"شريف"،"والأشهاد" جمع"شهيد".
* * *
وأما"الحواريون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا"حواريون".
فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم.
ذكر من قال ذلك:
٧١٢٤ - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: مما روى أبي قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمُّوا"الحواريين"، ببياض ثيابهم.
* * *
(٢) هذه الكلمة: "وإياه طعامًا" هكذا هي غير منقوطة في المخطوطة، وأما المطبوعة، فإنها جعلتها"وإياه طعامًا"، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه. وقد رأيت كل من نقل خبر السدي قد أسقط هذه الكلمة من روايته، فأسقطها الثعلبي في قصص الأنبياء: ٣٤١، والبغوي في تفسيره (بهامش ابن كثير) ٢: ١٤٦، والدر المنثور ٢: ٣٤، وغيرهم. وأنا أستبعد أن تكون زيادة من الناسخ، وأقطع بأنها ثابتة في أصل أبي جعفر، ولكني لم أجد لها وجهًا من وجوه التصحيف أحملها عليه، ولكنها ولا شك تعني: "وهيأ طعامًا". وأرجو أن يوفق غيري إلى معرفة صوابها، وأسأل الله أن يوفقني إلى مثله.
(٣) في المخطوطة: "اجزر شاة"، والصواب ما في المطبوعة: أجزره شاة: أعطاه شاة تصلح للذبح. وستأتي مرة أخرى على الصواب في حديث البقرة الآتي، في المخطوطة.
(٤) خالف بين الضمائر، فقال"فأكلا" يعني عيسى وصاحبه، ثم قال: "فلما شبعوا"، يعني عيسى وصاحبه وأمه مريم عليهما السلام. وهذا سياق لا بأس به في مجاز العربية.
(٥) أفا يفيء: رد وأرجع. يعني: لا يرد عليه عافيته. وفي المخطوطة: "لا يفي"، وهذا صواب قراءتها.
(٦) في المطبوعة: "أعلم ذلك لعيسى"، والصواب ما في المخطوطة.
(٧) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، كقول سالم بن وابصة الأسدي:وكقول عمر بن أبي ربيعة: وقالت لَهُنَّ:
غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ | فإن زادَ شيئًا، عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا |
ارْبَعْنَ شيئًا، لَعَلَّنِي | وَإنْ لامَني فِيمَا ارْتَأَيْتَ مُلِيمُ |
(٨) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف قريبًا: ٤٤٣، تعليق: ٢. والمراجع هناك.
ذكر من قال ذلك:
٧١٢٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة قال:"الحواريون"، الغسالون الذين يحوّرون الثياب، يغسلونها.
* * *
وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم.
ذكر من قال ذلك:
٧١٢٦ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي ﷺ فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة.
٧١٢٧ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله:"إذ قال الحواريون"، قال: أصفِياء الأنبياء.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى"الحواريين"، قولُ من قال:"سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين".
وذلك أن"الحوَر" عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي"الحُوَّارَى" من الطعام"حُوّارَى" لشدة بياضه، (١) ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين"أحور"، وللمرأة"حوراء". وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ، وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل،
* * *
٧١٢٨ -"إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا، وَحوَاريَّ الزبير". (١)
* * *
= يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى والأمصار"حَوَاريَّات"، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن، ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري: (٢)
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا | وَلا تَبْكِنَا إلا الكِلابُ النَّوابِحُ (٣) |
ويعني بقوله:"قال الحواريون"، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا، من تبييضهم الثياب:"آمنا بالله"، صدقنا بالله، واشهد أنتَ يا عيسى بأننا مسلمون.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه الذي ابتعثَ به
(٢) هو أبو جلدة بن عبيد بن منقذ اليشكري، من شعراء الدولة الأموية، كان من أخص الناس بالحجاج، ثم فارقه وخرج مع ابن الأشعث، وصار من أشد الناس تحريضًا على الحجاج. فلما قتل وأتى الحجاج برأسه ووضع بين يديه، مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم من سر أودعته هذا الرأس فلم يخرج منه حتى أتيت به مقطوعًا!!
(٣) الؤتلف والمختلف للآمدي: ٧٩، والأغاني ١١: ٣١١، والوحشيات: ٣٦، وحماسة ابن الشجري:
٦٥، واللسان (حور)، وبعده. بَكَيْنَ إِلَيْنَا خَشْيَةً أَنْ تُبِيحَهَا | رمَاحُ النَّصَارَى والسُّيُوفُ الجوارحُ |
بَكَيْنَ لِكَيْمَا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْهُمُ | وَتَأْبَى قُلُوبٌ أَضْمَرَتْها الجَوَانِحُ |
٧١٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر" والعدوان (١) ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله"، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم ="واشهد بأنا مسلمون"، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفدَ نصارَى نجران. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧١٢٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧١١٩.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا:"ربنا آمنا"، أي: صدّقنا ="بما أنزلت"، يعني: بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك ="واتبعنا الرسول"، يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك = وقوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.
٧١٣٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين"، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.
* * *
وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:-
٧١٣١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم = يعني: بالحواريين الذين كانوا
* * *
وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:-
٧١٣٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله:"ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين". فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء: ١٥٧].
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى"مكر الله بهم"، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: ١٥]. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى = مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم = إذ قال الله جل ثناؤه:"إني متوفيك"، فـ"إذ" صلةٌ من قوله:"ومكر الله"، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى"إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.
فقال بعضهم:"هي وفاة نَوْم"، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك:
٧١٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إني متوفيك"، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه = قال الحسن: قال رسول الله ﷺ لليهود:"إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ، قالوا: ومعنى"الوفاة"، القبض، لما يقال:"توفَّيت من فلان ما لي عليه"، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله:"إني متوفيك ورافعك"، أي: قابضك من
ذكر من قال ذلك:
٧١٣٤ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت. (١)
٧١٣٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الأرض.
٧١٣٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا"، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا.
٧١٣٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله ﷺ حيث
٧١٣٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"يا عيسى إني متوفيك"، أي قابضُك.
٧١٣٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، قال:"متوفيك": قابضك = قال:"ومتوفيك" و"رافعك"، واحدٌ = قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا = قال: وينزل كهلا.
٧١٤٠ - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل:"يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي"، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ.
ذكر من قال ذلك:
٧١٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إني متوفيك"، يقول: إني مميتك.
٧١٤٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من قال:"معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ"، لتواتر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
٧١٤٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا. (١)
حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي - ويقال"السلمي"-: تابعي ثقة معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٧٨٩٠ (ج ٢ ص ٢٩٠-٢٩١ حلبي)، بنحوه، مطولا، عن يزيد، وهو ابن هارون، عن سفيان، وهو ابن حسين، عن الزهري، عن حنظلة.
ورواه أحمد قبل ذلك، مختصرًا: ٧٢٧١، عن سفيان، وهو ابن عيينة. و: ٧٦٦٧، عن عبد الرزاق، عن معمر - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة.
ورواه أيضًا مختصرًا: ١٠٦٧١ (ج ٢ ص ٥١٣)، من طريق ابن أبي حفصة. و: ١٠٩٨٧ (ج ٢ ص ٥٤٠)، من طريق الأوزاعي - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة.
وهذه الرواية المختصرة عند أحمد - رواها مسلم ١: ٣٥٦-٣٥٧.
وروى أحمد معنى هذا الحديث مفرقًا في أحاديث، من طرق عن أبي هريرة. انظر المسند: ٧٢٦٧، ٧٦٦٥، ٧٦٦٦، ٩١١٠ (ج ٢ ص ٣٩٤)، ٩٣١٢ (ص ٤١١)، ١٠٢٦٦ (ص ٤٨٢-٤٨٣)، ١٠٤٠٩ (ص ٤٩٣-٤٩٤)، ١٠٩٥٧ (ص ٥٣٨).
وذكر ابن كثير كثيرًا من طرقه ورواياته، في التفسير ٣: ١٥-١٦. وانظر أيضًا تاريخه ٢: ٩٦-١٠١.
قوله: "أو ليثنين بهما"- هذا هو الصواب الثابت في المخطوطة، والصحيح المعنى. ووقع في المطبوعة"أو يدين بهما"!! وهو تخليط لا معنى له.
* * *
الحسن بن دينار البصري، كذاب لا يوثق به. وقد مضت ترجمته في: ٦٨٢.
عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في صحيحه، وترجمنا له في شرح المسند: ٧٢١٣.
والحديث سيأتي بإسناد آخر صحيح: من رواية سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن قتادة بهذا الإسناد نحوه (ج ٦ ص ١٦ بولاق).
وقد رواه أحمد في المسند: ٩٢٥٩ (ج ٢ ص ٤٠٦ حلبي)، عن عفان، عن همام، عن قتادة، به نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٩٥، من طريق عفان. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكر ابن كثير في التفسير ٣: ١٦، من رواية أحمد بن عفان. ثم أشار إلى أن أبا داود رواه من طريق همام، ثم أشار إلى رواية الطبري الآتية، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه أحمد أيضًا: ٩٦٣٠ (ج ٢ ص ٤٣٧)، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، به نحوه.
ثم رواه: ٩٦٣١، من طريق هشام، و: ٩٦٣٢، من طريق شيبان - كلاهما عن قتادة. ولم يذكر لفظه.
ونقله ابن كثير في التاريخ ٢: ٩٨-٩٩، عن رواية ابن أبي عروبة في المسند، وأشار إلى روايتي أحمد وأبي داود من طريق همام.
وليس في هذه الروايات ولا في رواية الطبري الآتية-: الكلمة التي هنا في رواية الحسن بن دينار: "وإنه خليفتي على أمتي". وهي عندنا كلمة شاذة، انفرد بروايتها رجل غير موثق به.
وصدر هذا الحديث رواه أحمد، والبخاري، وابن حبان، من أوجه، عن أبي هريرة. وانظر تفسير ابن كثير ٣: ١٦، وتاريخه ٢: ٩٨-٩٩.
قوله: "إخوة لعلات" - بفتح العين المهملة وتشديد اللام- قال ابن الأثير: "أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة".
قوله: "وإنه نازل" - نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: مما لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن النبي ﷺ بذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره طائفة طيبة منها، ج ٣ ص ١٥-٢٤. وهذا معلوم من الدين بالضرورة، لا يؤمن من أنكره.
قوله: "مربوع الخلق" - بفتح الخاء وسكون اللام- المربوع: هو بين الطويل والقصير. يقال: رجل ربعة ومربوع.
"الشعر السبط": المنبسط المسترسل.
قوله: "بين ممصرتين" - الممصرة من الثياب، بتشديد الصاد المهملة المفتوحة: هي التي فيها صفرة خفيفة.
* * *
* * *
وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله ﷺ في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم، كما:-
٧١٤٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، (١) كيفَ رفعه وطهره منهم، فقال:"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ". (٢)
* * *
وأما"مطهِّرك من الذين كفروا"، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:-
٧١٤٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: إذْ همُّوا منك بما همّوا. (٣)
٧١٤٨ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد،
(٢) الأثر: ٧١٤٦- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣١، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧١٣٠.
(٣) الأثر: ٧١٤٧- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣١، تتمة الأثر السالف رقم: ٧١٤٦.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل، (١) فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:-
٧١٤٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
٧١٥٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
٧١٥١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
٧١٥٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
٧١٥٣ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أما"الذين اتبعوك"، فيقال: هم المؤمنون، = ويقال: بل هم الرّوم. (١)
٧١٥٤ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.
ذكر من قال ذلك:
٧١٥٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل ="وجاعل الذين اتبعوك"، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم ="فوق الذين كفروا"، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ثم إليّ"، ثم إلى الله، أيها المختلفون في عيسى ="مرجعكم"، يعني: مصيركم يوم القيامة ="فأحكم بينكم"، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق ="فيما كنتم فيه تختلفون" من أمره.
وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله:"ثم إليَّ مرجعكم"، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، (١) على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: ٢٢]. (٢)
* * *
(٢) انظر ما سلف ١: ١٥٣، ١٥٤ / ٣: ٣٠٤، ٣٠٥.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأما الذين كفروا"، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا ="وما لهم من ناصرين"، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو الانتقام.
* * *
وأما قوله:"وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما:
٧١٥٦ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وعملوا الصالحات"، يقول: أدوا فرائضي.
* * *
="فيوفيهم أجورَهم"، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.
* * *
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، (١) ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، (٢) لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل ="نتلوها عليك"، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، (٣) بوحيناها إليك ="من
(٢) في المخطوطة: "ووعيد منه للمؤمنين"، وهو خطأ بين، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) انظر معنى"التلاوة" فيما سلف ٢: ٤١١، ٥٦٩.
٧١٥٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره. (٤)
٧١٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، قال: القرآن.
٧١٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والذكر"، يقول: القرآن ="الحكيم" الذي قد كمَلَ في حكمته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل = فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران = عندي، كشبه آدمَ الذي
(٢) انظر تفسير"الذكر" فيما سلف ١: ٩٤، ٩٩.
(٣) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف، في مادة (حكم) من فهارس اللغة.
(٤) الأثر: ٧١٥٧- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣١، وهو من تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧١٤٧، وكان في المطبوعة: "فلا يقبلن" بالياء، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
* * *
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه ﷺ على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك:
٧١٦٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، إلى قوله"فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين".
٧١٦١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد ﷺ = وكان فيهم السيّد والعاقب = فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد:
٧١٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله ﷺ فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
٧١٦٣ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، لما بُعث رسول الله ﷺ وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد، وما سَرجس، ومار يحز. (١) فسألوه ما يقول
قال الأُخَيْطِلُ إِذْ رَأَى رَايَاتِهِمْ | يَامَارَ سَرْجِسَ لا نُرِيدُ قِتَالاَ |
لَمَّا رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا | وَمَارَ سَرْجِيسَ وسمًّا ناقِعَا |
٧١٦٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن مثل عيسى عند الله"، فاسمع، (١) "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، فإن قالوا:
٧١٦٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله ﷺ فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل الله عز وجل:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه؟
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال:"كمثل آدم خلقه"،"وآدم" معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟
قيل: إن قوله:"خلقه من تراب" غير صلة لآدم، (٢) وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان. (٣)
* * *
وأما قوله:"ثم قال له كن فيكون"، فإنما قال:"فيكون" وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه:"خلقه من تراب ثم قال له كن"، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله:"كن"، ثم قال:"فيكون"،
(٢) يعني بقوله"صلة" التابع، وهو النعت بالجملة. فإن شرط النعت بالجملة أن يكون المنعوت نكرة لفظًا أو معنى، وأن يكون في الجملة ضمير ملفوظ أو مقدر يربطها بالموصوف، وأن تكون الجملة خبرية. فهذه ثلاثة شروط، أحدها في المنعوت، وشرطان في جملة النعت.
(٣) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ٢١٩.
فتأويل الكلام إذًا:"إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك"كن"، فهو كائن.
فلما كان في قوله:"كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله ﷺ وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل:"فيكون"، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية:"فيكون"، رفع على الابتداء، ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه"كن" = هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك ="فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، (٢) كما:-
٧١٦٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه.
(٢) انظر تفسير"الامتراء"، وتفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف ٣: ١٩٠، ١٩١.
٧١٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحق من ربك"، ما جاءك من الخبر عن عيسى ="فلا تكن من الممترين"، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه. (١)
٧١٧٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تكن من الممترين"، قال: والممترون الشاكون.
* * *
"والمرية""والشك""والريب"، واحد سواءٌ، كهيئة ما تقول:"أعطني""وناولني""وهلم"، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن حاجك فيه"، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم. (٢)
* * *
والهاء في قوله:"فيه"، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة
(٢) انظر تفسير"حاج" فيما سلف ٣: ١٢٠، ١٢١ / ٥: ٤٢٩ / ٦: ٢٨٠.
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءك من العلم"، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله ="فقل تعالوا"، هلموا فلندع = (١) "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل"، يقول: ثم نلتعن.
* * *
يقال في الكلام:"ما لهُ؟ بَهَله الله" أي: لعنه الله ="وما له؟ عليه بُهْلةُ الله"، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال:
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (٢)
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
* * *
="فنجعل لعنة الله على الكاذبين" منا ومنكم في أنه عيسى، (٣) كما:-
(٢) ديوانه قصيدة ٣٩، البيت: ٨١ وأساس البلاغة (بهل)، وأمالي الشريف المرتضي ١: ٤٥، من قصيدة مضى بعض أبياتها، وهي من شعره الذي رثى فيه أربد:
وَأَرَى أَرْبَدَ قَدْ فَارَقَنِي | وَمِنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَلَلْ |
مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ، | وَعَلَى الأَدْنَيْنَ حُلْوٌ كَالْعَسَلْ |
فِي قُرُومٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ | نَظَر الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ |
(٣) في المطبوعة: "في آية عيسى"، وهذا لا معنى له هنا والصواب ما في المخطوطة، وإنما أراد: الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى عبد الله ورسوله، لا أنه"الله" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد مضى في الأثر رقم ٧١٦٤، قولهم: "ولكنه الله".
٧١٧٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره ="فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم"، الآية. (١)
٧١٧٣ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
٧١٧٤ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، قال: منا ومنكم.
٧١٧٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي ﷺ يقول:"ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
(٢) الحديث: ٧١٧٥- سليمان بن زياد الحضرمي المصري: تابعي ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم: "شيخ صحيح الحديث".
عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي: صحابي نزل مصر، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
و"جزء": بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و"الزبيدي": بضم الزاي، نسبة إلى القبيلة.
ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب: "وحدثني ابن لهيعة" - ومثل هذا يكون كثيرًا في الأسانيد: يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث، فيذكرها بحرف العطف، عطف حديث على حديث، وإسناد على إسناد، فإذا حدث السامع عن الشيخ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره. والأمر قريب.
والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ص: ٣٠١، بنحوه، عن عبد الملك بن مسلمة، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي ٢: ٣٨، عن ابن جرير وحده.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم.
* * *
ويعني بقوله:"العزيز"، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه (١) ="الحكيم" في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ. (٢)
* * *
"فإن تولوا"، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان،
(٢) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف قريبًا: ٤٦٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
"فإن الله عليم بالمفسدين"، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم. (٢) يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.
* * *
وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
٧١٧٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، أي: إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى، ="لهو القصَص الحقّ"، من أمره. (٣)
٧١٧٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"إنّ هذا لهو القصص"، إن هذا الذي قُلنا في عيسى ="لهو القصَص الحق".
٧١٧٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، (٤) وروحًا منه، وعبدَ الله ورسوله.
٧١٧٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، إنّ هذا الذي قلنا في
(٢) انظر معنى"الفساد" فيما سلف ١: ٢٨٧، ٤١٦ / ٤: ٢٣٨، ٢٤٣، ٢٤٤ / ٥: ٣٧٢.
(٣) الأثر: ٧١٧٦- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٢، هو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧١٧٢.
(٤) في المطبوعة:
* * *
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد ﷺ وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه (١) = إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة = (٢) أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:-
٧١٨٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمِر - يعني النبي ﷺ - بملاعنتهم - يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله ﷺ فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، (٣) وقال لهم: إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. (٤) قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا:"نعوذ بالله"! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له:"نعوذ بالله"! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي ﷺ محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس،
(٢) سياق الجملة: "أمره... أن يدعوهم إلى الملاعنة"، وما بينهما فصل.
(٣) قوله: "ندمهم" (مشدد الدال) لامهم حتى حملهم على الأسف والندم. وهذا لفظ عربي عريق قل أن تظفر به في كثير من كتب اللغة.
(٤) في المطبوعة: "لا يستبقينكم"، بزيادة النون، والصواب من المخطوطة.
= حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم يكن في الحديث! (٣)
٧١٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق" إلى قوله:"فقولوا اشهدُوا بأنا مسلمون"، فدعاهم إلى النَّصَف، (٤) وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله ﷺ الخبرُ من الله عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه = (٥) دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رَأيهم، (٦) فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال:
(٢) "تم على الشي" استمر عليه وأمضاه.
(٣) هذه الفقرة من تتمة الأثر السالف، فلذلك لم أفردها بالترقيم.
(٤) النصف والنصفة (كلاهما بفتحتين) : هو الإنصاف، وإعطاء الحق لصاحبك كالذي تستحق لنفسك.
(٥) في المخطوطة: "أو ردوا عليه"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة مطابقًا لسيرة ابن هشام، وفيها: "إن ردوا ذلك عليه".
(٦) "ذو رأيهم"، صاحب الرأي والتدبير، يستشار فيما يعرض لهم لعقله وحسن رأيه.
٧١٨٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله:"تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم" الآية، قال: كان النبي ﷺ وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين. (٤)
(٢) قوله: "حتى يريكم زمن رأيه" ليست في سيرة ابن هشام. ويعني بذلك: حتى يمضي زمن، وتتقلب أحوال، فترون عاقبة أمره، صلى الله عليه وسلم، وقد قال شارح السيرة، السهيلي، في الروض الأنف ٢: ٥٠"وفي حديث أهل نجران، زيادة كثيرة عن ابن إسحاق، من غير رواية ابن هشام".
(٣) الأثر: ٧١٨١- سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٢، ٢٣٣، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧١٧٦- يقال: "رجل رضى من قوم رضى"، أي مرضى، وصف بالمصدر مثل رجل عدل، كما قال زهير: مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ:... هُمُ بَيْنَنَا، فَهُمُ رِضًى، وهُمُ عَدْلُ
(٤) الأثر: ٧١٨٢-"عيسى بن فرقد المروزي"، أبو مطهر. روى عنه عمرو بن رافع، وابن حميد، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: مروزي. قلت: ما حاله؟ قال: شيخ". مترجم في ابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٢٨٤. و"أبو الجارود" هو: زياد بن المنذر الهمداني. قال ابن معين: "كذاب، عدو الله، ليس يسوي فلسًا". وكان رافضيًا يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى في فضائل أهل البيت رضي الله عنهم أشياء ما لها أصول. لا يحل كتب حديثه، وهو من غلاة الشيعة، وله فرقة تعرف بالجارودية.
٧١٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن ذلك وخافوا = وذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض. (١)
٧١٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، قال: بلغنا أن نبي الله ﷺ خرج ليُداعي أهل نجران، (٢) فلما رأوه خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا = قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي ﷺ أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.
(٢) في المطبوعة: خرج ليلاعن أهل نجران"، قرأ"ليداعي""ليلاعن"، و"يداعي" من"الدعاء"، يعني هذه المباهلة والملاعنة.
٧١٨٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
٧١٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين.
٧١٨٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن كنتَ تأتي حين قلت"أبناءَنا وأبناءَكم"؟ قال: حسن وحسين.
٧١٩٠ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية:"فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم"، الآية، أرسل رسول الله ﷺ إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا. (١)
* * *
هذا وأحاديث هذا الباب كلها مرسلة، كما رأيت، إلا خبر ابن عباس.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل ="تعالوا"، هلموا (١) ="إلى كلمة سواء"، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، (٢) والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا.
= وقوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا"، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه ="فإن تولوا"، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، (٣) فلم يجيبوك إليها ="فقولوا"، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك ="اشهدوا بأنا مسلمون".
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
٧١٩١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
(٢) انظر تفسير"سواء" فيما سلف ١: ٢٥٦ / ٢: ٤٩٥-٤٩٧.
(٣) انظر معنى"تولى" فيما سلف قريبًا ص: ٤٧٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
٧١٩٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله ﷺ دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم = قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل:"قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك:
٧١٩٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" الآية، إلى قوله:"فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران. (١)
٧١٩٥ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
٧١٩٦ - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال قال: يعني جل ثناؤه:"إنّ هذا لهو القصص الحقّ"، في عيسى = على ما قد بيناه فيما مضى = (٢) قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا،"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"،
(٢) يعني الأثر السالف رقم: ٧١٧٨.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله:"يا أهل الكتاب"، أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب" بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر = لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح = فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب"، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، (١) فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.
* * *
وأما تأويل قوله:"تعالوا"، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. (٢) وإنما"هو تفاعلوا" من"العلوّ" فكأن القائل لصاحبه:"تعالَ إليّ"، قائلٌ"تفاعل" من"العلوّ"، (٣) كما يقال:"تَدَانَ مني" من"الدنوّ"، و"تقارَبْ مني"، من"القرب".
* * *
(٢) قد فسر أبو جعفر"تعالوا" في موضعين سلفا ص: ٤٧٤، ص: ٤٨٣، ولكنه استوفى هنا الكلام في بيانها، ولا أدري لم يفعل مثل ذلك، وكان الأولى أن يفسرها أول مرة.
(٣) في المطبوعة: "فكأن القائل تعالى إلى، فإنه تفاعل من العلو" لأنه لم يفهم ما كان في المخطوطة، فبدله، ووضع علامة (٣) للدلالة على أنه خطأ لا معنى له، أو سقط في الكلام. والصواب ما أثبت.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع"سواء" في الإعراب"لكلمة"، وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة: جر"سواء" لأنها من صفة"الكلمة" وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد"استواء"، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على"الاستواء" ويجرّ، جاز، ويجعله من صفة"الكلمة"، مثل"الخلق"، لأن"الخلق" هو"المخلوق"."والخلق" قد يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل"الاستواء" مثل"المستوى"، قال عز وجل: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [سورة الحج: ٢٥]، لأن"السواء" للآخر، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به"الاستواء". فإن أراد به"مستويًا" جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل"عدل" و"رضًى" و"جُنُب"، وما أشبه ذلك. وقالوا: [في قوله] :(٢) (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) [سورة الجاثية: ٢١]، فـ"السواء" للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول
(٢) الزيادة التي بين القوسين، زدتها ليستقيم الكلام ويستبين، وأخشى أن يكون في هذه الجملة سقط لم أستطع أن أتبينه، وراجع قول أبي جعفر في هذه الآية من تفسيره، ٢٥، ٨٩، ٩٠ (بولاق).
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة:"سواء" مصدرٌ وضع موضع الفعل، (١) يعني موضع"متساوية": و"متساو"، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في"سواء"، بمعنى عدل:"سِوًى وسُوًى"، كما قال جل ثناؤه: (مَكَانًا سُوًى) و (سِوًى) [سورة طه: ٥٨]، يراد به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك (" إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم "). (٢)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله:"إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، بأن"السواء" هو العدلٍ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧١٩٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، عدل بيننا وبينكم ="ألا نعبد إلا الله"، الآية.
٧١٩٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا"، بمثله. (٣)
* * *
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٢٢٠.
(٣) الأثر: ٧١٩٨- في المخطوطة: "و.. ولا نشرك به شيئًا" الآية، وليس فيها"بمثله"، زادها الناشر أو ناسخ قبله، لما رأى الأثر غير تام، وهو صنيع حسن، وإن كنت لا أرتضيه، وظني أنه قد سقط من الناسخ الأول بقية التفسير.
ذكر من قال ذلك:
٧١٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية:"كلمة السواء"، لا إله إلا الله.
* * *
وأما قوله:"ألا نعبُدَ إلا الله"، فإنّ"أنْ" في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله. (١)
* * *
وقد بينا - معنى"العبادة" في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وأما قوله:"ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا"، فإنّ"اتخاذ بعضهم بعضًا"، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله، (٣) وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) [سورة التوبة: ٣١]، كما:-
٧٢٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلُّوا لهم.
* * *
(٢) انظر ما سف ١: ١٦٠، ١٦١، ٣٦٢ / ٣: ١٢٠، ٣١٧.
(٣) في المطبوعة:
"ولا يجاوز أي يتعدى | "، والصواب ما في المخطوطة. |
ذكر من قال ذلك:
٧٢٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، قال: سجود بعضهم لبعض.
* * *
وأما قوله:"فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فإنه يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا = بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له ="مسلمون"، يعني: خاضعون لله به، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
* * *
وقد بينا معنى"الإسلام" فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تحاجون"، لم تجادلون ="في إبراهيم" وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان
* * *
وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٠٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق = قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون"، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. (٢)
(٢) الأثر: ٧٢٠٢- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠١: ٢٠٢ مختصرًا، والأثر الذي قبله فيما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق، هو ما سلف رقم: ٦٧٨٢.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٠٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون".
٧٢٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٢٠٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم"، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، (١) وألحق به المؤمنين، مَنْ كان من أهل الحنيفية.
٧٢٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ها أنتم"، القومَ الذين (١) [قالوا في إبراهيم ما قالوا ="حاججتم"]، (٢) خاصمتم وجادلتم (٣) ="فيما لكم به علم"، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته (٤) ="فلم تحاجون"، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون="فيما ليس لكم به علم"، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:-
٧٢٠٨ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما
(٢) هذه الزيادة التي بين القوسين، أو ما يقوم مقامها، لا بد منها، ولا يستقيم الكلام إلا بها، وظاهر أن الناسخ قد تخطى عبارة أو سطرا من فرط عجلته أو تعبه. واستظهرتها من نهج أبي جعفر وسياق تفسيره.
(٣) انظر تفسير"حاج" فيما سلف ٣: ١٢٠، ١٢١، ٢٠٠ / ٥: ٤٢٩ / ٦: ٢٨٠، ٤٧٣.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غير ذلك"، والصواب ما أثبت، تصحيف ناسخ.
٧٢٠٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم"، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم ="فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم"، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا ="والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
٧٢١٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقوله:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض ="وأنتم لا تعلمون"، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم = وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون = وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد ﷺ أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى"الحنيف" فيما مضى، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٢١١ - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنزل الله عز وجل:"ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا" الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا. (٤)
٧٢١٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
(٢) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف قريبًا: ٤٨٩ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر ما سلف ٣: ١٠٤ - ١٠٨.
(٤) الأثر: ٧٢١١-"إسحاق بن شاهين الواسطي"، روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه، ولم أجد له ترجمة. و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن" أبو الهيثم المزني الواسطي. ثقة حافظ صحيح الحديث، مترجم في التهذيب، و"داود" هو: "ابن أبي هند" و"عامر" هو الشعبي.
(٢) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(٣) في المطبوعة هنا أيضًا: "وأنا لا أستطيع" بزيادة"لا"، وليست في المخطوطة، وانظر التعليق: ١.
(٤) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(٥) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يزل رافعًا يديه إلى الله"، وأنا في شك من لفظ هذا الكلام، وأكبر ظني أنه تصحيف من كاتب قديم، ونص رواية البخاري"فلما برز رفع يديه فقال" فجعل"فلما"، وجعل"برز""يزل"، وجعل"رفع""رافعًا"، والسياق يقتضي مثل رواية البخاري.
(٦) الأثر: ٧٢١٣-"يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الزهري"، سكن الإسكندرية. ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر، رواه البخاري (الفتح ٧: ١٠٩، ١١٠) من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى ابن عقبة، بمثل لفظ الطبري مع بعض الاختلاف.
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله عز وجل " ":
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِبنَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"
والحمد لله على (..!!) وصلى الله على محمد وآله وسلم"
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري".
وهذا شيء جديد قد ظهر في هذه النسخة، فإن ما مضى جميعه، كان ختام التقسيم القديم، رواية أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ثم بدأت رواية التفسير بإسناد آخر لم نكن نعرفه عن رجل آخر غير أبي محمد الفرغاني، وهو المشهور برواية التفسير، فأثبت الإسناد في صلب التفسير لذلك: فلا بد من التعريف هنا بأبي بكر البغدادي. حتى نرى بعد كيف تمضي رواية التفسير، أهي رواية أبي محمد الفرغاني إلى آخر الكتاب، غير قسم منه رواه أبو بكر، أم انقضت رواية أبي محمد الفرغاني، ثم ابتدأت رواية أبي بكر من عند هذا الموضع؟
وراوي هذا التفسير، من أول هذا الموضع هو: "محمد بن داود بن سليمان سيار بن بيان، البغدادي، الفقيه، أبو بكر"، نزل مصر، وحدث بها عن أبي جعفر الطبري، وعثمان بن نصر الطائي. روى عنه أبو الفتح عبد الواحد بن محمد بن مسرور البلخي، كان ثقة. قال الخطيب البغدادي في تاريخه ٥: ٢٦٥ بإسناده إلى أبي سعيد بن يونس: "محمد بن داود بن سليمان، يكنى أبا بكر، بغدادي، قدم مصر، وكان يتولى القضاء بتنيس، وكان يروي كتب محمد بن جرير الطبري عنه. حدث عنه جماعة من البغداديين. وكان نظيفًا عاقلا. وولي ديوان الأحباس بمصر. توفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة".
ولم أجد له غير هذه الترجمة في تاريخ بغداد، لا في قضاة مصر للكندي، ولا في غيره من الكتب التي تحت يدي الآن، ولعلي أجد في موضع آخر من التفسير، شيئًا يكشف عن روايته التفسير، غير هذا القدر الذي وصلت إليه، والله الموفق.
* * *
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ أولى الناس بإبراهيم"، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ="للذين اتبعوه"، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به ="وهذا النبي"، يعني: محمدًا ﷺ ="والذين آمنوا"، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله ="والله ولي المؤمنين"، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، (١) المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٢١٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته ="وهذا النبي"، وهو نبي الله محمد ="والذين آمنوا" معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله ﷺ والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.
٧٢١٦ - حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين". (١)
الحسن بن أبي يحيى المقدسي: لم أصل إلى معرفة من هو؟
أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
سفيان: هو الثوري.
وأبوه: سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح - بالتصغير. مضت ترجمته في: ٥٤٢٤.
مسروق: هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني. مضت ترجمته في: ٤٢٤٢.
وهذا إسناد صحيح متصل.
وسيأتي - عقبه - بإسناد منقطع: من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- منقطعًا، بإسقاط"مسروق" بين أبي الضحى وابن مسعود.
وأبو الضحى لم يدرك ابن مسعود. مات ابن مسعود سنة ٣٣. ومات أبو الضحى سنة ١٠٠. وهكذا روى هذا الحديث في الدواوين بالوجهين: متصلا ومنقطعًا. والوصل زيادة ثقة، فهي مقبولة.
فرواه الترمذي ٤: ٨٠-٨١، عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيري، بهذا الإسناد، متصلا. كمثل رواية الطبري هذه من طريق أبي أحمد.
وكذلك رواه البزار، من طريق أبي أحمد الزبيري، فيما نقل عنه ابن كثير ٢: ١٦٣.
ولم ينفرد أبو أحمد الزبيري بوصله بذكر"مسروق" في إسناده. تابعه على ذلك راويان ثقتان.
فرواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٢، من طريق محمد بن عبيد الطنافسي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله - مرفوعًا موصولا. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقل ابن كثير ٢: ١٦١-١٦٢ أنه رواه سعيد بن منصور: "حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق [هو والد سفيان] عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود... " - فذكره.
وأبو الأحوص سلام بن سليم: ثقة متقن حافظ، مضى في: ٢٠٥٨. فقد رواه مرفوعًا متصلا، عن سعيد الثوري - والد سفيان - كما رواه سفيان عن أبيه.
فهذا يرجح رواية من رواه عن سفيان موصولا، على رواية من رواه عنه منقطعًا. فإذا اختلفت الرواية على سفيان بين الوصل والانقطاع، فلم تختلف على أبي الأحوص.
بل الظاهر عندي أن هذا ليس اختلافًا على سفيان. وأن سفيان هذا هو الذي كان يصله مرة، ويقطعه مرة. ومثل هذا في الأسانيد كثير.
٧٢١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه:"إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، وهم المؤمنون.
* * *
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٨١، عن محمود، وهو ابن غيلان، عن أبي نعيم، بهذا الإسناد.
وتابع أبا نعيم على روايته هكذا منقطعًا رواة آخرون ثقات:
فرواه أحمد في المسند: ٣٨٠٠، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله - هو ابن مسعود- مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٨١، عن أبي كريب، عن وكيع.
ولكن نقله ابن كثير ٢: ١٦٣-١٦٤ عن تفسير وكيع، بهذا الإسناد، وفيه"عن أبي إسحاق" بدل"عن أبي الضحى". وأنا أرجح أن هذا خطأ من بعض ناسخي تفسير وكيع، ترجيحًا لرواية أحمد عن وكيع، والترمذي من طريق وكيع - وفيهما: "عن أبي الضحى".
ورواه أحمد أيضًا: ٤٠٨٨، عن يحيى، وهو القطان، وعن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - كلاهما عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، مرفوعًا.
وقد رجح الترمذي الرواية المنقطعة، وهو ترجيح بغير مرجح. والوصل زيادة تقبل من الثقة دون شك.
وفي رواية الطبري هذه قوله: "أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، مما يفهم منه الشك في رفعه أيضًا. وهذا الشك لعله من ابن المثنى شيخ الطبري، أو من الطبري نفسه، لأن رواية الترمذي من طريق أبي نعيم ليس فيها الشك في رفعه.
والحديث ذكره السيوطي ٢: ٤٢، دون بيان الروايات المتصلة من المنقطعة - وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولم يذكر نسبته لمسند أحمد ولا للبزار.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ودّت"، تمنت = (١) "طائفة"، يعني جماعة ="من أهل الكتاب"، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى ="لو يضلُّونكم"، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.
* * *
و"الإضلال" في هذا الموضع، الإهلاكُ، (٢) من قول الله عز وجل: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة السجدة: ١٠]، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:
"هو ما كان بطاعة الأتباع | " بزيادة"هو"، وليست في المخطوطة. |
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ | قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (٣) |
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ | وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (٤) |
* * *
(٢) انظر تفسير"ضل" فيما سلف ١: ١٩٥ / ٢: ٤٩٥، ٤٩٦.
(٣) مضى تخريجه وشرحه في ٢: ٤٩٦.
(٤) ديوانه: ٨٣، واللسان (ضلل) (جلا)، من قصيدته الغالية في رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وقبل البيت:
فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ | أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ |
فَلاَ تَبْعَدَنْ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ، | وَكُلُّ امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ |
فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر، لَوْ جَاءَ سَالِمًا | أَبُو حُجُرٍ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ |
فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي، وَإنْ تَمُتْ | فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل |
فَآبَ مُضِلُّوهُ............ | ................... |
والذي قاله الأصمعي غريب جدًا، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته، واحتياله الذي لا يغني، ولو قال: "مصلوه"، هم مشيعوه الذين سوف يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها، وهي اللحد - لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة، على ضعفه، أجود مما قاله الأصمعي، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري، ولها تفسيران: أحدهما الذي قاله الطبري، وهو يقتضي أن يكون النعمان مات مقتولا، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك، فإنه غير ممكن أن يكون تفسيره"مهلكوه"، إلا على هذا المعنى، والآخر: "مضلوه" أي: دافنوه الذي أضلوه في الأرض: أي دفنوه وغيبوه، وهو المشهور في كلامهم، كقول المخبل:
أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ عَمِيدَهَا | وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ |
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته،
* * *
ومعنى قوله:"وما يشعرون"، وما يدرون ولا يعلمون.
* * *
وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أهل الكتاب"، من اليهود والنصارى ="لم تكفرون"، يقول: لم تجحدون ="بآيات الله"، يعني: بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه وأدلته="وأنتم تشهدون" أنه حق من عند ربكم.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد ﷺ وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله، كما:-
٧٢١٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون
٧٢٢٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل:"النبيّ الأميّ".
٧٢٢١ - حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"،"آيات الله" محمد، وأما"تشهدون"، فيشهدون أنه الحق، يجدونه مكتوبًا عندهم.
٧٢٢٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون" أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تلبسون"، يقول: لم تخلطون ="الحق بالباطل".
* * *
كما:-
٧٢٢٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ، فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل" إلى قوله:"والله واسع عليم". (١)
٧٢٢٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟
٧٢٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيرَه، الإسلامُ = ولم يقل:"ولا يجزي إلا به". (٢)
٧٢٢٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، الإسلامَ باليهودية والنصرانية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك بما:-
(٢) في المطبوعة: "ولم يقبل ولا يجازى إلا به"، قرأها الناشر كذلك لفساد خط الناسخ في كتابته، وصواب قراءتها ما أثبت، وفي المخطوطة"لا يجزى الآية"، وهو تصحيف قبيح.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"اللبس" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب، الحقّ؟ (٢)
* * *
و"الحق" الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد ﷺ ومبعثه ونبوّته، كما:-
٧٢٢٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، كتموا شأنَ محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر.
٧٢٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
٧٢٣٠ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) انظر تفسير نظيرة هذه الآية والتي قبلها فيما سلف ١: ٥٦٦-٥٧٢، والآثار التي رواها هنا قد رويت هناك في مواضعها.
* * *
وأما قوله:"وأنتم تعلمون"، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد ﷺ وَوَجدوه في كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ آخره. (١)
فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي ﷺ في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في الظاهر = (٢) من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك = وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.
ذكر من قال ذلك:
(٢) سياق قوله: "بتصديق النبي... في الظاهر".
٧٢٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.
٧٢٣٣ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، (١) فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا:"نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ"، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا:"إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم"، لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله ﷺ بذلك.
٧٢٣٤ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم، فأنزل الله عز وجل:
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٣٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.
٧٢٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.
٧٢٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، الآية، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد ﷺ أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا:"وقالت طائفة من أهل الكتاب"، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة ="آمنوا" صدّقوا ="بالذي أنزل على الذين آمنوا"، وذلك ما جاءهم به محمد ﷺ من الدين الحقّ وشرائعه وسننه ="وجه النهار"، يعني: أوّل النهار.
* * *
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٣٨ - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وجه النهار"، أوّلَ النهار.
٧٢٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وجه النهار"، أول النهار ="واكفروا آخره"، يقول: آخر النهار.
٧٢٤٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهُ تَسَتُّرًا... فَالْيَوْمَ حِينَ بَرَزْنَ للنظّارِ
يَخْمِشنَ حُرَّاتِ الوُجُوهِ عَلَى امْرِئٍ... سَهْلِ الخليقةِ طَيِّبِ الأخبارِ
قالوا في معنى البيت الشاهد: "يقول: من كان مسرورًا بمقتل مالك، فلا يشتمن به، فإنا قد أدركنا ثأره به. وذلك أن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر". ومعنى البيت عندي شبيه بذلك، إلا أن قوله: "فليأت نسوتنا بوجه نهار"، أراد به أنه مدرك ثأره من فوره، فمن شاء أن يعرف برهان ذلك، فليأت ليشهد المأتم قد قام يبكيه في صبيحة مقتله. يذكر تعجيله في إدراك الثأر، كأنه قد كان. وتأويل ذلك أنه قال هذه الأبيات لامرأته قبل مخرجه إلى قتال الذين قتلوا مالكًا، فقال لامرأته ذلك، يعلمها أنه مجد في طلب الثأر، وأنه لن يمرض في طلبه، بل هو مدركه من فوره هذا.
* * *
وأما قوله:"واكفروا آخره"، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار ="لعلهم يرجعون": يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه: كما:-
٧٢٤١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لعلهم يرجعون"، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه.
٧٢٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٢٤٣ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلهم يرجعون"، لعلهم ينقلبون عن دينهم.
٧٢٤٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لعلهم يرجعون"، لعلهم يشكّون.
٧٢٤٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لعلهم يرجعون"، قال: يرجعون عن دينهم.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا.
* * *
وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار".
* * *
و"اللام" التي في قوله:"لمن تبع دينكم"، نظيرة"اللام" التي في قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)، بمعنى: ردفكم، (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: ٧٢].
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٤٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، هذا قول بعضهم لبعض.
٧٢٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٢٤٧ م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.
٧٢٤٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في قوله:
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُم عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: قوله:"قل إنّ الهدى هدى الله"، اعتراضٌ به في وسط الكلام، (٢) خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. (٣) فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم = أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد:"إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، و"إن الهدى هدى الله".
ذكر من قال ذلك:
٧٢٤٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.
(٢) في المطبوعة: "اعترض به في وسط الكلام، خبر من الله..." والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(٣) في المطبوعة هنا أيضًا: "خبر عن قيل اليهود" برفع الخبر، والصواب من المخطوطة.
* * *
وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد:"إن الهدى هدى الله"، إنّ البيان بيانُ الله ="أن يؤتى أحدٌ"، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: ١٧٦]، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة الشعراء: ٢٠٠-٢٠١]، يعني: أن لا يؤمنوا ="مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا: ومعنى"أو":"إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم. (١)
ذكر من قال ذلك:
٧٢٥١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ="أو يحاجوكم عند ربكم"، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المن والسلوى = فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا:"إن الفضْل بيد الله يؤتيه من يشاء"، الآية.
* * *
فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [أمرٌ] من الله نبيَّه محمدًا ﷺ أن يقوله لليهود، (٢) وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و"الهدى"
(٢) في المطبوعة: "جميع هذا الكلام من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم"، وفي المخطوطة"جميع هذا الكلام من الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم"، ولما رأى الناشر عبارة لا تستقيم، اجتهد في إصلاحها، والصواب القريب زيادة ما زدته بين القوسين، سقط من الناسخ"أمر" لقرب رسمها مما بعدها وهو: "من". وقد استظهرته مما سيأتي في أول الفقرة التالية.
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. (١) وقالوا: تأويله:"قل" يا محمد"إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد" من الناس"مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٥٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول: لما أنزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك ="قلْ إنّ الفضلَ بيد الله"، الآية.
٧٢٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك:"قل" يا محمد:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا ﷺ أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا: وقوله:"أو يحاجوكم"، مردود على قوله:"ولا تؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم".
وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة -: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله:"أو يحاجوكم" مردودًا
ذكر من قال ذلك:
٧٢٥٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم = قال: ليخاصموكم = به عند ربكم ="قل إن الهدى هدى الله".
* * *
[قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله:"قل إن الهدى هُدى الله"] = معترضًا به، (١) وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، (٢) ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = (٣) "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم........ (٤) أحد بإيمانكم،
(٢) في المطبوعة: "اتبع دينكم"، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "بمثل ما أوتيتم" زاد"باء"، والصواب من المخطوطة.
(٤) موضع هذه النقط سقط، لا أشك فيه، وكان في المطبوعة: "أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو غير مستقيم، وكان في المخطوطة: "أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو كلام مختل، حمل ناشر المطبوعة الأولى على تغييره، كما رأيت. وظاهر أنه سقط من هذا الموضع، سياق أبي جعفر لهذا التأويل الذي اختاره، ورد فيه قوله تعالى: "قل إن الهدى هدى الله"، إلى موضعها بعد قوله: "أو يحاجوكم به عند ربكم"، كما هو بين من كلامه. وأنا أظن أن قوله: "أحد بايما لم" وهكذا كتبت في المخطوطة غير منقوطة، صوابها"حسدا لما آتاكم"، كما يستظهر من الآثار السالفة.
هذا، وإن شئت أن تجعل الكلام جاريًا كله مجرى واحدًا على هذا: "أو أن يحاجوكم عند ربكم، حسدًا لما آتاكم، لأنكم أكرم على الله منهم..."، كان وجهًا، غير أني لست أرتضيه، بل أرجح أن هاهنا سقطًا لا شك فيه.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، (٣) لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِمٌ (٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم ="إنّ الفضل بيد الله"، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، (٤) بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه ="يؤتيه من يشاء" من
(٢) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف ١: ١٦٦-١٧٠، ٢٣٠، ٢٤٩، ٥٤٩-٥٥١ / ٣: ١٠١، ١٤٠، ١٤١، ٢٢٣ / ٤: ٢٨٣.
(٣) من ذكر الطبري اختياره، تبين بلا ريب أن في صدر الكلام سقطًا، كما أسلف في ص: ٥١٥، تعليق: ١، ولعل الزيادة التي أسلفتها، قد نزلت منزلها من الصواب إن شاء الله.
(٤) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ٢: ٣٣٤ / ٥: ٥٧١.
٧٢٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله:"قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، قال: الإسلام.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يختص برحمته من يشاء"،"يفتعل" من قول القائل:"خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به". (٤)
* * *
وأما"رحمته"، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة، كما:-
٧٢٥٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يختص برحمته من يشاء"، قال: النبوّة، يخصُّ بها من يشاء.
(٢) انظر تفسير"واسع" فيما سلف ٢: ٥٣٧ / ٥: ٥١٦، ٥٧٥.
(٣) انظر تفسير"عليم" فيما سلف ١: ٤٣٨، ٤٩٦ / ٢، ٥٣٧ / ٣: ٣٩٩، وفهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"يختص" فيما سلف أيضا ٢: ٤٧١.
٧٢٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يختص برحمته من يشاء"، قال: يختص بالنبوة من يشاء.
٧٢٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج:"يختص برحمته من يشاء"، قال: القرآن والإسلام.
٧٢٦٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
* * *
="والله ذو الفضل العظيم"، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال:"فضله عظيم"، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [فضلٌ] من إفضال خلقه، (١) ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ. (١)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، (٢) وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
* * *
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
* * *
(٢) في المخطوطة: "أن نهوهم على أموالهم" غير منقوطة، والذي قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا".
فقال بعضهم:"إلا ما دمت له متقاضيًا".
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، إلا ما طلبته واتبعته.
٧٢٦٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: تقتضيه إياه.
٧٢٦٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: مواظبًا.
٧٢٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". (٢)
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، يقول: يعترف
(٢) في المطبوعة: "إلا ما دمت عليه قائمًا" بزيادة"عليه"، وهي فساد، والصواب من المخطوطة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال:"معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من قولهم:"قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي"، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. (٣) فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا = من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب
(٢) قوله: "الذي يؤدي، والذي يجحد" بيان عن ذكر الفريقين اللذين ذكرا في الآية، أي: هذا الذي يؤدي، وهذا الذي يجحد.
(٣) سياق العبارة: "قد يكون... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء... "، وما بينهما فصل.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
٧٢٦٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: ليس علينا في المشركين سبيل = يعنون من ليس من أهل الكتاب.
٧٢٦٨ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
٧٢٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نزلت"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر. (٢)
(٢) الأثر: ٧٢٦٩-"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، و"جعفر" هو: "جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، مضيا في رقم: ٦١٧. قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا: "هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي، وإسناده إليه إسناد جيد". وخرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٦٩، ١٧٠ من تفسير ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور ٢: ٤٤، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، وابن المنذر.
٧٢٧١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: (ليس علينا في الأميين سبيل)، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
٧٢٧٢ - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، (١) فقال الله عز وجل:"ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون".
٧٢٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل!! (٢)
(٢) الأثر: ٧٢٧٣-"أبو إسحاق الهمداني" كما بين في الأثر التالي. و"صعصعة بن يزيد"، ويقال"صعصعة بن زيد"، وذكر البخاري الاختلاف في اسمه، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير ٢ / ٢ / ٣٢١، ٣٢٢، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٤٦. وانظر التعليق على الأثر التالي.
* * *
وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري: "إنا نصيب في العرف، أو العذق، الشك من الحسن"، ولم أجد ذلك في مكان، وهو لا معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد الرزاق بهذا الإسناد نفسه، على عبارة واحدة هي"إنا نصيب في الغزو"، فأثبتها كذلك، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته بين قوسين، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها"أو: الغزوة -الشك من الحسن"، أو تكون: "أو: القرية- الشك من الحسن".
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم:"ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه"، يقولون = بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم = (١) الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل:"وهم يعلمون"، كما:-
٧٢٧٥ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم = يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ -: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!
٧٢٧٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم:"ليس علينا في الأميين سبيل".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. (٢) فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول
(٢) في المطبوعة: "هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده"، والذي أثبت هو نص المخطوطة، وهو الصواب المحض. والسياق: "وهذا إخبار من الله... عما لمن أدى أمانته... عنده". وقوله: "واتقاء الله ومراقبته" على النصب فيهما، مفعول لأجله.
* * *
و"الهاء" في قوله:"من أوفى بعهده"، عائدة على اسم"الله" في قوله:"ويقولون على الله الكذب".
* * *
يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد ﷺ وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ="واتقى"، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه ="فإنّ الله يحبّ المتقين"، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
* * *
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
٧٢٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"بلى من أوفى بعهده واتقى" يقول: اتقى الشرك ="فإنّ الله يحب المتقين"، يقول: الذين يتقون الشرك.
* * *
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها (٢) ="ثمنًا"، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها (٣) ="أولئك لا خلاق لهم في الآخرة"، يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم. (٤)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى"الخلاق"، ودللنا على
(٢) سياق الجملة: "إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله... وبأيمانهم الكاذبة... ثمنًا...
(٣) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف ١: ٣١١-٣١٥، ٥٦٥ / ٢: ٣١٦، ٣١٧ ثم ٣٤١، ٣٤٢، ثم ٤٥٢ / ٣: ٣٢٨.
وانظر تفسير"ثمنًا قليلا" فيما سلف ٢: ٥٦٥ / ٣: ٣٢٨.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "دون غيرها"، والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
وأما قوله:"ولا يكلمهم الله"، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم ="ولا ينظر إليهم"، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر:"انظُر إليّ نَظر الله إليك"، بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة = وكما يقال للرجل:"لا سمع الله لك دعاءَك"، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر: (٢)
دَعَوْتُ اللهَ حَتى خِفْتُ أَنْ لا | يَكْونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ (٣) |
وقوله"ولا يُزكيهم"، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم ="ولهم عذاب أليم"، يعني: ولهم عذابٌ موجع. (٤)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، ومن عني بها.
فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٧٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله
(٢) هو شمير بن الحارث الضبي، ويقال"سمير" بالمهملة، مصغرًا- وهو جاهلي.
(٣) نوادر أبي زيد: ١٢٤، والخزانة ٢: ٣٦٣، واللسان (سمع)، وبعده:
لِيَحْمِلَني عَلَى فَرَسٍ، فَإِنِّي | ضَعِيفُ المَشْيِ، لِلأَدْنَى حَمُولُ |
(٤) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف ١: ٥٧٣، ٥٧٤ / ٣: ٨٨ / ٥: ٢٩ = و"أليم" ١: ٢٨٣ / ٢: ١٤٠، ٣٧٧، ٤٦٩، ٥٤٠ / ٣: ٣٣٠، وغيرها، فاطلبه في فهارس اللغة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٧٩ - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان = فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال لليهودي:"احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنزل الله عز وجل:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (١)
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان: أوله من حديث عبد الله بن مسعود، وآخره في سبب نزول الآية من حديث الأشعث بن قيس.
والأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، صحابي معروف.
والحديث رواه أحمد: ٣٥٩٧، ٤٠٤٩، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد.
ثم رواه بالإسناد نفسه، في مسند"الأشعث بن قيس"، ج ٥ ص ٢١١ (حلبي).
وكذلك رواه البخاري ٥: ٥٣، ٢٠٦ (فتح الباري)، من طريق أبي معاوية.
ورواه مسلم ١: ٤٩-٥٠، من طريق أبي معاوية ووكيع - كلاهما عن الأعمش.
ورواه أحمد مختصرًا، عن ابن مسعود وحده، من أوجه أخر: ٣٥٧٦، ٣٩٤٦، ٤٢١٢.
ورواه أيضًا، مختصرًا ومطولا، في مسند الأشعث بن قيس، من ثلاثة أوجه أخر، ج ٥ ص ٢١١-٢١٢ (حلبي).
وكذلك رواه البخاري من أوجه، مختصرًا ومطولا، في مواضع غير الموضعين السابقين ٥: ٢٥، ٢٠٧، ٢١١، و ١١: ٤٧٣، ٤٨٥-٤٩٠ (وهنا شرحه الحافظ شرحًا وافيًا)، و ١٣: ١٥٦، ٣٦٤.
ورواه مسلم من وجهين أيضًا ١: ٥٠.
وذكره ابن كثير ٢: ١٧٢: ١٧٣، من رواية المسند عن أبي معاوية، ثم ذكره من روايته الأخيرة في مسند الأشعث بن قيس.
وذكره السيوطي ٢: ٤٤، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي أيضًا: ٧٢٨٢، من رواية منصور، عن شقيق، وهو أبو وائل، به، نحوه.
رجاء بن حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة: تابعي ثقة كثير العلم والحديث. وهو من رهط امرئ القيس بن عابس الكندي صاحب هذه الحادثة. جدهما الأعلى: "امرؤ القيس ابن عمرو بن معاوية الأكرمين الكندي".
العرس - بضم العين المهملة وسكون الراء وآخره سين مهملة: هو ابن عميرة الكندي، وهو صحابي، جزم البخاري بصحبته، وروى له حديثًا في الكبير ٤ / ١ / ٨٧. وهو أخو عدي بن عميرة، وعم عدي ابن عدي.
عدي بن عميرة بن فروة الكندي: صحابي معروف، يكنى"أبا زرارة"، له أحاديث في صحيح مسلم، كما قال الحافظ في الإصابة.
و"عميرة": بفتح العين وكسر الميم، كما نص عليه في المشتبه للذهبي وغيره. وضبط في طبقات ابن سعد ٦: ٣٦ بضمة فوق العين. وهو خطأ صرف، فإن اسم"عميرة" بالضم - من أسماء النساء. وضبط في الطبقات على الصواب في ترجمة أخرى لعدي ٧ / ٢ / ١٧٦.
ووقع في المخطوطة هنا"عدي بن عمير" و"العرس بن عمير" - بدون هاء في آخره فيهما. وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد في المسند ٤: ١٩١-١٩٢ (حلبي)، عن يحيى بن سعيد، عن جرير ابن حازم، بهذا الإسناد، نحوه.
ثم رواه، ص: ١٩٢، عن يزيد، وهو ابن هارون، "حدثنا جرير بن حازم"، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظ الحديث كله. ووقع في نسخة المسند المطبوعة في هذا الموضع سقط قول أحمد: "حدثنا يزيد"، وهو خطأ واضح. وثبت على الصواب في مخطوطة المسند المرموز لها بحرف"م".
وذكره ابن كثير ٢: ١٧٢، من رواية المسند الأولى، ثم قال: "ورواه النسائي، من حديث عدي بن عدي، به"، وهو يريد بذلك السنن الكبرى، فإنه ليس في السنن الصغرى.
ولذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ١٧٨، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجالهما ثقات".
وهو في الدر المنثور ٢: ٤٤، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر.
وقول ابن جريج"قال آخرون" - هو ثابت في المخطوطة والمطبوعة. ولم يذكره السيوطي، فلعله اختصره.
ومعناه أن ابن جريج كان يتحدث في شأن نزول الآية، والظاهر أنه تحدث بخبر قبل هذا، ثم قال: "وقال آخرون" - فذكر هذا الحديث. ولعله ذكر الآية الماضية: ٧٢٧٩-، أو الآتية: ٧٢٨٢، أو نحو ذلك، ثم أتى بروايته هذه المرسلة.
وهي ضعيفة الإسناد كما قلنا لإرسالها. ثم هي ضعيفة لما فيها من منافاة لتينك الروايتين الصحيحتين:
أن الخصومة كانت بين الأشعث ورجل يهودي، وأن اليهودي كان المدعى عليه الذي عليه اليمين، وأن الأشعث قال: "إذن يحلف". فهي ضعيفة الإسناد، ضعيفة السياق.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي ٢: ٤٤، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "فقام الأشعث ليحلف" - هذا هو الثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله. وفي المخطوطة: "فحلف"، وهو خطأ، يدل على غلطه قوله بعد"فنكل". والنكول إنما يكون عند عرض اليمين أو الهم بالحلف. أما بعد الحلف فلا يكون نكول، بل رجوع إلى الحق، أو إقرار به، ولا يسمى نكولا. وفي الدر المنثور: "فقال الأشعث: نحلف" - والظاهر أنه تصحيف.
* * *
وهذا الحديث هو الحديث السابق: ٧٢٧٩، بنحوه. ذاك من رواية الأعمش عن أبي وائل، وهذا من رواية منصور عن أبي وائل. وقد بينا تخريجه هناك.
ونذكر هنا أن من روايات البخاري إياه، روايته في ٥: ٢٠٧ (فتح)، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم ١: ٥٠، عن إسحاق بن إبراهيم -وهو ابن راهويه- عن جرير، به، ولم يذكر لفظه.
ورواه أحمد في المسند ٥: ٢١١ (حلبي)، عن زياد البكائي عن منصور.
ورواه البخاري ١١: ٤٧٣، من طريق شعبة، عن سليمان - وهو الأعمش - ومنصور، كلاهما عن أبي وائل.
ورواه أيضًا ١٣: ١٥٦، من طريق سفيان، وهو الثوري عن منصور.
٧٢٨٣ - حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عز وجل:"إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا".
٧٢٨٤ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه.
٧٢٨٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا) الآية، إلى:"ولهم عذاب أليم"، أنزلهم الله بمنزلة السَّحَرة.
٧٢٨٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (١)
٧٢٨٧ - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا". (٢)
وسيأتي الحديث عقب هذا بإسناد آخر متصل.
(٢) الحديث: ٧٢٨٧- موسى بن عبد الرحمن المسروقي، وحسين بن علي الجعفي: ترجمنا لهما فيما مضى: ١٧٤.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، مضى في: ٤٨٩٧.
هشام: هو ابن حسان.
محمد: هو ابن سيرين. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "قال محمد بن عمران بن حصين"! وهو خطأ صرف، حرفت كلمة"عن" إلى"بن". والصواب ما أثبتنا: "محمد، عن عمران بن حصين". وهكذا مخرج الحديث، كما سيأتي.
وهذا الحديث ظاهره هنا أنه موقوف. ولكنه في الحقيقة مرفوع، حتى لو كان موقوفًا لفظًا، فإنه - على اليقين- مرفوع حكمًا، لأن الوعيد الذي فيه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس، ولا مما يدرك بالاستنباط من القرآن. ثم قد ثبت رفعه صريحًا، من هذا الوجه:
فرواه أحمد في المسند ٤: ٤٣٦، ٤٤١، عن يزيد، وهو ابن هارون: "أخبرنا هشام، عن محمد، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدًا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار". ولم يذكر فيه الاستشهاد بالآية.
وكذلك رواه أبو داود: ٣٢٤٢، عن محمد بن الصباح البزاز، عن يزيد بن هارون به، نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ٤: ٢٩٤، من طريق يزيد بن هارون، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٣: ٤٧، من رواية أبي داود والحاكم.
وذكره السيوطي ٢: ٤٦، بنحو رواية الطبري هنا: موقوفًا لفظًا مع الاستشهاد بالآية - ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، والحاكم، مع اختلاف السياق بين الروايتين، كما هو ظاهر. وذلك منه دلالة على أنه لا فرق بين رفعه ووقفه لفظًا، إذ كان مرفوعًا حكمًا ولا بد.
"اليمين المصبورة" و"يمين الصبر" - قال القاضي عياض في المشارق ٢: ٣٨"من الحبس والقهر"، بمعنى"إلزامها والإجبار عليها".
وقال الخطابي في معالم السنن، رقم: ٣١١٥ من تهذيب السنن: "اليمين المصبورة، هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من أجلها، أي يحبس. وهي يمين الصبر، وأصل الصبر: الحبس. ومن هذا قولهم: قتل فلان صبرًا، أي حبسًا على القتل وقهرًا عليه".
٧٢٨٩ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله ﷺ أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر، إذا فجر فيها صاحبها. (١)
* * *
والحديث لم أجده إلا عند السيوطي ٢: ٤٦ ونسبه لابن جرير فقط.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب = وهم اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله ﷺ على عهده، من بني إسرائيل.
* * *
و"الهاء والميم" في قوله:"منهم"، عائدة على"أهل الكتاب" الذين ذكرهم في قوله:"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك".
وقوله ="لفريقًا"، يعني: جماعة (١) ="يلوون"، يعني: يحرِّفون ="ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، يعني: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. (٢) يقول الله عز وجل: وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله، (٣) ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله ="من عند الله"، يقول: مما أنزله الله على أنبيائه ="وما هو من عند الله"، يقول: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله.
= يقول عز وجل:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني بذلك: أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والإلحاقَ بكتاب
(٢) في المطبوعة"لكلامهم" باللام، ولم يحسن قراءة المخطوطة.
(٣) قوله: "وما ذلك... من كتاب الله": ليس ذلك... من كتاب الله، هذا هو السياق.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى"يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٩٠ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال: يحرفونه.
٧٢٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٢٩٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، حتى بلغ:"وهم يعلمون"، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله.
٧٢٩٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٢٩٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، وهم اليهود، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل اللهُ.
٧٢٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب"، قال: فريقٌ من أهل الكتاب ="يلوون ألسنتهم"، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الليّ"، الفَتْل والقلب. من قول القائل:"لوَى
لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ (٢)
يقال منه:"لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا" ="وما لوى ظهر فلان أحد"، إذا لم يصرعه أحدٌ، ولم يَفتل ظهره إنسان ="وإنه لألوَى بعيدُ المستمر"، إذا كان شديد الخصومة، صابرًا عليها، لا يُغلب فيها، قال الشاعر: (٣)
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ | لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا (٤) |
(٢) كتاب العققة لأبي عبيدة (نوادر المخطوطات: ٧) ص: ٣٦٠، الحماسة ٣: ١٠، معجم الشعراء: ٣١٧، العيني بهامش الخزانة ٢: ٣٩٨، واللسان (لوى) وسيأتي بتمامه في التفسير ١٥: ١٦٠ (بولاق)، وغيرها، أبيات يقولها فرعان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عق أباه وضربه، لأنه تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب لأمه، ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه، فقال فيه:من أبيات كثيرة، فيقال: إن منازلا، أصبح وقد لوى الله يده. ثم ابتلاه الله بابن آخر عقه كما عق أباه، واستاق ماله، فقال فيه:
جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وَبَيْنَ مُنَازِلٍ | جَزَاءً، كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طالِبُهْ |
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أنْ يَكُونَ منازلٌ | عَدُوّي، وَأَدْنَى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ |
حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي، وفَدَّيْتُ صَاحِبي | صَغِيرًا، إلَى أَنْ أَمْكَنَ الطَّرَّ شَارِبُهْ |
وَأَطْعَمْتُه، حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا | يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ |
تَخَوّنَ مالِي ظَالِمًا، وَلَوَى يَدِي! | لَوَى يَدَه اللهُ الَّذِي هُو غَالِبُهْ |
تَظَلَّمَنِي مَالِي خَليجٌ وعَقَّنِي | عَلَى حِينَ كَانَتْ كالحَنيِّ عظامي |
(٣) هو مجنون بني عامر.
(٤) ليس في ديوانه، وهو في الأغاني ٢: ٣٨، مع أبيات، واللسان (شدا)، (شذا)، (لوى)، وغيرها، وقبله: يَقُولُ أُنَاسٌ: عَلَّ مَجْنُونَ عَامِرٍ... يَرُومُ سُلُوًّا! قُلْتُ: إِنِّي لِمَا بِيَايَقُولُونَ:
وَقَدْ لاَمَنِي في حُبِّ لَيْلَى أَقَارِبِي | أَخِي، وَابْنُ عَمِّي، وَابنُ خَالِي، وَخَالِيَا |
لَيْلَى أَهْلُ بَيْتِ عَدَاوة!! | بِنَفْسِي لَيْلَى من عَدُوٍّ ومَالِيَا |
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر.
* * *
و"البشر" جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل:"القوم" و"الخلق". وقد يكون اسمًا لواحد ="أن يؤتيه الله الكتاب" يقول: أن ينزل الله عليه كتابه ="والحكم" يعني: ويعلمه فصْل الحكمة ="والنبوة"، يقول: ويعطيه النبوّة ="ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، بكونهم معلِّمي الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه. (١)
* * *
٧٢٩٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي = (١) حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام =: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس: (٢) أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو كما قال = فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني = أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (٣) "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة"، الآية إلى قوله:"بعد إذ أنتم مسلمون".
٧٢٩٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه. (٤)
٧٢٩٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا
(٢) في المطبوعة: "الرئيس"، وفي المخطوطة: "الريس" غير منقوطة، وهو في سيرة ابن هشام المطبوعة الأوربية والمصرية: "الربيس" مثل"سكيت" (بكسر الراء وتشديد الباء المكسورة). وربيس السامرة: هو كبيرهم. وفي التعليقات على سيرة ابن هشام. الطبعة الأوروبية"الريس، والرئيس" معًا، وكأن الصواب هو ما جاء في نص ابن هشام الأول.
(٣) في سيرة ابن هشام: "من قولهما"، وهي أجود، ولعل هذه من قلم الناسخ.
(٤) الأثران: ٧٢٩٦، ٧٢٩٧- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٢، ٢٠٣، وهما من تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧٢٢٣، وفي الطبري اختلاف في قليل من اللفظ.
٧٢٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٧٣٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم، بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه، فقال الله عز وجل:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"ولكن" يقول لهم:"كونوا ربانيين"، فترك"القول"، استغناء بدلالة الكلام عليه.
* * *
وأما قوله:"كونوا ربانيين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٠١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء.
٧٣٠٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء.
٧٣٠٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين:"ولكن كونوا ربانيين"، حكماء علماء.
٧٣٠٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
٧٣٠٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: فقهاء.
٧٣٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٣٠٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني القاسم، عن مجاهد قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: فقهاء.
٧٣٠٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
٧٣١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: علماء حكماء = قال معمر: قال قتادة.
٧٣١١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"كونوا ربانيين"، أما"الربانيون"، فالحكماء الفقهاء.
٧٣١٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا سفيان، عن
٧٣١٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، يقول: كونوا حكماء فقهاء.
٧٣١٤ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله: (الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: ٦٣]، قال: الفقهاء العلماء.
٧٣١٥ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس مثله.
٧٣١٦ - حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا حكماء فقهاء.
٧٣١٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، يقول: كونوا فقهاء علماء.
* * *
وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء.
ذكر من قال ذلك:
٧٣١٨ - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قوله:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء أتقياء.
* * *
ذكر من قال ذلك:
٧٣١٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: الربانيون: الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم. وقرأ: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: ٦٣]، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار العلماء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي | وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ (١) |
يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه". (٢) فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل:"هو ربّان"، كما يقال:"هو نعسان" من قولهم:"نعَس يَنعُس". وأكثر ما يجيء من الأسماء على"فَعْلان" ما كان من الأفعال ماضيه على"فَعِل" مثل قولهم:"هو سكران، وعطشان، وريان" من"سَكِر يسكَر، وعطِش يعطَش، ورَوي يرْوَى". وقد يجيء مما كان ماضيه على"فَعَل يَفعُل"، نحو ما قلنا من"نَعَس يَنعُس" و"ربَّ يَرُبّ".
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وكان"الربَّان" ما ذكرنا،
(٢) انظر تفسير"رب" فيما سلف ١: ١٤١، ١٤٢.
ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"، لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بفتح"التاء" وتخفيف"اللام"، يعني: بعلمكم الكتابَ ودراستكم إياه وقراءتكم.
(٢) هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى"الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) بضم"التاء" من"تعلمون"، وتشديد"اللام"، بمعنى: بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه.
واعتلوا لاختيارهم ذلك، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم، فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا: ولا موصوف بأنه"يعلم"، إلا وهو موصوف بأنه"عالم". قالوا: فأما الموصوف بأنه"عالم"، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ، كما:-
٧٣٢٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قرأ:"بما كنتم تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون"، مخففةً بنصب"التاء" = وقال ابن عيينة: ما علَّموه حتى علِموه!
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأه بضم"التاء" وتشديد"اللام". لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية.
يقول جل ثناؤه:"ولكن كونوا ربانيين"، على ما بينا قبل من معنى"الرباني"،
* * *
= و"دراستهم" إياه: تلاوته. (١)
* * *
وقد قيل:"دراستهم"، الفقه.
* * *
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا: من تلاوة الكتاب، لأنه عطف على قوله:"تعلمون الكتاب"،"والكتاب" هو القرآن، فلأنْ تكون الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن، أولى من أن تكون معنيًّا بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ.
ذكر من قال ذلك: (٢)
٧٣٢١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال يحيى بن آدم قال، أبو زكريا: كان عاصم يقرأها: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)، قال: القرآن = (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، قال: الفقه.
* * *
فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا، أيها الناس، سادة الناس، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه.
* * *
(٢) أنا أرتاب في سياق هذا الموضع من التفسير، وأخشى أن يكون سقط من النساخ شيء.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا يأمركم".
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة: (وَلا يَأْمُرُكُمْ)، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي ﷺ أنه لا يأمركم، أيها الناس، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها، وهي: (" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ ")، فاستدلوا بدخول"لن"، على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما صير مكان"لن" في قراءتنا"لا"، وجبت قراءَته بالرفع. (١)
* * *
وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: (وَلا يَأْمُرَكُمْ)، بنصب"الراء"، عطفًا على قوله:"ثم يقولَ للناس". وكان تأويله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقولَ للناس، ولا أن يأمرَكم = بمعنى: ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك:"ولا يأمرَكم"، بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأويل: (٢) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله = ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "بتأول"، والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا، (٢) أنه في قراءة عبد الله:"ولن يأمركم" استشهادًا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده، وإنما هو خبر رواه حجاج، عن هارون الأعور (٣) أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة، (٤) بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو.
* * *
(٢) يعني الفراء كما أسلفنا في التعليق رقم: ١، ص: ٥٤٧.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "... عن هارون لا يجوز أن ذلك... "، وهو كلام بلا معنى، جعل الناشرين الأولين للتفسير يكتبون في وجوه تأويلها وتصويبها خلطًا لا معنى له أيضًا، والصواب ما أثبت. وهذا من التصحيف الغريب في نسخ النساخ.
وحجاج، هو: "حجاج بن محمد المصيصي الأعور" سكن بغداد، ثم تحول إلى المصيصة قال أحمد: "ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف" ورفع أمره جدًا. كان ثقة صدوقًا، ثم تحول من المصيصة فعاد إلى بغداد في حاجة له، فمات بها سنة ٢٠٦، وعند مرجعه هذا إلى بغداد كان قد تغير وخلط، فرآه يحيى بن معين، فقال لابنه: "لا تدخل عليه أحدًا"، ولكن روى الحافظ في ترجمة سنيد ابن داود ما يدل على أن حجاجًا قد حدث في حال اختلاطه، حتى ذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء، لسبب الاختلاط. وأخشى أن يكون الطبري، إنما أشار إلى هذا، وإلى رواية سنيد عنه في حال اختلاطه، فقال إن إسناده غير صحيح، لأنه من رواية سنيد عنه.
وأما "هارون الأعور" فهو: "هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور العتكي" علامة صدوق نبيل، له قراءة معروفة. وهو من الثقات. وكلاهما مترجم في التهذيب، وفي الطبقات القراء لابن الجزري.
(٤) في المطبوعة: "لتأويل نحو قراءة... "، وهي عبارة مريضة، وسبب ذلك أنه لم يحسن قراءة"على" لسوء حظ الناسخ، فكتبها"نحو"، فمرضت العبارة.
* * *
ثم قال جل ثناؤه = نافيًا عن نبيّه ﷺ أن يأمرَ عباده بذلك =:"أيأمُركم بالكفر"، أيها الناس، نبيُّكم، بجحود وحدانية الله ="بعد إذ أنتم مسلمون"، يعني: بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة، متذللون له بالعبودة = (٢) أي أن ذلك غير كائن منه أبدًا. وقد:-
٧٣٢٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:"ولا يأمركم" النبيُّ ﷺ ="أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا".
* * *
(٢) في المطبوعة: "بالعبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يدع الناشر كلمة"العبودة" إلا جعلها"العبودية" في كل ما سلف. انظر آخر تعليق على ذلك ص: ٤٠٤، تعليق: ٢.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين ="وميثاقهم"، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم.
* * *
وقد بينا أصل"الميثاق" باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه الكفاية. (١)
* * *
=:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، (٢) فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق (لَمَا آتَيْتُكُمْ) بفتح"اللام" من"لما"، إلا أنهم اختلفوا في قراءة:"آتيتكم".
فقرأه بعضهم:"آتيتكم" على التوحيد.
وقرأه آخرون: (آتينَاكم) على الجمع.
* * *
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" التي مع"ما" في أول الكلام"لام الابتداء"، نحو قول القائل:"لزيدٌ أفضل منك"، لأن"ما" اسم، والذي بعدها صلة لها، (٣) "واللام" التي في:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به = يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال:"أما والله أن لو جئتني
(٢) في المطبوعة: "اختلفت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة: "لأن لما اسم... "، وهو جيدًا أيضًا وتركت ما في المطبوعة على حاله.
* * *
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال:"اللام" التي تدخل في أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال:"لَمَن قام لآتينّه"،"ولَمَن قام ما أحسن"، (٣) فإذا وقع في جوابها"ما" و"لا"، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها"ما" و"لا"، فتكون كالأولى، (٤) وهي جواب للأولى. قال: وأما قوله:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، بمعنى إسقاط"من"، غلطٌ. لأن"منْ" التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. (٥)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح"اللام" - بالصواب: أن يكون قوله:"لما" بمعنى"لمهما"، وأن تكون"ما" حرف جزاء أدخلت عليها"اللام"، وصيِّر الفعل معها على"فَعَل"، (٦) ثم
(٢) في المطبوعة: "لا يأتينه"، والصواب ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا"، فلا يقال: لمن قام لا تتبعه، ولا: لمن قام ما أحسن"، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام اضطرابًا شديدًا، واختلفت معانيه.
(٤) يعني"ما" و"لا" التي يتلقى بها القسم.
(٥) انظر ذلك فيما سلف ٢: ١٢٦، ١٢٧، ٤٤٢، ٤٧٠.
(٦) قوله: "على فعل"، يعني على الفعل الماضي، لا المضارع.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِمَا آتَيْتكُمْ) "بكسر"اللام" من"لما"، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
* * *
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم = فـ"ما" على هذه القراءة. بمعنى"الذي" عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة = ثم"جاءكم رسول"، يعني: ثم إنْ جاءكم رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة ="لتؤمنن به"، أي: ليكونن إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر"اللام" من"لما": وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله:"لتؤمنن به" من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام:"أخذتُ ميثاقك لتفعلن". لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بفتح"اللام". لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه". قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته؟
ذكر من قال ذلك:
٧٣٢٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود:"وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". (١)
قلت: والقول الذي ذكره مجاهد، أنه: "خطأ من الكاتب"، إنما عنى به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة الأخيرة، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة الأخيرة، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة، فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله: "خطأ من الكاتب"، أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف؟ والقرآن متلقى بالرواية والوراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بما هو مكتوب في الصحف!! هذا بيان قد تعجلته، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن فيه.
٧٣٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، إنما هي أهل الكتاب. (١) قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول:"ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد ﷺ ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
٧٣٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم" الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
٧٣٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، (١) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه = ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية.
٧٣٣٠ - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب"، الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدّقوه وينصروه.
٧٣٣٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت الحسن عن قوله:"وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم = فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. (١)
ذكر من قال ذلك:
٧٣٣٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد ﷺ - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة" إلى آخر الآية. (٢)
٧٣٣٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد
(٢) الأثران: ٧٣٣٣، ٧٣٣٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٣، وهما تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧٢٩٦، ٧٢٩٧.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها = وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته = مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
* * *
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواءٌ قال قائل:"لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال:"لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت"، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في الآخر.
* * *
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
* * *
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه".
فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدّق
* * *
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد ﷺ إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. (٢)
* * *
وقال آخرون = ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء = قوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"، معنيٌّ به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٣٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال:"ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
٧٣٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم: أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم -: أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدّقوه وينصروه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها
(٢) انظر ما سلف من رقم: ٧٣٢٣-٧٣٢٥.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به = يقول: لتصدقنه = ولتنصرنه.
* * *
وقد قال السديّ في ذلك بما:-
٧٣٣٧ - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لما آتيتكم"، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم.
* * *
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود، من كتاب وحكمة. (٢)
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، (٣) لو كان التنزيل:"بما آتيتكم"، ولكن التنزيل باللام"لما آتيتكم". وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال:"أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بمعنى: بما آتيتكم.
* * *
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "لما آتيتكم" باللام، والسياق دال على خلافه، وعلى صواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "كان تأويلا لا وجه غيره"، وهو تصويب لما جاء في المخطوطة: "كان تأويلا لا وجه له"، وهي عبارة لا تستقيم. ورأيت أن الناسخ عجل فكتب"لا وجه له" مكان"له وجه"، فرددتها إلى هذا، وخالفت المطبوعة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: (١) من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم ="لتؤمنن به ولتنصرنه" ="وأخذتم على ذلك إصري"؟ يقول: وأخذتم = على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم ="إصري". يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
* * *
و"الأخذ": هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم:"أخذ الوالي عليه البيعة"، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإصر" باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
وحذفت"الفاء" من قوله:"قال أأقررتم"، لأنه ابتداء كلام، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. (٣)
* * *
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٦: ١٣٥-١٣٨.
(٣) انظر ما سلف ٢: ١٨٣.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:-
٧٣٣٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، (١) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله:"قال فاشهدوا"، يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك ="وأنا معكم من الشاهدين"، عليكم وعليهم.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرَض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهدَه وميثاقه ="بعد ذلك"، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه ="فأولئك هم الفاسقون"، يعني بذلك: أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرَهم، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذَا عليهم بذلك ="هم الفاسقون"، يعني بذلك: الخارجون من دين الله وطاعة ربهم، (١)
كما:-
٧٣٣٩ - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب: فمن تولى عنك، يا محمد، بعد هذا العهد من جميع الأمم ="فأولئك هم الفاسقون"، هم العاصون في الكفر.
٧٣٤٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه = قال أبو جعفر: يعني الرازي = (٢) "فمن تولى بعد ذلك" يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم ="فأولئك هم الفاسقون".
(٢) قوله: "قال أبو جعفر" فيما بين الخطين، هو أبو جعفر الطبري صاحب هذا التفسير. وقوله"يعني الرازي"، يعني"أبا جعفر الرازي" الذي قال في الإسناد"حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه". وبيان الطبري في هذا الموضع عن"أبي جعفر الرازي" بعد أن مضى مئات من المرات في هذا الإسناد وغيره من الأسانيد، دليل على أن أبا جعفر الطبري، قد كتب تفسيره هذا على فترات متباعدة = أو لعل أحدًا سأله وهو يملي تفسيره، فبين له، وأثبته الذين سمعوه منه كما قاله في مجلسه ذاك. وقد مضى"ذكر أبي جعفر الرازي" في التعليق على الأثر رقم: ١٦٤.
* * *
قال أبو جعفر: وهاتان الآيتان، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به، عن أنبيائه ورسله، (٢) فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد ﷺ = (٣) ومعنيٌّ [به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه = وتعريفهم ما في كتب الله، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم، من صفته وعلامته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: (" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ ")، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) على وجه الخطاب.
* * *
(٢) السياق: وإن كان مخرج الخبر... عن أنبيائه ورسله، فإن مقصود به...
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى تذكيرهم... "، والصواب الراجح زيادة ما زدت بين القوسين. وسياق هذه الجملة وما بعدها: فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله... ومعنى به تذكيرهم... وتعريفهم ما في كتب الله... من صفته وعلامته". فصلتها لتسهل قراءتها وتتبعها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ)، على وجه الخبر عن الغائب، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، بالتاء على وجه المخاطبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ:"أفغير دين الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله:"تبغون" و"إليه ترجعون" في هذه الآية، من ذلك. (١)
* * *
وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب ="أفغيرَ دين الله تبغون"، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، (٢) ="وله أسلم من في السماوات والأرض"، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودة، (٣) وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية (٤) ="طوْعًا وكرهًا"، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين،
(٢) انظر تفسير"الدين" فيما سلف ١: ١١٥، ٢٢١ / ٣: ٥٧١ / ثم ٦: ٢٧٣، ٢٧٤ = ثم معنى"يبغي" فيما سلف ٣: ٥٠٨ / ٤: ١٦٣ / ثم ٦: ١٩٦، تعليق: ٣.
(٣) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، كما سلف مرارًا. انظر قريبًا: ص: ٥٤٩ تعلق ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"أسلم" فيما سلف ص: ٤٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته.
فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٤٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: هو كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزمر: ٣٨].
٧٣٤٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
٧٣٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:" وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون "، قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، (٢) فهو الذي أسلم طوعًا.
* * *
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٤٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: حين أخذَ الميثاق.
* * *
(٢) في المطبوعة: "العبودية"، وانظر التعليق السالف رقم ص: ٥٦٤، رقم: ٣.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٤٦ - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: الطائع المؤمن = و"كرهًا"، ظلّ الكافر.
٧٣٤٧ - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"طوعًا وكرهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره.
٧٣٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كَرْهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
٧٣٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه طائعًا، وظله كارهًا. (١)
* * *
وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: استقاد كلهم له. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧٣٥٠-"جابر" هو: "جابر بن يزيد الجعفي". روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري وإسرائيل وجماعة. و"عامر"، هو الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "جابر بن عامر"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٥١ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا" الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين.
٧٣٥٢ - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون"، قال: الملائكة طوعًا، والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم كرهًا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٥٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفغير دين الله تبغون"، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه.
٧٣٥٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [سورة غافر: ٨٥].
* * *
ذكر من قال ذلك:
٧٣٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [سورة الرعد: ١٥].
* * *
وأما قوله:"وإليه تُرجعون"، فإنه يعني:"وإليه"، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس ="ترجعون"، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته.
* * *
وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أفغير دين الله تبغون"، يا معشر اليهود،"وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون" = فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل لهم:"آمنا بالله"، فترك ذكر قوله:"فإن قالوا: نعم"، أو ذكر قوله: (١) "فإن ابتغوا غير دين الله"، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
وقوله:"قل آمنا بالله"، يعني به: قل لهم، يا محمد،: صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه ="وما أنزل علينا"، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنزل علينا من وَحيه وتنزيله، فأقررنا به ="وما أنزل على إبراهيم"، يقول: وصدقنا أيضًا بما أنزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب = وبما أنزل على"الأسباط"، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢) ="وما أوتي موسى وعيسى"، يقول: وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي، وبما أنزل على النبيين من عنده.
والذي آتى الله موسى وعيسى = مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه، والإيمان به = التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى.
="لا نفرق بين أحد منهم"، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم،
(٢) انظر ما سلف ٢: ١٢٠، ١٢١ / ٣: ١١١-١١٣.
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون". ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودة، (١) مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه (٣) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل. (٤)
* * *
وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.
(٢) يعني ما سلف ٣: ١٠٩-١١١، وهي نظيرة هذه الآية، وانظر فهارس اللغة"سلم".
(٣) انظر معنى"يبتغي" فيما سلف ص: ٥٦٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"الخاسرين" فيما سلف ١: ٤١٧ / ٢: ١٦٦، ٥٧٢.
٧٣٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا"، فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنزل الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: ٩٧]، فحجَّ المسلمون، وقعدَ الكفار.
٧٣٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه"، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه ﷺ يحُجُّهم أنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). (١)
٧٣٥٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا" إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ) من أهل الملل (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
* * *
وقال آخرون: في هذه الآية بما:-
٧٣٥٩ - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) ﴾
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت.
فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٦٠ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ قال: فنزلت:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" إلى قوله:"وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم
٧٣٦١ - حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس = إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع.
٧٣٦٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار، فذكر نحوه. (١)
٧٣٦٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم" إلى"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ"، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله ﷺ لأصدقُ منك، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
٧٣٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق"، قال: أنزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد إيمانه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى:"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"،
٧٣٦٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات"، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه.
٧٣٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٣٦٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه = قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه:"أرسلوا، هل لي من توبة؟ " قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع = قال ابن جريج، قال عكرمة، نزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت = في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت:"إلا الذي تابوا من بعد ذلك"، الآيات.
* * *
وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نزلت.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٦٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم"، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا ﷺ ثم كفروا به.
٧٣٧٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ محمد ﷺ في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم.
٧٣٧١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا ﷺ في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن. (١) وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد ﷺ في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد ﷺ قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن
* * *
فتأويل الآية إذًا:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا نبوّة محمد ﷺ ="بعد إيمانهم"، أي: بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه ="وَشهدوا أن الرسول حقّ"، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله ﷺ إلى خلقه حقًّا ="وجاءهم البينات"، يعني: وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ ="والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر على الإيمان.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى"الظلم"، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
="أولئك جزاؤهم"، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ -"جزاؤهم"، ثوابهم من عملهم الذي عملوه (٢) ="أنّ عليهم لعنة الله"، يعني: أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، (٣) ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب (٤) ="أجمعين"، يعني: من جميعهم، لا من
(٢) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف ٢: ٢٧، ٢٨، ٣١٤، وغيره في فهارس اللغة"جزى".
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "أن حل بهم"، فعل ماض، والسياق يقتضي المضارع.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم... "، وهو كلام غير مستقيم، وهو تصحيف لما كتبت، كان في الأصل"الدعاما يسوءهم" بغير همزة"الدعاء"، وبغير نقط"بما"، فاشتبهت الحروف على الناسخ، فحرفها إلى ما ترى.
* * *
وقد بينا صفة"لعنة الناس" الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
="خالدين فيها" يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله (٢)
="لا يخفَّف عنهم العذاب"، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه (٣) ="ولا هم ينظرون"، يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. (٤) وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة. (٥)
ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره:"إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا"، يعني: إلا الذين تابوا
(٢) انظر تفسير"خالدين" فيما سلف ١: ٣٩٧، ٣٩٨ / ٢: ٢٨٧ / ٤: ٣١٧، وفهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"يخفف" فيما سلف ٢: ٣١٦، ٣١٧، والتنفيس: والترفيه والتفريج هنا.
(٤) انظر تفسير"ينظرون" في نظيرة هذه الآية فيما سلف ٣: ٢٦٤، ٢٦٥، وقبله ٢: ٤٦٧، ٤٦٨.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "وذلك كله أعني الخلود في العقوبة في الآخرة"، وهي جملة فاسدة البناء والمعنى، أخطأ الناسخ فهم مراد أبي جعفر، فكتب ما كتب، والصواب هو ما أثبت. فإن أبا جعفر قد لجأ إلى الاختصار في مواضع كثيرة من تفسيره، منها هذا الموضع، فلم يبين إعراب قوله تعالى: "لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون"، وأهل الإعراب يعربونها حالا متداخلة - أي حالا من حال - لأن"خالدين" حال من الضمير في"عليهم". وأما أبو جعفر، فهو يعدها جملة مستأنفة، وهي بذلك بيان عن الخلود في النار. والدليل على صحة ذلك، وعلى صحة ما أثبت من الصواب في نص أبي جعفر هنا، أنه قال في تفسير نظيرة هذه الآية من"سورة البقرة: ١٦٢" في الجزء ٣: ٢٦٤ ما نصه.
"وأما قوله: " لا يخفف عنهم العذاب"، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف". فهذا نص قاطع في أن إعراب الطبري لهذا الموضع من الآية هو ما ذهبت إليه، وفي أنه يرى أن معنى هذه الجملة من الآية، هو معنى"الخلود" بعينه. والحمد لله أولا وآخرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله:"إنّ الذين كفروا" ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد ﷺ (١) ="بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا" بكفرهم بمحمد ="لن تقبل توبتهم"، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٧٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
٧٣٧٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
٧٣٧٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت = قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
٧٣٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: ذنوبًا ="لن تقبل توبتهم" من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٧٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع:"إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار ="لن تقبل توبتهم" من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
٧٣٧٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم"؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم.
٧٣٧٨ - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي،
٧٣٧٩ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، (٢) ألا ترى أنه يقول:"وأولئك هم الضالون"؟
٧٣٨٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله:"لن تقبل توبتهم"، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.
٧٣٨١ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون:"نتوب"، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، (٣) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون ="لن تقبل توبتهم"، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك:
(٢) أخشى أن يكون الصواب، "ولم يتوبوا من الكفر"، وانظر التالي.
(٣) في المطبوعة"بما هم عليه"، وهو كلام غث. وفي المخطوطة: "ممامهم عليه" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال: و"تم على الشيء تمامًا" ثبت عليه وأقام، وأمضى أمره فيه.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى"لن تقبل توبتهم"، لن تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٨٣ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، أمّا"ازدادوا كفرًا"، فماتوا وهم كفار. وأما"لن تقبل توبتهم" فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال:"عنى بها اليهودَ" = وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد ﷺ عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله. (٢)
* * *
وإنما قلنا:"ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب"، لأن الآيات
(٢) في المطبوعة"بتصديق ما جاء به من عند الله" وفي المخطوطة"بتصديقه ما جاء به من عند الله"، وعلى الميم من"ما" فتحة مائلة، وهي في الحقيقة"باء"، فصواب قراءة المخطوطة ما أثبت.
وإنما قلنا:"معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي"، لأنه جل ثناؤه قال:"لن تقبل توبتهم"، فكان معلومًا أن معنى قوله:"لن تقبل توبتهم"، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) [سورة الشورى: ٢٥]، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل:"أقبل" و"لا أقبل" في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" (١) = علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. (٢) وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
* * *
فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: (٣) "فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى"؟ (٤)
(٢) في المطبوعة: "تقبل.. تقبل.." بالتاء، وما في المخطوطة هو السياق. ومثل ذلك فيما سيلي.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وما ينكر" بالياء، وهي بالتاء أجود، كما يدل عليه الجواب بعد.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "توبتهم من كفرهم" بالجمع، والسياق ما أثبت، وهو الصواب. وفي المطبوعة: "أو توبته الأولى" والصواب بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما سلف في الأثر: ٧٣٨٢، والترجمة التي قبله، وما قبله من الآثار، وما يليه في الأثر رقم: ٧٣٨٢.
* * *
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك:"التوبة التي كانت قبل الكفر"، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان = بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة = إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هم الضالون"، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه. (١)
* * *
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه"إنّ الذين كفروا"، أي: جحدوا نبوة محمد ﷺ ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به ="فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذَهبًا ولو افتدى به"، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه، (٢) ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل
(٢) "الجزاء" هنا: البدل والكفارة. و"الجعل" (بضم الجيم وسكون العين) : الأجر على الشيء. يقول: لا يقبل منه أجر يدفعه على شريطة العفو عنه.
* * *
وقد بينا أن معنى"الفدية" العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
= ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال:"أولئك"، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ="لهم عذاب أليم"، يقول: لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع ="وما لهم من ناصرين"، يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ (٣) وقد:-
٧٣٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله ﷺ كان يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال: لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به". (٤)
٧٣٨٥ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا"، قال: هو كل كافر.
* * *
(٢) انظر ما سلف ٣: ٤٣٨-٤٣٩.
(٣) اختلاف الضمائر في هذه العبارة جائز حسن، وإن أشكل على بعض من يقرأه.
(٤) الأثر: ٧٣٨٤- أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح ١١: ٣٤٨-٣٥٠) من طريقين طريق هشام الدستوائي عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، كرواية الطبري هنا. ورواه مسلم (١٧: ١٤٨، ١٤٩) من طريق هشام عن قتادة، وأشار إلى طريق سعيد، وذكر اختلافه. وللحديث طرق أخرى بغير هذا اللفظ أخرجها البخاري (الفتح ٦: ٢٦٢ / ١١: ٣٦٧) ومسلم ١٧: ١٤٨، ١٤٩.
* * *
وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب"الذهب" لاشتغال"الملء" بـ"الأرض"، ومجيء"الذهب" بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله:"ملء الأرض ذهبًا" في نصب"الذهب" في الكلام:"لي مثلك رجُلا" بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب"الرجل"، لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال الفعل بالفاعل.
* * *
وأدخلت الواو في قوله:"ولو افتدى به"، لمحذوف من الكلام بعدَه، دلّ عليه دخول"الواو"، وكالواو في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: ٧٥]، وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله:"ولو افتدى به"، ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان الكلام صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به. (٢)
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٢٦.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا، أيها المؤمنون، البرَّ = وهو"البر" من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته، وصرف عذابه عنهم.
* * *
ولذلك قال كثير من أهل التأويل"البر" الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة. (١)
ذكر من قال ذلك.
٧٣٨٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: الجنة.
٧٣٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: البر الجنة.
٧٣٨٨ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لن تنالوا البر"، أما البر فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: لن تنالوا، أيها المؤمنون، جنة ربكم ="حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم، كما:-
٧٣٨٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: لن تنالوا برَّ ربكم حتى
٧٣٩٠ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: من المال.
* * *
وأما قوله:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم، (١) فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك -"عليم"، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزُبُ عنه شيء منه، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة، كما:-
٧٣٩١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، يقول: محفوظٌ لكم ذلك، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له.
* * *
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين.
ذكر من قال ذلك:
٧٣٩٢ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال: إن الله يقول:"لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون"، فأعتقها عمر = وهي مثْل قول الله عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [سورة الإنسان: ٨]، و (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [سورة الحشر: ٩].
٧٣٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، أو هذه الآية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: ٢٤٥ الحديد: ١١]، قال أبو طلحة، يا رسول الله، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في فقراء أهلك. (١)
٧٣٩٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ الله يسألنا من أموالنا، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٢١٧٠، عن يحيى بن سعيد القطان، و: ١٢٨٠٩، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، و: ١٣٨٠٣، عن عبد الله بن بكر - ثلاثتهم عن حميد، عن أنس ابن مالك (ج ٣ ص ١١٥، ١٧٤، ٢٦٢ حلبي).
ورواه الترمذي ٤: ٨١، من طريق عبد الله بن بكر، عن حميد. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره السيوطي ١: ٥٠، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.
وهو اختصار لرواية مطولة، رواها مالك في الموطأ، ص: ٩٩٥-٩٩٦، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك.
ورواها أحمد في المسند: ١٢٤٦٥ (٣: ١٤١ حلبي)، من طريق مالك.
ورواها البخاري ٣: ٢٥٧، ٥: ٢٩٥-٢٩٧، و ٨: ١٦٨، ومسلم ١: ٢٧٤- كلاهما من طريق مالك أيضًا.
وسيأتي عقب هذا، مختصرًا أيضًا، من رواية ثابت عن أنس.
الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، وهو الجدار.
٧٣٩٦ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا ليث، عن ميمون بن مهران: أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عمادُ الإسلام، والجهاد سَنامُ العمل، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال: يا أبا ذر، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي، لا أراك ذكرته! قال: ما هو؟ قال: الصّيام! فقال: قُرْبة، وليس هناك! وتلا هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون". (٢)
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٤٠٨١ (٣: ٢٨٥ حلبي)، عن عفان، عن حماد، به، نحوه.
ورواه مسلم ١: ٢٧٤-٢٧٥، من طريق بهز، عن حماد بن سلمة، به، نحوه.
ورواه أبو داود: ١٦٨٩، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، وهو ابن سلمة.
وذكره السيوطي ١: ٥٠، وزاد نسبته للنسائي.
وقوله"بأريحا"- هكذا ثبت في هذه الرواية في الطبري وليست تصحيفًا، ولا خطأ من الناسخين هنا. بل هي ثابتة كذلك في رواية أبي داود. ونص الحافظ في الفتح: ٣: ٢٥٧، على أنها ثابتة بهذا الرسم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة.
ورواية مسلم"بيرحا". واختلف في ضبط هذا الحرف فيه وفي غيره، اختلافًا كثيرًا. ونذكر هنا كلام القاضي عياض في مشارق الأنوار ١: ١١٥-١١٦، بنصه. ثم نتبعه بكلام الحافظ في الفتح ٣: ٢٥٧، بنصه أيضًا:
قال القاضي عياض: "بيرحا، اختلف الرواة في هذا الحرف وضبطه. فرويناه بكسر الباء وضم الراء وفتحها، والمدّ والقصر. وبفتح الباء والراء معًا. ورواية الأندلسيين والمغاربةٌ"بيرُحَا" - بضم الراء وتصريف حركات الإعراب في الراء. وكذا وجدتُها بخط الأصيلي. وقالوا: إنها"بير" مضافةُ إلى"حاء" - اسم مركب. قال أبو عبيد البكري: "حاء" على وزن حرف الهجاء: بالمدينة، مستقبلة المسجد، إليها ينسب"بِيرُحَاء"، وهو الذي صححه. وقال أبو الوليد البَاجِي: أنكر أبو ذَرّ الضم والإعراب في الراء، وقال: إنما هي بفتح الراء في كل حال. قال الباجي: وعليه أدركتُ أهل العلم والحفظ في المَشْرِق، وقال لي أبو عبد الله الصُّورِي: إنما هو"بَيْرَحَاء" بفتحهما في كل حال، وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا الحرف عَلى ابن أبي جعفر في مسلم. وبكسر الباء وفتح الراء والقصر ضبطناها في الموطأ علَى ابن عتَّاب وابن حمدين وغيرهما. وبضم الراء وفتحها معًا قيَّده الأصيلي. وهو موضع بقبليّ المسجد، يعرف بقَصْر بني حُدَيْلة، بحاء مهملة مضمومة. وقد رواه من طريق حماد بن سلمة"بَرِيحا". هكذا ضبطناه عن شيوخنا: الحُشَنِي، والأسدي، والصَّدَفِي - فيما قيَّدوه عن العذري، والسمرقندي، والطبري، وغيرهم. ولم أسمع من غيرهم فيه خلافًا، إلاّ أني وجدتُ أبا عبد الله بن أبي نصر الحُميديّ الحافظ ذَكَر هذا الحرف في اختصاره، عن حماد بن سلمة -"بَيْرَحَاء" كما قال الصُّوري. ورواية الرازي في مسلم، في حديث مالك: "بَرِيحا". وهو وَهَم، وإنما هذا في حديث حماد، وإنما لمالك"بيرحا" كما قيده فيها الجميع، على الاختلاف المتقدّم عنهم، وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحرف في هذا الحديث - بخلاف ما تقدم، قال: "جعلتُ أرضي بأريحا". وهذا كله يدلّ على أنها ليست بِبِيٍر".
وقال الحافظ: "وقوله فيه"بَيْرَحَاء" - بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمدّ. وجاء في ضبطه أوجُهٌ كثيرة، جمعها ابن الأثير في النهاية، فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمدّ والقصر. فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة"بَرِيحَا" - بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية. وفي سنن أبي داود"بَارِيحَا" - مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور. وكذا جزم به الصغاني، وقال: إنه"فَيْعَلى" من"البَرَاح". قال: ومَن ذكره بكسر الموحدة، وظنَّ أنها بئر من آبار المدينة - فقد صَحَّفَ".
وانظر الفتح أيضًا ٥: ٢٩٦، ومعجم البلدان ٢: ٣٢٧-٣٢٨.
(٢) الخبر: ٧٣٩٦- هذا خبر منقطع الإسناد، لأن ميمون بن مهران لم يدرك أبا ذر، أبو ذر مات سنة ٣٢، وميمون ولد سنة ٤٠، ومات سنة ١١٨، كما في تاريخي البخاري، وتهذيب الكمال (مخطوط مصور).
والخبر ذكره السيوطي ٢: ٥٠، ولم ينسبه لغير الطبري.
قوله: "شيء عجب" -"أثبتنا ما في المخطوطة، والذي في المطبوعة والدر المنثور"عجيب".
٧٣٩٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره: أنها حين نزلت:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله ﷺ عليها أسامةَ بن زيد، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي ﷺ قال: أما إن الله قد قبلها. (٢)
* * *
داود بن عبد الرحمن العطار المكي: ثقة من شيوخ الشافعي. وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث، المكي النوفلي: ثقة. أخرج له الجماعة. وقد مضى في: ١٤٨٩.
والحديث أشار إليه السيوطي ٢: ٥٠، ولم يذكر لفظه، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر قبله حديثًا"مثله"، عن محمد بن المنكدر. وهو حديث مرسل أيضًا. ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
اسم الفرس: "سبل" - بفتح السين المهملة والباء الموحدة. ولم تنقط في المخطوطة، ونقطت ياء تحتية في المطبوعة، ورسمت"شبلة" في الدر المنثور. والصواب ما أثبتنا، وهكذا جاء اسمها في كتب الخيل وفي الشعر.
(٢) الحديث: ٧٣٩٨- هوس حديث مرسل، مثل سابقه.
وقد ذكره السيوطي ٢: ٥٠. ونسبه لعبد الرزاق، والطبري، ولم ينسبه لغيرهما.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل = وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن = شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل، ولا على لسان رسولٍ له إليهم، من قبل نزول التوراة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنزل الله عز وجل التوراةَ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نزولها.
*ذكر من قال ذلك:
٧٣٩٩- حدثني محمد بن الحسين، قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" قالت اليهود: إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنزل التوراة، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا، أيها اليهود، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
* * *
وقال آخرون: ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم. (٢)
ذكر من قال ذلك:
(٢) في المطبوعة: "ليتبين"، وأثبت ما في المخطوطة.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة = بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. (٢) وكأن الضحاك وجّه قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون"الاستثناء المنقطع".
* * *
وقال آخرون: تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.
(٢) انظر"إلا" بمعنى"لكن" فيما سلف ٣: ٢٠٦.
٧٤٠١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" فإنه حرّم على نفسه العروقَ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد = وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد ﷺ نفرًا من أهل الكتاب فقال: ما شأن هذا حرامًا؟ فقالوا: هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" إلى"إنْ كنتم صادقين".
٧٤٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه -يعني إسرائيل- عرقُ النسا، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع (١)، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، وكذبوا، ليس في التوراة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ".
وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل.
ذكر بعض من قال ذلك:
٧٤٠٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه.
فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٠٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن مَاهَك قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه"؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، (١) فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم.
٧٤٠٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
٧٤٠٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل لله عليه = أو: أقسم، أو: آلى =: لا يأكله من الدواب. (١) قال: والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق.
٧٤٠٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه: أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم. (٢)
٧٤٠٩- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه = وزاد فيه. قال: فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم. وكان"الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة"، العُروق.
٧٤١٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، اشتكى
(٢) في المخطوطة: "يخرجونه"، فلعل ما قبلها"العرق" مفردًا، ولكني تركت ما في المطبوعة فهو أجود، لما في الأثر الذي يليه.
٧٤١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيتُ لهُ زُقاء، (١) فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنزل الله عز وجل:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" = قال سفيان:"له زقاء"، يعني صياح.
٧٤١٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" قال، كان يشتكي عرق النسا، فحرَّم العروق.
٧٤١٣- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال،: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٧٤١٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" قال، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا.
* * *
وقال آخرون: بل"الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه"، لحوم الإبل وألبانُها.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤١٥- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
٧٤١٦- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" قال، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة، فقال الله:"فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه، أي لحم الإبل. (١)
٧٤١٧- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال، حدثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذَه عرق النسا، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء = يعني: صياح = قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله = يعني: لحوم الإبل = قال: فحرمه اليهود، وتلا هذه الآية:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، أي: إن هذا قبل التوراة.
٧٤١٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو، فحلف أن لا يأكله أبدا.
* * *
قال أبو جعفر: (٢) وأولى هذه الأقوال بالصواب، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أنّ ذلك، العروقُ ولحوم الإبل، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله ﷺ بنحو ذلك خبر، وهو: ما:-
٧٤٢٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. (٣)
* * *
وأما قوله:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها =:"ائتوا بالتوراة فاتلوها"، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما
(٢) في المخطوطة: "قال أبو جعفر رضي الله عنه".
(٣) الأثر: ٧٤٢٠- هذا مختصر الأثر السالف رقم: ١٦٠٥، وإسناده صحيح، وقد مضى تخريجه هناك.
* * *
وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد ﷺ وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده = كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، (١) من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذَب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها ="فأولئك هم الظالمون" يعني: فمن فعل ذلك منهم ="فأولئك"، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك ="هم الظالمون"، يعني: فهم الكافرون، القائلون على الله الباطل، كما:-
* * *
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد ="صدق الله"، فيما أخبرنا به من قوله:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل"، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة = وفي كل ما أخبر به عباده من خبر، (١) دونكم. وأنتم، يا معشر اليهود، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، (٢) المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق ="فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين"، يقول: فإن كنتم، أيها اليهود، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله ="فاتبعوا ملة إبراهيم"، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية -يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة.
* * *
* * *
وإنما قال جل ثناؤه:"وما كان من المشركين"، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [من] نصرائهم وأهل ولايتهم. (١) وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إنّ أول بيت وضع للناس، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٢٢- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا. (١)
٧٤٢٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالدَ بن عرعرة قال: سمعت عليًّا، وقيل له:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة"، هو أوّل بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قَوْم نُوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى. (٢)
(٢) الأثر: ٧٤٢٣- مضى إسناده برقم: ٢٠٥٩، ولم يذكر لفظه. وقد مضى ذكر رجاله هناك.
٧٤٢٥- حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة" قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة. (١)
٧٤٢٦- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إن أوّل بيت وضع للناس"، يُعبد الله فيه ="للذي ببكة".
٧٤٢٧- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، وضع للعبادة.
* * *
وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس.
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل.
فقال بعضهم: خُلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٢٨- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان -إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً (٢) بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.
(٢) "الزبدة": الطائفة من زبد الماء، الأبيض الذي يعلوه.
٧٤٣٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"إن أول بيت وضع للناس"، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران: ١١٠]
٧٤٣١- حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين"، أما"أول بيت"، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زَبْدَة على الأرض، فلما خلق الله الأرضَ، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض.
٧٤٣٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا) قال، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل، فطاف به آدم وَمنْ بعده.
* * *
وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٣٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.
* * *
٧٤٣٤- حدثنا به محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال:"المسجد الحرام. قال: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. (١)
* * *
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله ﷺ أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، (٢) ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ١٦٦ - ١٦٧ (حلبى)، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به، بزيادة في آخره.
ورواه أيضا ٥: ١٥٠، ١٥٦، ١٥٧، ١٦٠ (حلبي)، بأسانيد، عن الأعمش، مطولا. وكذلك رواه مسلم ١: ١٤٦ - ١٤٧، من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش.
وذكره ابن كثير ٢: ١٩٠، من رواية المسند (٥: ١٥٠)، ثم قال: "وأخرجه البخاري، ومسلم - من حديث الأعمش، به". وذكره السيوطي ٢: ٥٢، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب.
(٢) في المطبوعة:
"دونكم"، سياقه"صدق الله | دونكم"، يعني فأنتم غير صادقين. |
"فأما في وضعه بيتا | "، غيروا ما في المخطوطة وهو صواب. |
* * *
وأصل"البكّ": الزحم، يقال: منه:"بكّ فلانٌ فلانًا" إذا زحمه وصدمه -"فهو يَبُكه بَكًّا، وهم يتباكُّون فيه"، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن"بَكَّة""فَعْلة" من"بَكَّ فلان فلانًا" زحمه، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
* * *
فإذا كانت"بكة" ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد = كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة، لا"بكة". لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال:"بكة" اسم لبطن"مكة"، ومكة اسم للحرم. (١).
* * *
*ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن"بكة" موضع مزدحم الناس للطواف:
"يتلوهُ ذكر مَنْ قال في ذلك ما قُلنا من أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليمًا" ثم يتلوه ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرأَخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان البغدادي قال حدثنا محمد بن جرير" فأعاد إسناد المخطوطة التي نقل عنها، كما سلف في تعليقنا ٦: ٤٩٥، ٤٩٦ رقم: ٥، وهذا هو الموضع الثاني لذكر هذا الإسناد الجديد.
٧٤٣٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله.
٧٤٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بَكَّةٌ، يبكّ بعضُها بعضًا.
٧٤٣٨- حدثنا ابن المثني قال: حدثنا عبد الصمد قال،: حدثنا شعبة قال، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت"بكة"، لأن الناس يتباكُّون فيها، الرجالَ والنساءَ.
٧٤٣٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد قال، قلت لأي شيء سُميت"بكة"؟ قال: لأنهم يتباكُّون فيها =قال: يعني: يزدحمون. (١)
٧٤٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال، إنما سميت"بكة"، لأنهم يأتونها حُجّاجًا. (٢)
٧٤٤١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا، فيصلي النساءُ قدّام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره.
٧٤٤٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"بكة"، بكّ الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.
(٢) الأثر: ٧٤٤٠-"الأسود بن قيس العبدي"، روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه شعبة والثوري وشريك وغيرهم. وأبوه: "قيس العبدي" الكوفي، مترجم في الكبير ٤ / ١ / ١٤٩. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أخيه"، وهو تصحيف والصواب ما أثبت.
٧٤٤٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن"بكة" قال،"بكة" البيت، والمسجد. وسأله عن"مكة"، فقال ابن شهاب:"مكة": الحرم كله.
٧٤٤٥- حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد قالا"بكة": بكّ فيها الرجالَ والنساءَ.
٧٤٤٦- حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة،"بكة": المسجد،. و"مكة": البيوت. (١)
* * *
وقال بعضهم بما:-
٧٤٤٧- حدثني به يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة" قال، هي مكة.
* * *
وقيل:"مباركًا"، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب. (٢)
* * *
فأما نصب قوله:"مباركا"، فإنه على الخروج من قوله:"وضع"، لأن في"وضع" ذكرًا من"البيت" هو به مشغول، وهو معرفة، و"مبارك" نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب. (٣)
* * *
(٢) هذا كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢٢٧.
(٣) "الخروج" هنا، كأنه الحال، وقد سلف في ٥: ٢٥٣، ٢٥٤ ما يشبه أن يكون أيضا بمعنى الحال. وانظر ما سلف ٦: ٥٨٦"أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله، فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي شغل بفاعله".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك،
فقرأه قرأة الأمصار: (فِيهِ أيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) على جماع"آية"، بمعنى: فيه علامات بيناتٌ.
* * *
وقرأ ذلك ابن عباس. (فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ)، يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها: علامة واحدةٌ.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فيه آيات بينات" وما تلك الآيات؟. فقال بعضهم: مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام، ونحو ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٤٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
٧٤٤٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد:"فيه آيات بينات مَقامُ إبراهيم" قال، مقامُ إبراهيم، من الآيات البينات. (١)
* * *
وقال آخرون:"الآيات البينات"، مقام إبراهيم ="ومن دخله كانَ آمنا".
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٥٠- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"فيه آيات بينات" قال،"مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا".
وقال آخرون:"الآيات البينات"، هو مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٥١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"فيه آيات بَينات مقام إبراهيم" أما"الآيات البينات" فمقام إبراهيم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك:"فيه آية بينة" على التوحيد، فإنهم عنوا بـ "الآية البينة"، مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٥٢- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
٧٤٥٣- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد:"فيه آية بينة مقام إبراهيم" قال، أثر قدميه في المقام، آية بينة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال:"الآيات البينات، منهنّ مقام إبراهيم"، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مرادًا فيه"منهن"، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
فإن قال قائل: فهذا المقامُ من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل:"آيات بينات"؟
قيل: منهنّ المقام، ومنهن الحجرُ، ومنهن الحطيمُ.
* * *
وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأه: (٢) "فيه آياتٌ بيناتٌ"، على الجماع، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
* * *
وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل:"مقام إبراهيم"، فقد ذكرناهُ في"سورة البقرة"، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا المقامُ المعروف به. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "من قرأ". وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر ما سلف ٣: ٣٣-٣٧.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: الخبرُ عن أنّ كل من جرّ في الجاهلية جريرةً ثم عاذَ بالبيت، لم يكن بها مأخوذًا.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٥٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ومن دخله كان آمنا"، وهذا كان في الجاهلية، كان الرّجل لو جرّ كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى حَرَم الله، لم يُتناول ولم يُطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، مَنْ سَرَق فيه قطع، ومن زَنى فيه أقيمَ عليه الحدّ، ومن قَتل فيه قُتل = وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إنّ الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حدًّا في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحدّ.
* * *
*ورأى قتادةُ ما قاله الحسن.
٧٤٥٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، كان ذلك في الجاهلية.
٧٤٥٦- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا خصيف، عن مجاهد = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: يؤخَذ، فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل.
٧٤٥٧- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد.
٧٤٥٨- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء = في الرجل يصيب الحدّ ويلجأ إلى الحرم = يُخرج من الحرم، فيقامُ عليه الحد.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنًا بها في الجاهلية.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يَدْخله يكن آمنًا بها = بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل."من قامَ لي أكرمته"، بمعنى: من يَقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمرٌ كان في الجاهلية، كان الحرمُ مَفزَع كل خائف. وملجأ كل جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج به ذو جريرة، ولا يَعرِض الرّجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زادَه تعظيمًا وتكريمًا.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٥٩- حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مجاهد قال، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحدَّ: قتل أو سرق، فدخل الحرم، لم يُبايع ولم يُؤوَ، حتى يتبرّم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. قال. فقلت لابن عباس: ولكني لا أرَى
٧٤٦٠- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: أخذَ ابن الزبير سعدًا مولى معاوية -وكان في قلعة بالطائف- فأرسل إلى ابن عباس من يُشاوره فيهم: إنهم لنا عَدوّ. (٢) فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس: أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟ = زاد أبو السائب في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم ينظر إلى قول ابن عباس. (٣)
٧٤٦١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: من أحدَثَ حَدَثًا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يُعرَض له، ولم يبايع، ولم يكلَّم، ولم يؤوَ حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم، أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدَثًا أقيم عليه. (٤)
(٢) في المطبوعة"لنا عين"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "لنا عرق"، ولم أجد لها وجهًا، وهي مصحفة، فرأيت أن أقرب ذلك إليها"عدو" فأثبتها، مع مخافتي أن لا تكون كذلك.
(٣) في المطبوعة: "ولم يصغ إلى قول ابن عباس"، وفي المخطوطة"لم ينطق إلى قول ابن عباس" وهي لا معنى لها، وهي مصحفة، وأقرب ما يكون صوابها، هو ما أثبته.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان بعد الجهد، وقد أشاروا إلى خبر ابن عباس وابن الزبير في كثير من الكتب، ولكنهم لم يأتوا فيه بهذا النص. وقد روى الأزرقي في أخبار مكة ٢: ١١١ معنى هذا الأثر فقال: "حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: أنكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعدًا مولى عتبة وأصحابه... " ولم يقل"مولى معاوية". وأخشى أن يكون"مولى عتبة"، يعني: عتبة بن أبي سفيان. وقد ذكر الطبري سعدًا مولى معاوية في تاريخه ٦: ١٨٣، ١٨٤ فقال: "وكان على حجابه سعد مولاه". وهذا يحتاج إلى تحقيق لم يتيسر لي عند كتابة هذا. فأرجو أن أبلغ منه ما أريد إن شاء الله.
(٤) في المطبوعة: "أقيم عليه الحد"، زاد"الحد"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.
٧٤٦٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن عطاء عن ابن عمر قال: لو وجدتُ قاتل عمر في الحرَم، ما هِجْتُه.
٧٤٦٤- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يُقيم الحدّ في الحرم، فقال له عُبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرَم إلا أن يكون أصابه فيه.
٧٤٦٥- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مطرف، عن عامر قال: إذا أصاب الحدّ ثم هرب إلى الحرم، فقد أمن فإذا أصابه في الحرم، أقيم عليه الحدُّ في الحرم.
٧٤٦٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: من أصاب حدًّا في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجًا من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلَّم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه.
٧٤٦٧- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير = وعن عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: لا يبيعه أهلُ مكة ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه = عد أشياء كثيرة = حتى
٧٤٦٨- حدثت عن عمار قال،: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ الرجل إذا أصاب حدًّا ثم دخل الحرم، أنه لا يُطعَم، ولا يُسقى، ولا يؤوَى، ولا يكلَّم، ولا ينكح، ولا يبايع. فإذَا خرج منه أقيم عليه الحد.
٧٤٦٩- حدثني المثني قال، حدثني حجاج قال،: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا أحدث الرجل حدَثًا ثم دخل الحرم، لم يؤْوَ، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يطعَم، ولم يُسْق، حتى يخرج من الحرَم.
٧٤٧٠- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
٧٤٧١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"ومن دخله كان آمنًا"، فلو أنّ رجلا قتلَ رجلا ثم أتى الكعبة فعاذّ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدًا أن يقتله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يَكن آمنًا من النار.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٧٢- حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال، حدثنا زياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة في قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، آمنًا من النار. (١)
* * *
رزيق بن مسلم المخزومي: هكذا ثبت هنا في المطبوعة والمخطوطة، ولكن المخطوطة لم تنقط فيها الزاي، فاحتمل أن يكون"رزيق" بتقديم الراء، أو "زريق" بتقديم الزاي. ووقع في ابن كثير ٢: ١٩٣، نقلا عن إسناد هذا الأثر من تفسير ابن أبي حاتم"زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم" - بتقديم الزاي. وليست مطبوعة ابن كثير بعمدة في التصحيح.
ولم أجد لهذا الرجل ترجمة بعد طول البحث والعناء. إلا أن الحافظ الذهبي فرق في المشتبه، ص: ٢٢٠ - ٢٢٤ بين تقديم الراء وتأخيرها في هذا الرسم، مستوعبًا كل الأعلام فيه أو يكاد. وتبعه الحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط). وزاد عليه ما فاته. فقال الذهبي -في تقديم الراء-: "ورزيق بن هشام، عن زياد بن أبي عياش". ثم ذكر آخر، ثم قال: "ورزيق الأعمى، عن أبي هريرة. واه". وهذا الواهي مترجم بإيجاز في لسان الميزان. ولم أستطع الجزم بأن هذين أو أحدهما هو المذكور في هذا الإسناد. فإن اتفاق روايتي الطبري وابن أبي حاتم على تسميته"رزيق بن مسلم" - يبعد معه الظن بتحريفه عن"رزيق بن هشام". ولكن اتفاق اسم شيخه عند ابن أبي حاتم مع ما ذكره الذهبي يكاد يرجح أنه هو.
وأما ترجيح أنه بتقديم الراء، خلافًا لما ثبت في مطبوعة ابن كثير، فمرده إلى ارتفاع الثقة بتصحيحها.
وشيخه"زياد بن أبي عياش": لم أجد له ترجمة أيضًا، إلا ذكره في المشتبه والتحرير. وثبت في مطبوعة الطبري هنا"زياد بن أبي عياض"، بالضاد. وهو تحريف، صوابه ما في ابن كثير عن إسناد ابن أبي حاتم. وكذلك ثبت في مخطوطة الطبري، ولكن بدون نقط على الشين، كأنه"عباس". وهو خطأ واضح، أو تساهل في إعجام الحرف. ورجح إعجامه ثبوته بالشين معجمة في المشتبه والتحرير. وزادنا توثيقًا الحافظ حين نص عليه في تحرير المشتبه، فقال فيما زاده على الذهبي استكمالا لمن عرف باسم"عياش"-: "وزياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة".
* * *
فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرًا به، يكن آمنًا مما استجارَ منه ما كان فيه، حتى يخرج منه.
* * *
فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الحد عليه فيه؟
قيل: لاتفاق جميع السلف على أنّ من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به،
فقال بعضهم: صفة ذلك: منعه المعانىَ التي يضطرّ مع منعه وفقدِه إلى الخروج منه.
وقال آخرون: لا صفة لذلك غيرُ إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي تُوصِّل إلى إقامة حدّ الله معها.
فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحدّ فيه، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقامُ عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مُجمَع على حكمهما على ما وصفنا.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما دِلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت =إذا أتاه مستجيرًا به من جريرة جرّها. أو من حدٍّ أصابه= من الحرم، جائزٌ لإقامة الحد عليه، وأخذه بالجريرة، وقد أقررتَ بأن الله عز وجل قد جَعل من دخله آمنًا، ومعنى"الآمن" غير معنى"الخائف"؟ فبما هما فيه مختلفان؟ (١).
قيل: قلنا ذلك، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أنّ إخراج العائذ به =من جريرة أصابها أو فاحشةٍ أتاها وجبتْ عليه بها عقوبة منه= ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه، واجبٌ على إمام المسلمين وأهلِ الإسلام معه. (٢)
وإنما اختلفوا في السبب الذي يُخرَج به منه.
فقال بعضهم: السبب الذي يَجوز إخراجه به منه: ترك جميع المسلمين مبايَعته وإطعامَه وسقيه وإيواءَه وكلامه، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قَرار للعائذ به
(٢) سياق هذه الجملة: "... على أن إخراج العائذ به... ببعض معاني الإخراج.. واجب على إمام المسلمين... ".
وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة، واجبٌ بكل معاني الإخراج.
=فلما كان إجماعًا من الجميع على أنّ حكم الله -فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها- إخراجه منه، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يَجوز إخراجُه به منه = كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه، حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجًا منه إذا كان لجأ إليه من خارج، على ما قد بينا قبل.
* * *
وبعدُ، فإن الله عز وجل لم يضع حدًّا من حُدُوده عن أحد من خلقه من أجل بُقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك،. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال:
٧٤٧٣-"إني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة". (١)
* * *
=ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذًا لو عَاذَ من عقوبة لزمته بحرَم النبي صلى الله عليه وسلم، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أنّ حرَم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذَ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدَّى فيه فرائض الله التي ألزمها عبادَه من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله، كحرم الله وحرَم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حَرَم الله لإقامة الحد، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً.
* * *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وفرضٌ واجبٌ لله =على من استطاع من أهل التكليف السبيلَ إلى حجّ بيته الحرام= الحج إليه.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"الحج"، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل:"من استطاع إليه سبيلا"، وما السبيل التي يجبُ مع استطاعتها فرض الحج؟
فقال بعضهم: هي الزّاد والراحلة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٧٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من استطاع إليه سبيلا" قال، الزاد والراحلة.
٧٤٧٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن
٧٤٧٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والبعير. (١)
٧٤٧٧- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، والسبيل، أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحف به.
٧٤٧٨- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال قال ابن عباس: من ملك ثلثمائة درهم فهو السبيل إليه.
٧٤٧٩- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان قال: سمعت عطاء يقول: السبيلُ، الزاد والراحلة.
٧٤٨٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من استطاع إليه سبيلا"، فإن ابن عباس قال: السبيلُ، راحلةٌ وزادٌ.
٧٤٨١- حدثني المثني وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة.
٧٤٨٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحسن قال: قرأ النبي ﷺ هذه الآية:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقال رجلٌ: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله ﷺ بنحو ما قالوا في ذلك.
*ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
٧٤٨٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث، عن ابن عمر قال: قام رجلٌ إلى رسول الله ﷺ فقال: ما السبيل؟ قال:"الزاد والراحلة". (١)
"الخوزي" بضم الخاء المعجمة: نسبة إلى"شعب الخوز بمكة"، كما في اللباب وغيره.
محمد بن عباد بن جعفر المخزومي المكي: تابعي ثقة.
والحديث جزء من حديث مطول، رواه الترمذي ٤: ٨١ - ٨٢، عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي. وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه".
ورواه قبل ذلك ٢: ٧٩، مختصرًا، من طريق وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن". ثم ذكر علته بإبراهيم الخوزي.
ورواه الشافعي في الأم ٢: ٩٩ -مطولا- عن سعيد بن سالم، عن إبراهيم الخوزي. وأشار إلى ضعف إسناده. ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٣٣٠.
ورواه ابن ماجه: ٢٨٩٦- مطولا أيضا - من طريق وكيع، عن إبراهيم الخوزي. وسيأتي عقب هذا، من رواية أبي حذيفة، عن سفيان، وهو الثوري، عن إبراهيم الخوزي.
وكذلك رواه البيهقي ٤: ٣٢٧، من طريق ثلاثة أحدهم أبو حذيفة، عن سفيان.
وذكره السيوطي ٢: ٥٥ - ٥٦، مطولا، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه.
وذكره ابن كثير ٢: ١٩٥ - ١٩٦، من رواية الترمذي المطولة. ثم أشار إلى روايته الأخرى، وإلى رواية ابن ماجه. ثم قال: "لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، سوى الخوزي هذا، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث. لكن قد تابعه غيره". ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عبد العزيز بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عمر - بهذا الحديث نحوه، مختصرًا. ثم كر أنه"رواه ابن مردويه، من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، به".
وهذا الإسناد الآخر الذي نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه - ضعيف أيضا:
محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي: ضعيف جدا. قال البخاري في الكبير ١ / ١ / ١٤٢: "ليس بذاك الثقة". وروى ابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ٣٠٠ عن ابن معين قال: "ليس حديثه بشيء". وقال النسائي في الضعفاء، ص ٢٦: "متروك الحديث". وانظر ترجمته في لسان الميزان ٥: ٢١٦ - ٢١٧.
وانظر الأحاديث الآتية: ٧٤٨٥ - ٧٤٩١.
وانظر أيضا قول الطبري، الآتي، ص: ٤٥، "أنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين".
٧٤٨٦- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يونس =وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس= عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال."الزادُ والراحلة. (٢)
سفيان: هو الثوري.
والحديث مكرر ما قبله. وقد بينا هناك أن البيهقي رواه ٤: ٣٢٧، من طريق أبي حذيفة -هذا- وغيره، عن الثوري.
(٢) الحديث: ٧٤٨٦- هذا حديث مرسل عن الحسن البصري.
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين من طريق يونس، عن الحسن.
وسيأتي: ٧٤٨٨، ٧٤٩١، من رواية قتادة، عن الحسن.
ثم: ٧٤٩٠، من رواية قتادة وحميد، عن الحسن.
ورواه البيهقي ٤: ٣٢٧، ٣٣٠، بأسانيد، عن الحسن.
وذكره ابن كثير ٢: ١٩٦، من رواية الطبري عن يعقوب، التي هنا - ثم قال: "ورواه وكيع في تفسيره، عن سفيان، عن يونس، به".
وذكره السيوطي ٢: ٥٦، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والدارقطني. ونسي أن ينسبه لوكيع.
ونقل الحافظ في التلخيص، ص: ٢٠٢، عن أبي بكر بن المنذر، قال: "لا يثبت الحديث في ذلك مسندًا. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة". يريد أن أسانيدها إلى الحسن أسانيد صحاح، لا أن الحديث المرسل صحيح، لأنه لا شك في ضعف الأحاديث المراسيل.
٧٤٨٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
ووقع اسم أبيه في المطبوعة"عبيد الله". وهو خطأ، صوابه"عبد الله" بالتكبير.
أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني.
الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدًا، كما بينا في: ١٧٤.
والحديث رواه الترمذي ٢: ٧٨، عن محمد بن يحيى القطعي، عن مسلم بن إبراهيم، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال. وهلال بن عبد الله: مجهول. والحارث: يضعف في الحديث".
وسيأتي هذا الحديث: ٧٤٨٩، من رواية شاذ بن فياض، عن هلال أبي هاشم، بهذا
الإسناد.
وقد ذكره ابن كثير ٢: ١٩٧، من رواية ابن مردويه، من الوجهين اللذين رواه منهما الطبري: من رواية مسلم بن إبراهيم، وشاذ بن فياض.
ونقل عن ابن عدي قال: هذا الحديث ليس بمحفوظ".
٧٤٨٩- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال، حدثنا هلال أبو هاشم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة فلم يحجّ ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أن الله يقول في كتابه:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" الآية. (١)
٧٤٩٠- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة.
٧٤٩١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
"جنيدب": بضم الجيم وفتح النون، وبعد الدال المهملة باء موحدة. ووقع في تذكرة الحفاظ"جنيد" بحذف الباء، وهو خطأ طابع أو ناسخ، وثبت على الصواب في التهذيب، وأصله"تهذيب الكمال" مخطوط، والتقريب، والخلاصة.
شاذ بن فياض اليشكري، أبو عبيدة البصري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره. وتكلم فيه بعضهم بغير حجة. واسمه"هلال بن فياض"، و"شاذ": لقب غلب عليه. وقد ترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٢١١، والصغير، ص: ٢٣٨، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٧٨ - في اسم"هلال".
هلال أبو هاشم: هو"هلال بن عبد الله، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي" - كما بينا في: ٧٤٨٧. وثبت هنا في المطبوعة"هلال بن هشام". وهو خطأ واضح.
والحديث مكرر: ٧٤٨٧، وقد أشرنا إليه هناك. وذكر ابن كثير ٢: ١٩٧، أن ابن أبي حاتم رواه"عن أبي زرعة الرازي، حدثنا هلال بن الفياض، حدثنا هلال أبو هاشم... " - إلخ"
* * *
وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقةُ للوصول إليه. قالوا: (١) وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه: بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء، وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بيَّنه الله عز وجل، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل، وذلك: الوصولُ إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإنْ أعوزَه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٩٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل، عن ابن الزبير قوله:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" قال: على قدر القوة.
٧٤٩٣- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابًّا صحيحًا ليس له مال، فعليه أن يُؤاجر نفسه بأكله وغُفَّته حتى يقضي حجته به، (٢) فقال له قائل: كلَّف الله الناسَ أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أنّ لبعضهم ميراثًا بمكة، أكان تاركَه؟ والله لانطلق إليه ولو حَبوًا!! كذلك يجبُ عليه الحج.
٧٤٩٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن
(٢) في المطبوعة: "بأكله وعقبه حتى يقضي حجته"، وليس فيها"به"، وهي في المخطوطة، ومثل هذا في تفسير القرطبي ٤: ١٤٨، إلا أنه قال: "بأكله أو عقبه"، ولم أجد لذلك معنى. وهي في المخطوطة"وعفته" غير منقوطة، فاستظهرت قراءتها"وغفته". والغفة (بضم الغين، وتشديد الفاء المفتوحة) : البلغة من العيش والقليل منه. وهي هنا أنسب معنى، فأثبتها كذلك.
٧٤٩٥- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"؟ قال: السبيلُ، ما يسَّره الله. (١)
٧٤٩٦- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئًا يُبْلغه فقد استطاع إليه سبيلا.
* * *
وقال آخرون: السبيلُ إلى ذلك: الصحةُ.
*ذكر من قال ذلك:
٧٤٩٧- حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثني بن إبراهيم قالوا، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيلُ الصحةُ.
* * *
وقال آخرون بما:-
٧٤٩٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: من وجد قُوّة في النفقة والجسد والحُمْلان. (٢) قال: وإن كان في جَسده ما لا يستطيع
(٢) الحملان (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إنّ ذلك على قدر الطاقة. لأن"السبيل" في كلام العرب: الطريقُ، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانعَ له منه من زَمانة، أو عَجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدًا سبيلا =أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقًا الحجَّ، بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه= فهو ممن لا يجدُ إليه طريقًا ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيلَ.
وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصُص، إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية.
فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله ﷺ في ذلك بأنه:"الزاد والراحلة"، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدّين.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة"الحج".
فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ).
* * *
وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ).
* * *
٧٤٩٩- حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال، قال حسين الجعفي"الحَج". مفتوح، اسم،"والحِج" مكسورٌ، عمل. (١)
* * *
وهذا قول لم أرَ أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت، من أنهما لغتان بمعنى واحد.
* * *
والذي نقول به في قراءة ذلك: أنّ القراءتين =إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره= فهما قراءتان قد جاءتا مجيءَ الحجة، فبأي القراءتين -أعني: بكسر"الحاء" من"الحج" أو فتحها- قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
* * *
وأما"مَنْ" التي مع قوله:"من استطاع"، فإنه في موضع خفض على الإبدال من"الناس". لأن معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حجّ البيت، حَجُّه. فلما تقدم ذكر"الناس" قبل"مَنْ"، بيَّن بقوله:"من استطاع إليه سبيلا"، الذي عليه فرضُ ذلك منهم. لأن فرضَ ذلك على بعض الناس دون جميعهم.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جَحد ما ألزمه الله من فرض حَجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خَلقه من الجن والإنس، كما:
٧٥٠٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد قال، سمعت مقسمًا، عن ابن عباس في قوله:"ومن كفر"، قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه.
٧٥٠١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء = وجويبر، عن الضحاك في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قالا من جحد الحجّ وكفر به.
٧٥٠٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء قال، من جحد به.
٧٥٠٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عمران القطان، يقول: من زعم أن الحجّ ليس عليه. (١)
٧٥٠٤- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين"، قال: من أنكره، ولا يَرَى أن ذلك عليه حقًّا، فذلك كُفرٌ.
٧٥٠٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: من كفر بالحج.
٧٥٠٧- حدثني المثني قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومَنْ كفر"، قال: من لم يره عليه واجبًا. (١)
٧٥٠٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: بالحج.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"أن لا يكون معتقِدًا في حجه أن له الأجرَ عليه، ولا أن عليه بتركه إثمًا ولا عقوبةً".
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٠٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قال: هُو ما إن حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.
٧٥١٠- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو ما إنْ حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.
٧٥١١- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فِطْر، عن أبي داود نفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"
٧٥١٢- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، يقول: من كفر بالحج، فلم يَر حجه برًّا، ولا تركه مأثمًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الآخر.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥١٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: سألته عن قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
٧٥١٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
٧٥١٥- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: لما نزلت آية الحج، جَمع رسول الله ﷺ أهلَ الأديان كلَّهم فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا، فآمنتْ به ملة
٧٥١٦- حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر من الخلق، فإن الله غنيّ عنه. (١)
٧٥١٧- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
٧٥١٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عنْ ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا) [سورة آل عمران: ٨٥]، فقالت الملل: نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فحج المؤمنون، وقعد الكفار. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥١٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فقرأ:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فقرأ حتى بلغ:"من استطاع إليه سبيلا ومن كفر"، قال: من كفر بهذه الآيات ="فإن الله غني عن العالمين"، ليس كما يقولون:"إذا
(٢) الأثر: ٧٥١٨- مضى برقم: ٧٣٥٦.
* * *
وقال آخرون بما:-
٧٥٢٠- حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال، أخبرنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالبيت. (٢)
* * *
وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٢١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من كفر"، فمن وجدَ ما يحج به ثم لا يحجَّ، فهو كافر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قولُ من قال:"معنى"ومن كفر"، ومن جحد فرضَ ذلك وأنكرَ وُجوبه، فإن الله غني عنه وعن حَجه وعن العالمين جميعًا".
وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله:"ومن كفر" بعقب قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، بأن يكون خبرًا عن الكافر بالحج، أحقُّ منه بأن يكون خبرًا عن غيره، مع أنّ الكافر بفرض الحج على مَن فرضه
(٢) الأثر: ٧٥٢٠-"إبراهيم بن عبد الله بن مسلم"، ، و"أبو عمر الضرير" وهو: "حفص بن عمر البصري" مضت ترجمتهما برقم: ٣٥٦٢، و"حماد"، هو"حماد بن سلمة". وأما "حبيب بن أبي بقية" ويقال: "حبيب بن أبي قريبة" فهو: "حبيب المعلم" أبو محمد البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة: "ثقة"، وقال أحمد: "ما أحتج بحديثه". مترجم في التهذيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنزلَ الله عز وجل من كتبه، ممن كفَر بمحمد ﷺ وجحد نبوَّته: ="لم تكفرون بآيات الله"، يقول: لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته. (١) وأنتم تعلمون: يقول: لم تجحدون ذلك من أمره، وأنتم تعلمون صدقه؟ (٢) فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم، ومعرفةٍ من كفرهم، وقد:
٧٥٢٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله"، أما"آيات الله"، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
٧٥٢٣- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون"، قال: هم اليهودُ والنصارى.
* * *
(٢) ظاهر أن أبا جعفر وهم، وترك تفسير بقية هذه الآية، وفسر مكانها"وأنتم تعلمون"، وهي ليست من هذه الآية في شيء.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله: ="لم تصدُّون عن سبيل الله"، يقول: لم تضِلُّون عن طريق الله ومحجَّته التي شرَعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان= (١) "من آمن"، يقول: من صدّق بالله ورَسوله وما جاء به من عند الله="تبغونها عوجًا"، يعني: تبغون لها عوجًا.
* * *
"والهاء والألف" اللتان في قوله:"تبغونها" عائدتان على"السبيل"، وأنثها لتأنيث"السبيل".
* * *
ومعنى قوله:"تبغون لها عوجًا"، من قول الشاعر، وهو سحيم عبدُ بني الحسحاس
بَغَاك، وَمَا تَبْغِيهِ حَتَّى وَجَدْتَهُ | كأَنِّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (٢) |
* * *
وأما"العِوَج" فهو الأوَد والميْل. وإنما يعني بذلك: الضلال عن الهدى.
* * *
(٢) سلف تخريجه في ٤: ١٦٣، تعليق: ٢.
(٣) انظر تفسير"بغى" فيما سلف ٣: ٥٠٨ / ٤: ١٦٣ / ٦: ١٩٦، ٥٦٤، ٥٧٠.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٢٧، ٢٢٨.
وخرج الكلام على"السبيل"، والمعنى لأهله. كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحق، عوجا = يقول: ضلالا عن الحق، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجَّة.
* * *
"والعِوج" بكسر أوله: الأوَد في الدين والكلام."والعَوَج" بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم. (١)
* * *
وأما قوله:"وأنتم شهداء". فإنه يعني: شهداء على أنّ الذي تصدّون عنه من السبيل حقٌّ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم ="وما الله بغافل عما تعملون"، يقول: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجَّلة، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقَوْهُ فيجازيكم عليها.
* * *
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله" والآياتُ بعدَهما إلى قوله:"فأولئك لهم عذاب عظيم"، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيَّين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنَّفه الله بفعله ذلك، وقبَّح له ما فعل ووبَّخه عليه، ووعظ أيضًا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف.
*ذكر الرواية بذلك:
(٢) الملأ: الرؤساء وأشراف القوم ووجوههم ومقدموهم، الذين يرجع إلى قولهم ورأيهم. وبنو قيلة: هم الأنصار من الأوس والخزرج، وقيلة: اسم أم لهم قديمة، هي قيلة بنت كاهل، سموا بها.
(٣) في المطبوعة: "والله مالنا"، أسقط"لا"، وهي في المخطوطة وابن هشام.
(٤) في المطبوعة: "من اليهود"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام.
(٥) ردها جذعة: أي جديدة كما بدأت. والجذع والجذعة: الصغير السن من الأنعام، أول ما يستطاع ركوبه. يعني أعدناها شابة فتية.
(٦) "تحاوز الناس"، مثل"تحوز وتحيز وانحاز"، أي تنحى ناحية وانضم إلى جماعته، والذي يلي هذه الكلمة هو تفسيرها قوله: "فانضمت الأوس... " وفي المطبوعة: "تحاور" بالراء، ولا معنى لها هنا. والجملة كلها من أول قوله"وتحاوز... " إلى"التي كانو عليها في الجاهلية" مما أسقطه ابن هشام من نص ابن إسحاق، وليس في السيرة. ونص الطبري هنا أتم من نص ابن هشام في مواضع من هذا الأثر.
* * *
(٢) في المطبوعة: "مما أدخل عليهم... "، غيروا ما في المخطوطة، وهو المطابق لنص ابن هشام. وقوله: "عما أدخل عليهم"، أي بسبب ما أدخل عليهم ومن جرائه ومن أجله. و"عن" تأتي بهذا المعنى في كلامهم.
(٣) الأثر: ٧٥٢٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٤ - ٢٠٦، وهو بقية الآثار السالفة التي كان آخرها رقم: ٧٣٣٣، ٧٣٣٤.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٢٥- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا"، كانوا إذا سألهم أحدٌ: هل تجدون محمدًا؟ قالوا: لا! فصدّوا عنه الناس، وبغوْا محمدًا عوجًا: هلاكًا.
٧٥٢٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله: أن محمدًا رسول الله، وأنّ الإسلام دين الله الذي لا يَقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.
٧٥٢٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه.
٧٥٢٨- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، قال: هم اليهودُ والنصارى، نهاهم أنْ يصدّوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدِلوا الناسَ إلى الضلالة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على ما قاله السدي: يا معشر اليهود، لم
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك.
فقال بعضهم: عنى بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، الأوس والخزرج، وبـ "الذين أوتوا الكتاب"، شأس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبلُ من خبره عن زيد بن أسلم. (١)
* * *
وقال آخرون، فيمن عُني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم = غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى همّوا بالقتال ووجد اليهوديّ به مغمزًا فيهم: ثعلبة بن عَنَمة الأنصاري. (٢)
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٢٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا
(٢) في المطبوعة: "بن غنمة"، والصواب بالعين المهملة، وهي في المخطوطة تحتها حرف"ع"، وهو الصواب.
٧٥٣٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب"، قال: كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ودماء وشنَآنٌ، حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال: فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان، ومعهما يهوديّ جالسٌ، فلم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفَّ بعضهم لبعض. قال: ورسولُ الله ﷺ شاهدٌ يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"عذابٌ عظيم".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم ﷺ من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يُضِلُّوكم
(٢) حمل بني فلان على بني فلان: إذا أرش بينهم وأوقع.
٧٥٣١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين"، قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذَّركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداءُ الحسَدَة الضُّلال. كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم، وقتلوا رُسلهم، وتحيَّروا في دينهم، وعجزوا عَنْ أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التُّهَمة والعداوة!
٧٥٣٢- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وكيف تكفرون"، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم ="وأنتم تتلى عليكم آيات الله"، يعني: حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد ﷺ ="وفيكم رسوله" حجةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:-
٧٥٣٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
* * *
وأما قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته ="فقد هدى"، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضى الله، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته، كما:-
* * *
وأصل"العَصْم" المنع، فكل مانع شيئًا فهو"عاصمه"، والممتنع به"معتصمٌ به"، ومنه قول الفرزدق:
أَنَا ابنُ العَاصِمينَ بَنِي تَمِيم | إذَا مَا أَعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابَا (١) |
إلَى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى | وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصمْ (٢) |
إذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ | وَآسَيْتَنِي، ثمَّ اعْتَصَمْتَ حِبَالِيَا (٤) |
(٢) ديوانه: ٢٩ من قصيدته في ثنائه على صاحبه قيس بن معد يكرب الكندي، وقد مضت منها أبيات في ١: ٢٤٢ / ٥: ٤٢٢. والسرى: سير الليل كله. والعصم جمع عصام، وهكذا ضبط في شعره، وجائز أن يضبط"عصم" (بكسر العين وفتح الصاد) جمع"عصمة" (بكسر العين وسكون الصاد) وكلاهما مجاز في معنى العهود. وقوله: "وآخذ من كل حي عصم"، يعني أن سطوة قيس في الأحياء، ورهبته في صدورهم، تجعل له عند كل حي عهدًا يأخذه ليجوز به أرضهم آمنًا، لا يمسه أحد ولا ينال منه. وسيأتي مثل هذا المعنى في بيت آخر يأتي بعد قليل ص: ٧٠، تعليق: ٣.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ٢٢٨، وضبطه"ثم" هكذا، وبقى جواب"إذا" في بيت بعده فيما أرجح. ولو قرأته"ثم" بفتح الثاء، أي هناك، كان جواب"إذا"، "اعتصمت حباليا". وتم البيت، وانفرد عما بعده. ولكني لا أستطيع أن أرجح هذا حتى أعرف بقية الأبيات.
تَعَلَّقَتْ هِنْدًا ناشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ | وَأَنْتَ وَقَدَ قَارَفْتَ، لم تَدْرِ مَا الحِلْمُ (٢) |
وقد بينت معنى"الهدى"،"والصراط"، وأنه معنيّ به الإسلام، فيما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحاوُز القبيلين (٤) الأوس والخزرج، كان منْ قوله: (٥) "وكيف تكفرُون وأنتم تتلى عليكم آيات الله".
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٣٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حُصَين، عن أبي نصر، عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، (٦)
(٢) معاني القرآن ١: ٢٢٨. يقال: "غلام ناشئ، وجارية ناشئة"، ولكنه وصف"هندًا" على التذكير فقال: "ناشئًا"، وقد زعم الليث أنه لم يسمع هذا النعت في الجارية، فكأن الشاعر وصفها به، وأمره على التذكير. وقوله: "وقد قارفت"، أي قاربت ودنوت من الكبر، والجملة حال معترضة. يقول: تعلقها صغيرة لم تحجب بعد، وبلغت ما بلغت، ولم تدر بعد ما الحلم، وهو الأناة والعقل ومفارقة الصبا وطيش الشباب.
(٣) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف ١: ١٦٦ - ١٧٠، وفهارس اللغة / وانظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف ١: ١٧٠ - ١٧٧ وفهارس اللغة.
(٤) في المطبوعة: "تحاور"، وقد أسلفت قراءتي لهذا الحرف وبيانه فيما سلف: ص٥٥ تعليق: ٦، وفي المطبوعة: "القبيلتين" بالتاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "كان منه قوله"، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. ويعني أن الآيات التي نزلت في شأن تحاوز الأوس والخزرج واقتتالهما، كان من أول هذه الآية، لا الآيتين قبلها.
(٦) قوله: "كل شهر"، هكذا جاء في المخطوطة واضحا، والذي في الدر المنثور ٢: ٥٨: "كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر"، وفي القرطبي ٤: ١٥٦: "كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية"، ويخشى أن يكون ما في المخطوطة: "كل شهر"، تصحيف"وكل شر"، ولكن ليس هذا موضع الرأي، فإن الذين نقلوا هذا الأثر فيما بين يدي، لم ينقلوه بإسناده هذا، ولا بتمام لفظه كما هنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله ="اتقوا الله"، خافوا الله ورَاقبوه بطاعته واجتناب معاصيه ="حقّ تُقاته"، حقّ خوفه، (٢) وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا يُنسى =
(٢) انظر القول في بيان"تقاة" فيما سلف ٦: ٣١٣ - ٣١٧.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٣٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري = عن زبيد، عن مُرّة، عن عبد الله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. (٢)
٧٥٣٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله.
٧٥٣٨- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله.
٧٥٣٩- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البَكيليّ، عن عبد الله بن مسعود، مثله. (٣)
٧٥٤٠- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا جرير، عن زبيد، عن عبد الله، مثله.
(٢) الأثر: ٧٥٣٧- والآثار التي تليه أسانيد مختلفة لهذا الأثر. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي نعيم، عن مسعر، وهو الأثر رقم: ٧٥٤١، وليس فيه"ويشكر فلا يكفر"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(٣) الأثر: ٧٥٣٩- في المطبوعة: "مرة بن شراحيل الهمداني". غير ما في المخطوطة، وكلاهما صحيح وصواب، وانظر الأثر رقم: ٢٥٢١، والتعليق عليه.
٧٥٤٢- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن المسعودي، عن زبيد الأيامي، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
٧٥٤٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
٧٥٤٤- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. (١)
٧٥٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، نحوه.
٧٥٤٦- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة، عن مرة، عن الربيع بن خُثَيم قال: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
٧٥٤٧- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن الربيع بن خُثيم في قول الله عز وجل:"اتقوا الله حق تقاته"، فذكره نحوه. (٢)
٧٥٤٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(٢) الأثران: ٧٥٤٦، ٧٥٤٧ -"الربيع بن خثيم الثوري" مضت ترجمته في رقم: ١٤٣٠، وكان في المطبوعة"بن خيثم"، وهو خطأ مضى مثله في الأثر الآخر، وفي مواضع غيره، وصححته من المخطوطة.
٧٥٤٩- حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يطاع فلا يُعصى.
٧٥٥٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم تقدم إليهم -يعني إلى المؤمنين من الأنصار-. فقال:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أما"حق تقاته"، يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر.
٧٥٥١- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، أن يطاع فلا يعصى، قال:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك، كما:-
٧٥٥٢- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومةُ لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل هي منسوخة أم لا؟
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٥٣- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته" أنها لم تنسخ، ولكن"حق تقاته"، أن تجاهدَ في الله حق جهاده = ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفًا. (١)
٧٥٥٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن طاوس:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
٧٥٥٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال طاوس قوله:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، يقول: إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
* * *
وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن: ١٦].
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٥٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ثم أنزل التخفيف واليسر، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فجاءت هذه الآية، فيها تخفيفٌ وعافيةٌ ويُسر.
٧٥٥٧- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال،
٧٥٥٨- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت:"اتقوا الله حق تقاته"، ثم نزل بعدها: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْْ)، فنسخت هذه الآية التي في"آل عمران".
٧٥٥٩- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، فلم يطق الناسُ هذا، فنسخه الله عنهم، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
٧٥٦٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، قال: جاء أمر شديد! قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم، نسخها عنهم، وجاء بهذه الأخرى فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعْتُمْ) فنسخها. (١)
* * *
٧٥٦١- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن طاوس:" ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، قال: على الإسلام، وعلى حُرْمة الإسلام. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعًا. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسَّكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على معنى"الاعتصام" (٢)
* * *
وأما"الحبل"، فإنه السبب الذي يوصَل به إلى البُغية والحاجة، ولذلك سمي الأمان"حبلا"، لأنه سبب يُوصَل به إلى زوال الخوف، والنجاة من الجزَع والذّعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ | أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَها (٣) |
(٢) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف قريبا ص: ٦٢، ٦٣.
(٣) ديوانه: ٢٤، ومشكل القرآن: ٣٥٨، والمعاني الكبير: ١١٢٠، واللسان (حبل) وغيرها. من قصيدته في قيس بن معد يكرب، ومضت منها أبيات في ٤: ٢٣٨، ٣٢٧، وهذا البيت في ذكر ناقته، يقول قبله: فإِذَا تُجَوِّزُهَا..................................
وقد مضى قبل مثل هذا البيت الأخير ص: ٦٢، تعليق:
فَتَرَكْتُها بَعْدَ المِرَاحِ رَذِيةً | وَأَمِنْتُ عِنْدَ رُكُوبِهَا إِعْجَالَها |
فَتَنَاوَلتْ قَيْسًا بِحُرِّ بِلادِه | فأتَتْهُ بَعْدَ تَنُوفَةٍ فأَنَالَهَا |
٢ إلَى المرءِ قيسٍ أُطِيلُ السُّرَى | وَآخذُ من كُلّ حَيٍّ عُصُمْ |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٦٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: الجماعة.
٧٥٦٣- حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: حبلُ الله، الجماعة.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك القرآنَ والعهدَ الذي عَهِدَ فيه.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٦٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:" واعتصموا بحبل الله جميعًا"، حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به: هذا القرآن.
٧٥٦٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا" قال: بعهد الله وأمره.
٧٥٦٧ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن المفضل، عن أسباط، عن السدي:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، أما"حبل الله"، فكتاب الله.
٧٥٦٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بحبل الله"، بعهد الله.
٧٥٦٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء:"بحبل الله"، قال: العهد.
٧٥٧٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:"واعتصموا بحبل الله" قال: حبلُ الله: القرآن.
٧٥٧١- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: القرآن.
٧٥٧٢- حدثنا سعيد بن يحيى قال: حدثنا أسباط بن محمد، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله، هو حبل الله الممدودُ من السماء إلى الأرض. (٢)
* * *
(٢) الحديث: ٧٥٧٢- عبد الملك بن أبي سليمان العرزمى -بسكون الراء ثم زاي مفتوحة- أحد الأئمة: مضى توثيقه: ١٤٥٥.
عطية: هو ابن سعد بن جنادة -بضم الجيم- العوفي. وقد بينا في: ٣٠٥ أنه ضعيف.
وقد سقط من المخطوطة والمطبوعة هنا قوله [عن عطية]. وزدناه من نقل ابن كثير ٢: ٢٠٣، عن هذا الموضع من الطبري.
ثم الحديث -من حديث أبي سعيد- يدور في كل ما رأينا من طرقه على عطية العوفي، كما سيأتي:
فرواه أحمد في المسند: ١١٢٢٩، ١١٥٨٢ (ج٣ص ٢٦، ٥٩ حلبي)، عن ابن نمير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، بنحوه، مرفوعًا مطولا.
ورواه أيضا: ١١١٢٠ (ج ٣ ص ١٤)، من طريق إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي، عن عطية.
ورواه أيضا: ١١١٤٨ (ج ٣ ص ١٧)، عن أبي النضر، عن محمد بن طلحة، عن الأعمش عن عطية العوفي.
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٣٤٣، من طريق محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد -وعن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم، مرفوعًا، نحوه مطولا. فهو عنده عن أبي سعيد وعن زيد بن أرقم. ثم قال: "هذا حديث حسن غريب".
فأما حديث أبي سعيد، فقد بينا أنه ضعيف، من أجل عطية العوفي.
وأما حديث زيد بن أرقم، فإنه حديث صحيح. وهو قطعة من قصة مطولة، رواها أحمد في المسند ٤: ٣٦٦ - ٣٦٧ (حلبي). ورواها مسلم ٢: ٢٣٧ - ٢٣٨، مطولة ومختصرة.
وروى ابن حبان في صحيحه، رقم: ١٢٣ (بتحقيقنا) - قطعة منه، فيها أن"كتاب الله، هو حبل الله".
ثم نعود لحديث أبي سعيد:
فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ١٦٣، مطولا، بنحو رواية الترمذي. ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده رجال مختلف فيهم"!
ولست أدرى، لم ذكره في الزوائد، وهو في الترمذي؟ ثم لم ترك نسبته للمسند، وهو مروي فيه أربع مرات؟!
وذكره السيوطي ٢: ٦٠، مختصرًا كما هنا. ولم ينسبه إلا لابن أبي شيبة وابن جرير. ثم ذكر الرواية المطولة عن أبي سعيد. ونسبه لابن سعد، وأحمد، والطبراني.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٧٣- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده.
٧٥٧٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: الحبل، الإسلام. وقرأ"ولا تفرقوا".
* * *
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تفرقوا"، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى أمره. كما:-
٧٥٧٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم"، إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة، وقدّم إليكم فيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله.
٧٥٧٦- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبى العالية:"ولا تفرّقوا"، لا تعادَوْا عليه، يقول: على الإخلاص لله، وكونوا عليه إخوانًا. (١)
٧٥٧٧- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن الأوزاعي حدثه، أنّ يزيد الرقاشي حدّثه أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسَبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة. قال: فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يَدَه وقال: الجماعة،"واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا". (٢)
(٢) الحديث: ٧٥٧٧- يزيد الرقاشي: هو يزيد أبان، أبو عمرو، البصري القاص. وقد أشرنا في شرح: ٦٦٥٤، ٦٧٢٨ إلى أنه ضعيف. وقال البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٣٢٠: "كان شعبة يتكلم فيه"، وقال النسائي في الضعفاء: "متروك"، وقال ابن سعد ٧ / ٢ / ١٣: "كان ضعيفًا قدريًا".
والحديث رواه ابن ماجه: ٣٩٩٣، من طريق الوليد بن مسلم: "حدثنا أبو عمرو [هو الأوزاعي]، حدثنا قتادة، عن أنس. فذكره نحوه مرفوعًا، ولكن آخره عنده: "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة".
وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح. رجاله ثقات". وهو كما قال.
فيكون الأوزاعي رواه عن شيخين، أحدهما ضعيف، والآخر ثقة. وأن الضعيف -يزيد الرقاشي- زاد الاستشهاد بالآية. ولا بأس بذلك، فالمعنى قريب.
وذكره السيوطي ٢: ٦٠، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
٧٥٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قُطْبَة المدنيّ، عن عبد الله: أنه قال:"يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة". (٢)
٧٥٨٠- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكريّ قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبَة قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول: يا أيها الناس، ثم ذكر نحوه. (٣)
(٢) الأثر: ٧٥٧٩-"ثابت بن قطبة المدني الثقفي"، مترجم في الكبير ١ / ٢ / ١٦٨، والجرح ١ / ١ / ٤٥٧، قال البخاري: "سمع ابن مسعود، روى عنه أبو إسحاق، والشعبي" وزاد ابن أبي حاتم: "وزياد بن علاقة، وسالم بن أبي الجعد". وكان في المطبوعة في هذا الموضع وفي الأثرين التاليين"ثابت بن قطنة" بالنون من"قطنة"، وهو خطأ. وفي المخطوطة في هذا الأثر"فطنه" غير منقوطة، ونقطت الباء في الأثرين التاليين. وفي المخطوطة والمطبوعة: "المرى" في هذا الأثر وفي رقم: ٧٥٨١، والصواب"المدني" كما أثبته، وثابت ثقفي، لا مرى.
(٣) الأثر: ٧٥٨٠- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"، وهو خطأ، والصواب المخطوطة. وقد سلف مثل هذا الخطأ في رقم: ٧٣٧٨، فانظر التعليق عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واذكروا نعمة الله عليكم"، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام.
واختلف أهل العربية في قوله:"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم".
فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم"، ثم فسر بقوله:"فألف بين قلوبكم"، وأخبرَ بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول:"أمسَكَ الحائط أن يميل".
وقال بعض نحويي الكوفة: قوله"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، تابع قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم" غير منقطعة منها.
وتأويل ذلك: واذكروا، أيها المؤمنون، نعمة الله عليكم التي أنعمَ بها عليكم، حين كنتم أعداء في شرككم، (١) يقتل بعضكم بعضًا، عصبيةً في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانًا بعد إذ كنتم أعداءً تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه، كما:-
٧٥٨٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألَّف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إنّ الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذابٌ.
٧٥٨٣- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء"، يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل شديدُكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانًا.
* * *
قال أبو جعفر: فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكرُوها، هي ألفة الإسلام، واجتماع كلمتهم عليها = والعداوةُ التي كانت بينهم، التي قال الله عز وجل:"إذ كنتم أعداء" فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة،. كما:-
* * *
فذكَّرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيمَ ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا، وخوف بعضهم من بعض، وما صارُوا إليه بالإسلام واتباع الرّسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانًا، وكأن سبب ذلك ما:-
٧٥٨٥- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدى له رسول الله ﷺ حين سمع به، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعل الذي مَعك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان -يعني: حكمة لقمان- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعرضْها عليّ" فعرضها عليه، فقال:"إن هذا لكلام حسنٌ، (٢) معي أفضل من هذا، قرآنٌ أنزله الله عليّ هدًى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآنَ، ودعاه إلى الإسلام، فلم يُبعد منه، وقال: إن هذا لقولٌ حَسن! ثم
(٢) في المطبوعة: "إن هذا الكلام"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.
٧٥٨٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (٢) أحد بني عبد الأشهل: أن محمودَ بن لبيد، (٣) أحدَ بني عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحَيْسر أنس بن رافع مكة، (٤) ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، (٥) سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال"هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ " قالوا: وما ذاك؟ قال:"أنا رسولُ الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، (٦) وأنزل عليَّ الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدُثًا: (٧) أيْ قوم، هذا والله خير مما جئتم له! قال: فيأخذ أبو الحَيْسَر أنس بن رافعَ حفنةً من البطحاء، (٨) فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله ﷺ عنهم، وانصرفوا
(٢) في المطبوعة: "الحسين بن عبد الرحمن... "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وهو مترجم في التهذيب.
(٣) في المطبوعة: "محمود بن أسد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، ولم يحسن الناشر قراءتها لخلوها من النقط، وصوابه أيضًا في ابن هشام. و"محمود بن لبيد الأشهلي" تابعي، واختلف في صحبته. مترجم في التهذيب.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الجيش أنس بن رافع"، وهو خطأ فاحش، صوابه من سيرة ابن هشام ٢: ٦٩، وسائر كتب التاريخ.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "على قوم من الخزرج"، والصواب ما في سيرة ابن هشام. كما أثبت.
(٦) في المخطوطة: "أن يعبدون الله..." سهو من الناسخ، وفي ابن هشام"أدعوهم إلى أن يعبدوا الله".
(٧) غلام حدث (بفتح الحاء وضم الدال) : كثير الحديث حسن السياق له.
(٨) في المطبوعة: "فأخذ أبو الجيش"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام.
=قال ابن حميد قال، سلمة قال، محمد بن إسحاق، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله ﷺ قال لهم:"من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج قال، أمن موالي يهود؟ (٣) قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى!. قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرَض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنَع الله لهم به في الإسلام، (٤) أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحابَ أوثان، (٥) وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيًّا الآن مبعوث قد أظلّ زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم!. فلما كلم رسول الله ﷺ أولئك النفرَ ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي تَوَعَّدُكم به يهود، فلا يسبقُنَّكم إليه! (٦) فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صَدّقوه وقبلوا منه
(٢) في المطبوعة: "لهم خيرًا"، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(٣) "موالي يهود": أي من حلفائهم، والمولي: الحليف.
(٤) هذا هو النص الصحيح، لما أثبت ناشر سيرة ابن هشام، مخالفا أصول السيرة، وما جاء هنا.
(٥) في ابن هشام: "وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان"، وما في الطبري صواب أيضا.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا يسبقنكم" بالواو، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
٧٥٨٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقىَ النبي ﷺ ستةُ نفرٍ من الأنصار فآمنوا به وصدّقوه، فأراد أن يذهبَ معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن
(٢) بيعة النساء، هي البيعة المذكورة في [سورة الممتحنة: ١٢]، ونصها فيما رواه ابن إسحاق بإسناديه عن عبادة بن الصامت أنه قال (ابن هشام ٢: ٧٥، ٧٦) :"بايعنا رسول الله ﷺ لَيلَةَ العقبة الأولى على أن لا نُشْرك بالله شيئًا، ولا نَسْرِق، ولا نزني، ولا نقتُل أولادَنا، ولا نأتي ببُهْتانٍ نَفتريهِ من بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نَعْصِيه في معروفٍ = فإِن وَفَيْتُم، فلكُمُ الجنَّة. وإن غَشِيتُم من ذلك شيئًا فأُخِذْتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفَّارةٌ لكم. وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله، إن شاءَ عذب وإن شاءَ غفر". وهذه بيعة لم يذكر فيها القتال والجهاد، مما كتبه الله على الرجال دون النساء، ولذلك سميت بيعة النساء، لأنها مطابقة لبيعتهن المذكورة في سورة الممتحنة.
(٣) الأثر: ٧٥٨٦- سيرة ابن هشام ٢: ٦٩ - ٧٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ٧٥٨٥.
٧٥٨٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"إذ كنتم أعداء"، ففي حرب ابن سُمَير (١) ="فألف بين قلوبكم"، بالإسلام.
٧٥٨٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بنحوه = وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان، (٢) فتثاوَر = الحيَّان، فقال بعضهم لبعض: مَوْعدُكم الحَرَّة! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآيةُ:"واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداء فألَّف بين
(٢) يعني ما كان من حديث الإفك في أمر عائشة أم المؤمنين، وذلك أن رسول الله ﷺ لما خطب الناس فذكر لهم رجالا يؤذونه في أهله ويقولون عليهن غير الحق، وتولى كبر ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول في رجال من الخزرج. فقام أسيد بن حضير الأوسي فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة الخزرجي، فقال: كذبت لعمر الله، لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! فقال أسيد بن الحضير: كذبت لعمر الله: ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! وتثاور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر (تاريخ الطبري ٣: ٦٩).
هذا ولم أجد ذكر هذا الخبر في كتاب، ولم أجد في كتب أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها، ولا ما كان يومئذ بين الأوس والخزرج. ولم يذكر ذلك أبو جعفر مصرحًا في هذا الموضع، ولا ذكر ذلك في تفسير سورة النور، حيث آيات حديث الإفك وبراءة عائشة أم المؤمنين.
* * *
"وسُمَير" الذي زعم السدي أن قوله"إذ كنتم أعداء" عنى به حربه، هو سُمير بن زيد بن مالك، (٢) أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله:
إنَّ سُمَيْرًا أَرُى عَشِيرَتَهُ... قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا (٣) إنْ يَكًنِ الظَّنُّ صَادِقِي بَبَنِي... النَّجَّارِ لَمْ يَطْعَمُوا الَّذِي عُلِفُوا (٤)
(٢) في الأغاني ٣: ٤٠"سمير بن يزيد بن مالك"، وذكر في ٣: ٢١ أنه أخو"درهم بن يزيد بن ضبيعة"، وقد رجحت في التعليق على طبقات فحول الشعراء لابن سلام: ٢٤٧ تعليق: ٦ أنه"درهم بن يزيد بن مالك" من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمر بن عوف. وقد جاء في المطبوعتين"درهم بن زيد" كما جاء هنا في ذكر أخيه"سمير بن زيد".
(٣) جمهرة أشعار العرب: ١٢٢، والأغاني ٢٠، واللسان (سمر) وهذا البيت والذي يليه كتب في المطبوعة بالقاف"أبقوا" ثم"علقوا" وهما في المخطوطة غير منقوطتين، وأوقعهم في ذلك النقط ما جاء في اللسان (سمر)، "أبقوا" بالباء والقاف، وهو خطأ محض ينبغي تصحيحه. فقصيدة مالك فائية لا شك فيها. رواها صاحب جمهرة أشعار العرب بطولها، ورواها أبو الفرج، وروى معها نقائضها، لدرهم بن يزيد، ثم لقيس بن الخطيم، فيما بعد هذه الحرب بدهر، ورد حسان بن ثابت عليه ومناقضته له. وخبر هذا الشعر طويل، هو في الأغاني ٣: ١٨ - ٢٦، ثم ٣٩ - ٤٢. ثم انظر ما قاله الطبري بعد الأبيات.
وقوله: "حدبوا دونه"، يقال: "حدب عليه"، إذا تعطف عليه وحنا عليه. وقوله: "دونه"، عني أنهم عطفوا عليه وحاموا دونه ليمنعوه. وقوله: "أنفوا"، يقال: "أنف الرجل من الشيء يأنف أنفا"، إذا حمى وغضب، وأخذته الغيرة من أن يضام. وكان سمير هذا هو الذي قتل الرجل الثعلبي جار مالك بن العجلان -في خبر الحرب- فطالب مالك بني عمرو بن عوف أن يرسلوا إليه سميرًا ليقتله بجاره، أو يأخذ الدية كاملة، فأبى أولئك، وأبى مالك، وحدب بنو عمرو بن عوف على صاحبهم سمير، واستنفر مالك قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره، فقال هذه الأبيات يحرض بني النجار على نصرته.
(٤) في رواية الجمهرة والأغاني: "صادقا"، وهما سواء. وفي شرح هذا البيت قال أبو الفرج في أغانيه: "علفوا الضيم: إذا أقروا به. أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم"، وهذا مجاز قلما تظفر بتفسيره في كتب اللغة. وقد جاء مثل ذلك في هذا المعنى من قول سبيع بن زرارة، أو خالد بن نغسلة (الحماسة ١:وقول العباس بن مرداس (الحماسة ١:
١٨٦). إِذَا كُنْتَ في قومٍ عِدًى لَسْتَ مِنْهُمُ | فَكُلْ مَا عُلِفْتُ من خبيثٍ وطيِّبِ |
٢٢٥). ولا تَطْعَمَنْ ما يَعْلِفٌونَك إنَّهُمْ | أَتَوْكَ عُلىْ قُرْبَاهُمْ بِالمُثَمَّلِ |
هذا وقد ترك ناشرو هذا التفسير هذين البيتين على حالهما من التصحيف. ثم جاء بعض المعلقين، فكتب ما لا قبل لذي عقل بقبوله، إلا على قول القائل: "فكل ما علفت"!
* * *
وأما قوله:"فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق، والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانًا متصادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد، كما:-
٧٥٩٠- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"وكنتم على شفا حفرة من النار"، وكنّتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حُفرةٍ من النار. وإنما ذلك مثَلٌ لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرَف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن يُنعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له.
* * *
و"شفا الحفرة"، طرفها وَحرفها، مثل"شفا الركيَّة والبئر"؛ ومنه قول الراجز:
نَحْنُ حَفَرنَا لِلْحَجيِجِ سَجْلَهْ | نَابِتَةٌ فَوْقَ شَفَاهَا بَقْلَةْ (١) |
وَمَا النِّيلُ يَأْتِي بالسَّفِينِ يَكُفُّه | بأَجْوَدَ سَيْبًا من عَدِىّ بن نَوْفَل |
وأنبطْتَ بين المَشْعَرَيْنِ سِقايةً | لِحُجَّاجِ بَيْتِ الله أفْضَلَ مَنْهَلِ |
نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِىٍّ سَجْلَهْ | في تُرْبةٍ ذَاتِ عَذَاةٍ سَهْلَهْ |
أي جرعة فجرعة. ولم يتيسر لي تحقيق ذلك الآن بأكثر من هذا
* * *
وقال:"فأنقذكم منها"، يعني فأنقذكم من الحفرة، فردّ الخبر إلى"الحفرة"، وقد ابتدأ الخبر عن"الشفا"، لأن"الشفا" من"الحفرة". فجاز ذلك، إذ كان الخبر عن"الشفا" على السبيل التي ذكرها في هذه الآية = خبرًا عن"الحفرة"، كما قال جرير بن عطية:
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنَّي | كما أخَذ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (١) |
دَعِيني، إِنَّ شَيْبى قَدْ نَهَانِي | وَتَجْرِيبِى، وَشَيْبِى، وَاكْتِهَالِى |
وَمَنْ يَبْقَى عَلَى غَرَضِ المَنَايا | وَأَيَّامٍ تَمُرُّ مَعَ اللَّيّالِي؟! |
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي | طَوَيْنَ طولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي (٢) |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٥٩١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته"، كان هذا الحيّ من العرب أذلَّ الناس ذُلا وأشقاهُ عيشًا، (٤) وأبْيَنَه ضلالة، وأعراهُ
(٢) ديوان العجاج: ٨٠، سيبويه ١: ٢٦، كتاب المعمرين: ٨٧، الأغاني ١٨: ١٦٤، والبيان والتبيين ٤: ٦٠، والخزانة ٢: ١٦٨، العيني (هامش الخزانة) ٣: ٣٩٥، وشرح شواهد المغنى: ٢٩٨ وغيرها. وقد اختلفت في رواية الرجز اختلاف كثير. ورواية أبي محمد الأعرابي: مَرُّ اللَّيالي...................................
أَصْبَحْتُ لا يَحْمِلُ بَعْضِي بَعْضِي | مُنَفَّهًا، أَرُوح مِثْلَ النِّقْضِ |
ثُمَّ الْتَحَيْنَ عَنْ عِظامِي نَحْضِى | أَقْعِدْنَنِي مِنْ بَعْدِ طُول نَهْضِي |
(٣) ٥: ٧٧، ٧٨.
(٤) قوله: "وأشقاه عيشًا، وأبينه ضلالة..." مع عودة الضمير إلى"الناس"، لأن ضمير المثنى والجمع بعد"أفعل" التفضيل، يجوز إفراده وتذكيره، انظر ما سلف من التعليق على الآثار رقم: ٥٩٦٨، ٦١٢٩، ٧٠٢٨، ٧٠٢٩.
٧٥٩٢- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار"، يقول: كنتم على الكفر بالله، ="فأنقذكم منها"، من ذلك، وهداكم إلى الإسلام.
٧٥٩٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"، بمحمد ﷺ يقول: كنتم على طرَف النار، من مات منكم أوبِقَ في النار، (٤) فبعث الله محمدا ﷺ فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبِ واصِيَةٍ | يَهْمَاءَ، خَابِطُهَا بالخوف مَكْعُومُ |
(٣) هكذا جاءت الجملتان في المخطوطة، ولست على ثقة من صوابهما، ولا أدري ما يعني بقوله: "دار الجهاد"، والذي نعرف أن الإسلام جاء فأحله للمجاهدين هو"الغنائم" غنائم الحرب والجهاد. فأخشى أن يكون في الكلام تحريف. وقوله: "ووضع لكم به من الرزق" كأنه يعني بقوله: "وضع" بسط، كما فسروه في حديث التوبة: "إن الله واضع يده لمسيء الليل ليتوب بالنهار، ولمسيء النهار ليتوب بالليل"، أي بسط، كما جاء في الرواية الأخرى: "إن الله باسط يده...".
(٤) أوبقه: أهلكه، وقوله: "أوبق" بالبناء للمجهول.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك"، كما بيَّن لكم ربكم في هذه الآيات، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غِلّ اليهود الذي يضمرونه لكم، (٢) وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم،= (٣) مُعَرِّفَكم في كل ذلك مواقع نعمة قِبَلكم، وصنائعه لديكم،= (٤) فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ="لعلكم تهتدون"، يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها، فلا تضِلوا عنها. (٥)
* * *
(٢) في المطبوعة: "من علماء اليهود..."، وهو فاسد جدًا، والصواب في المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها"من عل" غير منقوطة. والغل (بكسر الغين) : الحقد الدفين.
(٣) سياق الجملة: كما بين لكم في هذه الآيات... من غل اليهود... ومن غشهم... ومن أمره... ومن نهيه... ومن الحال التي كنتم عليه..." معطوف بعضه على بعض.
(٤) في المطبوعة: "يعرفكم" بالياء في أوله، والصواب ما في المخطوطة، وهو منصوب الفاء، نصب على الحال.
(٥) عند هذا الموضع، انتهى الجزء الخامس من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه: "نَجَز الجزء الخامس من كتاب البيان، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، أعان الله على ما بعده بمنه وكرمه، وخفىّ لطفه وسعة رحمته، إنه وَلِيّ ذلك والقادرُ عليه. يتلوه في السادس إنْ شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: "وَلْتَكُنْ منكُمْ أمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُون". * * *
وكان الفراغُ منه في شهر الله المحرّم غُرّة سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسن الله تَقَضِّيها وخاتمتها في خيرٍ وعافية، بمنّه وكرمه ولطفه - على يدِ العبد الفقير إلى رحمة مولاه، الغنيِّ به عمن سواه: علىّ بن محمد بن عباد (أو: عنان) بن عبد الصمد بن صالح الديدبلى (؟؟) الشافعي، غفر الله له ولوالديه، ولصاحب هذا الكتاب، ولمن قرأ فيه ودعا لهم بالتوبة والمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين. وذلك بالقاهرة المحروسة، بحارة العطوفة. الحمد لله رب العالمين" ثم يتلوه الجزء السادس، وأوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعِنْ"
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولتكن منكم" أيها المؤمنون ="أمة"، يقول: جماعة (١) ="يدعون" الناس="إلى الخير"، يعني إلى الإسلام وشرائعه
* * *
وقوله:"وأولئك هم المفلحون"، يعني: المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه.
* * *
وقد دللنا على معنى"الإفلاح" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (٣)
* * *
٧٥٩٥- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون الثقفي: أنه سمع صُبيحًا قال: سمعت عثمان يقرأ: (" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللهَ عَلَى مَا أَصَابَهُم "). (٤)
٧٥٩٦- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن
(٢) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ٣: ٢٩٣ / ٤: ٥٤٧، ٥٤٨ / ٥: ٤٤، ٧٦، ٩٣، ١٣٧، ٥٢٠.
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٤٩، ٢٥٠ / ٣: ٥٦١.
(٤) الأثر: ٧٥٩٥-"عيسى بن عمر الأسدي" المعروف بالهمداني، القارئ الأعمى صاحب الحروف، كوفي ثقة. مترجم في التهذيب وطبقات القراء ١: ٦١٢."أبو عون الثقفي" هو: "محمد بن عبيد الله بن سعيد" الأعور، كوفي تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وطبقات القراء ٢: ١٩٤. أما "صبيح"، فلم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٤٩ قال: "صبيح، قال سمعت عثمان يقرأ: "ولتكن منكم أمة يهدون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم. روى عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون، عنه". ولم يزد على ذلك، وفي الجرح كما ترى"يهدون إلى الخير" على غير ما جاء في الطبري، فإنه يوافق القراءة الموروثة. وفي التاريخ الكبير للبخاري"صبيح بن عبد الله العبسي" أنه قال: "استعمل عثمان أبا سفيان بن الحارث على الفروض"، ولست أستطيع أن أرجح أنهما رجل واحد. وانظر الدر المنثور ٢: ٦١، ٦٢.
٧٥٩٧- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، قال: هم خاصة أصحابِ رسول الله، وهم خاصَّة الرواة. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تكونوا"، يا معشر الذين آمنوا ="كالذين تفرقوا" من أهل الكتاب="واختلفوا" في دين الله وأمره ونهيه ="من بعد ما جاءهم البينات"، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمرَ الله، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله="وأولئك لهم"، يعني: ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم ="عذاب" من عند الله="عظيم"، يقول جل ثناؤه: فلا تتفرقوا، يا معشر المؤمنين، في دينكم تفرُّق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم، كما:-
٧٥٩٨- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات"، قال: هم أهل الكتاب، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا، كما
٧٥٩٩- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
٧٦٠٠ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"، قال: هم اليهود والنصارى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه.
* * *
وأما قوله:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن معناه: فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. ولا بدل"أما" من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت"الفاء" معه. وإنما جاز ترك ذكر"فيقال" لدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
فقال بعضهم: عني به أهل قبلتنا من المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٠١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، الآية، لقد كفر أقوامٌ بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول:"والذي نفس محمد بيده، ليردنّ على الحوض ممن صحبني أقوامٌ، حتى إذا رُفعوا إليّ ورأيتهم، اختُلِجوا دوني، فلأقولن: ربّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"! = وقوله:"وأما الذين ابيضتْ وجوههم ففي رحمة الله"، هؤلاء أهل طاعة الله، والوفاء بعهد الله، قال الله عز وجل:"ففي رحمة الله هم فيها خالدون". (١)
٧٦٠٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.
٧٦٠٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح، عن أبي مجالد، عن أبي أمامة:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، قال: هم الخوارج.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: كلّ من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن،
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٠٤- حدثني المثني قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، في قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسودَّ وجهه، وعيَّرهم."أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون"، قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرُّوا كلهم بالعبودية، وفطرهُمْ على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين، يقول:"أكفرتم بعد إيمانكم"، يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين: الذين استقاموا على إيمانهم ذلك، فأخلصوا له الدين والعمل، فبيَّض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته.
* * *
وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله:"أكفرتم بعد إيمانكم"، المنافقون.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٠٥- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" الآية، قال: هم المنافقون، كانوا أعطوا كلمةَ الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [سورة الأعراف: ١٧٢].
* * *
فتأويل الآية إذًا: أولئك لهم عذاب عظيمٌ في يوم تبيضُّ وجوه قوم وتسودُّ وجوه آخرين. فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهدَه وميثاقَه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئًا، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم =يعني: بعد تصديقكم به؟ ="فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يقول: بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق="وأما الذين أبيضَّت وجوههم". ممن ثبتَ على عهد الله وميثاقه، فلم يبدِّل دينه، ولم ينقلب على عَقِبيه بعد الإقرار بالتوحيد، والشهادة لربه بالألوهة، وأنه لا إله غيره ="ففي رحمة الله"، يقول: فهم في رحمة الله، يعني: في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها="هم فيها خالدون"، أي: باقون فيها أبدًا بغير نهاية ولا غاية.
* * *
(٢) في المطبوعة: "أنها المراد" بغير تاء، والصواب ما في المخطوطة.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تلك آيات الله"، هذه آيات الله.
* * *
وقد بينا كيف وضعت العرب"تلك" و"ذلك" مكان"هذا" و"هذه"، في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وقوله:"آيات الله"، (٢) يعني: مواعظ الله وعبره وحججه. ="نتلوها عليك"، (٣) نقرؤها عليك ونقصُّها=" (بالحق)، يعني بالصدق واليقين.
وإنما يعني بقوله:"تلك آيات الله"، هذه الآيات التي ذكر فيها أمورَ المؤمنين من أنصار رسول الله ﷺ وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده، وبالمبدِّلين دينه، والناقضين عهدَه بعد الإقرار به. ثم أخبر عز وجل نبيه محمدًا ﷺ أنه يتلو ذلك عليه بالحق، وأعلمه أن من عاقبَ من خلقه بما أخبر أنه معاقبه [به] :(٤) من تسويد وجهه، وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه =ومن جازاه منهم بما جازاه: من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه، بتخليده في دائم نعيمه، فبغير ظلم منه لفريق منهم، بل بحق استوجبوه، (٥) وأعمال لهم سلفت، جازاهم عليها، فقال تعالى ذكره:"وما الله يريد ظلمًا للعالمين"، يعني بذلك: وليس الله يا محمد=
(٢) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهارس اللغة مادة"أيا".
(٣) انظر تفسير"تلا" فيما سلف ٢: ٤٠٩ - ٤١١، ٥٦٦ - ٥٧٠ / ٦: ٤٦٦.
(٤) في المطبوعة: "أن من عاقبه"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب. وما بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق.
(٥) في المطبوعة: "بل لحق"، وأثبت ما في المخطوطة.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه، ويثيب أهلَ الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصفَ أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل، لأنه لا حاجة به إلى الظلم. وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه، أو إلى سلطانه سلطانًا، أو إلى ملكه ملكًا، = (١) أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام. (٢) فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب، وما في الدنيا والآخرة، فلا معنى لظلمه أحدًا، فيجوز أن يظلم شيئًا، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقصٌ يحتاج إلى تمام، فيتم ذلك بظلم
(٢) في المطبوعة: "وإلى ملكه ملكًا لنقصان في بعض أسبابه يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام"، وهي جملة تشبه أن تكون مستقيمة، بيد أن الطبري أراد أن الظالم يظلم ليزداد عزة إلى عزه - أو سلطانًا إلى سلطانه - أو ملكًا إلى ملكه - أو أن يتمم بظلمه ما كان ناقصًا من أسبابه. وعبارة الطبري التي أثبتها مستقيمة جدا على طريقته في العبارة.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" ظاهرًا، وقد تقدم اسمُه ظاهرًا مع قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض".
فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: ذلك نظيرُ قول العرب:"أما زيدٌ فذهب زيدٌ"، وكما قال الشاعر: (١)
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ | نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى وَالفَقِيرَا (٢) |
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: ليس ذلك نظير هذا البيت، لأن موضع"الموت"
(٢) حماسة البحتري: ٩٨، وشعراء الجاهلية: ٤٦٨، وسيبويه ١: ٣٠، وخزانة الأدب ١: ١٨٣، ٢: ٥٣٤، ٤: ٥٥٢، وأمالي ابن الشجري ١: ٢٤٣، ٢٨٨، وشرح شواهد المغني: ٢٩٦، وهو من أبيات مفرقة في هذه الكتب وغيرها من حكمة عدي في تأمل الحياة والموت، يقول قبل البيت: لا أَرَى المَوْتَ......................................
ثم يقول بعد أبيات:
إنّ للدَّهْرِ صَوْلَةً فَاحْذَرنْهَا | لا تَبِيتَنَّ قَدْ أمِنْتَ الدّهورَا |
قَدْ يَنَامُ الفَتَى صَحِيحًا فَيَرْدَى | وَلَقَدْ بَاتَ آمِنًا مَسْرُورَا |
أَيْنَ أيْنَ الفِرَارُ مِمَّا سَيَأْتِي | لا أَرَى طَائِرًا نَجَا أَنْ يَطِيرَا |
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب، لأن كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان، (٣) إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيح موجودٌ.
وأما قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" فإنه يعني تعالى ذكره: إلى الله مصير أمر جميع خلقه، الصالح منهم والطالح، والمحسن والمسيء، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء، بغير ظلم منه أحدا منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس".
فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله ﷺ من مكة
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "كما قال الشاعر"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "لا يؤخذ معانيه"، وفي المخطوطة: "لا يوحد" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، والناسخ كثير التصحيف كما علمت، والدال هي الهاء في آخر الكلمة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٠٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين خرجوا معه من مكة.
٧٦٠٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
٧٦٠٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال:"أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال:"كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
٧٦٠٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل.
٧٦١٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه: قال عمر:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
٧٦١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا مع النبي ﷺ إلى المدينة. (١)
٧٦١٣- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم أصحابُ رسول الله ﷺ خاصة، يعني = وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. (٣)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦١٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، يقول: على هذا الشرط: أن تأمرُوا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله = يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الدخان: ٣٢].
٧٦١٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) قوله: "شرط الله منها"، أي شرط الله الذي طلبه منها.
(٣) قد مضى تفسير معنى"الرواة" في الأثر رقم ٧٥٩٧، والتعليق عليه.
٧٦١٦- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون بهم في السلاسل، تدخلونهم في الإسلام. (١)
٧٦١٧- حدثنا عبيد بن أسباط قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: خيرَ الناس للناس.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦١٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، (٢) حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثمَ قال:"كنتم خير أمة أخرجت للناس".
* * *
وقد استوفى الحافظ في هذا الموضع، الحديث عن معنى الآية، وذكر أكثر الآثار التي سلفت، والتي ستأتي بعد.
(٢) في المطبوعة: "عمار بن الحسين"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦١٩- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: قد كان ما تسمعُ من الخير في هذه الأمة.
٧٦٢٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرُها وأكرمُها على الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن:
٧٦٢١- يعقوب بن إبراهيم حدثني قال، حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:"ألا إنكم وفيَّتم سبعين أمَّة، أنتم آخرها وأكرمها على الله.
٧٦٢٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه سمع النبي ﷺ يقول في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: أنتم تتمُّون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله". (١)
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٦٩، مشيرًا إلى رواية الطبري إياه، ثم قال: "وهو حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي وحسنه. وابن ماجه، والحاكم وصححه".
وقد ورد معناه أيضًا، ضمن حديث مطول عن أبي سعيد الخدري، مرفوعا، رواه أحمد في المسند: ١١٦٠٩ (ج٣ ص ٦١ حلبى). وإسناده صحيح.
* * *
وأما قوله:"تأمرون بالمعروف"، فإنه يعني: تأمرون بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه ="وتنهون عن المنكر"، يعني: وتنهون عن الشرك بالله. وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه، كما:-
٧٦٢٤- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس". يقول: تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و"لا إله إلا الله"، هو أعظم المعروف = وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكرُ المنكر.
* * *
وأصل"المعروف" كل ما كان معروفًا فعله، جميلا مستحسنًا، (١) غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله"معروفًا"، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. (٢).
* * *
وأصل"المنكر"، ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلهُ، ولذلك سميت معصية الله"منكرًا"، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون رُكوبها. (٣)
* * *
وقوله:"وتؤمنون بالله"، يعني: تصدّقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة.
* * *
(٢) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف قريبًا ص: ٩١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف قريبا ص: ٩١.
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: (واذكروا إذ أنتم قليل) [الأنفال: ٢٦] وقد قال في موضع آخر: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف: ٨٦] فإدخال"كان" في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. (١) ولو قال أيضا في ذلك قائل:"كنتم"، بمعنى التمام، كان تأويله: خُلقتم خير أمة = أو: وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحًا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، أخرجت للناس.
* * *
والقولان الأولان اللذان قلنا، أشبهُ بمعنى الخبر الذي رويناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة. وقال:"الأمة": الطريقة. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"أمة" فيما سلف ١: ٢٢١ / ثم هذا ص ٩٠، والمراجع هناك في التعليق.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدَّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد ﷺ وما جاءهم به من عند الله؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم ="منهم المؤمنون"، يعني: من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدِّقون رسول الله ﷺ فيما جاءهم به من عند الله، وهم: عبد الله بن سلام وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، (١) وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله ="وأكثرهم الفاسقون"، يعني: الخارجون عن دينهم، (٢) وذلك أن من دين اليهود اتباعُ ما في التوراة والتصديقُ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباعُ ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد ﷺ ونعته ومبعثه، (٣) وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين -أعني اليهود والنصارى- مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به، الذي قال جل ثناؤه:"وأكثرهم الفاسقون".
* * *
وقال قتادة بما:-
(٢) انظر تفسيره"الفسق" فيما سلف ١: ٤٠٩، ٤١٠ / ٢: ١١٨، ٣٩٩ / ٤. ١٣٥ - ١٤١ / ٦: ٩١.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وفي كل الكتابين..."، وهو تحريف، والصواب ما أثبت.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن يضركم، يا أهل الإيمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيَّكم محمدًا ﷺ شيئا ="إلا أذى"، يعني بذلك: ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولن يضروكم بذلك، (١).
* * *
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قيل:"ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا"، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٢٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، يقول: لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم.
٧٦٢٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، قال: أذى تسمعونه منهم.
٧٦٢٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
٧٦٢٩- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"لن يضروكم إلا أذى" الآية، قال: تسمعون منهم كذبًا على الله، يدعونكم إلى الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن يقاتلكم أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى يهزَموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزامًا.
* * *
فقوله:"يولوكم الأدبار"، كناية عن انهزامهم، لأن المنهزم يحوِّل ظهره إلى جهة الطالب هربًا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه، خوفًا على نفسه، والطالبُ في أثره. فدُبُر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازِمِِة.
* * *
="ثم لا ينصرون"، يعني: ثم لا ينصرهم الله، أيها المؤمنون، عليكم، لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم. (١).
* * *
* * *
وإنما رفع قوله:"ثم لا ينصرون" وقد جَزم قوله:"يولوكم الأدبار"، على جواب الجزاء، ائتنافًا للكلام، لأن رؤوس الآيات قبلها بالنون، فألحق هذه بها، كما قال: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [سورة المرسلات: ٣٦]، رفعًا، وقد قال في موضع آخر: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [سورة فاطر: ٣٦] إذْ لم يكن رأس آية. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ضُربت عليهم الذلة"، ألزموا الذلة. و"الذلة""الفعلة" من"الذل"، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (٢)
* * *
"أينما ثقفوا" يعني: حيثما لقوا. (٣)
* * *
يقول جل ثناؤه: ألزِم اليهود المكذبون بمحمد ﷺ الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين ="إلا بحبل من الله، وحبل من الناس"، كما:-
٧٦٣٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن
(٢) انظر تفسير"ضربت عليهم الذلة" فيما سلف ٢: ١٣٦.
(٣) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف ٣: ٥٦٤.
٧٦٣١- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: أذلهم الله فلا مَنْعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين.
* * *
وأما"الحبل" الذي ذكره الله في هذا الموضع، (٢) فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام. كما:-
٧٦٣٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا بحبل من الله"، قال: بعهد ="وحبل من الناس"، قال: بعهدهم.
٧٦٣٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
٧٦٣٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
٧٦٣٥- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال، (٣) عكرمة: يقول:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.
(٢) انظر تفسير"الحبل" فيما سلف قريبا ص: ٧٠، ٧١.
(٣) في المخطوطة: "عثمان بن عتاب"، والصواب ما في المطبوعة.
٧٦٣٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
٧٦٣٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فهو عهد من الله وعهد من الناس، كما يقول الرجل:"ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم"، فهو الميثاق.
٧٦٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله وعهد من الناس لهم = قال ابن جريج، وقال عطاء: العهدُ حبل الله.
٧٦٤٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: إلا بعهد، وهم يهود. قال: والحبل العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله ﷺ حين أتته الأنصار في العقبة:"أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس"، يقول: عهودًا، قال: واليهود لا يأمنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل. وقرأ: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة آل عمران: ٥٥]، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذَلُّون، قال الله: (وَقَطَّعْنَاهُم
٧٦٤١- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: بعهد من الله وعهد من الناس.
٧٦٤٢- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فقال بعض نحويي الكوفة: (٢) الذي جلب"الباء" في قوله:"بحبل"، فعل مضمر قد تُرك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من الله = فأضمر ذلك، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: (٣)
رَأَتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخَافَةً | وَفِي الحَبْلِ رَوْعَاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (٤) |
(٢) هو الفراء في معاني القرآن ١: ٢٣٠.
(٣) هو حميد بن ثور الهلالي.
(٤) ديوانه: ٣٥، ومعاني القرآن للفراء ١: ٢٣٠، واللسان (نسع) و (فرق) وفي رواية البيت في مادة (فرق) خطأ قبيح وتصحيف، صوابه ما في التفسير هنا. وأما رواية الديوان فهي:
فَجِئْتُ بِحَبْلَيْهَا، فَرَدَّتْ مَخَافةً | إِلى النَّفْسِ رَوْعَاءُ الجنانِ فَرُوقُ |
(٥) هو أبو الطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي، من بني كنانة بن القين. وهو أحد المعمرين وينسب هذا الشعر أيضًا لعدي بن زيد، وللمسحاج بن سباع الضبي.
حَنْتنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى | كأَنِّي خَاتِلٌ أَدْنُو لِصَيْدِ (١) |
قَرِيبُ الخَطُوِ يَحْسِبُ مَنْ رَآنِي | وَلْسُت مقَيدًا أَنِّى بِقَيْدِ |
* * *
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أحنو لصيد"، وهو تصحيف لا شك فيه. ذلك أن أبا جعفر إنما ينقل مقالة الفراء، وهو في كتاب الفراء، وفيما نقله عنه الناقلون في المراجع السالفة، هو الذي أثبته. هذا مع ظهور التصحيف وقربه، ومع فساد معنى هذا التصحيف، ومع فقدان هذه الرواية الغريبة. وقوله: "خاتل"، يعني صائدًا، يقال: "ختل الصيد"، أي: استتر الصائد بشيء ليرمي الصيد، فهو في سبيل ذلك يمشي قليلا قليلا في خفية، لئلا يسمع الصيد حسه. فهذا هو الختل والمخاتلة.
(٢) "الصلة" هنا: الجار والمجرور.
(٣) في المطبوعة: "كما في قول القائل" بزيادة"في"، وهي أشد إفسادًا للكلام من تصحيف هذا الناسخ في بعض ما يكتب. وقوله: "مكتف بنفسه" خبر لقوله: "كما قول القائل" وقوله: "ومعرفة السامع" معطوف على قوله: "بنفسه" أي: مكتف بنفسه وبمعرفة السامع معناه.
* * *
وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، أي: بكل مكان = إلا بموضع حبل من الله، كما تقول: ضُربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان.
* * *
وهذا أيضًا طلب الحق فأخطأ المفصل. وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة. وليس ذلك صفة اليهود، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس، فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثُقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلةُ مضروبةً عليهم. وذلك خلاف ما وصَفهم الله به من صفتهم، وخلافُ ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضًا بذلك فساد قول هذا القائل أيضًا.
* * *
قال أبو جعفر: ولكن القول عندنا أن"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله"، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتضٍ في المعنى"الباء". وذلك أن معنى قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا" ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا = ثم قال:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس" على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه. ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس،
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وباؤوا بغضب من الله"، وتحمَّلوا غضب الله فانصرفوا به مستحقِّيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى"المسكنة" وأنها ذل الفاقة والفقر وخُشوعهما، ومعنى:"الغضب من الله" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وقوله:"ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله"، يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، أي بوْءُهم الذي باءوا به من غضب الله، وضْربُ الذلة عليهم، بدل مما كانوا
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ألزِموا الذلة بأي مكان لُقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمِّليه، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلمًا واعتداء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبياء، ومعصيتهم ربَّهم، واعتدائهم أمرَ ربهم.
* * *
وقد بينا معنى"الاعتداء" في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته (١).
* * *
فأعلم رُّبنا جل ثناؤه عبادَه، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ذخر لهم في الأجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب، (٢) إذ تعدوا حدودَ الله، واستحلوا محارمه = تذكيرًا منه تعالى ذكره
(٢) في المطبوعة: "مع ما ادخر لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء في المعنى.
٧٦٤٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، اجتنِبُوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلِك مَنْ أُهْلك قبلكم من الناس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ليسوا سواء"، ليس فريقًا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر: سواء. يعني بذلك: أنهم غير متساوين. يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر. (٢).
* * *
وإنما قيل:"ليسوا سواء"، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، (٣) ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة فقال:"ليسوا سواء"، أي: ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبرَ جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل
(٢) انظر تفسير"سواء" فيما سلف ١: ٢٥٦.
(٣) هي الآية السالفة قبل قليل: ١١٠ من سورة آل عمران.
* * *
فقوله: (٢) "أمة قائمة" مرفوعةٌ بقوله:"من أهل الكتاب".
* * *
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدَّمين منهم في صناعتهم: (٣) أن ما بعد"سواء" في هذا الموضع من قوله:"أمة قائمة"، ترجمةٌ عن"سواء" وتفسيرٌ عنه، (٤) بمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة. وزعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين، وهي"الأمة القائمة"، ومثَّلوه بقول أبي ذئيب:
عَصَيْتُ إلَيْهَا القَلْبَ: إنِّي لأمْرِهَا... سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابُهَا؟ (٥)
ولم يقل:"أم غير رشد"، اكتفاء بقوله:"أرشد" من ذكر"أم غير رشد"،. وبقول الآخر: (٦)
أَرَاك فَلا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتُه؟... وَذُو الهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ (٧)
* * *
(٢) في المطبوعة: "قوله" بغير فاء في أولها، والصواب من المخطوطة.
(٣) يعني الفراء في معاني القرآن ١: ٢٣٠، ٢٣١، وهذا قريب من نص كلامه، وبعض شواهده.
(٤) الترجمة: يعني البدل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف ٢: ٣٤٠، ٣٧٤، ٤٢٠، ٤٢٤، ٤٢٦، وغيرها من المواضع في فهرس المصطلحات.
(٥) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ١: ٣٢٧.
(٦) لم أعرف قائله.
(٧) معاني القرآن للفراء ١: ٢٣١. وكان في المطبوعة: "أزال فلا أدري... "، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن. ولست أدري أيخاطب امرأة فيقول لها: إن الهم يغلبني إذا رأيتك. فأنا له خاشع متضائل = أم هو يريد الهم والفتك، فيقول: إن الذي يضمر في نفسه شيئًا يهم به من الفتك، يخفى شخصه حتى يبلغ غاية ثأره بعدوه. ولا أرجح شيئًا حتى أجد إخوة هذا البيت.
* * *
وقد ذكر أن قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة" الآيات الثلاث، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٤٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيْد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا
٧٦٤٥- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، (٤) عن محمد بن إسحاق قال، حدثني بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. (٥)
٧٦٤٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" الآية، يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية. (٦)
٧٦٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"أمة قائمة"، عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية، (٧) ومبشر، وأسَيْد وأسد ابنا كعب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله، سواء عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(٣) الأثران: ٧٦٤٤، ٧٦٤٥ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٦.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ، وهذا إسناد كثير الدوران في التفسير أقربه رقم: ٧٣٣٤.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(٦) في المخطوطة"لله فيهم عليه" غير منقوطة، وتركت ما في المطبوعة، لأنه وافق ما في الدر المنثور ٢: ٦٤، ٦٥.
(٧) في المطبوعة: "شعية"، وأثبت ما في المخطوطة.
٧٦٤٩- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك، قولُ من قال: قد تمت القصة عند قوله:"ليسوا سواء"، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم، وأنّ قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله:"أمة قائمة"، جماعة ثابتةٌ على الحق.
* * *
وقد دللنا على معنى"الأمة" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٢)
وأما"القائمة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناها: العادلة.
*ذكر من قال ذلك:
الحسن بن يزيد العجلى: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في الكبير، ١ / ٢ / ٣٠٦، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٤٢ - فلم يذكرا فيه جرحًا وهذا الحديث ذكره ابن كثير ٢: ٢٢٤، عن ابن أبي نجيح غير منسوب لتخريج وسيأتي له بقية بهذا الإسناد ٧٦٦٠، وقد جمعها السيوطي حديثا واحدا ٢: ٦٥، كما سيأتي هناك.
(٢) انظر ما سلف قريبًا ص: ١٠٦ والتعليق: ٢، وفيه المراجع.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٥١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده.
٧٦٥٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه.
٧٦٥٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، يقول: أمة مهتدية، قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
* * *
وقال آخرون. بل معنى"قائمة"، مطيعة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٥٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله و"القانتة"، المطيعة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله:"قائمة"، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ
٧٦٥٥-"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة"، ثم ضرب لهم مثلا. (٢).
* * *
فالقائم على حدود الله: هو الثابت على التمسك بما أمره الله به، واجتناب ما نهاهُ الله عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
(٢) الحديث: ٧٦٥٥- هذا حديث صحيح، أشار إليه الطبري إشارة، دون أن يذكره بتمامه، ولم يذكر إسناده.
وقد رواه أحمد في المسند ٤: ٢٦٨ (حلبي)، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بَشِير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ القائم على حدود الله تعالى، والمُدْهِنِ فيها، كَمَثَلِ قوم اسْتَهَمُوا على سَفِينة في البحر فأصاب بعضُهم أَسْفَلهَا، وأصاب بعضُهم أَعْلاها، فكان الذين في أسفلها يَصْعَدُون فيَسْتَقُون الماءَ، فيَصُبُّون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أَعلاها: لا نَدَعُكم تَصْعَدون فتؤْذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإننا نَنْقُبُها من أسفلها فنَسْتَقِي! قال: فإن أَخَذُوا على أيديهم فمَنَعُوهم نَجَوْا جميعًا، وإن تركوهم غَرِقُوا جميعًا".
ثم رواه أحمد أيضًا ٤: ٢٦٩، عن يحيى بن سعيد، عن زكريا، و ٢٧٠، عن إسحاق بن يوسف، عن زكريا بن أبي زائدة، و ٢٧٣ - ٢٧٤، عن سفيان، عن مجالد - كلاهما، أعني زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، نحوه.
ورواه البخاري ٥: ٩٤ (فتح)، عن أبي نعيم، عن زكريا، عن الشعبي.
ثم رواه أيضا ٥: ٢١٦: ٢١٧، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن الشعبي، به نحوه.
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يتلون آيات الله"، يقرءون كتاب الله آناء الليل. ويعني بقوله:"آيات الله"، ما أنزل في كتابه من العبَر والمواعظ. يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبَّرونه ويتفكرون فيه.
* * *
وأما"آناء الليل"، فساعات الليل، واحدها"إنْيٌ"، كما قال الشاعر: (١)
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ | فِي كُلِّ إِنْيٍ حذَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (٢) |
(٢) ديوان الهذليين ٢: ٣٥، ومجاز القرآن ١: ١٠٢، وسيرة ابن هشام ٢: ٢٠٦، واللسان"أنى"، وسيأتي من التفسير ١٦: ١٦٨ (بولاق)، من قصيدته في رثاء ابنه أثيلة، والبيت في صفة ولده، وقد رواه ابن الأنباري، كما جاء في اللسان:فذكر الأزهري رواية ابن الأنباري، وقال: وأنشده الجوهري، ثم ساق البيت كما هو في التفسير، ثم قال: "ونسبه أيضا للمنخل، فإما أن يكون هو البيت بعينه، أو آخر من قصيدة أخرى". وهذا كلام لا شك في ضعفه، والذي رواه ابن الأنباري خلط خلطه من بيت آخر في القصيدة، أخطأ في روايته. وهو قوله قبل ذلك بأبيات:
السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ | بِكُلِّ إِنْيٍ قَضَاه اللَّيلُ يَنْتَعِلُ |
السَّالِكُ الثَّغْرَةَ اليَقْظَانَ كَالِئُهَا | مَشْىَ الهَلُوكِ عَلَيْها الخَيْعَلُ الفُضُلُ |
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٥٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أي: ساعات الليل.
* * *
٧٦٥٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا أبن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"آناء الليل"، ساعات الليل.
٧٦٥٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال، عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول:"آناء الليل"، ساعات الليل.
وقال آخرون"آناء الليل"، جوف الليل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٥٩- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أما"آناء الليل"، فجوفُ الليل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يتلون آيات الله آناء الليل"، صلاة العَتَمة، هم يصلُّونها، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها. (٢)
٧٦٦١- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سليمان، عن زِرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: احتبس علينا رسول الله ﷺ ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه: فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا وقال:"إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب! فأنزل الله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (٣)
* * *
(٢) الحديث: ٧٦٦٠- هذا تتمة الحديث الماضي بهذا الإسناد: ٧٦٤٨، كما أشرنا هناك. وقد جمعهما السيوطى ٢: ٦٥ حديثًا واحدًا، نسبه للفريابي، والبخاري في تاريخه. وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
ولم نر من هذه المصادر إلا ابن جرير، وهو قد رواه مفرقًا حديثين، كما ترى - وإلا التاريخ الكبير للبخاري، وهو لم يروه كله. بل روى هذا القسم الأخير وحده موجزًا كعادته، في ترجمة الحسن بن يزيد ١ / ٢ / ٣٠٦، قال، "قال محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن ابن مسعود (يتلون آيات الله آناء الليل)، قال: صلاة العتمة. وروى عمر بن ذر، عن الحسن بن يزيد العجلى، مرسلا".
وانظر الحديثين بعد هذا.
(٣) الحديث: ٧٦٦١- عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي: ثقة، وثقه البخاري فيما نقل عنه الترمذي، كما في التهذيب، وكذلك وثقه أحمد بن صالح، فيما روى عنه أبو داود. وضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني. وروى ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٣١٥ عن أبيه، أنه قال: "لين الحديث". وعن أبي زرعة، أنه قال: "لا بأس به، صدوق". ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء، ونرى أن من تكلم فيه إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد. وانظر التهذيب.
و"زحر": بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة.
سليمان: هو الأعمش.
وأنا أخشى أن يكون قد سقط من هذا الإسناد"عن عاصم" - بين سليمان الأعمش وزر بن حبيش. فإن الأعمش لم يذكر أنه يروى عن زر، وإنما روايته عنه بواسطة"عاصم بن أبي النجود" وأقرانه من هذه الطبقة.
والحديث سيأتي -نحوه- عقب هذا. وتخريجه هناك.
أبو يحيى الخراساني: لم أعرف من هو، بعد طول البحث والتتبع. وفي كنية"أبي يحيى"، وفي نسبة"الخراساني" كثرة.
نصر بن طريف، أبو جزى القصاب الباهلي: ضعيف جدًا، أجمعوا على ضعفه. ترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ١٠٥، وقال: "سكتوا عنه، ذاهب"، وابن سعد ٧ / ٢ / ٤١، وقال: "ليس بشيء، وقد ترك حديثه". وقال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث"؛ وذكره الفلاس فيمن"أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم".
وكنيته"أبو جزى": بفتح الجيم وكسر الزاي، كما ضبطه الذهبي في المشتبه، ص ١٠٤. والحديث ثابت، بنحوه - بإسناد آخر صحيح، يغني عن إسنادى الطبري هذين: فرواه أحمد في المسند: ٣٧٦٠، عن أبي النضر وحسن بن موسى، كلاهما عن شيبان، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣١٢. وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في الكبير"، ثم ذكره بنحوه، بلفظ يكاد يكون لفظ الرواية الماضية: ٧٦٦١. ثم قال: "ورجال أحمد ثقات، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود، وهو مختلف في الاحتجاج به. وفي إسناد الطبراني عبيد الله بن زحر. وهو ضعيف". وذكره السيوطي ٢: ٦٥، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٦٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور قال، بلغني أنها نزلت:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" فيما بين المغرب والعشاء.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرتُها على اختلافها، متقاربة المعاني. وذلك أن الله تعالى ذكره وَصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليًا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوفَ الليل، فكلٌّ تالٍ له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:"عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء"، لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب"، فوصف الله أمة محمد ﷺ بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله.
* * *
وأما قوله:"وهم يسجدون"، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى"السجود" في هذا الموضع، اسم الصلاة لا للسجود، (١) لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، (٢).
* * *
وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فـ"السجود"، هو"السجود" المعروف في الصلاة.
* * *
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٢٣١.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز:"يؤمنون بالله واليوم الآخر"، يصدِّقون بالله وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الأعمال والثوابَ والعقابَ.
* * *
وقوله:"ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وتصديق محمد ﷺ وما جاءهم به. (١) "وينهون عن المنكر"، يقول: وينهون الناس عن الكفر بالله، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله: (٢) يعني بذلك: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف من الأعمال، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله. ="ويسارعون في الخيرات"، يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب، هم من عداد الصالحين، (٣) لأن من كان منهم فاسقًا، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعصيانه ربّه واعتدائه في حدوده.
* * *
(٢) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف ص: ١٠٥ تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف ٣: ٩١ / ٦: ٣٨٠.
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الكوفة: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)، جميعًا، ردًّا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعًا: (" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَروهُ ")، بمعنى: وما تفعلوا، أنتم أيها المؤمنون، من خير فلن يكفُرَكموه ربُّكم.
* * *
وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزًا بالياء والتاء، في الحرفين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"وما يفعلوا، من خير فلن يُكفروه"، بالياء في الحرفين كليهما، يعني بذلك الخبرَ عن الأمة القائمة، التالية آيات الله.
وإنما اخترنا ذلك، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات، خبر عنهم. فإلحاق هذه الآية = إذْ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم = بمعاني الآيات قبلها، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ.
٧٦٦٤- حدثني أحمد بن يوسف التغلبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء قال: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعًا بالياء. (١)
* * *
* * *
وقد دللنا على معنى"الكفر" فيما مضى قبل بشواهده، وأنّ أصله تغطية الشيء (١)
* * *
فكذلك ذلك في قوله:"فلن يكفروه"، فلن يغطّى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يُشكرون على ما فعلوا من ذلك، فيجزل لهم الثواب فيه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوَّل من تأول ذلك من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٦٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما تفعلوا من خير فلن تكفروه" يقول: لن يضلّ عنكم.
٧٦٦٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
* * *
وأما قوله:"والله عليم بالمتقين"، فإنه يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بمن اتقاه، لطاعته واجتناب معاصيه، وحافظٌ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها، تبشيرًا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا، وحضًّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون، وأنهم قد باؤوا بغضب منه، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد ﷺ من عند الله.
يقول تعالى ذكره:"إن الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة محمد ﷺ وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله ="لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني: لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا، وأولاده الذين ربَّاهم فيها، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها.
* * *
وإنما خصّ أولاده وأمواله، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره، (١) وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله:"وأولئك أصحاب النار". وإنما جعلهم أصحابها، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها،
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، (٣) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد ﷺ مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه = كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد ="حرثَ قوم"، (٤) يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه ="ظلموا أنفسهم"، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده ="فأهلكته"، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.
(٢) في المطبوعة أسقط"أن" من أول هذه العبارة، وهي ثابتة في المخطوطة. وفيهما جميعًا بعد: "إذا كان من الأشياء"، وصواب السياق"إذ"، كما أثبتها.
(٣) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف ٥: ٥٥٥، ٥٨٠ / ٦: ٢٦٥.
(٤) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف ٤: ٢٤٠، ٣٩٧ / ٦: ٢٥٧.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام،: مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر"إبطال الله أجر ذلك"، لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، ولمعرفة السامع ذلك معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"النفقة" التي ذكرها في هذه الآية.
فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٦٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا"، قال: نفقة الكافر في الدنيا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه، مما لا يصدِّقه بقلبه.
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٦٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مثل ما ينفقون في هذ الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته"، يقول: مثل ما يقول فلا يقبل
* * *
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل.
* * *
وقد تقدم بياننا تأويل"الحياة الدنيا" بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وأما"الصر" فإنه شدة البرد، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية، (٢) كما:
٧٦٦٩- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث قال، سمعت عكرمة يقول:"ريح فيها صر"، قال: بردٌ شديد.
٧٦٧٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"ريح فيها صر"، قال: برد شديد وزمهرير.
٧٦٧١- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"ريح فيها صر"، يقول: برد.
٧٦٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس:"الصر"، البرد.
٧٦٧٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كمثل ريح فيها صر"، أي: برد شديد.
٧٦٧٤- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
٧٦٧٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في"الصر"، البرد الشديد.
(٢) هذا البيان عن معنى"الصر" قلما تصيب مثله في كتب اللغة.
٧٦٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ريح فيها صر"، قال:"صر"، باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها"الضَّريب"، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع، (١) تقول:"قد ضُرب الليلة" أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته.
٧٦٧٨- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك:"ريح فيها صر"، قال: ريح فيها برد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم = يعني: وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضَع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون، ولأمره مُتبعون، ولرسله مصدقون، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن = بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك = بعد
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ="لا تتخذوا بطانة من دونكم"، يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم ="من دونكم" يقول: من دون أهل دينكم وملَّتكم، يعني من غير المؤمنين.
* * *
وإنما جعل"البطانة" مثلا لخليل الرجل، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه -في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه.
* * *
فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن
(٢) سياق الجملة: "فلم يكن... له ظالما"، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله: "ظالما" ولكنه مقدم عليه.
جَهْرَاءُ لا تَأْلُو، إذَا هِيَ أَظْهَرَتْ، | بَصَرًا، وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني (٣) |
* * *
وإنما يعني جل ذكره بقوله:"لا يألونكم خبالا"، البطانةَ التي نهى المؤمنين
(٢) هو أبو العيال الهذلي.
(٣) ديوان الهذليين ٢: ٢٦٣، الحيوان ٣: ٥٣٥، المعاني الكبير: ٦٩٠، اللسان (ألا) (جهر). من شعر جيد في مقارضات بينه وبين بدر بن عامر الهذلي، قال بدر بن عامر أبياتًا، حين بلغه أن ابن أخ لأبي العيال، أنه ضلع مع خصمائه، فانتفى من ذلك وزعم أنه ليس ممن يأتي سوءًا إلى أخيه أبي العيال، فكذبه أبو العيال، فبادر بدر يرده. وكله شعر حسن في معناه. فشبه أبو العيال شعر بدر فيه وفي الثناء عليه بالشاة فقال له: جَهْرَاءَ لا تَأْلُو..........................................................
والجهراء: هي التي لا تبصر في الشمس، وهو ضعف في البصر. ويقال:"عال يعيل عيلا وعيلة" افتقر. يقول: أهديت لي شعرًا وثناء وقولا فرضيته، ثم إذا لا شيء إلا قول وكلام، إذا انكشف الأمر وظهر، عمى هذا الشعر وانطفأ، وإذا جد الجد، لم يغن قولك شيئًا، بل كنت كما قلت لك آنفًا:
* * *
وأصل"الخبْل" و"الخبال"، الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة، يدل على ذلك الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم:
٧٦٧٩-"من أصيب بخبْل = أو جرَاح". (٢)
* * *
وأما قوله:"ودوا ما عنِتُّم"، فإنه يعني: ودوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنَت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم. (٣)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم.
*ذكر من قال ذلك:
(٢) الأثر: ٧٦٧٩- رواه أبو جعفر غير مسند؛ ورواه أحمد في مسنده ٤: ٣١، والبيهقي في السنن ٨: ٥٣، ورواية أحمد من طريق شيخه"محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق = ويزيد بن هرون قال أنبأنا محمد بن إسحاق = عن الحارث بن فضيل، عن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء -قال يزيد: السلمي- عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله ﷺ -وقال يزيد: سمعت رسول الله ﷺ يقول-: من أصيب بدم أو خبل =الخبل: الجراح= فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يده، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل، فله النار خالدا فيها مخلدا".
يعني بالدم: قتل النفس -وبالخبل أو الجراح: قطع العضو. وقد تركت ما في الطبري على حاله: "أو جراح" وبينت بالترقيم أنها كأنها رواية أخرى في قوله: "خبل"، شك من الراوي. ولكن سياق الخبر يرجح عندي أنها: "أي: جراح"، لأنه قد جاء في الحديث نفسه تفسير"الخبل" بالجراح.
(٣) انظر تفسير"العنت" فيما سلف ٤: ٣٥٨ - ٣٦١.
٧٦٨١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولَّوهم.
٧٦٨٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم"، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، (٣) أو يؤاخوهم، أو يتولوهم من دون المؤمنين. (٤)
٧٦٨٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"لا تتخذوا بطانة من دونكم"، هم المنافقون.
٧٦٨٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
(٢) الأثر: ٧٦٨٠- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٧، وهو تابع الأثرين السالفين رقم: ٧٦٤٤، ٧٦٤٥.
(٣) قوله: "يستدخلوا" أي يتخذوهم أخلاء. استدخله: اتخذه دخيلا، مثل قولهم استصحبه: اتخذه صاحبًا، والدخيل والمداخل: الذي يداخل الرجل في أموره كلها. وهذا البناء"استدخله" مما أغفلته كتب اللغة، وهو عربي معرق كما ترى.
(٤) في المطبوعة: "أي يتولوهم"، وفي المخطوطة: "أن يتولوهم"، والصواب ما أثبت.
٧٦٨٥- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستضيئوا بنار أهل الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال: فلم ندر ما ذلك، حتى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله:"لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا"، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم"محمد"، وأما قوله:"ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك"، فإنه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم. قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم". (٢).
(٢) الحديث: ٧٦٨٥- الأزهر بن راشد البصري: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ١ / ١ / ٤٥٥، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣١٣ - فلم يذكر فيه جرحا.
وهناك راو آخر، اسمه"الأزهر بن راشد الكاهلي"، وهو كوفي، وهو غير البصري، ومتأخر عنه. وترجمه البخاري وابن أبي حاتم أيضا. فإن البصري يروى عنه"العوام بن حوشب" المتوفي سنة ١٤٨، والكوفي الكاهلي يروى عنه"مروان بن معاوية الفزاري" المتوفي سنة ١٩٣. ومروان بن معاوية من شيوخ أحمد. والعوام بن حوشب من شيوخ شيوخه. فشتان هذا وهذا.
ومع هذا الفرق الواضح أخطأ الحافظ المزي، فذكر في التهذيب الكبير أن أبا حاتم قال في البصري: "مجهول". وتبعه الحافظ في تهذيب التهذيب، والذهبي في الميزان. وزاد الأمر تخليطًا، فذكر أنه ضعفه ابن معين.
وابن معين وأبو حاتم إنما قالا ذلك في الكاهلي الكوفي. فروى ابن أبي حاتم في ترجمة"الكاهلي" ١ / ١ / ٣١٣، رقم: ١١٨٠، عن ابن معين، قال: "أزهر بن راشد، الذي روى عنه مروان بن معاوية: ضعيف". ثم قال: "سألت أبي عن أزهر بن راشد؟ فقال: هو مجهول".
ولم يحقق الحافظ ابن حجر، واشتبه عليه الكلام في الترجمتين، فقال في ترجمة"الكاهلي" -بعد ترجمة"البصري"-: "أخشى أن يكونا واحدًا! لكن فرق بينهما ابن معين". والفرق بينهما كالشمس.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١١٩٧٨ (ج ٣ ص ٩٩ حلبى)، عن هشيم، بهذا الإسناد - دون كلام الحسن، وهو البصري.
ورواه البخاري كذلك في الكبير ١ / ١ / ٤٥٥ - دون كلام الحسن، عن مسدد، عن هشيم، به. ثم فسر البخاري بعضه، فقال: "قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : عربيًا، يعني"محمد رسول الله". يقول: لا تكتبوا مثل خاتم النبي: "محمد رسول الله".
ورواه أبو يعلى مطولا -مثل رواية الطبري أو أطول قليلا- وفيه كلام الحسن. رواه عن إسحاق بن إسرائيل، عن هشيم، بهذا الإسناد. نقله عنه ابن كثير ٢: ٢٢٧، ثم قال: "هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله. وقد رواه النسائي، عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، به. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر"- إلى آخر ما قال. ولم أجده في سنن النسائي، فلعله في السنن الكبرى.
وذكره السيوطي ٢: ٦٦، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. ولم ينسبه للنسائي، ولا لتاريخ البخاري.
٧٦٨٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. (١)
٧٦٨٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون. وقرأ قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم" الآية.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفوا في تأويل قوله:"ودّوا ما عنِتُّم".
فقال بعضهم معناه: ودوا ما ضللتم عن دينكم. (٢)
*ذكر من قال ذلك:
٧٦٨٩- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ودوا ما عنتم"، يقول: ما ضللتم.
* * *
وقال آخرون بما:-
(٢) انظر تفسير"العنت" فيما سلف ص٤: ٣٥٨ - ٣٦١.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ودوا ما عنتم"، فجاء بالخبر عن"البطانة"، بلفظ الماضي في محل الحال، والقطع بعد تمام الخبر، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها؟ (١).
قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله:"ودوا ما عنتم" حال من"البطانة"، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطعٌ عن الأول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا، صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى، وإن كانتا جميعًا من صفة شخص واحد.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله:"ودوا ما عنتم"، من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله:"لا يألونكم خبالا"، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام"البطانة" بصلته. (٢) ولكن القول في ذلك كما بينا قبل، من أن قوله:"ودوا ما عنتم"، خبر مبتدأ عن"البطانة"، غير الخبر الأول، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. (٣).
* * *
(٢) انظر تفسير"الصلة" فيما سلف ٥: ٢٩٩، تعليق: ٥، وهو نعت النكرة.
(٣) انظر"القطع" فيما سلف ٦: ٢٧٠، تعليق: ٣، وسائر فهارس المصطلحات.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم ="من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، (١) إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
٧٦٩١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة، قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم.
٧٦٩٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: من أفواه المنافقين.
* * *
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له. وذلك أن الله تعالى
وإذْ كان ذلك كذلك = وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم = كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله ﷺ وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله ﷺ ممن كان له من رسول الله ﷺ عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل.
* * *
و"البغضاء"، مصدر. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود: (" قَدْ بَدَا البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ")، على وجه التذكير. وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم، فيجوز تذكيرُ ما خرج منها
* * *
وقال:"من أفواههم"، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال:"قد بدت البغضاء من أفواههم" بألسنتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم = يعني: صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة، فتخفيه عنكم، أيها المؤمنون ="أكبر"، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:-
٧٦٩٣- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر"، يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
٧٦٩٤- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر" يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قد بينا لكم" أيها المؤمنون ="الآيات"، يعني بـ"الآيات" العبر. قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ="إن كنتم تعقلون"، يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم، أيها المؤمنون، الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم، بل يبطنون لكم العداوة والغش (١) = "وتؤمنون بالكتاب كله".
* * *
ومعنى "الكتاب" في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال:"كثر الدرهم في أيدي الناس"، بمعنى الدراهم.
فكذلك قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله"، إنما معناه: بالكتب كلها،
يقول تعالى ذكره: فأنتم = إذ كنتم، أيها المؤمنون، تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه = (١) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم، مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:-
٧٦٩٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تؤمنون بالكتاب كله"، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وقال:"ها أنتم أولاء" ولم يقل:"هؤلاء أنتم"، (٣) ففرق بين"ها و"أولاء" بكناية اسم المخاطبين، لأن العرب كذلك تفعل في"هذا" إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، (٤) وذلك مثل
(٢) الأثر: ٧٦٩٥- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٧، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها: ٧٦٨٠.
(٣) في المخطوطة: "ولم يقل: هذا أنتم"، والصواب ما في المطبوعة، فهو حق السياق.
(٤) التقريب" من اصطلاح الكوفيين، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع ١: ١١٣، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن"هذا" و"هذه"، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات"كان"، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو: "كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا؟ "، "وكيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟ "، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: "هذا ابن صياد أسقى الناس"، فيعربون"هذا" تقريبًا، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران؟ وأيضًا، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت"كان" من: "كان زيد قائما"].
* * *
وقوله:"تحبونهم" خَبَرٌ للتقريب. (٧)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما:-
(٢) في المخطوطة: "بين التنبيه وأولاء". والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه، وكأنه لما نقل هذا الكلام، وهو كلام الفراء، اختصر أوله فقال: "لأن العرب كذلك تفعل في هذا"، واقتصر عليها، مع أن الفراء ذكر"هذا، وهذان، وهؤلاء". هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق.
(٣) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: ١٤٩ تعليق: ٤.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كان... " بالواو، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون: "قائما"، إن كان"هذا" بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك.
(٥) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: ١٤٩ تعليق: ٤.
(٦) في المطبوعة: "وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح"، زاد من زاد"وبين ما" ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة!
(٧) يعني بقوله: "خبر للتقريب"، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص ١٤٩، تعليق: ٤.
٧٦٩٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه، لأباد خضراءه.
* * *
وكان مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين.
٧٦٩٨- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم:"قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم"، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، (٢) عضوا - على ما يرون من ائتلاف
(٢) انظر تفسير"خلا" فيما سلف ١: ٢٩٨، ٢٩٩.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٧٦٩٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، إذا لقوا المؤمنين قالوا:"آمنا"، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك ="وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، (٢) فهم كما نعت الله عز وجل.
٧٧٠٠- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه = ولم يقل:"لو يجدون ريحًا"، وما بعده.
٧٧٠١- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا مسلم قال: حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال، حدثنا أبي قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: هم الإباضية. (٣)
* * *
(٢) الريح: القوة والغلبة، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة:
أَقْسَمْتَ لا تَنْسَى شَبابَ قَصِيدَةٍ | أبدًا!! فَمَا هذا الَّذِي يُنْسِينِي؟ |
فَلَسَوْفَ تَنْسَاهَا وَتَعْلَمُ أَنَّها | تَبَعٌ لآبِيَةِ العِصَابِ زَبُونِ |
وَمَنَحْتَني فَرَضِيتُ زِىَّ مَنِيحَتي | فَإِذَا بِهَا، وَأَبِيكَ، طَيْفُ جُنُونِ |
فَلَقَد رَمَْقُتك فِي المجَالِسِ كلِّهَا | فَإِذَا، وأنتَ تُعِينُ من يَبْغِيني" |
أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ | أَوْ تَعْدُوَان، فَإِنَّ الرِّيحَ للعَادِي |
و"الإباضية"، فرقة من الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا: إن مرتكب الكبيرة موحد، لا مؤمن.
أوَدُّكُما، مَا بَلَّ حَلْقِيَ رِيقَتِي... وَما حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا (٤) وهي أطراف الأصابع; كما:-
٧٧٠٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الأنامل"، أطراف الأصابع.
٧٧٠٢ م - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
٧٧٠٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل"، الأصابع.
٧٧٠٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي
(٢) "أنمل" هذا جمع لم تورده كتب اللغة، وإنما ذكروا"أنملات"، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء، قال ابن سيدهْ: "إنما قلت هذا، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة، وبجمع السلامة بالتكسير، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا".
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) قوله: "أود كما" أي: لا أود كما، حذفت"لا" مع القسم. والريقة: الريق. وقوله: "ما بل حلقي ريقي... " إلى آخر البيت بمعنى التأييد، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) ﴾
قال أب جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ =:"موتوا بغيظكم" الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم.
وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا ﷺ بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أهلكوا بغيظكم ="إن الله عليم بذات الصدور"،
ثم يتلوه بعد:
"بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة، في ٦: ٤٩٥، ٤٩٦ تعليق: ٥ / ثم ٧: ٢٣، تعليق ١.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم"، إن تنالوا، أيها المؤمنون، سرورًا بظهوركم على عدوكم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم = يسؤهم. (٢) وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم، أو بإصابة عدوٍّ لكم منكم، أو اختلاف يكون بين جماعتكم = يفرحوا بها. كما:-
٧٧٠٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم
(٢) انظر تفسير"المس" فيما سلف ٥: ١١٨.
٧٧٠٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، قال: هم المنافقون، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم. وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به. قال الله عز وجل:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط".
٧٧٠٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"إن تمسكم حسنه تسؤهم"، قال: إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافًا فرحوا.
* * *
وأما قوله:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ="وتتقوا" ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجبَ عليكم من حقه وحق رسوله ="لا يضركم كيدهم شيئًا"، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
ويعني بـ "كيدهم"، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحق.
* * *
فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعضُ البصريين: (لا يَضُرُّكُمْ) مخففة بكسر"الضاد"، من قول القائل:"ضارني فلان فهو يضيرني ضيرًا". وقد حكي سماعًا من العرب:"ما ينفعني ولا يضورني"، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)، ولكني لا أعلم أحدًا قرأ به". (١)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) بضم"الضاد" وتشديد"الراء"، من قول القائل: ضرّني فلان فهو يضرني ضرًا".
* * *
وأما الرفع في قوله:"لا يضركم"، فمن وجْهين.
أحدهما: على إتباع"الراء" في حركتها = إذْ كان الأصل فيها الجزم، ولم يمكن جزمها لتشديدها = أقربَ حركات الحروف التي قبلها. وذلك حركة"الضاد" وهي الضمة، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها، كما قالوا:"مُدُّ يا هذا".
والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك: أن تكون مرفوعة على صحة، وتكون"لا" بمعنى"ليس"، وتكون"الفاء" التي هي جواب الجزاء، متروكة لعلم السامع بموضعها.
وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا، فليس يضرُّكم كيدهم شيئًا - ثم تركت"الفاء" من قوله:"لا يضركم كيدهم"، ووجهت"لا" إلى معنى"ليس"، كما قال الشاعر: (٢)
فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي | إلَى قَطَرِيٍّ، لا إخَالُكَ رَاضِيَا (٣) |
(٢) هو سوار بن المضرب السعدي التميمي.
(٣) نوادر أبي زيد: ٤٥، الكامل ١: ٣٠٠، حماسة ابن الشجري: ٥٤، ٥٥، معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٢، من أبيات ضرب بها وجه الحجاج بن يوسف الثقفي، لما كتب على بني تميم البعث إلى قتال الخوارج، فهرب سوار وقال:
أَقَاتِلِىَ الحَجَّاجُ أَنْ لَمْ أَزُرْ لَهُ | دَرَابَ، وَأَتْرُكْ عِنْدَ هِنْدٍ فُؤَادِيَا؟ |
فَإن كُنْتَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي | إلَى قَطَرِيٍّ، لا إِخالُكَ رَاضِيَا!! |
إذَا جَاوَزَتْ دَرْبَ المُجِيزِينَ نَاقَتي | فَبِأسْتِ أبي الحَجَّاجِ لَمَّا ثَنَانِيَا |
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وطَاعَتِي، | وَدُونِي تَمِيمٌ، والفَلاةُ وَرَائِيَا!! |
* * *
وقوله:"إنّ الله بما يعملون محيطٌ"، يقول جل ثناؤه: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله، والعداوة لأهل دينه، وغير ذلك من معاصي الله ="محيط" بجميعه، حافظ له، لا يعزب عنه شيء منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله، ويذيقهم عقوبته عليه. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف ٢: ٢٨٤ / ٥: ٣٩٦.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم، أيها المؤمنون، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئًا، ولكن الله ينصرُكم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم، أيها المؤمنون، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحُد، واذكروا ذلك اليوم، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين.
=فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحُد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله ﷺ وتنازعوا الرأي بينهم.
=وأخرج الخطاب في قوله:"وإذ غدوت من أهلك"، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه: الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بيَّن إذًا أن قوله:"وإذ"، إنما جرَّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال".
فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحُد.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٠٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، ذلك يوم أحد، غدا نبيُّ الله ﷺ من أهله إلى أحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
٧٧١٠- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فغدا النبي ﷺ من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
٧٧١١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فهو يوم أحد.
٧٧١٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، قال: هذا يوم أحد.
٧٧١٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: مما نزل في يوم أحد:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين". (١)
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك يوم الأحزاب.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧١٤- حدثني محمد بن سنان القزاز قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال:"عنى بذلك يوم أحد". لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عُنى بالطائفتين: بنو سلمة وبنو حارثة، (١) ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّ الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد، دون يوم الأحزاب.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد، ورسول الله ﷺ إنما رَاح إلى أحُد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي حدثكم:-
٧٧١٥- ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا: أن رسول الله ﷺ راح حين صلَّى الجمعة إلى أحُد، دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقال:"ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل"؟. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧٧١٥- إسناده في سيرة ابن هشام ٣: ٦٤، ثم اختصر أبو جعفر خبر ابن إسحاق الذي رواه ابن هشام في السيرة ٣: ٦٧، ٦٨. واللأمة: هي الدرع الحصينة، وسائر أداة الحرب من السلاح كالسيف والرمح. هذا وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم". وهذا غير جيد، وكأنه عجلة من الناسخ، وأثبت نص ابن هشام.
٧٧١٦- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. (٢)
* * *
فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعدَ للقتال غُدُوًّا قبل خروجه، وقد علمت أن"التبوئة"، اتخاذ الموضع.
قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم، بيوم أو يومين، وذلك أن رسول الله ﷺ لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحُدًا قال = فيما:-
٧٧١٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي = لأصحابه: أشيروا عليَّ ما أصنع؟ " فقالوا: يا رسول الله، اخرج إلى هذه الأكلُب! فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌّ لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله ﷺ عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب!
(٢) الأثر: ٧٧١٦- جمعه أبو جعفر من مواضع متفرقة من خبر ابن إسحاق في يوم أحد.
٧٧١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، قالوا: لما سمع رسول الله ﷺ والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّي قد رأيتُ بقرًا فأوّلتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمًا، (٢) ورأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأيُ عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله ﷺ في ذلك: أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله ﷺ يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبُنَّا عنهم وضعُفنا! فقال عبد الله بن أبى ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله
(٢) ذباب السيف: طرفه المتطرف الذي يضرب به. والثلم: هو الكسر في حرفه.
* * *
فكانت تبوئة رسول الله ﷺ المؤمنين مقاعدَ للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا، على ما وصفه الذين حكينا قولهم.
* * *
يقال منه:"بوَّأت القوم منزلا وبوّأته لهم، فأنا أبوِّئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلا تبوئة".
وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِِ)، وذلك جائز، كما يقال:"رَدِفَك ورَدِفَ لك"، و"نقدت لها صَداقها ونقدتها"، كما قال الشاعر:
أَسْتغِفرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ | رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ (٢) |
* * *
"والمقاعد" جمع"مقعد"، وهو المجلس.
* * *
(٢) مضى تخريجه فيما سلف ١: ١٦٩، وهو في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٣.
(٣) هذه الفقرة من معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٣.
* * *
وقوله:"والله سميع عليم"، يعني بذلك تعالى ذكره:"والله سميع"، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه، من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم، من قول من قال:"اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة"، وقول من قال لك:"لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا"، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد = (١) "عليم" بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم، كما:-
٧٧١٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"والله سميع عليم"، أي: سميع لما يقولون، عليم بما يخفون. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧٧١٩- سيرة ابن هشام ٣: ١١٢، وهو تابع الأثر السالف رقم: ٧٧١٣.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله سميع عليم، حين همت طائفتان منكم أن تفشلا.
والطائفتان اللتان همتا بالفشل، ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة. (١)
٧٧٢٠- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: بنو حارثة، كانوا نحو أحُد، وبنو سلِمة نحو سَلْع، وذلك يوم الخندق.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى، بما فيه الكفاية عن إعادته. (١)
* * *
٧٧٢١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، الآية، وذلك يوم أحد، والطائفتان: بنو سلِمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار، همُّوا بأمر فعصمهم الله من ذلك = قال قتادة: وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرُّنا أنَّا لم نَهُمَّ بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
٧٧٢٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إذ همت طائفتان منكم" الآية، وذلك يوم أحد، فالطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار. فذكر مثل قول قتادة.
٧٧٢٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: خرج رسول الله ﷺ إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبروا. فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعنَّ معنا = وقال [الله عز وجل] :"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، وهم بنو سلمة وبنو حارثة = هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم
٧٧٢٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: نزلت في بني سلِمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
٧٧٢٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، فهو بنو حارثة وبنو سلمة.
٧٧٢٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، والطائفتان: بنو سلمة من جشم بن الخزرج، وبنو حارثة من النبيت من الأوس، وهما الجناحان. (٢)
٧٧٢٧- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الآية، قال: هما طائفتان من الأنصار هَّما أن يفشلا فعصمهم الله، وهزَم عدوهم.
٧٧٢٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجلّ:"والله وليهما". (٣).
٧٧٢٩- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول، فذكر نحوه.
(٢) الأثر: ٧٧٢٦- سيرة ابن هشام ٣: ١١٢، وهو من تتمة الأثر السالف رقم: ٧٧٩١.
(٣) الأثر: ٧٧٢٨- رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٧: ٢٧٥ / ٨: ١٦٩) من طريق علي بن عبد الله، عن سفيان بن عيينة، بغير هذا اللفظ. وكان في المطبوعة: "وما نحب أن لو لم تكن همتا"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكن الناشر لم يحسن قراءتها.
* * *
وأما قوله:"أن تفشلا"، فإنه يعني: همَّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما.
* * *
=يقال منه:"فشل فلان عن لقاء عدوه ويفشل فشلا"، كما:-
٧٧٣١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"الفشل"، الجبن.
* * *
قال أبو جعفر: وكان همُّهما الذي همَّا به من الفشل، الانصرافَ عن رسول الله ﷺ والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، جبنًا منهم، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله ﷺ لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليُّهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار، (١) كما:
٧٧٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله وليُهما"، أي: المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما. (٢) وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، من غير شك أصابهما في دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما، ولحقتا بنبِّيهما صلى الله عليه وسلم. يقول:"وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، أي: من كان به ضعف من المؤمنين أو وهَن،
(٢) في المطبوعة: "الدافع عنهما"، وأثبت ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة"ما هما به"، وهو صواب، ولكني أثبت نص ابن هشام، فهو أقوم على السياق، والتصحيف في مثل هذا قريب، ولست أظنه من أصل الطبري.
* * *
قال أبو جعفر: وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ: (" وَاللهُ وَليُّهُمْ ")، وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك، لأن"الطائفتين" وإن كانتا في لفظ اثنين، فإنهما في معنى جماع، بمنزلة"الخصمين" و"الحزبين". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، وينصركم ربكم، ="ولقد نصركم الله ببدر" على أعدائكم وأنتم يومئذ ="أذلة" يعني: قليلون، في غير منعة من الناس، حتى أظهركم الله على عدوكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم، وأنتم اليوم أكثر عددًا منكم حينئذ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم، ="فاتقوا الله"، يقول تعالى ذكره: فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروه على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضلّ عنه مخالفوكم، كما:-
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٣٣.
* * *
واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر"بدرًا".
فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه كان ماء لرجل يسمى"بدرًا"، فسمي باسم صاحبه.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٣٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبي قال: كانت"بدر" لرجل يقال له"بدر"، فسميت به.
* * *
٧٧٣٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي أنه قال:"ولقد نصركم الله ببدر"، قال: كانت"بدر" بئرًا لرجل يقال له"بدر"، فسميت به.
وأنكر ذلك آخرون وقالوا: ذلك اسم سميت به البقعة، كما سمى سائر البلدان بأسمائها.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٣٦- حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا ابن سعد قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، حدثنا منصور، عن أبي الأسود، عن زكريا، عن الشعبي قال: إنما سمي"بدرًا"، لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له"بدر" = وقال الحارث، قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا فلأيّ شيء سميت"الصفراء"؟ ولأي شيء سميت
٧٧٣٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"بدر"، ماء عن يمين طريق مكة، بين مكة والمدينة.
* * *
وأما قوله:"أذلة"، فإنه جمع"ذليل"، كما"الأعزة" جمع"عزيز"،"والألِبَّة" جمع"لبيب".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما سماهم الله عز وجل"أذلة"، لقلة عددهم، لأنهم كانوا ثلثمئة نفس وبضعة عشر، وعدوهم ما بين التسعمئة إلى الألف -على ما قد بينا فيما مضى- فجعلهم لقلة عددهم"أذلة".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٣٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، وبدر ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه نبي الله ﷺ والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله ﷺ = وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ:"أنتم اليوم بعدَّة أصحاب طالوت يوم لقى جالوت": فكانوا ثلثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون يومئذ ألفٌ، أو راهقوا ذلك. (١)
٧٧٤٠- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو قول قتادة.
٧٧٤١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، أقل عددًا وأضعف قوة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، فإن تأويله، كالذي قد بيَّنت، كما:-
٧٧٤٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧٧٤٢- سيرة ابن هشام ٣: ١١٣، وهو أيضًا بعض الأثر: ٧٧٣٣. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"نعمى"، وأثبت ما مضى في المخطوطة والمطبوعة في الأثر السالف، وهو مطابق نص ابن هشام.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك: ألن يكفيكم أن يمدكم ربَكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ وذلك يوم بدر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حرَبهم، في أيّ يوم وُعدوا ذلك؟
فقال بعضهم: إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدَّهم بملائكته، إن أتاهم العدو من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يُمَدُّوا. (١)
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٤٣- حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال، حُدِّث المسلمون أن كُرز بن جابر المحاربي يُمِدُّ المشركين، قال: فشق ذلك على المسلمين، فقيل لهم:"ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغت كرزًا الهزيمة، فرجع، ولم يمدّهم بالخمسة.
٧٧٤٥- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد عن الحسن في قوله:"إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة"، الآية كلها، قال: هذا يوم بدر.
٧٧٤٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: حُدِّث المسلمون أن كرزَ بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ببدر، قال: فشق ذلك على المسلمين؛ فأنزل الله عز وجلّ:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم" إلى قوله:"من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغته هزيمة المشركين، فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدُّوا بالخمسة.
* * *
وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٤٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن
٧٧٤٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرًا: أنه قال بعد إذ ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشِّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارَى. (١)
٧٧٤٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر: أنه حُدِّث عن ابن عباس: أن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يُشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة، على من تكون الدَّبْرة فننتهِبُ مع من ينتهب. (٢) قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. (٣) قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، (٤) وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. (٥)
٧٧٥٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس قال: لم تُقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عَددًا ومَددًا لا يضربون. (٦)
٧٧٥١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق،
(٢) الدبرة (بفتح الدال وسكون الباء، وبفتحتين أيضًا) والدابرة: الهزيمة في القتال، وهي اسم من"الإدبار". يقال: على من الدبرة؟ أي الهزيمة. ثم يقال: لمن الدبرة؟ أي لمن الدولة والظفر.
(٣) قوله: "أقدم" هي كلمة زجر تزجر بها الخيل، وأمر لها بالتقدم. وحيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة يومئذ. ويقال هو فرس جبريل عليه السلام. هذا وفي المخطوطة: "إذ ذهب منا سحابة" وهو تصحيف.
(٤) قناع القلب: غشاؤه، تشبيهها له بقناع المرأة الذي تلبسه.
(٥) الأثر: ٧٧٤٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٨٥.
(٦) الأثر: ٧٧٥٠- سيرة ابن هشام ٢: ٢٨٦.
٧٧٥٢- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ. وكان العباس يهاب قومه ويكرَهُ أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلَّف عن بدر وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وكذلك صنعوا، لم يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبرُ عن مُصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعِزًّا. (٢) قال: وكنت رجلا ضعيفًا، وكنت أعمل القِداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرُّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طُنُب الحجرة، (٣) فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم! قال: قال أبو لهب: هلُمّ إليّ يا ابن أخي، فعندك الخبر! قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني، كيف كان أمرُ الناس؟ قال: لا شيء والله، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا! وايم الله،
(٢) في المطبوعة: "قوة وعونة"، وليست بشيء، وفي المخطوطة"قوة وعبدا" وصواب قراءتها ما أثبته من سيرة ابن هشام.
(٣) طنب الحجرة: جانبها المسدل. أخذ من طنب الخباء، وهو الحبل يشد به إلى الأرض.
٧٧٥٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليَسَر كعب بن عمرو أخو بني سلِمة، (٣) وكان أبو اليسر رَجلا مجموعًا، (٤) وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله ﷺ لأبي اليسر:"كيف أسرت العباس أبا اليسر؟! قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا! (٥) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أعانك عليه ملك كريم". (٦)
٧٧٥٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين"، أمدوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف ="بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"،
(٢) الأثر: ٧٧٥٢- سيرة ابن هشام ٢: ٣٠١، مع اختلاف يسير في بعض اللفظ.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "أبا اليسر... أخا بني سلمة"، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود عربية.
(٤) قوله: "مجموعًا"، يعني: قد اجتمع خلقه فلم يبسط، وهو نقيض الجسيم، كما يظهر من سياق الأثر. ولم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(٥) في المخطوطة: "هيئته كذا، هيئته كذا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه مطابق لما في التاريخ.
(٦) الأثر: ٧٧٥٣- لم أجده في المطبوع من سيرة ابن هشام، وهو في تاريخ الطبري ٢: ٢٨٨، ٢٨٩.
٧٧٥٥- حدثت عن عمار، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه.
٧٧٥٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، (١) عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"، فإنهم أتوا محمدًا ﷺ مسوِّمين.
٧٧٥٧- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
* * *
وقال آخرون: إن الله عز وجلّ: إنما وعدهم يوم بدر أن يمدَّهم إن صبروا عند طاعته وجهاد أعدائه، واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب، فأمدَّهم حين حاصروا قريظة.
*ذكر من قال ذلك:
٧٧٥٨- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم، فلم يفتح علينا، فرجعنا، فدعا رسول الله ﷺ بماء فهو يغسل رأسه، (٢) إذ جاءه جبريل ﷺ فقال: يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها! فدعا رسول الله ﷺ بخرقة، فلفَّ بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا
(٢) في المطبوعة: "فبينما رسول الله ﷺ في بيته يغسل رأسه"، وهو تصرف لا شك فيه من ناشر أو ناسخ آخر، فإن الذي في المخطوطة: "فدعا رسول الله ﷺ فهو يغسل رأسه"، لما سقط من الجملة قوله: "بماء"، تصرف الناسخ، وما كان له أن يفعل! والصواب كما أثبته، مطابقًا لما في الخصائص الكبرى للسيوطي. وانظر البغوي (بهامش ابن كثير) ٢: ٢٣٥.
* * *
وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم ولم يتقوا ولم يُمدوا بشيء في أحُد.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٥٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني عمرو بن دينار، عن عكرمة، سمعه يقول:"بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: يوم بدر. قال: فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد، ولو مُدُّوا لم يُهزموا يومئذ.
(٢) الأثر: ٧٧٨٥- أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى ١: ٢٣٣ نقلا عن ابن جرير في تفسيره هذا. و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضت ترجمته برقم: ٥٧٩٦، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن موسى"، وهو خطأ. وأما "سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي" فهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ / ٢ / ١٥، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ١١٧، قال يحيى بن معين"ليس بثقة، كذاب، ليس يسوى حديثه فلسًا". وقال النسائي: "متروك الحديث". وكان في المطبوعة: "أبو آدم" وهو خطأ، ومثله في التهذيب في ترجمته، وهو خطأ أيضًا صوابه ما أثبت من المخطوطة. و"عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي"، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه سنة ٨٨، كما صححه الذهبي في تاريخه.
وهذا الأثر، وإن كان إسناده لا يقوم، فإن معناه يشبه أن يكون حقًا، لموافقته ما جاءت به الرواية عن غزوة بني قريظة في الروايات الصحيحة عن غير عبد الله بن أبي أوفى.
٧٧٦١- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف" إلى"خمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، كان هذا موعدًا من الله يوم أحُد عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنّ المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين؛ ففرّ المسلمون يوم أحد وولَّوا مدبرين، فلم يمدهم الله.
٧٧٦٢- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا" الآية كلها. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ينظرون المشركين: يا رسول الله، أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين"، وإنما أمدكم يوم بدر بألف؟ " قال: فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا، قال: بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية كلها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبرَ عن نبيه محمد ﷺ أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددًا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم.
وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم، على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم = وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر
* * *
وقد بينا معنى"الإمداد" فيما مضى،"والمدد"، ومعنى"الصبر" و"التقوى." (١)
* * *
وأما قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا فيه.
فقال بعضهم: معنى قوله:"من فورهم هذا"، من وجههم هذا.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٦٣- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة قال:"ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: من وجههم هذا.
٧٧٦٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"من فورهم هذا"، يقول: من وجههم هذا.
٧٧٦٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
٧٧٦٦- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، من وجههم هذا.
٧٧٦٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا" يقول: من وجههم هذا.
٧٧٧٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، يقول: من سفرهم هذا = ويقال -يعني عن غير ابن عباس- بل هو من غضبهم هذا.
٧٧٧٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"من فورهم هذا"، من وجههم هذا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٧١- حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة"، قال:"فورهم ذلك"، كان يوم أحد، غضبوا ليوم بدر مما لقوا.
٧٧٧٢- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا صالح مولى أم هانئ يقول:"من فورهم هذا"، يقول: من غضبهم هذا.
٧٧٧٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: غضَبٌ لهم، يعني الكفار، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة، وذلك يوم أحد.
٧٧٧٤- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد:"من فورهم هذا"، قال: من غضبهم هذا.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الفوْر"، ابتداء الأمر يؤخذ فيه، ثم يوصل بآخر، (١) يقال منه:"فارت القدرُ فهي تفور فورًا وفورانًا" إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل. و"مضيت إلى فلان من فوْري ذلك"، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فيه.
* * *
= فالذي قال في هذه الآية: معنى قوله:"من فورهم هذا"، من"وجههم هذا"= قصد إلى أن تأويله: ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين.
* * *
=وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا =فإنما عنوا أن تأويل ذلك: ويأتيكم كفار قريش وتُبَّاعهم يوم أحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها، يمددكم ربكم بخمسة آلاف.
* * *
ولذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، (٢) اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحُد بملائكته.
فقال بعضهم: لم يمدوا بهم، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم ولم يتقوا الله عز وجل، بترك من ترك من الرماة طاعةَ رسول الله ﷺ في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله ﷺ بالثبوت فيه، ولكنهم أخلُّوا به
(٢) في المطبوعة: "وكذلك من اختلاف تأويلهم..."، وهو كلام غير مستقيم. ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة، لأن من عادة ناسخها أن يترك كثيرًا شرطة الكاف، ويدعها كاللام، فظنها هنا"كذلك"، ولكنها"لذلك" كما قرأتها لك. يقول الطبري: ومن أجل اختلافهم في تأويل: "ويأتوكم من فورهم هذا"، اختلف أهل التأويل.
* * *
=وأما الذين قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كُرْز بن جابر، فإن بعضهم قالوا: لم يأت كرزٌ وأصحابُه إخوانَهم من المشركين مددًا لهم ببدر، ولم يمد الله المؤمنين بملائكته، لأن الله عز وجل إنما وعدهم أن يمدهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المددُ.
* * *
=وأما الذين قالوا: إنّ الله تعالى ذكره أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [سورة الأنفال: ٩]، قال: فالألف منهم قد أتاهم مددًا. وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط، فما زاد على الألف، (٣) فأما الألف فقد كانوا أمدُّوا به، لأن الله عز وجل كان قد وعدهم ذلك، ولن يُخلف الله وعده.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"مسوّمين".
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (مُسَوَّمِينَ) بفتح"الواو"، بمعنى أن الله سوَّمها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: (مُسَوِّمِينَ) بكسر"الواو"، بمعنى أن الملائكة سوَّمتْ لنفسها.
* * *
(٢) في المطبوعة: "فقتل من المسلمين"، وهي غير مستقيمة، وفي المخطوطة: "في قتل من قتل من المسلمين"، وهي الصواب، إلا في تصحيف الناسخ وخطئه إذ كتب مكان"فقتل" -"في قتل".
(٣) في المطبوعة: "فيما زاد"، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
ولا معنى لقول من قال: إنما كان يُختار الكسرُ في قوله:"مسوِّمين"، لو كان في البشر، فأما الملائكة فوصفهم غيرُ ذلك = ظنًا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويمُ أنفسها إمكانَ ذلك في البشر. وذلك أنه غيرُ مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها نحو تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوَّموا أنفسهم نحو الذي سوَّم البشر، (٢) طلبًا منها بذلك طاعة ربها، فأضيف تسويمها أنفسهَا إليها. وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه. وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسهَا تقرٌُّبًا منها إلى ربها، كأن أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها.
* * *
ذكر الأخبار بما ذكرنا: من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة، دون إضافة ذلك إلى غيرهم، على نحو ما قلنا فيه:
(٢) في المطبوعة: "... مكنها من تسويم أنفسها بحق تمكينه البشر..." ثم"... فسوموا أنفسهم بحق الذي سوم البشر"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة أساء الكاتب في الكلمة الأولى فنقط الحروف ومجمجها فاختلطت، وكتب الثانية"بحق" غير منقوطة، وصواب قراءتها في الموضعين"نحو" كما أثبتها.
٧٧٧٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مختار بن غسان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن الزبير بن المنذر، عن جده أبي أسيد -وكان بدريًا- فكان يقول: لو أن بصري فُرِّج منه، (٢) ثم ذهبتم معي إلى أحد، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صُفر قد طرحوها بين أكتافهم. (٣)
(٢) في المطبوعة: "لو أن بصري معي، ثم ذهبتم معي"، وهو تصرف من الطابعين فيما يظهر، نقلا عن تصرف السيوطي في الدر المنثور ٢: ٧٠. أما المخطوطة، فكان فيها: "لو أن بصرى حرح منه، ثم ذهبتم معي" فيها"حرح" غير منقوطة، والظاهر أن السيوطي رآها كذلك، فعجز عنها، فاستظهرها من الأثرين السالفين: ٧٧٤٧، ٧٧٤٨، ولكني حرصت على متابعة ما في المخطوطة، فوجدت رواية الأثرين السالفين من طريق ابن شهاب عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: "قال لي أبو أسيد الساعدي، بعد ما ذهب بصره: يا ابن أخي، لو كنت أنت وأنا ببدر ثم أطلق الله لي بصري، لأريتك الشعب..." (الاستيعاب: ٦٢١) فاستظهرت أن"حرح" تصحيف"فرج" (بتشديد الراء، والبناء للمجهول)، وهي بمعنى"أطلقه الله". وقوله: "فرج منه"، أي: فرج الله عن بعضه. ولو كانت"فرج عنه" لكان صوابًا مطابقًا لرواية سهل بن سعد في المعنى. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى الصواب بحمد الله وتوفيقه.
(٣) الأثر: ٧٧٧٧-"مختار بن غسان التمار الكوفي العبدي"، روى عن حفص بن عمر البرجمي وإسماعيل بن مسلم. مترجم في التهذيب. و"عبد الرحمن بن الغسيل"، هو: "عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري" سلفت ترجمته في رقم: ٥١٢٣. أما "الزبير بن المنذر ابن أبي أسيد" فيقال أيضا أنه"الزبير بن أبي أسيد"، أن أبا أسيد أبوه لا جده، وإسناد الطبري مبين عن أنه جده. وقد ذكر ذلك البخاري في الكبير ٢ / ١ / ٣٧٥، في خبر ساقه عن ابن الغسيل، وكذلك ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٥٧٩، وذكره الحافظ في التهذيب وقال: "وفي إسناده اختلاف"، إشارة إلى هذا الاختلاف في أن أبا أسيد أبوه أو جده.
أما خبر أبي أسيد هذا فقد سلف بإسناد أبي كريب وابن حميد: ٧٧٤٧، ٧٧٤٨، مع اختلاف في بعض اللفظ، ومع نسبة هذا إلى يوم بدر، لا يوم أحد. والأول هو الثابت الصحيح. وأخشى أن يكون الذي هنا سهوًا من ناسخ أو راو، وأن صوابه"إلى بدر".
٧٧٧٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، قال: مجزوزة أذنابها، وأعرافها فيها الصوف أو العهن، فذلك التسويم.
٧٧٨٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مسوّمين"، ذكر لنا أن سيماهم يومئذ، الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها، وأنهم على خيل بُلْق.
٧٧٨١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مسومين"، قال: كان سيماها صوفًا في نواصيها.
٧٧٨٢- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يقول:"مسومين"، قال: كانت خيولهم مجزوزة الأعراف، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعِهْن.
٧٧٨٣- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: كانوا يومئذ على خيل بُلْق.
٧٧٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
٧٧٨٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مسومين"، معلمين.
٧٧٨٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، مسوِّمين بالصوف، فسوَّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
٧٧٨٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة قال، نزلت الملائكة في سيما الزبير، عليهم عمائم صفر. وكانت عمامة الزبير صَفراء.
٧٧٨٨- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"مسومين"، قال: بالصوف في نواصيها وأذنابها.
٧٧٨٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة قال: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، عليهم عمائم صفر. وكان على الزبير يومئذ عمامة صفراء.
٧٧٩٠- حدثني أحمد بن يحيى الصوفي قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير: أنّ الزبير كانت عليه مُلاءة صفراء يوم بدر، فاعتم بها، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبيّ الله ﷺ معمَّمين بعمائم صفر. (١)
* * *
* * *
وأما الذين قرأوا ذلك:"مسوَّمين"، بالفتح، فإنهم أراهم تأوَّلوا في ذلك ما:
٧٧٩١- حدثنا به حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة:"بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، يقول: عليهم سيما القتال.
٧٧٩٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، يقول: عليهم سيما القتال، وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، يقول: عليهم سيما القتال.
* * *
=فقالوا: كان سيما القتال عليهم، لا أنهم كانوا تسوَّموا بسيما فيضاف إليهم التسويم، فمن أجل ذلك قرأوا:"مسوَّمين"، بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى مَنْ سوَّمهم تلك السيما.
* * *
و"السيما" العلامة يقال:"هي سيما حسنة، وسيمياء حسنة"، كما قال الشاعر: (١)
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بِالحُسْنِ يَافِعًا | لَهُ سِيمِياءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (٢) |
(٢) سلف تخريجه وشرحه في ٥: ٥٩٤، ٥٩٥.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم ="إلا بشرى لكم"، يعني بشرى، يبشركم بها ="ولتطمئن قلوبكم به"، يقول. وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم ="وما النصر إلا من عند الله"، يعني: وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله، لا من قِبَل المدد الذي يأتيكم من الملائكة. يقول: فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، (٣) فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة = أحْرَى، (٤) فاتقوا الله واصبروا
(٢) انظر تفسير"سوم" فيما سلف ٥: ٢٥١ - ٢٥٧.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وبعونه معكم من ملائكته..." بإسقاط الواو من"معكم"، وهو خلل في الكلام والسياق.
(٤) سياق الكلام: "فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم... أحرى". ثم انظر إلى هذا الإمام كيف يتحرى في بيان معاني كتاب الله إخلاص التوحيد لله، ونفى الشرك عنه في صفاته سبحانه، فأخرج من النصر ما يتوهم المتوهم أن نزول الملائكة كان هو سبب نصر المؤمنين، فلخص المعنى تلخيصًا كله تقوى لله وإخلاص له، ونفي للشرك عن صفاته سبحانه، فبين أن النصر من عند الله للمؤمنين وللملائكة جميعًا على عدو الله وعدوهم، وأنهم إنما كانوا مددًا للمؤمنين، كما قال ربنا سبحانه. وهذا من فقه أبي جعفر وبصره وتحققه بمعاني هذا الكتاب الذي لا يدرك أحد توحيد الله حق توحيده إلا بتلاوته وفهمه وتفقهه فيه، واتباعه لبيانه العربي المحكم. ورحم الله أبا جعفر، فإنه كان إمامًا في التفسير، قيما عليه.
٧٧٩٣- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما جعله الله إلا بشرى لكم"، يقول: إنما جعلهم ليستبشروا بهم وليطمئنوا إليهم، ولم يقاتلوا معهم يومئذ = يعني يوم أحد = قال مجاهد: ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر.
٧٧٩٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به"، لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أن العزّ والحكم إلىّ، (١) لا إلى أحد من خلقي. (٢)
٧٧٩٥- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما النصر إلا من عند الله"، لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعَل"العزيز الحكيم".
* * *
وأما معنى قوله:"العزيز الحكيم"، فإنه جل ثناؤه يعني:"العزيز" في انتقامه من أهل الكفر به بأيدي أوليائه من أهل طاعته ="الحكيم" في تدبيره لكم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره. (٣) يقول:
(٢) الأثر: ٧٩٩٤- سيرة ابن هشام ٣: ١١٤، وهو تابع للأثرين السالفين: ٧٧٣٣، ٧٧٤١.
(٣) في المخطوطة: "في تدبيره ولكم أيها المؤمنون وعلى أعدائكم"، وهو لا يستقيم مع سياقته، والصواب ما في المطبوعة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد نصركم الله ببدر"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، ويعني بـ"الطرف"، الطائفة والنفر.
* * *
يقول تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر، كما يُهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله، فجحدوا وحدانية ربهم، ونبوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
٧٧٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، فقطع الله يوم بدر طرفًا من الكفار، وقتل صناديدهم ورؤساءهم، وقادتهم في الشر.
٧٧٩٧- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه.
٧٧٩٨- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا" الآية كلها، قال: هذا يوم بدر، قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة.
٧٧٩٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، أي: ليقطع طرفًا من المشركين بقتل ينتقم به منهم. (١)
* * *
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٠٠- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الله قتلى المشركين -يعني بأحد- وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، ثم ذكر الشهداء فقال: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآية. [سورة آل عمران: ١٦٩]
* * *
وأما قوله:"أو يكبتهم"، فإنه يعني بذلك: أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر بكم.
وقد قيل: إن معنى قوله:"أو يكبتهم"، أو يصرعهم لوجوههم. ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول:"كبته الله لوجهه"، بمعنى صرعه الله. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ولقد نصركم الله ببدر ليهلك فريقًا من الكفار بالسيف، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر ="فينقلبوا خائبين"، يقول: فيرجعوا عنكم خائبين، لم يصيبوا منكم شيئًا مما رجوا أن ينالوه منكم، كما:-
٧٨٠١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أو يكبتهم فينقلبوا خائبين"، أو يردهم خائبين، أي: يرجع من بقي منهم فلاًّ خائبين، (٢) لم ينالوا شيئًا مما كانوا يأملون. (٣)
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "أو يرجع من بقي..."، والصواب من سيرة ابن هشام. وأما المطبوعة فقد حذفت قوله: "فلا"، لأن قلم الناسخ قد اضطرب فضرب خطأ غير بالغ على قوله: "فلا"، فظنها الناشر علامة حذف. والصواب إثباتها كما في سيرة ابن هشام. والفل (بفتح الفاء وتشديد اللام) : المنهزمون، يقال: "جاء فل القوم"، أي منهزموهم، يستوي فيه الواحد والجمع.
(٣) الأثر: ٧٨٠١- سيرة ابن هشام ٣: ١١٤، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم: ٧٧٩٩.
٧٨٠٣- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ليقطع طرفًا من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء.
* * *
فقوله:"أو يتوب عليهم"، منصوبٌ عطفًا على قوله:"أو يكبتهم".
وقد يحتمل أن يكون تأويله: ليس لك من الأمر شيء، حتى يتوب عليهم = فيكون نصب"يتوب" بمعنى"أو" التي هي في معنى"حتى". (١)
* * *
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحدٍ سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك.
* * *
وتأويل قوله:"ليس لك من الأمر شيء"، ليس إليك، يا محمد، من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهيَ فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضى فيهم وأحكمُ بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنّقَم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددتُ لأهل الكفر بي. كما:-
* * *
وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما أصابه بأحُد ما أصابه من المشركين، قال، كالآيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحق:"كيف يفلح قومٌ فعلوا هذا بنبيهم!!
*ذكر الرواية بذلك:
٧٨٠٥- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، قال أنس: قال النبي ﷺ يوم أحد، وكسرت رَبَاعيته، وشُجَّ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم!! فأنزلت:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوبَ عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". (٣)
(٢) الأثر: ٧٨٠٤- سيرة ابن هشام ٣: ١١٥، وهو تابع الآثار التي آخرها: ٧٨٠١، مع اختلاف يسير في بعض لفظه.
(٣) الحديث: ٧٨٠٥- هذا الحديث رواه الطبري متصلا بخمسة أسانيد: ٧٨٠٥ - ٧٨٠٨، ٧٨١٠، من طريق بشر بن المفضل، وابن أبي عدي، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وابن علية = الخمسة عن حميد بن أبي حميد الطويل، عن أنس بن مالك. ورواه: ٧٨٠٩، من حديث الحسن البصري، بنحوه، مرسلا.
وقد رواه أحمد في المسند: ١١٩٨٠، عن هشيم، و: ١٢٨٦٢، عن سهل بن يوسف، و: ١٣١١٥، عن يزيد بن هارون، و: ١٣١٧٠، عن ابن أبي عدي = أربعتهم عن حميد الطويل، به. (ج٣ ص٩٩، ١٧٨ - ١٧٩، ٢٠١، ٢٠٦ حلبى). ورواه الترمذي ٤: ٨٣، عن أحمد بن منيع، وعبد بن حميد - كلاهما عن يزيد بن هارون، كرواية المسند: ١٣١١٥. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه أبو جعفر النحاس، في الناسخ والمنسوخ، ص: ٩٠، من طريق يزيد بن هارون.
ورواه أحمد أيضًا، بنحوه: ١٣٦٩٢ (ج٣ ص٢٥٣ حلبي)، عن عفان، عن حماد - وهو ابن سلمة - عن ثابت، عن أنس.
وكذلك رواه مسلم ٢: ٦٧، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن حماد بن سلمة، به
وذكره البخاري في الصحيح ٧: ٢٨١، مختصرًا، معلقًا، من الوجهين. قال: "قال حميد وثابت، عن أنس...". وبين الحافظ في الفتح أن رواية حميد وصلها أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن إسحاق في المغازي. وأن رواية ثابت وصلها مسلم.
وذكر ابن كثير ٢: ٢٣٨ رواية البخاري المعلقة. وفي ص: ٢٣٩ رواية أحمد عن هشيم. ثم أشار إلى رواية مسلم.
وذكره السيوطي ٢: ٧٠ - ٧١، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل.
وانظر ما يأتي: ٧٨١٨ - ٧٨٢١.
"الرباعية" - على وزن"ثمانية": الأسنان الأربعة التي تلي الثناياه، بين الثنية والناب.
٧٨٠٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن حميد الطويل، عن أنس، عن النبي ﷺ بنحوه.
٧٨٠٨- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ حين شُجَّ في جبهته وكسِرت رباعيته: لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم! فأوحى الله إليه:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". (١)
٧٨٠٩- حدثني يعقوب، عن ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن الحسن: أن النبي ﷺ قال يوم أحُد: كيف يفلح قوم دمَّوا وجه نبيهم وهو
٧٨١٠- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك.
٧٨١١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون"، ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله ﷺ يوم أُحد، وقد جُرح نبي الله ﷺ في وجهه وأصيبَ بعضُ رباعيته، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون".
٧٨١٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن مطر، عن قتادة قال: أصيب النبي ﷺ يوم أحد وكِسرت رباعيته، وفُرِق حاجبه، فوقع وعليه درعان، والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول: كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله! فأنزل الله تبارك وتعالى:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون".
٧٨١٣- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قوله:"ليس لك من الأمر شيء" الآية قال قال الربيع بن أنس: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ يوم أحُد، وقد شج رسول الله ﷺ في وجهه وأصيبتْ رباعيته، فهم رسول الله ﷺ أن يدعوَ عليهم،
٧٨١٤- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم" الآية كلها، فقال: جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صُنع بأصحابه يوم بدر، فقاتل أصحابَ محمد ﷺ يوم أحد قتالا شديدًا، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله ﷺ كلمةً علم الله أنها قد خالطت غضبًا: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الإسلام! فقال الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون".
٧٨١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: أن رباعية النبي ﷺ أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبي ﷺ الدمَ، والنبي ﷺ يقول: كيف يفلح قوم صنعوا بنبيهم هذا!! فأنزل الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون".
٧٨١٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم: أن النبي ﷺ دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد، حين كسر رباعيته، وَوثأ وجهه، (١)
٧٨١٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: شج النبي ﷺ في فرق حاجبه، وكسرت رباعيته.
= قال ابن جريج: ذكر لنا أنه لما جرح، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله ﷺ يقول:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله! ". فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه دعا على قوم، فأنزل الله عز وجل: ليس الأمر إليك فيهم.
* ذكر الرواية بذلك:
٧٨١٨ - حدثني يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: وهداهم الله للإسلام (١).
والحديث رواه أحمد في المسند: ٥٨١٣، عن يحيى بن حبيب بن عربي- شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية قبله.
ورواه الترمذي ٤: ٨٤ عن يحيى بن حبيب بن عربي أيضًا. وقال: " هذا حديث حسن غريب صحيح، يستغرب من هذا الوجه، من حديث نافع عن ابن عمر. ورواه يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان".
ورواه أحمد أيضًا: ٥٨١٢ - قبل الرواية السابقة -: عن أبي معاوية الغلابي، عن خالد بن الحارث.
ورواه أحمد أيضًا: ٥٩٩٧، بنحوه، عن هارون بن معروف المروزي، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر.
وهو متابعة صحيحة لرواية ابن عجلان عن نافع، التي استغربها الترمذي - فكانت غير غريبة، بهذه المتابعة الصحيحة.
وذكره ابن كثير ٢: ٢٣٨، من رواية المسند: ٥٨١٢.
وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٧٠، من روايتي أحمد والترمذي.
وذكره السيوطي ٢: ٧١، ونسبه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط.
وانظر الحديث التالي لهذا.
ووقع في المطبوعة هنا اسم أبيه " سفيان"، وفي المخطوطة "سنين" - وكلاهما خطأ، ليس في الرواة من يسمى بهذا أو بذاك، إلا راويًا اسمه " أحمد بن سفيان أبو سفيان النسائي" وهو متأخر عن هذه الطبقة. وأثبتنا الصواب عن ذلك، وعن رواية الترمذي هذا الحديث بهذا الإسناد، كما سيأتي.
عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: رجحنا توثيقه في شرح المسند: ٥٦٣٨، بأنه أخرج له مسلم في صحيحه، وبقول الحاكم: " أحاديثه كلها مستقيمة". وهو يروي هنا عن عمه " سالم بن عبد الله بن عمر " عن جده " عبد الله بن عمر".
والحديث رواه أحمد في المسند: ٥٦٧٤، عن أبي النضر، عن أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عمر بن حمزة، به وزاد في آخره بعد نزول الآية: " قال: فتيب عليهم ".
ورواه الترمذي ٤: ٨٣، عن أبي السائب سلم بن جنادة بن سلم الكوفي - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. وزاد في آخره: " فتاب عليهم، فأسلموا فحسن إسلامهم ".
وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، يستغرب من حديث عمر بن حمزة عن سالم. وكذا رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه".
ورواية الزهري عن سالم - التي أشار إليها الترمذي - رواها أحمد في المسند: ٦٣٤٩، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وكذا رواها أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص: ٨٩، من طريق عبد الرزاق، به. ورواه أيضًا ابن المبارك عن معمر.
فرواه أحمد في المسند: ٦٣٥٠، عن علي بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سالم. عن أبيه.
وكذلك رواه البخاري ٧ / ٢٨١، ٨: ١٧٠ / و ١٣: ٢٦٣ - ٢٦٤، من طريق عبد الله بن المبارك.
ورواه البخاري أيضًا ٧: ٢٨١، من رواية ابن المبارك، عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن سالم بن عبد الله: " كان رسول الله ﷺ يدعو... " رواه تبعًا لحديث ابن المبارك عن معمر، فقال الحافظ في الفتح: " والراوي له عن حنظلة، هو عبد الله بن المبارك".
ووهم من زعم أنه معلق. وقوله: " سمعت سالم بن عبد الله يقول كان رسول الله ﷺ يدعو "، إلى آخره -: هو مرسل.
وقد ذكره ابن كثير ٢: ٢٣٨، عن رواية المسند: ٥٦٧٤.
وذكره السيوطي ٢: ٧١، وزاد نسبته للنسائي، والبيهقي في الدلائل.
وهذا الحديث مرسل، لأن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي - تابعي- وقد مضت ترجمته في: ٢٣٥١. ولم أجد هذا الحديث المرسل في موضع آخر. ومعناه ثابت صحيح في الحديث الآتي عقبه: ٧٨٢١، وفي حديث أبي هريرة في المسند: ٧٦٥٦، من رواية الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. عن أبي هريرة. ولكن ليس فيه نزول الآية.
ثم وجدته موصولا من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه:
فرواه البخاري ٢: ٢٤١ - ٢٤٢، في حديث مطول، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري " قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة... قالا: وقال أبو هريرة: وكان رسول الله ﷺ حين يرفع رأسه... " - إلخ.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ٢٠٧، مقتصرًا على القسم الأخير منه، من أول قوله: " كان رسول الله ﷺ " - من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، عن أبي اليمان، بمثل إسناد البخاري، ثم قال: " رواه البخاري في الصحيح، عن أبي اليمان ".
ووجدته أيضا مرسلا، مثل رواية الطبري هنا:
فرواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٤٢، من طريق سلمة بن رجاء، عن محمد بن إسحاق، بمثل إسناد الطبري هنا. وزاد في آخره بعد الآية: " قال: فما دعا رسول الله ﷺ بدعاء على أحد ".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) ﴾
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ١٩٧، من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب، به. ثم أشار إلى رواية مسلم.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٤٢، عن يونس بن عبد الأعلى - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد؛ ولكنه اختصر آخره، فلم يذكر قوله: " ثم بلغنا أنه ترك ذلك... ".
ورواه أحمد في المسند: ٧٤٥٨، عن أبي كامل، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، بهذا الإسناد، نحوه.
وكذلك رواه البخاري ٨: ١٧٠ - ١٧١ (فتح)، عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، به.
وكذلك رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: ٨٩، من طريق الحسن بن محمد، عن إبراهيم بن سعد.
وكذلك رواه البيهقي ٢: ١٩٧، من طريق محمد بن عثمان بن خالد، عن إبراهيم بن سعد.
ونقله ابن كثير ٢: ٢٣٨، عن رواية البخاري، التي أشرنا إليها آنفًا.
وذكره السيوطي ٢: ٧١، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم يفرق بين روايتي إبراهيم بن سعد ويونس، والفرق بينهما واضح - فنسبه بنحو رواية يونس - للبخاري والنحاس، وهما لم يروياه بهذا اللفظ.
وقد قال الحافظ في الفتح ٧: ٢٨٢، في شرح حديث ابن عمر، الذي أشرنا إليه في شرح: ٧٨١٩ - قال: " ووقع في رواية يونس، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، نحو حديث ابن عمر، لكن فيه: اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية، قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت: (ليس لك من الأمر شيء). قلت: [القائل ابن حجر]. وهذا إن كان محفوظًا احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن قصة أحد. لأن قصة رعل وذكوان كانت بعدها، كما سيأتي تلو هذه الغزوة، وفيه بعد. والصواب: أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد. والله أعلم. ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية: (ليقطع طرفًا من الذين كفروا) أي يقتلهم، (أو يكبتهم) أي يخزيهم، ثم قال: (أو يتوب عليهم) أي فيسلموا، (أو يعذبهم) أي إن ماتوا كفارًا ".
وهذا تحقيق نفيس جيد من الطراز العالي.
٧٨٢٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله غفور رحيم"، أي يغفر الذنوب، ويرحم العباد، على ما فيهم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد إذ هداكم له، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم.
* * *
وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم: أنّ الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخِّر عنى ديْنك وأزيدك على مالك. فيفعلان ذلك. فذلك هو"الربا أضعافًا مضاعفة"، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه،. كما:-
٧٨٢٣- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كانت ثقيف تدَّاين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حلّ الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخِّرون؟ فنزلت:"لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة".
٧٨٢٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة"، أي: لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم الله له، (١) ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره، مما لا يحل لكم في دينكم. (٢)
٧٨٢٥- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجلّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة" قال: ربا الجاهلية.
٧٨٢٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول
(٢) الأثر: ٧٨٢٤- سيرة ابن هشام ٣: ١١٥، من بقية الآثار التي آخرها رقم: ٧٨٢٢.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، فإنه يعني: واتقوا الله أيها المؤمنون، في أمر الربا فلا تأكلوه، وفي غيره مما أمركم به أو نهاكم عنه، وأطيعوه فيه ="لعلكم تفلحون"، يقول: لتنجحوا فتنجوا من عقابه، وتدركوا ما رغَّبكم فيه من ثوابه والخلود في جنانه، كما:-
٧٨٢٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، أي: فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه. (٥)
* * *
(٢) في المخطوطة: "تقضي أو تزدني".
(٣) "المخاض": النوق الحوامل. و"ابن المخاض" و"ابنة المخاض"، ما دخل في السنة الثانية، لأن أمه لحقت بالمخاض، أي الحوامل."واللبون": الناقة ذات اللبن. و"ابن اللبون" و"ابنة لبون"، ما أتى عليه سنتان، ودخل في السنة الثالثة. فصارت أمه لبونًا، أي ذات لبن. و"الحق" و"الحقة" البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة."والجدع" و"الجذعة" ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة. فإذا طعن البعير في السادسة فهو"ثنى"، وقد سقط هذا من الأسنان التي يذكرها. أما "الرباع" للذكر، و"الرباعية" للأنثى، فهو الذي دخل في السابعة.
(٤) العين: المال. من ذهب وفضة وأشباهها.
(٥) الأثر: ٧٨٢٧- سيرة ابن هشام ٣: ١١٥، وهو تابع الآثار التي آخرها: ٧٨٢٤، وفي السيرة"لعلكم تنجون... وتدركون".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واتقوا، أيها المؤمنون، النارَ أن تصلوْها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه = التي أعددتها لمن كفر بي، فتدخلوا مَدْخَلَهم بعد إيمانكم بي، (١) بخلافكم أمري، وترككم طاعتي. كما:-
٧٨٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واتقوا النار التي أعدت للكافرين"، التي جعلت دارًا لمن كفر بي. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأطيعوا الله، أيها المؤمنون، فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء، وفيما أمركم به الرسول. يقول: وأطيعوا الرسول أيضًا كذلك ="لعلكم ترحمون"، يقول: لترحموا فلا تعذبوا.
* * *
وقد قيل إن ذلك معاتبة من الله عز وجل أصحابَ رسول الله ﷺ الذين خالفوا أمرَه يوم أحد، فأخلُّوا بمراكزهم التي أمروا بالثبات عليها.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٢٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وأطيعوا
(٢) الأثر: ٧٨٢٨- سيرة ابن هشام ٣: ١١٥ تابع الآثار التي آخرها: ٧٨٢٧.
* * *
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وسارعوا"، وبادروا وسابقوا = (١) "إلى مغفرة من ربكم"، يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها ="وجنة عرضها السموات والأرض"، يعني: وسارعوا أيضًا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
* * *
ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع والأرضين السبع، إذا ضم بعضها إلى بعض.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٣٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجنة عرضها السموات والأرض"، قال: قال ابن عباس: تُقرن السموات السبع والأرضون السبع، كما تُقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة.
* * *
وإنما قيل:"وجنة عرضها السموات والأرض"، فوصف عرضها بالسموات والأرضين، والمعنى ما وصفنا: من وصف عرضها بعرض السموات والأرض،
كأَنَّ عَذِيرَهُمْ بِجَنُوب سِلَّى | نَعَامٌ قَاقَ فِي بَلَدٍ قِفَارِ (٢) |
حَسِبتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! | وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (٤) |
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكر أنّ رسول الله ﷺ سئل فقيل له:
(٢) الكامل ٢: ١٩٦، معجم البلدان (سلى)، واللسان (فوق) (سلل)، وكان شقيق بن جزء قد أغار على بني ضبة بروضة سلى وروضة ساجر، وهما روضتان لعكل -وضبة وعدى وعكل وتيم حلفاء متجاورون- فهزمهم، وأفلت عوف بن ضرار، وحكيم بن قبيصة بن ضرار بعد أن جرح، وقتلوا عبيدة بن قضيب الضبي، فقال شقيق: كأَنَّ عَذِيرَهُمْ..................................
لَقَدْ قَرَّتْ بِهِمْ عَيْني بِسِلَّى | وَرَوْضَةِ سَاجِرٍ ذَاتِ القَرَارِ |
جَزَيْتُ المُلْجِئِينَ بِمَا أَزَلْتْ | مِنَ البُؤْسَى رِمَاحُ بني ضِرَارِ |
وَأَفْلَتَ من أسِنَّتِنَا حَكِيمٌ | جَرِيضًا مِثْلَ إفْلاتِ الحِمارِ |
(٣) هو ذو الخرق الطهوي.
(٤) سلف تخريجه وشرحه في ٣: ١٠٣.
*ذكر الأخبار عن رسول الله ﷺ وغيره.
٧٨٣١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة قال: لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله ﷺ بحمص، شيخًا كبيرًا قد فُنِّد. (١) قال: قدمت على رسول الله ﷺ بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره. قال قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي:"إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، (٢) فأين النار؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟ (٣)
(٢) في المطبوعة: "فإذا هو أنك كتبت تدعوني"، وهو محاولة تصحيح لما في المخطوطة، وكان فيها: "فإذا كان كتبت تدعوني"، والصواب الذي أثبته من ابن كثير في تفسيره ٢: ٢٤١، ومثله في خبر أحمد في مسنده.
(٣) الحديث: ٧٨٣١-"مسلم بن خالد": هو الزنجي المكي الفقيه، شيخ الإمام الشافعي. وهو في نفسه صدوق، ولكنه يخطئ كثيرًا في روايته، حتى قال البخاري: "منكر الحديث" ولذلك رجحنا تضعيفه في المسند: ٦١٣. ابن خثيم - بضم الخاء المعجمة ثم فتح الثاء المثلثة: هو عبد الله بن عثمان بن خثيم، مضت ترجمته في: ٤٣٤١. سعيد بن أبي راشد: في التهذيب ٤: ٢٦ ويقال: ابن ر٠اشد. روى عن يعلى بن مرة الثقفي، وعن التنوخي النصراني رسول قيصر، ويقال: رسول هرقل. وعنه عبد الله بن عثمان بن خثيم. ذكره ابن حبان في الثقات، قلت: وفي الرواة سعيد بن أبي راشد، أو ابن راشد - آخر".
ثم نقل طابع التهذيب هامشة عن الأصل الذي يطبع عنه. وجعل رقمها عند قوله"النصراني" - وهذا نصها: "قال شيخنا: أسلم متأخرًا، عن هذا يقال له أبو محمد المازني، السماك، مذكور في كتاب الضعفاء. نبهت عليه"!!
وهذا تخطيط عجيب من الطابع. فالهامشة أصلها هامشتان يقينًا، كل منهما في موضع، كما هو بديهي.
فإن قوله: "أسلم متأخرًا" هو المناسب لقوله"النصراني". وأما ما بعده، فإنه يريد به أن"سعيد بن راشد" أو"ابن أبي راشد" متأخر عن المترجم الذي يروى عن رسول قيصر، وأن هذا المتأخر هو الذي كنيته"أبو محمد المازني السماك". وهو مترجم في الكبير للبخاري ٢ / ١ / ٤٣١، وقال فيه: "منكر الحديث". وترجمه ابن أبي حاتم ٤ / ١ / ١٩ - ٢٠ برقم: ٨٠، وترجم قبله، برقم: ٧٩"سعيد بن أبي راشد" وأنه صحابي، وترجم بعدهما برقم: ٨١"سعيد بن راشد المرادى" - وهو متأخر عن هذين.
وترجم الحافظ في الإصابة ٣: ٩٦ للصحابي، ثم قال في آخر الترجمة: "وأما سعيد بن أبي راشد شيخ عبد الله بن عثمان بن خثيم، روى عنه عن رسول قيصر حديثًا = فأظنه غير هذا".
وترجم الذهبي في الميزان ١: ٣٧٩ ثلاث تراجم، فرق بينها، وبين ضعف"سعيد بن راشد المازني السماك". وكذلك صنع الحافظ في لسان الميزان ٣: ٢٧ - ٢٨. و"سعيد بن راشد السماك" الضعيف: ترجمه ابن حبان في المجروحين، برقم: ٣٩٨، وأساء القول فيه. والراجح عندي أن"سعيد بن أبي راشد" الذي هنا = هو الصحابي. وأنه روى هذا عن التنوخي رسول هرقل.
يعلى بن مرة: هو الثقفي الصحابي المعروف. وعندي أن ذكره في هذا الإسناد مقحم خطأ، كما سيأتي.
التنوخي رسول هرقل: لم أجد له ترجمة، إلا ذكره بهذا الوصف وأنه روى عنه سعيد بن أبي راشد، كما ذكره الحافظ في التعجيل، ص: ٥٣٥. وإلا الكلمة التي نقلها طابع التهذيب عن هامش أصله بأنه أسلم متأخرًا. فهو بهذا لا يعتبر من الصحابة، لأنه حين لقي النبي ﷺ لم يكن مسلمًا، وإنما أسلم بعده. ولا يعتبر من الصحابة إلا من رأى النبي ﷺ وكان مسلمًا حين الرؤية. أما من رآه وكان كافرًا حين الرؤية ثم أسلم بعد موته ﷺ -كالتنوخي هذا- فلا صحبة له. انظر تدريب الراوي، ص: ٢٠٢
ولكن روايته تكون صحيحة مقبولة، لأنه كان مسلمًا حين الأداء، أعني التبليغ والتحديث، وإن كان كافرًا حين التحمل، أعني الرؤية وسماع ما يرويه. وانظر أيضًا تدريب الراوي، ص: ١٢٨. وهذا الحديث طرف من حديث طويل في قصة، رواه الإمام أحمد في المسند: ١٥٧١٩ (ج٣ ص ٤٤١ - ٤٤٢ حلبي)، عن إسحاق بن عيسى -وهو الطباع- عن يحيى بن سليم، وهو الطائفي، "عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، قال: رأيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحمص، وكان جارًا لي، شيخًا كبيرًا، قد بلغ الفند أو قرب..." - إلى آخر القصة.
وقد نقله الحافظ ابن كثير في التاريخ ٥: ١٥ - ١٦، عن المسند -بطوله- وبإسناده، ثم قال: "هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به. تفرد به أحمد". وأشار إليه في التفسير ٢: ٢٤٠، إشارة موجزة.
وقد وقع في نسختي المسند - المطبوعة والمخطوطة: "يحيى بن سليمان"، بدل"يحيى بن سليم". وهو خطأ من الناسخين. وثبت على الصواب في تاريخ ابن كثير. فهذه رواية يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم - فيها أن سعيد بن أبي راشد هو الذي لقى التنوخي وسمع منه هذا الحديث.
ويحيى بن سليم: سبق توثيقه في: ٤٨٩٤. وقد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، ومهما يقل في حفظه فلا نشك أنه كان أحفظ من مسلم بن خالد الزنجي الضعيف، وخاصة في حديث ابن خثيم، فقد شهد أحمد ليحيى بن سليم بأنه"كان قد أتقن حديث ابن خثيم".
فعن ذلك قطعنا بأن زيادة"عن يعلى بن مرة" - في إسناد الطبري هذا - خطأ ووهم. والراجح أن الخطأ من مسلم بن خالد. ورواية الطبري - هذه - ذكرها ابن كثير في التفسير ٢: ٢٤٠ - ٢٤١، والسيوطي ٢: ٧١، ولم ينسبها لغيره.
٧٨٣٣- حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران، فسألوه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيت قوله:"وجنة عرضها السموات والأرض"، فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر:"أرأيتم إذا جاء الليل، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ " فقالوا: نزعت مثَلها من التوراة.
٧٨٣٤- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، أخبرنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن طارق بن شهاب، عن عمر بنحوه، في الثلاثة الرّهط الذين أتوا عمر فسألوه: عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض، بمثل حديث قيس بن مسلم.
٧٨٣٦- حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا جعفر بن برقان قال، حدثنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس فقال: تقولون"جنة عرضها السموات والأرض"، فأين النار؟ فقال ابن عباس: أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ (١)
* * *
ووقع في المطبوعة هنا"يزيد الأصم"، وهو خطأ."الأصم" لقب أبيه، وليس لقبه. وهذا الحديث رواه يزيد بن الأصم عن ابن خالته ابن عباس، موقوفًا عليه من كلامه. والإسناد إليه صحيح.
وقد رواه أيضًا يزيد، عن أبي هريرة، مرفوعًا قال، "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أرأيت جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء، أين جعل؟ قال: الله أعلم، قال: فإن الله يفعل ما يشاء". رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: ١٠٣ بتحقيقنا، والحاكم في المستدرك ١: ٣٦ - من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولا أعلم له علة"، ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البزار من حديثه. نقله عنه ابن كثير ٢: ٢٤١، بنحوه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٧، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". وذكره السيوطي ٢: ٧١، ونسبه للبزار والحاكم فقط. وأما الموقوف على ابن عباس، فقد نقله ابن كثير ٢: ٢٤١، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره السيوطي ٢: ٧١، ونسبه إليه وإلى عبد بن حميد.
٧٨٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين"، أي: دارًا لمن أطاعني وأطاع رسولي. (١)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء"، أعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله، إما في صرفه على محتاج، وإما في تقوية مُضعِف على النهوض لجهاده في سبيل الله. (٢)
* * *
وأما قوله:"في السراء"، فإنه يعني: في حال السرور، بكثرة المال ورخاء العيش
* * *
(٢) في المطبوعة: "للجهاد"، بلامين، وأثبت ما في المخطوطة. والمضعف: الذي قد ضعفت دابته.
* * *
"والضراء" مصدر من قولهم:"قد ضُرّ فلان فهو يُضَرّ"، إذا أصابه الضُّر، وذلك إذا أصابه الضيق، والجهد في عيشه. (١)
* * *
٧٨٣٨- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء"، يقول: في العسر واليسر.
* * *
فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها، لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة، (٢) وفي حال الضيق والشدة، في سبيله.
* * *
وقوله:"والكاظمين الغيظ"، يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه.
* * *
يقال منه:"كظم فلان غيظه"، إذا تجرَّعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه، باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها.
وأصل ذلك من"كظم القربة"، يقال منه:"كظمتُ القربة"، إذا ملأتها ماء. و"فلان كظيمٌ ومكظومٌ"، إذا كان ممتلئًا غمٌّا وحزنًا. ومنه قول الله عز وجل، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [سورة يوسف: ٨٤] يعني: ممتلئ من الحزن. ومنه قيل لمجاري المياه:"الكظائم"، لامتلائها بالماء. ومنه قيل:"أخذت بكَظَمِه" يعني: بمجاري نفسه.
* * *
(٢) في المخطوطة: "في حال الرضا"، وكأنها صواب أيضًا.
* * *
وأما قوله:"والعافين عن الناس"، فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبَةَ ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم.
* * *
وأما قوله:"والله يحب المحسنين"، فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدَّ للعاملين بها الجنة التي عرضُها السموات والأرض، والعاملون بها هم"احسنون"، وإحسانهم، هو عملهم بها،. كما:-
٧٨٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"الذين ينفقون في السراء والضراء" الآية:"والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، أي: وذلك الإحسان، وأنا أحب من عمل به. (١)
٧٨٤٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله. فنِعْمت والله يا ابن آدم، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلومٌ.
٧٨٤١- حدثني موسى بن عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا محرز أبو رجاء، عن الحسن قال: يقال يوم القيامة: ليقم من كان له على الله أجر. فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ هذه الآية:"والعافين عن الناس والله يحب المحسنين". (٢)
(٢) الأثر: ٧٨٤١-"موسى بن عبد الرحمن المسروقي" سلفت ترجمته برقم: ٣٣٤٥. و"محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي" مضت ترجمته أيضًا برقم: ٤٥٥٧. و"محرز""أبو رجاء" هو"محرز بن عبد الله الجزري"، مولى هشام بن عبد الملك. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان يدلس عن مكحول".
٧٨٤٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والكاظمين الغيظ" إلى"والله يحب المحسنين"، فـ"الكاظمين الغيظ" كقوله: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)
وأما عبد الجليل، الذي ذكر غير منسوب، إلا بأنه من أهل الشام -: فإنه مجهول. وعمه أشد جهالة منه.
وقد ذكره الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان، في ترجمة"عبد الجليل"، وقالا: "قال البخاري: لا يتابع عليه".
وترجمه ابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٣٣، وقال: "روى عنه داود بن قيس. وقال بعضهم: عن داود ابن قيس، عن زيد بن أسلم". أي كمثل رواية الطبري هنا.
وهذا الإسناد ضعيف، لجهالة اثنين من رواته. وقد نقله ابن كثير ٢: ٢٤٤، عن عبد الرزاق، به.
ونقله السيوطي ٢: ٧١ - ٧٢، ونسبه لعبد الرزاق، والطبري وابن المنذر.
وذكره في الجامع الصغير: ٨٩٩٧، ونسبه لابن أبي الدنيا في ذم الغضب؛ ولم ينسبه لغيره، فكان عجبًا!!
وفي معناه حديثان، رواهما أبو داود: ٤٧٧٧، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه. و: ٤٧٧٨، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء الصحابة، عن أبيه.
وقد روى أحمد في المسند: ٦١١٤، عن علي بن عاصم، عن يونس بن عبيد، أخبرنا الحسن، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ، يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى".
وهذا إسناد صحيح. ونقله ابن كثير ٢: ٢٤٤، من تفسير ابن مردويه. من طريق علي بن عاصم، عن يونس بن عبيد، به. ثم قال: "رواه ابن جرير. وكذا رواه ابن ماجه، عن بشر بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، به". فنسبه ابن كثير -في هذا الموضع- لرواية الطبري. ولم يقع إلينا فيه في هذا الموضع. فلا ندري: أرواه ابن جرير في موضع آخر، أم سقط هنا سهوًا من الناسخين؟ فلذلك أثبتناه في الشرح احتياطًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين، المنفقين في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة. وجميع هذه النعوت من صفة"المتقين"، الذين قال تعالى ذكره:"وجنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين"، كما:-
٧٨٤٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية:"الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، ثم قرأ:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" إلى"أجر العاملين"، فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد.
٧٨٤٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال: هذان ذنبان،"الفاحشة"، ذنب،"وظلموا أنفسهم" ذنب.
* * *
* * *
ومعنى"الفاحشة"، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذِن الله عز وجل فيه. وأصل"الفحش": القبح، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول:"إنه لفاحش الطول"، يراد به: قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد:"كلام فاحش"، وقيل للمتكلم به:"أفحش في كلامه"، إذا نطق بفُحش (١).
* * *
وقيل: إن"الفاحشة" في هذا الموضع، معنىٌّ بها الزنا.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٤٦- حدثنا العباس بن عبد العظيم قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن جابر:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، قال: زنى القوم وربّ الكعبة.
٧٨٤٧- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أما"الفاحشة"، فالزنا.
* * *
وقوله:"أو ظلموا أنفسهم"، يعني به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته، كما:-
٧٨٤٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قوله:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم.
* * *
* * *
وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصًا بتخفيفها ويسرها أُمَّتَنا، (١) مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها.
٧٨٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبى رباح: أنهم قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه:"اجدع أذنك"،"اجدع أنفك"،"افعل"! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" إلى قوله:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخير من ذلك"؟ فقرأ هؤلاء الآيات.
٧٨٥٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال، حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال: قال ابن مسعود: كانت
٧٨٥١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: لما نزلت:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه"، بكى إبليس فزعًا من هذه الآية.
٧٨٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، بكى.
٧٨٥٣- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال، سمعت علي بن ربيعة يحدِّث، عن رجل من فزارة يقال له أسماء -و: ابن أسماء-، عن علي قال: كنت إذا سمعتُ من رسول الله ﷺ شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [منه]، فحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- عن النبي ﷺ قال:"ما من عبد -قال شعبة: وأحسبه قال: مسلم- يذنب ذنبًا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [إلا غفر له] = وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتين الآيتين: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ). (٢)
(٢) الحديث: ٧٨٥٣- عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي: هو عثمان بن المغيرة مولى ثقيف. وسيأتي باسم أبيه في الحديث التالي لهذا. وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين وغيرهما.
علي بن ربيعة بن فضلة الوالبي الأسدي: تابعي ثقة، روى له الشيخان وأصحاب السنن. أسماء أو ابن أسماء؛ هكذا شك فيه شعبة. وغيره لم يشك فيه. وهو أسماء بن الحكم الفزاري، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا. وهو تابعي ثقة، وثقه العجلي وغيره. وترجمه ابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣٢٥، فلم يذكر فيه جرحًا.
وترجمه البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٥٥، وأشار إلى روايته هذا الحديث، ثم قال: "ولم يتابع عليه. وقد روى أصحاب النبي ﷺ بعضهم عن بعض، فلم يحلف بعضهم بعضًا". وهذا لا يقدح في صحة الحديث، كما قال الحافظ المزي.
والحديث رواه الطيالسي، عن شعبة، بهذا الإسناد. وهو أول حديث في مسنده المطبوع.
ورواه أحمد في المسند، برقم: ٤٨، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه أيضًا، برقم: ٤٧، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة.
ورواه أيضًا، برقم: ٥٦، عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عثمان بن أبي زرعة، عن علي بن ربيعة. و"عثمان بن أبي زرعة": هو عثمان بن المغيرة الثقفي. وكذلك رواه الترمذي ١: ٣١٣ - ٣١٤ (رقم: ٤٠٦ بشرحنا). عن قتيبة، عن أبي عوانة. وكذلك رواه أيضا في كتاب التفسير ٤: ٨٤، بهذا الإسناد.
وقال في الموضع الأول: "حديث على حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث عثمان بن المغيرة. وروى عنه شعبة وغير واحد، فرفعوه مثل حديث أبي عوانة. ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه، ولم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"! وقال نحو ذلك في الموضع الثاني. كأنه يريد تعليل المرفوع بالموقوف. وما هي بعلة. ولكنه وهم -رحمه الله- وهمًا شديدًا فيما نسب إلى مسعر وسفيان. وها هي ذي روايتهما عقب هذه الرواية، مرفوعة أيضًا. ولعل له عذرًا أن تكون روايتهما وقعت له موقوفة
والحديث من هذا الوجه رواه أحمد في المسند، برقم: ٢، عن وكيع، عن مسعر وسفيان، بهذا الإسناد، مرفوعًا أيضًا. فهو يرد على الترمذي ادعاءه أن سفيان ومسعرًا روياه موقوفًا.
وقد نقله ابن كثير ٢: ٢٤٦، عن رواية المسند هذه. ثم قال: "وهكذا رواه علي بن المديني، والحميدي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن، وابن حبان في صحيحه، والبزار، والدارقطني - من طرق، عن عثمان بن المغيرة، به".
وذكره السيوطي ٢: ٧٧، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ١: ٢٤١، مختصرًا، ونسبه لبعض من ذكرنا، ثم قال: "وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد، وذكر فيه الركعتين".
* * *
وأما قوله"ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فإنه كما بينا تأويله.
وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون:
٧٨٥٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أي إن أتوا فاحشة ="أو ظلموا أنفسهم" بمعصية،
سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري: قال أبو حاتم - فيما روى عنه ابنه ٢ / ١ / ٨٥: "هو في نفسه مستقيم، وبليته أنه يحدث عن أخيه عبد الله بن سعيد، وعبد الله بن سعيد ضعيف الحديث، ولا يحدث عن غيره. فلا أدري، منه أو من أخيه؟ ". وأخوه: هو عبد الله بن سعيد المقبري، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. والإسنادان السابقان كافيان كل الكفاية لصحة الحديث، دون هذا الإسناد الواهي.
* * *
وأما قوله:"ومن يغفر الذنوب إلا الله"، فإن اسم"الله" مرفوع ولا جحد قبله، وإنما يرفع ما بعد"إلا" بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل:"ما في الدار أحد إلا أخوك". (٢) فأما إذا قيل:"قام القوم إلا أباك"، فإن وجه الكلام في"الأب" النصب. و"مَنْ" بصلته في قوله:"ومن يغفر الذنوب إلا الله"، معرفة. فإن ذلك إنما جاء رفعًا، لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحدٌ = أو: ما يغفر الذنوب أحدٌ إلا الله. فرفع ما بعد"إلا" من [اسم] الله، (٣) على تأويل الكلام لا على لفظه.
* * *
وأما قوله:"ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون"؛ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل"الإصرار"، ومعنى هذه الكلمة.
فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم الله به.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٥٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون"، فإياكم والإصرار، فإنما هلك المصرُّون، الماضون قُدُمًا، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرَّمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموتُ وهم على ذلك.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٤.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "ما بعد إلا من الله"، والصواب زيادة ما بين القوسين.
٧٨٥٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أي: لم يقيموا على معصيتي، كفعل من أشرك بي، فيما عملوا به من كفرٍ بي. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٦٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ولم يصروا على ما فعلوا"، قال: إتيان العبد ذنبًا إصرارٌ، حتى يتوب.
٧٨٦١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولم يصروا على ما فعلوا"، قال: لم يواقعوا. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى"الإصرار"، السكوت على الذنب وترك الاستغفار.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٦٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أما"يصروا" فيسكتوا ولا يستغفروا.
* * *
(٢) في المخطوطة: "قال: لم يصروا"، لم يفعل غير إعادة لفظ الآية، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، كما سترى في ترجيح أبي جعفر بعد.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال:"ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
٧٨٦٣- حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن عثمان بن واقد، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
(٢) الحديث: ٧٨٦٣- الحسين بن يزيد السبيعي؛ مضى الكلام في: ٢٨٩٢ بالشك في نسبته"السبيعي". ولكن هكذا ثبتت هذه النسبة مرة أخرى في هذا الموضع. فلعله شيخ للطبري لم تصل إلينا معرفته. عبد الحميد الحماني - بكسر الحاء وتشديد الميم: هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني الكوفي، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأخرج له الشيخان. عثمان بن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أحمد: "لا أرى به بأسا".
أبو نصيرة -بضم النون وفتح الصاد المهملة- الواسطي: اسمه مسلم بن عبيد. وهو تابعي ثقة. والحديث ذكره ابن كثير ٢: ٢٤٨، من رواية أبي يعلى، من طريق عبد الحميد الحماني، بهذا الإسناد، ووقع فيه تحريف في كنية"أبي نصيرة" واسمه ونسبته. وهو خطأ مطبعي فيما أرجح.
وقال ابن كثير - بعد ذكره: "ورواه أبو داود، والترمذي، والبزار في مسنده، من حديث عثمان بن واقد، وقد وثقه يحيى بن معين - به. وشيخه أبو نصيرة الواسطى، واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد، وابن حبان. وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر. ولكن جهالة مثله لا تضر، لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن".
وذكره السيوطي ٢: ٧٨، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب.
* * *
واختلف أهل التأويل، في تأويل قوله:"وهم يعلمون".
فقال بعضهم: معناه: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٦٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وهم يعلمون"، فيعلمون أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا فلم يستغفروا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله. (١)
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٦٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وهم يعلمون"، قال: يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب.
* * *
(٢) الأثر: ٧٨٦٥- سيرة ابن هشام ٣: ١١٦، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٨٥٩ وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بما حرمت عليهم"، وأثبت ما في ابن هشام، فهو الصواب.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السموات والأرض، من المتقين، ووصفهم بما وصفهم به. ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم ="جزاؤهم"، يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصَفهم تعالى ذكره أنهم عملوها، (١) = "مغفرة من ربهم"، يقول: عفوٌ لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها ="جنات"، وهي البساتين (٢) = "تجري من تحتها الأنهار"، يقول: تجري خلال أشجارها الأنهار وفي أسافلها، جزاء لهم على صالح أعمالهم (٣) = "خالدين فيها" يعني: دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها ="ونعم أجر العاملين"، يعني: ونعم جزاء العاملين لله، الجنات التي وصفها، كما:-
٧٨٦٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين"، أي ثواب المطيعين. (٤)
* * *
(٢) انظر تفسير: "الجنات" فيما سلف ١: ٣٨٤ / ٥: ٥٣٥، ٥٤٢.
(٣) انظر تفسير: "تجري من تحتها الأنهار" فيما سلف ٥: ٥٤٢.
(٤) الأثر: ٧٨٦٦- سيرة ابن هشام ٣: ١١٦، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٨٦٥.
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"قد خلت من قبلكم سنن"، مضت وسلفت منى فيمن كان قبلكم، (١) يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط، وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم (٢) = "سنن"، يعني: مثُلات سيرَ بها فيهم وفيمن كذَّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهلَ التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجَّلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، وأنزلتُ بساحتهم نِقَمي، (٣) فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرًا ="فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانَ عاقبه المكذبين"، يقول: فسيروا - أيها الظانّون، أنّ إدالتي مَنْ أدلت من أهل الشرك يوم أحُد على محمد وأصحابه، لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفرَ برسلي، وخالف أمري - في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه غِبُّ خلافهم أمري، (٤) وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أنّ إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم.
(٢) "سلاف" على وزن"جهال" جمع"سلف"، وجمعه أيضًا"أسلاف"، والسلاف: المتقدمون من الآباء الذين مضوا.
(٣) في المطبوعة: "نقمتي"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "عن خلافهم أمري"، وهي في المخطوطة"عب" غير منقوطة، فلم يحسن الناشر قراءتها، وغب الأمر: عاقبته وآخرته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٦٧- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، فقال: ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقومَ صالح، والأممَ التي عذَّب الله عز وجل؟
٧٨٦٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن"، يقول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشرّ.
٧٨٦٩- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قد خلت من قبلكم سنن"، في المؤمنين والكفار.
٧٨٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم = يعني بالمسلمين يوم أحد = والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفًا لهم فيما صنعوا، وما هو صانع بهم:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: (١) عادٍ وثمودَ وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الأرض تروْا مثُلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك
٧٨٧١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه المكذبين"، يقول: متَّعهم في الدنيا قليلا ثم صيرَّهم إلى النار.
* * *
قال أبو جعفر: وأما"السنن" فإنها جمع"سنَّة"،"والسُّنَّة"، هي المثالُ المتبع، والإمام المؤتمُّ به. يقال منه:"سنّ فلان فينا سُنة حسنة، وسنّ سُنة سيئة"، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ | وَلِكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا (٦) |
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "إن أمكنت لهم"، والصواب من ابن هشام. والإملاء: الإمهال والاستدراج.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "عن عدوهم وعدوي"، والصواب من ابن هشام، وهو مقتضى سياق الضمائر في عبارته.
(٤) الإدالة الغلبة. يقال: "أديل لنا على عدونا"، أي نصرنا عليهم، و"أدلني على فلان"، أي: انصرني عليه. والدولة (بضم الدال، وبفتحها وسكون الواو) : الانتقال من حال إلى حال في الحرب وغيرها. وانظر ما سيأتي في تفسير ذلك بعد قليل ص: ٢٣٩.
(٥) الأثر: ٧٨٧٠- سيرة ابن هشام ٣: ١١٦، وهو من تمام الآثار التي آخرها: ٧٨٦٦.
(٦) من معلقته البارعة، يذكر قومه وفضلهم، والبيت متعلق بقوله قبل: مِنْ مَعْشَرٍ.....................................................................
إِنّا إِذَا التَقَتِ المَجَامِعُ لم يَزَلْ | مِنَّا لِزَازُ عَظِيمَةٍ جَشّامُهَا |
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِى العَشِيرَةَ حَقّهَا | ومُغَذْمِرٌ لِحقوقِها هَضّامُها |
فَضْلا وَذُو كَرَمٍ يعِين عَلَى النَّدَى | سَمْحٌ كَسُوبُ رَغَائِبٍ غَنّامُهَا |
وَإنَّ الألَى بالطَفِّ مِنْ آل هَاشِم | تَآسَوْا فَسَنُّوا لِلكِرَامِ التَّآسِيَا (٢) |
وقال ابن زيد في ذلك ما:-
٧٨٧٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن"، قال: أمثالٌ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بـ"هذا".
فقال بعضهم: عنى بقوله"هذا"، القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٧٣- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا
وَقَدْ يَحْرِمُ الله الفَتَى وَهْوَ عَاقِلٌ | وَيُعْطِى الفَتَى مَالا وَلَيْس له عَقْلُ |
(٢) تاريخ الطبري ٧: ١٨٤، وأنساب الأشراف ٥: ٣٣٩، وأمالي الشجري ١: ١٣١، واللسان (أسى)، وغيرها. وهذا البيت، أنشده مصعب بن الزبير قبل مقتله، فعلم الناس أن لا يريم حتى يقتل. و"الطف": أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها كان مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وقوله: "تآسوا"، صار بعضهم أسوة لبعض في الصبر على المصير إلى الموت بلا رهبة ولا فرق.
٧٨٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة. قوله:"هذا بيان للناس"، وهو هذا القرآن، جعله الله بيانًا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خصوصًا.
٧٨٧٥- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال في قوله:"هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"، خاصةً.
٧٨٧٦- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج في قوله:"هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"، خاصةً.
* * *
وقال آخرون: إنما أشير بقوله"هذا"، إلى قوله:"قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظرُوا كيف كان عاقبه المكذبين"، ثم قال: هذا الذي عرَّفتكم، يا معشر أصحاب محمد، بيان للناس.
*ذكر من قال ذلك:
٧٨٧٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: قوله:"هذا"، إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين، وتعريفهم حدوده، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله:"هذا"، إشارة إلى حاضر: إما مرئيّ وإما مسموع، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة.
فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحتُ لكم وعرفتكموه، بيانٌ للناس = يعني بـ"البيان"، الشرح والتفسير، كما:-
٧٨٧٩- حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي:"هذا بيان للناس"، قال: من العَمى.
٧٨٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الشعبي، مثله.
* * *
وأما قوله:"وهدى وموعظة"، فإنه يعني بـ"الهدى"، الدلالةَ على سبيل الحق ومنهج الدين = وبـ"الموعظة"، التذكرة للصواب والرشاد، (٢) كما:-
٧٨٨١- حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي:"وهدى"، قال: من الضلالة ="وموعظة"، من الجهل.
٧٨٨٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بيان، عن الشعبي مثله.
٧٨٨٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"للمتقين"، أي: لمن أطاعني وعرَف أمري. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير: "الهدى" فيما سلف، من فهارس اللغة = وتفسير"الموعظة"، فيما سلف ٢: ١٨٠ / ٦: ١٤.
(٣) الأثر: ٧٨٨٣- سيرة ابن هشام ٣: ١١٦، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٨٧٨، والظاهر أنه قد سقط من نص ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في تفسير هذه الآية، وهو قوله قبل الذي رواه أبو جعفر: أي: "نور وأدب للمتقين". أما ما رواه أبو جعفر فهو تفسير قوله: "للمتقين"، وهو في هذا الموضع يفسر"الهدى"، و"الموعظة".
قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تعزيةٌ لأصحاب رسول الله ﷺ على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد.
قال:"ولا تهنوا ولا تحزنوا"، يا أصحاب محمد، يعني: ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد، من القتل والقروح - عن جهاد عدوكم وحربهم.
* * *
=من قول القائل:"وهنَ فلان في هذا الأمر فهو يهنُ وَهْنًا".
* * *
="ولا تحزنوا"، ولا تأسوْا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم"أنتم الأعلون"، يعني: الظاهرُون عليهم، ولكم العُقبَى في الظفر والنُّصرة عليهم ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدِّقي نبيي محمد ﷺ فيما يَعدكم، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم. كما:-
٧٨٨٤- حدثنا المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري قال: كثر في أصحاب محمد ﷺ القتلُ والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأسُ، فأنزل الله عز وجل القرآن، فآسَى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قومًا من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنم مؤمنين" إلى قوله:"لبرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم".
٧٨٨٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، يعزّي أصحاب محمد ﷺ كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوَهن في طلب عدوهم في سبيل الله.
٧٨٨٧- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا.
٧٨٨٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٨٨٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"ولا تهنوا ولا تحزنوا"، يقول: ولا تضعفوا.
٧٨٩٠- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تهنوا"، قال ابن جريج: ولا تضعفوا في أمر عدوكم، ="ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"، قال: انهزم أصحاب رسول الله ﷺ في الشِّعب، فقالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضًا، وتحدَّثوا أن رسول الله ﷺ قد قتل، فكانوا في همّ وحزَن. فبينما هم كذلك، إذ علا خالد بن الوليد الجبلَ بخيل المشركين فوقهم، وهم أسفلُ في الشِّعب. فلما رأوا النبيّ ﷺ فرحوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر"!. قال: وثاب نفرٌ من المسلمين رُماة، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبلَ. فذلك قوله:"وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
٧٨٩١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا تهنوا"، أي: لا تضعفوا ="ولا تحزنوا"، ولا تأسوا على ما أصابكم، (٢) ="وأنتم الأعلون"،
(٢) في سيرة ابن هشام: "ولا تبتئسوا".
٧٨٩٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا يعلُون علينا". فأنزل الله عز وجل:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)، كلاهما بفتح"القاف"، بمعنى: إن يمسسكم القتل والجراح، يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح = قتلٌ وجراح = مثله.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ). [كلاهما بضم القاف]. (٢)
* * *
(٢) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق كلامه. هذا، وظاهر من ترجيح أبي جعفر بعد، أن في الكلام سقطًا من الناسخ، وذلك تفسير"القرح" بضم القاف، ولعله كان قد ذكر هنا ما قاله الفراء في معاني القرآن ١: ٢٣٤ وذلك قوله: "وقد قرأ أصحابُ عبد الله"قُرْح" وكأن القُرْح: ألم الجراحات، وكأن القَرْحَ الجراحاتُ بأعيانها".
وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن"القَرح" و"القُرح" لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. (١)
* * *
*ذكر من قال: إنّ"القَرح"، الجراح والقتل.
٧٨٩٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرحٌ مثله"، قال: جراحٌ وقتلٌ.
٧٨٩٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٧٨٩٥- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله"، قال: إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر.
٧٨٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله ﷺ يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثلُ الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة.
٧٨٩٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح هي الجراحات.
٧٨٩٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن يمسسكم قرح" أي: جراح ="فقد مس القوم قرح مثله"، أي: جراح مثلها. (١)
٧٩٠٠- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم = يعني يوم أحد = قال عكرمة: وفيهم أنزلت:"إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وفيهم أنزلت: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [سورة النساء: ١٠٤].
* * *
وأما تأويل قوله:"إن يمسسكم قرحٌ"، فإنه: إن يصبكم،. (٢) كما:-
٧٩٠١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن يمسسكم"، إن يصبكم.
* * *
(٢) انظر تفسير: "المس" فيما سلف ٢: ٢٧٤ / ٥: ١١٨ / ٧: ١٥٥.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [بقوله] (١) "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أيام بدر وأحُد.
* * *
ويعني بقوله:"نداولها بين الناس"، نجعلها دُوَلا بين الناس مصرَّفة. = ويعني بـ"الناس"، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد، فقتلوا منهم سبعين، سوى من جرحوا منهم.
* * *
يقال منه:"أدال الله فلانًا من فلان، فهو يُديله منه إدالة"، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المُدَال منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٩٠٢- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال جعل الله الأيام دولا أدال الكفار يوم أحُد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٧٩٠٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب.
٧٩٠٤- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فأظهر الله عز وجل
٧٩٠٥- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، يومًا لكم، ويومًا عليكم.
٧٩٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"نداولها بين الناس"، قال: أدال المشركين على النبي ﷺ يوم أحد.
٧٩٠٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فإنه كان يوم أحُد بيوم بدر، قُتل المؤمنون يومَ أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله ﷺ يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم.
٧٩٠٨- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصابَ، صعد النبي ﷺ الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد! يا محمد! ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحربُ سجال: يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: أجيبوه، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم! فقال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدرٌ الصغرى = قال عكرمة: وفيهم أنزلت:"وتلك الأيام نداولها بين الناس".
٧٩٠٩- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك،
٧٩١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أي نصرِّفها للناس، للبلاء والتمحيص. (١)
٧٩١١- حدثني إبراهيم بن عبد الله قال، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال: يعني الأمراء. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء = نداولها بين الناس.
ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان قوله:"ليعلم" متصلا بما قبله، وكان"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت"الواو" فيه، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرًا مطلوبًا، واللام التي في قوله:"وليعلم"، به متعلقة. (٣)
* * *
(٢) الأثر: ٧٩١١-"إبراهيم بن عبد الله"، كثير، والذي نصوا على أن الطبري روى عنه، هو: "إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة" توفى سنة ٢٦٥. مترجم في التهذيب."وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي"، روى عن مالك وحماد بن زيد. وروى عنه البخاري، مات سنة ٢٢٨. مترجم في التهذيب. و"محمد" هو ابن سيرين.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة"اللام" بغير واو، والصواب إثباتها. وفي المطبوعة: "متعلقة به"، وأثبت ما في المخطوطة.
قيل: إن ذلك إنما جاز مع"الذين"، لأن في"الذين" تأويل"مَن" و"أيّ"، وكذلك جائز مثله في"الألف واللام"، كما قال تعالى ذكره: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [سورة العنكبوت: ٣]، (١) لأن في"الألف واللام" من تأويل"أيّ"، و"مَن"، مثل الذي في"الذي". ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على"أيّ"، جاز، كما يقال:"سألت لأعلم عبد الله مِنْ عمرو"، ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم، أيها القوم، من الذين نافقوا منكم، نداول بين الناس = فاستغنى بقوله:"وليعلم الله الذين آمنوا منكم"، عن ذكر قوله:"من الذين نافقوا"، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله:"الذين آمنوا" تأويل"أيّ" على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) [سورة الكهف: ١٢] (٣) غير أن"الألف واللام"، و"الذي" و"من" إذا وضعت مع العَلم موضع"أيّ"، نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل:"وليعلمَنَّ الكاذبين"، فأما"أيّ" فإنها ترفع. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويتخذ منكم شهداء"، فإنه يعني:"وليعلم
(٢) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٤، ٢٣٥.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "ليعلم" بالياء، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة.
(٤) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٤، ٢٣٥.
* * *
="والشهداء" جمع"شهيد"، (١) كما:-
٧٩١٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، أي: ليميِّز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرَم من أهل الإيمان بالشهادة. (٢)
٧٩١٣- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال: فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم:"ربنا أرنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونُبليك فيه خيرًا، ونلتمس فيه الشهادة"! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
٧٩١٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوِّهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
٧٩١٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال: قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
٧٩١٦- حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، كان المسلمون يسألون ربهم أن يُريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين
(٢) الأثر: ٧٩١٢- سيرة ابن هشام ٣: ١١٧، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩١٠.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم، ، كما:-
٧٩١٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله لا يحب الظالمين"، أي: المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرَّة على المعصية. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٧٩١٧- سيرة ابن هشام ٣: ١١٧، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩١٢.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليمحِّصَ الله الذين آمنوا"، وليختبرَ الله الذين صدَّقوا الله ورسوله، فيبتليهم بإدالة المشركين منهم، حتى يتبين المؤمن منهم المخلصَ الصحيحَ الإيمان، من المنافق. كما:-
٧٩١٨- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: ليبتلي. (١)
٧٩٢٠- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: ليمحص الله المؤمن حتى يصدِّق.
٧٩٢١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وليمحص الله الذين آمنوا"، يقول: يبتلي المؤمنين.
٧٩٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: يبتليهم.
٧٩٢٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فكان تمحيصًا للمؤمنين، ومحقًا للكافرين.
٧٩٢٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،"وليمحص الله الذين آمنوا"، أي يختبر الذين آمنوا، حتى يخلِّصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صَبْرهم ويقينُهم. (١)
٧٩٢٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، قال: يمحق من مُحق في الدنيا، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار.
* * *
وأما قوله:"ويمحق الكافرين"، فإنه يعني به: أنه ينقُصهم ويفنيهم.
* * *
يقال منه:"محقَ فلان هذا الطعام"، إذا نقصه أو أفناه،"يمحقه محقًا"، ومنه قيل لمحاق القمر:"مُحاق"، وذلك نقصانه وفناؤه، (٢) كما:-
٧٩٢٦- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) انظر تفسير"محق" فيما سلف ٦: ١٥. و"المحاق" بضم الميم وكسرها.
٧٩٢٧- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويمحق الكافرين"، قال: يمحق الكافر حتى يكذِّبه.
٧٩٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ويمحق الكافرين"، أي: يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أم حسبتم"، يا معشر أصحاب محمد، وظننتم ="أن تدخلوا الجنة"، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده ="ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم"، يقول: ولما يتبيَّن لعبادي المؤمنين، المجاهدُ منكم في سبيل الله، على ما أمره به.
* * *
وقد بينت معنى قوله:"ولما يعلم الله"،"وليعلم الله"، وما أشبه ذلك، بأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٢).
* * *
وقوله:"ويعلم الصابرين"، يعني: الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه. كما:-
(٢) انظر تفسير"لنعلم فيما سلف ٣: ١٥٨ - ١٦٢.
* * *
ونصب"ويعلم الصابرين"، على الصرف. و"الصرف"، أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف، لأنه مصروف عن معنى الأول، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام. (٢) وذلك كقولهم:"لا يسعني شيء ويضيقَ عنك"، لأن"لا" التي مع"يسعني" لا يحسن إعادتها مع قوله:"ويضيقَ عنك"، فلذلك نصب. (٣).
والقرأة في هذا الحرف على النصب.
* * *
وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ: (وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ)، فيكسر"الميم" من"يعلم"، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله:"ولما يعلم الله".
* * *
(٢) انظر"الصرف" فيما سلف ١: ٥٦٩، وتعليق: ١ / ٣: ٥٥٢، تعليق: ١.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٥، ٢٣٦.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد كنتم تمنون الموت"، ولقد كنتم، يا معشر أصحاب محمد ="تمنون الموت"، يعني أسبابَ الموت، وذلك: القتالُ ="فقد رأيتموه"، فقد رأيتم ما كنتم تمنونه - و"الهاء" في قوله"رأيتموه" عائدة على"الموت"، والمعنىُّ: [القتال] = (١) "وأنتم تنظرون"، يعني: قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر، أي بقرب منكم.
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل:"وأنتم تنظرون"، على وجه التوكيد للكلام، كما يقال:"رأيته عيانًا" و"رأيته بعيني، وسمعته بأذني".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قيل:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، لأن قومًا من أصحاب رسول الله ﷺ ممن لم يشهد بدرًا، كانوا يتمنون قبل أحد يومًا مثل يوم بدر، فيُبْلُوا الله من أنفسهم خيرًا، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر. فلما كان يوم أحد فرّ بعضهم، وصبرَ بعضهم حتى أوفَى بما كان عاهد الله قبل ذلك، فعاتب الله من فرّ منهم فقال:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، الآية، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم.
*ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك:
٧٩٣٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، قال: غاب رجال عن بدر، فكانوا
٧٩٣١- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه - إلا أنه قال:"فعاتبهم الله على ذلك"، ولم يشكّ.
٧٩٣٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أناسٌ من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر، فكان يتمنون أن يرزقوا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أحُد، فقال الله عز وجل كما تسمعون:"ولقد كنتم تمنون الموت"، حتى بلغ"الشاكرين".
٧٩٣٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، قال: كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم، فلما لقوهم يوم أحد ولّوا.
٧٩٣٤- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن أناسًا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى كان بناحية المدينة يوم أحد، فأنزل الله عز وجل:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، الآية.
٧٩٣٥- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف،
٧٩٣٦- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: كان ناسٌ من أصحاب النبي ﷺ لم يشهدوا بدرًا، فلما رأوا فضيلة أهل بدر قالوا:"اللهم إنا نسألك أن ترينا يومًا كيوم بدر نبليك فيه خيرًا"! فرأوا أحدًا، فقال لهم:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون".
٧٩٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أي: لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم = يعني الذين استنهضوا رسول الله ﷺ على خروجه بهم إلى عدوهم، (١) لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به. يقول:"فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أي: الموتَ بالسيوف في أيدي الرجال، قد خلَّى بينكم وبينهم، (٢) وأنتم تنظرون إليهم، فصددتُم عنهم. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "قد حل بينكم وبينهم"، وهي في المخطوطة غير بينة، والصواب ما جاء في سيرة ابن هشام، وقد أثبته.
(٣) الأثر: ٧٩٣٧- سيرة ابن هشام ٣: ١١٧، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٢٩. هذا وفي السيرة خطأ بين، تصحيحه في رواية الطبري، فليراجع. وقد جاء في السيرة."ثم صدهم عنكم" مكان"فصددتم عنهم"، وهما معنيان مختلفان، ولكنها الرواية، لا يمكن أن أرجح فيها بغير مرجح، فكلاهما صواب.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه، داعيًا إلى الله وإلى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه. (١) يقول جل ثناؤه: فمحمد ﷺ إنما هو فيما الله به صانعٌ من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله، كسائر رسله إلى خلقه الذين مضوْا قبله، (٢) وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم.
ثم قال لأصحاب محمد، معاتبَهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحُد:"إنّ محمدًا قتل"، ومُقبِّحًا إليهم انصرافَ من انصرفَ منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم: أفائن مات محمد، أيها القوم، لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدو = (٣) "انقلبتم على أعقابكم"، = يعني: ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدًا بالدعاء إليه ورجعتم عنه كفارًا بالله بعد الإيمان به، وبعد ما قد وَضَحت لكم صحةُ ما دعاكم محمد إليه، وحقيقةُ ما جاءكم به من عند ربه ="ومن ينقلب على عقبيه"، يعني بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرًا بعد إيمانه، (٤)
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "كسائر مدة رسله إلى خلقه" بزيادة"مدة"، وهي مفسدة للكلام وكأنها سبق قلم من الناسخ، فلذلك أسقطتها.
(٣) في المطبوعة: "أو قتله عدوكم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) انظر تفسير"انقلب على عقبيه" فيما سلف ٣: ١٦٣.
٧٩٣٨- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، (٢) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه. فكان عليّ رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين أحِباء الله، وكان أشكرَهم وأحبَّهم إلى الله.
٧٩٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر قال: إن أبا بكر أمينُ الشاكرين. وتلا هذه الآية:"وسيجزي الله الشاكرين". (٣)
٧٩٤٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وسيجزي الله الشاكرين"، أي: من أطاعه وعمل بأمره. (٤)
* * *
وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله ﷺ فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه.
(٢) في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ والصواب من المخطوطة. وهو: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. وقد أكثر أبو جعفر سياق روايته في تاريخه.
(٣) الأثر: ٧٩٣٩-"العلاء بن بدر"، هو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي"، نسب إلى جده، أرسل عن علي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(٤) الأثر: ٧٩٤٠- سيرة ابن هشام ٣: ١١٨، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٣٧.
٧٩٤١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" إلى قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، ذاكم يوم أحُد، حين أصابهم القَرْح والقتل، ثم تناعوا نبي الله ﷺ تَفِئة ذلك، (١) فقال أناسٌ:"لو كان نبيًّا ما قتل"! وقال أناس من عِليْة أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم:"قاتلوا على ما قاتل عليه محمدٌ نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به"! فقال الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول: إن مات نبيكم أو قُتل، ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم.
٧٩٤٢- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = وزاد فيه، قال الربيع: وذكر لنا والله أعلم، أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، (٢) فقال: يا فلان، أشعرت أنّ محمدًا قد قتل؟ (٣) فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول: ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم.
(٢) تشحط القتيل في دمه: تخبط فيه واضطرب وتمرغ.
(٣) قوله: "أشعرت"، أي: أعلمت.
= ثم شدّ الزبيرُ بن العوام والمقدادُ بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد، وهو على خيل المشركين، كرّ. (٣) فرمته الرماة فانقمع. (٤) فلما نظرَ الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادرُوا الغنيمة، فقال بعضهم:"لا نترك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله ثم حمل، فقتل الرماة وحَمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركونَ أنّ خيلهم تقاتل، تنادوْا، (٥) فشدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (٦).
=فأتى ابن قميئة الحارثي - أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة (٧) - فرمى
(٢) بين هذه الفقرة والتي تليها، كلام قد اختصره أبو جعفر، وأثبته في روايته في التاريخ.
(٣) في المطبوعة مكان"كر""قدم" بمعنى أقدم. وهو تصرف كالمقبول من الناشر الأول، ولكنه في المخطوطة"لر" وعلى الراء شدة، وصواب قراءتها ما أثبت."كر على العدو" رجع وعطف ثم حمل عليه. وأما رواية التاريخ، ففيها مكان"كر""حمل"، وهما سواء في المعنى، والأولى أجودهما. وانظر ما سيأتي في التعليق على الأثر: ٨٠٠٤.
(٤) انقمع: رجع وارتد وتداخل فرقًا وخوفًا.
(٥) في المطبوعة: "تبادروا"، وهو خطأ غث، والصواب من المخطوطة والتاريخ، ومن الأثر الآتي: ٨٠٠٤. وقوله: "تنادوا" تداعوا ونادى بعضهم بعضًا لكي يؤوبوا إلى المعرك.
(٦) إلى هذا الموضع من الأثر، انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه ٣: ١٤، ١٥، وسيأتي تخريج بقية الأثر كله في آخره. وانظر ما سيأتي رقم: ٨٠٠٤.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "بني الحارث بن عبد مناف"، وهو خطأ محض. والصواب من التاريخ ومن نسب القوم.
= وأقبل أبي بن خلف الجمحي - وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتله (٢) - فقال: يا كذاب، أين تفرّ؟ فحمل عليه، فطعنه النبي ﷺ في جيب الدرع، (٣) فجُرح جَرحًا خفيفًا، فوقع يخور خوار الثور. (٤) فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة!، [فما يُجزعك] ؟ (٥) قال: أليس قال:"لأقتلنك"؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! ولم يلبث إلا يومًا وبعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
= وفشا في الناس أنّ رسول الله ﷺ قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة:"ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمَنَةً من أبي سفيان!! يا قوم، إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم". (٦) قال أنس بن النضر:"يا قوم، إن كان محمد قد قُتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنى أعتذر إليك مما
(٢) في المطبوعة: "بل أقتلك"، غير الناشر ما في المخطوطة، وهو موافق لما في التاريخ، ظنًا منه أن أبي بن خلف، قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك كذلك، بل قاله في مغيبه لا في مشهده. فلما بلغ ذلك رسول الله قال: بل أنا أقتله.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "جنب الدرع"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ. وجيب القميص والدرع: الموضع الذي يقور منه ويقطع، لكي يلبس من ناحيته.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "يخور خوران الثور"، وهو خطأ صرف، والصواب من التاريخ. خار الثور يخور خوارًا: صاح وصوت أشد صوت. وليس في مصادره"خوران".
(٥) الزيادة بين القوسين من التاريخ.
(٦) الأمنة (بفتح الألف والميم والنون) : الأمان.
= وانطلق رسول الله ﷺ يدعو الناس، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه، وضع رجُل سهمًا في قوسه فأراد أن يرميه، فقال:"أنا رسول الله"! ففرحوا حين وجدوا رسول الله ﷺ حيًّا، وفرحَ رسول الله ﷺ حين رأى أنّ في أصحابه من يمتنع به. (١) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. (٢)
= فقال الله عز وجل للذين قالوا: إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين". (٣)
٧٩٤٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن ينقلب على عقبيه"، قال: يرتدّ.
٧٩٤٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه = وحدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه =: أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل! فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلَّغ! فقاتلوا عن دينكم.
٧٩٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ويذكرون أصحابه"، والصواب من التاريخ.
(٣) الأثر: ٧٩٤٣- صدره في التاريخ ٣: ١٤، ١٥ / ثم سائره فيه ٣: ٢٠ / ثم انظر رقم: ٨٠٠٤.
٧٩٤٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال: نادى منادٍ يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:"ألا إنّ محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى دينكم الأول"! فأنزل الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية.
٧٩٤٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: القى في أفواه المسلمين يومَ أحد أن النبي ﷺ قد قتل، فنزلت هذه الآية:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" الآية.
٧٩٤٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله ﷺ اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة، والناس يفرُّون، ورجل قائم على الطريق يسألهم:"ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم، فيقولون:"والله ما ندري ما فعل"! فقال:"والذي نفسي بيده، لئن كان النبي ﷺ قُتل، لنعطينَّهم بأيدينا، إنهم لعشائرنا وإخواننا"! وقالوا:"إن محمدًا إن كان حيًّا لم يهزم، ولكنه قُتل"! فترخَّصوا في الفرار حينئذ. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية كلها.
(٢) الأثر: ٧٩٤٦- سيرة ابن هشام ٣: ٨٨، وتاريخ الطبري ٣: ١٩.
٧٩٥١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، قال: ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين: فسوف يموت، أو يقتل.
٧٩٥٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، إلى قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، أي: لقول الناس:"قتل محمد"، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم = أي: أفائن مات نبيكم أو قتل، رجعتم عن دينكم كفارًا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم وكتابَ الله، وما قد خلف نبيُّه من دينه معكم وعندكم، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميتٌ ومفارقكم؟ ="ومن ينقلب على عقبيه"، أي: يرجع عن دينه ="فلن يضر الله شيئا"، أي: لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه. (١)
٧٩٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال: أهل المرض والارتياب والنفاق، حين فرّ الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"قد قتل محمد، فألحقوا بدينكم الأول"! فنزلت هذه الآية.
* * *
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدْلِجِ اللَّيلَ لا يَزَلْ | أَمَامَك بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِي سَائِر (٢) |
وقد كان بعض القرأة يختار في قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ٦٩، ٢٣٦، والمعاني الكبير: ٨٠٥، والخزانة ٤: ٤٥٠، وسيأتي في التفسير ١٣: ٦٩ (بولاق)، ورواه ابن قتيبة في المعاني الكبير: "عائر" مكان"سائر" وقال: "أي بيت هجاء سائر". وذلك من قولهم: "عار الفرس"، إذا أفلت وذهب على وجهه، وذهب وجاء مترددًا. ويقال: "قصيدة عائرة"، أي سائرة في كل وجه. وكان في المطبوعة هنا"ساتر" وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومن الموضع الآخر من التفسير، ومن المراجع.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة"وكيف تتقون..."، وهو خطأ في التلاوة.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٦.
وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له، وأذن له بالموت، فحينئذ يموت. فأما قبل ذلك، فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال، كما:-
٧٩٥٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا"، أي: أن لمحمد أجلا هو بالغه، إذا أذن الله له في ذلك كان. (٥)
* * *
(٢) في المطبوعة"باجتماع القراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "إذا كان دالا"، والصواب"إذ" كما أثبتها.
(٤) كأنه يعني ما سيأتي في تفسيره ١٣: ٦٩ (بولاق)، فإذا وجدت بعد ذلك مكانًا آخر غيره أشرت إليه.
(٥) الأثر: ٧٩٥٤- سيرة ابن هشام ٣: ١١٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٤٠.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله:"كتابًا مؤجلا".
فقال بعض نحويي البصرة: هو توكيد، ونصبه على:"كتب الله كتابًا مؤجلا". قال: وكذلك كل شيء في القرآن من قوله: (حَقًّا) إنما هو: أحِقُّ ذلك حقًّا". وكذلك: (وَعَدَ اللَّهُ) (ورَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ)، (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (وكِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، (٢) إنما هو: صَنَعَ الله هكذا صنعًا. فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا، فإنه كثيرٌ.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله"، معناه: كتب الله آجالَ النفوس، ثم قيل:"كتابًا مؤجلا"، فأخرج قوله:"كتابًا مؤجلا"، نصبًا من المعنى الذي في الكلام، إذ كان قوله:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله"، قد أدَّى عن معنى:"كتب"، (٣) قال: وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك، فهو على هذا النحو.
* * *
وقال آخرون منهم: قول القائل:"زيد قائم حقًّا"، بمعنى:"أقول زيد قائم حقًّا"، لأن كل كلام"قول"، فأدى المقول عن"القول"، ثم خرج ما بعده منه، كما تقول:"أقول قولا حقًّا"، وكذلك"ظنًّا" و"يقينًا" وكذلك:"وعدَ الله"، وما أشبهه.
* * *
(٢) هذه مواضع الآيات من كتاب الله على الترتيب: [سورة النساء: ١٢٢ / سورة يونس: ٤ / سورة لقمان: ٩] / [سورة الكهف: ٨٢ / سورة القصص: ٤٦ / سورة الدخان: ٦] / [سورة النمل: ٨٨] / [سورة النساء: ٢٤].
(٣) في المطبوعة: "عن معناه كتب"، وهو كلام مختل، والصواب من المخطوطة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: من يرد منكم، أيها المؤمنون، بعمله جزاءً منه بعضَ أعراض الدنيا، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده ="نؤته منها"، يقول: نعطه منها، يعني من الدنيا، يعني أنه يعطيه منها ما قُسم له فيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة ="ومن يرد ثوابَ الآخرة"، يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاءً منه ثواب الآخرة، يعني: ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة ="نؤته منها"، يقول: نعطه منها، يعني من الآخرة. والمعنى: من كرامة ألله التي خصَّ بها أهلَ طاعته في الآخرة. فخرج الكلامُ على الدنيا والآخرة، والمعنىُّ ما فيهما. كما:-
٧٩٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها"، أي: فمن كان منكم يريد الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة، نؤته ما قسم له منها من رزق، ولا حظ له في
* * *
وأما قوله:"وسنجزي الشاكرين"، يقول: وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه = بطاعته إياي، وانتهائه إلى أمري، وتجنُّبه محارمي = في الآخرة مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي.
وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
٧٩٥٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وسنجزي الشاكرين"، أي: ذلك جزاء الشاكرين، يعني بذلك، إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة، مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم: (وَكَأَيِّنْ)، بهمز"الألف" وتشديد"الياء".
* * *
وقرأه آخرون بمد"الألف" وتخفيف"الياء"
* * *
وهما قراءتان مشهورتان في قرأة المسلمين، ولغتان معروفتان، لا اختلاف في معناهما، فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيبٌ. لاتفاق معنى ذلك، وشهرتهما في كلام العرب. ومعناه: وكم من نبي.
* * *
(٢) الأثر: ٧٩٥٦- ليس في سيرة ابن هشام بنصه.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"قتل معه ربيون". (١)
فقرأ ذلك جماعة من قرأة الحجاز والبصرة: (قُتِلَ)، بضم القاف.
* * *
وقرأه جماعة أخر بفتح"القاف" و"بالألف". (٢) وهي قراءة جماعة من قرأة الحجاز والكوفة.
* * *
قال أبو جعفر: فأما من قرأ (قَاتَلَ)، فإنه اختار ذلك، لأنه قال: لو قُتلوا لم يكن لقوله:"فما وهنوا"، وجه معروف. لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يَهِنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا.
وأما الذين قرأوا ذلك: (قُتِلَ)، فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبيَّ وبعضَ من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقى من الربيين ممن لم يقتل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بضم"القاف": (" قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ ")، لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها = من قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) (٣) الذين انهزموا يوم أحُد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح:"إن محمدًا قد قتل". فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال فقال: أفائن مات محمد أو قتل، أيها المؤمنون، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم، وقال لهم: هلا فعلتم كما كان
(٢) في المطبوعة: "جماعة أخرى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) السياق: إنما عاتب بهذه الآية... الذين انهزموا...
* * *
وأما"الربيون"، فإنهم مرفوعون بقوله:"معه" لا بقوله:"قتل". وإنما تأويل الكلام: وكأين من نبيّ قتل، ومعه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله. وفي الكلام إضمار"واو"، لأنها"واو" تدل على معنى حال قَتْل النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها، وذلك كقول القائل في الكلام:"قتل الأمير معه جيش عظيم"، بمعنى: قتل ومعه جيشٌ عظيم.
* * *
وأما"الربيون"، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه.
فقال بعض نحويي البصرة: هم الذين يعبدون الرَّبَّ، واحدهم"رِبِّي".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا"رَبِّيون" بفتح"الراء"، ولكنه: العلماء، والألوف.
* * *
و"الربيون" عندنا، الجماعات الكثيرة، (٢) واحدهم"رِبِّي"، وهم الجماعة. (٣)
* * *
واختلف أهل التأويل في معناه.
* * *
(٢) في المطبوعة: "الجماعة الكثيرة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وهم جماعة"، وكأن الأجود ما أثبت، إلا أن يكون قد سقط من الناسخ شيء.
*ذكر من قال ذلك:
٧٩٥٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: الربيون: الألوف.
٧٩٥٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله، مثله.
٧٩٥٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله، مثله.
٧٩٦٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
٧٩٦١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ربيون كثير"، قال: جموع كثيرة.
٧٩٦٢- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"قاتل معه ربيون كثير" (١) قال: جموع.
٧٩٦٣- حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: الألوف.
* * *
وقال آخرون بما:-
٧٩٦٤- حدثني به سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت
٧٩٦٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، قال: فقهاء علماء.
٧٩٦٦- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية. عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: الجموع الكثيرة = قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيل: (" قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ ").
٧٩٦٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" يقول: جموع كثيرة.
٧٩٦٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"قتل معه ربيون كثير"، قال: علماء كثير = (١) وقال قتادة: جموعٌ كثيرة.
٧٩٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله:"ربيون كثير"، قال: جموع كثيرة.
٧٩٧٠- حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، مثله.
٧٩٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"قتل معه ربيون كثير" قال: جموع كثيرة.
٧٩٧٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٧٩٧٤- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، يقول: جموع كثيرة، قُتل نبيهم.
٧٩٧٥- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جعفر بن حبان والمبارك، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير"، قال جعفر: علماء صبروا = وقال ابن المبارك: أتقياء صُبُر. (١)
٧٩٧٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قتل معه ربيون كثير" يعني الجموع الكثيرة، قتل نبيهم.
٧٩٧٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قاتل معه ربيون كثير"، يقول: جموع كثيرة.
٧٩٧٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه جماعات. (٢)
٧٩٧٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، الربيون: هم الجموع الكثيرة. (٣)
* * *
وقال آخرون: الربيون، الاتباع.
(٢) الأثر: ٧٩٧٨- سيرة ابن هشام ٣: ١١٨، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٥٥ مع بعض خلاف في لفظه.
(٣) في المطبوعة: "الربيون الجموع" بإسقاط"هم"، وأثبت ما في المخطوطة.
٧٩٨٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، قال:"الربيون" الأتباع، و"الرّبانيون" الولاة، و"الربِّيون" الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه، (١) حين صاح الشيطان:"إن محمدًا قد قتل" = قال: كانت الهزيمة عند صياحه في [سه صاح] :(٢) أيها الناس، إنّ محمدًا رسول الله قد قُتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمِّنوكم!.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله"، فما عجزوا = لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله، (٣) ولا لقتل من قُتل منهم =، عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم ="وما ضعفوا"، يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم ="وما استكانوا"، يعني وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر الله وأمر نبيهم، وطاعة لله واتباعًا لتنزيله ووحيه =
(٢) الكلمات التي بين القوسين، هكذا جاءت في المخطوطة غير منقوطة، أما المطبوعة فقد قرأها"في سننية صاح"، وهو لا معنى له. وقد جهدت أن أجد هذا الأثر في مكان آخر، أو أن أعرف وجهًا مرضيًا في قراءته، فأعياني طلب ذلك. وقد بدا لي أنها محرفة عن اسم موضع، أو ثنية، وقف عندها إبليس فنادى بذلك النداء، ولكني لم أجد ما أردت. والمعروف في السير، أن أزب العقبة إبليس قد تصور متمثلا في شبه جعال بن سراقة، وصرخ بما صرخ به، حتى هم أناس بقتل جعال، فشهد له خوات بن جبير، وأبو بردة بن نيار، بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما يقاتل، حين صرخ ذلك الصارخ. فأرجو أن أجد بعد إن شاء الله صواب قراءة هذا الرسم المشكل.
(٣) انظر تفسير"وهن" فيما سلف قريبًا: ٢٣٤.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٧٩٨١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا"، يقول: ما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم ="وما استكانوا" يقول: ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم، (١) بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
٧٩٨٢- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا"، يقول: ما عجزوا وما ضعفوا لقتل نبيهم ="وما استكانوا"، يقول: وما ارتدوا عن بصيرتهم، (٢) قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله ﷺ حتى لحقوا بالله.
٧٩٨٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما وهنوا"، فما وهن الربيون ="لما أصابهم في سبيل الله" من قتل النبي ﷺ ="وما ضعفوا"، يقول: ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبي ="وما استكانوا"، يقول: ما ذلُّوا حين قال رسول الله صلى الله عليه
(٢) في المطبوعة: "عن نصرتهم" كما في الأثر السالف، وهو خطأ، وفي المخطوطة"عن نصرتهم" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. انظر التعليق السالف.
٧٩٨٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فما وهنوا" لفقد نبيهم ="وما ضعفوا"، عن عدوهم ="وما استكانوا"، لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر ="والله يحب الصابرين". (٢)
٧٩٨٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وما استكانوا"، قال: تخشَّعوا.
٧٩٨٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما استكانوا"، قال: ما استكانوا لعدوهم ="والله يحب الصابرين".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما كان قولهم"، وما كان قول الرِّبِّيين - و"الهاء والميم" من ذكر أسماء الربيين -"إلا أن قالوا"، يعني: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول، إذ قتل نبيهم = وقوله:"ربنا اغفر لنا ذنوبنا"، يقول: لم يعتصموا، إذ قتل نبيهم، إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة
(٢) الأثر: ٧٩٨٤- سيرة ابن هشام ٣: ١١٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٧٨.
* * *
وأما"الإسراف"، فإنه الإفراط في الشيء: يقال منه:"أسرف فلانٌ في هذا الأمر"، إذا تجاوز مقداره فأفرط.
* * *
ومعناه هاهنا: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر. كما:-
٧٩٨٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله:"وإسرافنا في أمرنا"، قال: خطايانا.
٧٩٨٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإسرافنا في أمرنا"، خطايانا وظلمَنا أنفسنا.
٧٩٨٩- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"وإسرافنا في أمرنا"، يعني: الخطايا الكِبار.
٧٩٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قال، الكبائر.
٧٩٩١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وإسرافنا في أمرنا"، قال: خطايانا.
٧٩٩٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإسرافنا في أمرنا"، يقول: خطايانا.
* * *
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عبادَه الذين فرُّوا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديبٌ لهم. يقول: الله عز وجل: هلا فعلتم إذ قيل لكم:"قُتل نبيكم" - كما فعل هؤلاء الرِّبِّيون، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم. فصبرتم لعدوكم صبرَهم، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم، كما لم يضعف هؤلاء الرِّبِّيون ولم يستكينوا لعدوهم، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فينصركم الله عليهم كما نصروا، فإن الله يحب من صَبر لأمره وعلى جهاد عدوه، فيعطيه النصر والظفر على عدوه؟. كما:-
٧٩٩٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"، أي: فقولوا كما قالوا، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم، ولا ترتدُّوا على أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبِّت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قُتل نبيهم، فلم يفعلوا كما فعلتم. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة في قوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضًا وراثة عن الحجة. (٣)
(٢) الأثر: ٧٩٩٣- سيرة ابن هشام ٣: ١١٨، ١١٩، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٨٤.
(٣) انظر استعمال"وراثة"، و"موروثة" فيما سلف ٦: ١٢٧، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
لَقَدْ عَلِمَ الأقْوَام مَا كَانَ دَاءَهَا... بِثَهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمَّنْ يَقُودُهَا (٦)
وروي أيضًا:"ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ"، نصبًا ورفعًا على ما قد
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٧.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وما كان جواب... " بالواو، وصحيح التلاوة ما أثبت.
(٤) أثبت قراءة النصب كما ذكر الطبري، والذي عليه مصحفنا وقراءتنا، رفع"فتنتهم".
(٥) لم أعرف قائله.
(٦) سيبويه ١: ٢٤، ولم ينسبه، قال الشنتمري: "استشهد به على استواء اسم كان وخبرها في الرفع والنصب، لاستوائهما في المعرفة. وصف كتيبة انهزمت، فيقول: لم يكن داؤها وسبب انهزامها إلا جبن من يقودها وانهزامه. وجعل الفعل للخزي مجازًا واتساعًا، والمعنى: إلا قائدها المنهزم الخزيان، وثهلان: اسم جبل".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم، من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم، وعلى جهاد عدوهم، والاستعانة بالله في أمورهم، واقتفائهم مناهج إمامهم على ما أبلوا في الله -"ثوابَ الدنيا"، يعني: جزاء في الدنيا، وذلك: النصرُ على عدوهم وعدو الله، والظفرُ، والفتح عليهم، والتمكين لهم في البلاد ="وحسن ثواب الآخرة"، يعني: وخير جزاء الآخرة على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة، وذلك: الجنةُُ ونعيمُها، كما:-
٧٩٩٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا"، فقرأ حتى بلغ:"والله يحب المحسنين"، أي والله، لآتاهم الله الفتح والظهورَ والتمكينَ والنصر على عدوهم في الدنيا ="وحسنَ ثواب الآخرة"، يقول: حسن الثواب في الآخرة، هي الجنة.
٧٩٩٥- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما كان قولهم"، ثم ذكر نحوه.
٧٩٩٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله:"فآتاهم الله ثواب الدنيا"، قال: النصر والغنيمة ="وحسن ثواب الآخرة"، قال: رضوانَ الله ورحمته.
* * *
(٢) الأثر: ٧٩٩٧- سيرة ابن هشام ٣: ١١٩، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٩٣، مع اختلاف في اللفظ، ومع اختصاره.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ="إن تطيعوا الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد ﷺ من اليهود والنصارى - فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه - فتقبلوا رأيهم في ذلك وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون ="يردوكم على أعقابكم"، يقول: يحملوكم على الرِّدة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام (١) ="فتنقلبوا خاسرين"، يقول: فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له ="خاسرين"، يعني: هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم. (٢).
(٢) انظر تفسير"خسر" فيما سلف ١: ٤١٧ / ٢: ١٦٦، ٥٧٢ / ٦: ٥٧٠.
٧٩٩٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"، أي: عن دينكم: فتذهب دنياكم وآخرتكم. (١)
٧٩٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا"، قال ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا تصدِّقوهم بشيء في دينكم.
٨٠٠٠- حدثنا محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"، يقول: إن تطيعوا أبا سفيان، يردَّكم كفارًا. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن الله مسدِّدكم، أيها المؤمنون، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.
* * *
(٢) في المطبوعة: "يردوكم كفارًا" بالجمع، وهو غير مستقيم، والصواب من المخطوطة.
* * *
ويعني بقوله:"بل الله مولاكم"، وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا، (١) "وهو خير الناصرين"، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا، وإياه فاستنصروا، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل، ويرصدكم بالمكاره، كما:-
٨٠٠١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"بل الله مولاكم"، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم ="وهو خير الناصرين"، أي: فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدِّين عن دينكم. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٨٠٠١- سيرة ابن هشام ٣: ١١٩، ١٢٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٧٩٩٨، مع اختلاف يسير في اللفظ.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سيلقى الله، أيها المؤمنون ="في قلوب الذين كفروا" بربهم، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن حاربكم بأحد ="الرعب"، وهو الجزع والهلع ="بما أشركوا بالله"، يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة = وهي"السلطان" = التي أخبر عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم.
وهذا وعدٌ من الله جل ثناؤه أصحابَ رسول الله ﷺ بالنصر على أعدائهم، والفلج عليهم، ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته. ثم أخبرهم ما هو فاعلٌ بأعدائهم بعد مصيرهم إليه، فقال جل ثناؤه:"ومأواهم النار"، يعني: ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة، النارُ ="وبئس مثوى الظالمين"، يقول: وبئس مقام الظالمين - الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقابَ الله - النارُ، كما:-
٨٠٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين"، إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة، أي: فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور عليكم، ما اعتصمتم واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم
٨٠٠٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجِّهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! (٢) ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فانهزموا. فلقوا أعرابيًّا، فجعلوا له جُعْلا وقالوا له: إن لقيت محمدًا فأخبره بما قد جمعنا لهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما قُذف في قلبه من الرعب فقال:"سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله". (٣)
* * *
(٢) "الشريد"، هكذا في المطبوعة والدر المنثور ٢: ٨٢، وأما المخطوطة، فاللفظ فيها مضطرب لا يستبين. وانظر أيضًا رقم: ٨٢٣٧.
(٣) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله: "ولقد صدقكم الله وعده" وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم" ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسرِّ". أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في ص٦: ٤٩٥، ٤٩٦ التعليق رقم: ٥ / ثم ٧: ٢١، تعليق ١ / ثم ٧: ١٥٤، تعليق: ١.
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولقد صدقكم الله"، أيها المؤمنون من أصحاب محمد ﷺ بأحُد وعدَه الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
و"الوعد" الذي كان وعدَهم على لسانه بأحد، قوله للرماة:"اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم". وكان وعدهم رسول الله ﷺ النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره، كالذي:-
٨٠٠٤- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما برز رسول الله ﷺ إلى المشركين بأحد، أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال:"لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم،" وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوّات بن جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين، قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجِّلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجلَه، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم، ابنَ عم! فتركه.
= ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل، (١) فرمته الرماة، فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل، تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (٢).
٨٠٠٥- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: لما كان يوم أحُد ولقينا المشركين، أجلس رسول الله ﷺ رجالا بإزاء الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعينونا". فلما التقى القوم، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهنّ، فجعلوا يقولون:"الغنيمة، الغنيمة"! قال عبد الله: مهلا! أما علمتم ما عهدَ إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا.
(٢) الأثر: ٨٠٠٤- الأثر السالف رقم: ٧٩٤٣، والتاريخ ٣: ١٤، ١٥.
٨٠٠٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه"، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله ﷺ فأذَّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله ﷺ اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر، (٢) وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل. فبعث رسول الله ﷺ الزبير وقال:"استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك". وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال:"لا تبرحوا حتى أوذنكم". وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي ﷺ إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، كما قال:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون"، وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم. (٣)
٨٠٠٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني
(٢) في المطبوعة: "بالجسر"، وهو خطأ، "والحسر" جمع حاسر، وهم الرجالة الذين لا خيل لهم، يقال: سموا بذلك لأنهم يحسرون عن أيديهم وأرجلهم. ويقال إنه يقال لهم"حسر"، لأنه لا بيض لهم ولا دروع يلبسونها.
(٣) الأثر: ٨٠٠٧- تاريخ الطبري ٣: ١٤.
٨٠٠٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده قال، قال الزبير: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمِّرات هوارب، (١٢) ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه
(٢) في المطبوعة: "لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال"، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب: "نأمره" والصواب من سيرة ابن هشام، ومن تاريخ الطبري.
(٣) الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح، ويعني هنا الخيل.
(٤) "الصمغة": أرض في ناحية أحد. و"قناة" واد يأتي من الطائف، حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد.
(٥) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج، الأنصار. وقيلة: أم قديمة لهم ينسبون إليها.
(٦) في المطبوعة: "وصفنا رسول الله..."، وهو خطأ محض، والصواب من سيرة ابن هشام، والتاريخ، والمخطوطة، وهي فيها غير منقوطة.
(٧) في المطبوعة: "وتصاف قريش..."، وهو خطأ صرف، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة وهي فيها غير منقوطة.
(٨) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو مجنوب وجنيب، وخيل جنائب: إذا قادهما إلى جنبه. ويقال: "خيل مجنبة" بتشديد النون مثلها.
(٩) نضح عنه: ذب عنه، ورد عنه ونافح.
(١٠) هذا اختصار مخل جدًا، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق، والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري هنا. وذلك أنه من أول قوله: "وأمر رسول الله ﷺ على الرماة..." مقدم على قوله: "وتعبأت قريش"، وذلك في السيرة ٣: ٦٩، ٧١. أما قوله: "فلما التقى الناس" فإنه يأتي في السيرة في ص ٧٢، وسياق الجملة: "فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم"، وساق ما كان من أمرهن، ثم قال: "قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس"، أما قوله بعد ذلك: "وحمزة بن عبد المطلب..."، فهو عطف علي"وقاتل أبو دجانة"، استخرجه الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق ٣: ٧٧، لا من نصه. وقد تركت ما في التفسير على حاله، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما قوله: "ثم أنزل الله نصره..." إلى آخر الأثر فهو في السيرة ٣: ٨٢.
(١١) الأثر: ٨٠٠٨- هذا أثر ملفق من نص ابن إسحاق، وهو فيما رواه ابن هشام في سيرته من مواضع متفرقة كما سترى ٣: ٦٩، ٧٠ / ثم ص: ٧٢ / ثم ص: ٧٧ / ثم ص ٨٢، وانظر التعليق السالف. ثم انظر تاريخ الطبري ٣: ١٣ / ثم ص١٦. وقوله: "حسوهم" أي قتلوهم واستأصلوهم، كما سيأتي في تفسير الآية بعد.
(١٢) في المخطوطة: "مسموات هوادن" وضبط الكلمة الأولى بالقلم بفتح الميم وضم السين وميم مشددة مفتوحة!! وهذا أعجب ما رأيت من السهو والغفلة! والكلمتان خطأ محض، وفي المطبوعة: "هوازم"، والصواب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. و"الخدم" جمع خدمة: وهي الخلخال، ويجمع أيضًا"خدام" بكسر الخاء."شمر تشميرًا فهو مشمر": جد في السير أو العمل وأسرع ومضى مضيًا، وأصله من فعل العادي إذا جد في عدوه وشمر عن ساقه وجمع ثوبه في يده، ليكون أسرع له.
٨٠١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، أي: لقد وفَيتُ لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم. (٣)
٨٠١١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، وذلك يوم أحد، قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرِفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا، (٤) حتى تفرُغوا"! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عَهْده الذي عَهِده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. (٥)
* * *
(٢) الأثر: ٨٠٠٩- سيرة ابن هشام ٣: ٨٢، وهو تابع آخر الأثر السالف رقم: ٨٠٠٨، وفي تاريخ الطبري ٣: ١٦، ١٧.
(٣) الأثر: ٨٠١٠- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٠٢.
(٤) في المخطوطة: "فلا عرض ما أصبتم"، وفي المطبوعة: "فلا تأخذوا ما أصبتم"، تصرف في طلب المعنى، وهو خطأ، وستأتي على الصواب في الأثر رقم: ٨٠٢٥، في المطبوعة والمخطوطة معًا، كما كتبتها هنا. وقوله: "فلا أعرفن ما أصبتم..."، يعني: لا يبلغني أنكم أصبتم من غنائمهم شيئًا. وقولهم: "لا أعرفن كذا" و"ولأعرفن كذا" كلمة تقال عند الوعيد والتهديد والزجر الشديد. وانظر مجيئها في الأثرين رقم: ٨١٥٨، ٨١٦٠ والتعليق عليهما. وانظر الدر المنثور ٢: ٨٥.
(٥) انظر الأثر الآتي رقم: ٨٠٢٥.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وَفَى الله لكم، أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحُد، حين"تحُسُّونهم"، يعني: حين تقتلونهم.
* * *
يقال منه:"حسَّه يَحُسُّه حسًا"، إذا قتله، (١) كما:-
٨٠١٢- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن عيسى قال، حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله:"إذ تحُسُّونهم بإذنه"، قال: الحسُّ: القتل. (٢)
٨٠١٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل:"إذ تحسُّونهم"، قال: القتل.
٨٠١٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(٢) الأثر: ٨٠١٢-"محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطى"، مضى القول فيه برقم: ٢٨٦٧، ٢٨٦٨، ٢٨٨٨، وفي ٢٨٦٨"محمد بن عبيد الله بن سعيد". و"يعقوب بن عيسى" هو: "يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري"، سلف في رقم: ٢٨٦٧. و"عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز... الزهري"، هو الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت، قيل: "ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر"، وقال يحيى: "رأيته ببغداد، كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب. و"محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف" قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "هم ثلاثة إخوة: محمد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وعمران بن عبد العزيز، وهم ضعفاء الحديث، ليس لهم حديث مستقيم، وليس لمحمد عن أبي الزناد، والزهري، وهشام بن عروة، حديث صحيح". مترجم في الكبير ١ / ١ / ١٦٧، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٧.
* * *
٨٠١٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم"، أي: قتلا بإذنه.
٨٠١٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تحسونهم"، يقول: إذ تقتلونهم.
٨٠١٧- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تحسونهم بإذنه"، والحس القتل.
٨٠١٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
٨٠١٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ تحسونهم" بالسيوف: أي القتل. (١)
٨٠٢٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن:"إذ تحسونهم بإذنه"، يعني: القتل.
٨٠٢١- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله:"إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
* * *
وأما قوله:"بإذنه"، فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك، وتسليطي إياكم عليهم، (٢) كما:-
(٢) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف ٢: ٤٤٩، ٤٥٠ / ٤: ٢٨٦، ٣٧١ / ٥: ٣٥٢، ٣٥٥، ٣٩٥.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"حتى إذا فشلتم"، حتى إذا جبنتم وضعفتم (٢) ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرَهم ﷺ بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشِّعب بأحُد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين، الذين ذكرنا قبلُ أمرَهم.
= وأما قوله:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، فإنه يعني بذلك: من بعد الذي أراكم الله، أيها المؤمنون بمحمد، من النصر والظفر بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله ﷺ أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المومنين من ورائهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
(٢) انظر تفسير"فشل" فيما سلف ٧: ١٦٨.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٢٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر"، أي اختلفتم في الأمر ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذاكم يوم أحد، عهد إليهم نبي الله ﷺ وأمرَهم بأمر فنسوا العهد، وجاوزوا، (١) وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقذف عليهم عدوَّهم، (٢) بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون.
٨٠٢٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله ﷺ بعث ناسًا من الناس -يعني: يوم أحُد- فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كونوا هاهنا، فردّوا وجه من فرَّ منا، (٣) وكونوا حرسًا لنا من قِبل ظهورنا". وإن رسول الله ﷺ لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جُعلوا من ورائهم، بعضهم لبعض، (٤) لما رأوا النساء مُصْعِدات في الجبل ورأوا الغنائم،
(٢) في المطبوعة: "فانصرف عليهم"، ولا معنى لها، ولكنه أخذها من الأثر التالي ٨٠٢٥، من رسم المخطوطة هناك. وفي الدر المنثور ٢: ٨٥"فانصر عليهم"، ولا معنى لها أيضًا. وهي في المخطوطة هنا"فصرف"، فرجحت أن يكون هذا تصحيف"فقذف"، فأثبتها، وهي سياق المعنى حين انحطت عليهم خيل المشركين من ورائهم.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "من قدمنا"، والصواب من تاريخ الطبري. وفي الدر المنثور ٢: ٨٤"من ند منا"، يقال"ند البعير"، إذا نفر وشرد وذهب على وجهه، ولا بأس بمعناها هنا.
(٤) في المطبوعة: "اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم فقال بعضهم لبعض"، زاد الناشر الأول"اختلف"، أما المخطوطة، والدر المنثور ٢: ٨٤، فليس فيها"اختلف"، والكلام بعد كما هو، وهو مضطرب، ورددته إلى الصواب من تاريخ الطبري، حذفت"فقال" من وسط الكلام، ووضعت"قال" في أوله.
٨٠٢٥- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"حتى إذا فشلتم"، يقول: جبنتم عن عدوكم ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: اختلفتم ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذلك يوم أحد قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا حتى تفرغوا"، (١) فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به، فانقذف عليهم عدوهم، (٢) من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون. (٣)
٨٠٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"حتى إذا فشلتم"، قال ابن جريج، قال ابن عباس: الفشَل: الجبن.
٨٠٢٧- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، من الفتح.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "فانصرف عليهم عدوهم"، ولا معنى لها، وفي الدر المنثور ٢: ٨٥"فانصر عليهم"، ولا معنى لها، وانظر التعليق السالف ص: ٢٩٠ تعليق: ٢.
(٣) الأثر: ٨٠٢٥- مضى برقم: ٨٠١١ مختصرًا.
٨٠٢٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، يعني: من الفتح.
* * *
قال أبو جعفر: وقيل معنى قوله:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون" = حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون = وأنه من المقدم الذي معناه التأخير، (٣) وإن"الواو" دخلت في ذلك، ومعناها السقوط، كما يقال، (٤) (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ) [سورة الصافات: ١٠٣-١٠٤] معناه: ناديناه. وهذا مقول في: (حَتَّى إِذَا) وفي (فَلَمَّا أَنْ). [لم يأت في غير هذين]. (٥) ومنه قول الله عز وجل: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثُمَّ قَالَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) [سورة الأنبياء: ٩٦-٩٧].
(٢) الأثر: ٨٠٢٨- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١.
(٣) في المطبوعة: "أنه من المقدم..." بإسقاط الواو، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة"كما قلنا في فلما أسلما..." بزيادة"في" وفي المخطوطة: "كما قلنا فلما أسلما"، بإسقاط"في"، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٨، فهذا نص كلامه.
(٥) في المطبوعة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (لما) ومنه قول الله..."، وفي المخطوطة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (فلما أن)، وفلما، ومنه قول الله عز وجل". والذي في المطبوعة تغيير لا خير فيه، والذي في المخطوطة خطأ لا شك فيه، فآثرت إثبات ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٨، فإنه نص مقالته، وزدت منه ما بين القوسين.
حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ... وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا (٣) وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا... إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخَبُّ (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"منكم من يريد الدنيا، الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله ﷺ في الشِّعب من أحُد لخيل المشركين، ولحقوا بعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين ="ومنكم من يريد الآخرة"، يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي
(٢) هو الأسود بن يعفر النهشلي، وهو في أكثر الكتب غير منسوب.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ١٠٧، ٢٣٨ / اللسان (قمل) والجزء: ٢٠: ٣٨١ / تأويل مشكل القرآن: ١٩٧، ١٩٨ / المعاني الكبير: ٥٣٣ / مجالس ثعلب: ٧٤ / أمالي الشجري ١: ٣٥٧، ٣٥٨ / الإنصاف لابن الأنباري: ١٨٩ / الخزانة ٤: ٤١٤ / وهو في جميعها غير منسوب، وهو من شعر لم أجده تامًا، ذكر أبياتًا منه البكري في معجم ما استعجم: ٣٧٩، فيها البيت الأول وحده، وبيتان آخران منها في اللسان (وقب) وتهذيب الألفاظ: ١٩٦. وهو من شعر يهجو فيه بني نجيح، من بني عبد الله بن مجاشع بن دارم يقول في هجائهم:
أَبَنِي نَجِيحٍ، إنَّ أُمَّكُمُ | أَمَةٌ، وإنَّ أَبَاكُمُ وَقْبُ |
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزَّادِ فَاتَّخَمَتْ | عَنْهُ، وَشَمَّ خِمَارَهَا الكَلْبُ |
(٤) يقال: "قلبت له ظهر المجن" - والمجن: الترس، لأنه يوارى صاحبه - كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية، ثم حال عن ذلك فعاداه. والخب (بفتح الخاء، وكسرها) الخداع الخبيث المنكر: وفي الحديث: "المؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم".
٨٠٣٠- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منكم من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة"، فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا، والذين بقوا وقالوا:"لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أرادوا الآخرة.
٨٠٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
٨٠٣٢ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فإن نبي الله ﷺ أمر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال:"كونوا مَسْلحة للناس"، (١) بمنزلةٍ أمرَهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم. فلما لقي نبي الله ﷺ يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وسلم! فلما رأى المسلحةُ أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون:"الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم"! وثبت بعضهم مكانهم، وقالوا: لا نَريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم!. ففي ذلك نزل:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضَها، (٢) حتى كان يوم أحد.
(٢) "ما شعرت"، أي: ما علمت، يأتي كذلك في الأثر التالي.
٨٠٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"منكم من يريد الدنيا"، هؤلاء الذين يجترون الغنائم (١) ="ومنكم من يريد الآخرة"، الذين يتبعونهم يقتلونهم.
٨٠٣٥- حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي عن عبد خير قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة". (٢)
٨٠٣٦- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عبد خير قال، قال ابن مسعود: ما كنت أظن في أصحاب رسول الله ﷺ يومئذ أحدًا يريد الدنيا، حتى قال الله ما قال.
٨٠٣٧- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
(٢) الأثر ٨٠٣٥-"الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي"، مضى مرارًا، وسلف ترجمته في رقم: ١٦٢٥، وكان في المطبوعة: "العبقري"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. وأما "عبد خير"، فهو"عبد خير بن يزيد الهمداني". أدرك الجاهلية، وروي عن أبي بكر، وابن مسعود وعلي، وزيد بن أرقم، وعائشة. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
٨٠٣٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرتُ أن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضها، حتى كان يومئذ. (١)
٨٠٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق"منكم من يريد الدنيا"، أي: الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وتركَ ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة ="ومنكم من يريد الآخرة"، أي: الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة فيها، (٢) رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم صرفكم، أيها المؤمنون، عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم، من هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم، فردَّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الآخرة،
(٢) في المطبوعة: "لم يخالفوا" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة وابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة: "لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله"، وهو كلام يتلجلج، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وهو الذي أثبت.
(٣) الأثر: ٨٠٣٩- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٢٨.
٨٠٤٠- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم".
٨٠٤١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن في قوله:"ثم صرفكم عنهم"، قال: صرف القوم عنهم، فقتل من المسلمين بعدَّة من أسروا يوم بدر، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشُجّ في وجهه، وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول:"كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) [سورة آل عمران: ١٢٨]، الآية. فقالوا: أليس كان رسول الله ﷺ وعدنا النصر؟ فأنزل الله عز وجل:"ولقد صدقكم الله وعده" إلى قوله:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم".
٨٠٤٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم"، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٨٠٤٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٣٩. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة، سقط بعض الكلام، فاضطرب لفظه، ويستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا الله = أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه = عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه، عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرفِ وجوهكم عنهم، (١) إذ لم يستأصل جمعكم، كما:-
٨٠٤٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن، في قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: قال الحسن، وصفَّق بيديه: وكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عز وجل:"قد عفوت عنكم إذ عصيتموني، أن لا أكون استأصلتكم". قال: ثم يقول الحسن: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غُمُّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يَتَجَرْثَمُ كل كبيرة، (٢) ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف يعلم.
٨٠٤٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: لم يستأصلكم.
(٢) في المطبوعة: "يتجرأ على كل كبيرة"، تصرف في نص المخطوطة، وتجرثم الشيء: أخذ معظمه، وجرثومة كل شيء: أصله ومجتمعه.
* * *
وأما قوله:"والله ذو فضل على المؤمنين"، فإنه يعني: والله ذو طَوْل على أهل الإيمان به وبرسوله، (٢) بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقبهم على بعض ذلك، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم. كما:-
٨٠٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين"، يقول: وكذلك منَّ الله على المؤمنين، أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم، لما أصابوا من معصيته، رحمةً لهم وعائدة عليهم، لما فيهم من الإيمان. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد عفا عنكم، أيها المؤمنون، إذ لم يستأصلكم، إهلاكًا منه جمعكم بذنوبكم وهربكم ="إذ تصعدون ولا تلوون على أحد".
* * *
(٢) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ٢: ٣٤٤ / ٥: ١٦٤، ٥٧١ / ٦: ١٥٦.
(٣) الأثر: ٨٠٤٦- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٤٥. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة فساد قبيح. يستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.
فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري: (إِذْ تُصْعِدُونَ) بضم"التاء" وكسر"العين". وبه القراءة عندنا، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به، واستنكارهم ما خالفه.
* * *
وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: (إِذْ تَصْعَدُونَ)، بفتح"التاء" و"العين".
٨٠٤٧- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هرون، عن يونس بن عبيد، عن الحسن.
* * *
فأما الذين قرأوا: (تُصْعِدُون) بضم"التاء" وكسر"العين"، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أنّ القوم حين انهزموا عن عدوِّهم، أخذوا في الوادي هاربين. وذكروا أنّ ذلك في قراءة أبي: (" إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي ").
٨٠٤٨- حدثنا [بذلك] أحمد بن يوسف قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا حجاج، عن هرون.
* * *
=قالوا: فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب:"إصعاد"، لا صعود. (١) قالوا وإنما يكون"الصعود" على الجبال والسلاليم والدَّرج، لأن معنى"الصعود"، الارتقاء والارتفاع على الشيء عُلوًا. (٢) قالوا: فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط، فإنما هو"إصعاد"، كما يقال:"أصعَدْنا من مكة"، إذا بتدأت في السفر منها والخروج ="وأصعدنا
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٠٥، ومعاني القرآن للفراء ١: ٢٣٩.
قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل، بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٤٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تلوون على أحد"، ذاكم يوم أحد، أصعدوا في الوادي فرارًا، (١) ونبي الله ﷺ يدعوهم في أخراهم:"إلىَّ عباد الله، إلى عباد الله"!. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الحسن، فإني أراه ذهب في قراءته:"إذ تَصْعَدون" بفتح"التاء" و"العين"، إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل. وقد قال ذلك عددٌ من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٥٠- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما شدَّ المشركون على المسلمين بأحُد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس:"إليّ عباد الله، إليّ عباد الله"! فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دعاء نبيّ الله ﷺ إياهم، فقال:"إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (٣)
(٢) في المخطوطة: "قال عباد الله قال عباد الله"، والذي في المطبوعة هو الصواب الموافق لما في الدر المنثور ٢: ٨٧، إلا أن ناشر المطبوعة زاد"قال" قبل: "إلى عباد الله"، وهو فاسد فخذفتها، فإن الذي في المخطوطة تصحيف"إلى... إلى". وانظر الأثر التالي: ٨٠٥٠.
(٣) الأثر: ٨٠٥٠- هو بعض الأثر السالف: ٧٩٤٣، مع زيادة فيه، وفي تاريخ الطبري أيضًا ٣: ٢٠، مع زيادة هنا.
٨٠٥٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٨٠٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"إذ تصعدون ولا تلووْن على أحد"، قال صعدوا في أحُدٍ فرارًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ:"إذ تُصعِدون"، بضم"التاء" وكسر"العين"، بمعنى: السبق والهرب في مستوى الأرض، أو في المهابط، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك، الدليلُ الواضح على أنّ أولى التأويلين بالآية، تأويل من قال:"اصْعدوا في الوادي ومضوْا فيه"، دون قول من قال:"صعدوا على الجبل".
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ولا تلوون على أحد"، فإنه يعني: ولا تعطفون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، هربًا من عدوّكم مُصْعدين في الوادي. (١)
* * *
ويعني بقوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، ورسول الله ﷺ يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه ="في أخراكم"، يعني: أنه يناديكم من خلفكم:"إليّ عباد الله، إليّ عباد الله"!. (٢) كما:-
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٠٥، ومعاني القرآن للفراء: ١: ٢٣٩.
٨٠٥٥- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، رأوا نبي الله ﷺ يدعوهم:"إليّ عباد الله"!
٨٠٥٦- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي مثله.
٨٠٥٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، أنَّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال:"إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (١)
٨٠٥٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، هذا يوم أحد حين انكشف الناسُ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأثابكم غمًّا بغم"، يعني: فجازاكم بفراركم عن نبيكم، وفشلكم عن عدوكم، ومعصيتكم ربكم ="غمًّا بغم"، يقول: غما على غم.
* * *
أخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُه | أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (٣) |
* * *
وأما قوله:"غمًّا بغم"، فإنه قيل:"غمًّا بغم"، معناه: غمًّا على غم، كما قيل: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه: ٧١]، بمعنى: ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز ذلك، لأن معنى قول القائل:"أثابك الله غمًّا على غم"، جزاك الله
(٢) هو الفرزدق.
(٣) ديوانه: ٢٢٧، النقائض: ٦١٨، طبقات فحول الشعراء: ٢٥٦، وتاريخ الطبري ٦: ١٣٩، معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٩، وغيرها. من شعره في زياد بن أبي سفيان، وهو يلي الأبيات التي ذكرتها في التفسير آنفًا ٢: ١٩٥، تعليق: ١، والرواية التي ذكرها الطبري هنا، متابعة للفراء، وهي لا تستقيم مع الشعر، وأجمع الرواة على أنه:
فلمَّا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ | ................... |
نَمَيْتُ إلَى حَرْفٍ أَضَرَّ بِنَيِّها | سُرَى البِيدِ وَاسْتِعْراضُهَا البَلَدَ القَفْرَا |
(٤) في المطبوعة: "فجعل العطاء العقوبة"، والصواب من المخطوطة، ولا أدري لم غيره الناشر الأول.
(٥) انظر لما سلف، معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٩، وانظر معنى"الثواب" فيما سلف قريبًا: ٢: ٤٥٨ / ٧: ٢٧٢، وقد نسيت أن أذكر مرجعه هناك.
* * *
واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم، وما كان غمُّهم الأول والثاني؟
فقال بعضهم:"أما الغم الأول، فكان ما تحدَّث به القوم أنّ نبيهم ﷺ قد قتل. وأما الغمّ الآخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح".
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٥٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأثابكم غمًّا بغم"، كانوا تحدَّثوا يومئذ أن نبي الله ﷺ أصيب، وكان الغم الآخر قَتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم. قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستة وستون رجلا من الأنصار، وأربعة من المهاجرين = وقوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، يقول: ما فاتكم من غنيمة القوم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم من القتل والجراحات.
٨٠٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال: فرّة بعد فرّة: الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدًا قد قتل، والثانية حين رجع الكفار، فضربوهم مدبرين، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا ثم انحازوا إلى النبيّ ﷺ فجعلوا يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم.
(٢) في المطبوعة: "يقدمه" في الموضعين، وهو خطأ لا شك فيه.
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٩٩، ٣١٣ / ٢: ٤١١، ٤١٢.
* * *
وقال آخرون:"بل غمهم الأول كان قتْل من قتل منهم وجرح من جرح منهم. والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل:"قُتل محمد"، صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٦٢- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"غمًّا بغم"، قال: الغم الأول: الجراحُ والقتل، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله ﷺ قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
* * *
٨٠٦٣- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال: الغم الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله ﷺ قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول الله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
وقال آخرون:"بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشِّعب. وذلك أن أبا سفيان -فيما زعم بعض أهل السير- لما أصاب من المسلمين ما أصاب، وهرب المسلمون، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله ﷺ في شعب أحد، الذي كانوا ولَّوا إليه عند الهزيمة، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. (١)
٨٠٦٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: انطلق رسول الله ﷺ يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه، وضع رجل سهمًا في قوسه، فأراد أن يرميَه، فقال:"أنا رسول الله! "، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ﷺ حيًّا، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. (١) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ﷺ حين ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
=فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه، نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمَّهم أبو سفيان، (٢) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تُعبَد"! ثم ندَب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ:"اعْلُ هُبَل! حنظلة بحنظلة، ويوم بيوم بدر"! = وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جُنُبًا فغسَّلته الملائكة، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر = وقال أبو سفيان:"لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم"! فقال رسول الله ﷺ لعمر:"قل الله مولانا ولا مولى لكم"! فقال أبو سفيان: فيكم محمد؟ (٣) قالوا: نعم! قال:"أما إنها قد كانت فيكم مُثْلة، ما أمرتُ بها، ولا نهيتُ عنها، ولا سرَّتني، ولا ساءتني"! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، الغم الأول: ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني:
(٢) في التاريخ"وأهمهم"، وهمه الأمر وأهمه، سواء في المعنى.
(٣) في التاريخ: "أفيكم محمد" بالألف، وهما سواء.
٨٠٦٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، فيما ذكَروا من حديث أحُد، قالوا: كان المسلمون في ذلك اليوم -لما أصابهم فيه من شدة البلاء- أثلاثًا، ثلثٌ قتيل، وثلثٌ جريح، وثلثٌ منهزم، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع = (٢) وحتى خلص العدوّ إلى رسول الله ﷺ فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشِقِّه، وأصيبتْ رَباعيته، وشجَّ في وجهه، وكُلِمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. (٣) = (٤) وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ﷺ ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال:"قتلت محمدًا". (٥)
٨٠٦٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فكان أول من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة وقول الناس:"قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم" = كما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن
(٢) هذه الفقرة من الأثر، لم أجدها في سيرة ابن هشام.
(٣) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام ٣: ٨٤، وانظر التخريج في آخره. ودثه بالعصا وبالحجر رماه رميًا متتابعًا، أو ضربه بالعصا ضربًا متقاربًا من وراء الثياب حتى يأخذه الألم. والشق: الجنب. والكلم: الجرح.
(٤) الفقرة التالية من الأثر في سيرة ابن هشام ٣: ٧٧، قبل السالفة.
(٥) الأثر: ٨٠٦٥- هذا أثر ملفق من سيرة ابن إسحاق، كما رأيت في التعليقين السالفين، وهو فيها من ٣: ٨٤ / ٣: ٧٧ / والقسم الأول لم أعثر عليه فيها.
=قال: فبينا رسول الله ﷺ في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"! فقاتل عمرُ بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين، حتى أهبطوهم عن الجبل. ونهض رسول الله ﷺ إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله ﷺ قد بُدِّن، فظاهرَ بين درعين، (٣) فلما ذهب لينهض، فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها. (٤).
= ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى
(٢) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام ٣: ٨٨، ٨٩.
(٣) بدن الرجل تبدينا: ألبسه البدن، أي الدرع. وقد مضى شراح السيرة، فزعموا أن"بدن" (بالبناء للمعلوم) هنا، معناها: أسن. قال أبو ذر الخشني في تفسير غريب سيرة ابن هشام: ٢٢٨"بدن الرجل، إذا أسن. وبدن، إذا عظم بدنه من كثرة اللحم". وكلا التفسيرين خطأ هنا، وإن كان صحيحًا في اللغة، فإن رسول الله ﷺ لم يكن يوم قاتل في أحد مسنًا ولا بلغ في السن ما يضعفه. وأيضًا فإنه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لم يوصف قط بالبدانة والسمن. وأما قوله ﷺ في حديث الصلاة: "إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود"، فإنه لم يعن البدانة، وإنما أراد أن الحركة قد ثقلت عليه، كما تثقل على الرجل البادن. ولو قرئت في"بدن" بالبناء للمعلوم لكان عربية صحيحة.
وأما قوله: "ظاهر بين درعين"، أي ليس إحداهما على الأخرى، وكذلك"ظاهر بين ثوبين، أو نعلين"، لبس أحدهما على الآخر.
(٤) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام ٣: ٩١، وتاريخ الطبري ٣: ٢١.
٨٠٦٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، أي: كربًا بعد كرب، قتلُ من قتل من إخوانكم، وعلوّ عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال:"قُتل نبيكم"، فكان ذلك مما تتابع عليكم غمًّا بغم ="لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ="ولا ما أصابكم" من قتل إخوانكم، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم ="والله خبير بما تعملون"، وكان الذي فرَّج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم، (٤) أن الله عز وجل ردّ عنهم كِذبة الشيطان بقتل نبيهم. فلما رأوا رسول الله ﷺ حيًّا بين أظهرهم، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم، (٥) حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. (٦)
٨٠٦٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال ابن جريج، قال مجاهد: أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قُتلوا. فلما تولَّجُوا في الشعب وهم مصابون، (٧) وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم
وقد قيل لأبي سفيان يوم الفتح: "أين قولك، أنعمت فعال"؟ فقال: "قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية".
هذا وقد كان في المطبوعة: "أنعمت فقال إن الحرب سجال"، وهو خطأ صرف. والحرب سجال: أي مرة لهذا، ومرة لهذا. وقوله: "اعل هبل" قد شرحه ابن إسحاق، فيظن بعض من يضبط السيرة أنه"أعل" (بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام) وهو خطأ، والصواب أنه أمر من"علا"، يريد: زد علوًا.
(٢) في المطبوعة: "وأشار لقول ابن قميئة"، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام. وقوله: "وأبر"، من"البر"، وهو الصدق والخير كله.
(٣) الأثر ٨٠٦٦- هذا الأثر مجموع من مواضع في السيرة كما أشرت إليه، وهي في: سيرة ابن هشام ٣: ٨٨، ٨٩ / ٣: ٩١، وتاريخ الطبري ٣: ٢١ / والسيرة ٣: ٩٩.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان الذي خرج عنهم" بإسقاط"به" والسياق يقتضى إثباتها، فأثبتها من سيرة ابن هشام.
(٥) في المطبوعة: "فهان الظهور عليهم"، وفي المخطوطة: "فهذا الظهور عليهم" كتب"فهذا" في آخر"السطر" و"الظهور" في أول السطر التالي، فلم يحسن الناشر قراءتها، والصواب من سيرة ابن هشام.
(٦) الأثر: ٨٠٦٧- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، ١٢٢، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٥٧.
(٧) في المطبوعة: "فلما تولجوا في الشعب يتصافون"، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة إلا أن كاتبها كان قد سقط من كتابته من أول"وهم مصابون" إلى"باب الشعب"، فكتبها في الهامش. فاستعجمت على الناشر الأول قراءتها.
٨٠٦٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج. قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد بن عمير قال: جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه، حتى وقف بالشعب، ثم نادى: أفي القوم ابن أبي كبشة؟ (١) فسكتوا، فقال أبو سفيان: قُتل ورب الكعبة! ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا، فقال: قُتل ورب الكعبة! ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فسكتوا، فقال: قُتل ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان: اعل هُبل، يوم بيوم بدر، وحنظلة بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مَثْلا (٢) لم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه! فقال النبي ﷺ لعمر بن الخطاب: قم فناد فقل: الله أعلى وأجل! نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا! لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
(٢) في المخطوطة: "وأنتم واحد ورقى القوم سلا"، وهو كلام"فاسد" صوابه في المطبوعة. والمثل (بفتح الميم وسكون الثاء) مصدر"مثل بالقتيل" إذا جدع أنفه، أو أذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه وجسده، طلب التشويه لجثته. والاسم"المثلة" (بضم الميم وسكون الثاء).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:"معنى قوله:"فأثابكم غمًّا بغم،" أيها المؤمنون، بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم، والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ -بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون- بمعصيتكم ربَّكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم، غمَّ ظنَّكم أن نبيكم ﷺ قد قتل، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم. (٣).
والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه، قوله:"لكيلا تحزنوا
(٢) في المطبوعة: "قد أنسوا وقد اخترطوا سيوفهم"، وفي الدر المنثور ٢: ٨٧" قد ايسوا" وفي المخطوطة: "قد انسوا" غير منقوطة، والذي في المطبوعة والدر لا معنى له، وقد رجحت قراءتها. تأشب القوم وائتشبوا: انضم بعضهم لبعض واجتمعوا والتفوا، وفي الحديث"فتأشب أصحابه إليه"، أي اجتمعوا إليه وطافوا به. وأصله من"أشب الشجر"، إذا التف وكثر حتى ضاقت فرجه، وحتى لا مجاز فيه لمجتاز.
(٣) قوله: "بعد فلولكم منهم" يعني: بعد هزيمتكم وفراركم منهم، ولم تصرح كتب اللغة بفعل ثلاثي لازم مصدره"فلول"، بل قالوا: "فله يفله، فانفل"، ولكن يرجح صواب ما في نص الطبري أنه جاء في أمثالهم: "من فل ذل"، أي من فر عن عدوه ذل. وأما ابن كثير فقد نقل في تفسيره ٢: ٢٧٠ نص الطبري هذا، وفيه"ونبوكم منهم"، وليست بشيء، وكأن الصواب ما في التفسير، فهو جيد في العربية.
فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن"الغم" الثاني هو معنًى غير هذين. لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أثابهم غمًّا بغم لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم، وهو الغم الأول، على ما قد بيناه قبل.
* * *
وأما قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، فإن تأويله على ما قد بيَّنت، من أنه:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور، وحيازة غنائمهم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم. من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبلُ على السبيل التي اختلفوا فيه، كما:-
٨٠٧١- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، قال: على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ="ولا تحزنوا على ما أصابكم"، من الهزيمة.
* * *
وأما قوله:"والله خبير بما تعملون"، فإنه يعني جل ثناؤه: والله بالذي تعملون، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هربًا من عدوكم، وانهزامكم
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله، أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله ="أمنة"، وهي الأمان، (١) على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك.
* * *
ثم بين جل ثناؤه، عن"الأمنة" التي أنزلها عليهم، ما هي؟ فقال ="نعاسًا"، بنصب"النعاس" على الإبدال من"الأمنة".
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"يغشى".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء: (يَغْشَى).
* * *
وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث: (تَغْشَى) بالتاء.
* * *
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير، إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث، إلى أنّ الأمَنة هي التي تغشاهم فأنثوه لتأنيث"الأمنة".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، غير مختلفتين في معنى ولا غيره. لأن"الأمنة" في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس هو الأمنة. فسواء ذلك، (١) وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته. وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ) [سورة الدخان: ٤٣-٤٥] و (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى) [سورة القيامة: ٣٧]، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ) [سورة مريم: ٢٥]. (٢).
* * *
فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما، فأمِنت إحداهما بنفسها حتى نعست، وأهمَّت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية؟
قيل: كان سبب ذلك فيما ذكر لنا، كما:-
٨٠٧٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي ﷺ بدرًا من قابلٍ، فقال نعم! نعم! فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله ﷺ رجلا فقال:
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٠.
٨٠٧٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: أمَّنهم يومئذ بنعاس غشَّاهم. وإنما ينعُسُ من يأمن ="يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية".
٨٠٧٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد أمنة، حتى سقط من يدي مرارًا = قال أبو جعفر: يعني سوطه، أو سيفه.
٨٠٧٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحُد، فجعلت ما أرى أحدًا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس. (٣).
(٢) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور ٢: ٨٧: "وجنبوا على أثقالهم"، والصواب الذي لا شك فيه حذف"على".
(٣) "الحجفة": ضرب من الترسة، تتخذ من جلود الإبل مقورة، يطارق بعضها على بعض، ليس فيه خشب، وهي الحجفة والدرقة."ماد يميد": مال وتحرك واضطرب.
٨٠٧٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: عن أبي طلحة: أنه كان يومئذ ممن غشِيه النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه، من النعاس.
٨٠٧٨- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، عن أنس: أن أبا طلحة حدثهم: أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، ويسقط = والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم همَّة إلا أنفسهم،"يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، الآية كلها.
٨٠٧٩- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا ضرار بن صُرد قال، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنةً نعاسًا". قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
٨٠٨٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، الآية، وذاكم يوم أحد، كانوا يومئذ فريقين، فأما المؤمنون فغشّاهم الله النعاس أمنةً منه ورحمة.
٨٠٨١- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، نحوه.
٨٠٨٢- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقي عليهم النعاس، فكان ذلك أمنةً لهم.
٨٠٨٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، قال: أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به، فهم نيامٌ لا يخافون. (١)
٨٠٨٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقى الله عليهم النعاس، فكان"أمنة لهم". وذكر أن أبا طلحة قال: ألقي عليًّ النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي.
٨٠٨٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن إدريس قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة = وهشام بن عروة، عن عروة، عن الزبير، أنهما قالا لقد رفعنا رءوسنا يوم أحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته. قال: وتلا هذه الآية:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاسًا".
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وطائفة منكم"، أيها المؤمنون ="قد أهمتهم أنفسهم"، يقول: هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم، وخوف المنية عليها في شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكًا في أمر الله، وتكذيبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمحْسَبة منهم أن الله خاذل نبيه ومُعْلٍ عليه أهل الكفر به، (١) يقولون: هل لنا من الأمر من شيء. كالذي:-
٨٠٨٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: والطائفة الأخرى: المنافقون، ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبُه وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنونًا كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ).
٨٠٨٨- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا) قال الله عز وجل: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الآية.
٨٠٨٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وطائفة
٨٠٩٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون.
* * *
وأما قوله:"ظنّ الجاهلية"، فإنه يعني أهل الشرك. كالذي:-
٨٠٩١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ظنّ الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك.
٨٠٩٢- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ظن الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وفي رفع قوله:"وطائفة"، وجهان.
أحدهما، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله:"قد أهمتهم".
والآخر: بقوله:"يظنون بالله غير الحق"، ولو كانت منصوبة كان جائزًا، وكانت"الواو"، في قوله:"وطائفة"، ظرفًا للفعل، بمعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) [سورة الذاريات: ٤٧]. (٢)
* * *
(٢) قد استقصى هذا الباب من العربية، الفراء في معاني القرآن ١: ٢٤٠ - ٢٤٢.
قال أبو جعفر: يعني بذلك الطائفة المنافقةَ التي قد أهمَّتهم أنفسهم، يقولون: ليس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما:-
٨٠٩٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قيل لعبد الله بن أبيّ: قُتل بنو الخزرج اليوم! قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قيل إنّ الأمر كله لله!. (١)
* * *
وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين:"إن الأمر كله لله"، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ.
ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال:"يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك" يقول: يخفي، يا محمد، هؤلاء المنافقون الذين وصفتُ لك صفتهم، في أنفسهم من الكفر والشك في الله، ما لا يبدون لك. ثم أظهر نبيَّه ﷺ على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرًا عن قيلهم الكفرَ وإعلانهم النفاقَ بينهم:"يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا"، يعني بذلك، أنّ هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا
* * *
وذكر أن ممن قال هذا القول، معتّب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف.
*ذكر الخبر بذلك:
٨٠٩٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، قال، قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله إنّي لأسمع قول معتِّب بن قشير، أخي بني عمرو بن عوف، والنعاسُ يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لوْ كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا! (١)
٨٠٩٥- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ)، بنصب"الكل" على وجه النعت لـ"الأمر" والصفة له.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل البصرة: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) برفع"الكل"، على توجيه"الكل" إلى أنه اسم، وقوله"لله" خبره، كقول القائل:"إن الأمر بعضه لعبد الله. (٢).
* * *
وقد يجوز أن يكون"الكل" في قراءة من قرأه بالنصب، منصوبًا على البدل.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٣.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (١٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين: لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين، فيظهرَ للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم، وتكتمونه من شككم في دينكم (١) ="لبرز الذين كُتب عليهم القتل"، يقول: لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه، من قد كتب عليه القتل منهم، (٢) ولخرج من بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كُتب عليه أن يصرع فيه. (٣).
* * *
وأما قوله:"وليبتلي الله ما في صدوركم"، فإنه يعني به: وليبتلي الله ما في صدوركم، أيها المنافقون، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم.
* * *
(٢) انظر تفسير"برز" فيما سلف ٥: ٣٥٤.
(٣) في المطبوعة: "ويخرج من بيته"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أنّ معاني نظائر قوله:"ليبتلي الله" و"وليعلم الله" وما أشبه ذلك، وإن كان في ظاهر الكلام مضافًا إلى الله الوصف به، فمرادٌ به أولياؤه وأهل طاعته = (٢) وأنّ معنى ذلك: وليختبر أولياءُ الله، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض، فيعرفوكم، [فيميّزوكم] من أهل الإخلاص واليقين ="وليمحص ما في قلوبكم"، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله ﷺ وللمؤمنين من العداوة أو الولاية. (٣)
* * *
"والله عليم بذات الصدور"، يقول: والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر، وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، سرائرها علانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول:
٨٠٩٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ذكر الله تلاومَهم -يعني: تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيه ﷺ قل:"لو كنتم في بيوتكم"، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه، حتى يبتلي به ما في صدوركم ="وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور"، أي لا يخفى عليه ما في صدورهم، (٤)
(٢) انظر ما سلف قريبًا ص: ٢٤٦، تعليق ٢، / ثم انظر ٣: ١٦٠ - ١٦٢.
(٣) انظر تفسير"محص" فيما سلف ص: ٢٤٤.
(٤) في المطبوعة"لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم"، وفي المخطوطة"لا يخفى عليه شيء ما في صدورهم"، وضرب بالقلم على"شيء"، ولكن الناشر آثر إثباتها، وجعل"ما""مما"، والصواب المطابق لنص السيرة هو ما أثبت.
٨٠٩٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: سئل عن قوله:"قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم"، قال: كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله، وليس كل من يقاتل يُقتل، ولكن يُقتل من كَتب الله عليه القتل. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين ولَّوا عن المشركين، من أصحاب رسول الله ﷺ يوم أحد وانهزموا عنهم.
* * *
وقوله:"تولَّوا"،"تفعَّلوا"، من قولهم:"ولَّى فلان ظهره". (٣)
* * *
(٢) الأثر: ٨٠٩٧-"الحارث بن مسلم الرازي المقرئ"، روى عن الثوري، والربيع بن صبيح وغيرهما. قال أبو حاتم: "الحارث بن مسلم، عابد، شيخ ثقة صدوق. رأيته وصليت خلفه". مترجم في ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٨٨.
و"بحر السقاء"، هو"بحر بن كنيز الباهلي السقاء أبو الفضل" روي عن الحسن، والزهري وقتادة. وهو جد"عمرو بن علي الفلاس". وروى عنه الثوري وكناه ولم يسمه، قال يحيى بن سعيد القطان: "كان سفيان الثوري يحدثني، فإذا حدثني عن رجل يعلم أني لا أرضاه كناه لي، فحدثني يوما قال حدثني أبو الفضل، يعني بحرًا السقاء". وقال يحيى بن معين: "بحر السقاء، لا يكتب حديثه". وهو متروك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤١٨.
(٣) انظر تفسير"تولى" فيما سلف ٢: ١٦٢، ٢٩٩ / ٣: ١١٥، ١٣١ / ٤: ٢٣٧ / ٦: ٢٨٣، ٢٩١، ٤٧٧، ٤٨٣.
* * *
وقوله"استزل""استفعل" من"الزلة". و"الزلة"، هي الخطيئة. (١)
* * *
="ببعض ما كسبوا"، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب (٢). ="ولقد عفا الله عنهم"، يقول: ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه (٣) ="إن الله غفور"، يعني به: مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها ="حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. (٤)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عُنوا بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها كلُّ من ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين بأحد.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٩٨- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خطب عمر يوم الجمعة فقرأ"آل عمران"، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله:"إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال: لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررتُ حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أرْوَى، (٥) والناس يقولون:"قُتل محمد"! فقلت: لا أجد أحدًا يقول:"قتل محمد"، إلا قتلته!. حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية كلها. (٦)
(٢) انظر تفسير"كسب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ٣: ١٠١، ١٢٨ / ٤: ٤٤٩ / ٦: ١٣١، ٢٩٥.
(٣) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"غفور حليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٥) "أنزو": أثبت، والنزو الوثب. والأروى: أنثى الوعول، وهي قوية على التصعيد في الجبال.
(٦) الأثر: ٨٠٩٨-"أبو هشام الرفاعي" هو"محمد بن يزيد بن محمد بن كثير"، مضى في رقم: ٣٢٨٦، ٤٥٥٧، ٤٨٨٨، وغيرها. و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط"، قيل اسمه"محمد"، وقيل: "عبد الله" وقيل وقيل، ولكن الحافظ قال: "والصحيح أن اسمه كنيته، كان حافظًا متقنًا، ولكنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، كما قال ابن حبان". مترجم في التهذيب.
و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، ومحمد بن كب القرظي، وغيرهم. روى عنه ابن عون وشعبة وشريك والسفيانان وغيرهم. قال أحمد: "لا بأس بحديثه"، وقال النسائي وابن معين: "ثقة". وكان من العباد، ولم يكن كثير الحديث. مترجم في التهذيب.
وأبوه: "كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وعن خاله الفلتان بن عاصم، وعمر، وعلي، وسعد، وأبي ذر، وأبي موسى، وأبي هريرة وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة، ورأيتهم يستحسنون حديثه ويحتجون به". مترجم في التهذيب.
٨١٠٠- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية، فذكر نحو قول قتادة.
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك خاصٌّ ممن ولَّى الدبر يومئذ، قالوا: وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٠١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما انهزموا يومئذ، تفرّق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
* * *
وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال: نزلت في رافع بن المعلَّى وغيره من الأنصار، وأبي حُذيفة بن عتبة ورجل آخر = قال ابن جريج: وقوله:"إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم.
٨١٠٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فرّ عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان -رجلان من الأنصار- حتى بلغوا الجلْعَب = (١) جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثًا، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضةً!! (٢)
٨١٠٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" الآية،
فَمَا فَتِئَتْ ضُبْعُ الجَلَعْبَيْنِ تَعْتَرى | مَصَارِعَ قَتْلَى فِي التُّرَابِ سِبَالُهَا |
* * *
وأما قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوّهم. كما:-
٨١٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، يقول:"ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم.
٨١٠٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله في تولِّيهم يوم أحد:"ولقد عفا الله عنهم"، فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفوٌ عن المسلمين كلهم؟.
* * *
وقد بينا تأويل قوله:"إن الله غفور حليم"، فيما مضى. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله، فجحد نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لإخوانه من أهل الكفر ="إذا ضربوا في الأرض"
(٢) انظر ما سلف ٥: ١١٧، ٥٢١.
* * *
وقد قيل: إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبَّهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله، هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٠٧- حدثني محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي.
٨١٠٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى"، قول المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول.
٨١٠٩- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون في ذلك: هم جميع المنافقين.
*ذكر من قال ذلك:
٨١١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها
* * *
وأما قوله:"إذا ضربوا في الأرض"، فإنه اختلف في تأويله. (٢) فقال بعضهم: هو السفر في التجارة، والسير في الأرض لطلب المعيشة.
*ذكر من قال ذلك:
٨١١١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا ضربوا في الأرض"، وهي التجارة.
* * *
وقال آخرون: بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
٨١١٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذا ضربوا في الأرض"، الضربُ في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله. (٣)
* * *
وأصل"الضرب في الأرض"، الإبعاد فيها سيرًا. (٤)
* * *
وأما قوله:"أو كانوا غُزًّى"، فإنه يعني: أو كانوا غزاة في سبيل الله.
* * *
و"الغزَّى" جمع"غاز"، جمع على"فعَّل" كما يجمع"شاهد""شهَّد"، و"قائل""قول"،. وقد ينشد بيت رؤبة:
(٢) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف ٥: ٥٩٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٠٦.
(٣) الأثر: ٨١١٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٢، ١٢٣، وهو بعض الأثر السالف: ٨١١٠، وتتمته.
(٤) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف ٥: ٥٩٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٠٦.
وينشد أيضًا:
وقَوْلُهُمْ: إلا دَهٍ فَلا دَهِ *
* * *
وإنما قيل:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى"، فأصحبَ ماضي الفعل، الحرفَ الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل، فقيل:"وقالوا لإخوانهم"، ثم قيل:"إذا ضربوا"، وإنما يقال في الكلام:"أكرمتك إذْ زرتني"، ولا يقال:"أكرمتك إذا زرتني". لأن"القول" الذي في قوله:"وقالوا لإخوانهم"، وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى
"نهنهت فلانًا عن الشيء فتنهنه"، أي: زجرته فانزجر، وكففته فانكف. و"الأول": الرجوع. يقول: قد كفني عن الصبا طولى عتابي لنفسي وملامتي إياها، ورجوع عقل لا يوصف بالسفه، بعد جنون الشباب، ثم قول الناس: "إلا ده، فلا ده".
وقد اختلف في تفسير"إلا ده فلا ده"، اختلاف كثير، قال أبو عبيدة: "يقول إن لم يكن هذا فلا ذا. ومثل هذا قولهم: إن لم تتركه هذا اليوم فلا تتركه أبدًا، وإن لم يكن ذاك الآن، لم يكن أبدًا". وقال ابن قتيبة: "يريدون: إن لم يكن هذا الأمر لم يكن غيره... ويروى أهل العربية أن الدال فيه مبدلة من ذال، كأنهم أرادوا: إن لم تكن هذه، لم تكن أخرى".
وقال أبو هلال: "قال بعضهم: يضرب مثلا للرجل يطلب شيئًا، فإذا منعه طلب غيره. وقال الأصمعي: لا أدري ما أصله! وقال غيره: أصله أن بعض الكهان تنافر إليه رجلان فامتحناه، فقالا له: في أي شيء جئناك؟ قال: في كذا، قالا: لا! فأعاد النظر وقال: إلا ده فلا ده - أي: إن لم يكن كذا فليس غيره، ثم أخبرهما... وكانت العرب تقول، إذا رأى الرجل ثأره: إلا ده فلا ده - أي: إن لم يثأر الآن، لم يثأر أبدًا".
ومهما يكن من أصله، فإن رؤبة يريد: زجرني عن ذلك كف نفسي عن الغي، وأوبة حلم أطاره جنون الشباب، وقول ناصحين يقول: إن لم ترعو الآن عن غيك، فلن ترعوى ما عشت!
فلما كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا في الكلام فصيحًا أن يقال للرجل:"أكرمْ من أكرمك""وأكرم كل رجل أكرمك"، فيكون الكلام خارجًا بلفظ الماضي مع"من"، و"كلٍّ"، مجهولَيْنِ ومعناه الاستقبال، (٣) إذ كان الموصوف بالفعل غير مؤقت، وكان"الذين" في قوله:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض"، غير موقَّتين، (٤) = أجريت مجرى"من" و"ما" في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء، (٥) وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الأفعال وهي بمعنى الاستقبال، كما قال الشاعر في"ما": (٦)
وإنّي لآتِيكُمْ تَشَكُّرَ مَا مَضَى | مِنَ الأمْرِ واسْتِيجَابَ مَا كَانَ فِي غَدِ (٧) |
ولو كان"الذي" موقَّتًا، لم يجز أن يقال ذلك. خطأ أن يقال:"لتُكرِمن
(٢) الموقت، والتوقيت: هو المعرفة المحددة، والتعريف المحدد، وهو الذي يعني سماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد، مثل"زيد"، فإنه يعين مسماه تعيينًا مطلقًا، أو محددًا. وانظر ما سلف ١: ١٨١، تعليق: ١ / ٢: ٣٣٩. والمجهول: غير المعروف، وهو النكرة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة"مع من وكل مجهول"، والصواب ما أثبت، ويعني بقوله"مجهولين": نكرتين.
(٤) "موقتين" جمع"موقت" بالياء والنون، وهي المعرفة كما سلف. والسياق"وكان الذين...... غير موقتين"، لأن"الذين" جمع، فوصفها بالجمع.
(٥) في المخطوطة"التي تذهب الجزاء"، وفي معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٣: "لأن"الذين" يذهب بها إلى معنى الجزاء، من: من، وما". فالتصرف الذي ذهب إليه الناشر الأول صواب جيد جدًا."والترجمة" هنا: التفسير والبيان.
(٦) هو الطرماح بن حكيم.
(٧) مضى تخريج البيت وشرحه فيما سلف ٢: ٣٥١، تعليق: ٥.
* * *
وأما قوله:"ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، فإنه يعني بذلك: حزنًا في قلوبهم، (٣) كما:-
٨١١٣- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في قلوبهم"، قال: يحزنهم قولهم، لا ينفعهم شيئًا.
٨١١٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٨١١٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه. (٤)
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٣، ٢٤٤.
(٣) انظر تفسير"الحسرة" فيما سلف ٣: ٢٩٥ - ٢٩٩.
(٤) الأثر: ٨١١٥- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٣، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١١٠، ٨١١٢.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله يحيي ويميت) والله المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء، (١) والمميت من يشاء كلما شاء، دون غيره من سائر خلقه.
وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله = وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له = ونهيٌ منه لهم، إذ كان كذلك، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين.
* * *
ثم قال جل ثناؤه:"والله بما تعملون بصيرٌ"، يقول: إن الله يرى ما تعملون من خير وشر، فاتقوه أيها المؤمنون، إنه محصٍ ذلك كله، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق.
٨١١٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله يحيي ويميت"، أي: يعجل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٨١١٦- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٣، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١١٥.
قال أبو جعفر: يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين، يقول لهم: (١) لا تكونوا، أيها المؤمنون، في شك من أن الأمور كلها بيد الله، وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شك المنافقون في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ، وأخبرهم أن موتًا في سبيل الله وقتلا في الله، (٢) خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله، ويتأخرون عن لقاء العدو، كما:-
٨١١٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، أي: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله أو قتل، خير = لو علموا فأيقنوا = مما يجمعون في الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد، تخوفًا من الموت والقتل لما جمعوا من زَهرة الدنيا، وزهادةً في الآخرة. (٣).
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قال الله عز وجل:"لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، وابتدأ الكلام:"ولئن متم أو قتلتم" بحذف جواب"لئن"، (٤) لأن في قوله:
(٢) في المطبوعة: "وقتلا" وأثبت ما في المخطوطة، وهو أجود.
(٣) الأثر: ٨١١٧- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٣، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١١٦. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "لما جمعوا من زهيد الدنيا" وهو تحريف، والصواب من سيرة ابن هشام. وزهرة الدنيا: حسنها وبهجتها وغضارتها، وكثرة خيرها، ورغيد عيشها. وفي سيرة ابن هشام: "زهادة في الآخرة"، بغير واو.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة"بحذف جزاء لئن"، وهو خطأ بين وتصحيف من الناسخ، سقطت منه باء"جواب" فكتب"جزاء".
* * *
فتأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، ليغفرن الله لكم وليرحمنّكم = فدلّ على ذلك بقوله:"لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، وجمع مع الدلالة به عليه، الخبَرَ عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة، أنه إن قيل: كيف يكون:"لمغفرة من الله ورحمة" جوابًا لقوله:"ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم"؟ فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في سبيلي، (٢) فقال:"لمغفرة من الله ورحمة،" يقول: لذلك خير مما تجمعون، يعني: لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون.
* * *
ودخلت اللام في قوله:"لمغفرة من الله"، لدخولها في قوله: و"لئن"، كما قيل: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ) [سورة الحشر: ١٢]
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن [القول] فيه أن يقال فيه: كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم [فذكر لهم] رحمة من الله ومغفرة، إذا كان ذلك في [السبيل] "، وقد وضعت الكلمات التي استبدلت بها غيرها بين أقواس. وهذه الجملة التي في المطبوعة والمخطوطة لا يكاد يكون لها معنى. فالكلمة الأولى"القول" لا شك في خطئها، وصوابها ما أثبت. أما "فذكر لهم"، فإني أظن أن الناسخ قد أخطأ قراءة المخطوطة القديمة التي نقل عنها فقرأ"فذلك لكم""فذكر لهم" وأما "السبيل"، ففي المخطوطة ضرب خفيف على ألف"السبيل"، فرجحت قراءتها كما أثبت. وهو حق المعنى، فاستقامت هذه الجملة مع ما بعدها، والحمد لله.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولئن متم أو قتلتم، أيها المؤمنون، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم، فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقرّبكم من الله ويوجب لكم رضاه، ويقربكم من الجنة، من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته، على الركون إلى الدنيا وما تجمعون فيها من حُطامها الذي هو غير باقٍ لكم، بل هو زائلٌ عنكم، وعلى ترك طاعة الله والجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم، ويوجب لكم سخطه، ويقرِّبكم من النار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق:
٨١١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن متم أو قتلتم"، أيُّ ذلك كان ="لإلى الله تحشرون"، أي: أن إلى الله المرجع، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا تغتروا بها، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه، آثر عندكم منها. (١)
* * *
وأدخلت"اللام" في قوله:"لإلى الله تحشرون"، لدخولها في قوله:"ولئن". ولو كانت"اللام" مؤخرة إلى قوله:"تحشرون"، لأحدثت"النون" الثقيلة فيه، كما تقول في الكلام:"لئن أحسنتَ إليّ لأحسننَّ إليك" بنون مثقّلة. فكان كذلك قوله: ولئن متم أو قتلتم لتحشرن إلى الله، ولكن لما حِيل بين"اللام" وبين"تحشرون" بالصفة، (٢) أدخلت في الصفة، وسلمت"تحشرون"،
(٢) في المطبوعة: "لما حيز بين اللام..."، وفي المخطوطة: "ولما حين..."، وصواب قراءتها ما أثبت. و"الصفة" حرف الجر، انظر ما سلف ١: ٢٩٩، تعليق: ١، وسائر فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فبما رحمة من الله"، فبرحمة من الله، و"ما" صلة. (١) وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [سورة البقرة: ٢٦]. (٢) والعرب تجعل"ما" صلة في المعرفة والنكرة، كما قال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) [سورة النساء: ١٥٥ سورة المائدة: ١٣]، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا في المعرفة. وقال في النكرة: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) [سورة المؤمنون: ٤٠]، والمعنى: عن قليل. وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحيانًا على وجه الصلة، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: (٣)
فَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا | حُبُّ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (٤) |
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٠٤، ٤٠٥.
(٣) هو حسان بن ثابت، أو كعب بن مالك، أو غيرهما، انظر ما سلف ١: ٤٠٤ تعليق: ٥.
(٤) سلف تخريج البيت في ١: ٤٠٤، تعليق: ٥.
(٥) وذلك أن"من" و"ما" حكمهما في هذا واحد، كما سلف في ١: ٤٠٤.
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٨١١٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، يقول: فبرحمة من الله لنت لهم.
* * *
وأما قوله:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فإنه يعني بـ"الفظ" الجافي، وبـ"الغليظ القلب"، القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: ١٢٨].
* * *
فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك ="لنت لهم"، لتبَّاعك وأصحابك، فسُهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم. كما:-
٨١٢٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، إي والله، لطهَّره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيما بالمؤمنين رءوفًا = وذكر لنا أن نعت محمد صلى
٨١٢١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه.
٨١٢٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، قال: ذكر لينه لهم وصبره عليهم = لضعفهم، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه = في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيِّهم. (١)
* * *
وأما قوله:"لانفضوا من حولك"، فإنه يعني: لتفرقوا عنك. كما:-
٨١٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح قال، قال ابن عباس: قوله:"لا نفضوا من حولك"، قال: انصرفوا عنك.
٨١٢٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"لانفضوا من حولك"، أي: لتركوك. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٨١٢٤- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٣، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٢٢، ولكنه سابق له في سيرة ابن هشام.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاعف عنهم"، فتجاوز، يا محمد، عن تُبَّاعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك ="واستغفر لهم"، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جُرْم، واستحقوا عليه عقوبة منه. كما:-
٨١٢٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاعف عنهم"، أي: فتجاوز عنهم ="واستغفر لهم"، ذنوبَ من قارف من أهل الإيمان منهم. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه ﷺ أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟
فقال بعضهم: أمر الله نبيه ﷺ بقوله:"وشاورهم في الأمر"، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه = بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه = عنهم.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٢٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"،
٨١٢٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وشاورهم في الأمر"، قال: أمر الله نبيه ﷺ أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم.
٨١٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وشاورهم في الأمر"، أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيًّا، تؤلفهم بذلك على دينهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوبَ الأمور في التدبير، (٢) لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضْل.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٢٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: ما أمر الله عز وجل نبيه ﷺ بالمشورة، إلا لما علم فيها من الفضل.
٨١٣٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم. (٣)
* * *
وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه بمشاورتهم فيه، مع
(٢) في المطبوعة: "بل أمره بذلك في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور..."، لم يستطع الناشر أن يحسن قراءة المخطوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) الأثر: ٨١٣٠-"إياس بن دغفل الحارثي، أبو دغفل"، روي عن الحسن، وأبي نضرة وعطاء وغيرهم، وروى عنه معتمر بن سليمان، وأبو داود الطيالسي، وأبو عامر العقدي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٣١- حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال، قال سفيان بن عيينة في قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي ﷺ فيه أثر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه ﷺ بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان = وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها، (٢) ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته ﷺ يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق، (٣) وإرادةِ
(٢) في المطبوعة: "ما في الأمور"، والصواب ما في المخطوطة، ولكن الناشر الأول لم يحسن قراءتها. يريد: الوجه الذي تؤتى منه الأمور وتطلب.
(٣) "توخى الأمر": تحراه وقصده ويممه، ثم تقلب واوه ألفًا فيقال"تأخيت الأمر"، والشافعي رضي الله عنه يكثر من استعمالها في كتبه كذلك. ثم انظر تعليق أخي السيد أحمد، على رسالة الشافعي ص: ٥٠٤، تعليق: ٢.
* * *
وأما قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، فإنه يعني: فإذا صحِّ عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك، أو خالفها ="وتوكل"، فيما تأتي من أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ="فإن الله يحب المتوكلين"، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما:-
٨١٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين" ="فإذا عزمت"، أي: على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرتَ به، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك = و"توكل على الله"، (١) أي: ارضَ به من العباد ="إن الله يحب المتوكلين". (٢)
٨١٣٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، أمر الله نبيه ﷺ إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيمَ على أمر الله، ويتوكل على الله.
٨١٣٤- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، الآية، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه.
* * *
(٢) الأثر: ٨١٣٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٣، ١٢٤، وهو من تمام الآثار التي آخرها: ٨١٢٨.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن ينصركم الله"، أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه والكافرين به ="فلا غالب لكم" من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر، دونهم ="وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يعني: إن يخذلكم ربكم بخلافكم أمره وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى أنفسكم ="فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يقول: فأيسوا من نصرة الناس، (١) فإنكم لا تجدون [ناصرًا] من بعد خذلان الله إياكم إن خذلكم، (٢) يقول: فلا تتركوا أمري وطاعتي وطاعة رسولي فتهلكوا بخذلاني إياكم ="وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، يعني: ولكن على ربكم، أيها المؤمنون، فتوكلوا دون سائر خلقه، وبه فارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فاستسلموا، وجاهدوا فيه أعداءه، يكفكم بعونه، ويمددكم بنصره. كما:-
٨١٣٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن ينصركم
(٢) في المطبوعة: "فإنكم لا تجدون امرءًا من بعد خذلان الله"، وفي المخطوطة: "لا تجدون أمرًا"، ولم أجد لهما معنى أرتضيه، فوضعت"ناصرًا" مكان"أمرًا" بين القوسين، استظهارًا من معنى الآية، وإن كنت أخشى أن يكون قد سقط من الناسخ شيء، أو كتبت شيئًا مصحفًا لم أهتد لأصله. وانظر سهو الناسخ في التعليق التالي.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)، بمعنى: أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم. واحتجَّ بعض قارئي هذه القراءة: أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ في قطيفة فُقدت من مغانم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم:"لعل رسول الله ﷺ أخذها! "، ورووا في ذلك روايات، فمنها ما:-
٨١٣٦- حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مقسم قال، حدثني ابن عباس: أن هذه الآية:"وما كان لنبيّ أن يغل"، نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، قال: فقال بعض الناس: أخذها! قال: فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلُل يأت بما غل يوم القيامة". (٢)
٨١٣٧- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا
(٢) الأثر: ٨١٣٦-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي الأموي"، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال النسائي: "لا بأس به"، وهو ثقة جليل صدوق. و"عبد الواحد بن زياد العبدي" أحد الأعلام سلفت ترجمته في: ٢٦١٦. و"خصيف بن عبد الرحمن الجزري"، رأى أنسًا، وروي عن عطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومقسم وغيرهم. قال أحمد"ضعيف الحديث"، وقال: "شديد الاضطراب في المسند". وقال ابن عدي: "إذا حدث عن خصيف ثقة، فلا بأس بحديثه". وقال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا واحتج به آخرون، وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروى، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات، وترك ما لم يتابع عليه". مترجم في التهذيب.
والحديث رواه الترمذي في باب تفسير القرآن، من طريق قتيبة، عن عبد الواحد بن زياد، بمثله وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وقد روى عبد السلام بن حرب عن خصيف نحو هذا، وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس" - يعني مرسلا. ونسبه ابن كثير في تفسيره ٢: ٢٧٩، إلى أبي داود أيضًا، ونسبه السيوطى في الدر المنثور ٢: ٩١ إلى أبي داود، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والترمذي، وابن جرير.
٨١٣٨- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس:"وما كان لنبي أن يغل"، قال: كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فلعل النبي أخذها"! فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغُل" = [قال سعيد: بلى والله، إنّ النبي ليُغَلّ ويُقتل]. (١)
٨١٣٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خلاد، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر، فقالوا:"أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم! ". فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبيّ أن يغُلّ".
٨١٤١- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا قزعة بن سويد الباهلي، عن حميد الأعرج، عن سعيد بن جبير قال: نزلت هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغل"، في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة. (١)
٨١٤٢- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن سليمان الأعمش قال: كان ابن مسعود يقرأ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)، فقال ابن عباس: بلى، ويُقْتَل = قال: فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا: إن رسول الله ﷺ غَلَّها، يوم بدر. فأنزل الله:"وما كان لنبيّ أن يَغُل".
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك، بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله ﷺ ووجَّههم في وجه، ثم غنم النبي ﷺ فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأنّ الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرِّفه الواجبَ عليه من الحكم فيما
*ذكر من قال ذلك:
٨١٤٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة"، يقول: ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله. يقول: ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي ﷺ استنُّوا به. (٢)
٨١٤٤- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: أنه كان يقرأ:"ما كان لنبي أن يغلَّ"، قال: أن يعطي بعضًا، ويترك بعضًا، إذا أصاب مغنمًا.
٨١٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: بعث رسول الله ﷺ طلائع، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبيّ أن يغل".
٨١٤٦- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"ما كان لنبي أن يغل"، يقول: ما كان لنبيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل، ويحكم فيه بما أنزل الله.
٨١٤٧- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
(٢) الأثر: ٨١٤٣- هذا إسناد دائر في التفسير، وانظر الكلام فيه برقم: ٣٠٥.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما أنزل ذلك تعريفًا للناس أنّ النبيّ ﷺ لا يكتم من وحي الله شيئًا.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٤٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان لنبيّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"، أي: ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبي أن يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم.
* * *
يقال منه:"غلّ الرجل فهو يغُلُّ"، إذا خان،"غُلولا". ويقال أيضًا منه:"أغلَّ الرجل فهو يُغِلُّ إغلالا"، كما قال شريح:"ليس على المستعير غير المغِلِّ ضمَان"، يعني: غير الخائن. ويقال منه:"أغلّ الجازر"، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. (٢)
* * *
وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٤٩- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا
(٢) يعني عند سلخ الذبيحة، يسلخها فيترك شيئًا من اللحم ملتزقًا بإهابها.
٨١٥٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ما كان لنبي أن يغل"، قال: أن يخون.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) بضم"الياء" وفتح"الغين"، وهي قراءة عُظم قرأة أهل المدينة والكوفة.
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبي أن يَغُلّه أصحابه، ثم أسقط"الأصحاب"، فبقي الفعل غير مسمًّى فاعله. وتأويله: وما كان لنبيّ أن يُخان.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٥١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه كان يقرأ:"وما كان لنبيّ أن يُغَل" قال عوف، قال الحسن: أن يخان.
٨١٥٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كان لنبي أن يغل"، يقول: وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ يوم بدر، وقد غَلَّ طوائف من أصحابه.
٨١٥٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"وما كان لنبي أن يُغَل"، قال: أن يغله أصحابه.
٨١٥٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما كان لنبي أن يُغَلَّ"، قال
* * *
وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخوَّن ويسرَّق. وكأن متأولي ذلك كذلك، وجَّهوا قوله:"وما كان لنبي أن يغل" إلى أنه مراد به:"يغَلَّل"، ثم خففت"العين" من"يفعَّل"، فصارت"يفعل" كما قرأ من قرأ قوله: (فإنهم لا يكذبونك) [سورة الأنعام: ٣٣] بتأوُّل: يُكَذِّبُونَك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) بمعنى: ما الغلول من صفات الأنبياء، ولا يكون نبيًّا من غلَّ.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله:"وما كان لنبي أن يغل" أهلَ الغلول فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآية والتي بعدها. فكان في وعيده عقيب ذلك أهلَ الغلول، الدليلُ الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله:"وما كان لنبيّ أن يغلّ". لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله ﷺ أن يتهموا رسول الله ﷺ بالغلول، لعقَّب ذلك بالوعيد على التُّهَمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيد على الغلول. وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول، بيانٌ بيِّنٌ، أنه إنما عرّف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتفٍ من صفة الأنبياء وأخلاقهم، لأنّ ذلك جرم عظيم، والأنبياء لا تأتي مثله.
* * *
قيل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبي ﷺ فيخونوه، حتى خُصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فإن قالوا:"نعم"، خرجوا من قول أهل الإسلام. لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط.
وإن قال قائل: لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره.
قيل: فما وجه خصوصهم إذًا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وغُلوله وغُلول بعض اليهود بمنزلةٍ فيما حرم الله على الغالِّ من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما؟
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه، ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلول، وآمرًا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية، (٣) ثم عقَّب تعالى ذكره نهيَهم عن الغلول بالوعيد عليه فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآيتين معًا.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ذلك كما ذكرت" سقط من الناسخ"كان" فأثبتها، لأن هذا هو حق المعنى الذي أراده أبو جعفر في سياق قول من رد عليه قوله.
(٣) يعني الأثر: ٨١٤٣، "وعطية" المذكور، هو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، الذي روى عن ابن عباس، وهو المذكور في الإسناد السالف"عن أبيه". وقد أشكل ذلك على بعض من علق على التفسير، فقال: لم يمض لعطية هذا ذكر!! ولكنه مذكور كما ترى.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ومن يخُن من غنائم المسلمين شيئًا وفيئهم وغير ذلك، يأت به يوم القيامة في المحشر. كما:-
٨١٥٥- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، (١) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، (٢) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، (٣) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار (٤)، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك! ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقاع تخفِق
(٢) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل، كالذي يكون منه إذا طلب العلف، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه، فاستأنس إليه.
(٣) الصامت هو الذهب والفضة، أو ما لا روح فيه من أصناف المال. يقال: "ما له صامت ولا ناطق". فالناطق: الحيوان، كالإبل والغنم وغيرها.
(٤) "الخوار": صوت الثور، وما اشتد من صوت البقرة والعجل."خار الثور يخور".
٨١٥٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي حيّان، عن أبى زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل هذا = زاد فيه
(٢) الحديث: ٨١٥٥- أبو حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء التحتية- يحيى بن سعيد ابن حيان التيمي: مضت ترجمته: ٥٣٨٢. ووقع في المطبوعة في الإسنادين التاليين لهذا"أبو حبان" بالباء الموحدة، وهو خطأ.
ووقع هنا في المخطوطة: "عن يحيى بن سعيد، عن أبي حيان". وهو خطأ. فإن"أبا حيان": اسمه"يحيى بن سعيد" - كما ذكرنا. ومحمد بن فضيل بن غزوان سمع منه، ويروى عنه مباشرة، كما هو ثابت في ترجمتهما.
نعم: إن"يحيى بن سعيد القطان" روى هذا الحديث عن"أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي"، كما سيأتي في التخريج - ولكن ليس في هذا الإسناد.
أبو زرعة - بضم الزاي وسكون الراء: هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي. وهو تابعي ثقة، من علماء التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ٢ / ٢٤٣ - ٢٤٤، فيمن اسمه"هرم"، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٦٥ - ٢٦٦، فيمن اسمه"عبد الرحمن"، لاختلافهم في اسمه. والظاهر أن اسمه كنيته. ووقع في المطبوعة، في الرواية الآتية: ٨١٥٧-"عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير"، وهو تحريف، صوابه"بن" بدل"عن".
والحديث سيأتي عقب هذا بإسنادين: من طريق عبد الرحمن، عن أبي حيان، ومن طريق ابن علية، عن أبي حيان.
ورواه أحمد في المسند: ٩٤٩٩ (ج٢: ص: ٤٢٦ حلبي). عن إسماعيل -وهو ابن علية- عن أبي حيان.
ورواه مسلم ٢: ٨٣، عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن علية، به.
ورواه البخاري ٦: ١٢٩ (فتح)، عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان، عن أبي حيان وهو يحيى بن سعيد التيمي.
ورواه مسلم أيضا بأسانيد. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٩: ١٠١ بأسانيد.
وروى البخاري قطعة منه، ضمن حديث، من وجه آخر ٣: ٢١٣ (فتح). وذكره ابن كثير ٢: ٢٨١، من رواية المسند، ثم قال: "أخرجاه من حديث أبي حيان، به" يريد الشيخين. وذكره السيوطى ٢: ٩٢، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والبيهقي في الشعب.
٨١٥٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيّان، عن أبي زرعة، بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: قام رسول الله ﷺ فينا يومًا، فذكر الغُلول، فعظَّمه وعظَّم أمره فقال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني = (٢) ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن عبد الرحمن. (٣)
٨١٥٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بشر، عن يعقوب القمي قال، حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أعرفَنّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد! يا محمد! (٤) فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رُغاء يقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنَّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسًا له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قِشْعًا من أَدَمٍ، (٥)
قوله: "نفس لها صياح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكأنه أراد بالنفس، ما يغله من الرقيق، من امرأة أو صبي".
(٢) "الرغاء": صوت ذوات الخف كالإبل، وقد يستعار لغيره: "رغا البعير يرغو".
(٣) الحديث: ٨١٥٧- هو تكرار للحديثين قبله. وقوله في آخره"ثم ذكر نحو حديث أبي كريب عن عبد الرحمن" أخشى أن يكون محرفًا، وأن صوابه"عن عبد الرحيم"، كما بينا من قبل.
(٤) قوله: "لا أعرفن" قد سلف أن بينت في التعليق على الأثر: ٨٠١١، ص: ٢٨٦ تعليق: ٤، والأثر: ٨٠٢٥، أنها كلمة تقال عند التهديد والوعيد والزجر الشديد، وستأتي أيضًا في رقم: ٨١٦٠ بعد.
(٥) "القشع": هو النطع الخلق من الجلد، وهو الفرو الخلق أيضًا. وقال ابن الأثير: أراد القربة البالية. و"الأدم" جمع أديم: وهو الجلد. وفي المطبوعة والمخطوطة وابن كثير"قسما"، خطأ محض.
٨١٥٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط بن محمد قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن ذكوان، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد قال، بعث رسول الله ﷺ مصدقًا فجاء بسوادٍ كثير، قال: فبعث رسول الله ﷺ من يقبضه منه. فلما أتوه جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم. قال فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: أهدي إليّ! فأتوا رسول الله ﷺ فأخبروه بذلك، فخرج فخطب فقال:"أيها الناس، ما بالي أبعث قومًا إلى الصدقة، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير، (٢) فإذا بعثت من يقبضه قال:"هذا لي، وهذا لكم"! فإن كان صادقًا أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه أو في بيت أمه؟ " ثم قال:"أيها الناس، من بعثناه على عمل فغَلَّ شيئًا، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة تخور، أو شاة تثغو". (٣)
٨١٦٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلا من الأزد يقال له"ابن الأتْبِيَّة" على صدقات
(٢) "السواد" العدد الكثير من المال، سمى بذلك لأن الإبل والغنم وغيرها إذا جاءت كثيرة مجتمعة، ترى كأنها سواد في خافق الأرض. يقال: "لفلان سواد كثير"، أي مال كثير من إبل وغنم وغيرها. ويقال للشخص الذي يرى من بعيد"سواد"، وفي الحديث: "إذا رأى أحدكم سوادًا بليل، فلا يكن أجبن السوادين، فإنه يخافك كما تخافه"، يعني بالسواد الشخص.
(٣) انظر التعليق على رقم: ٨١٦١.
٨١٦١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد، حدثه بمثل هذا الحديث = قال: أفلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك؟ ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه، ثم قال:"اللهم هل بلغت؟ "= قال أبو حميد: بَصَرُ عيني وسَمْعُ أذني. (٣)
٨١٦٢- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن موسى بن جبير حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر يومًا الصدقة فقال: ألم تسمع رسول الله ﷺ حين ذكر
(٢) يعرت العنز تيعر (مثل فتح يفتح) يعارًا (بضم الياء) : صوتت صوتًا شديدًا. وكان في المطبوعة: "تثغو"، وهو وإن كان صوابًا في المعنى، فهو خطأ في الرواية، صوابه من المخطوطة، ومن رواية الحديث كما ترى في التخريج.
(٣) الأحاديث: ٨١٥٩ - ٨١٦١، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وعبد الرحيم - في ثالثها هو ابن سليمان الأشل. والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ٤٢٣ - ٤٢٤ (حلبي)، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي، بنحوه. وكذلك رواه البخاري ١٣: ١٤٤ - ١٤٦، ومسلم ٢: ٨٣ - ٨٤، من طريق سفيان بن عيينة. ورواه البخاري أيضًا في مواضع أخر.
ورواه مسلم -عقب تلك الرواية- من أوجه أخر، منها من طريق عبد الرحيم بن سليمان. وذكره ابن كثير: ٢: ٢٨٠ - ٢٨١، من رواية المسند، ثم قال: "أخرجاه (يعني الشيخين)، من حديث سفيان بن عيينة... ومن غير وجه عن الزهري، ومن طرق عن هشام بن عروة - كلاهما عن عروة، به".
قوله: "بصر عيني، وسمع أذني" اختلفوا في ضبطه، فروى على أنه فعل"بصر" (بفتح الباء وضم الصاد""وسمع" فعل. وروى"بصر، وسمع" اسمان. يراد به: "أعلم هذا الكلام يقينًا، أبصرت عيني النبي ﷺ حين تكلم به، وسمعته أذني فلا شك في علمي به"، كما قال النووي في شرح مسلم ١٢: ٢٢٠، ٢٢١.
٨١٦٣- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ بعث سعد بن عبادة مصدِّقًا، فقال: إياك، يا سعد، أنْ تجيء يوم القيامة ببعير تحمله رغاء! قال: لا آخذه ولا أجئ به! فأعفاه. (٢)
وهذا الحديث من مسند عمر، ومن مسند عبد الله بن أنيس، لتصريح كل منهما بأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن الإمام أحمد لم يذكره في مسند عمر، وذكره في مسند عبد الله بن أنيس فقط.
فرواه أحمد: ١٦١٣١ (ج ٣ ص ٤٩٨ حلبي)، عن هارون بن معروف، عن عمرو بن الحارث - بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابنه عبد الله بن أحمد، عن هارون بن معروف.
ورواه ابن ماجه: ١٨١٠، من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، به. وقال البوصيري في زوائده: "في إسناده مقال، لأن موسى بن جبير ذكره ابن حبان في الثقات وقال: إنه يخطئ. وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، ولم أر لغيرهما فيه كلامًا وعبد الله بن عبد الرحمن: ذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجاله ثقات". ونقله ابن كثير ٢: ٢٨٣، عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ثم نسبه أيضًا لابن ماجه، ولم يزد! ففاته أن ينسبه للمسند، وهو أهم.
وذكره السيوطي في الجامع الصغير: ٨٨٨٢، ونسبه لأحمد، والضياء المقدسي، عن عبد الله بن أنيس فقط. وهو عنه وعن عمر، كما بينا.
(٢) الحديث: ٨١٦٣- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضيا في: ٢٢٥٥ يحيى بن سعيد الأنصاري النجاري: مضى مرارًا، آخرها: ٤٨٠٩. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح. وسيأتي تخريج الحديث في الذي بعده.
٨١٦٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حبان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث قال، حدثني جدي عبيد بن أبي عبيد - وكان أول مولود
وهذا إسناد صحيح أيضًا، لكن إسماعيل بن عياش لم يخرج له شيء في الصحيحين. والحديث في معنى الذي قبله، أطول في اللفظ قليلا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٨٦، من حديث ابن عمر، بنحو اللفظ السابق. وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح".
وذكره ابن كثير ٢: ٢٨٣، عن الرواية الماضية من الطبري. ثم قال: "ثم رواه من طريق عبيد الله، عن نافع، به. نحوه". ولم يروه أحمد في المسند في مسند عبد الله بن عمر، ولكن رواه في مسند"سعد بن عبادة"، من حديثه ٥: ٢٨٥ (حلبي)، بنحوه -بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، عن سعد بن عبادة. وهو إسناد منقطع بين ابن المسيب وابن عبادة. فإن سعد بن عبادة توفي سنة ١٥، وقيل: سنة ١١. وسعيد بن المسيب ولد سنة ١٥، فلم يدركه يقينًا. وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٨٥، من حديث سعد بن عبادة. وقال: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، إلا أن سعيد بن المسيب لم ير سعد بن عبادة".
٨١٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن جده عبيد بن أبي عبيد قال: استعملت على صدقة دوس، فلما قضيت العمل قدمت، فجاءني أبو هريرة فسلم علي فقال: أخبرني كيف أنت والإبل = ثم ذكر نحو حديثه عن زيد، إلا أنه قال: جاء به يوم القيامة على عنقه له رُغاء. (٣)
٨١٦٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم
(٢) الحديث: ٨١٦٥- أبو كريب: هو محمد بن العلاء، الحافظ الثقة. زيد بن حبان: هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم بأنه محرف. فليس في الرواة -فيما نعلم- إلا زيد بن حبان الرقى، وهو قديم، مات سنة ١٥٨. فلم يدركه أبو كريب المتوفي سنة ٢٤٨. والراجح عندي أنه محرف عن"زيد بن الحباب العكلي"، الذي يروي عنه كريب كثيرًا. وهو ثقة، مضت ترجمته: ٢١٨٥.
عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد بن أبي عبيد: ثقة. قال أبو زرعة: "لا بأس به". وهو مترجم عند ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٢٤، باسم"عبد الرحمن بن الحارث بن أبي عبيد". فقصر في نسبه، إذ حذف اسم جده الأدنى. وقد ثبت نسبه على الصواب في ترجمة جده في التهذيب. ولم أجد لعبد الرحمن هذا ترجمة غيرها. عبيد بن أبي عبيد الغفاري، مولى بني رهم: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٤١١، وثقات ابن حبان، ص: ٢٦٩ (مخطوط مصور). وقد خلط ابن أبي حاتم في اسم حفيده"عبد الرحمن بن الحارث" فذكره في ترجمة جده، في الرواة عنه، باسم"عبد الرحمن بن عبيد بن الحارث". والحديث سيأتي عقبه بإسناد آخر.
(٣) الحديث: ٨١٦٦- خالد بن مخلد: هو القطواني البجلي. مضت ترجمته في: ٢٢٠٦.
وقوله"حدثني محمد" - هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم أنه خطأ، زيادة من الناسخين. فإن"خالد بن مخلد" يروي عن"عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد" مباشرة، كما ثبت في ترجمة"عبد الرحمن" عند ابن أبي حاتم. وفيه: "سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن الحارث الذي يحدث عنه خالد بن مخلد القطواني".
ولو كان هذا الراوي"محمد" ثابتا في الإسناد، لبين نسبه أو نحو ذلك، فإن اسم"محمد" أكثر الأسماء دورانًا، فلا يذكر هكذا مجهلا، دون قرينة ترشد عن شخصه. والحديث مكرر ما قبله.
وقد مضى معناه من حديث أبي هريرة، من رواية أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عنه: ٨١٥٥ - ٨١٥٧. وأما من هذا الوجه، من رواية عبيد بن أبي عبيد، عنه -: فإني لم أجده في موضع آخر.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه (٢) :"ثم توفى كل نفس"، ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها، وافيًا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك (٣) ="وهم لا يظلمون"، يقول: لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم، من غير أن يعتدي عليهم فينقصوا عما استحقوه. كما:-
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك جل ثناؤه"، والصواب يقتضي ما أثبت.
(٣) انظر تفسير"وفي" فيما سلف ٦: ٤٦٥ - وتفسير"كسب" فيما سلف ص: ٣٢٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول، كمن باء بسخَط من الله بغلوله ما غلّ؟
*ذكر من قال ذلك:
٨١٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك في قوله:"أفمن اتبع رضوان الله"، قال: من لم يغلّ ="كمن باء بسخط من الله"، كمن غل.
٨١٧٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف، عن الضحاك قوله:"أفمن اتبع رضوان الله"، قال: من أدَّى الخمُس ="كمن باء بسخط من الله"، فاستوجب سخطًا من الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
٨١٧١- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أفمن
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية عندي، قولُ الضحاك بن مزاحم. لأن ذلك عَقيب وعيد الله على الغلول، ونهيه عباده عنه. ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده: أسواءٌ المطيع لله فيما أمره ونهاه، والعاصي له في ذلك؟ أي: إنهما لا يستويان، ولا تستوي حالتاهما عنده. لأن لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه، الجنةُ، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه النار.
* * *
فمعنى قوله:"أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله" إذًا: أفمن ترك الغلول وما نهاه الله عنه عن معاصيه، وعمل بطاعة الله في تركه ذلك، وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه، متبعًا في كل ذلك رضا الله، ومجتنبًا سخطه ="كمن باء بسخط من الله"، يعني: كمن انصرف متحمِّلا سخط الله وغضبه، فاستحق بذلك سكنى جهنم" يقول: ليسا سواءً. (٢)
* * *
وأما قوله:"وبئس المصير"، فإنه يعني: وبئس المصير = الذي يصير إليه ويئوب إليه من باء بسخط من الله = جهنم. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير"باء" فيما سلف ٢: ١٣٨، ٣٤٥ / ثم ٧: ١١٦.
(٣) انظر تفسير"المصير" فيما سلف ٣: ٥٦ / ٦: ١٢٨، ٣١٧. وسياق الجملة: "وبئس المصير... جهنم" وما بينهما تفسير"المصير".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من اتبع رضوان الله ومن باء بسخَط من الله، مختلفو المنازل عند الله. فلمن اتبع رضوان الله، الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخط من الله، المهانةُ والعقاب الأليم، كما:-
٨١٧٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون، أي: لكلٍّ درجات مما عملوا في الجنة والنار، إنّ الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (١).
٨١٧٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"هم درجات عند الله"، يقول: بأعمالهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لهم درجات عند الله، يعني: لمن اتبع رضوان الله منازلُ عند الله كريمة.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٧٤- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"هم درجات عند الله"، قال: هي كقوله: (" لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ").
٨١٧٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هم درجات عند الله"، يقول: لهم درجاتٌ عند الله.
* * *
أرَجْمًا لِلْمَنُونِ يَكُونُ قَوْمي | لِرَيْبِ الدَّهْرِ أَمْ دَرَجُ السّيولِ (٢) |
وأما قوله:"والله بصير بما يعملون"، فإنه يعني: والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، يحصى على الفريقين جميعًا أعمالهم، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشر، كما:-
٨١٧٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله بصير بما يعملون"، يقول: إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (٣).
* * *
(٢) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف ٢: ٥٤٧، ٥٤٨، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت هناك.
(٣) الأثر: ٨١٧٦- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٤، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٧٢، وجزء منه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: لقد تطوّل الله على المؤمنين ="إذ بعث فيهم رسولا"، حين أرسل فيهم رسولا ="من أنفسهم"، نبيًّا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول ="يتلو عليهم آياته"، يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله (١) ="ويزكيهم"، يعني: يطهّرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم (٢) ="ويعلمهم الكتاب والحكمة"، يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه ="والحكمة"، ويعني بالحكمة، السُّنةَ التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيانَه لهم (٣) ="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، يعني: وإن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته ="لفي ضلال مبين"، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقًّا، ولا يبطلون باطلا.
* * *
وقد بينا أصل"الضلالة" فيما مضى، وأنه الأخذ على غير هدى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤).
* * *
(٢) انظر تفسير"يزكي" فيما سلف ١: ٥٧٣، ٥٧٤ / ٣: ٨٨ / ٥: ٢٩ / ٦: ٥٢٨.
(٣) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف ٣: ٨٧، ٨٨ / ٥: ١٥، ٣٧١، ٥٧٦ - ٥٧٩.
(٤) انظر تفسير"الضلالة" فيما سلف ١: ١٩٥ / ٢: ٤٩٥، ٤٩٦.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٧٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم"، منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة، جعله الله رحمة لهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم = قوله:"ويعلمهم الكتاب والحكمة"، الحكمة، السنة ="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، ليس والله كما تقول أهل حروراء:"محنة غالبة، من أخطأها أهَريق دمه"، (٢) ولكن الله بعث نييه ﷺ إلى قوم لا يعلمون فعلَّمهم، وإلى قوم لا أدب لهم فأدَّبهم.
٨١٧٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،"لقد منّ الله على المؤمنين"، إلى قوله:"لفي ضلال مبين"، أي: لقد منّ الله عليكم، يا أهل الإيمان، إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم فيما أحدثتم وفيما عملتم، (٣) ويعلمكم الخير والشر، لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشر فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه، لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته ="وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين"، أي: في عمياء من الجاهلية،
(٢) أهل حروراء: هم الخوارج، وهذا مذهبهم.
(٣) في المطبوعة: "فيما أخذتم وفيما عملتم" لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أوَ حين أصابتكم، أيها المؤمنون، ="مصيبة"، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرًا ="قد أصبتم مثليها"، يقول: قد أصبتم، أنتم أيها المؤمنون، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا"، يعني: قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد ="أنى هذا"، من أيِّ وجه هذا؟ (٣) ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله ﷺ يأتيه الوحي من السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك؟ ="قل" يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك ="هو من عند أنفسكم"، يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم ="إن الله على كل شيء قدير"، يقول: إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة، وتفضل
(٢) الأثر: ٨١٧٨- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٤، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٧٢، ٨١٧٦. والجملة الأخيرة في ابن هشام: "صم عن الخير، بكم عن الحق، عمى عن الهدى".
(٣) انظر تفسير"أني" فيما سلف ٤: ٣٩٨ - ٤١٦ / ٥: ١٢، ٤٤٧ / ٦: ٣٥٨، ٤٢٠.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"قل هو من عند أنفسكم"، بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل.
فقال بعضهم: تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بخلافكم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ أَشار عليكم بترك الخروج إلى عدوكم والإصحار لهم حتى يدخلوا عليكم مدينتكم، ويصيروا بين آطامكم، (٢) فأبيتم ذلك عليه، وقلتم:"اخرج بنا إليهم حتى نصْحر لهم فنقاتلهم خارج المدينة".
*ذكر من قال ذلك:
٨١٧٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا" أصيبوا يوم أحد، قُتل منهم سبعون يومئذ، وأصابوا مثليها يوم بدر، قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال لأصحابه يوم أحد، حين قدم أبو سفيان والمشركون، فقال نبي الله ﷺ لأصحابه:"أنا في جُنَّة حصينة"، يعني بذلك المدينة،"فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم" (٣) فقال له ناس من أصحابه من الأنصار: يا نبي الله، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه! (٤) فابرز بنا إلى القوم. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
(٢) "أصحر القوم": برزوا إلى الصحراء. و"أصحروا لأعدائهم": برزوا إلى فضاء لا يواريهم، لكي يقاتلوهم في الصحراء. و"الآطام" جمع أطم (بضم الهمزة والطاء) : وهو حصن مبني بالحجارة، كان أهل المدينة يتخذونها ويسكنونها يحتمون بها.
(٣) "الجنة" (بضم الجيم وتشديد النون) : هو ما وراك من السلاح واستترت به، كالدروع والبيضة، وكل وقاية من شيء فهو جنة.
(٤) في المطبوعة: "وقد كنا نمتنع في الغزو... أن نمتنع فيه"، وفي المخطوطة: "قد كنا نمتنع من الغزو... أن نمتنع فيه"، والصواب فيها ما أثبت، كما في الدر المنثور ٢: ٩٤.
٨١٨٠- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = غير أنه قال:"قد أصبتم مثليها"، يقول: مثليْ ما أصيب منكم ="قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، يقول: بما عصيتم.
٨١٨١- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قَتلوا وأسروا، فقال الله عز وجل:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها".
٨١٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "أن كبشًا أغبر"، ولا معنى له، ولا هو يستقيم. واستظهرت صوابها كما ترى، وأن الناسخ صحفها. يقال: "عتر الشاة والظبية يعترها عترًا، وهي عتيرة"، ذبحها. ومنه"العتيرة"، وهي أول نتاج أنعامهم، كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية. هذا على أنى لم أجد هذا الخبر بلفظه في مكان آخر، ولكن المروي أن رسول الله ﷺ رأى أنه مردف كبشًا، فقال: أما الكبش، فإني أقتل كبش القوم، أي حاميهم وحامل لوائهم.
٨١٨٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن مبارك، عن الحسن:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، قالوا: فإنما أصابنا هذا لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى، وعصينا النبي ﷺ يوم أحد، فمن قتل منا كان شهيدًا، ومن بقي منا كان مطهَّرًا، رضينا ربَّنا!. (١)
٨١٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن وابن جريج قالا معصيتهم أنه قال لهم:"لا تتبعوهم"، يوم أحد، فاتبعوهم.
٨١٨٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين -يعني بأحد- وقتل منهم سبعون إنسانًا ="أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها"، كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين ="قلتم أنى هذا"، أن: من أين هذا ="قل هو من عند أنفسكم"، أنكم عصيتم.
٨١٨٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها" يقول: إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثليْ ما أصابوا منكم يوم أحد.
٨١٨٨- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها"، الآية، يعني بذلك: أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد.
* * *
وقال بعضهم: بل تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بإساركم المشركين يوم بدر، (٤) وأخذكم منهم الفداء، وترككم قتلهم.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٨٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال، أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتتقوَّوْا به على
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "إنكم أحللتم..."، ورجحت رواية ابن هشام، فهي أجود في السياق.
(٣) الأثر: ٨١٨٧- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٥، هو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٧٨.
(٤) في المطبوعة: "بإسارتكم" وهو خطأ، أوقعه فيه ناسخ المخطوطة، لأن كتب (تكم)، ولكنه أدخل الراء على التاء، فاختلطت كتابته. والصواب ما أثبت.
٨١٩٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم. قالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعدتهم.
٨١٩١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني إسماعيل، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة السلماني = وحدثني حجاج، عن جرير، عن محمد، عن عبيدة السلماني = عن علي قال: جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ فقال له: يا محمد، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أمرين: أن يقدَّموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدتهم. قال: فدعا رسول الله ﷺ الناس فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا!! لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عِدَّتهم، فليس في ذلك ما نكره! قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.
* * *
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم"يوم التقى الجمعان"، وهو يوم أحد، حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بـ"الذي أصابهم"، ما نال من القتل مَنْ قُتِل منهم، ومن الجراح من جرح منهم ="فبإذن الله،" يقول: فهو بإذن الله كان = يعني: بقضائه وقدَره فيكم. (١).
* * *
وأجاب"ما" بالفاء، لأن"ما" حرف جزاء، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل (٢).
* * *
="وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا"، بمعنى: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد، ليميِّز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين.
وقد بينا تأويل قوله:"وليعلم المؤمنين" فيما مضى، وما وجه ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣).
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
٨١٩٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين"، أي: ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوّكم، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم، بعد أن جاءكم
(٢) انظر ما سلف ٥: ٥٨٥.
(٣) انظر ما سلف ٣: ١٦٠ / ٧: ٢٤٦، ٣٢٥.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله ﷺ وعن أصحابه، حين سار نبي الله ﷺ إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله ﷺ وأهل الإيمان به، كما:-
٨١٩٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدَّث قال: خرج رسول الله ﷺ - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين
(٢) الأثر: ٨١٩٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٥، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٨٧.
٨١٩٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، يعني: عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله ﷺ حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد = وقوله:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم = يقول الله عز وجل:"هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"، يظهرون لك الإيمان، وليس في قلوبهم، (٣) ="والله أعلم بما يكتمون"، أي: يخفون. (٤)
٨١٩٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: خرج رسول الله ﷺ -يعني يوم أحد- في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا، رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا
(٢) الأثر: ٨١٩٣- سيرة ابن هشام ٣: ٦٨، وهو تابع الأثر الماضي رقم: ٧٧١٥، وبين رواية الطبري، ورواية ابن هشام خلاف في بعض اللفظ.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، وليس في قلوبهم"، وقد اختل الكلام، وأظنه سقط من سهو الناسخ، فأتممته من السيرة، وأتممت الآية وتفسيرها بعدها.
(٤) الأثر: ٨١٩٤- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٥، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨١٩٢.
٨١٩٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عكرمة:"قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول = قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد"لو نعلم قتالا"، قال: لو نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال، لاتبعناكم.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله"أو ادفعوا".
فقال بعضهم: معناه: أو كثِّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٩٧- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو ادفعوا"، يقول: أو كثِّروا.
٨١٩٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أو ادفعوا"، قال: بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتلوا.
*ذكر من قال ذلك:
٨١٩٨م- حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا
(٢) الأثر: ٨١٩٥- مضى بعضه برقم: ٧٧٢٣، والتاريخ ٣: ١٢.
* * *
وأما قوله:"والله أعلم بما يكتمون"، فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك، (٢) مطلع عليه، ومحصيه عليهم، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ﴿الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وليعلم الله الذين نافقوا" ="الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا".
* * *
فموضع"الذين" نصب على الإبدال من"الذين نافقوا". وقد يجوز أن
(٢) في المطبوعة: "بما يخفونه من ذلك"، غير ما في المخطوطة لغير شيء!!، إلا أن يريدوا أن يدرجوا به على ما ألفوا من الكلام!!
* * *
فمعنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم ="وقعدوا"، يعني: وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله ="لو أطاعونا"، يعني: لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا ="ما قتلوا" يعني: ما قتلوا هنالك = قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين ="فادرأوا"، يعني: فادفعوا.
* * *
من قول القائل:"درأت عن فلان القتل"، بمعنى دفعت عنه،"أدرؤه دَرْءًا"، (١) ومنه قول الشاعر: (٢)
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي | أهذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِيني (٣) |
يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا = إن كنتم، أيها المنافقون، صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد ﷺ وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريشْ، ما قُتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم، وتخلّفهم عن محمد ﷺ وشهود جهاد أعداء الله معه = [عن أنفسكم] الموت، (٤) فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون. كما:-
(٢) هو المثقب العبدي.
(٣) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف ٢: ٥٤٧، ٥٤٨، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت هناك.
(٤) السياق: "قل لهم: فادفعوا... عن أنفسكم الموت"، والزيادة التي بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق، وعن نص الآية، فلذلك أثبتها.
* * *
*ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول، هم الذين قال الله فيهم:"وليعلم الذين نافقوا".
٨٢٠٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا" الآية، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ.
٨٢٠١- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
٨٢٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبي ﷺ يوم أحد:"لو أطاعونا ما قتلوا"، الآية = قال ابن جريج، عن مجاهد قال، قال جابر بن عبد الله: هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
٨٢٠٣- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا" الآية، قال: نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ. (٢)
* * *
(٢) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوهُ إِن شاء الله: القول في تأويل قوله جل ثناؤه ولا تحسبَنَّ الذينَ قتلوا في سبيلِ الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون. والحمد لله على إحسانه ونعمته، وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين، وسلَّمَ كثيرًا".
ثم يتلوه أول الجزء، وفيها ما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر يا كريم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود قال، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير".
وانظر التعليق على هذا الإسناد فيما سلف ٦: ٤٩٦، ٤٩٧ / ٧: ٢٣، ١٥٤، ٢٨٠، ٢٨١.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ولا تحسبن"، ولا تظنن. كما:-
٨٢٠٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا تحسبن"، ولا تظنن. (١)
* * *
وقوله:"الذين قتلوا في سبيل الله"، يعني: الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله ﷺ ="أمواتًا"، يقول: ولا تحسبنهم، يا محمد، أمواتًا، لا يحسُّون شيئًا، ولا يلتذُّون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبَوْتهم به من جزيل ثوابي وعطائي، كما:-
٨٢٠٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق = وحدثني
٨٢٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة = قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله" الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطَّلع الله إليهم اطِّلاعةً فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! (٣) ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: رّبنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن تُردّ أرواحنا في أجسادنا، (٤) ثم تردَّنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى". (٥).
٨٢٠٧- حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: سألنا
(٢) الحديث: ٨٢٠٥- أبو الزبير: هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو تابعي ثقة، مضى مرارًا. وقيل إنه لم يسمع من ابن عباس، ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: ٧١، عن ابن عيينة: "يقولون: ابن المكي لم يسمع من ابن عباس". وفيه أيضًا: "سمعت أبي يقول: رأى ابن عباس رؤية".
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٣٨٨، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ثم رواه عقبة: ٢٣٨٩، "نحوه"، عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، به. وزاد في الإسناد"عن سعيد بن جبير"، بين أبي الزبير وابن عباس.
وكذلك رواه أبو داود في السنن: ٢٥٢٠، عن عثمان بن أبي شيبة، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٧ - ٢٩٨، من طريق عثمان بن أبي شيبة. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير ٢: ٢٩٠ - ٢٩١، من رواية المسند الأولى، وأشار إلى رواية الطبري هذه، ثم إلى زيادة سعيد بن جبير في الإسناد، عند أبي داود والحاكم، ثم قال: "وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس".
وذكره السيوطي ٢: ٩٥، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل. وقوله: "وحسن مقيلهم" - في المسند: "منقلبهم". ومعناها صحيح أيضًا. ولكن وجدت بعد ذلك في مخطوطة الرياض من المسند (المصور عندي) نسخة أخرى بهامشها"مقيلهم". وهي أصح وأجود. وهي الموافقة لما في ابن كثير نقلا عن المسند، والموافقة لروايتي أبي داود والحاكم. ويؤيد صحتها أنها الموافقة لألفاظ الكتاب العزيز. قال الله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا) [سورة الفرقان: ٢٤].
وانظر ما يأتي من حديث ابن مسعود: ٨٢٠٦ - ٨٢٠٨، ٨٢١٨، ٨٢١٩. وما يأتي من حديث ابن عباس: ٨٢٠٩ - ٨٢١٣.
(٣) قوله: "لا فوق ما أعطيتنا"، أي لا شيء فوق ذلك. و"الجنة" قال أبو ذر الخشني: "يروى هنا بالخفض والرفع، بخفض الجنة، على البدل من"ما" في قوله: ما أعطيتنا - ورفعها على خبر مبتدأ مضمر، تقديرها هو الجنة". وجائز أن تكون على النصب أيضًا، على تقدير"أعطيتنا الجنة".
(٤) في المطبوعة: إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا..."، وفي المخطوطة: "إلا أنا نختار ترد أرواحنا"، وهو تصحيف ما في سيرة ابن هشام"نحب أن ترد"، فأثبت ما في السيرة، وفي رواية مسلم"إلا أنا نريد أن ترد"، وهما سواء.
(٥) الحديث: ٨٢٠٦- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بالتصغير- الهمداني. مضى الكلام عليه مرارًا، آخرها: ٧٢١٧. والحديث سيأتي عقب هذا، من رواية الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق. ويأتي بعده: ٨٢٠٨، من رواية سليمان -وهو الأعمش- عن عبد الله بن مرة، عن مسروق. فللأعمش فيه شيخان. سمعه منهما عن مسروق. وسيأتي تخريجه في الأخير.
٨٢٠٨- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء، ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحدٌ! قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطَّلع إليها ربُّها، فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى. (٢)
٨٢٠٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن
(٢) الحديث: ٨٢٠٨- سليمان: هو ابن مهران الأعمش. والحديث مكرر ما قبله باختصار، من وجه آخر، من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق.
وعبد الله بن مرة الهمداني الخارفي: تابعي ثقة، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٠٣، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٦٥. والحديث رواه مسلم ٢: ٩٨، بأسانيد، من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، به نحوه - أطول مما هنا.
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٨٤ - ٨٥، من رواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة. ونقله ابن كثير ٢: ٢٨٩، عن صحيح مسلم. وذكره السيوطي ٢: ٩٦، وزاد نسبته لعبد الرزاق في المصنف، والفريابي، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الدلائل. ولم يروه أحمد في المسند، فيما تحقق لدي، إلا أن يكون أثناء مسند صحابي آخر فيما بعد المسانيد التي حققتها. فالله أعلم. وسيأتي مرة رابعة: ٨٢١٨، من رواية عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله - وهو ابن مسعود ويأتي مرة خامسة: ٨٢١٩، من رواية أبي عبيد بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه.
٨٢١٠- حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ بمثله = إلا أنه قال: في قبة خضراء = وقال: يخرج عليهم فيها.
٨٢١١- حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ مثله.
٨٢١٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق = نهر بباب الجنة = في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا.
٨٢١٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني أيضًا = يعني إسماعيل بن عياش = عن ابن إسحاق، عن الحارث بن الفضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ بنحوه. (٢)
٨٢١٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني بعض أصحابي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أبشرك يا جابر؟
(٢) الأحاديث: ٨٢١٠ - ٨٢١٣، هي أربعة أسانيد، تكرارًا للحديث قلبها.
٨٢١٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل
فروى أحمد في المسند: ١٤٩٣٨ (ج٣ ص ٣٦١ حلبي)، عن علي بن المديني، عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن محمد بن علي بن رُبَيِّعة -بالتصغير- السُّلَمي، عن عبد الله بن محمد بن عُقيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر، أمَا علمتَ أن الله عز وجل أحيا أباك، فقال له: تَمَنَّ عليَّ. فقال: أُرَدُّ إلى الدنيا، فأُقتَل مرة أخرى. فقال: إني قَضَيْتُ الحكمَ، أنهم إليها لا يُرْجَعون". وهذا إسناد صحيح. محمد بن علي بن ربيعة السلمي: ثقة، وثقه ابن معين، وغيره، وترجمه ابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٢٦ - ٢٧. وترجمه البخاري في الكبير ١ / ١ / ١٨٣ - ١٨٤ باسم"محمد بن علي السلمي". وكذلك ابن سعد في الطبقات ٦: ٢٥٧ - فلم يذكروا فيه جرحًا.
والحديث ذكره ابن كثير ٢: ٢٨٩ من رواية المسند. ثم قال: "تفرد به أحمد من هذا الوجه". يشير بهذا إلى أن الترمذي روى معناه مطولا ٤: ٨٤، من وجه آخر، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". ثم قال: "وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر - شيئًا من هذا". وهو إشارة إلى حديث المسند.
وقد ذكر السيوطي الرواية المطولة ٢: ٩٥، ونسبها أيضًا لابن ماجه، وابن أبي عاصم في السنة، وابن خزيمة والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وانظر المستدرك ٣: ٢٠٣ - ٢٠٤ ووالد جابر: هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، الخزرجي، السلمي، صحابي جليل مشهور، من أهل العقبة، وممن شهد بدرًا، وكان من النقباء. استشهد يوم أحد، رضي الله عنه.
٨٢١٦- حدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = إلا أنه قال: تعارف في طير خضر وبيض = وزاد فيه أيضًا: وذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء"، قال: هم قتلى بدر وأحد.
٨٢١٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب، ألا رسول لنا يخبر النبيّ ﷺ عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله"، الآيتين.
٨٢١٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت. قال: فاطلع إليهم ربك اطِّلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح في الجنة في أيِّها شئنا! ثم اطَّلع عليهم الثالثة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم. (٢)
(٢) الحديث: ٨٢١٨- هذا هو الإسناد الرابع لحديث عبد الله بن مسعود، الذي مضى بثلاثة أسانيد: ٨٢٠٦ - ٨٢٠٨.
رواه هنا من طريق عبد الرزاق. وهو في مصنف عبد الرزاق ٣: ١١٥ (مخطوط مصور). بهذا الإسناد وهذا اللفظ. ولكن ليس في نسخة المصنف كلمة"خضر" في وصف الطير. وقوله: "ثم اطلع عليهم الثالثة" - هكذا ثبت أيضا في المصنف، بحذف الاطلاعة الثانية. فليس ما هنا سقطًا من الناسخين، بل هو اختصار في الرواية.
٨٢٢٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يرغِّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهوِّن عليهم القتل:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، أي: قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه. (٢)
وروايته عن أبيه منقطعة، مات أبوه وهو صغير. وجزم أبو حاتم وغيره بأنه لم يسمع منه، انظر المراسيل، ص: ٩١ - ٩٢. وروى الترمذي (١: ٢٦ بشرحنا)، بإسناد صحيح، عن عمرو بن مرة، قال، "سألت أبا عبيدة بن عبد الله: هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: "لا".
والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي، عن ابن أبي عمر، عن سفيان، وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، بل جعله تابعًا لرواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة، كمثل صنيع الطبري هنا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وقوله: "ورضي عنا": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. أي: ورضى الله عنا. كما هو ظاهر من السياق، وكما نص عليه شارح الترمذي.
(٢) الأثر: ٨٢٢٠- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٦، وهو تمام الآثار التي آخرها: ٨٢٠٤.
٨٢٢٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الشهداء فقال:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم" إلى قوله:"ولا هم يحزنون"، زَعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، (١) في قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بُكرة وعشية في الجنة، تبيت في القناديل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فيقولون: ربنا، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضًا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فيقولون: نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة، فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب. (٢)
٨٢٢٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عباد قال، حدثنا إبراهيم بن معمر، عن الحسن قال: ، ما زال ابن آدم يتحمَّد (٣) حتى صار حيًّا ما يموت. ثم تلا هذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
٨٢٢٤- حدثنا محمد بن مرزوق قال، حدثنا عمر بن يونس، عن عكرمة قال،
وَإنِّي أَذِينٌ لَكُمْ أَنَهُ | سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ ما زَعَمْ |
(٢) في المطبوعة: "لما يرون من فضل للثواب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) "تحمد الرجل يتحمد"، إذا طلب بفعله الحمد، و"فلان يتحمد إلى الناس بفعله"، أي يلتمس بذلك حمدهم.
٨٢٢٥- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،
(٢) في المخطوطة: "فقتلوهم أجمعين"، والصواب من التاريخ وسائر المراجع.
(٣) نص ما في التاريخ: "أَنزَل فيهم قرآنًا: ﴿" بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ "﴾، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا ".
(٤) الحديث: ٨٢٢٤- محمد بن مرزوق - شيخ الطبري - هو محمد بن محمد بن مرزوق، نسب إلى جده. وقد مضت له عنه رواية، برقم: ٢٨. مترجم في التهذيب. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد ٣: ١٩٩ - ٢٠٠، وترجمه ابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٨٩ - ٩٠ باسم"محمد بن مرزوق".
عمر بن يونس اليمامي: مضى في: ٤٤٣٥. ووقع في الأصول هنا باسم"عمرو بن يونس"، وكذلك في تاريخ الطبري في هذا الحديث، وكذلك في تفسير ابن كثير، في نقله الحديث عن هذا الموضع. ولعل الخطأ في هذا يكون من الطبري نفسه، إذ يبعد أن يخطئ الناسخون في هذه المصادر الثلاثة خطأ واحدًا. وليس في الرواة - فيما أعلم - من يسمى"عمرو بن يونس". ووقع في الإسناد هنا - في التفسير - خطأ آخر. في المخطوطة والمطبوعة، إذ سقط من الإسناد [عن عكرمة] بين عمر بن يونس وإسحاق بن أبي طلحة. وهو ثابت في التاريخ وتفسير ابن كثير. وعكرمة هذا: هو عكرمة بن عمار اليمامي، مضت ترجمته في: ٢١٨٥. وعمر بن يونس معروف بالرواية عنه. ولم يدرك أن يروى عن"عكرمة مولى ابن عباس". إسحاق بن أبي طلحة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري البخاري. نسب إلى جده. وهو تابعي ثقة حجة، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ / ١ / ٣٩٣ - ٣٩٤، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٢٢٦. وأبوه"أبو طلحة": هو"زيد بن سهل"، وهو أخو أنس بن مالك لأمه.
وهذا الحديث رواه الطبري أيضًا في التاريخ ٣: ٣٦، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير ٢: ٢٨٨، عن هذا الموضع من التفسير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح ٧: ٢٩٨، حيث قال: "في رواية الطبري من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة..." ولكن وقع فيه"عكرمة عن عمار" - وهو خطأ مطبعي واضح.
ووقع في أصل الطبري هنا -المخطوط والمطبوع-: "فقال أراه أبو ملحان". وكذلك في نقل ابن كثير عن هذا الموضع. وهو خطأ قديم من الناسخين، صوابه: "ابن ملحان". وثبت على الصواب في التاريخ، ومنه صححناه.
وهو"حرام بن ملحان الأنصاري"، وهو خال أنس بن مالك، أخو أمه"أم سليم بنت ملحان". ولا نعلم أن كنيته"أبو ملحان" - حتى نظن أنه ذكر هنا بكنيته. وهو مترجم في ابن سعد ٣ / ٢ / ٧١ - ٧٢، والإصابة.
وهذا الحديث - في قصة بئر معونة - ثابت عن أنس بن مالك من أوجه، مختصرًا ومطولا.
وقد رواه أحمد في المسند: ١٣٢٢٨، عن عبد الصمد، و: ١٤١١٩، عن عفان - كلاهما عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس (المسند ج٣ ص ٢١٠، ٢٨٨ - ٢٨٩ حلبي). ورواه أيضا: ١٢٤٢٩ (٣: ١٣٧ حلبي)، من رواية ثابت، عن أنس.
ورواه البخاري ٧: ٢٩٧ - ٢٩٩، عن موسى بن إسماعيل، عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" ورواه قبله وبعده من أوجه أخر.
ورواه ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢ / ٧١ - ٧٢، عن عفان، كرواية المسند: ١٤١١٩. وقد مضى بعض معناه مختصرًا، في تفسير الطبري: ١٧٦٩، من رواية قتادة، عن أنس. وتفصيل القصة في تاريخ ابن كثير ٤: ٧١ - ٧٤. وانظر أيضًا جوامع السيرة لابن حزم، ص: ١٧٨- ١٨٠، وما أشير إليه من المراجع في التعليق عليه هناك. وروى أحمد في المسند، بعض هذا المعنى، من حديث ابن مسعود: ٣٩٥٢.
* * *
وفي نصب قوله:"فرحين" وجهان.
أحدهما: أن يكون منصوبًا على الخروج من قوله:"عند ربهم". (١) والآخر من قوله:"يرزقون". ولو كان رفعًا بالردّ على قوله:"بل أحياء فرحون"، كان جائزًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك
* * *
ونصب"أن لا" بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (٣).
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٨٢٢٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، يقول: لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم، لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم.
٨٢٢٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، قال، يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقونا فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا.
٨٢٢٨- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة، (٤) جُعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في
(٢) "الخفض": لين العيش وسعته وخصبه، يقال: "عيش خفض، وخافض، وخفيض، ومخفوض": خصيب في دعة ولين. و"الزلفة": القربة والدرجة والمنزلة، عند الله رب العالمين.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٧.
(٤) انظر تفسير"زعم" فيما سلف قريبًا ص ٣٩٢ تعليق: ١.
٨٢٢٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، أي: ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن. (١).
٨٢٣٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، قال: هم إخوانهم من الشهداء ممَّن يُستشهد من بعدهم ="لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" حتى بلغ:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين".
٨٢٣١- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال:"يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا"، فيستبشر حين يقدم عليه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
* * *
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"يستبشرون"، يفرحون ="بنعمة من الله"، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه ="وفضل" يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله ﷺ وجهاد أعدائه ="وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، كما:-
٨٢٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق:"يستبشرون بنعمة من الله وفضل" الآية، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب. (١)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين".
فقرأ ذلك بعضهم بفتح"الألف" من"أنّ" بمعنى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين.
* * *
= وبكسر"الألف"، على الاستئناف. واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله: (" وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "). قالوا: فذلك دليل على أن قوله:"وإن الله" مستأنف غير متصل بالأول. (٢).
* * *
ومعنى قوله:"لا يضيع أجر المؤمنين"، لا يبطل جزاء أعمال من صدّق رسوله واتبعه، وعمل بما جاءه من عند الله.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٧.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم. (١).
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: الذين اتبعوا رسول الله ﷺ إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو -أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش- مُنصَرَفهم عن أحد. وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد، خرج رسول الله ﷺ في أثره حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم. كالذي:-
٨٢٣٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني حسين بن عبد الله، (٢) عن عكرمة قال: كان يوم أحد [يوم] السبت للنصف من شوال، (٣) فلما كان الغد من يوم أحد، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذَّن مؤذِّن رسول الله ﷺ في الناس بطلب
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "حسان بن عبد الله"، وهو خطأ، والصواب من تاريخ الطبري. وهو"حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب". روي عن عكرمة، وروي عنه هشام ابن عروة، وابن جريج، وابن المبارك، وابن إسحاق. وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب.
(٣) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام ومن تاريخ الطبري.
٨٢٣٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا قال: شهدتُ مع رسول الله ﷺ أحدًا، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين: فلما أذَّن [مؤذِّن] رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدوّ، (٢) قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكنتُ إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عقبة، (٣) حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله ﷺ حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. (٤)
(٢) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
(٣) "العقبة": قدر ما يسره الماشي ما استطاع المشي، يريد: حملته شوطًا، وسار شوطًا.
(٤) الأثر: ٨٢٣٤- سيرة ابن هشام ٣: ١٠٧ - ١٠٨، وتاريخ الطبري ٣: ٢٩.
٨٢٣٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" الآية، وذلك يوم أحد، بعد القتل والجراح، وبعد ما انصرف المشركون -أبو سفيان وأصحابه- فقال ﷺ لأصحابه:"ألا عِصابة تنتدبُ لأمر الله، (٢) تطلب عدوّها؟ فإنه أنكى للعدو، وأبعد للسَّمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجَهد.
٨٢٣٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: انطلق أبو سفيان منصرفًا من أحد، حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئسما صنعتم! (٣) إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (٤)
٨٢٣٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(٢) في المطبوعة: "ألا عصابة تشد لأمر الله"، ولا معنى له، وفي المخطوطة: ألا عصابة تشدد لأمر الله"، وهو بلا ريب تصحيف ما أثبت."ندب القوم إلى الأمر فانتدبوا": دعاهم إليه وحثهم، فأسرعوا إليه واستجابوا. وفضلا عن ذلك، فهذا هو اللفظ الذي كثر وروده في أخبار حمراء الأسد.
(٣) في المخطوطة: "بئس ما صنعنا صنعتم"، وهو سهو، والصواب ما في المطبوعة. وانظر ما سلف رقم: ٨٠٠٣.
(٤) الأثر: ٨٢٣٧- مضى برقم: ٨٠٠٣، وانظر التعليق هناك.
٨٢٣٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي، أما والله إن أباك وجدك -تعني أبا بكر والزبير- لممن قال الله تعالى فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (٢).
(٢) الحديث: ٨٢٣٩- هاشم بن القاسم: هو أبو النضر الإمام الحافظ، شيخ الإمام أحمد، وإسحاق، وابن المديني. وهو ثقة ثبت حجة. كان أهل بغداد يفخرون به. أبو سعيد: هو المؤدب، واسمه"محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي". وهو ثقة مأمون.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٨، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد. ووقع في مطبوعة المستدرك"هشام بن القاسم"، وهو خطأ مطبعي لا شك فيه.
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
والحديث في الصحيحين، كما سيأتي في الرواية الآتية: ٨٢٤١. ولعلهما اعتبراه من المستدرك لقوله في هذه الرواية"أنها قالت لعبد الله بن الزبير". والذي في الرواية الآتية أنها قالت لعروة بن الزبير. وهما أخوان، والكلام لهما واحد. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى، كرواية مسلم، كما سيأتي.
٨٢٤١- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: إنْ كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير. (٢).
(٢) الحديث: ٨٢٤١- سعيد بن الربيع الرازي - شيخ الطبري: مضت له رواية عنه في: ٣٧٩١، ولم نجد له ترجمة. والحديث تكرار للحديث السابق: ٨٢٣٩. ولكن في هذا أن خطاب عائشة لعروة بن الزبير، وهناك خطابها لأخيه عبد الله، وهما ابنا أختها أسماء بنت أبي بكر.
ورواه مسلم ٢: ٢٤١، بأسانيد، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، ومن رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي - وهو: عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير - عن عروة، به، نحوه.
ورواه البخاري ٧: ٢٨٧، مطولا، من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى ٣: ٣٦٣، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي، عن عروة - كرواية مسلم. ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"! وسقطت هذه الرواية من تلخيص الذهبي، مخطوطًا ومطبوعًا.
وذكره ابن كثير ٢: ٢٩٧ - ٢٩٨ رواية البخاري، ثم أشار إلى رواية الحاكم الأولى، وتعقبه في دعواه أن الشيخين لم يخرجاه، بقوله: "كذا قال". ثم أشار إلى أنه رواه ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي في مسنده. ثم أشار إلى رواية الحاكم الثانية.
وذكره السيوطي ٢: ١٠٢، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل.
* * *
قال أبو جعفر: فوعد تعالى ذكره، مُحسنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، إذا اتقى الله فخافه، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره ="أجرًا عظيما"، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"،"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم".
* * *
* * *
و"الناس" الأوّل، هم قوم -فيما ذكر لنا- كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله ﷺ وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.
و"الناس" الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد.
* * *
ويعني بقوله:"قد جمعوا لكم"، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرّة إليكم لحربكم ="فاخشوهم"، يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم ="فزادهم إيمانًا"، يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله ﷺ بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا = ثقة بالله وتوكلا عليه، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين ="حسبنا الله ونعم الوكيل"، يعني بقوله:"حسبنا الله"، كفانا الله، يعني: يكفينا الله = (١) "ونعم الوكيل"، يقول: ونعم المولى لمن وليَه وكفَله.
* * *
وإنما وصف تعالى نفسه بذلك، لأن"الوكيل"، في كلام العرب، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله، ووثِقوا به، وأسندوا ذلك إليه، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم.
* * *
فقال بعضهم: قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله ﷺ من أحد إلى حمراء الأسد، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين.
ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك، ومن قائله:
٨٢٤٣- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: مرَّ به -يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم- معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد= وكانت خزاعة، مسلمُهم ومشركهم، عَيْبةَ نصح لرسول الله ﷺ بتهامة، (١) صفقتهم معه، (٢) لا يخفون عليه شيئًا كان بها، =ومعبد يومئذ مشرك= فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! (٣) ثم خرج من عند رسول الله ﷺ بحمراء الأسد، (٤) حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، وقالوا: أصبنا! حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! (٥) لنَكرَّن على بقيَّتهم، فلنفرغنَّ منهم". فلما رأى أبو سفيان معبدًا
(٢) الصفقة: البيعة، ثم استعملت في العهد والميثاق، وفي الحديث: "إن أكبر الكبائر أن تقاتل أهل صفقتك"، وذلك إذا أعطى الرجل عهده وميثاقه ثم يقاتله، وأصل ذلك كله من الصفق باليد. لأن المتعاهدين والمتبايعين، يضع أحدهما يده في يد الآخر. ومنه حديث ابن عمر: "أعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه". فالصفقة المرة من التصفيق باليد.
(٣) عافاه الله وأعفاه: وهب له العافية من العلل والبلايا. وفي سيرة ابن هشام"عافاك فيهم"، وهما سواء. وقوله: "عافاك فيهم"، أي: صانك مما نزل بأصحابك.
(٤) في المطبوعة: "من حمراء الأسد"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(٥) في المطبوعة: "أصبنا في أحد أصحابه..."، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام والتاريخ. وحد كل شيء: طرف شباته، كحد السكين والسيف والسنان. ومنه يقال: "حد الرجل" وهو بأسه ونفاذه في نجدته. و"رجل ذو حد": أي بأس ماض. وقوله: "أصبنا حد أصحابه"، أي: كسرنا حدهم وثلمناه كما يثلم السيف، فصاروا أضعف مما كانوا.
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتي... إِذْ سَالَتِ الأرَضُ بِالجُرْدِ الأبَابيِل (٣) تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ... عِنْد اللِّقَاء وَلا خُرْقٍ مَعَازِيِل (٤)
(٢) في المطبوعة: "فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط"، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(٣) هد البناء: ضعضعه وهدمه. ومنه"هده الأمر" إذا بلغ منه فضعضعه وكسره وأوهنه. يقول: كادت تنهار راحلته من الفزع. و"الجرد" جمع أجرد: وهو القصير الشعر من الخيل، وهو من علامات عتقها وكرمها. و"الأبابيل" الجماعات المتفرقة، واحدها"إبيل" (بكسر الهمزة وتشديد الباء المكسورة)، وقيل غير ذلك، وقيل: هو جمع لا واحد له. وزعم معبد كثرة خيل المسلمين في مخرجهم إلى حمراء الأسد، والذي في السير أن المسلمين كانوا في أحد ألفًا، فيهم مئة دارع. وفرسان: أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر لأبي بردة بن نيار.
(٤) ردت الخيل تردى (على وزن جرى يجري) : رجمت الأرض بحوافرها في سيرها أو عدوها. و"التنابل" جمع تنبال وتنبالة (بكسر التاء)، وهو القصير، والقصر معيب، لأن المقاتل القصير لا يطول باعه إذا قاتل بسيف أو رمح. وفي المطبوعة"ولا ميل معازيل"، كما في سيرة ابن هشام، ولكن الذي أثبته هو رواية الطبري في التفسير، وفي التاريخ. و"الخرق" جمع. خرق: وهو الأحمق الذي لا رفق له في عمل. وأنا أرجح أنه أراد الصفة من قولهم: "خرق الظبي وغيره": إذا دهش وفزع، فلصق بالأرض ولم يقدر على النهوض، والصفة من ذلك"خرق" على وزن"فرح"، ولكنه جمعه على باب"أفعل".
وأما"الميل" فهو جمع أميل: وهو الذي يميل على السرج في جانب ولا يستوي عليه، لأنه لا يحسن الركوب ولا الفروسية. و"المعازيل" جمع معزال: وهو الذي لا سلاح معه. وأنا أرى أن"الأميل"، هو الذي يميل عن عدوه من الخوف و"المعزال"، الذي يعتزل المعركة من الفرق، فلا يكاد يقاتل، ولا ينجد من استغاث به.
قال: فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل
(٢) "تغطمطت القدر": اشتد غليانها، وبان صوتها كصوت اضطراب الأمواج. و"البطحاء": مسيل الوادي، فيه دقاق الحصى. و"الخيل"، ضبطه السهيلي في الروض الأنف (٢: ١٤٤) بفتح الخاء وسكون الباء، وقال: "قوله: بالخيل، جعل الردف حرف لين، والأبيات كلها مردفة الروى بحرف مد ولين. وهذا هو السناد.. ونظيره قول ابن كلثوم: "ألا هبى بصحنك فاصبحينا" ثم قال: "تصفقها الرياح إذا جرينا". وهو وجه صحيح مقارب. وأما أبو ذر الخشني فقد ضبطه"الجيل" بكسر الجيم، وقال: "الجيل: الصنف من الناس". وهذا لا معنى له. وهو في مطبوعة سيرة ابن هشام"الجيل" بالجيم، وكذلك هو في تاريخ الطبري. فلو صح أنها بالجيم، فأنا أرى أنها جماعة الخيل، وذلك أنهم قالوا: "الجول" (بضم الجيم) و"الجول" بفتحها: هي جماعة الخيل أو الإبل، وقالوا أيضا: "الجول" بضم الجيم و"الجال" و"الجيل" ناحية البئر وجانبها. فكأنه قاس هذا على هذا. أو كأنه جمع جائل من قولهم: "جالت الخيل بفرسانها" إذا طافت وذهبت وجاءت، جمعه كجمع: هائم وهيم، على شذوذه. فأما إذا كانت الرواية"الخيل" بكسر الخاء، فهو جمع خائل أيضا كالذي سلف، والخائل هو الحافظ للشيء الراعي له، من خال المال يخوله: إذا ساسه وأحسن القيام عليه، فهو خائل وخال. يقال: "من خال هذا الفرس"، أي صاحبها القائم بأمرها.
(٣) قال أبو ذر الخشني: "البسل: الحرام. وأراد بأهل البسل قريشًا، لأنهم أهل مكة، ومكة حرام". وقوله: "ضاحية" أي علانية من"ضحا" أي برز، والضاحية من كل شيء ما برز منه. فهو إما مصدر على وزن"عافية"، أو اسم فاعل قام مقامه. و"الإربة" البصر بالأمور. و"المعقول" مصدر كالمصادر التي جاءت على وزنه، وهو العقل.
(٤) "الوخش": رذالة الناس وسقاطهم وصغارهم. و"القنابل" جمع قنبلة (بفتح القاف) وهي الطائفة من الناس والخيل.
٨٢٤٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله:"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا= النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال=: إنّ أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الآية. (٣)
٨٢٤٥- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ندموا= يعني أبا سفيان وأصحابه= على الرجوع عن رسول الله ﷺ وأصحابه، وقالوا:"ارجعوا فاستأصلوهم"، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابيًّا فجعلوا له جُعْلا فقالوا له: إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابيَّ في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
(٢) الأثر: ٨٢٤٣ - سيرة ابن هشام ٣: ١٠٨- ١١٠، وهو بقية الأثر السالف: ٨٢٣٣، وتاريخ الطبري ٣: ٢٨- ٢٩.
(٣) الأثر: ٨٢٤٤ - سيرة ابن هشام ٣: ١٢٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٢٣٥.
٨٢٤٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، انطلق رسول الله ﷺ وعصابةٌ من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناسُ يأتون عليهم فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس! فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تعالى فيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
* * *
وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله ﷺ وأصحابه من قال ذلك له، في غزوة بدر الصغرى، وذلك في مسير النبي ﷺ عامَ قابلٍ من وقعة أحد للقاء عدوِّه أبي سفيان وأصحابه، للموعد الذي كان واعده الالتقاءَ بها.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) "الحبال" جمع حبل: وهو العهد.
(٣) في المطبوعة: "قالوا له"، بحذف الفاء، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "ولم يزده ذلك" بالواو، والصواب من المخطوطة.
٨٢٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= وزاد فيه: وهي بدر الصغرى= قال ابن جريج: لما عبَّى النبي ﷺ لموعد أبي سفيان، (١) فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون:"قد جمعوا لكم"! يكيدونهم بذلك، يريدون أن يَرْعَبوهم، فيقول المؤمنون:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، حتى قدموا بدرًا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. (٢) قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام، وقال في ذلك: (٣)
نَفَرَتْ قَلُوصيِ عَنْ خُيولِ مُحَمَّدِ | وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كَالعُنْجُدِ وَاتَّخَذَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي |
قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو:
(٢) قوله: "أسواقهم عافية"، أي وافرة، من قولهم: "أرض عافية": لم يرع أحد نبتها، فوفر نبتها وكثر. يعني أن الأسواق لم يحضرها أحد يزاحمهم في تجارتها. وانظر الأثر الآتي رقم: ٨٢٥٢.
(٣) هو معبد بن أبي معبد الخزاعي، كما روى ابن هشام في سيرته ٣: ٢٢٠، ٢٢١، والطبري في تاريخه ٣: ٤١.
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ (٣)
* * *
٨٢٥٠ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: كانت بدر متجرًا في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه، ولقيهم ناسٌ من المشركين فقالوا لهم:"إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"! فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة، وقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحدًا، فأنزل الله عز وجل فيهم:"إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم ﷺ حين ألقي في النار، فقال:"حسبنا الله ونعم الوكيل".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال:"إن الذي قيل لرسول الله ﷺ وأصحابه من أنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، كان في حال خروج رسول الله ﷺ وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش، مُنْصَرَفهم عن أحد إلى حمراء الأسد".
(٢) تهوي: تسرع، هوت الناقة تهوى: أسرعت إسراعًا. والدين: الدأب والعادة. و"الأتلد" الأقدم، من التليد، وهو القديم. و"قديد": موضع ماء بين مكة والمدينة.
(٣) و"ضجنان" (بفتح أوله وسكون الجيم) : وهو جبل على طريق المدينة من مكة، بينه وبين قديد ليلة، كما بينه هذا الشعر. قاله أبو عبيد البكرى في معجم ما استعجم.
وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، (١) فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمُه. وذلك أن رسول الله ﷺ إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها، بعد سنة من غزوة أحد، في شعبان سنة أربع من الهجرة. وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث، وخروج النبي ﷺ لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع، ولم يكن للنبيّ ﷺ بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه، ولكن قد كان قتل في وقعة الرَّجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرَّجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي ﷺ بدرًا الصغرى.
* * *
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فانقلبوا بنعمة من الله"، فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، (١) من وجههم الذي توجَّهوا فيه -وهو سيرهم في أثر عدوهم- إلى حمراء الأسد="بنعمة من الله"، يعني: بعافية من ربهم، لم يلقوا بها عدوًّا. (٢) "وفضل"، يعني: أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي تَجَروا بها، (٣) الأجر الذي اكتسبوه (٤) =:"لم يمسسهم سوء" يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى (٥) ="واتبعوا رضوان الله"، يعني بذلك: أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ، وطاعتهم="والله ذو فضل عظيم"، يعني: والله ذو إحسان وطَوْل عليهم -بصرف عدوهم الذي كانوا قد همُّوا بالكرة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم وعلى غيرهم- بنعمه (٦) ="عظيم" عند من أنعم به عليه من خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٥١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(٢) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف ٤: ٢٧٢.
(٣) في المطبوعة: "اتجروا بها"، وأثبت ما في المخطوطة."تجر يتجر تجرًا وتجارة": باع واشترى، ومثله: "اتجر" على وزن (افتعل). والثلاثي على وزن (نصر وينصر).
(٤) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ص٢٩٩ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير"المس" فيما سلف ٥: ١١٨ / ٧: ١٥٥، ٢٣٨.
(٦) السياق: "والله ذو إحسان وطول... بنعمه".
٨٢٥٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال، وافقوا السوق فابتاعوا، وذلك قوله:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل". قال: الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر= قال ابن جريج: ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل، أصابوا عَفْوه وغِرَّته (١) لا ينازعهم فيه أحد= قال: وقوله:"لم يمسسهم سوء"، قال: قتل="واتبعوا رضوان الله"، قال: طاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
٨٢٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله ذو فضل عظيم"، لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. (٢)
٨٢٥٤ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم، ولم يؤذهم أحد،"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم".
٨٢٥٥ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أعطي رسول الله ﷺ - يعني حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى- ببدر دراهم، (٣) ابتاعوا بها من موسم بدر فأصابوا تجارة، فذلك قول الله:"فانقلبوا بنعمة من لله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله". أما"النعمة" فهي العافية، وأما"الفضل" فالتجارة، و"السوء" القتل.
* * *
(٢) الأثر: ٨٢٥٣ - سيرة ابن هشام ٣: ١٢٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٢٤٤.
(٣) في المطبوعة والدر المنثور"ببدر دراهم"، وفي المخطوطة "بردراهم" غير منقوطة، وأخشى أن تكون كلمة مصحفة لم أهتد إليها، وإن قرأتها"نثر دراهم"، فلعلها! وشيء نثر (بفتحتين) متناثر. ولا أدري أيصح ذلك أو لا يصح.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: إنما الذي قال لكم، أيها المؤمنون:"إن الناس قد جمعوا لكم"، فخوفوكم بجموع عدوّكم ومسيرهم إليكم، من فعل الشيطان ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم، يخوفكم بأوليائه من المشركين -أبي سفيان وأصحابه من قريش- لترهبوهم، وتجبنوا عنهم، كما:-
٨٢٥٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، يخوف والله المؤمنَ بالكافر، ويُرهب المؤمن بالكافر.
٨٢٥٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، قال: يخوّف المؤمنين بالكفار.
٨٢٥٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يقول: الشيطان يخوّف المؤمنين بأوليائه.
٨٢٥٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، أي: أولئك الرهط، يعني النفر من عبد القيس، الذين قالوا لرسول الله ﷺ ما قالوا، وما ألقى الشيطان على أفواههم="يخوّف أولياءه"، أي: يرهبكم بأوليائه. (١)
٨٢٦٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن معبد، عن عتاب بن بشير مولى قريش، عن سالم الأفطس في قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، قال: يخوفكم بأوليائه.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٦١ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر أمر المشركين وعِظمهم في أعين المنافقين فقال:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"يخوف أولياءه"؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ [وكيف] قيل= إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه="يخوف أولياءه"؟ (١) قيل: ذلك نظير قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) [سورة الكهف: ٢] بمعنى: لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا يُنذر، وإنما ينذر به. (٢)
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوف الناسَ أولياءه، كقول القائل:"هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب"، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه.
* * *
قال أبو جعفر: وليس الذي شبه [من] ذلك بمشتبه، (٣) لأن"الدراهم" في قول القائل:"هو يعطي الدراهم"، معلوم أن المعطَى هي"الدراهم"، وليس كذلك"الأولياء" -في قوله:"يخوف أولياءه"- مخوَّفين، (٤) بل التخويف من الأولياء لغيرهم، فلذلك افترقا.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٤٨.
(٣) في المطبوعة: "الذي شبه ذلك بمشبه"، والذي في المخطوطة مثله إلا أنه كتب"بمشتبه" ورجحت أن الناسخ أسقط"من" فوضعها بين القوسين، مع إثبات نص المخطوطة، وهو الصواب.
(٤) السياق: "وليس كذلك الأولياء... مخوفين".
قال أبو جعفر: يقول: فلا تخافوا، أيها المؤمنون، المشركين، ولا يعظُمَن عليكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم، مع طاعتكم إياي، ما أطعتموني واتبعتم أمري، وإني متكفِّل لكم بالنصر والظفر، (١) ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري، فتهلكوا="إن كنتم مؤمنين"، يقول: ولكن خافونِ دون المشركين ودون جميع خلقي، أنْ تخالفوا أمري، إن كنتم مصدِّقي رسولي وما جاءكم به من عندي.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يحزنك، يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدِّين على أعقابهم من أهل النفاق، (٢) فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئًا، وكما أنّ مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته، (٣) كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارَّته. كما:-
٨٢٦٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، يعني: أنهم المنافقون. (٤)
(٢) انظر تفسير"سارع" فيما سلف ٧: ١٣٠، ٢٠٧.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "كما أن مسارعتهم" بغير واو، والصواب إثبات الواو.
(٤) في المطبوعة: "هم المنافقون"، وأثبت ما في المخطوطة، ولو قرئت المخطوطة: "فهم المنافقون"، لكان أجود.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر، نصيبًا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم فسارعوا فيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الآخرة، لهم عذاب عظيم في الآخرة، وذلك عذابُ النار. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
٨٢٦٤ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يريد الله أن لا يجعل لهم حظًّا في الآخرة"، أن يُحبط أعمالهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه المنافقين الذين تقدَّم إلى نبيه ﷺ فيهم: أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
(٢) الأثر: ٨٢٦٤ - ليس في سيرة ابن هشام.
* * *
وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) إلى هذه الآية، عبادَه المؤمنين على إخلاص اليقين، ولانقطاع إليه في أمورهم، والرضى به ناصرًا وحدَه دون غيره من سائر خلقه= ورغَّب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجَّع بها قلوبهم، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميعُ من خالفه وحادَّه، وأن من خذله فلن ينصره ناصرٌ ينفعُه نصرُه، ولو كثرت أعوانه ونصراؤه، (٢) كما:-
٨٢٦٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان"، أي: المنافقين="لن يضروا الله شيئًا ولهم عذاب أليم"، أي: موجع. (٣)
٨٢٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هم المنافقون.
* * *
(٢) في المطبوعة: "أو نصراؤه"، والصواب ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ٨٢٦٥ - سيرة ابن هشام: ٣: ١٢٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٢٦٣. وليس في سيرة ابن هشام تفسير"أليم".
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله (١)، أن إملاءنا لهم خيرٌ لأنفسهم.
* * *
ويعني بـ"الإملاء"، الإطالة في العمر، والإنساء في الأجل، ومنه قوله جل ثناؤه: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم: ٤٦] أي: حينًا طويلا ومنه قيل:"عشتَ طويلا وتملَّيت حبيبًا" (٢). "والملا" نفسه الدهر،"والملوان"، الليل والنهار، ومنه قول تميم بن مقبل: (٣)
أَلا يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ | أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوَانِ (٤) |
(٢) في المطبوعة: "وتمليت حينًا"، وهو خطأ، وفي المخطوطة: "وتمليت حنينًا"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت. وهو قول يقال في الدعاء، ومثله في الدعاء لمن لبس ثوبًا جديدًا: "أبليت جديدًا، وتمليت حبيبًا"، أي: عشت معه ملاوة من دهرك وتمتعت به.
(٣) وينسب البيت لابن أحمر، وإلى أعرابي من بني عقيل.
(٤) سيبويه ٢: ٣٢٢، ومجاز القرآن ١: ١٠٩، والأمالي ١: ٢٣٣، والسمط: ٥٣٣، والخزانة ٣: ٢٧٥، واللسان (ملل)، وغيرها، وسيأتي في التفسير ١٣: ١٠٦ (بولاق). وقد بين صاحب الخزانة نسبة هذه الأبيات وذكر الشعر المختلف فيه، وقال إن أبيات ابن مقبل بعد هذا البيت:
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا | عَلَى كُلِّ حَالِ النَّاسِ يَخْتَلِفَانِ |
ألا يا دَيارَ الحَيِّ لا هَجْرَ بَيْننَا | وَلكنَّ رَوْعَاتٍ مِنَ الحَدَثَانِ |
لِدَهْمَاءَ إِذْ لِلنَّاس والعَيْشِ غِرَّةٌ | وَإِذْ خُلُقَانَا بِالصِّبَا عَسِرَانِ |
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم".
فقرأ ذلك جماعة منهم: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، وبفتح"الألف" من قوله:"أَنَّمَا"، على المعنى الذي وصفتُ من تأويله.
* * *
وقرأه آخرون: (وَلا تَحْسَبَنَّ) بالتاء و"أَنَّمَا" أيضا بفتح"الألف" من"أنما"، بمعنى: ولا تحسبنّ، يا محمد، الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.
* * *
فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتحت"الألف" من قوله:"أنما" في قراءة من قرأ بالتاء، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت"تحسبن"، في"الذين كفروا"، وإذا أعملتها في ذلك، لم يجز لها أن تقع على"أنما" لأن"أنما" إنما يعمل فيها عاملٌ يعمل في شيئين نصبًا؟
قيل: أما الصواب في العربية ووجهُ الكلام المعروف من كلام العرب، كسر"إن" إذا قرئت"تحسبن" بالتاء، لأن"تحسبن" إذا قرئت بالتاء فإنها قد نصبت"الذين كفروا"، فلا يجوز أن تعمل، وقد نصبت اسمًا، في"أن". ولكني أظن أنّ من قرأ ذلك بالتاء في"تحسبن" وفتح الألف من"أنما"، إنما أراد تكرير تحسبن على"أنما"، كأنه قصد إلى أنّ معنى الكلام: ولا تحسبن، يا محمد أنت، الذين كفروا، لا تحسبن أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم، كما قال جل ثناؤه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) [سورة محمد: ١٨] بتأويل: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. (١) وذلك وإن كان وجهًا
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالياء من"يحسبن"، وبفتح الألف من"أنما"، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم، ثم يعمل في"أنما" نصبًا لأن"يحسبن" حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه، وهي تطلب منصوبين.
وإنما اخترنا ذلك لإجماع القرأة على فتح"الألف" من"أنما" الأولى، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة فى"يحسبن" بالياء لما وصفنا.
وأما ألف"إنما" الثانية، فالكسر على الابتداء، بإجماع من القرأة عليه:
* * *
وتأويل قوله:"إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا"، إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثمًا، يقول: يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر="ولهم عذاب مهين"، يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر.
٨٢٦٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال، قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. وقرأ:"ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا"، وقرأ: (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ) [سورة آل عمران: ١٩٨]. (٢)
* * *
(٢) الحديث: ٨٢٦٧ - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. وسفيان: هو الثوري.
خيثمة: هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي. وهو تابعي ثقة، أخرج له الجماعة كلهم.
الأسود: هو ابن يزيد النخعي.
وهذا الحديث، وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه - عندنا - مرفوع حكمًا، لأنه مما لا يدرك بالرأي.
وسيأتي مرة أخرى: ٨٣٧٤، من طريق عبد الرزاق، عن الثوري، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٨، من رواية جرير، عن الأعمش، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير ٢: ٣٢٨، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، به، نحوه. ثم قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، به".
وذكره السيوطي ٢: ١٠٤، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي بكر المروزى في الجنائز، وابن المنذر، والطبراني.
وسيأتي نحو معناه، من حديث أبي الدرداء: ٨٣٧٥.
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين"، ما كان الله ليدع المؤمنين (١) ="على ما أنتم عليه" من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا="حتى يميز الخبيث من الطيب"، يعنى بذلك:"حتى يميز الخبيث" وهو المنافق المستسرُّ للكفر (٢) ="من الطيب"، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان، (٣) بالمحن والاختبار، كما ميَّز بينهم يوم أحد عند لقاء العدوّ عند خروجهم إليهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الخبيث" الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم فيه، مثل قولنا.
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٦٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على
(٢) انظر تفسير"الخبيث" فيما سلف ٥: ٥٥٩.
(٣) انظر تفسير"الطيب" فيما سلف ٣: ٣٠١ / ٥: ٥٥٥، ٥٥٦ / ٦: ٣٦١.
٨٢٦٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: ابن جريج، يقول: ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب= قال ابن جريج، قال مجاهد: يوم أحد، ميز بعضهم عن بعض، المنافق عن المؤمن.
٨٢٧٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، أي: المنافقين. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد.
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٧١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه"، يعني الكفار. يقول: لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، يميز بينهم في الجهاد والهجرة.
٨٢٧٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: حتى يميز الفاجر من المؤمن.
٨٢٧٣ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من
* * *
قال أبو جعفر: والتأويل الأول أولى بتأويل الآية، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين، وهذه في سياقتها. فكونها بأن تكون فيهم، أشبه منها بأن تكون في غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بما:-
٨٢٧٤ - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، وما كان الله ليطلع محمدًا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا.
* * *
وقال آخرون بما:-
٨٢٧٥ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، أي: فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء= كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد= وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم، بوحيه ذلك إليه ورسالته، كما:-
٨٢٧٦ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"، قال: يخلصهم لنفسه.
* * *
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لأنّ ابتداءها خبرٌ من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده (٢) -يعني بغير محن- حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالةٌ واضحةٌ على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم، إلا بالذي ذكر أنه مميِّزٌ به نعتَهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"وابتداؤها خبر من الله"، وهو سياق لا يستقيم، والظاهر أن ناسخ المخطوطة لما نسخ، أشكل على بصره، "الآية" ثم"لأن" بعقبها. فأسقط"لأن"، وكتب"وابتداؤها"، ورسم الكلمة في المخطوطة"وابتداها"، فلذلك رجحت ما أثبته، وإن كان ضبط السياق وحده كافيًا في الترجيح.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (١) "وإن تؤمنوا"، وإن تصدِّقوا من اجتبيته من رُسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم="وتتقوا" ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد ﷺ وفيما نهاكم عنه="فلكم أجر عظيم"، يقول: فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم، ثوابٌ عظيم، كما:-
٨٢٧٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا"، أي: ترجعوا وتتوبوا="فلكم أجر عظيم". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُون ") بالتاء من"تحسبن".
* * *
وقرأته جماعة أخر: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء. (٣)
* * *
(٢) الأثر: ٨٢٧٧ - سيرة ابن هشام ٣: ١٢٨، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٢٧٥.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة في ذكر هاتين القراءتين، كتب القراءة الأولى"ولا يحسبن" بالياء، والقراءة الثانية"ولا تحسبن" بالتاء. وهو خطأ بين جدًا، لأنه عقب على هذه القراءة الأخيرة بقوله: "ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك"، واختلافهم كما ترى في قراءة"الياء" لا"التاء"، فمن أجل ذلك صححت مكان القراءتين، كما أثبتها، وهو الصواب المحض إن شاء الله.
فقال بعض نحويي الكوفة: (١) معنى ذلك: لا يحسبن الباخلون البخلَ هو خيرًا لهم= فاكتفى بذكر"يبخلون" من"البخل"، كما تقول:"قدم فلان فسررت به"، وأنت تريد: فسررت بقدومه. و"هو"، عمادٌ. (٢)
* * *
وقال بعض نحويي أهل البصرة: إنما أراد بقوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم" (٣) ="لا يحسبن البخل هو خيرًا لهم"، (٤) فألقى الاسم الذي أوقع عليه"الحسبان" به، هو البخل، لأنه قد ذكر"الحسبان" وذكر ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما. (٥)
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٠٤، ٢٤٨، ٢٤٩، وهو نص كلامه، و"العماد" عند الكوفيين، هو ضمير الفصل عند البصريين، ويسمى أيضا"دعامة" و"صفة"، انظر ما سلف ٢: ٣١٢، تعليق ٢ / ثم ص٣١٣ / ثم ص: ٣٧٤.
(٣) في المطبوعة: "ولا تحسبن" بالتاء، والصواب بالياء كما أثبتها. وانظر التعليق السالف. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٤) وكان في المطبوعة أيضا: "ولا تحسبن البخل"، بالتاء، والصواب بالياء، وانظر التعليق السالف.
(٥) هكذا جاءت هذه الجملة من أولها، وهي مضطربة أشد الاضطراب، وكان في المطبوعة: "به وهو البخل" بزياد واو، ولكني أثبت ما في المخطوطة كما هو على اضطراب الكلام. وقد جهدت أن أجد إشارة في كتب التفسير وإعراب القرآن، إلى هذا الذي قاله البصري فيما رواه أبو جعفر، فلم أجد شيئًا، وأرجح أن الناسخ قد أسقط من الكلام سطرًا أو بعضه، وأرجح أن سياق الجملة من أولها، كان هكذا:
"وقال بعض نحوِّيى أهل البصرة: إِنّما أراد بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الذين يبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْله هو خيرًا لهم بل هو شَرٌّ لهم) =: ولا يحسبَنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهم الله من فضله، لا يَحْسَبُنَّ البُخْلَ هو خيرًا لهم= فألقى"الحسبان" الثاني، وألقى الاسمَ الذي أوقعَ عليه"الحسبان". وما وقع"الحسبان" به هو البخل= لأنه قد ذكر"الحسبان"، وذكر"ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما".
ويكون القائل هذا من أهل البصرة، قد عنى أن هذه الآية شبيهة بأختها الآتية في سورة آل عمران: ١٨٨ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمفَازَةِ مِنَ العَذَابِ)
إذ كرر"لا تحسبن" تأكيدًا لما طال الكلام، وهو صحيح كلام العرب وصريحه. فكذلك هو في هذه الآية، على ما أرجح أن البصري قال، كرر"الحسبان"، ولكنه حذف"الحسبان" الذي كرره، وأبقى الأول الذي ألجأ إلى التكرار والتوكيد.
ويعني بقوله: "أضمرهما"، "الحسبان" الثاني في تأويله، و"البخل"، ولم أجد وجهًا يستقيم به الكلام غير هذا الوجه، فإن أصبت فبحمد الله وتوفيقه، وإن أخطأت، فأسأل الله المغفرة بفضله.
* * *
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة: إنّ"مَنْ" في قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) في معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتح؟ فالأول مكتفٍ. وقال: في قوله:"لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" محذوف، غير أنه لم يُحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف، لأن"هو" عائد البخل، و"خيرا لهم" عائد الأسماء، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين، واكتفى بقوله:"يبخلون" من"البخل".
* * *
قال: وهذا إذا قرئ بـ"التاء"، فـ"البخل" قبل"الذين"، وإذا قرئ بـ"الياء"، فـ"البخل" بعد"الذين"، وقد اكتفى بـ"الذين يبخلون"، من البخل، كما قال الشاعر: (١)
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ | وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلى خِلافِ (١) |
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ") بالتاء، بتأويل: ولا تحسبن، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم= ثم ترك ذكر"البخل"، إذ كان في قوله:"هو خيرًا لهم" دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله:"الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله".
وإنما قلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون" بالياء: لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله:"الذين يبخلون" اسمًا له قد أدّى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا لها، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـ"التاء" في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بـ"الياء" غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك: ولا تحسبن، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات، هو خيرًا
٨٢٧٨ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم"، هم الذين آتاهم الله من فضله، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدُّوا زكاتها.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد ﷺ ونعته.
ذكر من قال ذلك:
٨٢٧٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" إلى"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، يعني بذلك أهل الكتاب، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس.
٨٢٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله"، قال: هم يهود، إلى قوله: (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [سورة آل عمران: ١٨٤]. (١)
* * *
وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية، التأويل الأوَل، وهو أنه معني بـ"البخل" في هذا الموضع، منع الزكاة، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه تأوَّل قوله: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: البخيل الذي منع حق الله منه، أنه يصير ثعبانًا في عنقه= ولقول الله عقيب هذه الآية: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيطوَّقون"، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاةَ، طوقًا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة، كالذي:-
٨٢٨١ - حدثني الحسن بن قزعة قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالك العبدي قال: ما من عبد يأتيه ذُو رَحمٍ له، يسأله من فضلٍ عنده فيبخل عليه، إلا أخرِج له الذي بَخِل به عليه شجاعًا أقْرَع. (١) قال: وقرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة" إلى آخر الآية. (٢)
(٢) الحديث: ٨٢٨١ - الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٣٤.
و"قزعة": بفتح القاف والزاي، وقيل: بسكون الزاي. انظر المشتبه، ص٤٢٥. واقتصر الحافظ في تحريره على الفتح.
مسلمة - بفتح الميم - بن علقمة المازني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وضعفه أحمد. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ / ٣٨٨، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٣٦٧ - ٣٦٨. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. فهو ثقة عنده.
داود: هو ابن أبي هند.
أبو قزعة: هو سويد بن حجير - بالتصغير فيهما - بن بيان، الباهلي البصري. وهو تابعي ثقة، وثقه أحمد، وابن المديني، وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ٢ / ١٤٨، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٢٣٥- ٢٣٦.
وسها الحافظ في الإصابة ١: ٣٣١، في ترجمة أبيه، فذكر أنه"ذهلي"، والمصادر كلها على أنه"باهلي".
وسيأتي في: ٨٢٨٣"عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ صرف، كما سنبينه هناك، إن شاء الله.
أبو مالك العبدي: لا ندري من هو؟ ولا ندري: أهو صحابي أم تابعي؟ فما علمت أحدًا ترجمه، إلا الحافظ في الإصابة ٧: ١٦٩، بنى ترجمته على هذا الحديث عند الطبري وحده:
فأشار إلى هذه الرواية، وإلى الرواية التالية"عن أبي قزعة، عن رجل"، وذكر أن الثعلبى رواها: "عن رجل من قيس". وإلى الرواية الثالثة: "عن أبي قزعة، مرسلا". ثم قال: "وأبو قزعة: تابعي بصري مشهور، لكنه كان يرسل عن الصحابة. فهو على الاحتمال".
يعني الحافظ: أنه من المحتمل أن يكون"أبو مالك العبدي" هذا صحابيًا، لأن أبا قزعة يروي عن الصحابة ويرسل الرواية عنهم! وما بمثل هذا تثبت الصحبة، ولا بمثله يثبت وجود الشخص والصفة معًا!! خصوصًا وأنه في الرواية التالية"عن رجل" - لم يزعم أنه من الصحابة، ولم يقل ما يشير لذلك.
فلا يزال - بعد هذا - الحديث ضعيفًا، لأنه لم يعرف أن راويه عن رسول الله صحابي.
وقد أشار ابن كثير ٢: ٣٠٧ إلى هذه الروايات الثلاث عند الطبري، ولم ينسبها لغيره.
ولا نعلم أحدًا رواها غير الطبري، إلا إشارة الحافظ في الإصابة لرواية الثعلبي.
٨٢٨٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمِه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه، فيبخل به عليه، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوِّقه". ثم قرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" حتى انتهى إلى قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة". (٢)
"تلمظت الحية"، إذا أخرجت لسانها كتلمظ الآكل، وهو تحريك للسان في الفم، والتمطق بالشفتين.
(٢) الحديث: ٨٢٨٣ - هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ من وجهين:
* فأولا: "حجر"، صوابه"حجير" بالتصغير، وقد وقع هذا الخطأ في الإصابة أيضا، في ترجمة"أبي مالك العبدي": "عن أبي قزعة سويد بن حجر". وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا شك في ذلك لأن الحافظ ترجم لأبي قزعة في التهذيب وغيره على الصواب"سويد بن حجير".
* وثانيا: سقط هنا بين الكنية والاسم كلمة"بن". لأن"حجير بن بيان" - هو والد أبي قزعة، وليس اسمه.
* وأبوه"حجير بن بيان": مذكور في الصحابة. مترجم في الاستيعاب، رقم: ٥٤٣، وأسد الغابة ١: ٣٨٧؛ والإصابة ١: ٣٣٠ - ٣٣١، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٩٠. وهو عندهم جميعًا بالتصغير نصا.
* وسها الحافظ ابن كثير، ولم يراجع المصادر! فاغتر بهذه الرواية المغلوطة من وجهين - فذكر في هذه الروايات: "عن أبي قزعة، واسمه حجر بن بيان"!! فزاد على الخطأ الذي في أصول الطبري بحذف"بن" - فصرح بأن هذا اسم أبي قزعة! وما كان ذلك في رواية ولا قول قط.
* والسيوطي تبع الحافظ ابن كثير، ثم زاد خطأ على خطأ، فذكر الحديث ٢: ١٠٥، ونسبه لابن أبي شيبة في مسنده، وابن جرير"عن حجر بن بيان"!!
وفي لسان الميزان ٢: ٤٩٥، ترجمة: "زياد بن عبد الله بن خزاعى، عن مروان بن معاوية. قال ابن حبان في الثقات: حدثنا عنه شيوخنا، ربما أغرب".
فمن المحتمل أن يكون هذا الشيخ هو شيخ الطبري"زياد بن عبيد الله الكلابي"، وأن يكون"عبيد الله" محرفًا في طبعة اللسان إلى"عبد الله".
والشيخ الثالث: يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، مضى مرارًا، آخرها: ٣٧٢٦.
وأسانيده صحاح، على الرغم من جهالة شيخي الطبري الأولين، اكتفاء برواية الحافظ الدورقي. ولأن الحديث ثابت عن شيوخ آخرين عن بهز بن حكيم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
وقد بينا فيما مضى رقم: ٨٧٣ صحة إسناد بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الرزاق عن معمر، وعن يزيد - وهو ابن هارون، وعن يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن بهز بن حكيم، بهذا الإسناد.
ورواه النسائي ١: ٣٥٨، عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن بهز.
ومن عجب أنه -وهو في المسند وسنن النسائي- لا ينسبه الحافظ ابن كثير ٢: ٣٠٧، إلا لابن جرير وابن مردويه!
وذكره السيوطي ٢: ١٠٥، وزاد نسبته لأبي داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي في الشعب.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ٣٣، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي.
٨٢٨٦ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت أبا وائل يحدّث: أنه سمع عبد الله قال في هذه الآية:"سيطوقون ما بخلوا له يوم القيامة"، قال: شجاع يلتوي برأس أحدهم.
٨٢٨٧ - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة قال، حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بمثله - إلا أنهما قالا قال: شجاع أسود.
٨٢٨٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري،
وهذا الحديث لفظه هنا موقوف على ابن مسعود. وهو في معناه مرفوع. وهو أيضًا مختصر اللفظ.
وقد رواه الطبري هكذا، مختصرًا موقوفًا، بأسانيد: ٨٢٨٥ - ٨٢٨٨، ٨٢٩٢. ثم رواه أثناء ذلك: ٨٢٨٩، مرفوعًا بلفظ أطول.
ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٨- ٢٩٩، من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، ومن طريق الثوري، عن أبي إسحاق - موقوفًا، بنحوه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وقد تساهل الحافظ ابن كثير ٢: ٣٠٦ فأشار إلى رواية الحاكم هذه، عقب رواية الحديث المرفوع من مسند أحمد - بصيغة توهم أن رواية الحاكم مثل رواية المسند مرفوعة.
ثم زاد القارئ لبسًا، إذ قال عقب ذلك: "ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود - موقوفًا"! فهذا السياق عقب ذكر رواية الحاكم، يوقع في وهم الناظر أنها مرفوعة!! وليست كذلك.
٨٢٨٩ - حدثت عن سفيان بن عيينة قال، حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثَل له شجاع أقرع يطوقه. (١) ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" الآية. (٢)
(٢) الحديث: ٨٢٨٩ - هكذا أبهم الطبري شيخه في هذا الإسناد. ولكن الحديث ثابت برواية الثقات عن ابن عيينة، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
جامع بن أبي راشد الكاهلي الصيرفي: ثقة، وثقه أحمد وغيره، وأخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ٢٤٠، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٥٣٠.
ووقع هنا في نسخ الطبري: "جامع بن شداد". وهو خطأ، فليس لجامع بن شداد في هذا الحديث رواية، فيما أعلم - كما يتبين من التخريج.
ثم إن جامع بن شداد قديم الوفاة، لم يدركه ابن عيينة ولا روى عنه. لأنه ولد سنة ١٠٧، وابن شداد مات سنة ١٠٧ وقيل سنة ١٠٨. وأما ما وقع في ترجمته في التهذيب ٢: ٥٦، في الأقوال في سني وفاته، بين: ١٢٨، ١١٨، ١٢٧، فإنه غلط، بعضه من الحافظ المزي في التهذيب الكبير، وبعضه من نسخ تهذيب التهذيب. وقد ثبتت هذه الأرقام على الصواب بالكتابة بالحروف في الكبير للبخاري ١ / ٢ / ٢٣٩- ٢٤٠، والصغير، ص: ١٣٢؛ وابن سعد ٦: ٢٢٢، ٢٢٦.
عبد الملك بن أعين الكوفي: تابعي ثقة. وقد تكلم فيه بأنه شيعي، ولكن لم يدفعه أحد عن الصدق. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٣٤٣. وذكره البخاري في الضعفاء، ص: ٢٢٢، فقال: "عبد الملك بن أعين، وكان شيعيًا. روى عنه ابن عيينة وإسماعيل ابن سميع. يحتمل في الحديث". فلم يجرحه في صدقه وروايته، ولذلك أدخله في صحيحه.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٣٥٧٧، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن جامع، وهو ابن أبي راشد، عن أبي وائل، به، نحوه، مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٨٥، وابن ماجه: ١٧٨٤، كلاهما عن ابن أبي عمر. والنسائي١: ٣٣٣ - ٣٣٤، عن مجاهد بن موسى - كلاهما عن سفيان بن عيينة، به. ولكن زاد الترمذي وابن ماجه في روايتهما: أنه عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين - كرواية الطبري هنا. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره ابن كثير ٢: ٣٠٦، من رواية المسند، ثم ذكر أنه رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وذكره السيوطي ٢: ١٠٥، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر.
٨٢٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي وائل قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيُجْعل حية فيطوَّقها، فيقول: ما لي ولك! فيقول: أنا مالك!
٨٢٩٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: يطوقون شجاعًا أقرع ينهش رأسه. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، فيجعل في أعناقهم طوقًا من نار.
ذكر من قال ذلك:
٨٢٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من النار.
إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
حكيم بن جبير الأسدي: ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: ٣٦٧٥. وهو مترجم في التهذيب والكبير للبخاري ٢ / ١ / ١٦، والصغير، ص: ١٥٠، ١٥٢؛ والضعفاء له ص: ١٠، وللنسائي ص: ٩، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٠١- ٢٠٢. وهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود. وضعف إسناده لا يضر، فقد مضى موقوفًا بأسانيد صحاح: ٨٢٨٥ - ٨٢٨٨، ومرفوعًا: ٨٢٨٩.
٨٢٩٥ - حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"سيطوقون"، قال: طوقًا من نار.
٨٢٩٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من نار. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتموا نبوَّة محمد ﷺ من أحبار اليهود، ما كتموا من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٩٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، ألم تسمع أنه قال: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [سورة النساء: ٣٧ سورة الحديد: ٢٤]، (٢) يعني أهل الكتاب: يقول: يكتمون، ويأمرون الناس بالكتمان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلَّفون يوم القيامة أن يأتوا بما بَخِلوا به في الدنيا من أموالهم.
* ذكر من قال ذلك:
٨٢٩٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: سيكلَّفون أن يأتوا بما بخلوا به، إلى قوله:"والكتاب المنير".
(٢) وإنما عنى آية سورة النساء، لأن تمامها"ويكتمون ما آتاهم الله من فضله".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله:"سيطوقون ما بخلوا به"، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدَ أعلم بما عَنى الله تبارك وتعالى بتنزيله، منه عليه السلام.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه الحي الذي لا يموت، والباقي بعد فَناء جميع خلقه.
* * *
فإن قال قائل: فما معنى قوله:"له ميراث السموات والأرض"، و"الميراث" المعروف، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده؟
قيل: إن معنى ذلك ما وصفنا، من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتِب عليهم الفناء. وذلك أنّ ملك المالك إنما يصير ميراثًا بعد وفاته، فإنما قال جل ثناؤه:"ولله ميراث السموات والأرض"، إعلامًا بذلك منه عبادَه أن أملاك جميع
وإنما معنى الآية:"لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، بعد ما يهلكون وتزولُ عنهم أملاكهم، في الحين الذي لا يملكون شيئًا، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلقه، ذو خبرة وعلم، محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه، المحسنَ بالإحسان، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الآثار بذلك:
٨٣٠٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه
٨٣٠١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
(٢) الأثران: ٨٣٠٠، ٨٣٠١ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٧، ٢٠٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ٧٦٩٥، مما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق.
٨٣٠٢ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قالها فنحاص اليهوديّ من بني مَرثد، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له: يا فنحاص، اتق الله وآمن وصدِّق، وأقرض الله قرضًا حسنًا! فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا فقير يستقرِضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقًّا، فإن الله إذًا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا، فقال أبو بكر: فلولا هُدنة كانت بين النبي ﷺ وبين بني مَرثد لقتلته.
٨٣٠٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صك أبو بكر رجلا منهم = الذين قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود.
٨٣٠٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟ = قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال:"إنّ الله ثالث ثلاثة" و"يدُ الله مغلولة".
٨٣٠٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثني يحيى بن واضح قال، حدثت عن عطاء، عن الحسن قال، لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: ٢٤٥ سورة الحديد: ١١] قالت اليهود: إنّ ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء".
٨٣٠٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، ذكر لنا أنها نزلت في حُيَيّ بن أخطب، لما أنزل الله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) قال: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغنيَّ!
٨٣٠٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرضُ الله قرضًا حسنًا"، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال: فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء".
٨٣٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قال: هؤلاء يهود. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود:"إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه"، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم، وقتلهم أنبياءهم بغير حق.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"سنكتب ما قالوا وقتلهم".
فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) بالنون،
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (" سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ") بالياء من"سيكتب" وبضمها، ورفع"القتل"، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله:"ونقول ذوقوا"، يذكر أنها في قراءة عبد الله:"ويُقَالُ". (١)
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ:"سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ:"ويقال"، لأن قوله:"ونقول" عطف على قوله:"سنكتب". فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"سَنَكْتُب" بالنون"وقَتْلَهُمْ" بالنصب، لقوله:"وَنَقُول"، ولو كانت القراءة في"سيكتب"
(٢) المعروف في كلامهم"ألجأه إلى كذا"، واستعمل الطبري"ألجأه عليه" بمعنى حمله عليه، على إرادة التضمين، وهو كلام فصيح لا يعاب، وهو من النوادر التي لم أجدها في كتاب، وإن كنت أذكر أني قرأتها في بعض كتب الشافعي رحمه الله، وغاب اليوم عني مكانها.
* * *
فإن قال قائل: كيف قيل:"وقتلهم الأنبياء بغير حق"، وقد ذكرت في الآثار التي رويتَ، أن الذين عنوا بقوله: (١) "لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ" بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من أولئك أحدٌ قتل نبيًا من الأنبياء، لأنهم لم يدركوا نبيًا من أنبياء الله فيقتلوه؟
قيل: إنّ معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء، وكانوا منهم وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جلّ ثناؤه فعلَ ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته، إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحْلة واحدة، وبالرِّضى من جميعهم فَعل ما فعل فاعلُ ذلك منهم، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ونقول" للقائلين بأن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة="ذوقوا عذاب الحريق"، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة. (٣)
* * *
(٢) انظر ما سلف ٢: ٢٣، ٢٤، ٣٨، ٣٩، ١٦٤، ١٦٥ وفهارس المباحث في الجزء الثاني ص ٦١١، "إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء...".
(٣) تفسير"الحريق" كما فسره أبو جعفر، مما لا تكاد تظفر به في كتب اللغة، بل قالوا: الحريق: اضطرام النار وتلهبها. والحريق أيضًا اللهب". وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١١٠، ونصه: "النار اسم جامع، تكون نارًا وهي حريق وغير حريق، فإذا التهبت، فهي حريق".
* * *
وأما قوله:"ذلك بما قدمت أيديكم"، أي: قولنا لهم يوم القيامة،"ذوقوا عذاب الحريق"، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، (١) وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة (٢) = من اليهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، وقتلوا الأنبياء بغير حق = بما جازاهم به من عذاب الحريق، بما اكتسبوا من الآثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه.
* * *
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها لاستقامة الكلام، ويعني بقوله: "الذي قال لهم ذلك"، أي قال لهم: "ذوقوا عذاب الحريق". وسياق العبارة: "فجازى الذين قال لهم ذلك يوم القيامة... بما جازاهم به من عذاب الحريق".
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لقد سمع الله قول الذين قالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول".
* * *
وقوله:"الذين قالوا إن الله"، في موضع خفض ردًّا على قوله:"الذين قالوا إن الله فقيرٌ".
* * *
ويعني بقوله:"قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول"، أوصانا، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه (١) ="أن لا نؤمن لرسول"، يقول: أن لا نصدِّق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك="حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة.
* * *
وهو مصدر مثل"العدوان" و"الخسران" من قولك:"قرَّبتُ قربانًا".
وإنما قال:"تأكله النار"، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان، كان دليلا على قبول الله منه ما قرِّب له، ودلالة على صدق المقرِّب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال، كما:-
٨٣١٠ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حتى يأتينا بقربان تأكله النار"،
٨٣١١ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بقربان تأكله النار"، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتُقُبِّلت منه، بعث الله نارًا من السماء فنزلت على القربان فأكلته.
* * *
= فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [قل، يا محمد، للقائلين: إنّ الله عهد إلينا] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار: [قد جاءكم] رسل من قبلي بالبينات"، (١) يعني: بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم="وبالذي قلتم"، يعني: وبالذي ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته، من أكل النار قُربانه إذا قرَّب لله دلالة على صدقه، (٢) ="فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين"، يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم="إن كنتم صادقين" في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقُربان تأكله النار حجة له على نبوته؟
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية: أنّ الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يَعْدوا أن يكونوا
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ قرب لله"، والسياق يقتضي"إذا".
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا ﷺ على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك، يا محمد، كذب هؤلاء الذين قالوا:"إن الله فقير"، وقالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، وافتراؤهم على ربهم اغترارًا بإمهال الله إياهم، ولا يَعظمن عليك تكذيبهم إياك، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله، فقد كذَّبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذرَ، والأدلة الباهرة العقلَ، والآيات المعجزة الخلقَ، وذلك هو البينات. (٢)
* * *
وأما"الزبر" فإنه جمع"زبور"، وهو الكتاب، وكل كتاب فهو:"زبور"، ومنه قول امرئ القيس:
(٢) انظر تفسير"البينات" فيما سلف ٢: ٣١٨، ٣٥٥ / ٣: ٢٤٩ / ٤: ٢٥٩ / ٥: ٣٧٩، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
لِمنْ طَللٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي؟ | كخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِي (١) |
ويعني: بـ"الكتاب"، التوراة والإنجيل. وذلك أن اليهود كذَّبت عيسى وما جاء به، وحرَّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته، وغيرت ما أمرهم به في أمره.
* * *
وأما قوله:"المنير"، فإنه يعني: الذي يُنير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه.
* * *
وإنما هو من"النور" والإضاءة، يقال:"قد أنار لك هذا الأمر"، بمعنى: أضاء لك وتبين،"فهو ينير إنارة، والشيء منيرٌ"، (٢) وقد:-
٨٣١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك"، قال: يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
٨٣١٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك"، قال: يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق:"وَالزُّبُرِ" بغير"باء"، وهو في مصاحف أهل الشام:"وبالزُّبُرِ" بالباء، مثل الذي في"سورة فاطر". [٢٥].
* * *
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "والشيء المنير"، وعبارة بيان اللغة تقتضي ما أثبت.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود، المكذبين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم على ربهم= ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره، ومرجع جميعهم، إليه. لأنه قد حَتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك تكذيبُ من كذبك، يا محمد، من هؤلاء اليهود وغيرهم، وافتراء من افترى عليَّ، فقد كُذِّب قبلك رسلٌ جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه، بمثل الذي جئتَ من أرسلت إليه، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليّ وغيرهم ومرجعهم إليّ، فأوفّي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه:"وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة"، يعني: أجور أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر="فمن زحزح عن النار"، يقول: فمن نُحِّي عن النار وأبعد منها (١) ="فقد فاز"، يقول: فقد نجا وظفر بحاجته.
* * *
يقال منه:"فاز فلان بطلبته، يفوز فوزًا ومفازًا ومفازة"، إذا ظفر بها.
* * *
وإنما معنى ذلك: فمن نُحِّي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة="وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، يقول: وما لذّات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها="إلا متاع الغرور"، يقول: إلا متعة
* * *
وقد روي في تأويل ذلك ما:-
٨٣١٤ - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله:"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، قال: كزاد الراعي، تزوِّده الكفّ من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن.
* * *
فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا، إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ، لا يُبلِّغ مَنْ تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل، وإن كان وجهًا من وجوه التأويل، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن"الغرور" إنما هو الخداع في كلام العرب. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور. وأما الذي هو في غرور، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور.
* * *
و"الغرور" مصدر من قول القائل:"غرني فلان فهو يغرُّني غرورًا" بضم"الغين". وأما إذا فتحت"الغين" من"الغرور"، فهو صفة للشيطان الغَرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته.
* * *
وقد:
٨٣١٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (١٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: تعالى ذكره: (٢) "لتبلون في أموالكم"، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (٣) ="وأنفسكم، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من
والحديث رواه أحمد في المسند: ٩٦٤٩ (ج٢ ص٤٣٨ حلبي)، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن عمرو - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الترمذي ٤: ٨٥، عن عبد بن حميد وغيره، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٩، من طريق شجاع بن الوليد، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير ٢: ٣١١، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو.
ثم قال ابن كثير: "هذا حديث ثابت في الصحيحين، من غير هذا الوجه، بدون هذه الزيادة [يعني ذكر الآية في الحديث]. وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم بن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو".
وذكره السيوطي ٢: ١٠٧، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٤: ٢٧٧، من رواية الترمذي - ضمن ألفاظ للحديث بمعناه، عند أحمد، والبخاري، والطبراني في الأوسط"بأسناد رواته رواة الصحيح"، وابن حبان في صحيحه.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك تعالى ذكره"، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت.
(٣) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف ٢: ٤٩ / ٣: ٧، ٢٢٠ / ٥: ٣٣٩ / ٧: ٢٩٧، ٢٣٥.
* * *
وقيل: إن ذلك كله نزل في فنخاص اليهودي، سيد بني قَيْنُقَاع، كالذي:-
٨٣١٦ - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال: بعث النبي ﷺ أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر:"لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع". (٣) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال:"قد احتاج ربكم أن نمده"! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع"،
(٢) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف ٤: ٣٧٤.
(٣) كل من أحدث دونك شيئا، ومضى عليه ولم يستشرك، واستبد به دونك، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو"افتعال" من"الفوت"، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبّب بنساء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣١٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي ﷺ وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل
(٢) في المطبوعة: "ويسمعون إشراكهم" بالواو، وفي المخطوطة، هذه الواو كأنها (د)، فآثرت أن أجعلها"إذ"، لأنها حق المعنى.
(٤) قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهَنُوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال، فقالوا: إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال:"هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقين"! (٥) فقال: أترهنوني نسائكم؟ قالوا: أنت أجملُ الناس، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم. قالوا: فأنزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينزل، (٦)
(٢) استنفق بالمال: جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله.
(٣) هدأ عنهم الناس: سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة: "حين هدى عنهم الناس" بطرح الهمزة، وهو صواب جيد، جاء في شعر ابن هرمة، من أبياته الأليمة الموجعة:
لَيْتَ السَّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً | وَأَنَّنَا لا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدَا |
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا عَنْ فَرائِسِهَا | وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا |
(٤) هذا بدأ سياق آخر للخبر، منقطع عما قبله من خبر الزهري، ولم يتم خبر الزهري، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه.
(٥) "الوسق" كيل معلوم، قيل: هو حمل بعير، وقيل: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
(٦) قوله: "ذهب ينزل"، أي تحرك لينزل، و"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة، أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه"، أو "قعد لا يسأله سائل إلا حرمه"، لا يراد به حقيقة القعود، بل استمرار ذلك منه واتصاله، وحاله عند رؤية الناس، أو طروق السائل. واستعمال"ذهب" بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم، وإن لم تذكره كتب اللغة.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضا من [أمر] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، (١) إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة والإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه="فنبذوه وراء ظهورهم"، يقول:
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها اليهود خاصّة.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣١٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه، عن ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" إلى قوله:"عذاب أليم"، يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار.
٨٣١٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله. (٤)
(٢) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف ١: ٣١٢ - ٣١٥ / ٢: ٣٤٠ - ٣٤٢، ٤٥٥ / ٣: ٣٣٠ / ٤: ٢٤٦: ٦: ٥٢٧ / ٧: ٤٢٠.
وانظر تفسير"الثمن" فيما سلف ١: ٥٦٥ / ٣: ٣٢٨ / ٦: ٥٢٧ بولاق.
(٣) انظر بيان معنى"بئس" فيما سلف ٢: ٣٣٨ - ٣٤٠ / ٣: ٥٦.
(٤) الأثران: ٨٣١٨، ٨٣١٩ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ٨٣٠٠، ٨٣٠١.
٨٣٢١ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس" الآية، قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس، محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، ="فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا".
٨٣٢٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحّاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج بن يوسف جُلساءه عن هذه الآية:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب" يهود،"ليبيننه للناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم،"ولا يكتمونه فنبذوه".
٨٣٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، قال: وكان فيه إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
وقال آخرون: عني بذلك كل من أوتي علمًا بأمر الدين.
ذكر من قال ذلك:
٨٣٢٥ - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبد الله بن مسعود فقال: إنّ أخاكم كعبًا يقرئكم السلام، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه". فقال له عبد الله: وأنت فأقره السلام وأخبرهُ أنها نزلت وهو يهوديّ.
٨٣٢٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بنحوه، عن عبد الله وكعب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
ذكر من قال ذلك:
٨٣٢٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني يحيى بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون: (" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِيثَاقَهَمْ ")، قال: من النبيين على قومهم.
* * *
وأما قوله:"لتبيننه للناس"، فإنه كما:-
٨٣٢٩ - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن ذكوان قال، حدثنا أبو نعامة السعدي قال: كان الحسن يفسر قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، لتتكلمن بالحق، ولتصدِّقنه بالعمل. (١)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) بالتاء. وهي قراءة عُظْم قرأة أهل المدينة والكوفة، (٢) على وجه المخاطب، بمعنى: قال الله لهم: لتُبيننّه للناس ولا تكتمونه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ") بالياء جميعًا، على وجه الخبر عن الغائب، لأنهم في وقت إخبار الله نبيه ﷺ بذلك عنهم، كانوا غير موجودين، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب.
* * *
(٢) في المطبوعة: "وهي قراءة أعظم قراء أهل المدينة..." وهو خطأ، صوابه من المخطوطة كما سلف عشرات من المرات. وعظم القوم: أكثرهم ومعظمهم.
* * *
وأما قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به.
وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٣٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يحيى بن أيوب البَجَلي، عن الشعبي في قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: إنهم قد كانوا يقرأونه، إنما نبذوا العمل به.
٨٣٣١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) انظر ما سلف ٢: ٤٠٤، وما سلف ص: ٤٥٩، تعليق: ١.
٨٣٣٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا مالك بن مغول: قال، نبئت عن الشعبي في هذه الآية:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: قذفوه بين أيديهم، وتركوا العمل به.
* * *
وأما قوله:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، فإن معناه ما قلنا، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب، (١) كما:-
٨٣٣٣ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، أخذوا طمعًا، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله:"فبئس ما يشترون"، يقول: فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب، كما:-
٨٣٣٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فبئس ما يشترون"، قال: تبديل اليهود التوراة.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عني بذلك قومٌ من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله ﷺ إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله ﷺ اعتذروا إليه، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٣٥ - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله ﷺ إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو، تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله. وإذا قدم النبي ﷺ من السفر اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فأنزل الله تعالى فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية. (١)
٨٣٣٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا بن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هؤلاء المنافقون، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي ﷺ تخلَّفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٣٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"ولهم عذاب أليم"، يعني فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زيَّنوا للناس من الضلالة="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أن يقول لهم الناس علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، (١) ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا. (٢)
٨٣٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك= إلا أنه قال: وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم: أهل صلاة وصيام.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) الأثر: ٨٣٣٧، ٨٣٣٨ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٨، وهو تتمة الأثر السالف رقم: ٨٣١٨، والإسناد متصل إلى ابن عباس، كما مضى مرارًا.
(٣) في المطبوعة: "ابن كريب"، وهو خطأ، قد مضى على صحته في مئات من المواضع.
٨٣٤٠ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: كانت اليهود أمر بعضهم بعضًا، (٢) فكتب بعضهم إلى بعض:"أنّ محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم"، ففعلوا وفرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
٨٣٤١ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: قالت اليهود أمر بعضهم بعضًا"، وهو كلام غير مستقيم، صحفت"كانت" إلى"قالت" فأثبتها على الصواب إن شاء الله.
٨٣٤٢ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون:"نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم"، فأنزل الله فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أحبوا أن تحمدهم العرب، بما يزكون به أنفسهم، وليسوا كذلك.
٨٣٤٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية:"لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا"، قال سعيد بن جبير: بكتمانهم محمدًا="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هو قولهم:"نحن على دين إبراهيم عليه السلام". (١)
٨٣٤٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فرحوا بأنهم كفروا بمحمد ﷺ وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصومون ويصلون، ويطيعون الله. فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، كفرًا بالله وكفرًا بمحمد ﷺ (٢) ="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، من الصلاة والصوم، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم".
* * *
(٢) في المطبوعة: "كفروا بالله، وكفروا بمحمد"، والصواب من المخطوطة.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٤٥ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، قال: يهودُ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٤٦ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية:"ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: اليهود، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام.
* * *
٨٣٤٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة عن أبي المعلى العطّار، عن سعيد بن جبير قال: هم اليهود، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام.
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، سألهم رسول الله ﷺ عن شيء فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه.
ذكر من قال ذلك:
٨٣٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره: أن مروان بن الحكم قال لبوابه: يا رافع، اذهب إلى ابن عباس فقل له:"لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، لنعذبن جميعًا"! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس" إلى قوله:"أن يحمدوا بما لم يفعلوا". قال ابن عباس: سألهم النبيّ ﷺ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. (١)
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٥٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ أعداء الله اليهود، يهود خيبر، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه، وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمَدهم نبي الله ﷺ بما لم يفعلوا، فأنزل الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، الآية.
٨٣٥١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: إن أهل خيبر أتوا النبي ﷺ وأصحابه فقالوا:"إنا على رأيكم وسنتكم، (١) وإنا لكم رِدْء". (٢) فأكذبهم الله فقال:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآيتين.
٨٣٥٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إن كعبًا يقرأ عليك السلام ويقول: إن هذه الآية لم تنزل فيكم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهودي. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية، قول من قال:"عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر
(٢) "الردء": العون والناصر، ينصره ويشد ظهره.
(٣) الأثر: ٨٣٥٢ - انظر الأثر السالف رقم: ٨٣٢٥، "وكعب" هو"كعب الأحبار".
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن، يا محمد، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء، لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه="فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم".
* * *
وقوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا، (١) من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه، (٢) كما:-
٨٣٥٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، قال: بمنجاة من العذاب.
* * *
قال أبو جعفر:"ولهم عذاب أليم"، يقول: ولهم عذابٌ في الآخرة أيضًا مؤلم، مع الذي لهم في الدنيا معجل. (٣)
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٥٠.
(٣) أخشى أن يكون صواب العبارة: "ولهم عذاب مؤلم في الآخرة أيضا مؤجل، مع الذي لهم في الدنيا معجل".
قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا:"إن الله فقير ونحن أغنياء". يقول تعالى ذكره، مكذبا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون أيها المفترون على الله، من كان ملك ذلك له فقيرًا؟
ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك، ولكل مكذب به ومفتر عليه، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه= فقال:"والله على كل شيء قدير"، يعني: من إهلاك قائلي ذلك، وتعجيل عقوبته لهم، وغير ذلك من الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (١٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك، وعلى سائر خلقه، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، (١) تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: وقوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" من نعت"أولي الألباب"، و"الذين" في موضع خفض ردًّا على قوله:"لأولي الألباب".
* * *
ومعنى الآية: إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا. كما:-
٨٣٥٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(٢) في المطبوعة:
٨٣٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم"، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فاذكره وأنت على جنبك، يُسرًا من الله وتخفيفًا.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"وعلى جنوبهم": فعطف بـ"على"، وهي صفة، (١) على"القيام والقعود" وهما اسمان؟
قيل: لأن قوله:"وعلى جنوبهم" في معنى الاسم، ومعناه: ونيامًا، أو:"مضطجعين على جنوبهم"، فحسن عطف ذلك على"القيام" و"القعود" لذلك المعنى، كما قيل: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [سورة يونس: ١٢] فعطف بقوله:"أو قاعدا أو قائما" على قوله:"لجنبه"، لأن معنى قوله:"لجنبه"، مضطجعا، (٢) فعطف بـ"القاعد" و"القائم" على معناه، فكذلك ذلك في قوله:"وعلى جنوبهم". (٣)
* * *
وأما قوله:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض"، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.
* * *
(٢) انظر ما سلف ٣: ٤٧٥.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٥٠.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض" قائلين:"ربنا ما خلقت هذا باطلا"، فترك ذكر"قائلين"، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه.
* * *
وقوله:"ما خلقت هذا باطلا" يقول: لم تخلق هذا الخلق عبثًا ولا لعبًا، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة، وإنما قال:"ما خلقت هذا باطلا" ولم يقل:"ما خلقت هذه، ولا هؤلاء"، لأنه أراد بـ"هذا"، الخلقَ الذي في السموات والأرض. يدل على ذلك قوله:"سبحانك فقنا عذاب النار"، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم. ولو كان المعنيّ بقوله:"ما خلقت هذا باطلا"، السموات والأرض، لما كان لقوله عقيب ذلك:"فقنا عذاب النار"، معنى مفهوم. لأن"السموات والأرض" أدلة على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب، الأمر والنهي.
وإنما وصف جل ثناؤه:"أولي الألباب" الذين ذكرهم في هذه الآية: أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين قالوا:"يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك"، يعني: تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر، لجنة أو نار.
ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره، فيكونوا من أهل جهنم.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها، فقد أخزيته. قال: ولا يخزي مؤمن مصيرُه إلى الجنة، وإن عذِّب بالنار بعض العذاب.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٥٦ - حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار قالا أخبرنا المؤمل، أخبرنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس في قوله:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: من تُخلد. (١)
٨٣٥٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن المسيب:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هي خاصة لمن لا يخرج منها.
٨٣٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا قبيصة بن مروان، عن الأشعث الحمْليّ قال، قلت للحسن: يا أبا سعيد، أرأيت ما تذكر من الشفاعة، حق هو؟ قال: نعم حق. قال، قلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله تعالى:"ربنا إنك من تدخل النار فقد
٨٣٥٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هو من يخلد فيها.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار، من مخلد فيها وغير مخلد فيها، فقد أخزي بالعذاب.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر، عن عمرو بن دينار قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"؟ قال:
(٢) في المطبوعة: "إنك والله لا تستطيع على شيء"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب ما أثبته من المخطوطة، غيره الناشرون إذ لم يفهموه. وقوله: "لا تسطو علي بشيء"، أي: إنك لا تحتج علي بحجة تقهرني بها وتغلبني. وأصله من"السطو"، وهو البطش والقهر. و"فلان يسطو على فلان"، أي يتطاول عليه.
(٣) الأثر: ٨٣٥٨ -"قبيصة بن مروان بن المهلب" روى عن والان، وروى عنه حماد بن زيد. مترجم في الكبير ٤ / ١ / ١٧٧، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٢٥. والأشعث الحملي" منسوب إلى جده، وهو: "الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأعمى" ويقال: "الأزدي"، و"حدان" بطن من الأزد. روى عن أنس، والحسن، وابن سيرين. وروى عنه شعبة، وحماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد القطان، مترجم في التهذيب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، قول جابر:"إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها". وذلك أن"الخزي" إنما هو هتك ستر المخزيّ وفضيحته، (٢) ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو"الخزي".
* * *
وأما قوله:"وما للظالمين من أنصار"، يقول: وما لمن خالف أمر الله فعصاه، من ذي نُصرة له ينصره من الله، فيدفع عنه عقابه، أو ينقذه من عذابه.
* * *
وهذا الأثر قد أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٠٠، ولم يقل فيه شيئًا، وقال الذهبي في تعليقه: "قلت: بحر هالك"، ورواه بأتم مما هنا، بيد أن السيوطي في الدر المنثور ٢: ١١١، خرجه، ونسبه للحاكم وابن جرير، وساق لفظ الأثر بأتم من لفظ أبي جعفر، ومخالفًا لفظ الحاكم، ولفظه: "قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهت إليه أنا وعطاء، فقلت: "وما هم بخارجين من النار"؟ قال: أخبرني رسول الله ﷺ أنهم الكفار. قلت لجابر: فقوله:
"فكيف ينسب فقر إلى من كان | "، أخر"إلى"، والصواب الجيد تقديمها كما في المخطوطة. |
إنك من تدخل النار فقد أخزيته | "، وسائر لفظه مطابق لما في الطبري. |
(٢) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ٢: ٣١٤، ٥٢٥.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"المنادي" الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية.
فقال بعضهم: ا"لمنادي" في هذا الموضع، القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم. (١)
٨٣٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا منصور بن حكيم، عن خارجة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادي القرآن. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، ضعيف جدا، مضى برقم: ١٨٧٥، ١٨٧٦، ٣٢٩١.
(٢) الأثر: ٨٣٦٢ -"منصور بن حكيم"، لم أعرفه ولم أجد له ترجمة، وكذلك"خارجة" لم أعرف من يكون فيمن اسمه"خارجة"، وأخشى أن يكون فيهما تصحيف أو تحريف.
٨٣٦٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول محمد بن كعب، وهو أن يكون"المنادي" القرآن. لأن كثيرًا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرًا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [سورة الجن: ١، ٢]
وبنحو ذلك:-
٨٣٦٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان" إلى قوله:"وتوفَّنَا مع الأبرار"، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الجنّ كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأما مؤمن الإنس فقال:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا"، الآية.
* * *
وقيل:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، يعني: ينادي إلى الإيمان، كما
أَوْحَى لَها القَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ | وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ (٣) |
* * *
وقيل: يحتمل أن يكون معناه: إننا سمعنا مناديًا للإيمان، ينادي أن آمنوا بربكم. (٤)
* * *
فتأويل الآية إذًا: ربنا سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان= يقول: إلى التصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك="فآمنا ربنا"، يقول: فصدقنا بذلك يا ربنا. ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفّرها عنا، وسيئات أعمالنا، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا="وتوفنا مع الأبرار"، (٥) يعني بذلك: واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك، في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم.
* * *
و"الأبرار" جمع"بَرَ"، وهم الذين برُّوا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له، حتى أرضوه فرضي عنهم. (٦)
* * *
(٢) هو العجاج.
(٣) سلف تخريجهما في ٦: ٤٠٥، تعليق: ٣.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٥٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١١١.
(٥) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١١١.
(٦) وانظر تفسير"البر" فيما سلف ٢: ٨ / ٣: ٣٣٦ - ٣٣٨، ٥٥٦ / ٤: ٤٢٥ / ٦: ٥٨٧.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربَّهم أن يؤتيهم ما وعدهم، وقد علموا أن الله منجز وعده، وغيرُ جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟ قيل: اختلف في ذلك أهل البحث. (١)
فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج المسألة، ومعناه الخبر. قالوا: وإنما تأويل الكلام:"ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار" لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا:"إن توفيتنا مع الأبرار، فأنجز لنا ما وعدتنا"، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء، (٢) ولكنه تفضل بابتدائه، ثم ينجزه. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قول من قائليه على معنى المسألة والدعاء لله بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، (٤) لا أنهم كانوا قد
(٢) في المخطوطة: "بعطية"، وعلى الياء شدة، وكأن الصواب ما في المطبوعة على الأرجح.
(٣) في المطبوعة: "تفضل بإيتائه"، والصواب ما في المخطوطة، يعني أن الله ابتدأه متفضلا به من غير سؤال ولا دعاء.
(٤) في المطبوعة: "بل ذلك قول من قائله" على الإفراد، وصواب السياق الجمع، كما في المخطوطة.
* * *
وقال آخرون: بل قالوا هذا القول على وجه المسألة، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، فيعجل ذلك لهم. قالوا: ومحال أن يكون القوم= مع وصف الله إياهم بما وصفهم به، كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك، ولكنهم كانوا وُعدوا النصرَ، ولم يوقَّت لهم في تعجيل ذلك لهم، لما في تعجَله من سرور الظفر ورَاحة الجسد.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي، أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله ﷺ من وطنه وداره، مفارقًا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله، وغيرهم من تُبّاع رسول الله ﷺ الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم، فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نُصرتك عليهم عاجلا فإنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم، فعجل [لهم] خزيهم، ولنا الظفر عليهم. (١)
يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى، وهو قوله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ
وكذلك أيضًا غير معروف في الكلام:"آتنا ما وعدتنا"، بمعنى:"اجعلنا ممن آتيته ذلك". وإن كان كل من أعطى شيئًا سنيًّا، فقد صُيِّر نظيرًا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه. ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إليه. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك: أنك تُعلي كلمتك كلمةَ الحق، بتأييدنا على من كفر بك وحادَّك وعبد غيرك (٤) = وعجَل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك- ولا تخزنا يوم القيامة فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا، ولكن كفِّرها عنا واغفرها لنا. وقد:-
٨٣٦٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك"، قال: يستنجز موعود الله على رُسله.
* * *
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقول القائل الآخر" وهو خطأ لا شك فيه.
(٣) وهذا رد على أصحاب القول الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرها قبل. وهم الذين قالوا إن قوله: "وآتنا ما وعدتنا"، على معنى المسألة والدعاء لله بإن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم.
(٤) في المخطوطة: "بأيدينا على من كفر بك"، وأرجح ما جاء في المطبوعة.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين= بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به (١) = ربُّهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرًا، ذكرًا كان العامل أو أنثى.
* * *
وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة"؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.
٨٣٦٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر؟ فنزلت:"أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى"، الآية. (٢)
وسياق الكلام"فأجاب هؤلاء الداعين... ربهم" برفع"ربهم"، وما بينهما فصل في السياق، وهو تأويل قوله: "فاستجاب لهم ربهم".
(٢) الحديث: ٨٣٦٧ - هذا إسناد صحيح. ومؤمل: هو ابن إسماعيل، وهو ثقة، كما ذكرنا في: ٢٠٥٧.
سفيان - هنا -: هو الثوري، وإن كان مؤمل يروى أيضا عن ابن عيينة. ولكن بين أنه الثوري في رواية الحاكم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
والحديث رواه الطبري أيضا، فيما يأتي في تفسير الآية: ٢٥ من سورة الأحزاب (ج٢٢ ص٨ بولاق)، عن ابن حميد، عن مؤمل، بهذا الإسناد. وذكره سببًا لنزول تلك الآية.
والحديث مروي على أنه سبب في نزول هذه الآية وتلك.
فرواه الحاكم في المستدرك ٢: ٤١٦، من طريق الحسين بن حفص، عن سفيان بن سعيد [وهو الثوري]، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، قالت: "قلت: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟ فأنزل الله عز وجل: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات" الآية، وأنزل: "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والحسين بن حفص الهمداني الإصبهاني: ثقة، كما ذكرنا في شرح: ٢٤٣٥.
وقد ذكر ابن كثير رواية الطبري الأخرى، في سورة الأحزاب ٦: ٥٣٣، غير منسوب.
ورواه أحمد في المسند ٦: ٣٠١ (حلبى)، سببًا لنزول آية الأحزاب. رواه من وجهين، جمعهما في إسناد واحد: من رواية عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، ومن رواية عبد الرحمن بن شيبة المكي الحجبي = كلاهما عن أم سلمة.
ثم أعاده مرة أخرى، ص: ٣٠٥ من الوجهين، فرقهما إسنادين.
ورواه المزي في تهذيب الكمال، في ترجمة"عبد الرحمن بن شيبة"، بإسناده إليه.
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن النسائي رواه في التفسير من طريق عبد الرحمن. فهو في السنن الكبرى.
ورواه الطبري، فيما سيأتي (ج٢٢ ص٨ بولاق)، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة - سببًا لنزول آية الأحزاب.
ويحيى بن عبد الرحمن: تابعي ثقة جليل رفيع القدر.
وذكر ابن كثير ٦: ٥٣٣ أنه رواه النسائي من طريقه ثم أشار إلى رواية الطبري إياه.
وانظر أيضا الدر المنثور ٥: ٢٠٠.
فالحديث في الموضعين في الطبري، من طريق مجاهد = مختصر.
وانظر الروايتين التاليتين لهذا.
٨٣٦٩ - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أنها
* * *
وقيل:"فاستجاب لهم" بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر: (٢)
وَدَاٍع دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى؟ | فَلَم يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (٣) |
* * *
وكذلك ذكره الترمذي في روايته مبهمًا.
فرواه ٤: ٨٨، عن ابن أبي عمر، عن سفيان -وهو ابن عيينة- بهذا الإسناد.
وكذلك أبهمه سعيد بن منصور: فرواه عن سفيان، به. فيما نقله عنه ابن كثير في التفسير ٢: ٣٢٦.
وبينه الحاكم في المستدرك.
فرواه ٢: ٣٠٠، من طريق يعقوب بن حميد: "حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن أبي سلمة: رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. سمعت أبا أحمد الحافظ - وذكر في بحثين في كتاب البخاري: يعقوب عن سفيان، ويعقوب عن الدراوردي = فقال أبو أحمد: هو يعقوب بن حميد". والذهبي وافق الحاكم على أنه على شرط البخاري.
ويعقوب بن حميد بن كاسب: مضى توثيقه في: ٤٧٧٩، ٤٨٨٠، ومضى اعتراض الذهبي على الحاكم في تصحيح حديثه هناك. فالعجب أن يوافقه هنا!
و"سلمة بن أبي سلمة" هذا: هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة"، نسب إلى جده الأعلى. وبعضهم يذكر نسبه كاملا، وبعضهم ينسبه لجده، يقول: "سلمة بن عمر بن أبي سلمة". وأم سلمة أم المؤمنين: هي أم جده"عمر بن أبي سلمة".
و"سلمة" هذا: مترجم في تهذيب التهذيب، ولم يترجم في أصله"تهذيب الكمال". وله ترجمة في الكبير للبخاري ٢ / ٢ / ٨١، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ١٦٦.
والحديث ذكره السيوطي ٢: ١١٢، دون التقيد بتابعي معين عن أم سلمة، وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني.
(٢) كعب بن سعد الغنوي.
(٣) مضى البيت وتخريجه فيما سلف ١: ٣٢٠، تعليق: ١ / ٣: ٤٨٣، تعليق: ١.
* * *
وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم:"قد كان من حديث"، قال: و"من" ههنا أحسن، لأن النهي قد دخل في قوله:"لا أضيع".
* * *
وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال: = لا تدخل"من" وتخرج إلا في موضع الجَحد. (٣) وقال: قوله:"لا أضيع عمل عامل منكم"، لم يدركه الجحد، لأنك لا تقول:"لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت"، فتدخل،"ولا"، (٤) لأنه لم ينله الجحد، ولكن"مِنْ" مفسرة. (٥)
* * *
وأما قوله:"بعضكم من بعض"، فإنه يعني: بعضكم= أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= من بعض، في النصرة والملة والدين، (٦) وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم ولا أنثى.
* * *
(٢) انظر زيادة"من" في الجحد فيما سلف ٢: ١٢٦، ١٢٧، ٤٤٢، ٤٧٠ / ٥: ٥٨٦.
(٣) انظر ما سلف ٢: ١٢٧.
(٤) في المطبوعة"فيدخل" بالياء، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها.
(٥) يعني بقوله"مفسرة" مبينة، وانظر التعليق السالف رقم: ١.
(٦) في المطبوعة: "والمسألة والدين"، والصواب من المخطوطة.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فالذين هاجروا" قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله، والتصديق برسوله، (١) "وأخرجوا من ديارهم"، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة="وأوذوا في سبيلي"، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربَّهم، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو"سبيل الله" التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله ﷺ من أهلها (٢) ="وقاتلوا" يعني: وقاتلوا في سبيل الله ="وقتلوا" فيها (٣) ="لأكفرن عنهم سيئاتهم"، يعني: لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم (٤) ="ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا"، يعني: جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله (٥) ="من عند الله"، يعني: من قبل الله لهم (٦) ="والله عنده حسن الثواب"، يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه،
(٢) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ٣: ٥٦٣، ٥٨٣، ٥٩٢ / ٤: ٣١٨ / ٥: ٢٨٠ / ٦: ٢٣٠.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وقتلوا: يعني، وقتلوا في سبيل الله، وقاتلوا فيها" قدم وأخر في سياق الآية، وفي سياقة المعنى، والصواب ما أثبت، وإن كانت إحدى القراءات تجيز ما كان في المخطوطة، وانظر القراآت في الآية بعد.
(٤) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف قريبًا ص: ٤٨٢.
(٥) انظر تفسير"الثواب" فيما سلف ٢: ٤٥٨ / ٧: ٢٦٢، ٣٠٤.
(٦) انظر تفسير"عند" فيما سلف ٢: ٥٠١.
٨٣٧٠ - حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان، لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول:"أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة"، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون:"ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك، مَنْ هؤلاء الذين آثرتهم علينا" فيقول الرب جل ثناؤه:"هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي". فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). (١) [سورة الرعد: ٢٤]
* * *
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٧١- ٧٢، من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب -وهو عبد الله- بهذا الإسناد، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه أيضا الطبراني، من طريق أحمد بن صالح، عن ابن وهب - فيما نقل عنه ابن كثير ٤: ٥١٩
ورواه أحمد في المسند، بنحوه: ٦٥٧٠، من طريق معروف بن سويد الجذامي، عن أبي عشانة المعافري.
ثم رواه - بنحوه أيضًا: ٦٥٧١، من طريق ابن لهيعة، عن أبي عشانة.
ورواه أبو نعيم في الحلية - مختصرًا - من طريق معروف بن سويد ١: ٣٤٧. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠: ٢٥٩، من روايتي المسند، وذكر في الأولى أنه رواه أيضًا البزار، والطبراني، "ورجالهم ثقات". وذكر في الثانية أنه رواه أيضًا الطبراني، "ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير أبي عشانة، وهو ثقة". وذكره السيوطي ٢: ١١٢، ونسبه لابن جرير، وأبي الشيخ، والطبراني والحاكم"وصححه"، والبيهقي في الشعب.
ثم ذكره مرة أخرى ٤: ٥٧- ٥٨، ونسبه لأحمد، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، والحاكم"وصححه"، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.
ولم يذكره ابن كثير في هذا الموضع، بل ذكره في ذاك الموضع، في تفسير سورة الرعد، كما أشرنا إليه.
* * *
فقرأه بعضهم: (" وَقَتَلُوا وَقُتِّلُوا ") بالتخفيف، بمعنى: أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا) بتشديد"قتَلوا"، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقتَّلهم المشركون، بعضًا بعد بعض، وقتلا بعد قتل.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين: (وَقَاتَلُوا وَقَتَلُوا) بالتخفيف، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقَتَلوا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:"وَقُتِلُوا" بالتخفيف."وقاتلوا"، بمعنى: أن بعضهم قُتِل، وقاتل من بقي منهم.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها، إحدى هاتين القراءتين، وهي:"وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا" بالتخفيف، أو"وَقَتَلُوا" بالتخفيف"وَقَاتَلُوا" لأنها القراءة المنقولة نقل وراثةٍ، وما عداهما فشاذ. وبأيّ هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوَهما، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصوابَ من القراءة، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام، مع اتفاق معنييهما.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولا يغرنك" يا محمد="تقلب الذين كفروا في البلاد"، يعني: تصرفهم في الأرض وضربهم فيها، (١) كما:-
٨٣٧١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، يقول: ضربهم في البلاد.
* * *
= فنهى الله تعالى ذكره نبيّه ﷺ عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم، مع شركهم، وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله= ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة.
٨٣٧٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يغرَّنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، والله ما غرُّوا نبيَّ الله، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك.
* * *
وأما قوله:"متاع قليل"، فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها،
(٢) أخشى أن يكون سقط من هذه العبارة شيء، وإن كان الكلام مفهوم المعنى، وكأن أصل العبارة"كما قد بينا فيما مضى قبل - ولم يكل رسول الله ﷺ إلى أهل الشرك والكفر شيئًا من أمر الله، ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا".
* * *
و"المأوى": المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه. (١)
* * *
ويعني بقوله:"وبئس المهاد". وبئس الفراش والمضجع جهنم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (١٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (٣) "لكن الذين اتقوا ربهم"، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتّباع مرضاته، في العمل بما أمرهم به، واجتناب ما نهاهم عنه="لهم جنات" يعني: بساتين، (٤) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، يقول: باقين فيها أبدًا. (٥) ="نزلا من عند الله"، يعني: إنزالا من الله إياهم فيها، أنزلوها.
ونصب"نزلا" على التفسير من قوله:"لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"،
(٢) انظر تفسير"المهاد" فيما سلف ٤: ٢٤٦ / ٦: ٢٢٩.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٤) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف ١: ٣٨٤ / ٥: ٥٣٥، ٥٤٢ / ٦: ٢٦١، ٢٦٢ / ٧: ٢٢٧.
(٥) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف ٦: ٢٦١: ٢٦٢ تعليق: ١، والمراجع هناك، وفهارس اللغة.
* * *
= وقوله:"من عند الله" يعني: من قبل الله، (٢) ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم.
* * *
وقوله:"وما عند الله خير للأبرار"، يقول: وما عند الله من الحياة والكرامة، وحسن المآب"،"خير للأبرار"، مما يتقلب فيه الذين كفروا، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فانٍ، وهو قليلٌ من المتاع خسيس، وما عند الله من كرامته للأبرار - (٣) وهم أهل طاعته (٤) باقٍ، غيرُ فانٍ ولا زائل.
* * *
٨٣٧٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"وما عند الله خير للأبرار"، قال: لمن يطيع الله.
٨٣٧٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود، عن عبد الله قال: ما من نَفْس بَرَّة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. ثم قرأ عبد الله:"وما عند الله خير للأبرار"، وقرأ هذه الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ). (٥) [سورة آل عمران: ١٧٨]
(٢) انظر تفسير"عند" فيما سلف قريبًا ص: ٤٩٠، تعليق ٦، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "وما عند الله خير من كرامته للأبرار"، وهو فاسد المعنى، وكان مثله في المخطوطة، إلا أنه ضرب على"خير" بإشارة الحذف، ولكن الناشر لم يدرك معنى الإشارة فأبقاها. فأفسدت الكلام.
(٤) انظر تفسير"الأبرار" فيما سلف قريبًا ص: ٤٨٢، تعليق: ٦، والمراجع هناك.
(٥) الحديث: ٨٣٧٤ - مضى برقم: ٨٢٦٧، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن سفيان.
ورواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش كما نقله ابن كثير عنه ٢: ٣٢٨.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنزلت.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٧٦ - حدثنا عصَام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله: أن
لقمان: هو ابن عامر الوصابي الحمصي. وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ / ٢٥١، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٨٢- ١٨٣. ولم يذكرا فيه جرحا.
و"الوصابي": بفتح الواو وتشديد الصاد المهملة، كما ضبطه ابن الأثير في اللباب، والذهبي في المشتبه، ووهم الحافظ ابن حجر، فضبطه في التقريب بتخفيفها.
والحديث ذكره ابن كثير ٢: ٣٢٨ - ٣٢٩، عن هذا الموضع من الطبري. ووقع في طبعته"نوح ابن فضالة" بدل"فرج بن فضالة"، وهو خطأ مطبعي سخيف.
وذكره السيوطي ٢: ١٠٤، عند الآية السابقة: ١٧٨، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
٨٣٧٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي عن قتادة: أن النبي ﷺ قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال: فنزلت:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله". قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [سورة البقرة: ١١٥]
٨٣٧٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، ذكر
(٢) الحديث: ٨٣٧٦ - عصام بن رواد بن الجراح: مضت ترجمته وتوثيقه: ٢١٨٣. وقع هنا في المطبوعة"عصام بن زياد بن رواد بن الجراح"؛ فزيادة اسم"زياد" في نسبه لا أصل لها. وثبت في المخطوطة بحذفها، على الصواب.
أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته وتضعيفه: ١٢٦، ٢١٨٣.
أبو بكر الهذلي: سبق بيان ضعفه جدًا، في: ٥٩٧، وشرح: ٢٥٢٦.
وهذا الحديث ذكره السيوطي ٢: ١١٣، ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره ابن كثير ٢: ٣٣٠، عن الطبري، ولكن في روايته خلاف في بعض لفظه لما هنا، ولم يذكر أول إسناده. فلعله نقله عن موضع آخر من الطبري.
وهذا الحديث ضعيف كما ترى، وسيأتي قول الطبري، ص: ٤٩٩ س: ١٥"قيل: ذلك خبر في إسناده نظر".
والضعف إنما هو في هذا الإسناد لحديث جابر، أما أصل المعنى، في صلاة النبي ﷺ على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة، فإنه ثابت صحيح لا شك في صحته. رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر، ومن حديث أبي هريرة. انظر المنتقى: ١٨٢١ - ١٨٢٤.
٨٣٧٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، قال: نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي ﷺ = واسم النجاشي، أصحْمة.
٨٣٨٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الرزاق، وقال ابن عيينة: اسم النجاشي بالعربية: عطية.
٨٣٨١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: لما صلى النبي ﷺ على النجاشي، طعن في ذلك المنافقون، فنزلت هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله"، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سَلامٍ ومن معه.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٨٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت -يعني هذه الآية- في عبد الله بن سلام ومن معه.
٨٣٨٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك مُسْلِمة أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم"، من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله:"وإنّ من أهل الكتاب" أهلَ الكتاب جميعًا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله. وكلا الفريقين =أعني اليهود والنصارى= من أهل الكتاب.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في الخبر الذي رويتَ عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟
قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحًا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف. (١) وذلك أنّ جابرًا ومن قال بقوله، إنما قالوا:"نزلت في النجاشيّ"، وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشيّ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشيّ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيّ في اتباعهم
* * *
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"وإن من أهل الكتاب" التوراة والإنجيل="لمن يؤمن بالله" فيقرّ بوحدانيته="وما أنزل إليكم"، أيها المؤمنون، يقول: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="وما أنزل إليهم"، يعني: وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل والزبور="خاشعين لله"، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذلِّلين، (١) كما:-
٨٣٨٥ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في قوله:"خاشعين لله"، قال: الخاشع، المتذلل لله الخائف.
* * *
ونصب قوله:"خاشعين لله"، على الحال من قوله:"لمن يؤمن بالله"، وهو حال مما في"يؤمن" من ذكر"من". (٢)
* * *
="لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا"، يقول: لا يحرِّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد ﷺ فيبدِّلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، (٣) ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٥١.
(٣) انظر تفسير"الاشتراء" وتفسير"الثمن" فيما سلف قريبًا: ٤٥٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (١) "أولئك لهم أجرهم"، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم="لهم أجرهم عند ربهم"، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه (٢) ="عند ربهم" يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفِّيهم ذلك ="إنّ الله سريع الحساب"، وسرعة حسابه تعالى ذكره: أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاء، فلذلك قال:"إن الله سريع الحساب". (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورَابطوهم".
ذكر من قال ذلك:
٨٣٨٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،
(٢) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ٢: ١٤٨، ٥١٢ / ٥: ٥١٩.
(٣) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف ٤: ٢٠٧ / ٦: ٢٧٩.
٨٣٨٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، أي: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله="واتقوا الله لعلكم تفلحون".
٨٣٨٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله.
٨٣٨٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: اصبروا على الطاعة، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله.
٨٣٩٠ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٩١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوِّي وعدوَّكم، حتى يترك دينه لدينكم. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم.
* ذكر من قال ذلك:
٨٣٩٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوَّكم، ورابطوا على عدوكم.
٨٣٩٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا مطرف بن عبد الله المدنّي قال، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعًا من الروم وما يتخوَّف منهم، فكتب إليه عمر:"أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عُسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورَابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٨٣٩٣ -"مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان الهلالي، المدني، مولى ميمونة أم المؤمنين، وأمه أخت مالك بن أنس، روى عن خاله مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن عمر العمري، وغيرهم. روى عنه البخاري والترمذي، عن محمد بن أبي الحسن عنه وابن ماجه، عن الذهلي عنه، والربيع المرادي، وأبو حاتم، وأبو زرعة وآخرون. قال أبو حاتم: "مضطرب الحديث صدوق". وقال= ابن سعد"كان ثقة، وبه صمم". مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٣٩٧، والجرح ٤ / ١ / ٣١٥. وكان في المطبوعة: "المرى"، وفي المخطوطة مثلها، وتقرأ"المزني" والصواب"المدني" أو "المديني" في نسبه كما جاء في المراجع، وابن كثير ٢: ٣٣٧.
وفي ابن كثير ٢: ٣٣٧: "مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة"، وفي الدر المنثور ٢: ١١٤"مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة"، وفي المطبوعة والمخطوطة: "مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة"، بحذف"من" والصواب إثباتها.
ومن الأخطاء الشائعة أن يقال إن"مهما" لا تدخل على الماضي، وقد وردت في الآثار والأخبار والأشعار، من ذلك قول أبي هريرة للفرزدق: "مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله" (الكامل ١: ٧٠) وقول الأسود بن يعفر (نوادر أبي زيد: ١٥٩) :
أَلا هَلْ لِهَذَا الدَّهْرِ مِنْ مُتَعَلَّلِ | سِوَى النَّاسِ، مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ |
"أخبرنا أبو العباس السباريّ، حدثنا عبد الله بن علي، حدثنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن أبا عبيدة حُصِر بالشأم، وقد تألّبَ عليه القوم، فكتب إليه عمر: "سلام الله عليك، أمّا بعد، فإنه ما ينزلْ بعبد مؤمن من منزلة شدة، إلا يجعل الله له بعدها فرجًا، ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرين، (يَأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فكتب إليه أبو عبيدة: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإن الله يقول في كتابه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأوْلادِ) - إلى آخرها".
قال: فخرج عمر بكتابه، فقعد على المنبر، فقرأ على أهل المدينة ثم قال: يا أهْل المدينة، إِنما يعرّضُ بكم أبو عبيدة: أَنِ ارغبوا في الجهادِ".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ذكر من قال ذلك:
٨٣٩٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال، حدثني داود بن صالح قال، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"؟ قال قلت: لا! قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي ﷺ غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. (١)
والأثر خرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ٣٣٢، وذكر سياق ابن مردويه له (٢: ٣٣١) من طريق"محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل على أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٠١ من طريق سعيد بن منصور، عن ابن المبارك، بمثل رواية الطبري، إلا أنه قال في جواب السؤال: "قال: قلت: لا. قال: يا ابن أخي إني سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي... " بلفظه.
وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ١١٣، ونسبه لابن المبارك وابن المنذر، والحاكم، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي جميع هذه المواضع: "انتظار الصلاة بعد الصلاة"، والثابت في المخطوطة"خلف الصلاة"، وكان الكاتب قد كتب فيها"بعد" ثم جعل الباء والعين خاء، ومد الدال وعقد عليها فاء، فالظاهر أنه كتبها كما كان يحفظها، ثم استدرك، لأنه رأى في النسخة التي كتب عنها"خلف".
٨٣٩٦ - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن مهاجر قال، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة،
عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري: ضعيف جدا، رمي بالكذب. وقد مضى في: ٧٨٥٥.
شرحبيل: لست أدري من هو؟ والإسناد ضعيف من أجل عبد الله بن سعيد، كما ترى.
ولو صح هذا الإسناد لظننت أنه"شرحبيل بن السمط الكندى"، من كبار التابعين، مختلف في صحبته. وهو معاصر لعلي. ومن المحتمل أن يروي عنه أبو سعيد المقبري، الذي يروي عن علي مباشرة.
والحديث نقله ابن كثير ٢: ٣٣٢، عن هذا الموضع. ولم ينسبه لغير الطبري. وأشار إليه السيوطي ٢: ١١٤، بعد حديث جابر، الآتي بعد هذا، فقال: "وأخرج ابن جرير عن علي مثله".
ومعنى الحديث ثابت عن علي، من وجه آخر صحيح. ولكن ليس فيه قوله: "فذلك الرباط" - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ٣٦، وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح".
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ١: ٩٧، وقال: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم".
٨٣٩٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يحطُّ الله به الخطايا ويَرفع به
يحيى بن يزيد الجزري، أبو شيبة الرهاوي: قال البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٣١٠: "لم يصح حديثه" وذكره في الضعفاء أيضا، ص: ٣٧، وقال مثل ذلك. وقال ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٩٨، عن أبيه: "ليس به بأس، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، يحول من هناك".
فمثل هذا حديثه حسن. ثم هو لم ينفرد براوية هذا الحديث، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. قال ابن سعد ٧ / ٢ / ١٨٠: "كان ثقة كثير الحديث، فقيها راوية للعلم". أخرج له الجماعة كلهم.
شرحبيل -هنا-: هو ابن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار. مختلف فيه، والحق أنه ثقة. إلا أنه اختلط في آخر عمره، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: ٢١٠٤، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ / ٢ / ٢٥٢، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد ٥: ٢٢٨، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٣٨- ٣٣٩.
وقد بين ابن حبان في صحيحه، في رواية هذا الحديث، أنه شرحبيل بن سعد.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه (٢: ٣٣٠ من مخطوطة الإحسان)، من طريق أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، به.
وأبو عبد الرحيم: هو خالد بن أبي يزيد الحراني، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. فروايته متابعة صحيحة، توثق رواية يحيى بن يزيد، التي هنا، وتؤيدها.
والحديث نقله ابن كثير ٢: ٣٣٢، عن رواية الطبري هذه.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ١: ١٦٠- ١٦١، عن رواية ابن حبان في صحيحه، وأشار إليه أيضا قبل ذلك، ص: ١٢٨.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ٣٧، ونسبه للبزار، وذكر أن"في إسناده شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له في صحيحه هذا الحديث".
وذكره السيوطي ٢: ١١٤، ونسبه لابن جرير، وابن حبان.
٨٣٩٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٢)
* * *
والحديث رواه أحمد في المسند: ٧٢٠٨، من طريق شعبة، عن العلاء، عن أبيه، دون كلمة"فذلك" الرباط".
ورواه أحمد أيضا: ٧٧٥١، مع هذه الكلمة - من طريق مالك عن العلاء.
ثم رواه ثالثًا: ٨٠٠٨، (ج٢ ص٣٠٣ حلبي)، من طريق مالك أيضًا. وفي آخره: "فذلكم الرباط" - ثلاث مرات.
وهو بهذا اللفظ، في الموطأ، ص: ١٦١.
وكذلك رواه النسائي ١: ٣٤، من طريق مالك.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه (٢: ٣٢٩- ٣٣٠ من مخطوطة الإحسان)، من طريق مالك.
ونقله ابن كثير ٢: ٣٣١، من رواية ابن أبي حاتم، من حديث مالك، كرواية الموطأ.
ورواه مسلم ١: ٨٦، من طريق مالك، ومن طريق شعبة. وذكر أن رواية مالك -عنده-"فذلكم الرباط" مرتين.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ١: ٩٧، ١٢٨، ونسبه لمالك، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
وذكره السيوطي ٢: ١١٤، وزاد نسبته للشافعي، وعبد الرزاق.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(٢) الحديث: ٨٣٩٨ - القاسم: هو ابن الحسن، والحسين: هو ابن داود المصيصي، ولقبه"سنيد".
وهذا الإسناد"القاسم، عن الحسين" يدور عند الطبري كثيرًا، في التفسير والتاريخ، فما مضى منه في التفسير: ١٤٤، ١٦٥، ١٦٨٨. وفي التاريخ -مثلا- ١: ٢١، ٤١.
أما "سنيد" فقد ترجمنا له في: ١٤٤، ١٦٨٨.
وأما "القاسم بن الحسن" - شيخ الطبري: فلم أجد له ترجمة. ولكن في تاريخ بغداد ١٢: ٤٣٢- ٤٣٣ ترجمة"القاسم بن الحسن بن يزيد، أبو محمد الهمذاني الصائغ"، المتوفى سنة ٢٧٢. فهذا يصلح أن يكون هو المراد، ولكن لا أطمئن إلى ذلك، ولا أستطيع الجزم به، بل لا أستطيع ترجيحه.
وعسى أن نجد ما يدل على حقيقة هذا الشيخ، في فرصة أخرى، إن شاء الله.
إسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري القارئ، وهو ثقة مأمون. مضت الإشارة إليه في شرح: ٦٨٨٤.
وهذا الحديث تكرار لما قبله.
وكذلك رواه مسلم ١: ٨٦، والترمذي. (رقم: ٥١ بشرحنا) = كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر. ورواه الترمذي أيضا: ٥٢، من طريق الدراوردي، عن العلاء. وقال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح".
="وصابروا"، يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم. (٢)
* * *
وكذلك قوله:"ورابطوا"، معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله.
* * *
قال أبو جعفر: ورأى أن أصل"الرباط"، ارتباط الخيل للعدوّ، كما
(٢) في المطبوعة: "وإلا يكن عددهم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
* * *
وإنما قلنا معنى:"ورابطوا"، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط". وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه= حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"واتقوا الله"، أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه (٤) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده، (٥) كما:-
(٢) "الرجلة" (بضم الراء وسكون الجيم) : المشي راجلا غير راكب.
(٣) قوله: "حجة"، فاعل قوله: "حتى تأتي بخلاف ذلك..". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه... "، والصواب"مما يوجب" كما أثبتها، وفي المطبوعة أيضا: "إلى الخفي من معاينة"، وهو خطأ ظاهر.
(٤) في المطبوعة: "وتتقدموا" بالواو، والصواب من المخطوطة. وقوله: "تتقدموا نهيه" هكذا جاء متعديا، وكأنه أراد: أو تسبقوا نهيه، وسبقهم نهيه. أن يخاطروا بالإسراع إلى المحارم بشهواتهم، قبل أن يردهم نهي الله عن إتيانها.
(٥) انظر تفسير"لعل" فيما سلف ١: ٣٦٤، ٣٦٥، ومواضع أخرى كثيرة. وانظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ١: ٢٤٩، ٢٥٠ / ٣: ٥٦١ / ٧: ٩١.
* * *
آخر تفسير سورة آل عمران. (١)
* * *
"يتلوه القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا"
ثم يتلوه ما أثبتناه في أول تفسير سورة النساء.