في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق موقف ومشاهد حجاجية وجدلية، وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى، ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وموقفه، وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين، ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وعظمته وشمول حكمه ومشيئته، وبيان لطرق اتصال الله بأنبيائه.
وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول : إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [ ٢٣ – ٢٥ ] مدنيات، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ( ٣ ) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم ( ٤ ) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ( ٥ ) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ( ٦ ) ﴾ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل ( كهيعص ) و ( المص ) و( المر ) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر ( حم ) مبتدأ و ( عسق ) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون ( ع ) أي ( حم سق ) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. مما روى في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته ١. كذلك مما روى من معانيها أنها ترمز إلى كلمات ( حرب ) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و ( ملك ) يتحول من قوم إلى قوم ( عدو ) لقريش يقصدهم و ( سبي ) يكون فيهم و ( قدرة ) الله النافذة في خلقه٢. ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.
وقد أعقب الحروف توكيد وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السماوات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه كما يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء، وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم، وأن السماوات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لولا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علو شأنه وبالغ عظمته وقوته.
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.
رواية عجيبة عن سر ( حم عسق )
ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب وعجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه : أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له : أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال له : عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله ﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) ﴾ يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين !
٢ المصدر نفسه..
من فوقهن : قيل إن الضمير راجع إلى السماوات، ومعنى الجملة على ذلك أن كل سماء تتفطر من فوق التي تليها، وقيل إنه راجع إلى الأرض. ومعنى الجملة على ذلك أن السماوات تكاد تتشقق من فوق الأرض وأكثر المفسرين على أن الجملة على سبيل الاستفظاع من اتخاذ المشركين أولياء من دون الله الذي ذكر في الآية السادسة. وقد جاء في سورة مريم آيات من هذا القبيل فيها بيان أوضح :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا ( ٨٨ ) لقد جئتم شيئا إذا ( ٨٩ ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ( ٩٠ ) أن دعوا للرحمان ولدا( ٩٢ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ( ٣ ) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم ( ٤ ) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ( ٥ ) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ( ٦ ) ﴾ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل ( كهيعص ) و ( المص ) و( المر ) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر ( حم ) مبتدأ و ( عسق ) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون ( ع ) أي ( حم سق ) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. مما روى في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته ١. كذلك مما روى من معانيها أنها ترمز إلى كلمات ( حرب ) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و ( ملك ) يتحول من قوم إلى قوم ( عدو ) لقريش يقصدهم و ( سبي ) يكون فيهم و ( قدرة ) الله النافذة في خلقه٢. ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.
وقد أعقب الحروف توكيد وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السماوات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه كما يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء، وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم، وأن السماوات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لولا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علو شأنه وبالغ عظمته وقوته.
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.
رواية عجيبة عن سر ( حم عسق )
ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب وعجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه : أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له : أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال له : عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله ﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) ﴾ يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين !
٢ المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ( ٣ ) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم ( ٤ ) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ( ٥ ) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ( ٦ ) ﴾ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل ( كهيعص ) و ( المص ) و( المر ) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر ( حم ) مبتدأ و ( عسق ) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون ( ع ) أي ( حم سق ) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. مما روى في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته ١. كذلك مما روى من معانيها أنها ترمز إلى كلمات ( حرب ) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و ( ملك ) يتحول من قوم إلى قوم ( عدو ) لقريش يقصدهم و ( سبي ) يكون فيهم و ( قدرة ) الله النافذة في خلقه٢. ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.
وقد أعقب الحروف توكيد وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السماوات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه كما يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء، وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم، وأن السماوات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لولا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علو شأنه وبالغ عظمته وقوته.
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.
رواية عجيبة عن سر ( حم عسق )
ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب وعجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه : أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له : أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال له : عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله ﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) ﴾ يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين !
٢ المصدر نفسه..
أم القرى : كناية عن مكة.
يوم الجمع : كناية عن يوم القيامة.
وهذه هي مهمته وهو غير وكيل على أحد ولا مسؤول عن أحد كما ذكرت الآية التي قبلها. وقد احتوت الآية الثانية تنبيها آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن الله قادر لو شاء على جعل الناس أمة واحدة، ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم الصالحون المستجيبون الذي يهتدون بهديه ويدخلهم في رحمته وينالون بره، والظالمون المنحرفون الفاسدون الذين لن يكون لهم ولي ولا نصير.
والآيتان مع الآية السادسة التي قبلها هي بسبيل مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذارية والتبشيرية من جهة وتسلية عن موقف الجحود الذي يقفه الكفار المشركون من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي كلمة ﴿ الظالمون ﴾ في الآية الثانية من الآيتين دليل على أن المقصود من ( الذين يشاء الله تعالى أن يدخلهم في رحمته ) هم الفريق الذي تحلى بحسن النية ورغب في الحق والهدى وابتعد عن الظلم والهوى، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآية بسبيل بيان حكمة الله تعالى في جعل الناس ذوي إرادة واختبار. فالراغبون في الحق والهدى وذوي النيات الحسنة يختارون الهدى فيدخلون في رحمة الله وينالون رضاءه. والمنحرفون عن الحق ذوو النيات الخبيثة يختارون الضلال فيستحقون غضب الله ومقته ولا يمكن أن يكون لهم ولي يحميهم ولا ناصر ينصرهم. وفي آية سورة الأعراف :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( ١٥٦ ) ﴾ ضابط محكم في صدد من يدخلهم برحمته.
وفي الآية الأولى من الآيتين عود على بدء في صدد عروبة القرآن التي حكت بعض آيات السورة السابقة ما كان من المشركين من جدل فيها. فالله قد جعل القرآن عربيا حتى يفهمه أهل مكة ومن حولهم، واعتراضهم على هذا لا محل له. فالله كما أوحى إلى الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلسان أقوامهم وأوحى الله إليه بلسان قومه.
وقد توهم الآية الأولى – لأول وهلة – اقتصار الدعوة على أهل مكة وما حولها وعلى العرب الذين أنزل القرآن بلسانهم. ولما كان شمول الدعوة قد تقرر في آيات كثيرة تقريرا حاسما مما مرت منه أمثلة عديدة فالعبارة هنا تحمل على ما كان من ظرف خاص بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة وبين أهل مكة وما حولها من العرب من جهة أخرى على ما ذكرناه في مناسبات سابقة مماثلة.
تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة
﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ( ٧ ) ﴾
ولقد روى البغوي بطرقه في صدد جملة ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ( ٧ ) ﴾ حديثا عن عبد الله بن عمرو قال :( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قابضا على كفيه ومعه كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. قال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال : اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال : فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير عدل من الله )١. والحديث على الأرجح مدني والآية مكية وإذا صح فإن المتبادر منه أولا : أن عبارة ( كتابان ) في يمينه ويساره هي بسبيل التمثيل وليست بسبيل كتابين حقيقيين فيهما جميع أسماء بني البشر في جميع أدوار الدنيا. ثانيا : إنه بسبيل التنبيه على سبق علم الله الأزلي بأهل الجنة وأهل النار وليس في نصه ولا روحه ما ينتقض ما تبادر لنا من الآية الثانية.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء ؛ لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.
وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجه إلى الناس، أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشارة الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند، وينطوي في بيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر.
وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد بالإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني : فهو الذي خلق السماوات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السماوات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته ؛ لأنه عليم بكل شيء.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة ( من شيء ) وهو ( قل ) فيتسق حينئذ الفصل القرآني وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مر منه أمثلة عديدة.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء ؛ لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.
وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجه إلى الناس، أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشارة الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند، وينطوي في بيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر.
وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد بالإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني : فهو الذي خلق السماوات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السماوات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته ؛ لأنه عليم بكل شيء.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة ( من شيء ) وهو ( قل ) فيتسق حينئذ الفصل القرآني وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مر منه أمثلة عديدة.
وجملة ﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ موجهة إلى مخاطبين حاضرين. وتحتمل أن يكون التوجيه فيها مطلقا، وتحتمل أن يكون خاصا لفريق في موقف من المواقف. وروح الفصل والآيات السابقة معا التي تستعمل ضمير الغائب بالنسبة للكفار تجعلنا نرجح الإطلاق في التوجيه.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء ؛ لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.
وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجه إلى الناس، أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشارة الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند، وينطوي في بيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر.
وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد بالإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني : فهو الذي خلق السماوات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السماوات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته ؛ لأنه عليم بكل شيء.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة ( من شيء ) وهو ( قل ) فيتسق حينئذ الفصل القرآني وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مر منه أمثلة عديدة.
تعليق على جملة
﴿ ليس كمثله شيء ﴾
وجملة ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ – وإن جاءت في مقامها لتنفي أي احتمال للتماثل بين الله تعالى في قدرته وعظمته وشمول تصرفه وحكمته وكمال صفاته وبين أي كان ممن يتخذهم المشركون شركاء له في الدعاء والعبادة وفي معرض التنديد بالمشركين – فإنها من حيث هي حاسمة في صدد الذات الإلهية وسرها، ويصح أن تكون ضابطا عاما تجب ملاحظته في كل ما ذكر القرآن من صفات الله الذاتية والفعلية والعين والوجه والمجيء والنزول والعروج والاستواء والرؤية والسمع والبصر والكلام والروح والغضب والفرح والكيد والمكر الخ واعتبار كل مماثلة يمكن أن يتصورها الإنسان بين الله سبحانه في أي شيء وبين أي شيء آخر ممتنعة ومنتفية.
شرع : بين أو فرض أو سنن أو خط.
في الآية :
تقرير بأن ما شرعه الله من الدين للناس الذين يوجه إليهم القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما شرعه ووصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وقد وصاهم أن يثبتوا عليه دون خلاف ولا فرقة.
وإشارة إلى ما كان من استعظام المشركين لما يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه من وحدة الله مع أن ذلك هو ما دعا إليه الأنبياء من قبله.
وتقرير بأن الله إنما يختار ويقرب إليه من يشاء ويهدي إليه أولئك الذين ينيبون إليه ويرغبون في هداه.
والآية متصلة بالسياق الذي يندد بالمشركين لاتخاذهم أولياء من دون الله. وجملة ﴿ الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( ١٣ ) ﴾ من الجمل التي يصح أن تكون مفسرة ومقيدة للجمل التي تأتي مطلقة في آيات أخرى كما هو واضح. وكمناسبة قريبة فإن فيها تدعيما لما شرحناه في صدد الآية الثامنة من السورة.
تعليق على آية
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ﴾
والآية في حد ذاتها احتوت تنويها بوحدة المنبع والمبادئ في الأديان التي جاء بها رسل الله. وتوكيدا بوجوب الثبات على ذلك وعدم الانقسام والتفرق فيه. ثم تقريرا بأن الرسالة المحمدية تنبع من نفس المنبع، وتقوم على نفس المبادئ، وتتقيد بالواجب الذي أمر الله بالثبات عليه وعدم الانقسام والتفرق فيه.
وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك إقناع العرب بأن الرسالة المحمدية ليست بدعة جديدة، وإنما هي نفس الدعوة التي دعا إليها الأنبياء السابقون، وهذا يلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى أرسل قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنبياء. وهو ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الأنبياء هذه :﴿ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( ٥ ) ﴾ ومنها آية سورة القصص هذه :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ [ ٤٨ ] ومنها آية سورة الأنعام هذه :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( ١٥٦ ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ [ ١٥٧ ] وهذا ما يجعل حجة الآية دامغة لهم. ويلحظ أن الآية اقتصرت على ذكر أربعة أنبياء. ومن المتبادر أن الذين ذكروا هم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن.
ولقد ذكر الطبري في سياق تفسير الآية [ ٧ ] من سورة الأحزاب التي فيها ذكر الأنبياء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذه الآية وهي :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم....... ﴾ عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول :( كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث ). وأورد هذا البغوي وابن كثير في سياق آية الأحزاب كذلك. وهذا يذكر أن الحديث من مرويات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث وأنه رواه مسلسلا إلى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة بهذا النص :( روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ﴾ الآية، أنه قال :( كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم ) وعقب ابن كثير على الحديث بقوله : إن أحد رواته سعيد بن بشير فيه ضعف وإن آخرين رووه عن قتادة مرسلا أو موقوفا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق آية الأحزاب حديثا آخر رواه أبو بكر البزار مسلسلا إلى أبي هريرة أنه قال :( خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وخيرهم محمد ) وعقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله إنه موقوف وإن في أحد رواته حمزة الزيات ضعفا.
والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وفيها من العلل ما يسوغ التوقف فيها كما هو ظاهر.
ونكرر ما قلناه إن اختصاص الأنبياء الأربعة بالذكر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو سبب كونهم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. فقد كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام وينسبون إليه تقاليدهم الدينية ويزعمون أنهم على ملته. وموسى وعيسى هما أصل الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين كانت لهم بهما وبأتباعهما صلات وثيقة متنوعة. وكانوا متأثرين بهما إلى حد كبير. وكانتا في نظرهم هي الديانات السماوية الكتابية، ونوح وهو أبو البشر بعد الطوفان حيث تفرعت الأجناس من أولاده سام وحام ويافث على ما ورد في سفر التكوين الذي كان اليهود والنصارى يتداولونه ويعتبرونه من أسفارهم الهامة والذي كان العرب يعرفون كثيرا مما جاء فيه من أخبار وقصص عن طريقهم.
ولقد روى المفسرون١ أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين في المقصود من ( الدين ) الذي شرعه الله ووصى به الأنبياء السابقين ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام. ومنها أنه تحريم الأمهات والبنات والأخوات. ومنها أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. والمتبادر أن الجملة تشمل كل ذلك أو بكلمة ثانية تشمل المبادئ المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية في رسالات أنبياء الله تعالى. ولعلها مما هدفت تقرير كون ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بدعا بل إنه متسق مع ما وصى الله تعالى به الأنبياء من قبله عامتهم وخاصتهم لاسيما الذين يعرفون أنهم أصل الشرائع الممارسة والله أعلم.
تضمنت الآية :
إشارة تنديدية إلى اختلاف الذين جاءهم أنبياء الله بالدين الذي شرعه الله للناس.
وتقريرا بأن ذلك إنما كان منهم بغيا وشذوذا عن الحق وعن أمر الله الذي أكد بوجوب عدم التفرق في الدين.
وتقريرا بأن الله كان جديرا بالقضاء بينهم في الدنيا فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأصحابه لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده.
وتقريرا بأن الذين ورثوا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه السابقين قد وقعوا منها في شكوك شديدة أدت إلى ما هم فيه من خلاف وفرقة وبلبلة.
والآية متصلة بسابقتها كما هو واضح، ومن المحتمل أن يكون ما فيها من تعليل للخلاف القائم بين الناس في دين الله الذي جاء به أنبياؤه الأولون جوابا على احتجاج وجاهي احتج به المشركون، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك توضيحا لأسباب واقع الأمر من الفرقة والخلاف بين الذين يتبعون الأديان التي أتى بها أنبياء الله السابقون، وقد تسوغ الآية التالية لهذه الآية ترجيح الاحتمال الثاني.
تعليق على جملة
﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾
ولقد تضمنت الآية تقرير كون الخلاف والانقسام والنزاع بين أهل الأديان السماوية ليس ناشئا من طبيعة دين الله الذي شرعه للناس على لسان رسله وأنبيائه والذي أمر الله بالثبات عليه. وإنما هو نتيجة لما كان من بغي وأهواء ومآرب وسوء تأويل وشذوذ بين الذين ورثوا كتب الله عن أنبيائهم ؛ لأن الدين الذي شرعه الله والذي هو – على ما هو المستمد من القرآن وجوهر الكتب السماوية – وحدة الله وربوبيته الشاملة وعدم إشراك أي شيء به والتزام الفضائل والمكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية ونبذ الآثام والفواحش والمنكرات لا يتحمل انقساما ولا خلافا ولا نزاعا في أي ظرف ومكان. وقد تكرر تقرير ذلك والنعي على أهل الكتاب والتنديد بهم بسببه في مواضع كثيرة من السور المكية والمدنية. وفي هذا ما فيه من خطورة وتلقين جليل مستمر المدى.
لا حجة بيننا وبينكم : ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
بأن يدعو إلى ما أمر به ويثبت عليه بعد أن بين الله له في الآية السابقة أن الخلاف والنزاع والشك الذي وقع فيه أهل الأديان والكتب المنزلة ليس من طبيعة دين الله الذي شرعه على لسان أنبيائه الأولين ولا يتبع أهواءهم وميولهم.
وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق.
تعليق على آية
{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب }
والآية استمرار في السياق كما هو واضح، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين. ومع أن معظم المفسرين١ صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى.
وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزاعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه. وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها ؛ حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع، وتؤمن بما أنزل الله من كتب وتأمر بالعدل والإنصاف مع الذين لا يدينون بالإسلام وبتركهم وشأنهم إذا ما التزموا نفس الموقف إزاء المسلمين وتفويض أمر الجميع إلى الله عز وجل ليؤيد من كان على الحق وثبت فيه، ويخزي ويعاقب من انحرف عنه. وفي هذا ما فيه من اتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة والتلقين الجليل المستمر المدى.
وفي أمر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ؛ ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه :﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( ١٣٢ ) ﴾، وكذا :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك… ﴾ [ ١٢٨ ]، وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( ٨٠ ) ﴾ وآية سورة المائدة هذه :﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون ( ١١١ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( ٨٤ ) ﴾ وآية سورة القصص هذه :﴿ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( ٥٣ ) ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل.... ﴾٢[ ٧٨ ].
ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان ما أمر بإعلانه في هذه الآية. ومنها آيات واسعة مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( ١٣٦ ) ﴾٣ تحصيلا لذلك الهدف العظيم.
ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة٤. كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما، فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا٥. وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( ٢٨ ) ﴾.
هذا، والمتبادر أن الآية وهي تقرير العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها. هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله، وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتاب متعددين في ظروف مختلفة. وفيه ما هو منسوب إلى الله ورسله مع تنافيه مع المبادئ القرآنية المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية مثل ربوبية الله الشاملة ووحدته المطلقة المنزهة عن كل شائبة ومبادئ الحق والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة وحظر الربا والظلم والبغي والعدوان والمنكرات والآثام الخ على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. ولقد أكد القرآن وقوع تحريف وإخفاء ونسيان في كتب الله المنزلة كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( ٧٥ ) ﴾، وهذه :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( ٧٩ ) ﴾، وسورة آل عمران هذه :﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( ٧٨ ) ﴾ وسورة المائدة هذه :﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( ١٢ ) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( ١٣ ) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( ١٤ ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( ١٥ ) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( ١٦ ) ﴾.
والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق ﴿ آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية. ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق........ ﴾ [ ٤٨ ] بحيث يسوغ القول إن الله عز وجل قد جعل القرآن – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد – للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم.
وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود ؛ لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر. وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة، ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما، وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن ؛ لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
٢ هناك آيات كثيرة أخرى من هذا الباب مكية ومدنية..
٣ هناك آيات أخرى من بابها أيضا..
٤ اقرأ آيات سور: آل عمران [١١٢ – ١١٣ و١٩٩] والنساء [١٦٢] والمائدة [٨٣ – ٨٤] والأنعام [١١٤] والرعد [٣٦] والإسراء [١٠٧ – ١٠٨] والقصص [٥١ – ٥٣] والعنكبوت [٤٦] والأحقاف [١٠]..
٥ اقرأ آيات سور: البقرة [٤٠ – ١٤٨] وآل عمران [٦٩ – ١٢٠] والنساء [٤٤ – ٥٥] والمائدة [١٢ – ١٩ – ٥٩ – ٦٦] والتوبة [٢٩ – ٣٤]..
داحضة : ساقطة أو باطلة.
تقرير الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حق وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد.
تعليق على آية
﴿ والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة ﴾
والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة. وقد انطوى فيها رد على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف، ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي.
والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب. وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى، ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل ؛ حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني. فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته من جميع الأجناس والألوان والطبقات يدينون لرب واحد شامل الربوبية، متصف بجميع صفات الكمال منزه عن الشوائب في نطاق الأخوة والمساواة والحرية والعدل والإحسان والبر والتعاون والتضامن والتواد والمحبة والسلام والتسامح. لا يطغى فيه ولا يتعالي قوي على ضعيف ولا غني على فقير ولا زعيم على صعلوك، يؤخذ من غنيهم لفقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم، ويعين قادرهم عاجزهم ويؤيد أعلاهم أدناهم. ويجيز أدناهم على أعلاهم ويتساوى نساؤهم مع رجالهم في الحقوق والواجبات والتكاليف والنتائج الدنيوية والأخروية يتفانون في الله ورضوانه ويجاهدون في سبيله ويحملون راية دعوته ويدعون إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلا من ظلم وبغى. لا يستبد أحد منهم في رأي، وأمرهم شورى بينهم. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يجتنبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويتقون الله في السر والعلن ويقومون بواجبهم نحو الله والناس لا يبغون ولا يعتدون على أحد ولا يرضخون لظلم ولا بغي، لا يضيقون بمن يريد أن يحتفظ بدينه إذا هو وادهم وسالمهم بل يبرونه ويعطونه حقه ويحكمون له إذا تقاضى عندهم بالحق وتكون له حريته الدينية والمدنية والقضائية يطيعون ولاة أمورهم الذين يجب أن يكونوا منهم فيما لا معصية فيه. ويأخذون حظهم من الدنيا كسبا وسعيا ومتاعا. ويستمتعون بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق من دون إسراف وينتفعون بكل ما في الكون من نواميس ومنافع مما احتواه القرآن في مختلف فصوله المكية والمدنية واحتوته السنة النبوية الثابتة القولية والفعلية.
وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن، وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كله مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة.
الميزان : هنا كناية عن العدل أو العقل الذي يزن المرء به الحق والباطل، أو القدرة على الموازنة بين الحق والباطل وكل هذا ما أورده المفسرون في تأويل الكلمة، وبعضهم روى أنه الميزان العادي ولكن هذا لا يتوافق مع روح العبارة القرآنية.
والآيتان متصلتان بما سبقهما ؛ فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس، وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك.
والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه ؛ حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا.
والآيتان متصلتان بما سبقهما ؛ فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس، وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك.
والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه ؛ حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا.
في الآية الأولى تنبيه إلى لطف الله بعباده ورزقه لمن يشاء دون مانع ولا حائل، وتنويه بصفتي القوة والعزة اللتين يتصف بهما.
وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.
والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا.
والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الرد عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مر شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ( ١٩ ) من كان يريد حرث( ١ ) الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩ – ٢٠ ].
في الآية الأولى تنبيه إلى لطف الله بعباده ورزقه لمن يشاء دون مانع ولا حائل، وتنويه بصفتي القوة والعزة اللتين يتصف بهما.
وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.
والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا.
والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الرد عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مر شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة.
وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم ؛ حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.
والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله، وأن الله راضي عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة.
وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم ؛ حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.
والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله، وأن الله راضي عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني.
في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلا المودة في القربى، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير.
وكلمة ﴿ ذلك ﴾ تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.
وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه، بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى. وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية ( ٢٠ ) السابقة بأسلوب آخر ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حث على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
تعليق على جملة
﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾
ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى ﴿ المودة في القربى ﴾ وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك، فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال : تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية :﴿ أم يقولون افترى على الله كذبا............. ﴾ فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية ١ هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها، وسبب نزولها، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما. فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير : القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس :( عَجِلتَ إن النبي لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش ( إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم ) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا٢. ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله :( كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية :﴿ لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾.
ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله :( قال محمد لقريش : لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكني أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني ) ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب.
وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة ؛ حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه : الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم. قال : أما قرأت ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ ؟ قال : نعم إنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم. وحيث يروي أيضا أن سعيد بن جبير قال : إن كلمة ﴿ القربى ﴾ في الآية تعني قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن عمرو بن شعيب أولها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.
ومما رواه الطبرسي في تفسير ( مجمع البيان ) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية :( لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح ) أو ( التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة ). كما روى عن ابن عباس أنها تعني :( لا أسألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها ). وعن قتادة ومجاهد :( أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم ). وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله :( أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم ). عن الحسن :( إنا أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾. وعن ابن عباس :( لما نزلت الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم ؟ فقال : هم علي وفاطمة وولدهما )٣.
وتعليقا على ما تقدم نقول : أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها حديث صح عند البخاري والترمذي، وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق.
ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذو صلة بها ؛ لأن ذلك يكون ممتنعا ألبتة في حالة مكية الآية ؛ حيث كان أكثر أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد ؛ لذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب النبي أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البر بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومودتهم واحترامهم واجب مسلم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نص قرآني أو حديث نبوي ٤ فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علو شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مر منه أمثلة عديدة. ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا، وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته، وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم، ولاسيما أن من التأويلات ما صح عند البخاري والترمذي عن ابن عباس وهو من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في التأويلات الأخرى ما في رتبة ذلك ولا قريب منه. وقد ذكر في سياق الحديث الذي أخرجه الطبراني أن بعض رواته ضعفاء، ولقد قال الطبري بعد أن أورد جميع الأقوال :( إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال لا سألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم وإن دخل هذا الحرف ( في ) مما يؤيد ذلك إذ لو كان قصد الآية مودة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل هذا الحرف ولكانت الجملة ( إلا مودة القربى ) لا ( المودة في القربى ). ولقد قال ابن كثير بعد أن أورد كثيرا من الأقوال والروايات التي أوردناها والأحاديث التي وردت في وجوب مودة واحترام ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( والحق هو تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس ). يعني التفسير الذي رواه البخاري والترمذي ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة الواضحة الجليلة٥، وجمهور المفسرين في جانب هذا التفسير٦ أيضا.
٢ انظر التاج جـ ٤ ص ٢٠٣ – ٢٠٤..
٣ علق ابن كثير على هذه الرواية بقوله: إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل والآية مكية ولم يكن لفاطمة إذ ذاك أولاد..
٤ ومن الواجب أن نذكر أن هناك أحاديث عديدة في وجوب محبة واحترام أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا يجعل ذلك الواجب أمرا دينيا وإيمانيا ملزما. ومن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي). فقال الحصين – رواه الحديث عن زيد – لزيد: (من أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم يا زيد ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس).
التاج جـ ٢ ص ٣٠٨ – ٣٠٩.
وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا، وروى الترمذي عن ابن الترمذي عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي). تفسير الآية لابن كثير. وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. ؟ وفيها الجيد السند وفيها الضعيف، فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة والقوي الإسناد..
٥ انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير..
٦ انظر تفسير الزمخشري والخازن والبيضاوي والبغوي والقاسمي أيضا..
في الآية تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار يقولون : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتري على الله الكذب ورد مفحم على ذلك بأن الله قادر لو كان قولهم صحيحا على أن يختم على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويطمس على بصيرته ويمحو الباطل المفترى عليه ويحق الحق. فهو العليم بما في الصدور المحيط بكل شيء القادر على كل شيء.
والآية غير منقطعة عن السياق وإن كانت تحكي زعما للكفار وترد عليه.
واتصالها ملموح بصورة خاصة بالآية [ ٢١ ] وما قبلها ؛ حيث حكت تلك الآيات أقوال المشركين ومواقفهم حيث احتوت هذه حكاية قول آخر من أقوالهم.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآية السابقة أن هذه الآية مما روى مدينتها معها، وشكنا في رواية الآية السابقة ينسحب على رواية هذه الآية بطبيعة الحال. ويلحظ أن أسلوب هذه الآية ومضمونها مما تكرر في آيات مكية وأن الصورة التي انطوت فيها هي من صور العهد المكي على الأعم الأغلب.
وفي إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى إليه به في الآية يتجلى فيه بصورة رائعة إخلاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمق شعوره بصدق صلته بالوحي الرباني واستشعاره هيبة الله عز وجل وانتفاء أي احتمال لنسبة شيء ما إليه لم يكن قد أوحى إليه به، ومن شأن ذلك أن يفحم كل مكابر متعنت.
في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله، أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب.
وكلمة ﴿ وهو ﴾ التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولاسيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عز وجل بلفظ ( هو ). ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.
والمتبادر أن جملة ﴿ ويعفوا عن السيئات ﴾ مرتبطة بالجملة التي قبلها ونتيجة لها ومتضمنة تقرير عفو الله عن سيئات الذين يتوبون إليه ويرجعون عن تصرفاتهم وأعمالهم الآثمة. وفيها تشجيع رباني على التوبة مما تكرر في مواضع كثيرة في القرآن وعلقنا على ما فيه من مبدأ قرآني عظيم في سياق سورة البروج.
ولقد ساق المفسرون١ في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة. منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ).
ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ).
ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش، أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه ).
في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله، أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب.
وكلمة ﴿ وهو ﴾ التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولاسيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عز وجل بلفظ ( هو ). ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.
والمتبادر أن جملة ﴿ ويعفوا عن السيئات ﴾ مرتبطة بالجملة التي قبلها ونتيجة لها ومتضمنة تقرير عفو الله عن سيئات الذين يتوبون إليه ويرجعون عن تصرفاتهم وأعمالهم الآثمة. وفيها تشجيع رباني على التوبة مما تكرر في مواضع كثيرة في القرآن وعلقنا على ما فيه من مبدأ قرآني عظيم في سياق سورة البروج.
ولقد ساق المفسرون١ في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة. منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ).
ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ).
ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش، أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه ).
تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعدما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليهم الذي يبر بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السماوات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء ؛ لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلا بقليل مما يستحقون ؛ لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ﴾
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ٢٧ ] وهي أولى هذه الآيات مدنية. وروى المفسر الخازن رواية مؤيدة لذلك عن خباب بن الأرت رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن هذه الآية نزلت فينا، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله الآية ). والذي نلحظه أن الآية منسجمة في الآيات الأخرى سبكا وموضوعا انسجاما تاما. وأن آيات لا خلاف في مكيتها قد احتوت شيئا مما احتوته مرت أمثلة منها في السور السابقة وبخاصة في سورة سبأ. ولا تظهر حكمة لوضعها في السياق المكي الذي وضعت فيه لو كانت مدنية وهذا فضلا عن أن مضمونها لا ينطبق تماما على فحوى الرواية وبناء على ذلك كله فنحن نتوقف في رواية مدنيتها.
وهذا لا يمنع من أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظهروا عجبهم مما في أيدي يهود المدينة من ثروات فتلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية مذكرا بحكمة الله ومشيئته ونواميسه في بسط الرزق وقبضه، فظن بعضهم أنها نزلت حديثا.
وقد يكون نزول الآية في مكة متصلا بسبب مثل ذلك ؛ حيث يكون الكفار قد تبجحوا بثروتهم وغناهم، وقد حكت آيات عديدة عنهم ذلك، أو يكون بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة ذلك فجاءت لترد على أولئك أو تطمئن هؤلاء وظلت تساق في هذا المعرض، وفي الآية [ ٣٢ ] الآتية بعد قليل قرينة ما على ذلك على ما سوف نشرحه بعد.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية حينما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها، فقال قائل : هل يأتي الخير بالشر يا نبي الله ؟ فردد السؤال ثم نزل عليه الوحي فلما فصل عنه قال : إن الخير لا يأتي إلا بالخير ثلاثا، ولكنه والله ما كان ربيع قط إلا أحبط أو ألم ( هذا مثل عربي يراد به مخالطة المواد الضارة في نبات الربيع مع المواد النافعة ) فإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في سبيل الله التي افترض وارتضى فذلك عبد أريد به خير وعزم له على خير. وإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته ولذاته وعدل عن حق الله عليه فذلك عبد أريد به شر وعزم له على شر.
ولقد ساق المفسر البغوي في سياق تفسير الآية حديثا قدسيا رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل جاء فيه :( يقول الله عز وجل : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك. إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير )١.
وفي الحديث تطمين بأسلوب آخر لما قصدته الآية من تطمين على ما شرحناه قبل.
تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعدما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليهم الذي يبر بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السماوات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء ؛ لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلا بقليل مما يستحقون ؛ لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ( ٢٩ ) ﴾
ولقد قال واحد من الذين يحبون أن يستدلوا بالآيات على ما في الكون من أسرار وعوالم مغيبة : إن في هذه الآية دليلا على أن الكواكب مأهولة بالأحياء، وأن القرآن بذلك يتطابق مع ما صار معلوما عند العلماء في هذه الأيام. والآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وهذا أمر ما يزال قيد الظن والتخمين وقد يثبت وقد لا يثبت. والآية لم تنزل بسبيل ذلك، وإنما كانت تتلى على أناس يرون ما في الأرض والسماء من مختلف الأحياء الدابة على الأرض والطائرة في السماء لتنبههم إلى ما في ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وعظمته وكونه هو الأحق بالعبادة والاتجاه وحده. ولقد نبهنا على هذا في مناسبات سابقة مماثلة، وقلنا : إن في محاولة استنباط المعارف والأسرار والمغيبات الكونية من الآيات تكلفا لا طائل من ورائه وإخراجا للقرآن عن قدسيته وهدفه وتعريضا له للجدل والتكذيب بدون وجه مبرر. وأن الواجب على المسلمين أن يقفوا من هذه الآية وأمثالها عند ما يقف عنده القرآن دون تزيد ولا تكلف مع ملاحظة الهدف الذي ترمي إليه والذي تخاطب في صدده السامعين خطابا بما يشاهدونه ويحسونه ويمارسونه.
تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعدما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليهم الذي يبر بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السماوات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء ؛ لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلا بقليل مما يستحقون ؛ لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعدما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليهم الذي يبر بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السماوات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء ؛ لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلا بقليل مما يستحقون ؛ لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
تعليق على آية
﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ الخ
ويلوح لنا أن الآية [ ٣٠ ] وهي تنبه إلى أن ما يصيب الناس من مصائب هو من كسب أيديهم قد قصدت تقرير ما هو متسق مع الواقع والحق والعقل، وهو أن ما يصيب الناس في أغلب الأحيان من مصائب وبلاء وشرور وأضرار وأخطار إنما هو نتيجة لتصرفاتهم وأعمالهم، فليس لهم أن يوجهوا لومهم على ذلك إلى غيرهم. ومن واجبهم أن يترووا في أعمالهم وتصرفاتهم ليتقوا تلك الأضرار والأخطار.
ومع ما قلناه أنه المتبادر اللائح من الآية [ ٣٠ ] فهناك أحاديث نبوية يرويها المفسرون في سياقها، منها حديث رواه البغوي بطرقه عن الحسن قال :( لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ). وحديث رواه البغوي بطرقه أيضا عن أبي سخيلة قال :( قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾. قال وسأفسرها لك يا علي. ( ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه ). ولسنا نرى في الحديثين نقضا لما تبادر لنا، بل فيهما تدعيم له وإن كان فيهما بالإضافة إلى ذلك تبشر وتطمين للمسلمين يجعلانهم يتقبلون ما يقع عليهم بالرضاء والإذعان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياقه أحاديث فيها تدعيم لهذا التلقين الإضافي. ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها ). وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن معاوية بن أبي سفيان قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه من سيئاته ).
تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعدما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليهم الذي يبر بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السماوات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء ؛ لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلا بقليل مما يستحقون ؛ لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
الجواري : جمع جارية وهي كناية عن سفن البحر.
الأعلام : كناية عن ارتفاعها فوق سطح البحر كأنها جبال.
تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله. ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة، وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفوتهم، وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول، وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينسحب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين ؛ حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار، وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [ ٢٧ ] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [ ٣٤ ] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [ ٣٠ ] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [ ٣٦ ] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا، وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس، وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن االشراعية، وهي التي قصد بها جملة ﴿ الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه، ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله. ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة، وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفوتهم، وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول، وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينسحب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين ؛ حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار، وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [ ٢٧ ] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [ ٣٤ ] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [ ٣٠ ] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [ ٣٦ ] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا، وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس، وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن االشراعية، وهي التي قصد بها جملة ﴿ الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه، ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله. ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة، وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفوتهم، وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول، وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينسحب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين ؛ حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار، وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [ ٢٧ ] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [ ٣٤ ] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [ ٣٠ ] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [ ٣٦ ] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا، وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس، وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن االشراعية، وهي التي قصد بها جملة ﴿ الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه، ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله. ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة، وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفوتهم، وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول، وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينسحب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين ؛ حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار، وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [ ٢٧ ] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [ ٣٤ ] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [ ٣٠ ] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [ ٣٦ ] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا، وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس، وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن االشراعية، وهي التي قصد بها جملة ﴿ الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه، ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله. ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة، وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفوتهم، وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول، وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينسحب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين ؛ حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار، وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [ ٢٧ ] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [ ٣٤ ] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [ ٣٠ ] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [ ٣٦ ] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا، وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس، وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن االشراعية، وهي التي قصد بها جملة ﴿ الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه، ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٨ ) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( ٤٠ ) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤ ) ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( ٤٢ ) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ ٣٧ – ٤٣ ].
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٨ ) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( ٤٠ ) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤ ) ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( ٤٢ ) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ ٣٧ – ٤٣ ].
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٨ ) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( ٤٠ ) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤ ) ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( ٤٢ ) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ ٣٧ – ٤٣ ].
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ( ٣٨ ) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( ٤٠ ) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤ ) ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( ٤٢ ) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ ٣٧ – ٤٣ ].
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :
فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب، بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البر ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :
فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان، ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين١ أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر٢ أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ( ١٩٩ ) ﴾، وآية سورة الجاثية :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ ١٤ ] وآية سورة النحل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عقب وفاته، وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
تعليق على آيات
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش......... ﴾
الخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول : إنها من جهة وصف لما كان الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مر الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعد من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير ﴿ كبائر الإثم الفواحش ﴾ قد ورد في الآية [ ٣٤ ] من سورة النجم التي مر تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا ﴿ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ و ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى : تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية : تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها، وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة :﴿ إذا ما غضبوا هم يغفرون ( ٣٧ ) ﴾ عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ عائدة للمعنى الثاني. وجملة :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( ٣٩ ) ﴾ وجملة :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( ٤١ ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم............ الخ ﴾ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )٣. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء )٤. وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال : لا تغضب. فردد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب )٥. وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم )٦. وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )٧. وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )٨. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )٩. وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا )١٠. وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من كف غضبه كف الله عنه عذابه )١١. وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله )١٢.
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيها بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
وجملة :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.... ﴾ [ ١٠٩ ] وهذه :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى...... ﴾ [ ٢٣٧ ] وآية سورة آل عمران هذه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾، وآية سورة النساء هذه :﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التغابن هذه :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾. وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( ١٨٢ ) ﴾، وهذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٣٤ ) ﴾، وآيات سورة النساء هذه :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( ٣٥ ) ﴾، وهذه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير..... ﴾ [ ١٢٨ ] وهذه :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( ١٢٩ ) ﴾، وآيات سورة الأنعام هذه :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾، وهذه :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾، وآية الأعراف هذه :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة الأنفال هذه :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم..... ﴾ [ ١ ]، وآيات سورة الحجرات هذه :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فآت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين ؛ لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات و
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
٣ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٤ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٥ التاج ج ٥ ص ٤٣ – ٤٤..
٦ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٧ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٨ التاج جـ ٥ ص ٤٤ – ٤٧..
٩ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١٠ تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران..
١١ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
١٢ تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها..
الظالمين : يمكن أن تكون الكلمة تعني الكفار المشركين كما يمكن أن تعني البغاة المعتدين. والمعنى الأول هو الأكثر ورودا في هذا المقام مع انطوائه على معنى العدوان والبغي في الكفر والشرك.
مرد : هنا بمعنى رجعة أو عودة إلى الدنيا.
وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة وتوجيهها، وللتعليقات التي علقناها على ما يمثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر
وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة وتوجيهها، وللتعليقات التي علقناها على ما يمثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر
وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة وتوجيهها، وللتعليقات التي علقناها على ما يمثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر
مرد : هنا بمعنى لا راد له ولا دافع.
نكير : هنا بمعنى نصير، وأصل معناها الذي ينكر ما يحدث من الأمور ويعترض عليها.
والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه.
والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية وفحواها يلهمان أن الخطاب فيها موجه للكفار وأنها بسبيل حثهم على الانتهاء من موقف الجحود والمكابرة قبل فوات الوقت والندم على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للتقريع الذي احتوته الآية الثانية والمقصود به في الدرجة الأولى كما هو المتبادر هم الجاحدون الظالمون. ويلحظ أن ما احتوته الآية الثانية قد احتوت مثله إحدى الآيات الأخيرة من السورة السابقة وقد وجه التقريع فيه للكافرين.
والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه.
والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية وفحواها يلهمان أن الخطاب فيها موجه للكفار وأنها بسبيل حثهم على الانتهاء من موقف الجحود والمكابرة قبل فوات الوقت والندم على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للتقريع الذي احتوته الآية الثانية والمقصود به في الدرجة الأولى كما هو المتبادر هم الجاحدون الظالمون. ويلحظ أن ما احتوته الآية الثانية قد احتوت مثله إحدى الآيات الأخيرة من السورة السابقة وقد وجه التقريع فيه للكافرين.
في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته : فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته. ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.
وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة النحل هذه :﴿ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( ٥٧ ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( ٥٨ ) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ( ٥٩ ) ﴾. فلعل شيئا مما ذكرته الآية الأخيرة السابقة لهذه قد وقع في ظروف نزول السورة فاحتوت الآيتان ردا على ذلك وتنديدا بالفرحين البطرين، أو باليائسين الساخطين، وتقريرا بأن ذلك مشهد من مشاهد نواميس الله في خلقه ونتيجة لتقديره ومشيئته. فلا موجب للبطر ولا لليأس. وهكذا تكون الآيتان في هذه الحالة قد استهدفتا معالجة نفسية لحالة قائمة يتساوى فيه المسلمون وغير المسلمين. والمعالجة مستمرة التلقين والمدى ؛ لأنها تعالج حالة مستمرة تثير الفرح والسخط كما هو المتبادر. فكل شيء يجري وفق النواميس التي أودعها الله في خلقه وفي نطاق تقديره ومشيئته وعلى الناس والمسلمين منهم أن يذكروا ذلك فلا يبطروا ولا يسخطوا ويرضوا بتقدير الله ومشيئته اللذين هما خارجان عن نطاق قدرتهم ومشيئتهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( ٤٩ ) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ( ٥٠ ) ﴾ [ ٤٩ – ٥٠ ].
في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته : فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته. ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.
وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة النحل هذه :﴿ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( ٥٧ ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( ٥٨ ) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ( ٥٩ ) ﴾. فلعل شيئا مما ذكرته الآية الأخيرة السابقة لهذه قد وقع في ظروف نزول السورة فاحتوت الآيتان ردا على ذلك وتنديدا بالفرحين البطرين، أو باليائسين الساخطين، وتقريرا بأن ذلك مشهد من مشاهد نواميس الله في خلقه ونتيجة لتقديره ومشيئته. فلا موجب للبطر ولا لليأس. وهكذا تكون الآيتان في هذه الحالة قد استهدفتا معالجة نفسية لحالة قائمة يتساوى فيه المسلمون وغير المسلمين. والمعالجة مستمرة التلقين والمدى ؛ لأنها تعالج حالة مستمرة تثير الفرح والسخط كما هو المتبادر. فكل شيء يجري وفق النواميس التي أودعها الله في خلقه وفي نطاق تقديره ومشيئته وعلى الناس والمسلمين منهم أن يذكروا ذلك فلا يبطروا ولا يسخطوا ويرضوا بتقدير الله ومشيئته اللذين هما خارجان عن نطاق قدرتهم ومشيئتهم.
في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله، فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامي في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.
وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد وجه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية، ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده. وكان من شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.
تعليق على آية
﴿ *وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ﴾
وما بعدها
وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.
والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي كما يوحي إلى النبي من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سورة أخرى أيضا مر منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.
وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قُبيله أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ، ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها. وفي الآيات الأولى ذكر أن الله شرع من الدين ما وصى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.
ونقول تعليقا على مدى الآيات : إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام : الأول أن يكون وحيا، من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.
وأصل معنى ( الوحي ) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.
والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين :( الملك الذي كان ينزل على النبي ). واستعمال تعبير ( فيوحي إليهم ) بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ( ١٩٢ ) نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( ٩٧ ) ﴾ [ ٩٧ ].
ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.
أما المشهد الثاني وهو :﴿ من وراء حجاب ﴾ فالمستلهم من العبارة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عز وجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه من الكلام الرباني الذي كلم به موسى عليه السلام على ما مر تفسيره.
ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سر متصل بسر واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلا المكابرون.
وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد استعمل في بيانه كلمتا ﴿ أوحينا ﴾ و﴿ روحا ﴾. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي، ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي أيضا، فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة ﴿ أو يرسل رسولا ﴾. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.
ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه صورة الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي، وروى ثانيها وثالثها مسلم، فيها صورة أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه :( إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ). وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه ). وجاء في الثالث :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما انجلى عنه رفع رأسه ). ١
هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلا بعد اتصال وحي الله به، وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل، وهذا لا ينفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه، حتى تأهل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم.
ولقد قال بعض المفسرين٢ إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقص ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.
٢ انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي..
في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله، فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامي في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.
وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد وجه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية، ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده. وكان من شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.
تعليق على آية
﴿ *وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ﴾
وما بعدها
وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.
والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي كما يوحي إلى النبي من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سورة أخرى أيضا مر منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.
وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قُبيله أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ، ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها. وفي الآيات الأولى ذكر أن الله شرع من الدين ما وصى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.
ونقول تعليقا على مدى الآيات : إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام : الأول أن يكون وحيا، من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.
وأصل معنى ( الوحي ) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.
والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين :( الملك الذي كان ينزل على النبي ). واستعمال تعبير ( فيوحي إليهم ) بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ( ١٩٢ ) نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( ٩٧ ) ﴾ [ ٩٧ ].
ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.
أما المشهد الثاني وهو :﴿ من وراء حجاب ﴾ فالمستلهم من العبارة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عز وجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه من الكلام الرباني الذي كلم به موسى عليه السلام على ما مر تفسيره.
ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سر متصل بسر واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلا المكابرون.
وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد استعمل في بيانه كلمتا ﴿ أوحينا ﴾ و﴿ روحا ﴾. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي، ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي أيضا، فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة ﴿ أو يرسل رسولا ﴾. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.
ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه صورة الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي، وروى ثانيها وثالثها مسلم، فيها صورة أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه :( إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ). وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه ). وجاء في الثالث :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما انجلى عنه رفع رأسه ). ١
هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلا بعد اتصال وحي الله به، وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل، وهذا لا ينفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه، حتى تأهل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم.
ولقد قال بعض المفسرين٢ إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقص ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.
٢ انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي..
في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله، فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامي في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.
وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد وجه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية، ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده. وكان من شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.
تعليق على آية
﴿ *وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ﴾
وما بعدها
وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.
والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي كما يوحي إلى النبي من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سورة أخرى أيضا مر منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.
وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قُبيله أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ، ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها. وفي الآيات الأولى ذكر أن الله شرع من الدين ما وصى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.
ونقول تعليقا على مدى الآيات : إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام : الأول أن يكون وحيا، من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.
وأصل معنى ( الوحي ) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.
والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين :( الملك الذي كان ينزل على النبي ). واستعمال تعبير ( فيوحي إليهم ) بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ( ١٩٢ ) نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( ٩٧ ) ﴾ [ ٩٧ ].
ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.
أما المشهد الثاني وهو :﴿ من وراء حجاب ﴾ فالمستلهم من العبارة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عز وجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه من الكلام الرباني الذي كلم به موسى عليه السلام على ما مر تفسيره.
ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سر متصل بسر واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلا المكابرون.
وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد استعمل في بيانه كلمتا ﴿ أوحينا ﴾ و﴿ روحا ﴾. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي، ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي أيضا، فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة ﴿ أو يرسل رسولا ﴾. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.
ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه صورة الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي، وروى ثانيها وثالثها مسلم، فيها صورة أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه :( إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ). وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه ). وجاء في الثالث :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما انجلى عنه رفع رأسه ). ١
هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلا بعد اتصال وحي الله به، وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل، وهذا لا ينفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه، حتى تأهل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم.
ولقد قال بعض المفسرين٢ إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقص ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.
٢ انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي..