تفسير سورة الشورى

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٤٢ شرح إعراب سورة حم عسق (الشورى)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكاف من «كذلك» في موضع نصب نعت لمصدر، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بيوحي. وأصح ما قيل في المعنى أنه كوحينا إليك وإلى الذين من قبلك يوحى إليك، وأبو عبيدة «١» يجيز أن يجعل ذلك بمعنى هذا ومن قرأ يُوحِي إِلَيْكَ «٢» جعل الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة الخبر، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في يوحى، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بالابتداء أو بإضمار فعل أي يوحيه إليك الله جلّ وعزّ. ومن قرأ نوحي «٣» بالنون رفع اسم الله جلّ وعزّ بالابتداء و «العزيز الحكيم» خبره، ويجوز أن يكون العزيز الحكيم نعتا والخبر لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ «٤» أصحّ ما قيل فيه أن المعنى من أعلاهن، وقيل: من فوق الأرضين. وسمعت علي بن سليمان يقول: الضمير للكفار أي يتفطرن من فوق الكفار لكفرهن. قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين أجاز في بني أدم رأيتهنّ إلّا أن يكون للمؤنث خاصة. فهذا يدلّ على فساد هذا القول، وأيضا فلم
(١) انظر مجاز القرآن ١/ ٢٨.
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٨٦، وهذه قراءة مجاهد وابن كثير وعباس ومحبوب كلّهم عن أبي عمرو.
(٣) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٨٦.
(٤) انظر تيسير الداني ١٥٧، والبحر المحيط ٧/ ٤٨٦.
يتقدّم للكفار ذكر يكنى عنهم. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يراد به خاصّ، ولفظه عامّ أي للمؤمنين، ودلّ عليه إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٦]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ رفع بالابتداء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ مبتدأ وخبره في موضع خبر «الذين».
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٧]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها «من» في موضع نصب والمعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم يجمع فيه الناس لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ على الابتداء. وأجاز الكسائي والفراء «١» نصب فريق بمعنى وتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير يوم الجمع.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٨]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي مؤمنين قيل: المعنى لو شاء الله لألجأهم إلى الإيمان فلم يكن لهم ثواب فيه فامتحنهم بأن رفع عنهم الإلجاء وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وهم المؤمنون وَالظَّالِمُونَ مرفوعون بالابتداء، وفي موضع أخر وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الإنسان: ٣١] والفرق بينهما أنّ ذاك بعده أعدّ وليس بعد هذا فعل أي لما أضمر لذاك فعل وواعد الظالمين.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٩]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ تكون هُوَ زائدة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون اسما مرفوعا بالابتداء والْوَلِيُّ خبرها.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٠]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي مردود إلى الله إمّا بنصّ وإمّا بدليل.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١١]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يكون مرفوعا بإضمار مبتدأ ويكون نعتا. قال الكسائي:
ويجوز فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالنصب على النداء، وقال غيره: على المدح. ويجوز
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢.
الخفض على البدل من الهاء الّتي في عليه يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال شعبة عن منصور: «يذرؤكم» يخلقكم، وقال أبو إسحاق: يذرؤكم يكثركم، وجعل «فيه» بمعنى به أي يكثركم بأن جعلكم أزواجا، وقال علي بن سليمان: «يذرؤكم» ينبتكم من حال إلى حال أي ينبتكم في الجعل. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب الذي رواه شعبة عن منصور لأن أهل اللغة المتقدمين منهم أبو زيد وغيره رووا عن العرب: ذرأ الله عزّ وجلّ الخلق يذرؤهم أي خلقهم، وقول أبي إسحاق وأبي الحسن على المجاز، والحقيقة أولى ولا سيّما مع جلالة من قال به، وإنه معروف في اللغة. ويكون فيه على بابها أولى من أن تجعل بمعنى به، وإن كان يقال: فلان بمكة فيكون المعنى فالله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يخلقكم في الأزواج، وذكر على معنى الجمع. ويكون التقدير: وجعل لكم من الأنعام أزواجا أي ذكرانا وإناثا. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي لا يقدر أحد على هذا غيره والكاف في كَمِثْلِهِ زائدة للتوكيد لا موضع لها من الإعراب لأنها حرف، ولكن موضع كَمِثْلِهِ موضع نصب. والتقدير: ليس مثله شيء. وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٢]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لَهُ مَقالِيدُ يقول مفاتيح. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ خبر «إنّ» والتقدير: إنه عليم بكلّ شيء.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٣]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً «ما» في موضع نصب بشرع. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف عليها. وَما وَصَّيْنا في موضع نصب أيضا أي وشرع لكم. وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ «أن» في موضع نصب على البدل من «ما» أي شرع لكم أن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو وأن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من الهاء أي شرع لكم أن تقيموا لله الدّين الّذي ارتضاه ولا تتفرّقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض فهذا الذي شرع لكم لجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أن يقيموا الدّين الذي ارتضاه، وهو الإسلام وأمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم مقتدون بهم. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر وعمر» «١» أي اعملوا كما يعملان من اتباع أمر الله جلّ وعزّ
(١) أخرجه الترمذي في سننه- المناقب رقم الحديث ٣٦٦٢، والبيهقي في السنن الكبرى (٩٧)، وأحمد في مسنده ٥/ ٣٨٢، وأبو نعيم في الحلية ٩/ ١٠٩، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩/ ٥٣، والمتقي في كنز العمال (٣٦٥٦).
وترك خلاف ما أمروا به، وليس معناه في كلّ مسألة. أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ جاز أن يكون أقيموا وهو أمر داخلا في الصلة لأن معناه كمعنى الفعل المضارع. معناه أن تقيموا الدّين فلا تتفرّقوا فيه. ومذهب جماعة من أهل التفسير أنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وهذا القول داخل في معنى الأول. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من إقامة الدّين لله جلّ وعزّ وحده.
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء أن يجتبيه ثم حذف هذا. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ حذفت الضمّة من يهدي لثقلها، وأناب رجع أي تاب.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٤]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي من بعد ما جاءهم القرآن. بَغْياً مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ الفراء «١» يذهب إلى أنّ معنى اللام معنى «إلى» وإلى أن معنى «ذلك» هذا أي فإلى هذا فادع أي إلى أن تقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه.
قال أبو جعفر: واللام بمعنى إلى مثل قوله جلّ وعزّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥] قال العجاج: [الرجز] ٣٩٨-
وحى لها القرار فاستقرّت
«٢» قال أبو جعفر: وهو مجاز، وقد خولف الفراء فيه، وقيل: اللام على بابها.
والمعنى: للذي أوحى إليك من إقامة الدّين وترك التفرّق فيه من أجل ذلك فادع فأما أن يكون ذلك بمعنى هذا فلا يجوز عند النحويين الحذّاق. قال محمد بن يزيد: هذا لمن
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٢.
(٢) الرجز للعجاج في ديوانه ٢/ ٤٠٨، ولسان العرب (وحى) وتهذيب اللغة ٥/ ٢٩٦، وجمهرة اللغة ص ٥٧٦، وكتاب العين ٣/ ٣٢٠، وتاج العروس (وحى)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٦/ ٩٣، ومجمل اللغة ٤/ ٥١٢. وعجزه:
«وشدّها بالرّاسيات الثّبّت»
كان بالحضرة وذلك لمن تراخى ففي دخول أحدهما على الآخر بطلان البيان وذلك على بابه أي فإلى ذلك الذي تقدّم فادع، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ جمع هوى مبني على فعل إلّا أنه اعتلّ لأن الياء قلبت ألفا لتحركها وتحرّك ما قبلها فجمع على أصله كما يقال:
جمل وأجمال لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ نصب على التبرئة وقد ذكرنا العلّة فيه. وأجاز سيبويه الرفع فجعل «لا» بمعنى ليس. والمعنى أنه قد تبين الحقّ وأنتم معاندون وإنما تثبت الحجّة على من لم يكن هكذا.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٦]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
وَالَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء وحُجَّتُهُمْ ابتداء ثان، داحِضَةٌ خبر حجتهم والجملة خبر «الذين»، ويجوز أن تكون حجّتهم بدلا من الذين على بدل الاشتمال وفي المعنى قولان: أحدهما أن المعنى: والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتكون الهاء مكنيّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي من بعد ما دعا على أهل بدر فاستجيب له ودعا على أهل مكة ومصر بالقحط فاستجيب له ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله عزّ وجلّ من قريش فاستجيب له في أشياء غير هذه، والقول الآخر قول مجاهد، قال: الّذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له قوم من الكفار يجادلون المؤمنين في الله جلّ وعزّ أي في وحدانيته من بعد ما استجاب له المؤمنون فيجادلون، وهم مقيمون على الكفر ينتظرون أن تجيء جاهليته. وهذا القول أولى من الذي قبله بالصواب، وأشبه بنسق الآية لأنه لم يتقدم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر فيكنى عنه ولا لدعائه.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٧]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ اسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالابتداء والَّذِي خبره وليس نعت لأن الخبر لا بدّ منه والنعت يستغنى عنه أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ذكر فيه ما يحقّ على الناس أن يعملوه: وَالْمِيزانَ عطف على الكتاب أي وأنزل الميزان بالحق وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ تهديد لهم لأنهم حاجّوا في الله عزّ وجلّ من بعد ما استجيب له. وقال قريب والساعة مؤنّثة على النسب، وقيل فرقا بينه وبين القرابة، فأما أبو إسحاق فيقول: لأن التأنيث ليس بحقيقي. والمعنى: لعلّ البعث قريب، وذكر وجها أخر قال: يكون لعلّ مجيء الساعة قريب.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٨ الى ١٩]

يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وذلك نحو قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ [يونس:
٤٨] وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وهكذا وصف أهل الإيمان يخافون من التفريط لئلا يعاقبوا عليه. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي لفي ضلال عن الحقّ وإنما صار بعيدا لأنهم كفروا معاندة ودفعا للحقّ، ولو كان كفرهم جهلا لم يكن بعيدا لأنه كان يتبين لهم ويرون البراهين.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ شرط ومجازاة. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه أقوالا، ونذكر ما لم نذكره. وهو أن يكون المعنى: من كان يريد بجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بغزوه الغنيمة، وهو حرث الدّنيا على التمثيل، نؤته منها لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يمنع المنافقين من الغنيمة. وهذا قول بيّن إلّا أنه مخصوص وقول عامّ قاله طاوس قال: من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلّا ما كتب له، ومن كان يريد الآخرة جعل الله جلّ وعزّ غناه بين عينيه ونور قلبه، وأتاه من الدنيا ما كتب له.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٢]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا الظَّالِمِينَ نصب بترى ومُشْفِقِينَ نصب على الحال، والتقدير: من عقاب ما كسبوا. قال جلّ وعزّ: وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي العقاب وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ
قال مجاهد: الروضة المكان المونق الحسن. وحكى بعض أهل اللغة أنها لا تكون إلّا في موضع مرتفع، كان أحسن لها وأشدّ، وإذا كانت خشنة ولم تكن رخوة كان ثمرها أحسن وألذّ، كما قال جلّ وعزّ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: ٢٦٥] أي مرتفعة. قال الأعشى: [البسيط] ٣٩٩-
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
«١» فوصف أنها من رياض الحزن، والحزن: ما غلظ من الأرض، ويقال: الحزم بالميم، لما ذكرناه. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي ذلك الذي تقدّم ذكره للذين آمنوا.
و «ذلك» في موضع رفع بالابتداء و «هو» ابتداء ثان، ويجوز أن يكون زائدا بمعنى التوكيد «الفضل» الخبر و «الكبير» من نعته.
(١) مرّ الشاهد رقم (٣٣٧).

[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٣]

ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ مبتدأ وخبره وقراءة الكوفيين يُبَشِّرُ «١» وقد ذكرنا نظيره «٢» غير أن أبا عمرو بن العلاء قرأ هذا وحده يُبَشِّرُ «٣» وقرأ غيره «يبشّر» «٤» وأنكر هذا عليه قوم، وقالوا: ليس بين هذا وبين غيره فرق، والحجّة له ذلك أنه لم يقرأ بشيء شاذ ولا بعيد في العربية ولكن لما كانتا لغتين فصيحتين لم يقتصر على أحدهما فيتوهم السامع أنه لا يجوز غيرها فجاء بهما جميعا، وهكذا يفعل الحذّاق. وفي القرآن نظيره مما قد اجتمع عليه، وهو قوله جلّ وعزّ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة: ٢٨٢] من أملّ يمل وفي موضع أخر فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: ٥] من أملى يملي. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه مستقصى.
فأما الإعراب فهذا موضع ذكره «المودّة» في موضع نصب لأنه استثناء ليس من الأول، وسيبويه «٥» يمثله بمعنى «لكن»، وكذا قال أبو إسحاق، قال: «أجرا» تمام الكلام كما قال جلّ وعزّ: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: ٥٧] ولو لم يكن استثناء ليس من الأول كانت المودة بدلا من أجر وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً شرط يقال: اقترف وقرف إذا كسب، وجواب الشرط. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
اختلف العلماء في تفسير هذا فقال أبو إسحاق: معنى يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله لا يشبه ظاهر الآية.
وقال غيره: فإن يشأ الله يختم على قلبك لو اقترفت واختلفوا في معنى يَخْتِمْ فقال بعضهم: أي يمنعك من التمييز. وقال بعضهم: معنى: ختم الله على قلبه جعل عليه علامة من سواد أو غيره تعرف الملائكة بها أنه معاقب، كما قال جلّ وعزّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: ١٤] قال أبو جعفر: وفي التفسير أنه إذا عمل العبد خطيئة رين على قلبه فغطي منه شيء فإن زاد زيد في الرّين حتّى يسود قلبه فلا ينتفع بموعظة. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ منقطع من الأول في موضع رفع. ويجب أن يكتب بالواو
(١) انظر تيسير الداني ١٥٧، والبحر المحيط ٧/ ٤٩٣.
(٢) انظر الآية ٩- الإسراء والكهف ٢.
(٣) انظر تيسير الداني ١٥٧، والبحر المحيط ٧/ ٤٩٣.
(٤) انظر تيسير الداني ١٥٧، والبحر المحيط ٧/ ٤٩٣. [.....]
(٥) انظر الكتاب ٢/ ٣٤٦.
إلّا أنه وقع في السواد بغير واو كتب على اللفظ في الإدراج وإنما حذفت الواو في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها فإذا وقفت زالت العلّة في حذفها فعلى هذا لا ينبغي الوقوف عليه لأنه إن أثبت الواو خالف السواد وإن حذفها لحن ونظيره وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: ١١]، وكذا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] فأما معنى و «يمح الله الباطل» ففيه احتجاج عليهم لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن معناه أنّ الله جلّ وعزّ يزيل الباطل ولا يثبته، فلو كان ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم باطلا لمحاه الله جلّ وعزّ وأنزل كتابا على غيره، وهكذا جرت العادة في جميع المفترين أنّ الله سبحانه يمحو باطلهم بالحقّ والبراهين والحجج وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يبيّن الحقّ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٦]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
يجوز أن يكون الَّذِينَ في موضع رفع بفعلهم أي ويجيب الذين آمنوا ربّهم فيما دعاهم إليه. ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب أي ويستجيب الله الذين آمنوا، وحذف اللام من هذا جائز كثير، ومثله وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣] أي كالوا لهم.
قال أبو جعفر: هذا أشبه بنسق الكلام لأن الفعل الذي قبله والذي بعده لله جلّ وعزّ، وثمّ حديث عن معاذ بن جبل يدل على هذا قال: إنكم تدعون لهؤلاء الصناع غفر الله لك رحمك وبارك عليك، والله جلّ وعزّ يقول: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. يكون على هذا «يزيدهم» على ما دعوا، وتمّ الكلام. وَالْكافِرُونَ مبتدأ والجملة خبره.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وأجاز الخليل رحمه الله في السين إذا كانت بعدها طاء أن تقلب صادا لقربها منها، وزعم الفراء «١» : أن قوله جلّ وعزّ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أنه أراد جلّ وعزّ وما بثّ في الأرض دون السماء وأنّ مثله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من الملح، وزعم أن هكذا جاء في التفسير. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يعرف في تفسير ولا لغة ولا معقول أي يخبر عن اثنين بخبر واحد، وهذا بطلان البيان والتجاوز إلى ما يحظره الدّين. والعرب تقول: لكل ما تحرّك من شيء دبّ فهو دابّ ثم تدخل الهاء للمبالغة فتقول: دابّة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: في دابّة لتأنيث الصيغة.
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٤.

[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٠]

وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ هذه قراءة الكوفيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ المدنيون بما بغير فاء، وكذا في مصاحفهم فالقراءة بالفاء بيّنة لأنه شرط وجوابه. والقراءة بغير فاء فيها للنحويين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون «ما» بمعنى «الذي» فلا تحتاج إلى جواب بالفاء، وهذا مذهب أبي إسحاق. والقول الثاني:
أن يكون ما للشرط وتكون الفاء محذوفة كما قال: [البسيط] ٤٠٠
- من يفعل الحسنات الله يشكرها والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان
«١» وهذا قول أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وزعم أن هذا يدلّ على أن حذف الفاء في الشرط جائز حسن لجلال من قرأ به. والقول الثالث: أن «ما» هاهنا للشرط إلّا أنه جاز حذف الفاء لأنها لا تعمل في اللفظ شيئا وإنما وقعت على الماضي، وهذا أولى الأقوال بالصواب. فأما أن يكون «ما» بمعنى الذي فبعيد لأنّه يقع مخصوصا للماضي، وأما أن يشبّه هذا بالبيت الذي ذكرناه فبعيد أيضا لأن حذف الفاء مع الفعل المستقبل لا يجوز عند سيبويه إلّا في ضرورة الشعر، ولا يحمل كتاب الله عزّ وجلّ إلّا على الأغلب الأشهر.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣١]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قال محمد بن يزيد: أي بسابقين يقال: أعجز إذا عدا فسبق.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٢]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢)
«الجواري» جمع جارية، والجواري في موضع رفع حذفت الضمة من يائها لثقلها.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ شرط ومجازاة. فَيَظْلَلْنَ عطف، وكذا أَوْ يُوبِقْهُنَّ وكذا وَيَعْفُ وكذا عند سيبويه «٢» وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا هذا الاختيار عنده لأنه كلام معطوف بعضه على بعض، ومثله يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٨٤]، وكذا قول النابغة «٣» :[الوافر] ٤٠١-
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع النّاس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيس أجبّ الظّهر ليس له سنام
فجزم «ونمسك» على العطف. ويجوز رفعه ونصبه إلّا أن الرفع عند سيبويه
(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤).
(٢) انظر إعراب الآية ٢٨٤- البقرة.
(٣) مرّ الشاهد رقم (١٧٩).
أجود، وهي قراءة المدنيين وَيَعْلَمَ الَّذِينَ «١» على أنه مقطوع مما قبله مرفوع، والنصب عنده بعيد، وهي قراءة الكوفيين، والصحيحة من قراءة أبي عمرو، وشبّهه سيبويه في البعد بقول الشاعر: [الوافر] ٤٠٢-
سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا
«٢» إلّا أن النصب في الآية أمثل لأنه شرط وهو غير واجب، وأنشد «٣» :[الطويل] ٤٠٣-
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى مصارع أقوام مجرّا ومسحبا
وتدفن منه الصّالحات وإن يسيء يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا
فنصب «وتدفن» ولو رفع لكان أحسن. واختار أبو عبيد النصب وشبّهه بقوله جلّ وعزّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ال عمران: ١٤٢].
وهما لا يتجانسان ولا يشتبهان لأن «ويعلم» جواب لما فيه النفي فالأولى به النصب وقوله جلّ وعزّ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ليس بجواب فيجب نصبه، وموضع الذين في قوله «ويعلم النّاس» موضع رفع بعلم.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٦]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
وَما عِنْدَ اللَّهِ مبتدأ وخَيْرٌ خبره وَأَبْقى معطوف على خير لِلَّذِينَ آمَنُوا خفض باللام.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٧]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
وَالَّذِينَ في موضع خفض معطوف على «للذين آمنوا» يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كَبائِرَ الْإِثْمِ»
والقراءة الأولى أبين لأنه إذا قرأ كبير توهّم أنه واحد أكبرها، وليس المعنى على ذلك عند أحد من أهل التفسير إلّا شيئا قاله الفراء «٥» فعكس فيه قول
(١) انظر تيسير الداني ١٥٨، ومعاني الفراء ٣/ ٢٤.
(٢) الشاهد للمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب ٨/ ٥٢٢، والدرر ١/ ٢٤٠، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥١، وشرح شواهد المغني ٤٩٧، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٩٠، وبلا نسبة في الكتاب ٣/ ٣٩، والدرر ٥/ ١٣٠، والردّ على النحاة ص ١٢٥، ورصف المباني ص ٣٧٩، وشرح الأشموني ٣/ ٥٦٥، وشرح المفصّل ٧/ ٥٥، والمحتسب ١/ ١٩٧، ومغني اللبيب ١/ ١٧٥، والمقتضب ٢/ ٢٤، والمقرب ١/ ٢٦٣.
(٣) مرّ الشاهد رقم ٣١٧.
(٤) انظر تيسير الداني ١٥٨، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨١.
(٥) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٥.
58
أهل التفسير، قال: «كبير الإثم» الشرك قال: وكبائر يراد بها كبير، وهذا معكوس إنما يقال: كبير يراد به كبائر. يكون واحدا يدلّ على جمع، وزعم أنه يستحبّ لمن قرأ «كبائر الإثم» أن يقرأ «والفواحش» فيخفض، والقراءة بهذا مخالفة بحجّة الإجماع وأعجب من هذا أنه زعم أنه يستحبّ القراءة به ثم قال: ولم أسمع أحدا قرأ به.
والأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر معروفة كثيرة وعن الصحابة وعن التابعين. ونحن نذكر من ذلك ما فيه كفاية لتبيين هذا. ونبيّن معنى الكبائر والاختلاف فيه إذا كان مما لا يسع أحدا جهله. ونبدأ بما صحّ فيها عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما لا مطعن في إسناده وتوليه من قول الصحابة والتابعين وأهل النظر بما فيه كفاية إن شاء الله. فمن ذلك ما حدّثناه محمد بن إدريس بن أسود عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثنا وهب بن جرير قال:
حدّثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين المسلمين وقتل النفس وشهادة الزّور أو قول الزور» «١» وقرئ على أحمد بن شعيب عن عبدة بن عبد الرحيم قال أخبرنا ابن شميل قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا فراس قال: سمعت الشّعبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» «٢» قال أحمد: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ثنا بقيّة حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معد أن أبا رهم السّماعي حدّثه عن أبي أيوب وهو خالد بن زيد الأنصاري بدريّ عقبيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جاء لا يشرك بالله شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان واجتنب الكبائر فإنه في الجنة» «٣» فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكبائر قال: فقال: «الإشراك بالله جلّ وعزّ وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف» قال أحمد: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله قال: قلت يا رسول الله أيّ الذنوب أعظم قال: «أن تجعل لله جلّ وعزّ ندّا وهو خلقك». قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك». قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تزني بحليلة جارك» «٤» قال أبو جعفر: فهذه أسانيد مستقيمة وفي حديث أبي أمامة زيادة على ما فيها من الكبائر فيه: أكل مال اليتيم وقذف المحصنة والغلول والسحر وأكل الربا فهذا جميع ما نعلمه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر مفصلا مبينا فأما الحديث المجمل فالذي رواه أبو سعيد
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٣/ ٤٩٥، والبيهقي في السنن الكبرى ٨/ ٢٠، وابن كثير في تفسيره ٢/ ٢٤١، والطبري في تفسيره ٥/ ٢٨.
(٢) أخرجه الترمذي في سننه- البر والصلة ٨/ ٩٧، والدارمي في سننه- الديات ٢/ ١٩١.
(٣) أخرجه أحمد في مسنده ٥/ ٤١٣، والمتقي في كنز العمال ٢٧٦.
(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٥/ ٢١٧، وابن ماجة في سننه- الديات- الحديث رقم (٢٦١٨). [.....]
59
وأبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنها سبع فليس بناقض لهذا لأن قذف المحصنة واليمين الغموس والسحر داخلان في قول الزور وحديث ابن مسعود الذي فيه «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» داخل في قتل النفس المحرمة ولم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تكون الكبائر إلا هذه فيجب التسليم. وقد روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: ٣١] فأولى ما قيل في الكبائر وأجمعه ما حدثناه علي بن الحسين قال: قال الحسين بن محمد الزعفراني قال: حدّثنا أبو قطن عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: سئل ابن عباس عن الكبائر فقال: كلّ ما نهى الله جلّ وعزّ عنه- فهو من الكبائر حتّى ذكر الطرفة، وحدّثناه بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
الكبائر كل ما ختمه الله جلّ وعزّ بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال أبو جعفر: فهذا قول حسن بيّن لأن الله جلّ وعزّ قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: ٣١] فعقل بهذا أن الصغائر لا يعذّب عليها من اجتنب الكبائر: فإذا أعلم الله جلّ وعزّ أنه يدخل على ذنب النار علم أنه كبيرة وكذا إذا أمر أن يعذّب صاحبه في الدنيا بالحد، وكذا قال الضحاك: كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب فهي كبيرة وكلّ ما يقام عليه الحدّ فهو كبيرة. فهذا المعنى الذي بيّنا بعد ذكر الأحاديث المسندة فهو شرح أيضا قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وكل ما كان مثله.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٨]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في موضع خفض والمعنى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا والذين استجابوا لربهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أتمّوها بحدودها بركوعها وسجودها وخشوعها. وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ مبتدأ وخبره.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ في موضع خفض كالأول. هُمْ يَنْتَصِرُونَ وهذا مدح لهم وصفوا أنهم إذا بغى عليهم باغ أو ظلمهم ظالم لم يستسلموا له لأنهم لو استسلموا له لم ينهوا عن المنكر وفعله ذلك بهم منكر. وفي حديث حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا يحلّ للمسلم أن يذلّ نفسه». قيل: كيف يذلّ نفسه؟ قال: «يتكلّف من البلاء ما لا يطيقه» «١».
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٠]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مبتدأ وخبره. والسيّئة الأولى سيّئة على الحقيقة والثانية
(١) الحديث في تنزيه الشرائع لابن عراق ٢/ ٣٦٣، والفوائد المجموعة للشوكاني ٣٧٨.
على المجاز سمّيت سيّئة لأنها مجازاة على الأولى ليعلم أنه يقتصّ بمثل ما نيل منه فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فلم يقتصّ فثوابه على الله جلّ وعزّ، كما روى الحسن ومحمد بن المنكدر وعطاء ومحمد يقول: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين من له وعد على الله عزّ وجلّ؟ فليقم، فيقوم من عفا» «١» وقرأ عطاء فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤١]
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ مبتدأ فَأُولئِكَ مبتدأ أيضا، والجملة خبر الأول.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٢]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي سبيل العقوبة.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٣]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
أي من أعاليها وأجلّها أن يعفو ويصفح ويتوقّى الشبهات وإن لم تكن محظورة ورعا وطلبا لرضاء الله عزّ وجلّ فهذه معالي الأمور، وهي من عزم الأمور أي التي يعزم عليها الورعون المتّقون. قال أبو جعفر: وفي إشكال من جهة العربية وهو أنّ «لمن صبر وغفر» مبتدأ ولا خبر له في اللفظ فالقول فيه: إن فيه حذفا، والتقدير: ولمن صبر وعفا أنّ ذلك منه لمن عزم الأمور، ومثل هذا في كلام العرب كثير موجود، حكاه سيبويه وغيره:
مررت ببرّ قفيز بدرهم أي قفيز منه، ويقال: السّمن منوان بدرهم بمعنى منه.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٤]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من يضلّه عن الثواب فما له وليّ ولا ناصر يسأله الثواب. وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ في موضع نصب على الحال.
هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ «من» زائدة للتوكيد.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٥]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ على الحال وكذا يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال محمد بن كعب: يسارقون النظر إلى النار وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
(١) أخرجه الترمذي في سننه ١٠/ ١٨.
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هم الذين خلقوا للنّار وخلقت النار لهم خلّفوا أموالهم وأهاليهم في الدنيا وحرموا الجنة وصاروا إلى النار فخسروا الدنيا والآخرة.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٦]
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
مِنْ أَوْلِياءَ في موضع رفع اسم كان.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٧]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي من مخلص ولا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩)
وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثم قال بعد وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ فجاء الضمير لجماعة لأنّ الإنسان اسم للجنس بمعنى الجميع، كما قال جلّ وعزّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: ٢، ٣] فوقع الاستثناء لأن الإنسان بمعنى جمع.
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي من الأولاد.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥٠]
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يجمع لهم هذا، كما قال محمد بن الحنفية: يعني به التوأم. وقال أبو إسحاق: يزوّجهم يقرن لهم. وكلّ قرينين زوجان. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً
أي لا يولد له. وعقيم بمعنى معقوم. وقد عقمت المرأة إذا لم تحمل فهي امرأة عقيم ومعقومة.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥١]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
أَنْ في موضع رفع اسم كان ووَحْياً يكون مصدرا في موضع الحال، كما تقول: جاء فلان مشيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ هذه قراءة أكثر الناس، وقرأ نافع أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «١»
(١) انظر تيسير الداني ١٥٨، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٢.
62
بالرفع فَيُوحِيَ بإسكان الياء، ولا نعلمه يروى إلّا عن نافع إلّا أنه قال: لم أقرأ حرفا يجتمع عليه رجلان من الأئمة فلهذا قال عبد الله بن وهب: قراءة نافع سنّة. قال أبو جعفر: فأما القول في نصب «يرسل» و «يوحي» ورفعهما فقد جاء به سيبويه عن الخليل بما فيه كفاية لمن تدبّره ونمليه نصا كما قال ليكون أشفى. قال سيبويه «١» : سألت الخليل عن قول الله جلّ وعزّ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ فزعم أن النصب محمول على «أن» سوى هذه ولو كانت هذه الكلمة على «أن» هذه لم يكن للكلام وجه، ولكنه لما قال: إِلَّا وَحْياً كان في معنى إلّا أن يوحي وكان «أو يرسل» فعلا لا يجري على «إلّا» فأجري على «أن» هذه كأنه قال: إلّا أن يوحي أو يرسل لأنه لو قال: إلّا وحيا وإلا أن يرسل كان حسنا: وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال فحملوه على «أن» إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل فكأنه قال: إلّا وحيا أو أن يرسل. وقال الحصين بن حمام المرّي: [الطويل] ٤٠٤-
ولولا رجال من رزام أعزّة وآل سبيع أو أسوءك علقما
«٢» يضمر «أن» وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر «أن» كأنه قال:
لولا ذاك أو لولا أن أسؤك. وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ فكأنه- والله أعلم- قال الله لا يكلّم البشر إلّا وحيا أو يرسل رسولا أي في هذه الحال. وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيّتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل، قال عمرو بن معدي كرب: [الوافر] ٤٠٥-
وخيل قد دلفت لها بخيل تحيّة بينهم ضرب وجيع
«٣» وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى: [البسيط] ٤٠٦-
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
«٤» فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا ما كان موضعها لو قال
(١) انظر الكتاب ٣/ ٥٥.
(٢) الشاهد للحصين في خزانة الأدب ٣/ ٣٢٤، والكتاب ٣/ ٥٥، والدرر ٤/ ٧٨، وشرح اختيارات المفضّل ٣٣٤، وشرح التصريح ٢/ ٢٤٤، وشرح المفصّل ٣/ ٥٠، والمقاصد النحوية ٤/ ٤١١، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١/ ٢٧٢، والمحتسب ١/ ٣٢٦، وهمع الهوامع ٢/ ١٠.
(٣) الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ١٤٩، وخزانة الأدب ٩/ ٢٥٢، والكتاب ٢/ ٣٣٥، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٢٠٠، ونوادر أبي زيد ١٥٠، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/ ٣٤٥، والخصائص ١/ ٣٦٨، وشرح المفصل ٢/ ٨٠، والمقتضب ٢/ ٢٠.
(٤) مرّ الشاهد رقم (١٥٦).
63
فيه: أتركبون، لم ينتقض المعنى صار بمنزلة «ولا سابق شيئا» «١» وأما يونس فقال:
أرفعه على الابتداء كأنه قال: أو أنتم نازلون، وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية كأنه قال: أو هو يرسل رسولا، كما قال طرفة: [الطويل] ٤٠٧-
أو أنا مفتدى
«٢» وقول يونس أسهل.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥٢]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الكاف في موضع نصب أي: أوحينا إليك وحيا كذلك الذي قصصنا عليك ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «ما» في موضع رفع بالابتداء و «الكتاب» خبره والجملة في موضع نصب بتدري. ويجوز في الكلام أن تنصب الكتاب وتجعل «ما» زائدة كما روي: هذا «باب علم ما الكلم من العربية» «٣» فنصب «الكلم» وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ولم يقل: جعلناهما فيكون الضمير للكتاب أو للتنزيل أو الإيمان. وأولاهما أن يكون للكتاب ويعطف الإيمان عليه ويكون بغير حذف وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الضحاك: الصراط الطريق والهدى. ويقرأ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي «٤» وفي حرف أبيّ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٥».
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥٣]
صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
صِراطِ اللَّهِ على البدل. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع والنصب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وهي أبدا إليه تعالى. قال الأخفش: يتولّى الله الأمور يوم القيامة دون خلقه، وقد كان بعضها إلى خلقه في الدنيا من الفقهاء والسلاطين وغيرهم.
(١) يشير إلى قول زهير:
تبيّنت أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيا إذا كان جاثيا
(٢) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ٣٦، والكتاب ٣/ ٥٤، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٤٨:
«ولكن مولاي امرؤ هو خالقي على الشكر والتساؤل أو أنا مفتدى»
(٣) انظر الكتاب ١/ ٤٠.
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٥٠٥، ومختصر ابن خالويه ١٣٤.
(٥) انظر البحر المحيط ٧/ ٥٠٥، ومختصر ابن خالويه ١٣٤.
Icon