تفسير سورة الشورى

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
سورة عسق١ مكية٢.
١ كذا في (ت) و(ح) مجردة من: (حم)، ولعل ذلك لأن ما قبلها من سور حم ينوب عنها..
٢ انظر الإيضاح ٤٠٣، وتفسير ابن كثير ٤/١٠٦، والاتقان ١/١٠ واستثنى منها ابن عباس وقتادة أربع آيات أنزلت بالمدينة: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾ – إلى آخرها.
انظر ذلك في المحرر الوجيز ١٤/٢٠١، وجامع القرطبي ١٦/٣، وغيث النفع ٣٤٤. وفيه: عن ابن عباس فقط..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشورى
سورة عسق مكية
قوله تعالى: ﴿حم* عسق * كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ﴾ إلى قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾.
قد تقدم إعراب أوائل السور وتفسيرها.
وقد روى عطاء والضحاك كلاهما عن ابن عباس في تفسير ﴿حم* عسق﴾ أن معناه: قذف ومسخ وخسف وسنون، الله أعلم ما سيكون فيها.
وقوله: ﴿كَذَلِكَ يوحي﴾ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ولا موضع للكاف الثانية، واسم الله رفع " بيوحي ".
6551
وقيل: معنى الآية: إنه لم ينزل كتاب من عند الله إلا وفيه حم عسق.
فالمعنى على هذا: كالذي أوحي إليك من هذه السورة، أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل. وهذا مذهب الفراء.
وقرأ ابن كثير: ﴿كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ﴾ (على ما لم) يسم فاعله.
فيكون الوقف على هذه القراءة: ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ ثم يبتدئ: ﴿الله العزيز الحكيم﴾ على الابتداء، والخبر، وإن شئت على الابتداء والصفة، أو يكون ﴿لَهُ مَا فِي السماوات﴾ [الشورى: ٤] الخبر.
وروى الشموني عن أبي بكر: " نُوحي " بالنون. فتقف أيضاً على
6552
﴿مِن قَبْلِكَ﴾، ثم يبتدئ " الله " على ما قدر ذكرنا.
وقد يجوز على قراءة ابن كثير أن يرتفع على فعل مضمر كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: يوحي الله كقول الشاعر: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لِخُصُومَةٍ.
كأنه قال: ليبك يزيد. قيل: من يبكيه؟ / قيل: يبكيه ضارع لخصومة.
قال قتادة: حم عسق اسم من أسماء الله.
وروى حذيفة أنها نزلت في رجل يكون من بني هاشم من أهل بيت
6553
ابن عباس يقال له عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا، فإذا أَذِنَ الله في زوال ملكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مدينة مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت فما هو إلا بياضُ يومها ذلك حتى يجمع الله فيها كل جبار منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً فذلك قوله: ﴿حم* عسق﴾، يعني: عزيمة (من الله) وقضاء.
سين، يعني: سيكون. قاف، يعني: واقعاً بهاتين المدينتين.
6554
وروى عن ابن عباس أنه قرأ " حم سق " بغير سين، وكان يقول: إن السين كل فرقة كائنة، وأن القاف كل جماعة كائنة.
ويقول: إن علياً رضي الله عنهـ إنما كان يعلم الفتن بها.
وفي مصحف عبد الله: ﴿حم* عسق﴾ بغير عين كقراءة ابن عباس.
ومعنى ﴿العزيز﴾، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه ﴿الحكيم﴾: في تدبيره خَلْقَه.
قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلي العظيم﴾، إلى قوله: ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي: له ملك ما فيها من جميع الأشياء كلها.
﴿وَهُوَ العلي﴾ أي: ذو علو وارتفاع على كل الأشياء، ارتفاع مُلْكٍ وقُدْرَةٍ وسُلطانٍ، لارتفاع انتقالٍ.
6555
﴿العظيم﴾: وله العظمة والكبرياء.
ثم قال تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾، أي: تكاد تشقق من فوق الأرضين من عظمة الرحمن وجلالته. هذا قول جميع المفسرين.
وقيل: المعنى: تكاد السموات يتشققن من أعلاهن من عظمة الله فيكون الضمير في ﴿فَوْقِهِنَّ﴾ (على القول) الأول يعود على الأرضين.
وعلى هذا القول الثاني يعود على السماوات.
وكان علي بن سليمان يقول: الضمير في فوقهن للكفار، أي: من فوق الكفار. وهذا قول بعيد، لا يجوز في المذكرين من بنى آدم: " رأيتهن ".
وقيل: المعنى: يكاد السماوات يتفطرن من فوق الأرضين من قول المشركين
6556
وكفرهم.
﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ تعظيما لله سبحانه وتعجباً من مقالة المشركين وهم مع يستغفرون لمن في الأرض، يعني المؤمنين.
ثم قال تعالى: ﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي: يُصَلُّونَ بطاعة ربهم شكراً له وجلالةً وهيبةً، هذا قول الطبري.
وقال الزجاج: معناه: والملائكة يُعظمون الله وينزهونه عن السوء.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض﴾، أي: ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين. وهذا اللفظ ومعناه الخصوص قاله السدي وغيره.
ولا يجوز أن يكون (عاما فيدخل) في ذلك الكفار لأنه تعالى قد قال:
6557
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: ١٦١] فغير جائز أن يستغفر لهم الملائكة.
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: هي منسوخة (نسختها الآية) التي في سورة المؤمن.
قوله تعالى جل ذكره: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [غافر: ٧].
وهذا عند أهل النظر لا يجوز فيه نسخ لأنه خبر، ولكن تأويل قول وهب ابن منبه في هذا أنه أراد أن هذه الآية نزلت على نسخ تلك الآية.
6558
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾، أي: الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعذبهم بعد توبتهم.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " من فوقهن ". وذلك جائز إن جعلت ما بعده منقطعاً منه. فإن جعلته في موضع الحال لم يجز الوقف دونه.
ثم قال تعالى: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾، أي: والذين اتخذوا يا محمد من قومك آلهة يعبدونها من دون الله، الله حفيظ لأعمالهم، مُحْصِيهَا عليهم ومُجازيهم بها يوم القيامة.
﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، أي: ولست يا محمد بالوكيل عليهم تحفظ أعمالهم، إنما أنت مُنْذِرٌ ومُبَلِّغٌ ما أُرسِلت به إليهم، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، أي: أوحينا إليك يا محمد قرآناً بلسان العرب لتنذر عذاب الله أهل أم القرى، وهي مكة. سميت بذلك لان الأرض دحيت منها.
6559
وقيل: سميت (أم القرى لأنها أول ما عُظِّمَ وِشُرِّفَ من القرى. وقيل: سميت) بذلك لأنها أول ما وُضِعَ. كما قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ [آل عمران: ٩٦].
وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، أي: ومن حول أم القرى من سائر الناس.
ثم قال تعالى: ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، أي: وتنذرهم عقاب الله الكائن في يوم الجمع لا شك فيه، وهو يوم القيامة. وهذا في الحذف مثل قوله تعالى / ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: ١٧٥]، أي: يخوفكم بأوليائه، فكذلك المعنى: وتنذرهم عقاب الله الكائن يوم الجمع، ثم حذف.
فيكون " يوم " على هذا نصباً على الظرف.
ويجوز أن يكون النصب على المفعول به كما قال: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ [مريم: ٣٩] وكما قال: ﴿وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ [إبراهيم: ٤٤] فكل هذا انتصب على أنه مفعول به
6560
وليس بظرف للإنذار، لأن الإنذار لا يكون يوم القيامة إنما الإنذار في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾، أي: منهم فريق في الجنة وهم المؤمنون، وفريق في السعير - وهي جهنم - وهم الكفار. وسميت جهنم بالسعير لأنها تسعر على أهلها. وروي عن النبي ﷺ أنه: " خَرَجَ يَوْماً عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: هَلْ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: لاَ، إِلاَّ اَنْ (تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ الله). قَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وأَسْمَاءُ آبِائِهِمْ وَقَبَائِلِهِم، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِم وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ اَبَداً (وَهَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمِائِهِمْ وَأَسْمَاءِ أبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِم فَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُم أَبَداً) فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيُّ ﷺ: فَفيمَ العُمُلُ إِذَا كَانَ هَذَا أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: بَلْ سَدَّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمضلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ بِيَدِهِ فَنَبَذَهُمَا. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ، فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ، وَفَرِيقُ فِي السَّعِيرِ قَالُوا: سُبْحَانَ الله،
6561
فَلِمَ نَعْمَلُ وَنَنْصَب؟! فَقَالَ رَسُولُ الله: العَمَلُ إِلَى خَوَاتِمِهِ ".
وكان ابن عمر يقول: " إن الله جل ثناؤه لما خلق آدم نفضه نفض المزود فأخرج منه كل ذرية، فخرج أمثال النَّغَفِ فقبضهم قبضتين، وقال: شقي وسعيد، ثم ألقاهما، ثم قبضهما فقال: فريق في الجنة وفريق في السعير ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، أي: على دين واحد.
﴿ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾، أي يوفقه إلى الإيمان والطاعة فيرحمه.
ثم قال: ﴿والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾، أي: والكافرون ما لهم يوم القيامة من ولي يتولى معونتهم، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله سبحانه.
6562
ثم قال تعالى: ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾، أي بل اتخذ هؤلاء المشركون من دونه أولياء يعبدونهم من دونه.
﴿فالله هُوَ الولي﴾، أي: هو الولي لأوليائه (لأنه يضر وينفع) ﴿وَهُوَ يُحْيِي الموتى﴾: (بعد موتهم يوم القيامة.
﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي: قادر على إحياء الموتى وعلى غير ذلك مما يريد.
قوله تعالى: ﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ إلى قوله: ﴿مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾، أي: وما تنازعتم أيها الناس فيه من شيء فحكمه إلى الله، أي: هو يقضي فيه بما يشاء إما بنص في كتابه، وإما بدليل على النص.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾، أي: ذلكم الذي ذكرت لكم هو ربي وإلهي وإلهكم. ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في أموري.
﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، أي: وإليه أرجع في أموري، وأتوب من ذنوبي.
ثم قال: ﴿فَاطِرُ السماوات والأرض﴾، أي: هو (خالقهما ومبتدعهما).
﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾، أي: زوجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً،
6563
يعني: خلق حواء من ضلع آدم.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً﴾ يعني: من الضأن اثنين، ومن المَعْزِ اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.
ثم قال: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ (أي: بخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، وبعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام).
قال مجاهد: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ (فيه، نسل بعد نسل من الناس والأنعام ".
وقال السدي: يذرؤكم: يخلقكم.
وقال ابن عباس: " جعل الله فيه معيشة تعيشون بها ".
قال قتادة: يذرؤكم فيه، قال: " عيش من الله جل ثناؤه يعيشكم فيه ".
وقال الزجاج: " يذرؤكم فيه أي: يكثركم فيه " (ف " في ") عنده في موضع الباء.
6564
والمعنى على قوله: يكثركم، يخلقكم أزواجاً.
وقال القتبي: يذرؤكم فيه، أي: في الزوج.
(فالمعنى: يخلقكم في بطون الإناث.
وقال علي بن سليمان: " يذرؤكم: ينبتكم من حال إلى حال ".
وحكى أبو زيد) وغيره عن العرب، ذرأ الله الخلق يذرؤهم، أي: خلقهم.
ثم قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ الكاف في " كمثله " زائدة للتوكيد لا موضع لها. وموضع " كمثله كله موضع نصب خبر " ليس ".
وقيل المعنى: ليس هو شيء، ولكن دخلت " المثل " في الكلام للتوكيد.
ثم قال: ﴿وَهُوَ السميع البصير﴾، أي: السميع لما ينطق به من خلقه من قول،
6565
البصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾، أي: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض. وواحد المقاليد إقليد وجمع على مقاليد على غير قياس كمحاسن، والواحد حسن. وقيل: واحدها مقليد. فهذا على لفظ الجمع.
فتحقيق المعنى: بيده خزائن الخير والبشر. فما يفتح من رحمته فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده /.
قال مجاهد: مقاليد: مفاتيح بالفارسية.
وقوله: ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾، أي: يوسع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيق على من يشاء، يفعل ما يريد، ويعلم مصالح خلقه فيوسع على من لا تصلح حاله إلا (بالتوسيع) (ويضيق على من لا تصلح حاله إلا بالتضييق).
﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، أي عالم بأحوال خلقه وما يصلحهم.
ثم قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ (أي: بيَّن الله لكم أيها
6566
الناس من الدين ما وصى به نوحاً) أن يعمله.
﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ يا محمد، أي: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، وهو كتاب الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين﴾، أي: وشرع لكم من الدين أن أقيموا الدين.
" فأن " في موضع نصب على البدل من " ما " في قوله: ﴿مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾. فالتقدير: شرع لكم أن أقيموا الدين.
ويجوز أن يكون " أن " في موضع (رفع على معنى هو: أن أقيموا الدين.
ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ") قال أبو
6567
العالية: الذي وصى به نوحاً لله تعالى، وعبادته لا شريك له.
قال الحكيم: جاء نوح بالشريعة وتحريم الأمهات والبنات والأخوات.
وقال قتادة: جاء نوح بالشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام.
وقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين﴾: معناه: اعملوا به على ما شرع لكم وفرض عليكم.
وقال السدي: اعملوا ولا تتفرقوا فيه (فتختلفوا فيه) كما اختلف الأحزاب من قبلكم.
فتحقيق المعنى في [الآية: ﴿شَرَعَ لَكُم﴾] أن أقيموا [لله الدين] الذي
6568
ارتضاه لأنبيائه، ولا تتفرقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض. وهذا الدين هو الإسلام.
ومذهب أكثر المفسرين أن نوحاً ﷺ أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات.
ثم قال تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾، أي: عظم يا محمد على المشركين من قومك ما تدعوهم إليه من الإخلاص لعبادة الله تعالى، والإقرار له بالألوهية، والبراءة مما سواه من الآلهة.
وقال قتادة: كبر على المشركين شهادة ألا إله إلا الله.
ثم قال تعالى: ﴿الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ﴾، أي: يصطفي لدينه من يشاء من خلقه، ويختار لولايته ودينه من أحب، قال السدي: يستخلص من يشاء، وقال أبو العالية: يخلص من الشرك من يشاء.
والتقدير: الله يجتبي إليه من يشاء أن يجتبيَه.
ثم قال تعالى: ﴿ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾، أي: ويوفق للعمل بطاعته من يتوب إليه من الشرك.
وقوله: ﴿وعيسى﴾ وقف إن جعلت " أن أقيموا " في موضع رفع على الابتداء،
6569
فإن جعلت " أن " بدلاً مما قبله لم تقف إلا على ﴿فِيهِ﴾ أو على: ﴿إِلَيْهِ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾، أي: وما تفرق المشركون في أديانهم فصاروا أحزاباً إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: إن الذي جاءتهم به الأنبياء هو الدين الحق، فتفرقوا من أجل البغي (من بعدما جاءهم الحق.
وقيل: المعنى: ما تفرق قريش عن الإيمان بما جئتم به يا محمد إلا من أجل البغي عليك) من بعد ما جاءهم القرآن دلالة على صحة ما جئتهم به.
وقيل: معنى: بغياً بينهم، أي: بغياً من بعضهم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا.
وقيل: المعنى: ما تفرق مشركو قريش إلا من بعد ما جاءهم العلم وذلك أنهم كانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي. فلما بعث إليهم محمد ﷺ كفروا به. وهو مثل قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم..﴾ [فاطر: ٤٢] الآية.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾، أي: لولا أن
6570
الله تعالى أخر عذابهم - في سابق علمه - إلى يوم القيامة لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فيهلك الكافر وينجي المؤمن.
قال الزجاج: الكلمة: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦]. قال السدي: يوم القيامة.
وقال الطبري: معناه: لولا قول سبق: يا محمد من ربك إلا يعاجلهم بالعذاب لقضي بينهم، ولكنه أخر ذلك إلى يوم القيامة.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ﴾، أي: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك منه، يعني: اليهود والنصارى.
والكتاب هنا: التوراة والإنجيل.
ومعنى: ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي: لفي شك من الدين الذي وصى الله تعالى به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد وأمرك بإقامته مريب.
6571
وقيل، المعنى: إن اليهود والنصارى الذين أورثت قريش الكتاب من بعدهم، أي: من بعد اليهود والنصارى - لفي شك منه، أي: من القرآن.
وقيل: من محمد ﷺ: فالشك على هذا لليهود والنصارى.
وقيل: هو لقريش، الذين أورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى وهم في شك من القرآن.
قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فادع واستقم﴾ إلى قوله: ﴿لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾، أي: فإلى ذلك الدين يا محمد فادع الناس واستقم.
فاللام في " فلذلك " / بمعنى " إلى " كما قال: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥]، أي:
6572
إليها.
﴿واستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ أي: واستقم يا محمد على العمل بذلك الدين، واثبُت عليه كما أمرك ربك.
(وقيل: " ذلك " بمعنى: هذا. والتقدير: فلهذا القرآن فادع الناس يا محمد واستقم على العمل به كما أمرك ربك.
وقيل: اللام) على بابها، والمعنى: ومن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع إلى عبادة الله واستقم على (ما أمرك) ربك.
وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير فيه: كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع، أي فإلى ذلك (الدين فادع) عباد ابيه واستقم كما أمرت.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾، أي: ولا تتبع أهواء المشركين في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين.
6573
﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ﴾ أي: وقل يا محمد صَدَّقْتُ بما أنزل الله من كتاب، كائنا ذلك الكتاب ما كان لا أُكَذِّبُ بشيء منه، كما كذبتم أيها المشركون ببعضه، وصدقتم ببعضه.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، أي: وأن أسير فيكم أجمعين بالحق الذي بعثني (الله به).
قال قتادة: " أُمِرَ رسول الله ﷺ أن يعدل، فعدل، حتى مات ﷺ. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ المظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد " وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " ثَلاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَنْجَنَهُ: القَصْدُ فِي الْفَاقَةِ وَالغِنَى، والْعَدْلُ فِي الْرِّضَى والغَضَبِ، وَالخَشْيَةُ فِي الْسِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ.
وَثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَهْلَكْتُهُ: شُحٌّ مَطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ.
وَأَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهُنَّ فَقَدْ أُعطِي خَيْرَ الْدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: لِسَانٌ ذاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَبَدَنٌ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُوَافِقَةٌ ".
6574
ثم قال تعالى: ﴿الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾، أي: مَالِكُنَا ومَالِكُكُم. وهذا كله خطاب لجميع الأحزاب من أهل الكتابين.
﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، أي: لنا ثواب ما اكتسبنا من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾، أي: " لا خصومة ": قاله مجاهد وابن زيد. وقيل: (المعنى: لا خصومة بيننا) لأن الحق قد تَبَيَّنَ لَكُمْ صوابه. فاحتجاجكم إنما هو عناد في أمر قد تبين لكم صوابه (فاحتجاجكم إنما هو في فيما قد علمنا أنكم) تعلمونه وتنكرونه بعد علمكم بصحته.
ثم قال تعالى: ﴿الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير﴾، أي: يجمع بيننا في موقف يوم يوم القيامة فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه، وإليه مصيرنا أجمعين.
ثم قال تعالى: ﴿والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ﴾، أي: والذين يخاصمون في دين الله تعالى الذي بعث به محمداً ﷺ، من بعد ما استجيب له الناس ودخلوا فيه.
6575
﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي: خصومتهم باطلة ذاهبة عند ربهم.
﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ من ربهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرة، وهو عذاب النار.
وقيل المعنى: والذين يخاصمون الناس في دين الله، من بعد مت استجيب للنبي. فتكون " الهاء " للنبي ﷺ في هذا القول. وهي لله تعالى في القول الأول.
ومعنى: استجيب له - في هذا القول - استجيب دعاؤه، لأنه دعا على أهل بدر فاستجيب له، ودعا على أهل مكة ومضر. بالقحط فاستجيب له، ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله من قريش فاستجيب له في أشباه لهذا.
وقال مجاهد: هم قوم من الكفار خاصموا المؤمنين في وحدانية الله سبحانه من بعدما استجيب له المؤمنون.
6576
وذكر الطبري أن هذه الآية " نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب النبي ﷺ في دينهم وطعموا أن يصدوهم عنه إلى الكفر "، وهو قول ابن عباس.
وقال قتادة: نزلت في اليهود والنصارى، قالوا: ديننا قبل دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
ثم قال: ﴿الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان﴾، أي: الله الذي أنزل هذا الكتاب - يعني: القرآن - بالحق وأنزل الميزان.
قال مجاهد وقتادة: الميزان: العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف بحكم الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾، أي: وأي شيء يعلمك يا محمد لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب.
وفي الكلام معنى التهديد والتخويف لمن أنزل عليه القرآن - وهو النبي ﷺ وأمته.
وذكر " قريب " و " الساعة " مؤنثة على طريق النسب.
6577
وقيل: ذكر ليفرق بينه إذا كان من المسافة والزمان، وبينه إذا كان من النسب والقرابة.
وقال الزجاج: " هو تأنيث ليس بحقيقي فحمل على المعنى. والتقدير لعل البعث قريب ".
وقيل التقدير لعمل مجيء الساعة قريب، ثم حُذف مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
ثم قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ أي: يستعجلك بمجيئها يا محمد الذين لا يؤمنون بها ينكرون مجيئها، يظنون أنها غير جائية، وذلك قولهم: ﴿متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الملك: ٢٥].
فهم يسألون عن حدوث كونها على جهة التكذيب لمجيئها.
والذين آمنوا بها، وعلموا أنها ستأتي مشفقون منها، أي: وجلون خائفون من مجيئها لصحة وقوع ذلك عندهم وكونه، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها.
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق﴾، أي: ويوقنون أن مجيئها حق يقين. ثم قال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة﴾، أي: يجادلون الناس فيها أنها لا تقوم.
6578
﴿لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾، أي: لفي جور عن الصواب، بعيد عن الحق، لأنهم كفروا معاندة ودفعاً للحق.
قوله تعالى: ﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ إلى قوله ﴿غَفُورٌ شَكُورٌ﴾، أي: والله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من يشاء. ﴿وَهُوَ القوي﴾ لا يغلبه غالب.
﴿العزيز﴾ في انتقامه من أعدائه.
ثم قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾. الحرث هنا: العمل.
والمعنى: من كان يريد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ في حرثه، أي: نوفقه ونضاعف له الحسنات.
﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾، (أي: ومن كان يريد بعمله الدنيا نؤته منها ما يريد، مثل دفع الآفات ونحوها ومثله قوله: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨].
وقيل: المعنى: من كان يريد بفعله الخير ثناء أهل الدنيا تركناه وذلك، ولم يكن له في الآخرة من عمله نصيب.
6579
وقيل نزلت في الغزو، والجهاد. والتقدير: من كان يريد بغزوه وجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بذلك الغنيمة والكسب نزته منها، أي: نخلي بينه وبين ذلك.
وكان النبي ﷺ لا يمنع المنافقين من أخذ الغنيمة ومن أجلها غزوا معه لا لله سبحانه. ففيهم (وفي أشباههم نزلت الآية) فتكون الآية على هذا القول مخصوصة.
وقال طاوس: " من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه (ولم ينل من الدنيا إلا مَا كُتِبَ له)، ومن كان همه الآخرة (جعل الله غناه بين عينيه)، ونور قلبه، وآتاه من الدنيا ما كتب الله له ".
6580
وقال الطبري في معناها: من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في عمله الحسنى، فنجعل بالواحد عشراً إلا ما شاء ربنا من الزيادة، ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى، نرته منها ما قسمنا له وما كتب له منها.
﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾، أي: ماله من عمله ذلك في الآخرة حظ.
وقال قتادة: معناه: من آثر آخرته على دنياه نزد له في أجره، ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة إلا النار، ولم نزده في الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه.
وروى الضحاك عن ابن عباس أن قوله: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾: منسوخ في سورة " سبحان " بقوله: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨] وفيه
6581
بُعْدٌ لأن الأخبار لا تُنسخ.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله﴾، أي: بل لهم شركاء اخترعوا لهم ديناً لم يأمر به الله سبحانه فعملوا به وقبلوه.
وأضيف " الشركاء " إليهم لأنهم هم أحدثوا عبادتهم من دون الله سبحانه، فأشركوا بينهم وبين والله سبحانه في العبادة، تعالى الله على ذلك عُلُوَّا كبيراً.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾، أي: ولولا السابق من حكم الله تعالى أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب، فَيَهْلَكُ الكافرون وينجو المؤمنون.
(ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي: مؤلم والظالمون): الكافرون بالله.
ثم قال تعالى: ﴿تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾، أي: ترى يا محمد الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الخبيثة أن يَحُلَّ بهم، وعقابه واقع بهم وَحَالٌ عليهم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات﴾.
6582
والروضة: المكان المونق الحسن، ولا تكون الروضة - عند بعض اللغويين - إلا في المكان المرتفع.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾، أي: لهم عند ربهم - في الآخرة - كا تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم.
﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾، أي: ذلك الذي أعطاهم الله من النعيم والكرامة هو الفضل الكبير علهيم من الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾، أي: ذلك الذي أخبرتكم به من الكرامة هو الذي يبشر الله به عباده الذين / آمنوا في الدنيا، وعملوا الأعمال الصالحات.
ثم قال تعالى جل ذكره: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾، أي: قل لهم يا محمد لا أسأل منكم جُعْلاً على ما جئتكم به من الهدى والقرآن والدعاء إلى الإيمان والنصيحة إلا أن (تُوَدُّونِي) لقرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم.
6583
قال ابن عباس: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين رسول الله ﷺ قرابة.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لما أبو (أن يتابعوه، قال يا قوم، إن أبيتم أن تتابعوني) فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصري منكم، وبهذا القول قال في الآية: عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي.
قال قتادة: أمر رسول الله ﷺ ألا يسأل الناس على هذا القرآن أجراً إلا أن يَصِلُوا ما بينه وبينهم من القرابة - وكل بطون قريش بينهم وبينه قرابة -.
فيكون المعنى: إلا أن تودوني لقرابتي منكم، (إني لا أسألكم من أموالكم شيئاً على ما جئتكم به، إنما أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم إن أبيتم) أن تؤمنوا بي.
6584
وعن ابن عباس أنه قال: " قالت الأنصار: " فعلنا وفعلنا... فكأنهم فَخُرُوا. فقال بعض قرابة النبي ﷺ: لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك النبي ﷺ فأتاهم في مجالسهم، فقال: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُول: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُوا: بَلَي يَا رَسُولَ الله قَالَ: أَفَلاَ تُجِيِبُونِ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَلاَ تَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلَمْ يَخْذِلُوكَ فَنَصْرْنَاكَ. فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالُوا: أَمْوالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لله وَرَسُولِهِ قَالَ: " فَنَزَلَتْ: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ " الآية "
وبهذا القول قال عمرو بن شعيب.
6585
وهذا يدل على أن الآية مدنية.
وعن ابن عباس أيضاً أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: لا أسألكم على ما جئتكم به أجراً إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالعمل الصالح.
وقال الحسن: معناه: إلا التقرب إلى الله تعالى والتودد إليه بالعمل الصالح.
وقال الضحاك: الآية منسوخة نسخها قوله: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: ٤٧].
واختار الطبري قول من قال: معناه: إلا أن تودوني في قرابتي منكم.
و ﴿إِلاَّ المودة﴾ في هذا استثناء منقطع. فالمعنى: لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم.
ثم قال: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾، أي: ومن يعمل حسنة نضاعفها إلى عشر حسنات فأكثر.
6586
﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾، أي: غفور لذنوب عباده المؤمنين ﴿شَكُورٌ﴾ لحسناتهم يضاعفها لهم.
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ إلى قوله ﴿إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ أي: أيقولون افترى على الله الكذب، أي: اختلقه من عند نفسه.
﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾، أي: يطبع على قلبك فتنسى هذا القرآن يا محمد، قاله قتادة والسدي.
وقال الزجاج: معناه: فإن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم.
وقيل: المعنى: (إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم.
وقيل: المعنى: (إن يشأ الله - يا محمد - ختم على قلبك بالصدق واليقين والخير كله. وقد فعل بك ذلك وَمَحَا ضُرَّهُ من قلبك.
وقيل: المعنى) فإن يشأ الله يمنعك من التمييز.
ثم قال: ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾، أي: ويزيل الله الباطل على كل حال - وهو الشرك -
6587
ولذلك رفعه، ولو عطفه على " ما يشاء " لم يجز لأنه يصير المعنى (ولو يشاء) الله يمح الباطل، وذلك لا يجوز لأنه تعالى يمحوه على كل حال. ويدل على رفعه أن بعده " ويحق الله الحق " بالرفع) وهذا احتجاج عليهم لنبوءة وصحة ما جاء به لا المعنى: إن الله يزيل الباطل ولا يثبته.
فلو كان ما جاء به محمد ﷺ باطلاً لمحاه الله تعالى وأنزل كتاباً آخر على غيره.
وهكذا جرت العادة [في جميع المفترين أن الله سبحانه يمحو أباطلهم ويثبت الحق.
ومعنى ﴿وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ﴾، أي: ويثبت ما أنزل من كتابه على لسان] نبيه عليه السلام.
وقيل: المعنى ويبين الحق.
وقيل: معناه: يثبت الحق في قلبك بكلماته، أي: بالقضاء الذي قضاه لك قبل خلقك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾، أي: إنه ذو علم بما في صدور خلقه وما
6588
تنطوي عليه ضمائرهم.
وقيل: إن معناه: لو حدثت نفسك يا محمد بأن تفتري علي كذباً لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي، لأني أحق الحق وأمحو الباطل، فأخبر الله تعالى الزاعمين أن محمداً ﷺ اختلق القرآن من عند نفسه - أنه لو فعل ذلك أو حدث به نفسه - ما أخبر في هذه الآية.
وكان أبو عمرو بن العلاء يختار أن يقف القارئ على: " فإن يشأ الله يختم على قلبك "، لأن ما بعده مستأنف غير معطوف عليه ما ذكرنا، وهو اختيار الفراء.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات﴾ أي: والله الذي يقبل مراجعة عباده إلى الإيمان بعد كفرهم ويعفو عن ما تقدم لهم من السيئات، ويعلم ما يفعل / خلقه من خير وشر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيجازيهم على كل ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي: ويجيب الذين آمنوا ربهم
6589
فيما دعاهم إليه، كما قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ [البقرة: ١٨٦].
قال المبرد: معناه: فليستدعوا الإجابة. فيكون " الذين " في موضع رفع على هذا التأويل.
وقيل: المعنى: ويستجيب الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم، بمعنى: يستجيب الذين آمنوا إذا سألوه ودعوا إليه، ويزيدهم من فضله، هي زيادة (لم يسألوها)، إحساناً منه.
وتكون اللام محذوفة من الذين، كما قال: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ﴾ [المطففين: ٣].
أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم.
يقال: استجبت بمعنى: أجبته.
6590
فيكون " الذين " في موضع نصب بـ " يستجيب " أنشد أهل اللغة.
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ.
أي: لم يجبه. واستجاب، بمعنى: أجاب، مشهور في كلام العرب.
وقيل: معنى الزيادة (أنه يزيدهم ما دعوه.
وقيل: الزيادة التي ضمن) الله تعالى هنا هي أن يشفعهم في إخوانهم إذا شفعوا فيهم.
وروى قتادة عن النخعي أنه قال في قوله: " ويستجيب الذين آمنوا " قال: يشفعون في إخوانهم. (وقال في قوله: ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾: يشفعون في إخوان إخوانهم).
ثم قال تعالى: ﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾، يعني عذاب جهنم.
6591
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض﴾. هذه الآية، روي أنها نزلت في قوم من أهل الصُّفَّةِ تمنوا سعة الدنيا والغناء، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض﴾، أي: ولو وسع عليهم لجازوا الحد الذي حده الله تعالى لهم.
﴿ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ﴾، أي: يسهل لهم رزقاً مقدراً يصلحهم وتصلح عليه أحوالهم.
﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾، أي: ذو خبر بهم، وذو علم يعلم من يصلحه التضييق وتفسده السَّعَةُ (في الرزق، ومن يفسده التضييق وتصلحه السَّعَةُ) فيعطي كُلاًّ على قدر ما يصلحه.
قال قتادة: " كان يقال: خير الرزق ما لا يُطغيك ولا يلهيك.
6592
ورُوي عن النبي ﷺ أنه كان يقول: " أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَة الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَثْرتهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَيَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ الخَيْرُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بالخَيْرِ.. " في حديث طويل.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾، أي: يُنَزَّلُ المطر من السماء ليُحيي به الأرض من بعد مت يئس الخلق من نزوله.
﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾، اي: يَبُثُّهَا في عباده، يعني بالرحمة: الغيث الذي أنزله من السماء. ومع القنط يرجى الفرج.
وقيل: لعمر رضي الله عنهـ: " جدبت الارض وقنط الناس فقال: مطروا إذا ".
6593
وقد قيل في قوله: ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾، أي: ظهور الشمس بعد المطر. وهو قول شاذ لم أره عن ثقة.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الولي الحميد﴾، أي: وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله، الحميد بأياديه عندكم ونعمه عليكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ أي: ومِنْ حُجَجِهِ (وعلامات أدلته) على وحدانيته وقدرته على إحيائكم بعد موتكم، خلقه واختراعه السماوات السبع والأرضين السبع وخلقه ما نشر فيها من حيوان.
﴿وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾، أي: وهو يقدر أن يحييهم يوم القيامة فيجمعهم إذا شاء.
وقال الفراء: قوله: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾، يريد به: ما بث في الأرض دون السماء؛ وزعم أن مثله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من الملح دون الحلو. وهو قول ضعيف عند البصريين، لا يجوز أن يرجع ضمير اثنين إلى واحد، بل نقول:
6594
إن الله قد بث السماوات والأرض دواب وقد قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] وقال مجاهد: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ﴾، يعني: الناس والملائكة والعرب تقول لكل ما تحرك: دب فيه فهو داب والهاء دخلت للمبالغة، وقيل (لتأنيث) الصنعة.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.
أي: والذي أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم.
وقيل: " ما " للشرط، والفاء مرادة، وحسن حذفها؛ لأن الفعل الأول لم يعمل فيه الشرط، إذ هو ماض. وفي كون " ما " بمعنى " الذي بعد "، لأنه يصير مخصوصاً للماضي.
6595
فكأن ما أصابنا فيما مضى من مصيبة هو بما كسبت أيدينا وما يصيبنا فيما نستقبل يحتمل أن يكون مثل ذلك، وأن يكون على خلافه، لغير ما كسبت أيدينا.
وهذا (لا يجوز، بل هو عام فيما مضى وما يستقبل، ولا يصيبنا من مصيبة ماضية أو مستقبلة إلا بما كسبت أيدينا. وهذا المعنى لا يتضمنه) إلا الشرط لأنه العموم.
فمعنى الآية: إن الله جل ذكره أعلمنا أن ما يصيبنا من مصيبة في الدنيا في الأموال والأنفس والأهل فهو عقوبة منه لنا بما اكتسبنا من الآثام.
ثم قال / تعالى: ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾، أي: مما اكتسبنا فلا يعاقبنا عليه في الدنيا بالمصائب.
قال قتادة: ذكر لنا نبي الله عليه السلام قال: " لا يُصيب ابنَ آدمَ خَدشُ عودٍ، ولا عَثْر قَدَمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلاَّ بِذَنبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَر ".
6596
وقال ابن عباس: تعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم في الدنيا ولا يؤاخذون بها في الآخرة.
وقال الحسن: معنى الآية في الحدود، أن الله تعالى جعل الحدود على ما يعمل الإنسان من المعاصي. وهذا يعطي أن " ما " بمعنى " الذي ".
قال إبراهيم بن عرفة: الكثير الذي يعفو (الله تعالى عنه) لا يحصى. وهذه من أرجى آية في القرآن.
وقال علي رضي الله عنهـ في هذه الآية: إذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فماذا يبقى من ذنوبي بين كفارته وعفوه.
وروي عن علي رضي الله أنه قال: ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله؟ قالوا: بلى،
6597
فقرأ: " وما أصابكم من مصيبة " الآية.
ثم قال: فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فلم يعاقب به في الدنيا فهو أجود وأمجد وأكرم أن (يعذب به) في القيامة.
وروي عنه رضي الله عنهـ أنه قال: ما أحب أن لي بها الدنيا وما فيها.
(وقال أبو وائل: ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾، أي: وما أنتم أيها الناس بمُعْتِبِين ربكم بأنفسكم هرباً في الأرض حتى لا يقدر عليكم إذا أراد عقوبتكم على ذنوبكم، ولكنكم في سطانه حيث كنتم، وتحت قدرته أين حللتم، وفي مشيئته كيف تقلبتم.
ثم قال: ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾، أي: (ليس لكم) أيها الناس وَلِيٌّ يليكم فيدفع عنكم عقاب الله، ولا نصير ينصركم إذا أراد عذابكم.
6598
قال المبرد: بمعجزين: بسابقين، يقال: أعجز إذا عدا فسبق.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾، أي: ومن علامات الله وأدلته، وحججه عليكم أيها الناس أنه قادر على تسيار السفن الجارية في البحر.
و ﴿الجوار﴾، جمع جارية وهي: السائرة في البحر.
﴿كالأعلام﴾: كالجبال، واحدها علم.
ثم قال تعالى: ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح﴾، أي: إن يشأ الله ألا تجري هذه السفن في البحر، يسكن الرياح التي (تجري بها).
﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ﴾، أي: فيصرن سواكن ثوابت على ظهر البحر يجرين.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، أي: إن في جري هذه السفن في البحر وقدرة الله على إمساكها ألا تجري بإسكانه الرياح، لعظة وعبرة وحجة على أن الله قادر على ما يشاء لكل ذي صبر على طاعة الله شكورٍ نِعَمَ ربه.
6599
ثم قال تعالى: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾، أي: يغرق هذه السفن في البحر فيهلكن أي يهلك من فيهن بذنوبهم.
ثم قال: ﴿وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾، أي: ويصفح جل ثناؤه عن كثير من ذنوبكم لا يعاقب عليها.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾، أي: ويعلم الذين يخاصمون محمداً ﷺ في آيات الله سبحانه [ما لهم من محيل عن عقاب الله إذا أتاهم على كفرهم، قال السدي] ما لهم من محيص: من ملجأ.
قال الزجاج: " ما لهم من معدل ولا ملجأ، يقال: حاص عنه إذا تنحى عنه ".
ثم قال تعالى: ﴿فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا﴾، أي: فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا، ومن المال فهو متاع الحياة الدنيا تستمتعون به في حياتكم، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم.
﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، أي: وما عند الله لأهل طاعته، والإيمان، والتوكل عليه في الآخرة، خير مما أوتيتم في الدنيا من متاعها.
6600
" وأبقى "، أي: وأدوم، لأنه لا زوال عنه ولا انقطاع، ومتاع الدنيا (فان وزائل) عن قليل.
ثم قال: ﴿والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش﴾، أي: وهو للذين يجتنبون كبائر الإثم.
" روي عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: " أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قال أن نَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أن يَأْكُلَ مَعَكَ. قلت: ثم أَي: قَالَ: أن تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ؛ ثُمَّ ذَكَرَ أَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ، وَقَذْفَ المُحْصَنَةِ، والغلُولَ، والسِّحْرَ وَأَكْلَ الرِّبَا ".
فهذا حديث مفسر في الكبائر.
وعن ابن مسعود أنه قال: الكبائر: من أول سورة " النساء " إلى رأس ثلاثين آية منها إلى قوله: ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾ [النساء: ٣١].
6601
وقال ابن عباس - وقد سئل عن الكبائر - هي كل ما نهى الله تعالى / عنه.
وروي عنه أنه قال: الكبائر: " (كل ما) ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ".
وقال الضحاك: هي كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب (وكل ما) يقام عليه الحد فهو كبيرة.
وعن ابن عباس: " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش "، قال: هو الشرك بالله تعالى، واليأس من روح الله سبحانه، والأمن من مكر الله جلت عظمته، ومنها: عقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله سبحانه، وقذف المحصنات، وأكل (مال اليتيم)، والفرار من الزحف، وأكل الربا، والسحر، والزنا، واليمين الغموس واليمين الفاجرة، والغلول، ومنع الزكاة المفروضة، وشهادة الزور، وكتمان
6602
الشهادة، وشرب الخمر، وترك الصلاة عامداً، أو شيئاً مما افترض الله سبحانه، ونقض العهد، وقطيعة الرحم.
وقال السدي: الفواحش: الزنا.
وقوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾، أي: إذا غضبوا على من أساء إليهم غفروا وصفحوا له.
قوله: ﴿والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾، أي: أجابوه حين دعاهم رسوله ﷺ إلى الإيمان به والعمل بطاعته.
﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ يعني: المفروضة أقاموها بحدودها في أوقاتها.
ثم قال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾، أي: إذا عرض لهم أمر تشاوروا فيه بينهم.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، يعني: في الصدقات، وفعل الخير، وفي سبيل الله تعالى، وإخراج الزكاة المفروضة عليهم.
وقال ابن زيد: نزلت ﴿والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ﴾ - الآية " في الأنصار.
ثم قال تعالى: ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾، أي: والذين إذا بغى
6603
عليهم باغ انتصروا لأنفسهم، يعني: من المشركين، قاله ابن زيد.
وقال السدي: هي في كل باغ أبيح الانتصار منه.
وقال النخعي: " كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق ".
وروى حذيفة عن النبي ﷺ أنه قال: " لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَكَلَّفُ من البَلاَءِ (مَا لاَ يُطِيقُ) ".
ثم قال تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾، أي: وجزاء سيئة المسيء عقوبته على ما أوجبه الله عليه.
ولهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي وأهل الرأي أن يأخذ الرجل من مال من
6604
خانه (مثل ما خانه به من) غير رأيه.
واستدلوا على صحة ذلك بقوله النبي ﷺ لهند زوج أبي سفيان: " خذي من ماله ما يكفيك وولدك ".
وأجاز لها أن تأخذ من ماله ما يجب لها من غير رأيه.
6605
ولم يجز ذلك مالك إلا بعلمه.
وسميت الثانية " سيئة " وليس الذي (يعملها مسيئاً) لأنها مجازاة على الأول. فسميت باسمها وليست بها.
وروي أن ذلك: أن يجاب القائل الكلمة القذعة بمثلها.
وقال ابن أبي نجيح: هو مثل أن يقول القائل: أخزاه الله، فيقول له المجيب مثل ذلك.
وقال السدي: إذا شتمك فاشتمه بمثل ما شتمك من غير أن تعدي.
قال ابن زيد: ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾، يعني: من المشركين، ثم قال: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ قال: معناه: ليس آمركم أن تعفوا عنهم لأني لا أحبهم، أي: لا أحب الظالمين، يعني: المشركين، فمن فعل فالله
6606
يثيبه على ما آذاه به المشركون، قال: ثم نسخ هذا كله، وأمر بالجهاد.
والآية على القول الأول محكمة عامة، مثل قوله: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]
والمعنى: فمن عفا عمن أساء إليه فغفر له ابتغاء وجه الله سبحانه وهو قادر على العقوبة فالله مثيبه.
ويكون معنى قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ على هذا القول، أي: إنه لا يحب من يتعدى على الناس فيسيء إليهم بغير إذن الله تعالى له.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ﴾، أي: ومن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه، فلا سبيل للمنتصر منه على المنتصر بعقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا بحق وجب لهم على من تعدى عليهم.
وقال قتادة: " فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه ".
6607
وقال الحسن: هذا في الرجل يلقيك فتلقيه، ويسبك فتسبه، ما لم يكن حدا، أو كلمة لا تصلح.
وقال ابن زيد: عنى بذلك، الإنتصار من أهل الشرك. وقال: هو منسوخ. - يريد نسخ بالأمر بالجهاد - قال: ونزل في أهل الإسلام ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤].
والقول الأول هو أن الآية محكمة / غير منسوخة. عنى بها كل منتصر ممن ظلمه وعليه أكثر العلماء، لأن النسخ لا يحكم عليه إلا بدليل قاطع أو إجماع أو نص من سنة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾، أي: إنما سبيل العقوبة على الذين يظلمون الناس ويتجاوزون في أرض الله تعالى الحد الذي أباح لهم ربهم فيفسدون فيها بغير الحق.
﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي: مؤلم، يعني: في الآخرة بعد عقوبة الدنيا.
وقال ابن زيد عن أبيه: هي من المشركين وهي منسوخة بقوله: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [فصلت: ٣٤].
6608
وكان مالك لا يرى تحليل الظالم، ويرى تحليل من لك عليه دين ومات لا وفاء له به. وكان ابن المسيب لا يرى تحليله.
وقال عبيد الله بن عمير: ورب هذا البيت لا يعذب الله تعالى إلا مشركاً أو ظالماً لعباده، ثم قرأ: " إنما السبيل، الآية ".
ثم قال: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾، أي: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيئ إليه جرمه فلم ينتصر منه وهو قادر على ذلك ابتغاء وجه الله تعالى وجزيل ثوابه، إن ذلك الفعل منه لمن عزم الأمور، لمن أعالي الأمور التي ندب الله إلى
6609
فعلها عبادة ومن أجلها، وذلك فعل الوارعين.
ثم قال: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ﴾، أي: ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الهدى فليس من ولي يوليه فيهديه من بعد إضلال الله له.
ثم قال: ﴿وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾، هذا مثل قوله:
﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ [السجدة: ١٢] استعتبوا في غير حين استعتاب، وسألوا الرجوع إلى الدنيا حين لا يقبل منهم، وبادروا إلى التوبة حين لا تنفعهم.
" ومن " في قوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ مبتدأ، والخبر: " إن ذلك لمن عزم الأمور... " الجملة. وثَمَّ محذوف، فيه ضمير يعود على المبتدأ والتقدير: إن ذلك منه لمن عزم الأمور. (ومثل هذا) قول العرب: " البُرَّقَفِيزَانِ بِدِرْهَمٍ "، أي: قفيزان منه
6610
بدرهم. والتقدير: إن ذلك لمن عزم الأمور له.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل﴾، أي وترى يا محمد الظالمين يوم القيامة يعرضون على النار خاضعين مما بهم من الذلة الخوف.
ثم قال: ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾، أي: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرفي خفي، أي: من طرف ذليل من كثرة الخوف والإشفاق لتبقيهم أنهم داخلون فيها.
قال ابن عباس ومجاهد: ﴿مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾، أي: ذليل وهو اختيار الطبري، قال: " وصفه الله بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم حتى كادت أعينهم تغور فتذهب ". وقال ابن جبير، يسارقون النظر من الخوف، وقاله السدي وابن كعب.
6611
وقال بعض أهل العربية: تقديره: من عين ضعيفة النظر والطرف عنده هنا العين.
وقال يونس " من " بمعنى الباء. والتقدير: بطرف خفي.
وقال: إنما قال من طرف خفي لأنه لا يفتح عينه، إنما ينظر ببعضها إشفاقاً. وقيل: " إنما قيل ذلك لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم لا بأعينهم لأنهم يحشرون عمياً ".
ووقف بعض العلماء على ﴿خَاشِعِينَ﴾. ووقف أكثرهم على ﴿خَفِيٍّ﴾. فتكون ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ الذل﴾ إن وقفت على ﴿خَاشِعِينَ﴾ (متعلقة بـ ﴿يَنظُرُونَ﴾).
وإن وقفت على ﴿خَفِيٍّ﴾ كانت ﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ ﴿خَاشِعِينَ﴾.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
6612
القيامة}، أي: وقال المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين، الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
قال السدي: غبنوا ذلك في الجنة.
وقال ابن عباس: هم الذين خلقوا للنار وخلقت النار لهم، خلفوا أهليهم وأموالهم في الدنيا، وصاروا إلى النار فحرموا الجنة والدنيا.
وقال قتادة: خسروا أهليهم الذين أُعِدُّوا لهم في الجنة لو أطاعوا.
وقيل: لما كان المؤمنون يجتمعون مع أهليهم في الجنة وكان الكفار لا يجتمعون معهم كانوا قد خسروهم.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾، أي: دائم ثابت لا يزول أبداً.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله﴾ - إلى آخر السورة).
أي ولم يكن لهؤلاء المشركين أولياء ينصرونهم / من عذاب الله.
ثم قال: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ﴾ ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الحق فما له من طريق إلى الحق، لأن الهداية والضلال بيده.
ثم قال تعالى: ﴿استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾، أي أجيبوا
6613
أيها الناس داعي ربكم واتبعوه وآمنوا به من قبل أن يأتيَكم يوم لا شيء يرد مجيئه إذا جاء، وهو يوم القيامة.
﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾، أي: ما لكم يوم القيامة معقل تلجؤون إليه مما نزل بكم، وما لكم من إنكار لما حل عليكم ولا تغيير.
قال مجاهد: ﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ﴾، أي: " محرز، ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾، أي من ناصر. فيكون نكير بمعنى: ناكر، أو: منكِر.
وقيل: المعنى في ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾، أي: " لا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم ".
قال الزجاج: معناه: ليس لكم مخلص من العذاب، ولا تقدرون أن تنكروا ما توقفون عليه من ذنوبكم، (ولا ما) ينزل بكم من العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾، أي: فإن
6614
أعرض هؤلاء المشركون عما جئتهم به يا محمد من الحق فلم يؤمنوا به فدعهم، فإذا لم ترسلك إليهم رقيباً عليهم تحفظهم أعمالهم، ما عليك إلا البلاغ لما أرسلت به إليهم، فإذا بلغت قضيت ما يجب عليك.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾، أي: أغنيناه ووسعنا عليه فرح بها.
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾، أي: وإن يصب الإنسان فقر، أو ضيق عيش، أو علة بما قدمت يداه من المعاصي - عقوبة له من الله تعالى على فعله وعصيانه - جحد نعم الله سبحانه المتقدمة عنده ويئس من الخير.
والتقدير، فإن الإنسان كفور، أي: جحود لنعم ربه، يعد المصائب ويجحد النعم.
والإنسان هنا: واحد للجنس، يدل على الجمع، ولذلك قال: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ﴾، فَجَمَعَ.
ثم قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾، أي: لله سطان السموات والأرض يفعل في سلطانه ما يشاء ويخلق من يشاء، فيهب لمن يشاء - من عباده - الذكور من الأولاد، ويهب لمن يشاء منهم الإناث، ويهب لمن يشاء ذكوراًَ وإناثاً،
6615
ويمنع من يشاء من الولد. فيجعله أو يجعل امرأته عقيماً.
قال ابن عباس يهب بمن يشاء إناثاً لا يولَد له إلا الجواري، ويهب لمن يشاء الذكور لا (يولد له) إلا الغلمان، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يولد له الجواري والغلمان، فلذلك تزويجهم، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم.
وقال محمد بن (الحنفية) وابن زيد في قوله (أو يزوجهم) ذكراناً وإناثاً، يعني التوأم، يخلق في البطن ذكراً وأنثى ويقال: رجل عقيم لا يولد له، وامرأة عقيم
6616
لا تلد، وريح عقيم لا تأتي بمطر ولا خير.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾، أي: إن الله ذو علم بما خلق، وقدرة على خلق ما يشاء.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه مشافهة، ولكن وحياً يوحي إليه كيف يشاء، إما إلهاماً، وإما مع ملك مقرب، أو من وراء حجاب حيث يسمع كلامه ولا يراه كما فعل بموسى صلوات الله عليه.
﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾، يعني: من الملائكة، كجبريل وشبهه.
﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ﴾، أي: فيبلغ الملك إلى البشر المرسل إليه بإذن الله تعالى ما يشاء الله أن يبلغه إليه من أمره ونهيه وخبره وما أراد.
وقال مجاهد ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾، أي: إلا أن يلقي (في قلبه) ما يشاء، ويلهمه ما يشاء، ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ كموسى، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ كجبريل إلى محمد عليهما السلام.
وقيل: المعنى: ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾ كما أوحى إلى الأنبياء بإرسال جبريل وشبهه من
6617
الملائكة، ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ كما كلَّم موسى، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ - يعني: من البشر - إلى الناس كافة.
وقال القتبي: ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾: في المنام، ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ كما كلم موسى أي ملكاً إلى النبي من بني آدم فيبلغه عن الله (ما يشاء) الله أن يبلغه.
﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، أي: إن الله تعالى لذو علو على كل شيء واقتدار، ذو حكمة في تدبيره خلقه.
(وليس العلو في هذا وشبهه من المسافة إنما هو علو اقتدار، ورفعة حال وجلالة).
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾، أي: كما أوحينا إلى سائر الرسل قبلك، كذلك أوحينا إليك رحمة من أمرنا: وحياً، وهو القرآن.
قال قتادة: روحاً: رحمة. وقال السدي: روحاً: وحياً. وقال ابن عباس: هو
6618
النبوة.
وقيل: المعنى: أوحينا / إليك ما تحيا به النفوس كما تحيا بثبات الروح فيها، وهو القرآن وما فيه من الإيمان والمواعظ.
ثم قال تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾، أي: لم تكن يا محمد تدري أي شيء الكتاب، ولا أي شيء الإيمان للذين أعطيناكهما.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾، أي: ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس يستضيء بنوره من يشاء الله تعالى ومن يوفقه، ونوره هو: العمل بما فيه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، أي: وإنك يا محمد لتهدي الناس وتدعوهم وترشدهم إلى طريق مستقيم، أي: إلى الحق والإسلام.
وقرأ الضحاك وحوشب: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ بضم التاء وفتح الدال على ما يسم فاعله.
ثم بين الصراط وفسره فقال: ﴿صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات﴾، أي: طريق
6619
الله الذي دعا إليه عباده.
وقال الضحاك: إلى صراط مستقيم، إلى دين (مستقيم، دين) الله الذي له، وفي ملكه وقدرته وسلطانه جميع ما في السماوات وما في الأرض.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾، أي: ترد أمور جميع الخلق إلى الله تعالى يوم القيامة فيقضى بينهم بالعدل، وأمورهم (أيضاً في الدنيا) إلى الله سبحانه. وإنما خص ذكر يوم القيامة - هنا - لأنه يوم لا يدعي فيه أحد لنفسه شيئاً ولا يتجبر فيه أحد، ولا يدعي أحد مُلْكاً ولا سلطاناً إلا الله سبحانه.
والدنيا فيها الجبارون والملوك والمُدَّعُونَ الباطل، فلذلك خص ذكر يوم القيامة برجوع الأمور إليه تعالى ذكره، وإن كانت في الدنيا بيده وفي حُكْمِه وقَبْضَتِهِ وعن مشيئته تكون، لا إله إلا هو.
6620
Icon