ﰡ
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
الإعراب:
(حم. عسق.) تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويوحي فعل مضارع مرفوع وإليك متعلقان بيوحي وإلى الذين عطف على إليك ومن قبلك صلة الذين والله فاعل والعزيز الحكيم نعتان لله وقرىء يوحى بالبناء للمجهول فنائب الفاعل هو الجار
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٧ الى ٩]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا وأوحينا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأوحينا وقرآنا مفعول أوحينا وعربيا نعت. واختار الزمخشري أن تكون ذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها من أن الله هو الرقيب عليهم وما أنت برقيب عليهم ولكن نذير لهم لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة والكاف مفعول به لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك لتفهم ما يقال لك ولا تتجاوز حدّ الإنذار وهو إعراب وجيه جميل. واللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأم القرى مفعول به لتنذر، وأم القرى مكة، ومن عطف على أم القرى وحولها ظرف متعلق بمحذوف صلة من (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وتنذر عطف على لتنذر ويوم الجمع مفعول به ثان لتنذر والمفعول الأول محذوف أي وتنذر الناس يوم الجمع أي عذابه فحذف المفعول الأول من الإنذار الثاني كما حذف المفعول الثاني من الإنذار الأول وتقديره العذاب ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من يوم الجمع أو مستأنفة واختار
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٠ الى ١٢]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
اللغة:
(يَذْرَؤُكُمْ) قال في القاموس: «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين» وقال شارحه في التاج: «وقد يطلق على الآباء والأصول أيضا قال الله تعالى: إنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري» وقد تقدم القول فيه وسيأتي معنى تعديته بفي في باب الإعراب.
(مَقالِيدُ) تقدم بحثه في سورة الزمر فجدّد به عهدا.
الإعراب:
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية قول رسول الله ﷺ للمؤمنين أي خالفكم فيه
جملة يبسط الرزق خبر تاسع ويبسط فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء وإن واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم.
الفوائد:
في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) اختلاف كثير بين كبار النحاة وسنورد هنا مجملا لأقوالهم جميعا على أن أسهل الأوجه هو ما ذكرناه نقلا عن جمهرتهم، وقال الشيخ بهاء الدين بن النحّاس في تعليقه على المقرب: قال أكثر الناس هي زائدة للتوكيد والمعنى والله أعلم ليس مثله شيء وقال جماعة من المحققين ليست بزائدة وإنما هي على بابها ومعنى الكلام والله أعلم نفي مثل المثل ويلزم من ذلك نفي المثل ضرورة وجوده سبحانه فإن قيل: لم توصل إلى نفي المثل بنفي مثل المثل وهلا نفى المثل من أول وهلة، فالجواب إن نفي المثل بنفي مثل المثل أبلغ وأفخم من قولنا أنت لا تفعل هذا لأنه نفي الشيء بذكر دليله فهو أبلغ من نفي الشيء بغير ذكر دليله.
قلت: وقد قال بعضهم أنها ليست بزائدة ولم يعوّل على هذا الدليل بل قال مثل ومثل ساكنا ومتحركا سواء في اللغة كشبه وشبه فمثل هاهنا بمعنى مثل، قال الله تعالى: «ولله المثل الأعلى» ويكون المعنى ليس مثل مثله شيء وهو صحيح.
وقال الشهاب الحلبي المعروف بابن السمين: «قوله ليس كمثله شيء في هذه الآية أوجه: أحدها وهو المشهور عند المعربين أن الكاف زائدة في خبر ليس وشيء اسمها والتقدير ليس شيء مثله قالوا: ولولا ادّعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل وهو محال إذ يصير التقدير على أصالة الكاف ليس مثل مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله فثبت أن له
العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلي لا يقال له هذا أي أنا لا يقال لي هذا. الرابع: أن يراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة كقوله مثل الجنة فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو محمل سهل».
وللراغب في مفرداته كلام لطيف يحسن إثباته هنا في المثل قال:
«المثل أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط والمثل في جميع ذلك ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصّه بالذّكر قال تعالى: ليس كمثله شيء».
وقال ابن هشام الأنصاري في كتابه الممتع «المغني» :«قال الأكثرون التقدير ليس شيء مثله إذ لو لم تقدّر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله فيلزم المحال وهو إثبات المثل وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا قاله ابن جنّي ولأنهم
ونختم هذا البحث بقول الزمخشري في كشافه وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب قال: «قالوا: مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك أنت لا تخفر ومنه قولهم قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون إيفاعه وبلوغه، وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته، والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنها عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحو قوله عز وجل: «بل يداه مبسوطتان» فإن معناه بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر حتى أنهم استعملوها فيمن لا يدله فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له، ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررها من قال: وصاليات ككما يؤثفين، ومن قال: فأصبحت مثل كعصف مأكول».
وعقب ابن المنير القاضي على كلام الزمخشري فقال: «هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى وذلك أن الذي يليق
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٥]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
(يَجْتَبِي إِلَيْهِ) يجتلب إليه، والاجتباء افتعال من الجباية وهي الجمع. قال الراغب: يقال جبيت الماء في الحوض أي جمعته ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء. والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال تعالى: قالوا لولا اجتبيتها، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بغيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه.
الإعراب:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لك أن تجعله خبرا عاشرا، ولك أن تجعله كلاما مستأنفا مسوقا للشروع في تفصيل ما أجمله أولا. وشرع فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بشرع ومن الدين حال وما مفعول به وجملة وصى صلة وبه متعلقان بوصي ونوحا مفعول به والذي عطف على ما وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) عطف على ما تقدم أيضا وتخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لإنافتهم وعلو شأنهم لأنهم أولو العزم من الرسل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أن تفسيرية بمعنى أي لأنها سبقت بما فيه معنى القول دون حروفه وهو وصى، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو أن أقيموا، أو في محل نصب بدلا من الموصول وهو ما، أو في محل جر بدلا من الدين. وأقيموا الدين فعل أمر وفاعل ومفعول به والواو عاطفة ولا ناهية وتتفرقوا فعل مضارع مجزوم بلا وفيه متعلقان بتتفرقوا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) كلام مستأنف وكبر فعل
، إذ لم نر اللام ترد بمعنى الباء ولم يذكر أحد من النحاة أن أن المصدرية تضمر بعد الباء وإنما المراد أن الأمر مفض إلى العدل بينكم (اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لفظ الجلالة مبتدأ وربنا خبره ولكم عطف على ربنا ولنا خبر مقدّم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم خبر مقدم وأعمالكم مبتدأ مؤخر (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لا نافية للجنس وحجة اسمها مبني على الفتح وبيننا ظرف متعلق بمحذوف خبر أي لا خصومة بيننا وبينكم لأن الباطل لجلج والحق أبلج وقد ظهر الحق وصرتم محجوجين فلا معنى لإيراد الحجج، والله مبتدأ وجملة يجمع خبر وبيننا ظرف متعلق بيجمع أي يوم القيامة وإليه خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر.
الفوائد:
١- لام التعليل أو الصيرورة: ينصب المضارع بأن مضمرة جوازا بعد اللام الجارّة وهي المسماة بلام التعليل أو لام العاقبة والصيرورة نحو وأمرنا لنسلم لرب العالمين ويجوز إظهار أن نحو وأمرت لأن أكون
٢- أولو العزم من الرسل: معنى أولو العزم من الرسل أي الذين تحملوا المشاق وصبروا على ما نالهم من إيذاء قومهم بعد أن تصدّوا لهدايتهم، وقد جمعهم بعضهم بقوله:
محمد إبراهيم موسى كليمه | فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم |
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
اللغة:
(داحِضَةٌ) باطلة وفي المختار: دحضت حجته بطلت وبابه خضع وأدحضها الله ودحضت رجله زلقت وبابه قطع والإدحاض الإزلاق والدحض بفتح الدال وسكون الحاء المهملتين وبفتح الحاء أيضا وآخره ضاد معجمة هو الزلق وفي حديث رواه أحمد عن أبي أسماء «أنه دخل على أبي ذر وهو بالرّبذة وعنده امرأة سوداء مشنعة ليس عليها أثر
(مُشْفِقُونَ) خائفون.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة يحاجّون صلة وفي الله متعلقان بيحاجّون وهو على حذف مضاف أي في دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر مضاف إلى الظرف وله في موضع رفع نائب فاعل استجيب أو متعلق به ونائب الفاعل مستتر وحجتهم مبتدأ وداحضة خبر حجتهم والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو اسم الموصول وعند ربهم ظرف متعلق بداحضة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الواو عاطفة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل الكتاب صلة وبالحق متعلقان بأنزل فالباء للملابسة أو بمحذوف حال والميزان عطف على الحق (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يدريك خبر ولعلّ واسمها وخبرها وجملة لعلّ الساعة قريب مفعول ثان لأدري لأنها علقت عن العمل بالترجّي ولا بدّ من تقدير مضاف أي لعلّ مجيء الساعة قريب ولا يقال
الفوائد:
متى يستوي المذكر والمؤنث. يستوي المذكّر والمؤنث في خمسة أوزان:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة | سودا كخافية الغراب الأعصم |
٣- مفعال: بكسر الميم منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار أي كثير النحر وشذ ميقانة من اليقين وهو عدم التردد يقال رجل ميقان لا يسمع شيئا إلا أيقنه وامرأة ميقانة.
٤- فعيل: بكسر الميم كمعطير من العطر وشذ امرأة مسكينة لخروجه عن القاعدة ومع ذلك فإنه محمول على فقيرة وسمع امرأة مسكين على القياس حكاه سيبويه.
٥- مفعل بكسر الميم وفتح العين كمغشم وهو الذي لا ينتهي عمّا يريده ويهواه من شجاعته ومدعس من الدعس وهو الطعن.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)الإعراب:
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الفرق بين عملي العاملين بأن من عمل للآخرة وفّق في عمله وضوعفت حسناته ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها لا ما يريده ويطمح إليه ولم يكن له نصيب في الآخرة. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض واسمها يعود على من وجملة يريد خبر كان وحرث الآخرة مفعول يريد ونزد جواب الشرط وله متعلقان بنزد وفي حرثه متعلقان بنزد أيضا (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) جملة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) عطف على الجملة السابقة والواو حالية أو عاطفة وما نافية ويجوز أن تكون حجازية عند من يجيز تقدم الخبر وله خبر مقدّم وفي الآخرة حال ومن حرف جر زائد ونصيب مبتدأ أو اسم ما (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أم قدّرها بعضهم ببل الانتقالية وقدّرها الزمخشري ببل والهمزة للتقريع والتوبيخ ولهم خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر وجملة شرعوا نعت لشركاء ولهم متعلقان بشرعوا ومن الدين حال لأنه كان نعتا للمفعول أي شرعا من الدين والمقصود به الشرك الذي لم يأذن به الله وما مفعول به وجملة لم يأذن صلة وبه متعلقان بيأذن والله فاعل (وَلَوْلا
الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة الفصل مبتدأ والخبر محذوف واللام واقعة في جواب لولا وجملة قضي بينهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية وإن واسمها ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت وجملة لهم عذاب أليم خبر إن.
البلاغة:
الاستعارة التصريحية في قوله «من كان يريد حرث الآخرة» الآية استعارة تصريحية، شبّه ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والنماء بالحرث، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويطلق على الزرع الحاصل منه ثم حذف المشبه وهو العمل وأبقى المشبه به وهو الحرث للدلالة على نتائج الأعمال وثمراتها وشبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، والظالمين مفعول به ومشفقين حال لأن الرؤية بصرية ومما متعلقان بمشفقين وجملة كسبوا صلة والواو حالية وهو مبتدأ وواقع خبر وبهم متعلقان بواقع والجملة حال ثانية والضمير يعود على الكسب أو الإشفاق (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وفي روضات الجنات خبر (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم ويجوز أن يكون ظرفا ليشاءون، ومنع الزمخشري الثاني وذلك متبدأ وهو مبتدأ ثان والفضل خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول والكبير نعت ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اسم الإشارة مبتدأ والذين خبره وجملة يبشر الله عباده صلة والعائد محذوف أي يبشر به عباده والذين آمنوا نعت وعملوا الصالحات عطف على آمنوا (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قل فعل أمر وفاعله مستتر أي قل جوابا لأولئك الذين تحاوروا فيما بينهم: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ ولا نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعليه حال وأجرا مفعول به ثان وإلا المودّة يجوز أن يكون استثناء متصلا أي لا أسألكم أجرا إلا هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعا أي لا أسألكم أجرا قطّ ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم، وفي القربى متعلقان بمحذوف حال أي ثابتة في القربى والقربى مصدر كالزلفى والبشرى وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويقترف فعل مضارع فعل الشرط وحسنة مفعول به أي ومن يكتسب حسنة وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف لعياله كسبا من باب ضرب ونزد جواب الشرط وله متعلقان بنزد وفيها حال وحسنا مفعول به وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية.
البلاغة:
في قوله «إلا المودّة في القربى» مجاز مرسل علاقة المحلية ولذلك لم يقل إلا مودّة القربى أو إلا المودّة للقربى، فقد جعلوا مكانا للمودّة ومقرا لها كقولك لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى شديد تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وقد اختلف في هذه الآية اختلافا كثيرا يرجع إليه في المطولات وأحسن ما قرأناه في صددها ما ذكره مجاهد وقتادة وخلاصته: والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أم حرف عطف وهي منقطعة بمعنى بل ويقولون فعل مضارع مرفوع وجملة افترى مقول القول وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الفاء استئنافية أو عاطفة وإن شرطية ويشأ فعل الشرط والله فاعل ويختم جواب الشرط وعلى قلبك متعلقان بيختم وقد اختلف في معنى الختم فقال الزمخشري: «فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل ما لهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم» وهذا كلام جميل فيه نفح من البلاغة مسكر وقال الجلال «فإن يشإ الله يختم: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم بهذا القول وغيره وقد فعل فمشيئة الختم هنا مقطوع بوقوعها» وهذا كلام جميل أيضا وارد في هذا المقام (وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه تعالى يمحو لباطل مطلقا وقد سقطت الواو لفظا لالتقاء الساكنين وسقطت في بعض المصاحف خطأ حملا له على اللفظ، ويمحو الله الباطل فعل مضارع وفاعل ومفعول به ويحقّ الحق عطف على يمحو الله الباطل وبكلماته متعلقان بيحق وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان قبول التوبة إذا استوفت شروطها الثلاثة إذا كانت المعصية بين العبد وربه وهي: ١- الإقلاع عن المعصية ٢- الندامة على فعلها ٣- العزم على عدم العودة إليها أبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي أضيف إليها شرط رابع وهو ٤- أن يبرأ من
الفوائد:
التوبة وكلمة سيدنا علي: روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان
وأخرج الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كلّ عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله، وسوء عمله وإنما الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عزّ وجلّ فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره».
ومعنى الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها، وهذا على سبيل التقريب والتفهيم إلى أن النعيم والعذاب مدرك بسرعة وبعد خروج الروح يرى المؤمن الطائع ثوابه، والعاصي عقابه، فالعاقل من تاب إلى الله وأسرع في الطاعة وجد في العبادة ولا يعلم انتهاء العمر إلا الله، فالنبي يرغّب المؤمن في التوبة رجاء إدراك رحمة الله وثوابه ويبغضه بالقنوط وينفره من الكبر والغرور كما قال تعالى: «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور».
ومن يجد الطريق إلى المعالي | فلا يذر المطي بلا سنام |
ولم أر في عيوب الناس عيبا | كنقص القادرين على التمام |
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
الإعراب:
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن بسط الرزق مفسدة للخلق، ولو شرطية وبسط الله الرزق فعل وفاعل ومفعول به ولعباده متعلقان ببسط واللام واقعة في جواب لو وجملة بغوا في الأرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسيأتي بحث في معنى لو هنا وانتفاء البغي مع وجوده في باب الفوائد (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل وينزل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وبقدر
البلاغة:
١- صحة التفسير في قوله «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا» الآية فن صحة التفسير وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه إما أن يكون مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه، أو محتملا يحتاج المراد منه إلى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه، ووقوع التفسير يأتي في الكلام على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور كما في هذه الآية وقد جاءت صحة التفسير فيها مؤذنة بمجيء الرجاء بعد اليأس والفرج بعد الشدّة والمسرّة بعد الحزن ليكون ذلك أحلى موقعا في القلوب.
٢- نسبة الشيء إلى الكل والمراد البعض في قوله «وما بثّ فيهما من دابة» نسبة الشيء إلى جميع المذكور والمراد إلى بعضه كقوله تعالى «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» وإنما يخرج من الملح، وقد ورد اختصاص الأرض بالدابة في موضع آخر قال تعالى: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار» ثم قال «وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة» فخصّ هذا الأمر بالأرض.
الفوائد:
١- تقدّم في هذا الكتاب الكثير من مباحث «لو» وفي قوله «ولو
«فإن قلت: قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض ومنهم مبسوط لهم ومنه مقبوض عنهم فإن كان المبسوط لهم يبغون فلم بسط لهم وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط فلم شرطه؟ قلت: لا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عمّ البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن».
٢- هل تدخل إذا على المضارع؟ يجوز دخول إذا على المضارع كما تدخل على الماضي قال الله تعالى «والليل إذا يغشى» ومنه «إذا يشاء» وقول الشاعر:
وإذا ما أشاء أبعث منها | آخر الليل ناشطا مذعورا |
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
(الْجَوارِ) السفن وهي بحذف الياء في الخط لأنها من ياءات الزوائد وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كلّ من الوصل والوقف وقد قرىء بها جميعها، قال أبو حيان: «جمع جارية وهي صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل» وقال الشهاب الحلبي: فإن قلت الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفيها امتنع حذف الموصوف، لا تقول: مررت بماش لأن المشي عامّ وتقول مررت بمهندس وكاتب، والجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف وهو السفن فلا يجوز حذفه والجواب أن محل الامتناع إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد بأن تغلب عليها الاسمية كالأبطح والأبرق وإلا جاز حذف الموصوف.
(الأعلام) الجبال جمع علم قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به | كأنه علم في رأسه نار |
(رَواكِدَ) ثوابت لا تجري يقال ركد الماء ركودا من باب قعد سكن وكذلك الريح والسفينة والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد وركد الميزان: استوى وركد القوم: هدءوا.
(يُوبِقْهُنَّ) يهلكهنّ يقال وبق يبق مثل وعد يعد ووبق يبق من باب تعب يتعب وبقا بسكون الباء ووبق يوبق وبقا بفتح الباء ووبوقا وموبقا
الإعراب:
(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) من آياته خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة خطا ولفظا أو خطا فقط وفي البحر حال وكالأعلام حال أيضا وقد تقدم في باب اللغة أن الجوار غلبت عليها الاسمية وعبارة أبي البقاء «الجوار مبتدأ أو فاعل ارتفع بالجار وفي البحر حال منه والعامل فيه الاستقرار ويجوز أن يتعلق بالجوار وكالأعلام على الوجه الأول حال ثانية وعلى الوجه الثاني هي حال من الضمير في الجوار» (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على الله تعالى ويسكن جواب الشرط والريح مفعول به والفاء عاطفة ويظللن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم عطف على يسكن الريح وهو بفتح اللام لأن الماضي بكسرها تقول ظللت قائما ونون النسوة اسم يظللن لأنه فعل ناقص ورواكد خبرها وعلى ظهره متعلقان برواكد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولكل نعت لآيات وصبّار مضاف إليه وشكور نعت لصبّار (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أو حرف عطف ويوقهنّ عطف على يسكن أي يفرقهنّ بعصف الريح عليهن، قال الزمخشري: «فإن قلت علام عطف يوبقهنّ؟ قلت على يسكن لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيفرقنّ بعصفها» أو بطروء خلل على أجهزتها، وبما متعلقان بيوبقهنّ ويجوز في ما أن تكون موصولة أو مصدرية والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الذنوب ويعف عطف على يسكن أيضا
وعلى أنه اسم ما وجملة النفي سدّت مسدّ مفعولي يعلم المعلقة بالنفي عن العمل.
البلاغة:
الريح بين الإفراد والجمع تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أن الريح لم ترد مفردة في القرآن إلا عذابا، وقد حاول بعضهم أن يخرم هذا الإطلاق فقال إن قوله تعالى: «إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره» يخرم هذا الإطلاق لأن الريح المذكورة نعمة. قلت: وهذا فهم خاطئ بل إنه على العكس يؤكد سريان هذه القاعدة على إطلاقها لأنه صدّرها بإن الشرطية فأفهم ذلك أن الأصل في الريح المفردة العذاب وأنه إذا أراد الخروج بها عن إطلاقها قيدها بإن الشرطية حتى إذا تمّ ذلك أعاد الضمير عليها مجموعا فقال فيظللن رواكد أي الرياح، وقد أيد الحديث الشريف ما ذهبنا إليه من الإطلاق فقال: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)الإعراب:
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء استئنافية وما شرطية في محل نصب مفعول به ثان مقدّم لأوتيتم والأول هو ضمير المخاطبين وهو نائب الفاعل ومن شيء بيان ل «ما» في محل نصب حال فمتاع: الفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف أي فهو متاع الحياة الدنيا (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
الواو عاطفة وما موصولة في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة لما وخير خبر ما وأبقى وعطف على خير وللذين آمنوا متعلقان بأبقى وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون وجملة يتوكلون عطف على آمنوا داخلة في حيز الصلة (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والذين عطف على قوله للذين وجملة يجتنبون صلة وكبائر الإثم مفعول به والفواحش عطف على كبائر (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بيغفرون وما زائدة وجملة غضبوا في محل جر بإضافة إذا إليها وهم مبتدأ وجملة يغفرون خبرهم والجملة بأسرها عطف على جملة يجتنبون داخلة في حيز الصلة
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الواو عاطفة وجزاء سيئة مبتدأ وسيئة خبر ومثلها نعت لسيئة وسيأتي معنى هذا الكلام وأسراره في باب البلاغة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وعفا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأصلح عطف على عفا والفاء رابطة وأجره مبتدأ وعلى الله خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة إنه لا يحب الظالمين تعليل وإن واسمها وجملة لا يحب الظالمين خبرها (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة واللام للابتداء ومن اسم شرط جازم مبتدأ وانتصر مثل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعد ظلمه الظرف متعلق بانتصر وظلمه مضاف إليه والهاء مضافة إلى المصدر والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله وتؤيده قراءة من قرأ من بعد ما ظلم بالبناء للمجهول والفاء رابطة للجواب وأولئك مبتدأ وما نافية وعليهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا والجملة خبر اسم الإشارة وجملة الإشارة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ وهو من (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) إنما كافّة ومكفوفة والسبيل مبتدأ وعلى الذين خبره وجملة يظلمون الناس صلة (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ويبغون عطف على يظلمون وفي الأرض متعلقان بيبغون وبغير الحق حال وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم. وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت والجملة خبر أولئك وجملة الإشارة نصب على الحال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدد به عهدا، نعم في الكلام حذف الفاء من قوله إن ذلك وهو جواب الشرط
البلاغة:
١- جناس المزاوجة: في قوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» جناس المزاوجة اللفظي فإن السيئة الثانية ليست بسيئة وإنما هي مجازاة عن السيئة، سميت باسمها لقصد المزاوجة، ومثله في البقرة قوله تعالى «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فقد تقدم القول هناك أنه تعالى سمى جزاء الاعتداء اعتداء ليكون في نظم الكلام مزاوجة وبعضهم يعبّر عنها بالمشاكلة وبعض المحققين لا يجعله من ذلك الباب بل يقول: إن غرضه تعالى أن السيئة ينبغي أن تقابل بالعفو والصفح عنها فإن عدل عن ذلك إلى الجزاء كان ذلك سيئة مثل تلك السيئة وهذا الكلام لا يخلو من نفحة صوفية روحانية.
٢- التهذيب: وفي هذه الآية فن التهذيب أيضا فإنها سلمت من المحذور الذي يقتضي تهذيبها، وتفصيل ذلك أنه عند ما يسند الفعل إلى الله تعالى ينبغي العدول عن إسناد الإساءة إليه كما في قوله «يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» فإن صحة المقابلة في هذا النظم أن يقال ليجزي الذين أساءوا بالإساءة حتى تصحّ مقابلته بقوله «ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» لكن منع من ذلك التزام الأدب مع الله سبحانه في إسناد فعل الإساءة إليه أو الآية التي نحن بصددها فقد أمن فيها ذلك المحذور فأتى النظم على مقتضى البلاغة من مجيء تجنيس الازدواج فيه على وجهه من غير تغير إذ لا ضرورة تدعو إلى تغييره.
وفي قوله «فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين»
الفوائد:
حذف الفاء الرابطة: قد تحذف الفاء الرابطة في الندرة كقوله ﷺ لأبيّ بن كعب لما سأله عن اللقطة: فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها، أخرجه البخاري، أو في الضرورة كقول حسان بن ثابت:
من يفعل الحسنات الله يشكرها | والشر بالشرّ عند الله مثلان |
ومن لا يزل ينقاد للغي والصبا | سيلفى على طول السلامة نادما |
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)الإعراب:
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ويضلل فعل الشرط والله فاعله والفاء رابطة وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر ومن بعده صفة لولي (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) تقدم أن الخطاب عام شامل لكل من تتأتى له الرؤية. وترى فعل مضارع مرفوع والرؤية بصرية والظالمين مفعول به ولما حينية أو رابطة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة يقولون حالية وهل حرف استفهام وإلى مرد أي مرجع متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) وتراهم عطف على ترى وجملة يعرضون حالية لأن الرؤية بصرية كما تقدم والواو نائب فاعل وعليها متعلقان بيعرضون
«وطرف بصره من باب ضرب إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة يقال أسرع من طرفة عين» وسيأتي مزيد من بحث هذا التصوير المجسّد البارع في باب البلاغة (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو حرف عطف وقال الذين آمنوا فعل وفاعل وصلة وإن واسمها والذين خبرها وخسروا أنفسهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة وأهليهم عطف على أنفسهم ويوم القيامة ظرف متعلق بخسروا وأجاز الزمخشري أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) ألا أداة تنبيه وإن واسمها وفي عذاب خبرها ومقيم نعت والجملة من مقول قول الله تعالى ويحتمل أن يكون من كلامهم أيضا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور بمن لفظا في محل رفع على أنه اسم كان المؤخر وجملة ينصرونهم صفة لأولياء ومن دون الله حال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ليضلل ويضلل فعل الشرط والله فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والمراد بالسبيل هنا الطريق الموصل إلى الحق في الدنيا أو إلى الجنة في الآخرة.
في قوله «ينظرون من طرف خفي» تجسيد بارع وتصوير رائع لمن يقف أمام الموت الذي ينتظره والسيف مصلّت على رأسه يرأرىء بأجفانه ويحركها تحريكا ضعيفا خفيا يمكنه من مسارقة النظر فإن من ينظر إلى أمر مكروه يستهول أمره ويزوي ناظره عنه، بيد أنه لا يتمالك دون أن يرمق ما يكرهه وما يتوقع حدوثه رمقا سريعا.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
الإعراب:
(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) استجيبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولربكم متعلقان به أي أجيبوه بالتوحيد والعبادة ومن قبل متعلقان باستجيبوا أيضا وأن وما في حيزها مضافة إلى الظرف ويوم فاعل ولا نافية للجنس ومردّ اسمها المبني على الفتح وله خبرها ومن الله متعلقان بمرد لأنه مصدر ميمي والجملة صفة ليوم وأجاز بعضهم تعليق من الله بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يتاح لأحد ردّه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) ما نافية ولكم خبر مقدم، ومن ملجإ: من حرف جر زائد وملجإ
«والنكير: الإنكار أي ما لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم» وقال الزجاج: «معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها» (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الفاء استئنافية وإن شرطية وأعرضوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وعليهم متعلقان بحفيظا وحفيظا حال والمعنى وأرسلناك لتقسرهم على اتباع ما جئتهم، والأولى أن يكون جواب الشرط محذوفا والفاء عاطفة على الجواب المحذوف المقدّر بما يناسب المقام أي فلا تبتئس ولا تحاول اقتسارهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) إن نافية وعليك خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر. قيل هذا منسوخ بآيات الأمر بالجهاد (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أذقناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والإنسان مفعول به ومنّا حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة وتقدمت ورحمة مفعول به أي نعمة وجملة فرح بها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة الشرط خبر إن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) عطف على ما تقدم وإن شرطية وتصبهم فعل الشرط والضمير يعود على الإنسان
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٣]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
الإعراب:
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه سبحانه، والملك بالضم الاستيلاء على الشيء والتصرّف به
البلاغة:
قد تستوعب هذه الآيات ما يعدل الصحائف التي استغرقتها السورة بكاملها ولكننا سنوجز قدر الطاقة مع تفادي الإخلال: ففي قوله «يهب
هذا وهناك من الطباق ما لا يخفى مما تقدم بحثه كثيرا.
الفوائد:
١- قبل أن نورد لك قاعدة نحوية هامة نورد ما قاله أعلام المفسرين والنحاة في إعراب قوله «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا» الآية.
وإليك خلاصة ما قاله الزمخشري:
وما صحّ لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه:
١- إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام.
٣- وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة.
إلى أن يقول «ووحيا وأن يرسل مصدران واقعان موقع الحال لأن أن يرسل في معنى إرسالا ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: وعلى جنوبهم والتقدير: وما صحّ أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا» إلى أن يقول: «ومن جعل وحيا في معنى أن يوحي وعطف يرسل عليه على معنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي بأن يوحي أو بأن يرسل فعليه أن يقدر قوله أو من وراء حجاب تقديرا يطابقهما عليه نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وقرىء أو يرسل رسولا فيوحي بالرفع على أو هو يرسل أو بمعنى مرسلا عطف على وحيا في معنى موحيا».
أما عبارة السمين: «قرأ نافع يرسل برفع اللام وكذلك فيوحي فسكنت ياؤه والباقون بنصبها فأما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
١- أحدها أنه رفع على إضمار مبتدأ أي أو هو يرسل.
٢- والثاني أنه عطف على وحيا على أنه حال لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال إلا موحيا أو مرسلا.
٣- الثالث أن يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحيا في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدّر المعطوف عليه أو يرسل والتقدير إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا.
وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
٢- الثاني: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحيا ووحيا حال فتكون هنا أيضا حالا والتقدير إلا موحيا أو مرسلا.
٣- الثالث: أنه عطف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير إلا بأن يوحى إليه أو بأن يرسل، ذكره مكّي وأبو البقاء.
وقوله أو من وراء حجاب، العامة على الإفراد وابن أبي عبلة حجب جمعا وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره أو يكلمه من وراء حجاب، وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحيا أي إلا أن يوحي أو يكلمه، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يتعلق من بيكلمه الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا ثم قال:
من متعلقة بيكلمه لأنه ظرف والظرف يتسع فيه».
وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون معطوفا على أن يكلمه لأنه يصير معناه ما كان لبشر أن يكلمه الله ولا أن يرسل إليه رسولا وهذا فاسد».
٢- نصب الفعل المضارع جوازا: ينصب الفعل المضارع جوازا بأن مضمرة بعد أحرف خمسة وهي: اللام الجارّة إذا لم يسبقها كون ناقص ماض منفي ولم يقترن الفعل بلا فإن سبقت اللام بالكون
ولولا رجال من رزام أعزة | وآل سبيع أو أسوءك علقما |
ولبس عباءة وتقرّ عيني | أحبّ إليّ من لبس الشفوف |
لبيت تخفق الأرواح فيه | أحبّ إليّ من قصر منيف |
لولا توقع معتر فأرضيه | ما كنت أوثر أترابا على أتراب |
إني وقتلي سليكا ثم أعقله | كالثور يضرب لما عافت البقر |
أعطيت ديّته، ولأبي العلاء رأي طريف في الثور قال هو ثور الطحلب وهو الذي يعلو على الماء فيصدر البقر عنه فيضرب به صاحب البقر ليفحص عن الماء فيشربه قال: وسمّاه بالثور وذكره مع البقر ليلغز به على السامع، على أن هذا محض تكلّف والصواب الأول.