ﰡ
وفي قوله تعالى :﴿ تسرون إليهم بالمودة ﴾ وجهان :
أحدهما : تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة.
الثاني : تعلمونهم سراً بأحوال النبي ﷺ بمودة بينكم وبينهم.
أحدهما : سنة حسنة، قاله الكلبي.
الثاني : عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة.
﴿ في إبراهيم والذين معه ﴾ من المؤمنين.
﴿ إذ قالوا لقومهم ﴾ يعني من الكفار.
﴿ إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله ﴾ فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم.
ثم قال :﴿ كفرنا بكم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : كفرنا بما آمنتم به من الأوثان.
الثاني : بأفعالكم وكذبنا بها.
﴿ وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك... ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه، قاله قتادة.
الثاني : معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له، حكاه الكلبي.
﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا، قاله ابن عباس.
الثاني : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا، قاله مجاهد، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام.
أحدهما : أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، قاله ابن زيد.
الثاني : أنه إسلام أبي سفيان.
وفي مودته التي صارت منه قولان :
أحدهما : تزويج النبي ﷺ بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان، قاله مقاتل.
الثاني : أن النبي ﷺ استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، قاله الزهيري.
﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ﴾ الآية. فيهم أربعة أوجه :
أحدها : أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين، ثم نسخ بالقتال، قاله ابن زيد.
الثاني : أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء، قاله مقاتل.
الثالث : أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل، فأذن الله تعالى ببرهم، حكاه بعض المفسرين.
الرابع : ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله ﷺ وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني وتعدلوا فيهم، قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم، ولا تسرفوا في مباعدتهم.
الثاني : معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم، حكاه ابن عيسى.
ويحتمل ثالثاً : أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم، ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها.
والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي ﷺ هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا، ونرد عليك من جاءنا منك، فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان، فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها، واختلف فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله يزيد بن أبي حبيب.
الثاني : أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة، قاله مقاتل.
الثالث : أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهذا قول كثير من أهل العلم.
الرابع : أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي ﷺ من كتاب الهدنة في الحديبية، فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها، فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء، وطين الكتاب لم يجف، وهذه امرأتي فارددها عليّ، حكاه الكلبي.
فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى :﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ﴾ واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً :
فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان، وهذا يدل على أن للنبي ﷺ أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ.
وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله خروجهن عن العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم.
الثاني : أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم.
فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم، وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله ﷺ بامتحانهن.
واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا، وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.
الثالث : بما بينه الله في السورة من قوله تعالى :﴿ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات ﴾ فهذا معنى قوله :﴿ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ﴾ يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن.
﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان، والمرتدات محرمات على المسلمين.
ثم قال تعالى :﴿ وءاتوهم ما أنفقوا ﴾ يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن، وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان :
ثم قال تعالى :﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ﴾ يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين، أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن.
﴿ إذا ءاتيتموهن أجورهن ﴾ يعني مهورهن.
﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة.
الثاني : العقد، قاله الكلبي.
فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها، فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها.
فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال : لما نزلت هذه الآية طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك، وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام.
﴿ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ﴾ يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع.
ولا يجوز لمن بعد رسول الله ﷺ من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره.
﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ﴾ الآية. والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها.
وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم، قاله ابن عباس.
الثاني : من مال الفيء، قاله الزهري.
الثالث : من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر، وهو مروي عن الزهري أيضاً. وفي قوله تعالى :﴿ فعاقبتم ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو، قاله مجاهد والضحاك.
الثاني : معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي، قاله سفيان.
الثالث : عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين، قاله ابن بحر.
وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله ﷺ لهم بالحديبية، وقال عطاء بل حكمها ثابت.
واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جلس على الصفا [ ومعه عمر أسفل منه ] فأمره أن يبايع النساء، قاله مقاتل.
الثاني : أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته، أن تبايع النساء عنه، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة.
الثالث : أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، قاله عامر الشعبي.
وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعة النساء.
فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟
قيل : كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن، وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره.
﴿ ولا يسرقن ﴾ فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على النساء خيفة من رسول الله ﷺ لما صنعته بحمزة وأكلها كبده، فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول :﴿ لا يسرقن ﴾ والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان : ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله ﷺ وعرفها فقال :« أنت هند »؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف.
ثم قال :﴿ ولا يزنين ﴾ فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟
ثم قال :﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾ لأن العرب كانت تئد البنات، فقالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر، وأنت وهم أبصر.
وروى مقاتل أنها قالت : ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى.
﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السحر، قاله ابن بحر.
الثاني : المشي بالنميمة والسعي في الفساد.
والثالث : وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً، ومعنى ﴿ يفترينه بين أيديهن ﴾ ما أخذته لقيطاً، ﴿ وأرجلهن ﴾ ما ولدته من زنى، وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق.
ثم قال :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله، قاله ميمون بن مهران.
الثاني : ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي ﷺ ولا يعصينك في معروف قال : هو النوح.
الثالث : أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً، قاله أسيد بن أبي أسيد.
الرابع : أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به، قاله الكلبي.
فروي أن هنداً قالت عند ذلك : ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور.
أحدها : أنهم اليهود، قاله مقاتل.
الثاني : أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن مسعود.
الثالث : جميع الكفار، قاله مجاهد.
﴿ قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور، قاله ابن عباس.
الثاني : قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد.
الثالث : قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر.
الرابع : يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير.