تفسير سورة نوح

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة نوح من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مكيّة وهي تسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وثمان وعشرون آية.
أخبرني محمد بن القيّم قال : حدّثنا محمد بن محمد بن شاذه قال : حدّثنا أحمد بن محمد ابن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا سليم بن فتينة عن شعبة عن عاصم بن تهّدله عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح ).

سورة نوح
مكيّة وهي تسعمائة وتسعة وعشرون حرفا، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وثمان وعشرون آية.
أخبرني محمد بن القيّم قال: حدّثنا محمد بن محمد بن شاذة قال: حدّثنا أحمد بن محمد ابن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا سليم بن فتينة عن شعبة عن عاصم بن تهّدله عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح» [٣٧] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٢٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
(١) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ١٣٠.
43
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (من) صلة وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت فلا يهلككم بالعذاب إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نفارا وإدبارا عنه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلّا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ غطوا بها وجوههم لئلّا يروني ولا يسمعوا صوتي وَأَصَرُّوا على الكفر وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الدعوة وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي: أن عمر خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتّى رجع، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت، فقال عمر: لقد طلبت المطر لمحاويج السماء التي يستنزل منها المطر، ثمّ قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جارية، وذلك أن قوم نوح لما كذّبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فوعدهم الله إن آمنوا أن يرد عليهم.
وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئا إنّما اعتبرت فيه قول الله سبحانه حكاية عن نبيّه نوح (عليه السلام) إنّه قال لقومه:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً.
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. قال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة، سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون لله حقّ عظمته. منصور عن مجاهد: لا تبالون لله عظمته.
العوفي عن ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة. قتادة: لا ترجون لله عاقبة، ابن زيد: لا ترون لله طاعة. الكلبي: لا تخافون لله عظمة. ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثبكم على توقيركم إياه خير، الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. سعيد بن جبير أيضا:
لا يرجون لله ثوابا ولا يخافون عقابا، والرجاء من الأضداد يكون أملا وخوفا.
44
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً تارات ومرات حالا بعد حال، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، إلى تمام الخلقة أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً قال الحسن: يعني في السماء الدنيا. وهذا جائز في كلام العرب، كما يقال: أتيت بني تميم وأتاني بعضهم، ويقول: فلان متوار في دور بني فلان، وإنّما هو في دار واحدة. وقال مقاتل: هو معناه وجعل القمر معهن نورا لأهل الأرض، (في) بمعنى مع. وقال عبد الله بن محمد: وإن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وضوء الشمس ونور القمر منها وأقفيتها قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله سبحانه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مصباحا مضيئا.
وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تصلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا، فقال: إنّها في الصيف في السماء الرابعة وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً وكان حقّه إنباتا ولكنّه مصدر مخالف للصدر، وقال الخليل: مجازه: فنبتم نباتا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أمواتا وَيُخْرِجُكُمْ منها أحياء إِخْراجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مهادا يحملكم ويستركم أمواتا لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً طرقا مختلفة. قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وهم القادة والأشراف وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً عظيما يقال: كبر كبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد ونظيره في كلام العرب، أمر عجيب وعجاب وعجّاب، ورجل حسان وحسّان، وكمال وكمّال، وقرّاء للقاري ووضّاء للوضي، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي وبالحسن قلب المسلم القراء «١»
وقال آخر:
والمرء يلحقه بقيتان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء «٢»
وقرأ ابن محيص وعيسى: كبارا بالتخفيف، واختلفوا في معنى مكرهم.
فقال ابن عباس: قالوا قولا عظيما. الحسن: مكروا في دين الله وأهله مكرا عظيما.
الضحاك: افتروا على الله وكذّبوا رسله. وقيل: حرّشوا أسفلتهم على قتل نوح.
وَقالُوا لهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أهل المدينة بضم الواو، وغيرهم بفتحها «٣» وهما لغتان وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ قراءة العامة غير مجرى فيهما، قال أبو
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٣٠٦.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٣٠٧.
(٣) في المخطوط: بفتحه.
45
حاتم: لأنهما على بناء فعل مضارع وهما مع ذلك أعجميان. وقرأ الأعمش وأشهب العقيلي:
ولا يغوثا ويعوقا مصروفين وَنَسْراً.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن المرقان، قال: حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب، قال: كان لآدم (عليه السلام) خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا، فجاءهم الشيطان، فقال: هل لكم أن أصور لكم في قبلتكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: نكره أن يجعل في قبلتنا شيئا نصلي إليه، قال: فأجعله في مؤخّر المسجد. قالوا: نعم فصوره لهم من صفر ورصاص، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، قال: فنقصت الأشياء كما ينقصون اليوم وأقاموا على ذلك ما شاء الله، ثمّ تركوا عبادة الله سبحانه فأتاهم الشيطان فقال: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا: من نعبد؟ قال: هذه آلهتكم وآلهة آبائكم لا ترونها مصوّرة في مصلّاكم، قال: فعبدوها من دون الله عزّ وجل، حتّى بعث الله عزّ وجلّ نوحا فدعاهم إلى عبادة الله سبحانه، فقالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ إلى قوله سبحانه وتعالى: وَنَسْراً.
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح (عليهما السلام)، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
قال ابن عباس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم فيزعمون أنّهم بنو آدم دونكم وإنّما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطوفون «١» به، فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأوثان وطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فاتخذت قضاعة ودّا فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثه بنوه الأكابر فالأكابر حتّى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم، وأخذ أعلى وأنعم وهما من طيئ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثمّ إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بني الحرث بن كعب، وأما يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتّى صار إلى همدان، وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه، وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه «٢».
(١) في المخطوط: تطيفون.
(٢) راجع تفسير القرطبي: ١٨/ ٣٠٨.
46
وقال عطاء وقتادة والثمالي والمسيب: صارت أوثان قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع برهاط لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجوف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وأما اللات فلثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وخثعم ونصر وسعيد بن بكر، وأما مناة فكانت لقديد، وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة، وكان أساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.
وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير.
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بعبادتها وبسببها كثيرا من الناس نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «١» وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من خطاياهم «٢» و (ما) صلة وقرأ أبو عمرو خطاياهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً وقرأ أبو حيوة والأعمش: مما خطتهم على الواحد، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله سبحانه:
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال: يعني في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب.
أنشدنا أبو القيّم الحسن قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنبازي:
الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار
وَقالَ نُوحٌ قال مقاتل: نوح بالسريانية الساكن، وإنّما سمّي نوحا لأنّ الأرض سكنت إليه رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. أحدا يدور في الأرض فيذهب ويحيى، وهو فيعال من الدوران مثل القيام أصله قيوام وديّوار.
وقال القتيبي: أصله من الدار أي نازل دارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ قال ابن عباس: كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول: احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه.
وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يعني: من سيكفر ويفجر. قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنّما قال نوح (عليه السلام) هذا حين أخرج الله تعالى كلّ مؤمن
(١) سورة إبراهيم: ٣٦.
(٢) في المخطوط: خطياتهم.
47
أصلابهم وأرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: سبعين سنة وأخبر الله سبحانه وتعالى نوحا أنّهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم نوح، فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
وقال أبو العالية والحسن: لو أهلك أطفالهم معهم لكان عذابا من الله لهم، ولكن الله تعالى أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم، والدليل عليه قوله سبحانه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «١» وقد علمنا أن الأطفال لم يكذّبوا الرسل وإنّما وقع العذاب على المكذّبين.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً أي داري، وقال الضحاك: مسجدي، وقيل: سفينتي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ عامة وقال الكلبي: من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا ودمارا.
(١) سورة الفرقان: ٣٧.
48
Icon