تفسير سورة المزّمّل

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة المزمل مكية غير آية ﴿ إن ربك ﴾ حروفها ثمانمائة وثمانية وثمانون كلماتها مائتان وثمان وخمسون آياتها عشرون ).

(سورة المزمل)
(مكية غير آية إِنَّ رَبَّكَ حروفها ثمانمائة وثمانية وثمانون كلماتها مائتان وثمان وخمسون آياتها عشرون)
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ٢٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
القراآت:
أَوِ انْقُصْ بكسر الواو للساكنين: حمزة وعاصم وسهل. الآخرون: بضمها للإتباع ناشية بالياء: يزيد والشموني والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون.
بالهمزة وطأ بكسر الواو وسكون الطاء: ابن عامر وأبو عمرو. الآخرون: بالمد مصدر واطأت مواطأة ووطاء رب المشرق بالخفض على البدل من رَبِّكَ ابن عامر ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: بالرفع على المدح أي هورب. وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب فيهما: عاصم وحمزة وعلى وابن كثير وخلف.
الوقوف
الْمُزَّمِّلُ هـ لا إِلَّا قَلِيلًا هـ لا قَلِيلًا هـ لا تَرْتِيلًا هـ ثَقِيلًا هـ
376
قِيلًا هـ ط طَوِيلًا هـ ط تَبْتِيلًا هـ ط بالخفض لا يقف وَكِيلًا هـ جَمِيلًا هـ م قَلِيلًا هـ وَجَحِيماً هـ لا أَلِيماً هـ وقد قيل يوصل بناء على أن يوم ظرف لدينا والوقف أجوز لأن ثبوت إلا نكال لا يختص بذلك اليوم بل المراد ذكر يوم كذا أو يوم كذا ترون ما ترون. مَهِيلًا هـ رَسُولًا هـ وَبِيلًا هـ شِيباً هـ لا بناء على أن ما بعده صفة يوما بِهِ ط مَفْعُولًا هـ تَذْكِرَةٌ ج للشرط مع الفاء سَبِيلًا هـ مَعَكَ ط وَالنَّهارَ هـ الْقُرْآنِ ط مَرْضى لا للعطف مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لا لذلك فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج لطول الكلام والوصل أولى للتكرار فَاقْرَؤُا هـ مِنْهُ لا للعطف حَسَناً ط أَجْراً ط لاختلاف الجملتين اللَّهُ ط رَحِيمٌ هـ
التفسير:
الْمُزَّمِّلُ أصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها، فأدغم التاء في الزاء ونحوه المدثر في المثر والخطاب للنبي ﷺ بالإتفاق إلا أنهم اختلفوا في سببه.
فعن ابن عباس: أول ما جاءه جبرائيل عليه السلام خافه فظن أن به مسا من الجن فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زملوني فبينا هو كذلك إذ جاءه الملك وناداه يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
فهذه السورة على هذا القول من أوائل ما نزل من القرآن
قال الكلبي: إنما تزمل النبي ﷺ بثيابه ليتهيأ للصلاة فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه.
ومثله
عن عائشة وقد سئلت عن تزمله فقالت: إنه ﷺ كان تزمل مرطا سداه شعر ولحمته وبر طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي.
وقيل: أنه ﷺ كان نائما بالليل متزملا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة لأنها فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل الموجب للاستثقال في النوم التشمر للعبادة،
وقال عكرمة: اشتقاقه من الزمل الحمل ومنه أزدمله أي احتمله، والمعنى يا أيها الذي احتمل أمرا عظيما يريد أعباء النبوة ويناسبه التكليف بعده بقيام الليل. قال ابن عباس: إنه كان فريضة عليه بناء على ظاهر الأمر ثم نسخ. وقيل: كان واجبا عليه وعلى أمته في صدر الإسلام فكانوا على ذلك سنة أو عشر سنين، ثم نسخ بالصلوات الخمس، قال جار الله: قوله نِصْفَهُ بدل من الليل وإِلَّا قَلِيلًا استثناء من النصف كأنه قال: قم أقل من نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف، خيره بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين: النقصان من النصف أو الزيادة عليه. وإن شئت جعلت نِصْفَهُ بدلا من قَلِيلًا لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل، ولأن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن العهدة إلا بزيادة شيء فيصير الواجب بالحقيقة نصفا فشيئا فيكون الباقي أقل منه، فكان تخييرا بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد
377
عليه، فلك أن تقول: على تقدير إبدال النصف من الليل إن الضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ راجع إلى الأقل من النصف فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص القليل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف إلى الثلث مثلا، وإن شئت على تقدير إبدال النصف من قَلِيلًا جعلت قَلِيلًا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قال: أو انقص منه قليلا نصفه ويجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع كأنه قيل: أو زد عليه أي على الربع قليلا نصفه وهو الثمن فيكون تخييرا بين النصف وحده والربع والثمن معا والربع وحده، هذا حاصل كلامه مع بعض الإيضاح. وأما في التفسير الكبير فقد اختار أن المراد بقوله قَلِيلًا الثلث لقوله تعالى في السورة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ ففيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين إلا أن النبي ﷺ ربما يتفق له خطأ بالاجتهاد أو النوم فينقص شيء منه إلى النصف أو إلى الثلث على قراءة الخفض. وليس هذا مما يقدح في العصمة لعسر هذا الضبط على البشر ولا سيما عند اشتغاله بالنوم ولذلك قال عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فيصير تقدير الآية. قم الثلثين ثم نصف الليل. أو انقص من النصف، أو زد عليه. والغرض التوسعة وأن أكثر الفرض هو الثلثان وأقله الثلث ليكون النقصان من النصف بقدر الزيادة. عن الكلبي قال: كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين. ثم علم أدب القراءة فقال وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وهو قراءة على تأن وتثبت ولا تحصل إلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ومنه «ثغر مرتل» إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، ومنه قال الليث: الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد كنور الأقحوان. سئلت عائشة عن قراءة النبي ﷺ فقالت: لا كسر دكم. هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. وفي قوله تَرْتِيلًا زيادة تأكيد في الإيجاب وأنه لا بد للقاريء منه لتقع قراءته عن حضور القلب وذكر المعاني فلا يكون كمن يعثر على كنز من الجواهر عن غفلة وعدم شعور. حين أمره بقيام الليل وبتدبر القرآن فيه وعده بقوله إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كأنه قال: صير نفسك بأنوار العبادة والتلاوة مستعدة لقبول الفيض الأعظم وهو القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة على نفوس البشر. وقيل: ثقله أنه كان إذا نزل عليه الوحي تربد جلده وارفض جبينه عرقا. ومنه قيل «برحاء الوحي». وقال الحسن: أراد ثقله في الميزان وقال أبو علي الفارسي: ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أستارهم وقال الفراء: كلام له وزن وموقع لأنه حكمة وبيان ليس بالسفساف وما لا يعبأ به. وقيل: باق على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن لا يزول عن حيزه. وقيل: يثقل إدراك معانيه وإحضارها. والفرق بين أقسامها من
378
المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والمؤل.
ثم عاد إلى حكمة الأمر بقيام الليل فقال إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ فيها قولان: أحدهما أنها ساعات الليل إما كلها لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد أخرى، وإما الساعات الأول ما بين المغرب والعشاء وهو قول زين العابدين وسعيد بن جبير والضحاك والكسائي وذلك أنها مبادئ نشوء الليل. والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في الليل. وعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال: هي النفس الناشئة بالليل أي التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت. ومنهم من قال: هي مصدر كالعاقبة أي قيام الليل.
ولا بد من سبق النوم لما روي عبيد بن عمير قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل أتقولين له قام ناشئة الليل؟ قالت: لا إنما الناشئة القيام بعد النوم. وقد فسرها بعض أهل المعنى بالواردات الروحانية والخواطر النورانية والانفعالات النفسانية للإبتهاج بعالم القدس وفراغ النفس من الشواغل الحسية التي تكون بالنهار. الوطاء والمواطأة الموافقة. قال الحسن:
يعني النفس أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب أو اللسان لانقطاع رؤية الخلائق، أو يواطيء فيها قلب القائم لسانه، إن أردت الساعات، أو القيام. ومن قرأ وطأ بغير فالمعنى أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ومنه قوله «اللهم أشدد وطأتك على مضر» وَأَقْوَمُ قِيلًا وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات وسكون الحركات فلا يكون بين القراءة وبين تفهم معانيها حائل ولا مشوش. قال في الكشاف: عن أنس إنه قرأ و «أصوب قيلا» فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي أَقْوَمُ فقال: إنهما واحد. قال ابن جني: وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ولا يلتفتون نحو الألفاظ. قال العلماء الراسخون: هذا النقل يوجب القدح في القرآن فالواجب أن يحمل النقل لو صح على أنه فسر أحد اللفظين بالآخر لا أنه زعم أن تغيير لفظ القرآن جائز. ثم أكد أمر قيام الليل بقوله إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال المبرد: أي تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تفرغ لخدمة الله إلا بالليل ومنه السابح لتقلبه بيديه ورجليه. وقال الزجاج: أراد أن ما فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه. وقيل: أن لك في النهار مجالا للنوم والاستراحة وللتصرف في الحوائج. ثم بين أن أشرف الأعمال عند قيام الليل ما هو فصله في شيئين ذكر اسم الرب والتبتل إليه وهو الانقطاع إلى الله بالكلية والتبتل القطع، الأول مقام السالك والثاني مقام المشاهد. فالأول كالأثر والثاني كالعين وإنما لم يقل وبتل نفسك إليه تبتيلا لأن المقصود بالذات هو التبتل فبين أولا ما هو المقصود ثم أشار أخيرا إلى سببه تأكيدا مع رعاية الفاصلة. ثم أشار إلى الباعث إلى التبتل فقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
379
لأن التكميل والإحسان موجب المحبة وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها والمحبة تقتضي الإقبال على المحبوب بالكلية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو إشارة إلى كماله تعالى في ذاته والكمال محبوب لذاته، وهذا منتهى مقامات الطالبين وإنه يستدعي رفع الإختيار من البين وتفويض الأمر بالكلية إلى المحبوب الحقيقي حتى أن المحبوب لو كان رضاه في عدم التبتل إليه رضي المحب بذلك، وإن كان رضاه في التبتل والتوجه نحوه فهو المطلوب لا من حيث إنه تبتل بل من حيث إنه مراد المحبوب الحق جل ذكره. وقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا كالنتيجة لما قبله، وفيه إن من لم يفوض كل الأمور إليه لم يكن راضيا بإلهيته معترفا بربوبيته، وفيه تسلية للنبي ﷺ أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين. ثم أمره بالصبر عند الاختلاط وبالهجر الجميل إذا أراد أن لا يخالطهم. والهجر الجميل أن يخالفهم بقلبه ويداريهم بالإغضاء وترك المكافآت ومن المفسرين من قال: إنه منسوخ بآية القتال وقد عرفت مرارا أنه لا ضرورة إلى التزام النسخ. في أمثال هذه الآية. ثم أمره بأن يخلي بينه وبين المكذبين أصحاب الترفه.
والنعمة بالفتح التنعم وهم صناديد قريش ولم يكن هناك منع ولكنه سبحانه أجرى الكلام على عادة المحاورات، والغرض أنه سبحانه يكفي في رفع شرور الكفرة ودفع إيذائهم ثم فصل ما سيعذب به أهل التكذيب مما يضاد تنعمهم. والإنكال جمع نكل بالكسر أو نكل بالضم وهي القيود الثقال. عن الشعبي: إذا ارتفعوا استلفت بهم. والطعام ذو الغصة هو الذي ينشب في الحلق كالزقوم والضريع فلا ينساغ، وقد يمكن حمل هذه الأمور على العقوبات الروحانية فالإنكال عبارة عن بقاء النفس في قيود العلائق الحسية والملكات الوهمية، والجحيم نيران الحسرة والحيرة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق الجلال والبقاء في ظلمة الضلال والتنوين في هذه الألفاظ للتعظيم أو النوع. ثم وصف اليوم فيه هذه الأحوال والأهوال فقال يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ الرجفة الزلزلة والكثيب الرمل المجتمع «فعلي» «بمعنى» «مفعول» من كثب الشيء جمعه. وقال الليث. الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به. وسمي الكثيب كثيبا لأن ترابه دقاق كأنه نثر بعضه على بعض لرخاوته، والمهيل السائل تراب مهيل ومهيول أي مصبوب وإنما لم يقل كثيبة مهيلة لأنها بأسرها تجتمع فتصير واحدا، أو المراد كل واحد منها، وحين خوف المكذبين بأهوال الآخرة خوفهم بأهوال الدنيا مثل ما جرى على الأمم السالفة لا سيما فرعون وجنوده. وإنما خصص قصة موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم الباقية ومعجزاته أبهر فكان تشبيه نبينا ﷺ بحاله أنسب. ومعنى شاهِداً عَلَيْكُمْ كما مر في قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] إنما عرّف الرسول ثانيا لأنه ينصرف إلى المعهود
380
السابق في الذكر والأخذ الوبيل الثقيل الغليظ ومنه الوابل للمطر العظيم. قال أبو زيد: هو الذي لا يستمر ألو خامته ومنه كلأمستوبل.
ثم عاد إلى توبيخهم مرة بعد أخرى قائلا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً وانتصب يَوْماً على أنه مفعول به ل تَتَّقُونَ أي كيف تحذرون ذلك اليوم لو كفرتم أي إن جحدتم يوم الجزاء فكيف تدعون تقوى الله وخوف عقابه؟ ويجوز أن يكون ظرفا ل تَتَّقُونَ أي فيكف لكم بالتقوى يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ ثم ذكر من هول ذلك اليوم شيئين: الأول أنه يجعل الولدان شيبا جمع أشيب نحو بيض جمع أبيض فقيل: إنه وصفه بالطول بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب. والأكثرون على أنه مثل في الشدة كما قيل «يوم يشيب نواصي الأطفال» والأصل فيه قول الحكماء إن الهموم والأحزان تسرع الشيب لإقتضائهما احتباس الروح إلى داخل القلب المستتبع لانطفاء الحرارة الغريزية المستعقب لفجاجة الأخلاط واستيلاء البلغم المتكرج. وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز. وجوزه بعضهم بناء على أن ذلك اليوم أمر غير داخل تحت التكليف وقد حكي أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية فقال: أرأيت القيامة والنار في المنام ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك وأصبحت كما ترون. الثاني قوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وإنما ذكر السماء لأن تأنيثه غير حقيقي، أو بتأويل السقف، أو بتأويل الشيء المنفطر أو ذات انفطار. والباء في بِهِ بمعنى «في» عند الفراء، أو للآلة نحو فطرت العود بالقدوم أي أنها تنفطر بسبب هول ذلك اليوم، أو تثقل به إثقالا يؤدي إلى انفطارها كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ١٨٧] كانَ وَعْدُهُ أي وعد الله وقيل وعد اليوم فيكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول إِنَّ هذِهِ الآيات المشتملة على التكاليف والتخاويف تَذْكِرَةٌ موعظة شافية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى قرب رَبِّهِ سَبِيلًا بالإتعاظ والادكار والتوسل بالطاعة والتجنب عن المعصية. قال المفسرون: إن النبي ﷺ وأصحابه شمروا بعد نزول أوائل السورة عن ساق الجد في شأن قيام الليل، وتركوا الرقاد حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم فلا جرم رحمهم ربهم وخفف عنهم قائلا إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أقل منهما. قال أهل المعاني والبيان: انما استعير الأدنى للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وَتقوم نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وهذا مطابق لما مر أو لأن التخيير بين النصف والناقص منه إلى الثلث وبين الزائد على النصف إلى الثلثين.
ومن قرأ بالجر فمعناه يقوم أقل من الثلثين وهو النصف، وأقل من النصف وهو ثلثه، وأقل من
381
الثلث وهو الربع وهو مطابق للوجه الآخر. وقوله وَطائِفَةٌ عطف على المستتر في تَقُومُ وجاز من غير تأكيد للفصل وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فلا يعرف ما مضى من كل منهما أي آن يفرض إلا هو. وهذا الحصر ينبيء عنه بناء الكلام على الاسم دون الفعل. ثم أكد المعنى المذكور بقوله عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لا يصح منكم ضبط أوقات الليل كما هي إلا أن تأخذوا بالأوسع الأحوط وذلك شاق عليكم فَتابَ عَلَيْكُمْ ما فرط منكم في مساهلة حصر الأوقات ورفع تبعته عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ الأكثرون على أن القراءة هاهنا عبارة عن الصلاة كما يعبر عنها بالقيام والركوع والسجود، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم بالليل فيكون هذا ناسخا للأول. ثم إنهما نسخا جميعا بالصلوات الخمس، أو نسخ هذا وحده بهن. وعن بعضهم أنها القراءة حقيقة.
وروي «من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ومن قرأ مائة آية أو خمسين كتب من القانتين» «١»
ثم بيّن الحكمة في النسخ فقال عَلِمَ وهو استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ. و «أن» في قوله أَنْ سَيَكُونُ مخففة من الثقيلة اسمها الشأن و «كان» تامة أي سيوجد مِنْكُمْ مَرْضى هي جمع مريض وَآخَرُونَ عطف عليه في الموضعين سوى الله سبحانه بين المسافرين للكسب الحلال والمجاهدين في سبيله فما أنصف من جانبه من العلماء مستنكفا عنه إلى طلب ما لم يجوز أخذ الأجرة عليه كالإمامة والقضاء والتدريس يرى أنه منصب من المناصب الدينية فيضيع دينه للذة خيالية لا اعتداد بها عند العقلاء. عن عبد الله بن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، وعن عبد الله ابن مسعود مرفوعا ظنا. أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء. وظاهر أن المرضى لا يمكنهم الإشتغال بالتجهد لمرضهم. وأما المسافرون والمجاهدون فمشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو اشتغلوا بالعبادة في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ من إعادة الأوّل تأكيدا للرخصة، عن ابن عباس: سقط عن أصحاب النبي قيام الليل وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أمر بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وهذا أيضا مما يغلب على الظن أن الآية مدنية. وقيل: هي زكاة الفطر. ثم أشار إلى صدقة التطوع بقوله وَأَقْرِضُوا اللَّهَ ويحتمل أن يعود هذا أيضا إلى الزكاة أي أقرضوا الله بإيتاء الزكاة، وفيه أن
(١) رواه أبو داود في كتاب رمضان باب ٩. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ٢٨، ٢٩، ٣٠.
382
إخراج الزكاة ينبغي أن يكون على أحسن وجه من مراعاة النية الخالصة والصرف إلى المستحقين وكونها من أطيب الأموال لا أقل من الوسط. ثم حث على الإنفاق مطلقا بقوله وَما تُقَدِّمُوا الآية وقوله هُوَ صيغة الفصل. وقوله خَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ ثم حرض على الاستغفار في جميع الأحوال وإن كان طاعات لما عسى أن يقع فيها تفريط وإليه المرجع والمآب.
383
Icon