تفسير سورة الإنسان

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (قد) ﴿ أَتَىٰ ﴾ أي فليست ﴿ هَلْ ﴾ للاستفهام لأنه محال عليه تعالى: وقيل إنها للاستفهام التقريري، والمعنى: أتقرون بأنه أتى على الإنسان حين من الدهر؟ وجوابه: نعم، فالمقصود إلزام الخصم المنكر للبعث أنه قال: القادر على إيجاد الإنسان من العدم، قادر على إعادته، وهو بهذا المعنى صحيح أيضاً، ففي الآية تقريران. قوله: ﴿ عَلَى ٱلإِنسَانِ ﴾ فسره هنا بآدم، وفيما يأتي بالجنس، وفيه أن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عيناً، إلا أن يجاب بأن القاعدة اغلبية، أو يقدر مضاف في قوله: ﴿ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ ﴾ أي ذريته، والإضافة تأتي لأدنى ملابسة. قوله: (أربعون سنة) أي مرت عليه قبل أن تنفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، روي أن آدم خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون فأقام أربعين سنة، ثم من صلصال، فأقام أربعين سنة، ثم خلقه مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح، إذا علمت ذلك، فقول المفسر أربعون سنة، أي باعتبار كونه طيناً، وإلا فقد مر عليه مائة وعشرون سنة، لم يكن شيئاً مذكور. إن قلت: إن مقتضى الآية تسمى إنساناً في حال كونه طيناً، مع أنه في ذلك الوقت لم يكن شيئاً مذكوراً. أجيب: بأن التسمية باعتبار ما آل إليه نظير﴿ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً ﴾[يوسف: ٣٦].
قوله: (أو المراد بالإنسان الجنس) أي الصادق بآدم وأولاده، وقوله: (وبالجن مدة الحمل) أي ما يشمل مدة الحمل بالنسبة للذرية، والمائة والعشرين بالنسبة لآدم، لأن الحين هو المدة المحدودة، كثيرة أو قليلة. قوله: ﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ هي في الأصل الماء في الوعاء، ويطلق على الماء الشافي قل أو كثر، سمي به مني الرجل والمرأة، ليسارتهما ووضعهما في الرحم. قوله: ﴿ أَمْشَاجٍ ﴾ جميع مشج بفتحتين، أو مشج بكسر فسكون، أو مشيج بفتح فكسر كشريف، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان، وكل منهما مختلف الأجزاء، متباين الأوصاف، في الرقة والثخن، فماء الرجل غليظ ابيض، وماء المرأة رقيق اصفر، فإيهما علا كان الشبه له، وإن سبق ماء الرجل، كان الولد ذكراً، وعكسه انثى، وإن استويا فخنثى مشكل، وقال ابن عباس: يختلط ماء الرجل بماء المرأة، فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة. قوله: (أخلاط) جمعه باعتبار تعدد الأوصاف في الماءين كما علمت. قوله: (أي مريدين ابتلاءه) جواب عما يقال: إن الابتلاء بمعى الاختبار بالتكليف، إنما يكون بعد جعله ﴿ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ لا قبله، فأجاب: بأنه حال مقدرة مؤولة بقوله: (مريدين ابتلاءه) وإرادة الابتلاء سبب لجعله سمعياً بصيراً. وجعله سميعاً بصيراً للابتلاء، بالفعل، فلم يكن في الآية تقديم ولا تأخير. قوله: ﴿ فَجَعَلْنَاهُ ﴾ (بسبب ذلك) أي بسبب إرادتنا ابتلاءه. قوله: ﴿ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ أي عظيم السمع والبصر، وخصهما بالذكر لأنهما انفع الحواس، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، ولأن البصر يعم البصيرة، وهي تتضمن الجميع، فيكون من ذكر العام بعد الخاص.
قوله: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ ﴾ تعليل لقوله: ﴿ نَّبْتَلِيهِ ﴾ والمراد بالهداية الدلالة. قوله: (يبعث الرسول) أي جنسه الصادق بآدم ويمن بعده من الرسل إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ لم يقل كافراً مشاكلة لشاكراً، إما مراعاة رؤوس الآي، أو لأن الشاكر قليل والكافر كثير، فعبر في جانب الكفر بصغية المبالغة. قوله: (من المفعول) أي وهو الهاء في ﴿ هَدَيْنَاهُ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ﴾ الخ لف ونشر مشوش، فهذه الآية راجعة لقوله: ﴿ وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ ﴾ الخ، راجع لقوله: ﴿ إِمَّا شَاكِراً ﴾.
قوله: ﴿ سَلاَسِلاَ ﴾ إما بمنع الصرف كمساجد، أو بالصرف لمناسبة قوله: ﴿ وَأَغْلاَلاً ﴾ فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَأَغْلاَلاً ﴾ (في أعناقهم) أي فتجمع أيديهم إلى أعناقهم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ ﴾ الخ، لما ذكر حال الكفار وجزاءهم في الآخرة، أتبعه بجزاء الشاكرين، وأطنب فيه ترغيباً لهم. قوله: (جمع بر) أي كرب وأرباب، وقوله: (أو بار) أي كشاهد وأشهاد. قوله: (وهم المطيعون) أي المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإن اقترفوا الذنوب، فكل من كان ليس مستوجباً للخلود في النار فهو من الأبرار، لذكرهم في مقابلة الفجار في قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾[الإنفطار: ١٣-١٤] وهذا تعريف لمطلق الأبرار، فلا ينافي قولهم البر هو الذي لا يؤذي الذر، أو الذي يؤدي حق الله ويوفي بالنذر، أو غير ذلك، فإنه تعريف للأبرار الكاملين كما هنا. قوله: (وهي فيه) أي فإن لم تكن فيه فهو إناء. قوله: (والمراد من خمر) دفع بذلك ما يقال: إن الضمير في قوله: ﴿ مِزَاجُهَا ﴾ عائد على الكأس، مع أن الكافور لا يمزج بالكأس بل بما فيه، فأجاب المفسر: بأن المراد بالكأس الخمر نفسه، من باب تسمية الحال باسم المحل. قوله: ﴿ كَافُوراً ﴾ إن قلت: إن الكافور غير لذيذ وشربه مضر، فما وجه مزج شرابهم به؟ أجيب: بأن المراد أنه كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرودته. قوله: (بدل من كافوراً) أي على حذف مضاف، أي ماء عين، لأن العين اسم لمنبع الماء، وهو لا يبدل من الماء، وما ذكره المفسر احد احتمالات في وجه نصب ﴿ عَيْناً ﴾ ويصح أن مفعول ﴿ يَشْرَبُونَ ﴾ قوله: ﴿ مِن كَأْسٍ ﴾ حال لأنه نعت نكرة قدم عليها، والأصل يشربون عيناً من كأس، أي خمر ممزوج بالكافور وهو أسهلها، قوله: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ ﴾ الجملة صفة لعيناً، وقوله: (ومنها) إشارة إلى أن الباء بمعنى من الابتدائية، أي يبتدئون الشرب من العين. قوله: (أولياؤه) أي وهم المؤمنون. قوله: (يقودونها) أي فهي سهلة لا تمتنع عليهم، ورد: أن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله على الأرض المستوية، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره.
قوله: ﴿ يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ ﴾ هذا بيان لأعمالهم التي استوجبوا بها هذا النعيم الدائم، والمراد بالنذر العهد أي يوفون بالعهد الذي أوجبه الله عليهم، أو الذي التزموه مع الله ومع عباده، من صلاة وزكاة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وغير ذلك. قوله: ﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً ﴾ أشار بذلك إلى أن حسن بواطنهم كظواهرهم. قوله: ﴿ كَانَ شَرُّهُ ﴾ أي شدائده، من تشقق السماوات، وتناثر الكواكب، وتكوير الشمس والقمر، وغير ذلك من الأهوال والشدائد التي تقع في ذلك اليوم. قوله: (منتشراً) أي وأما مستطيل باللام فمعناه الممتد، ومن هنا يقال: الفجر فجران، مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب، ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق. قوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ ﴾ الخ نزلت في علي بن أبي طالب وأهل بيته، وذلك أنه أجر نفسه ليلة ليسقي نخلاً بشيء من شعير، حتى أصبح وقبض الشعير، وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه يقال له الحريرة، فلما تم نضجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثم صنع الثلث الثاني، فلما تم نضجه أتى يتيم فأطعموه، ثم الثالث فلما تم نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. قوله: ﴿ عَلَىٰ حُبِّهِ ﴾ مصدر مضاف للمفعول، و ﴿ عَلَىٰ ﴾ بمعنى مع، أي مع حبه وشهوته، ففيه إيثار على النفس، ويصح رجوع الضمير لله، أي على حب الله، أي لوجهه وابتغاء رضوانه، والأول ابلغ في المدح. قوله: ﴿ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ خص الثلاثة لأنهم من العواجز المعدمين الكسب. قوله: (يعني المحبوس بحق) أي وأولى المحبوس بباطل. قوله: (فيه علة الإطعام) أي بيان سببه. قوله: (وهل تكلموا بذلك) أي ليطمئن الفقير بذلك، لأنه قد يقول في نفسه: إنه يطعمني ويريد أن يخدمني مثلاً. قوله: (قولان) رجح سعيد بن جبير ومجاهد الثاني. قوله: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا ﴾ أي فلذلك نطعمكم ولا نريد منكم جزاء، فهو تعليل لقوله: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ عَبُوساً ﴾ إسناد العبوس لليوم مجاز عقلي، والمراد أهله من إسناد الشيء إلى زمانه، كنهاره صائم. قوله: (في ذلك) أي العبوس.
قوله: ﴿ فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ ﴾ الفاء سببية، أي فسبب خوفهم، دفع الله عنهم شر ذلك اليوم وشدته، وذكر القرطبي في تذكرته حديثاً في بيان ما ينجي المؤمن من أهوال يوم القيامة، وهو ما روي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال:" إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بر والديه فرده عنه. ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله تعالى فخلصه من بينهم، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءت صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلاً من أمتي يهلث عطشاً، كلما ورد حوضاً منع منه، فجاءه صيامه فسقاه وأوراه. رأيت من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا، كلما دنا لحلقة طرد، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة وعن شماله ضلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، فهو متحير فيها، فجاءه حجة وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور. ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه، فإنه كان واصلاً للرحم، فكلموه وصافحوه. ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه. ورأيت رجلاً من أمتي قد اخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذاه من ايديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده وأدخله على الله. ورأيت رجلاً من أمتي قد اهوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله، فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه. ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه، فجاءته افراطه فثقلوا ميزانه. ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم، فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكاها من خشية الله في الدنيا، فاستخرجته من النار. ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاء حسن الظن بالله تعالى فسكن رعدته ومضى. ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط، يزحف احياناً ويحبو احياناً ويتعلق احياناً، فجاءته صلاته علي فأخذت بيده واقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى ابواب الجنة فاغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب كلها وأدخلته الجنة ".- قلت - هذا حديث عظيم، ذكر فيه أعمالاً خاصة تنجي من اهوال خاصة والله اعلم. وروى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من لقم أخاه لقمة حلوة، صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة ". قوله: ﴿ نَضْرَةً ﴾ أي بدل العبوس. قوله: ﴿ وَسُرُوراً ﴾ أي فرحاً في قلوبهم بدل الحزن. قوله: (بصبرهم عن المعصية) أي بترك فعلها، وكذا على الطاعة بفعلها، وعلى المعصية بالاسترجاع وعدم الشكوى. فأقسام الصبر ثلاثة، وإنما اقتصر المفسر على الصبر عن المعصية، لأن يستلزم القسمين الآخرين، فمن صبر عن المعصية، فقد أدام الطاعة ولم يشك مولاه. قوله: (حال من مرفوع ادخلوها) أي ويصح أن يكون حالاً من مفعول ﴿ جَزَاهُمْ ﴾.
قوله: (في الحجال) واحده حجلة بفتحتين، وهي المسماة بالناموسية. قوله: (حال ثانية) أي من المقدر المذكور، أو من المفعول. قوله: (أي لا حراً ولا برداً) أي فهي معتدلة الهواء. قوله: (وقيل الزمهرير القمر) أي لأجل مقابلة قوله: ﴿ شَمْساً ﴾.
قوله: (من غير شمس ولا قمر) أي بنور العرش، وهو أقوى من نور الشمس والقمر. قوله: (عطف على محل لا يرون) أي أو عطف على متكئين. قول: (شجرها) أشار بذلك إلى أن المراد بالظلال الشجر نفسه، فدفع بذلك ما يقال: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، ولا شمس في الجنة. قوله: ﴿ وَذُلِّلَتْ ﴾ عطف على ﴿ دَانِيَةً ﴾ وجعلت فعليه إشارة إلى أن التذليل متجدد، بخلاف التظليل فدائم، ولذا أتى فيه بجملة اسمية. قوله: (أدنيت ثمارها) أي سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لكل أحد.
قوله: ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ ﴾ الخ، هذا من جملة بيان وصف مشاربهم، وبنى الفعل للمجهول هنا، لأن المقصود بيان المطاف به لا بيان الطائف، وفاعل الطواف الولدان المذكوران بعد في قوله: ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ ﴾ ولما كان المقصود منها بيان وصف الطائف بناء للفاعل. قوله: ﴿ بِآنِيَةٍ ﴾ أصله أأنية بهمزتين، الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، أبدلت الثانية ألفاً، والجار والمجرور نائب الفاعل. قوله: ﴿ مِّن فِضَّةٍ ﴾ بيان للآنية. قوله: ﴿ وَأَكْوابٍ ﴾ عطف خاص على عام. قوله: (أقداح بلا عرى) أي فيسهل الشرب منه من كل موضع، فلا يحتاج لإدارته. قوله: ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ﴾ جمع قارورة، وهي ما أقر فيه الشراب ونحوه، من كل إناء رقيق صاف، وقيل: هو خاص بالزجاج، وكرر لفظ قوارير، توطئة للنعت بقوله من فضة، فجمعت صفاء الزجاج وبريقه، وبياض الفضة ولينها، قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، إذ الذي في الجنة أشرف وأعلى. وأعلم أن القراء السبعة في هاتين الكلمتين على خمس مراتب: إحداها تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف، الثانية عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة تنوين الأول والوقف عليه بالألف والثاني بدون تنوين ولا وقف عليه بالألف، الخامسة عدم تنوينهما معاً والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها، والتنوين للتناسب نظير ما تقدم في سلاسل، وعدم التنوين لمجيئه على صيغة منتهى الجموع. قوله: (على قدر ريّ الشاربين) أي شهوتهم، إذ لا عطش في الجنة، والريّ بكسر البراء وفتحها كفاية الشارب. قوله: (وذلك ألذ الشراب) أي لكونه لا يزيد على الحاجة فيستقذر الرائد، ولا ينقص فيحتاج إليه ثانياً، وهذا هو النعيم. قوله: (بدل من زنجبيلاً) أي ويصح أن يكون مفعول ﴿ يُسْقَوْنَ ﴾ وقوله: ﴿ كَأْساً ﴾ منصوب على نزع الخافض، أي من كأس كما تقدم نظيره. قوله: ﴿ تُسَمَّىٰ ﴾ أي تلك العين لسهول إساغتها ولذة طعمها. قوله: ﴿ سَلْسَبِيلاً ﴾ هو ما كان في غاية السلاسة، وهي سهولة الانحدار في الحلق، زيدت الباء في الكلمة حتى صارت خماسية، وقال مقاتل وابن حبان: سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش، من جنة عدن إلى أهل الجنان، قال البغوي: شراب الجنة في برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك من غير لذع. قوله: (يعني أن ماءها كالزنجبيل) أي فهو مماثل له في الاسم، فجميع ما في الجنة من الأشجار والقصور والمأكول والمشروب والملبوس والثمار، لا يشبه ما في الدنيا، إلا في مجرد الاسم، لكن الله تعالى، يرغب الناس بذكر أحسن شيء وألذه مما يعرفونه في الدنيا، لأجل أن يسعوا فيما يوصلهم إلى هذا النعيم المقيم. قوله: ﴿ وِلْدَانٌ ﴾ بكسر الواو باتفاق السبعة، وهم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين على التحقيق، وقيل: هم أولاد المؤمنين الصغار، ورد بأنهم يلحقون بآبائهم تأنساً وسروراً بهم، وقيل: هم أولاد الكفار. قوله: (لايشيبون) أي لعدم وجود الشعر لهم. قوله: (وهو أحسن منه في غير ذلك) جواب عما يقال: ما الحكمة في تشبيههم باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟ فأجاب: بأنه لحسنهم وانتشارهم في الخدمة، شبههم بالؤلؤ المنثور، قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ الخطاب للنبي أو لكل من يدخل الجنة. قوله: ﴿ رَأَيْتَ نَعِيماً ﴾ أي ما يتنعم به من مأكل ومشرب وملبس ومركب وغير ذلك. قوله: (واسعاً لا غاية له) أي لا في الطول ولا في العرض، لما في الحديث:" أدنى أهل الجنة منزلة، من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ومن الملك الكبير، تسليم الملائكة عليهم، ولبس التيجان على رؤوسهم، كما تكون على رؤوس الملوك، وأعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه كل يوم ". قوله: ﴿ عَالِيَهُمْ ﴾ بفتح الياء وضم الهاء، وقوله: (وفي قراءة) أي سبعية أيضاً. قوله: (وهو خبر المبتدأ بعده) أي وهو ثياب ويصح العكس، وهو كون ﴿ عَالِيَهُمْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ ثِيَابُ ﴾ خبره. قوله: ﴿ ثِيَابُ سُندُسٍ ﴾ الإضافة على معنى من، والسندس ما رق من الحرير. قوله: (عكس ما ذكر) أي وهو جر ﴿ خُضْرٌ ﴾ ورفع ﴿ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ فجر ﴿ خُضْرٌ ﴾ على الوصفية لسندس لأنه اسم جنس، ووصفه بالجمع جائر، ورفع ﴿ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ عطف على ﴿ ثِيَابُ ﴾ على حذف مضاف، أي وثياب إستبرق، فالقراءات أربع سبعيات: رفع ﴿ خُضْرٌ ﴾ و ﴿ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ وجرهما، ورفع الأول وجر الثاني وعكسه، وأما ﴿ سُندُسٍ ﴾ فمجرور لا غير، لإضافة ثياب إليه. قوله: ﴿ وَحُلُّوۤاْ ﴾ عبر بالماضي إشارة لتحقق وقوعه. قوله: (وفي موضع آخر) الخ، أي فقال في سورة الحج وفاطر﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾[الحج: ٢٣، فاطر: ٣٣] قوله: (للإيذان) أي للإعلام، وقوله: (معاً) أي فيجمع في يد أحدهم، سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ، وقوله: (ومفرقاً) أي فتارة يلبسون الذهب فقط، وتارة يلبسون الفضة فقط، وتارة يلبسون اللؤلؤ فقط، على حسب ما يشتهون. قوله: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ أسند الإسقاء لنفسه، إشارة لعلو منزلتهم ورفعه قدرهم، وإلى أن الشراب الطهور، ونوع آخر يفوق على ما تقدم. قوله: ﴿ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ أي من أقذار لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا. قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ الخ، أي يقال لهم ذلك بعد دخولهم. فيها ومشاهدتهم نعيمها، لمزيد الأنس والسرور. قوله: ﴿ مَّشْكُوراً ﴾ أي مقبولاً مرضياً.
قوله: (تأكيد لاسم إن) أي ويصح أن يعرب مبتدأ.
﴿ نَزَّلْنَا ﴾ خبره، والجملة خبر إن. قوله: (خبر إن) أي سواء جعلنا ﴿ نَحْنُ ﴾ تأكيداً أو فصلاً. قوله: (أي فصلناه) الخ، أي لحكمة بالغة، وهي كما في الفرقان﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾[الفرقان: ٣٢]﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾[الفرقان: ٣٣] والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، وأن ما أنزل عليه ليس بشعر ولا كهانة. قوله: ﴿ فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ مشى المفسر على أن المراد بالحكم التكليف بتبليغ الرسالة، وعليه فالآية محكمة، وقيل: إن المراد بالحكم القضاء. والمعنى: اصبر على أذى المشركين الذي حتمه الله في الأزل، فلا مفر لك منه حتى يفرج الله عنك، وعليه فالآية منسوخة. قوله: (أي عتبة بن ربيعة) الخ، أشار بذلك إلى أن المراد بالآثم عتبة، لأنه كان متعاطياً لأنواع الفسوق متظاهراً بها، وأن المراد بالكفور الوليد، فإنه كان متظاهراً بالكفر داعياً إليه، وبهذا ظهر التخصيص لكل، وإن كان كل منهما آثماً وكفوراً. قوله: (قالا للنبي ارجع) الخ، حاصله أنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال، فارجع عن هذا الأمر، فقال عتبة: أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك من غير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر، فنزلت الآية. قوله: (أي تطع أحدهما) الخ، أي والنهي عن طاعتهما معاً معلوم بالأولى، فأو أبلغ من الواو، لأنها لنفي الأحد الدائر. قوله: (في الصلاة) أشار بذلك إلى أن المراد بالذكر الصلاة، والمعنى: دم على الصلاة. قوله: (والظهر والعصر) إطلاق الأصيل على العصر ظاهر، وعلى الظهر باعتبار آخر وقتها، وإلا فالزوال وما يقرب منه لا يسمى أصيلاً. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱللَّيْلِ ﴾ ﴿ وَمِنَ ﴾ تبعيضية. والمعنى: صلّ له بعض الليل، وقوله: ﴿ فَٱسْجُدْ لَهُ ﴾ الفاء دالة على شرط مقدر تقديره: مهما يكن من شيء فصلّ من الليل الخ، وفيه زيادة حث على صلاة الليل.
قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ ﴾ الخ، علة لما قبله من النهي والأمر. والمعنى: لا تطلعهم واشتغل بما أمرك الله به من العبادة، لأن هؤلاء تركوا الآخرة واشتغلوا بالدنيا، فاترك أنت الدنيا واشتغل بالآخرة. قوله: ﴿ وَرَآءَهُمْ ﴾ حال من ﴿ يَوْماً ﴾ مقدم عليه، لأنه نعت نكرة قدم عليها، ووراء إما باق على معناه نظير فنبذوه وراء ظهورهم، كناية عن كونهم لا يعبأون به ولا يعملون له، أو مستعار لقدام. قوله: ﴿ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾ مفعول ﴿ وَيَذَرُونَ ﴾ ووصفه بالثقل مجاز، إذ الثقل من صفات الأعيان لا المعاني. قوله: (قوينا) ﴿ أَسْرَهُمْ ﴾ أي ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب. قوله: ﴿ أَمْثَالَهُمْ ﴾ مفعول أول، والثاني محذوف، بينه بقوله: (بدلاً منهم). قوله: (وقعت إذا) الخ، جواب عما يقال: إن ﴿ إِذَا ﴾ تفيد التحقيق، مع أنه تعالى لم يشأ ذلك فكان المقام، لأن التي تفيد الاحتمال، فأجاب بأنه استعمل ﴿ إِذَا ﴾ موضع إن مجازاً. قوله: (عظة للخلق) أي لأن في تدبرها وتذكرها، تنبيهاً للغالفين، وفوائد للطالبين المقبلين بكليتهم على الله تعالى. قوله: ﴿ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ ﴾ الخ، أي فالطريق واضح والحق ظاهر﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف: ٢٩] قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ منصوب على الظرفية والمعنى: إلا وقت مشيئة الله تعالى، ففيه تسلية بالرجوع إلى الحقيقة. قوله: (أوعد) وهذا المقدر يلاقي المذكور في المعنى، فهو على حد: زيداً مررت به.
Icon