تفسير سورة البينة

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة البينة من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ

الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستين
بالمصحف الكريم
أول ما تتحدث عنه سورة " البينة " هو التعريف بموقف الكافرين والمشركين من رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ذلك الموقف المضطرب المتناقض، فقد كان أهل الكتاب على أثارة من العلم بالرسول " الخاتم "، وكان المشركون يبررون ما هم عليه بعدم إرسال رسول إليهم مثل غيرهم، فلما جاءهم رسول من عند الله جحدوا الرسالة وكذبوا الرسول، وبدلا من أن يتدبروا ما جاء به من الآيات البينات، وينصرفوا عما هم عليه من فاسد المعتقدات، حسبما كان منتظرا، أصروا على ما هم فيه من الضلال، ولم ينفكوا عن المماحكة والجدال، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة١ ﴾.
وتعريفا " بالبينة " التي جاء بها الرسول، وتأكيدا لأن ما جاء به كله دلائل واضحة وبراهين ساطعة من المحسوس والمعقول، قال تعالى :﴿ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة٢ ﴾، أي : يقرأ عليكم صحفا منزهة عن كل المطاعن والشبهات، ﴿ فيها كتب قيمة٣ ﴾، أي : فيها آيات مكتوبة كلها ناطقة بالحق، مستقيمة لا عوج فيها، على غرار قوله تعالى في سورة ( الكهف : ١ ) :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا ﴾.
ثم خص كتاب الله بالذكر " أهل الكتاب " من اليهود والنصارى لعظم مسؤوليتهم، فقد كانوا على علم بظهور الرسول " الخاتم " والرسالة " الخاتمة "، وكانوا يبشرون المشركين ببعثته ورسالته، مبينا ما آل إليه أمرهم بعد ظهور الرسول والرسالة من الجحود والإنكار، والحسد والاستكبار، مما كان له أثر كبير على المشركين في التمسك بشركهم، اقتداء بتمسك الكافرين بكفرهم، فقال تعالى :﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءتهم البينة٤ ﴾، والمراد " بتفرقهم " تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، ومنهم من عرف الحق وعاند.
وانتقل كتاب الله إلى التذكير بمضمون الدعوة الإسلامية، والتعريف بجوهرها وفحواها، وأنها دعوة جامعة للناس أجمعين، إلى عبادة الله وحده، وإنفراده بالطاعة والعبودية، وأداء حقوق الله –وعلى رأسها إقامة الصلاة- وأداء حقوق العباد - وعلى رأسها إيتاء الزكاة- مع الإخلاص لله في القول والعمل، والابتعاد عن كل ما هو باطل وفاسد، نية واعتقادا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى، مذكرا أهل الكتاب بما أمروا به في الكتب المنزلة :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾، أي : لا يميلون إلى الباطل من قريب ولا من بعيد، ﴿ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ﴾، ثم قال تعالى منوها بدين الحق والمبادئ السامية التي يدعو إليها :﴿ وذلك دين القيمة٥ ﴾، أي : ذلك دين الملة المستقيمة، ودين الشريعة المستقيمة.
وتولى كتاب الله في هذا السياق التعريف " بخير الخلق "، والتعريف " بشر الخلق "، وما يكون عليه كلا الفريقين في الدنيا والآخرة من حق أو باطل، وسعادة أو شقاء، فقال تعالى واصفا لحال الأشرار في كل عصر :﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية٦ ﴾، أي : هم شرار الخلق، وقال تعالى واصفا لحال الأخيار في كل جيل :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية٧ ﴾، أي : هم خيار الخلق، ﴿ جزاءهم عند ربهم جنات عدن ﴾، أي : جنات استقرار وإقامة ودوام، ﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾، أي : مقيمين فيها باستمرار، ﴿ رضي الله عنهم ﴾، أي : حقق لهم جميع الأماني، ثم خلع عليهم رداء الرضوان الذي لا سخط بعده أبدا، ﴿ ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم ﴾ ( التوبة : ٧٢ )، ﴿ ورضوا عنه ﴾، أي : رضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وشكروا إحسان الله إليهم، ونعمه عليهم، ﴿ ذلك لمن خشي ربه ﴾، أي : إن هذا الجزاء الحسن إنما يناله من اتقى الله حق تقواه، وعبده كأنه يراه، وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه.
Icon