تفسير سورة الفاتحة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ
قوله: ﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ﴾ لم يتكلم الجلال المحلي ولا تلميذ عليها، ولعلمها اتكالا على شهوته، ونتكلم على شيء منها فنقول: ابتدأ كتابة تعالى بالبسملة، تعليماً لعباده الاقتداء بذلك، والإتيان بها في كل أمر ذي بال إشعاراً بأنها أم الفاتحة كما أن الفاتحة أم القرآن، كما أن القرآن أم لكتب السماوية، والله علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والرحمن المنعم بجلائل النعم، كماً وكيفاً دنيا وأخرى، والرحيم المنعم بدقائقها كذلك.- فائدة - روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب: باسمك اللهم حتى نزل وقال: اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها كتب بسم الله، فلما نزلت﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ ﴾[الإسراء: ١١٠] كتب: بسم الله الرحمن، فلما نزلت﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾[النمل: ٣٠] كتبها، وعن عبد الله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ ﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ﴾ ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كل واحد، وقد فسرها بعض العارفين على مقتضى الحروف فقال: إن كل حرف منها مفتاح كل اسم من اسمائه تعالى، مبدوء بذلك الحرف، فالباء مفتاح اسمه تعالى: بصير وباقي وبر، ونحن ذلك، والسين مفتاح اسمه تعالى: سميع سلام، والميم مفتاح اسمه ملك ونحوه، والألف مفتاح اسمه تعالى ونحوه، واللام مفتاح اسمه لطيف ونحوه، والهاء مفتاح اسمه هادي ونحوه، والراء مفتاح اسمه رزاق ونحوه، والحاء مفتاح اسمه حليم ونحوه، والنون مفتاح اسمه نافع ونحوه، فكأن المفتتح بها مفتتح بجميع أسمائه تعالى: قوله: (جملة) أي مركبة من مبتدأ وخبر، وقوله: (خبرية) أي لفظاً وهي إنشائية معنى بدليل قوله: (قصد الثناء) أي قصد بها إنشاء الثناء، قوله: (من أنه تعالى) الخ، بيان للمضمون، وفي ذلك إشارة إلى أن أل في الحمد جنسية، وهو الأولى من جعلها استغراقية أو عهدية، أما الأول فلأنه ليس في طاقة العبيد حصر أفراد الحمد، وأما الثاني فلقصوره كذا قال النحويون، واختار الصوفية أنها للعدد قائلين: إنه تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده، حمد نفسه بنفسه أو وضعه لهم يحمدونه به، وهذا المعنى هو المناسب للحمد الواقع في القرآن فتدبر. قوله: (ومستحق) الخ، أشار بذلك إلى أن اللام في ﴿ للَّهِ ﴾ للملك أو للاستحقاق. قوله: (والله علم على المعبود بحق) أي علم شخص عربي مرتجل جامد وهو الصحيح، ومعنى كونه علم شخص، أنه علم على ذات معينة مستجمعة لصفات الكمال، وقال الزمخشري: إنه اسم جنس صار علماً بالغلبة مشتق من أله كعبد وزناً ومعنى أو من أله بمعنى سكت، أو من وله بمعنى تحير ودهش أو طرب، أو من لاه بمعنى احتجب، أو ارتفع أو استنار، ومجموع الأقاويل هو المعبود للخواص والعوام، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المتحجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته الفخام، الذي سكنت إلى عبادته الأجسام، وولعت به نفوس الأنام، وطربت إليه قلوب الكرام.
قوله: ﴿ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ الرب يطلق على السيد والمالك والمعبود والثابت والمصلح، اقتصر المفسر على المالك لكونه المناسب للمقام، وجمع ﴿ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ جمع قلة من كثرتها جداً في الواقع تنبيهاً على أنهم وإن كثروا، فهم قليلون في جانب عظمته. تعالى. إن قلت: الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة. أجيب: بأنها متفقة من حيث إن كلاً منها علامة على موجدها. قوله: (يقال عالم الإنس) الخ، الإضافية بيانية أي عالم هو الإنس. قوله: (وغلب في جمعه) الخ، وقيل: لا تغليب، بل هو اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم بطريق التبع. قوله: (أولو العلم) أي لشرفهم. قوله: (وهو) أي العالم، وهو ما سوى الله تعالى علامة على موجده لأنه حادث، وكل حادث يحتاج إلى محدث. قوله: (أي ذي الرحمة) أشار بذلك إلى أن﴿ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ﴾[الفاتحة: ١] بنيا للمبالغة من رحم، والرحمة في الأصل رقة في القلب، تقتضي التفضل والإحسان، وهي بهذا المعنى مستحيلة في حقه تعالى، فتحمل على غايتها، لأن ما استحال على الله باعتبار مبدئة، وورد، يطلق ويراد منه لازمه وغايته. قوله: (وهي إرادة الخير) الخ، أشار بذلك إلى أنهما صفتا ذات، ويصح أن يكونا صفتي فعل، أي المتفضل المحسن، وفي الإتيان بـ﴿ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ﴾[الفاتحة: ١] عقب اتصافه بـ ﴿ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ ترغيب بعد ترهيب، فيكون أعون للعبد على الطاعة، وأمنع من المعصية.
قوله: ﴿ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ من الملك بضم الميم، هو عبارة عن السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، والغلبة التامة، والقدرة على التصرف الكلي بالأمر والنهي. قوله: (أي الجزاء) أي بالثواب للمؤمنين والعقاب للكافرين. قوله: (لا ملك ظاهراً فيه لأحد) أي وأما في الدنيا، ففيها الملك ظاهر لكثير منها الناس، فتحصل أن الوصف بالملكية ثابت أزلاً، وظهوره يكون يوم القيامة، لإقرار جميع الخلق به. قوله: (لمن الملك اليوم) الجار والمجرور خير مقدم و(الملك) مبتدأ مؤخر، و(اليوم) ظرف للمبتدأ، قوله: (لله) جواب منه تعالى عن السؤال. قوله: (ومن قرأ مالك) الخ، اعلم أن في لفظ ﴿ مَـٰلِكِ ﴾ قراءتين سبعيتين، الأولى بحذف الألف والوصف بها ظاهر، والثانية، بإثباتها وفيها إشكال، وهو أن (مالك) اسم فاعل، وإضافته لفظية لا تفيدة التعريف، فكيف توصف المعرفة بالنكرة؟ وأجاب المفسر: بأن محل كون إضافة اسم الفاعل لفظية إن لم يكن بمعنى الزمان المستمر، وإلا كانت إضافته حقيقة، والحاصل: أن اسم الفاعل، إن قصد به الحال والاستقبال فإضافته لفظية، وإن قصد به المضي أو الدوام، كما هو شأن أوصاف الله تعالى، فإضافته حقيقة، والتعويل على القرائن، واختلف في أي القراءتين أبلغ، فقيل: ﴿ مَـٰلِكِ ﴾ أعم وأبلغ من (مالك) إذ كل ملك مالك، ولا عكس، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه، حتى لا يتصرف المالك إلا عن تدبير الملك، وقيل: (مالك) أبلغ لما فيه من زيادة البناء، فتدل على كثرة الثواب.
قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ﴿ إِيَّاكَ ﴾ مفعول مقدم لـ ﴿ نَعْبُدُ ﴾ قدم لإفادة الحصر والاختصاص، و ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ معطوف علي ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، لأنك الحقيق بتلك الصفات العظام، والمعنى: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، فهذا ترقٍّ من البرهان إلى العيان، والغيبة إلى الحضور، فهو تعليم من الله تعالى لعباده كيفية الترقي، فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد، وهو رب الأرباب، عن قلب حاضر، يجد ذلك العبد من نفسه محركاً للإقبال عليه، وكلما أجرى على قلبه ولسانه صفة من تلك الصفات العظام، قوي ذلك المحرك، إلى أن يؤول ذلك الأمر لخاتمة تلك الصفات، فحينئذ يوجب ذلك المحرك لتناهيه في القوة، إقبال ذلك على العبد على ربه وخالقه المتصف بتلك الصفات، فانتقل من الغيبة لخطابه والتلذذ بمناجاته، فأول الكلام مبني على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه العظام، والنظر في آلائه والاستدلال يصنعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم بعد ذلك أتى بمنتهاه، وهو الخطاب والحضور المشعر بكونه في حضرة الشهود، وإلى هذا المعنى أشار بعض العارفين بقوله: تلك آثارنا تدل علينا   فانظروا بعدنا إلى الآثاروهو مقام الإحسان المشار له بقوله صلى الله عليه وسلم:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "واعلم أن ﴿ إِيَّاكَ ﴾ واجب الانفصال، واختلف فيه هل من قبيل الأسم الظاهر؟ وبه قال الزجاج أو هو ضمير؟ وعليه الجمهور، واختلف القائلون بأنه ضمير على أربعة أقوال، أحدها: أنه كله ضمير. الثاني أن إياه وحده ضمير وما بعده اسم مضاف إليه يفسر ما يراد به من تكلم وغيبة وخطاب. الثالث: أن إيا وحده ضمير، وما بعده حروف تفسير ما يراد منه وهو المشهور. الرابع: إن إيا عماد، وما بعده ضمير، والضمير المستكن في ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له والسائر الموحدين، أدرج عبادته في عباداتهم، وخلط حاجته بحاجاتهم، لعل عبادته تقبل ببركة عباداتهم، وحاجته يجاب إليها ببركة حاجاتهم، ومن هنا شرعت الجماعة في الصلوات، قال تعالى:﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾[المائدة: ٢] وقال صلى الله عليه وسلم:" يد الله مع الجماعة ". قوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ كرر الضمير للدلالة على تخصيصه تعالى بكل من العبادة والاستعانة والتلذذ بالمناجاة والخطاب، وقدم العبادة على الاستعانة لأنها وصلة لطلب الحاجة، فإذا أفرد العبد ربه بالعبادة أعانه، وحذف المعمول من كل ليؤذن بالعموم، فيتناول كل معبود به، وكل مستعان عليه، وأصل ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ نستعون، استثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها، فسكنت الواو بعد النقل، وانكسر ما قبلها فقبلت ياء، والقراء السبعية بفتح النون، وقرئ شذوذاً ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ بكسر حرف المضارعة، وهي لغة مطردة في حرف المضارعة، بشرط أن لا يكون ما بعد حرف المضارعة مضموماً، فإن ضم كتقوم امتنع كسر حرف المضارعة، لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وبشرط أن يكون المضارع من ماض مكسور العين نحو علم، أو في أوله همزة وصل نحو استعان، أو تاء مطاوعة نحو تعلم. قوله: (من توحيد) الخ، بيان للعبادة، وهو إشارة إلى العبادات الأصلية الاعتقادية، وقوله: (وغيره) إشارة إلى العبادات العملية، من صلاة وصوم وزكاة ونحو ذلك. قوله: (وبطلب المعونة) بالياء عطف على (بالعبادة) ولا يجوز أن يكون بالنون عطفاً على (نخصك) لخروجه عن إفادة التخصيص. قوله: (وغيرها) أي من مهمات الدنيا والآخرة.
قوله: ﴿ ٱهْدِنَا ﴾ أي زدنا هداية وأدمنا عليها، والهداية تطلق على الدلالة والتبيين وإن لم يحصل وصول نحو﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾[فصلت: ١٧] أي بينا لهم، وتطلق عليهما مع الوصول للخير وهو المراد هنا، ومادة الهداية تتعدى لمفعولين: الأول بنفسها، والثاني إما كذلك كما هنا، وإما باللام أو إلى، قال تعالى:﴿ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[الإسراء: ٩]﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[الشورى: ٥٢].
قوله: ﴿ ٱلصِّرَاطَ ﴾ هو في الأصل الطريق الحسي، والمراد به هنا دين الإسلام، ففيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الإسلام بالطريق الحسي، بجامع أن كلاً موصل للمقصود، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وأصل صراط بالصاد سراط بالسين، وبها قرأ قنبل حيث ورد: إبدلت صاداً لأجل حرف الاستعلاء، وقد تشم الصاد زاياً وبه قرأ خلف وكلها سبعي، لكن لم ترسم في المصحف إلا بالصاد و ﴿ ٱلصِّرَاطَ ﴾ يذكر ويؤنث، فالتذكير لغة تميم، والتأنيث لغة الحجاز، وجمعه صرط ككتاب وكتب. قوله: ﴿ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ اسم فاعل من استقام، أي استوى من غير اعوجاج، وأصله مستقوم أعل كإعلال ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾.
قوله: (ويبدل منه) أي بدل كل من كل، أتى به زيادة في مدح الصراط. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، بشرط أن يكون ذلك الغير من العقلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فرسه، ولا على حماره. قوله: (بالهداية) أشار بذلك إلى أن المراد بالمنعم عليها المؤمنون، وهو أحد أقوال للمفسرين، وقيل: هم المذكورون في قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ ﴾[النساء: ٦٩] وقيل: هم الأنبياء خاصة، وقيل: المراد بهم أصل فهدينا موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ، وحذف متعلق ﴿ أَنْعَمْتَ ﴾ ليؤذن بالعموم، فيشمل كل نعمة، ونعم الله تعالى لا تحصى باعتبار أفرادها، قال تعالى:﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم: ٣٤] وأما باعتبار جملتها فتحصى لأنها قسمان: دنيوية وأخروية. والأول: إما وهبي أو كسبي، والوهبي: إما روحاني كنفخ الروح والتزيين بالعقل والفهم والفكر والنطق، أو جسماني كتخلق البدن والقوى الحالة فيه والصحة وكمال الأعضاء، والكسبي كتزكية النفس وتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والفضائل. والثاني: وهو الأخروي، أنه يغفر ما فرط منه، وينزله أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الأبدين ودهر الداهرين. قوله: ﴿ عَلَيْهِم ﴾ لفظ ﴿ عَلَيْهِم ﴾ الأول في محل نصب على المفعولية، والثاني في محل رفع نائب ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ ﴾ وفيه عشر لغات، ست مرويات عن القراء الثلاثة، الأول منها سبعيات وهي: كسر الهاء وضمها مع إسكان الميم فيهما، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعد الضمة، وكسر الهاء والميم بياء بعد الكسرة للإشباع، وضم الهاء الميم بواو بعد الضمة وبدونها، وأربع لم يقرأ بها وهي: ضم الهاء مع كسر الميم وأدخال ياء بعدها، وضم الهاء وكسر الميم من غير ياء، وكسر الهاء مع ضم الميم، وكسر الهاء والميم من غير ياء. قوله: (ويبدل من الذين بصلته) أي بدل كل من كل، ولا يضر إبدال النكرة من المعرفة، وقيل: نعت لـ ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾.
واستشكل بأنه يلزم نعت المعرفة بالنكرة وهو لا يصح، لأن ﴿ غَيْرِ ﴾ متوغلة في الإبهام، لا تتعرف بالإضافة كمثل وشبه وشبيه. وأجيب بجوابين، الأول: أن ﴿ غَيْرِ ﴾ إنما تكون نكرة إذا لم تقع بين ضدين، فأما إذا وقعت بين ضدين، فتتعرف حينئذ بالإضافة تقول: عليك بالحركة غير السكون، والآية من هذا القبيل والثاني: أن الموصول أشبه النكرات في الإبهام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات، و ﴿ غَيْرِ ﴾ من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخال أل عليها خطأ، وقد يستثنى بها حملاً على إلا، كما يوصف بإلا حملاً عليها. قوله: ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ ﴾ بكسر الراء بدل كما قال المفسر، أو نعت وتقدم ما فيه، وهذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالنصب على الحال أو الاستثناء، والغضب ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه "فإذ وصف به الله تعالى، فالمراد به الانتقام أو إرادة الانتقام، فهو صفة فعل أو صفة ذات، وبنى الغضب للمجهول، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم، تعليماً لعباده الأدب، حيث أسند الخير لنفسه، وأبهم في الشر، نظير قوله تعالى:﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾[الكهف: ٧٩]،﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ﴾[الكهف: ٨٢]،﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾[الشعراء: ٨٠].
قوله: (وهم اليهود) أي لقوله تعالى فيهم﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾[المائدة: ٦٠] الآية، والحديث:" إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى ". قوله: (غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ لاَ ﴾ بمعنى غير فهي صفة، ظهر إعرابها فيما بعدها، ويؤيدها قراءة عمر بن الخطاب وإبي بن كعب، و(غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ يدل ﴿ لاَ ﴾ وأتى بلا ثانياً، لتأكيد معنى النفي المفهوم من ﴿ غَيْرِ ﴾ ولئلا يتوهم عطف ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ على ﴿ غَيْرِ ﴾ فيكون من وصف ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ والضلال يطلق على الخفاء والغيبة، ومنه قولهم: ضل الماء في اللبن، والهلاك ومنه قوله تعالى:﴿ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾[السجدة: ١٠] والنسيان ومنه قوله تعالى:﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ ﴾[البقرة: ٢٨٢] والعدول عن الطريق المستقيم وهو المراد هنا، وفي ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ مدان: مد لازم على الألف بعد الضاد وقبل اللام المشددة، وعارض على الياء قبل النون للوقف. قوله: (وهم النصارى) أي لقوله تعالى:﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾[المائدة: ٧٧].
قوله: (إفادة أن المهتدين) أي المذكورين بقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هو مصدوق ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و(غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ فمصدوق العبارات الثلاث هم المؤمنون، لكن استشكل بأن تفسير ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ بالفرق الأربعة المذكورة في سورة النساء، لا يشتمل بقية المؤمنين، وتفسير ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ باليهود والنصارى، لا يشتمل بقية طوائف الكفار، فمقتضى ذلك، أن بقية المؤمنين ليسوا ممن أنعم الله عليهم، وسائر طوائف الكفار خارجون من وصف الغضب والضلال، فالمبدل منه يخرجهم، والبدل يدخلهم في المبدل منه، والمخلص من هذا الإشكال، أن يفسر المنعم عليهم بجميع المؤمنين، كما درج عليه المفسر في قوله: ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ (الهداية) ويراد من ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ عموم الكفار اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إن قلت: ما فائدة الاتيان بـ ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ الخ، بعد قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أجيب: بأن الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، فقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ يوجب الرجاء الكامل، وقوله: ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ الخ، يوجب الخوف الكامل، فيتقوى الإيمان بالرجاء والخوف.- فائدة - لفظ آمين ليس من الفاتحة، بل ولا من القرآن قطعاً؛ بل يسن الإتيان بها القارئ الفاتحة، مفوصلة منها بسكتة ليتميز ما هو قرآن، عما ليس بقرآن، ولكل داع، وهي اسم فعل على الصحيح بمعنى استجب، مبني على الفتح، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى، والتقدير: يا آمين. ورد بوجهين: الأول: أنه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن يبنى على الضم، لأنه منادى مفرد معرفة. الثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهو من خصوصيات هذه الأمة، لم يعط لأحد قبلهم، إلا ما كان من موسى وهارون، لما ورد في الحديث:" إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم، السلام وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون "ومعناه: أن موسى دعا على فرعون، وأمن هارون، فقال الله تعالى عندما ذكر دعاء موسى: قد أجيبت دعوتكما، ولم يذكر مقالة هارون فسماه داعياً. وقال علي رضي الله عنه: آمين خاتم رب العالمين، ختم بها دعاء عباده. وفي الخبر:" أن آمين كالطابع الذي يطبع به على الكتاب ". وفي حديث آخر:" آمين درجة في الجنة ". قال أبو بكر: إنه حرف يكتب به لقائله درجة في الجنة، وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف، يخلق الله من كل حرف ملكاً يقول: اللهم أغفر لكل من قال آمين. قوله: (والله أعلم بالصواب) الخ، هذه العبارة من وضع تلامذة المحلي، لما عرفت أنه قد شرع في تفسير النصف الأول فكمل الفاتحة، وارتحل إلى رضوان الله تعالى، فيبعد أن يأتي بعبارة تشعر الانتهاء، والصواب ضد الخطأ و(المرجع) الرجوع، و(المآب) مرادف، وقوله: (وحسبنا الله) أي كافينا، وقوله: (ونعم الوكيل)، أي المفوض إليه الأمر.
Icon