تفسير سورة هود

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة هود
بين هذه السورة وسابقتها تشابه في مواضع كثيرة، حيث احتوت حكاية لأقوال ومواقف تعجيزية عديدة للكفار وردود عليها ومناقشة لها وإفحام لهم فيها.
وفيها سلسلة طويلة من قصص الأنبياء والأمم للتذكير بما كان من مواقف كفار الأمم السابقة من أنبيائهم وما صاروا إليه من سوء المصير وما صار المؤمنون منهم إليه من حسن العقبى والنجاة، تثبيتا وتطمينا للنبي ﷺ والمؤمنين وإنذارا للكفار، وفيها تذكير بحكمة الله في خلقه التي اقتضت أن لا يكونوا أمة واحدة.
وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت كسابقاتها، والتشابه بينها وبين السورة السابقة قد يكون قرينة على تتابعهما في النزول، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [١٢ و ١٧ و ١١٤] مدنيات، وانسجام الآيات في السياق والموضوع مع سابقاتها ولا حقاتها يسوغ الشك في صحة الرواية.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
. (١) ثم: هذا الحرف في هذه الآيات ليس للتراخي وإنما هو للعطف وبيان
501
الحال. وفي الآية الأولى بمعنى أن آيات الكتاب هي محكمة ومفصلة، وفي الآية الثالثة بمعنى استغفروا ربكم وتوبوا إليه.
(٢) تولوا: تتولوا.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء لاسترعاء الأسماع والأذهان لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها، وقد أعقب هذه الحروف:
١- ذكر الكتاب وتنويه بآياته المحكمة المفصلة الواضحة، وتوكيد بأنه أنزل من عند الله الحكيم الخبير أي الذي له في كل أمر حكمة والذي له الخبرة الشاملة بمقتضيات الأمور.
٢- وهتاف بالناس بأن الكتاب إنما أنزل على هذا الوجه لينبذوا عبادة غير الله، وتقرير عن لسان النبي ﷺ بأنه قد أرسل إليهم من الله بشيرا ونذيرا يبشرهم بما يكون لهم من حسن العاقبة إذا عبدوا الله وحده، وينذرهم بسوئها إذا هم أشركوا معه غيره.
٣- وهتاف للناس كذلك بأنهم مدعوون إلى طلب الغفران من ربهم عما بدا منهم من انحراف قبل نزول الكتاب وإعلان إنابتهم إليه. ووعد بأنهم إذا استجابوا نالوا رضوان الله ورحمته وبره فيسر لهم المتاع الحسن والحياة السعيدة في الأيام المعينة لهم في الدنيا، وجازى كل ذي فضل وعمل صالح بما يستحقه فضله وعمله. وإنذار موجه من النبي ﷺ بأنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة الهائل إذا تصامموا عن الدعوة، فإن مرجعهم إلى الله تعالى وهو قادر على إثابة المحسن ومعاقبة المسيء لأنه قادر على كل شيء.
قوة استهلال السورة
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات وهي على ما يلمح من الآيات الآتية مقدمة لذكر مواقف الكفار وحجاجهم. وهي في الوقت نفسه استهلال قوي ببيان مهمة الرسالة المحمدية وأهدافها والدعوة إليها. وفي الآية الثانية توكيد لما مرّ تقريره في السور السابقة وبخاصة في الآية [٩٩] من السورة السابقة بأن
502
الإيمان بالله وكسب رضائه ونيل غفرانه يضمن لصاحبه المتاع الحسن والحياة السعيدة في الدنيا فضلا عن حسن العاقبة في الآخرة.
تعليق على ما يبدو من كلام النبي ﷺ المباشر للناس
والآيات الثلاث الأخيرة كأنما هي موجهة من النبي ﷺ إلى الناس، والآية الثانية صريحة بذلك. وقد تكرر هذا الأسلوب أكثر من مرة، والمتبادر أن هذا على اعتبار أن النبي ﷺ هو الذي يخاطب الناس. وجملة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوفة على أَلَّا تَعْبُدُوا والعبارة تفيد أن كتاب الله قد أنزل داعيا إلى نبذ عبادة غير الله واستغفاره، وآمرا النبي ﷺ بالقول للناس إني لكم منه نذير وبشير. فليس في الآيات والحالة هذه أي إشكال. ومع ذلك فإن المؤولين والمفسرين يفرضون محذوفا وهو (قل) وهذا سديد متسق مع الحقيقة الإيمانية المقررة بأن جميع ما في القرآن وحي رباني وكلام الله. وهناك آيات كثيرة سبقتها كلمة (قل) ولولا ذلك لبدا ما فيها كأنما هو تقرير مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مرّت أمثلة لذلك في السور التي سبق تفسيرها ومن ذلك آيات عديدة في سورة يونس السابقة لهذه السورة مثل الآيات [١٥ و ١٦ و ٣١ و ٣٣ و ٣٤ و ٣٥ و ٣٨ و ٤١ و ٥٠ و ٥٢ و ٥٧ و ٥٨ و ١٠٣ و ١٠٥]. وفي سورة النمل مثال فيه توضيح أكثر. ففيها هذه الآيات:
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣) فالمتبادر أن كلمة (قل) في الآيتين الثانية والثالثة مقدرة واردة بالنسبة لما في الآية الأولى والشطر الأول من الآية الثانية من كلام يوهم أنه كلام النبي المباشر. وعلى كل حال ففي هذا الأسلوب صورة من صور الوحي والنظم القرآني كما هو المتبادر أيضا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
503
(١) يثنون صدورهم: يلوونها كما يفعل الذي يريد أن يخفي نفسه من غيره.
(٢) يستغشون ثيابهم: يضعون ثيابهم غشاء عليهم لمنع غيرهم من رؤيتهم.
لقد روى المفسرون عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أهل التأويل في الصدد الأول أقوالا عديدة في مدى الآية الأولى. منها أنها نزلت في حق الأخنس بن شريق الذي كان يظهر الود للنبي ﷺ وصدره مشحون بالبغضاء له. أو أنها نزلت في بعض المنافقين أو الكفار الذين كانوا يثنون صدورهم أو يستغشون بثيابهم إذا رأوا النبي ﷺ مقبلا حتى لا يراهم. ومنها أنها بسبيل الإشارة إلى عادة عند العرب وهي أنهم كانوا يستخفون من الله حينما يأتون منكرا أو أنهم كانوا يستحيون من الإفضاء بنظرهم إلى السماء فى حالة الجماع أو في حالة التخلي لقضاء الحاجة. وفي كتاب التفسير في صحيح البخاري حديث في القول الأخير جاء فيه: «إن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء أو يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت الآية» «١».
والروايتان الأوليان تقضيان بأن يكون ضمير (منه) عائد إلى النبي ﷺ في حين أن روحها ومضمونها وروح الآية ومضمونها معا يلهمان أن الضمير عائد إلى الله تعالى. وهذا يتسق مع الأقوال الأخرى ومنها الحديث الذي يرويه البخاري عن ابن عباس مع استبعادنا أن يكون ابن عباس قصد أن الآية نزلت خاصة في الأحوال المذكورة في الحديث وإنما قصد بيان عادة العرب فيها وقصد إشارة القرآن إليها.
ويتبادر لنا والحالة هذه أن الآيتين جاءتا معقبتين على ما سبقهما. فالآية السابقة لهما مباشرة تقرر أن مرجع الناس إلى الله تعالى وأنه قدير على كل شيء فجاءت الآيتان عقب ذلك تشيران إلى عادة كان العرب يجرون عليها بل تكاد تكون عادة
(١) التاج ج ٤ ص ١٣٠.
504
إنسانية عامة وهي محاولة التواري عن الأعين بليّ الصدور والاستغشاء بالثياب إذا ما باشروا عملا آثما أو مكروها. وتقرر أن عدم جدوى ذلك بالنسبة إلى الله تعالى لأن علمه الشامل وقدرته الكاملة محيطان بكل شيء من مكنونات الصدور وأعمال الناس في السر والعلن وبكل دابة على الأرض حيث يعلم سيرها ومقامها وحيث يتكفل برزقها أيضا. وذلك بسبيل حمل المخاطبين في الآيات السابقة على مقابلة دعوة الله التي يبلغها رسوله إليهم بالإقبال وعدم التهرب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧ الى ٨]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
. (١) أمة: هنا بمعنى أيام أو مدة.
(٢) ما يحبسه: ما الذي يمنعه.
معاني الآيتين واضحة، وهما معطوفتان على ما قبلهما واستمرار لهما على ما هو المتبادر، وضمائر الجمع المخاطب في الآية الأولى مماثلة لما في آيات السورة الأولى مما يسوغ القول إن الآيتين والآيتين اللتين قبلهما وآيات السورة الأولى جمعها سياق واحد متصل ببعضه.
ومن المحتمل أن يكون في الآيتين تسجيل لمشهد جدل بين النبي ﷺ وبعض الكفار، كما أن من المحتمل أن يكون ما احتوتاه حكاية عامة.
وقد تضمنت الآية الثانية حكاية قول جديد للكفار في صدد إنكار البعث الأخروي حيث قالوا إن هذا من باب السحر، والمتبادر أنهم كانوا يعنون بذلك
505
استحالة البعث حيث كانوا يعتقدون أن السحر تخييل وقوع ما لا يمكن وقوعه على ما شرحناه في سياق سورة المدثر.
وما جاء في الآية الثانية من تحدي الكفار واستهزائهم بسبب تأخر العذاب الموعود قد تكرر منهم كثيرا مما مرّت أمثلة عديدة منه في السور التي سبق تفسيرها حيث كان البعث والجزاء الأخرويان من أهمّ مواضيع الجدل والحجاج والتحدي بينهم وبين النبي ﷺ وقد ردت عليهم الآية ردا قويا مؤكدة ومنذرة ومتوعدة كما هو الشأن في سياق حكاية أقوالهم المماثلة.
تعليق على جملة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ
وفي الآية الأولى جديد وهو أن عرش الله كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، وقد ذكر هذا في الإصحاح الأول من سفر التكوين هكذا: (في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرف على وجه الماء). ولقد علقنا على مسألة خلق الله السموات والأرض في ستة أيام في سياق تفسير سورة القمر وعلقنا على مدى تعبير العرش في سياق تفسير سورة البروج بما يغني عن التكرار، والفقرة هنا بما فيها الجديد هي بسبيل تقرير أزلية الله سبحانه وعظمته وإبداعه للأكوان وما فيها وهيمنته الأزلية والبرهنة على قدرته على بعث الناس بعد الموت، فلا محل ولا طائل وراء البحث في الكيفيات والماهيات المتصلة بذات الله الذي ليس كمثله شيء على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة.
ولقد أورد المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رزين لقيط بن عامر قال: «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟
قال: في عماء ما تحته هواء أو ما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك»
«١». وحديثا
(١) هذا الحديث رواه الترمذي في سياق تفسير الآية أيضا بمغايرة يسيرة وهي جملة «وخلق عرشه على الماء» بدلا من جملة: «ثم خلق العرش بعد ذلك» انظر التاج ٤ ص ١٣٠- ١٣١ وفي تفسير ابن كثير أحاديث أخرى من باب ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه.
506
آخر جاء فيه: «إنّ جماعات من بني تميم سألوا النبي ﷺ عن أول هذا الأمر- أي الكون- كيف كان؟ فقال: كان الله قبل كلّ شيء وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كلّ شيء».
وفي الأحاديث ترديد لما احتوته الآية كما هو ظاهر. وما جاء في الثاني في صدد اللوح المحفوظ قد ذكرناه وعلقنا عليه في سياق سورة البروج بما يغني عن التكرار.
تعليق على جملة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
المتبادر أن في الجملة استطرادا هدف إلى تقرير حكمة الله في خلق الناس وهي اختبارهم في أعمالهم وإظهار من هو الأحسن عملا فيهم، وينطوي في هذا تقرير قابلية الناس للسير الحر والإرادة الحرة والاختيار بين الهدى والضلال والخير والشر ليكونوا قد استحقوا جزاء الله العادل على اختيارهم، وفي هذا أولا تذكير تنويهي بما اقتضته حكمة الله من تمييز الإنسان على سائر خلقه وثانيا إيقاظ لضمير الإنسان وجعله رقيبا على صاحبه وحفزه إلى الهدى والخير دون الضلال والشر، وقد تكرر هذا أكثر من مرة لما له من أثر وخطورة في أعمال البشر وواقع حياتهم، وقد انتهت السورة السابقة بتقرير ذلك أيضا على ما شرحناه.
ومما يتبادر من هذا التكرار أن حكمة التنزيل بالإضافة إلى حكمة الله تعالى في جعل يوم آخر يبعث فيه الناس ليجزوا على أعمالهم في الدنيا قد قصدت تنبيه الإنسان إلى أنه وقد وجد في الحياة مكلف بالاندماج فيها دون تساؤل لا طائل من ورائه. ومكلف بعمل أحسن العمل في حياته أي كل ما فيه الخير والبر والعدل والحق. وإلى أنه بذلك فقط يكون قد حقق حكمة الله في خلقه ووجوده وتمييزه عن سائر الخلق وأدرك معنى هذه الحكمة. وتسامى عن بقية المخلوقات الحية التي لم تشأ هذه الحكمة أن يتكامل فيها العقل وتكون موضع تكليف وخطاب إلى ما يتساوق مع المرتبة التي شاءت هذه الحكمة أن يكون فيها. وقد يكون مما انطوى
507
في الجملة جواب على الأسلوب الحكيم على ما قد يتساءل الناس عنه من حكمة خلقهم وخلق الأكوان وبداية ذلك ونهايته. فهذا التساؤل لا طائل من ورائه لأن ذلك من سر الله عز وجل والأولى بالإنسان أن لا يتساءله وأن ينصرف إلى ما يجب عليه من الأعمال الصالحة والتسابق فيها وأن يعتبر ذلك من حكمة الله تعالى في خلقه على الصورة التي خلقه عليها. والله أعلم.
ولقد توقف بعض المفسرين عند كلمة لِيَبْلُوَكُمْ لأن فيها معنى لا يتسق مع علم الله المحيط الأزلي الأبدي وخرجوها بأن ذلك على سبيل التمثيل والاستعارة والمجاز أو لتحقيق العلم الأزلي بالواقع العملي. أو ليمتاز صاحب العمل الحسن من صاحب العمل السيء وينال كل ما يستحقه حقا وعدلا. ومع وجاهة هذه التخريجات فالذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي لمخاطبة الناس وبيان حكمة الخلق ولتنبيه الناس بأنهم تحت اختبار الله ورقابته ليلتزموا حدود ما رسمه الله من أوامر ونواه. وليس فيها إشكال يتحمل التوقف. والله تعالى أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
. (١) النعماء: نعمة يظهر أثرها على صاحبها.
(٢) الضراء: ضرّ وأذى يظهر أثرهما على صاحبهما.
وفي الآيات إشارة تنديدية إلى خلق فاش في سواد الناس وهو أن المرء إذا ناله ضيق وعسر وضر بعد سعة ويسر ورخاء يئس وكفر، وإذا ناله خير بعد شر ورخاء بعد عسر فرح وبطر وظن أنه قد أمن حوادث الدهر ومفاجات الأيام. وقد استثنى المؤمنون الصابرون الذين يعملون الصالحات من التنديد وقرر لهم على صبرهم مغفرة الله وأجره الكبير.
والآيات قد جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها حيث انطوى فيها شرح حالة الكفار الذين كانوا السواد الأعظم من سامعي القرآن، والذين كانوا موضوع تنديد في الآيات السابقة بعد استثناء المؤمنين الصابرين الصالحين، وقد تكرر هذا في المناسبات المماثلة مما مرّ بعض أمثلته.
وواضح أن الآيتين الأوليين وهما تنددان بذلك الخلق تنطويان على تلقين مستمر المدى فيه تحذير ودعوة إلى التفكير دائما في عواقب الأمور والاستعداد لها فلا تبطر المرء نعمة فتخرجه عن طوره، ولا تيئسه نقمة فتسلمه إلى الكفر والجحود. وقد انطوى في الآية الثالثة تقرير أثر الإيمان في صاحبه إزاء تقلبات الدهر حيث يساعده على الصبر والاستمرار في العمل الصالح في حالتي السراء والضراء دون بطر ولا يأس.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثالثة حديثين نبويين أحدهما ورد في صحيحي البخاري ومسلم جاء فيه: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد غير المؤمن». وجاء في الحديث الثاني: «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله عنه بها من خطاياه». حيث ينطوي في الحديثين تطمين وتثبيت وبشرى للمؤمنين وحث على الشكر على حالة السراء والصبر في حالة الضراء وحيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
. (١) أن يقولوا: مخافة أن يقولوا.
لا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها استمرار لحكاية مواقف الكفار وحكاية حالهم فهي والحالة هذه استمرار للسياق.
وقد تضمنت الأولى تثبيتا للنبي ﷺ وتسليته إزاء مواقف الكفار وتحديهم فقد كان يستشعر أحيانا بشيء من القلق وضيق الصدر حينما كان يتلو عليهم الجديد من القرآن مخافة أن يتحدوه باستنزال ملك يؤيده أو كنز يلقى إليه. فليس هو إلّا نذير وليس عليه إلّا تبليغ ما يوحى إليه والله الوكيل على كل شيء.
وتضمنت الآية الثانية ترديدا لما كانوا ينسبونه إلى النبي ﷺ من افتراء القرآن وأمرا بتحديهم بالمقابلة. فليأتوا بعشر سور مثله إذا كانوا صادقين في زعمهم بأنه مفترى وليستعينوا بمن يستطيعون على ذلك.
وتضمنت الآية الثالثة توكيدا في حالة عدم استجابة الكفار للتحدي بأن القرآن هو منزل بعلم الله الذي لا إله إلّا هو ودعوة للسامعين إلى إسلام النفس له وحده.
وينطوي في أسلوب الآية تقرير عجز الكفار عن الاستجابة إلى التحدي وإلزام للسامعين بالإسلام لله لأن عجزهم يثبت أن القرآن منزل من الله تعالى ولم يبق لهم مناص إلا الإذعان والتسليم.
ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الأول التي يرويها المفسرون عن المخاطب في الآية الثالثة حيث قيل إنه النبي ﷺ كما قيل إنهم أصحاب رسول الله ﷺ المسلمون وقيل أيضا إنهم السامعون إطلاقا. والعبارة تتحمل كل ذلك، وإن كنا نرجح أن المخاطب هو النبي ﷺ وأصحابه معا، وكلمة (لكم) تقوي هذا الترجيح.
509
تعليق على الآية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ إلخ
والفقرة الأولى من الآية الأولى قد تورد على الخاطر أن النبي ﷺ كان يحسب أحيانا حساب مكابرة الكفار وتكذيبهم، ويقوم في ذهنه عدم إعلان جميع ما ينزل عليه وبخاصة ما فيه هجوم على آلهة الكفار وعقولهم فاحتوت الآيات تحذيرا وتنبيها له. وورود شيء من هذا في آيات أخرى وبخاصة آيات سورة الإسراء [٧٣- ٧٥] على ما شرحناه في تفسير هذه السورة قد يقوي هذا الخاطر.
غير أننا نرجح أن التعبير هنا تعبير أسلوبي يقصد به وصف شدة ما كان يلم بالنبي ﷺ من ألم نفسي وضيق صدر من جراء موقف الكفار وتحدياتهم. وأنه ليس من نوع ما أشارت إليه آيات الإسراء المذكورة. وجملة أَنْ يَقُولُوا التي بمعنى مخافة أن يقولوا ويطلبوا مؤيدات خارقة على صحة النبوة مثل استنزال ملك أو كنز قرينة على صحة الترجيح. وعلى كل حال فليس في الآية ما يمس العصمة النبوية في صدد تبليغ ما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدنية، وهي رواية غريبة لم تطلع على تأييد لها. فالاية منسجمة في السياق موضوعا وسبكا. والصورة التي احتوتها من صور العهد المكي. وهناك آيات لا خلاف في مكيتها، ومنها آيات سورة الفرقان [٧- ٨] احتوت مثلها. وهذا مما يسوّغ الشك في صحة الرواية.
ولقد روى الطبرسي في سياق هذه الآية عن ابن عباس أن رؤساء قريش أتوا رسول الله ﷺ فقالوا له: إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة فأنزل الله الآية «١». وروى الطبرسي في الوقت نفسه حديثا عن العياشي عن أبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر أن النبي ﷺ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل، فقال بعض القوم والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا
(١) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.
511
مما سأله محمد ربه، فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستعين به على فاقته، فأنزل الله الآية «١».
وقد يكون ما ورد في الرواية الأولى قد قاله رؤساء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مضمون الآية وأسلوبها يبعث على التوقف في أنها نزلت جوابا لقولهم عند التمعن فيها، ولعلهم قالوه في موقف آخر.
أمّا الرواية الثانية فهي متهافتة بل مخترعة فيما نعتقد وهي مثال من أمثلة كثيرة من روايات الشيعة في سياق كثير من الآيات لأجل تأييد أهوائهم.
دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن
هذا، ويلحظ أن تحدي القرآن للكفار بالإتيان بشيء مثل القرآن وتقريره الصريح والضمني بعجزهم عن ذلك قد توالى في السور الثلاث المتتابعة في النزول أي الإسراء ويونس وهود، وهذا، يعني أن موضوع الوحي القرآني كان من أهم مواضيع الجدل والمكابرة من قبل الكفار. وهذا مؤيد بكثرة ما حكاه القرآن من مواقف جدلهم ومكابرتهم إزاء القرآن. مما مرت منه أمثلة عديدة. والتحدي في الآية التي نحن في صددها قوي مفحم فالكفار يقولون إن القرآن مفترى وهذا يعني أن تقليده غير عسير، فليأتوا بعشر سور مفتريات منه إذا استطاعوا.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
. (١) حبط: بمعنى بطل وذهب هدرا.
(١) انظر المصدر السابق نفسه.
512
تعليق على آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ
في الآيتين تقرير بأن الذين يتوخون بما قد يعملون سعادة الحياة الدنيا وزهرتها والتمتع بالجاه والثروة والسلامة فيها فقط فإنهم قد ينالون جزاء عملهم فيها دون بخس ولا نقص، ولكن أعمالهم هذه لن تنفعهم في الآخرة لأنها قد انحصرت في الدنيا وأغراضها واستهدفت النفع العاجل والجزاء السريع. فهي بالنسبة للاخرة باطلة معدومة الأثر ولن يكون لأصحابها إلّا النار لأنها لم تصدر عن إيمان بالله ورغبة في رضائه وتقواه وتنفيذ أوامره.
وواضح من فحوى الآيات وروحها أن الأعمال المذكورة فيها هي أعمال البر والخير التي يعملها بعض الناس ابتغاء للجزاء والذكر في الحياة الدنيا وحسب.
ولقد روى الطبرسي عن الجبائي أن المقصود بالذكر هم المنافقون الذين كانوا يغزون مع النبي ﷺ للغنيمة دون نصرة الدين وليس من خلاف في مكية الآيات. ويكون هذا القول بناء ذلك من قبل التطبيق المتأخر.
وورود الآيتين عقب الآيات السابقة يلهم أنهما في صدد الكفار وفي سياق ما هو دائر بينهم وبين النبي ﷺ من حجاج وجدل وهما والحالة هذه استمرار للسياق.
ويظهر أن الكفار كانوا يتبجحون بعمل بعض المكرمات ويظنون أن ما يسّره الله لهم من مال وجاء ورفاه بسبب ذلك فأريد الرد عليهم بما انطوى تقريره في الآية على النحو الذي شرحناه. وفي سورة (المؤمنون) آيات قد يكون فيها إشارة إلى ذلك وهي: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦).
والآيتان بالإضافة إلى كونهما في معرض الرد على الكفار والتنديد بهم فإن إطلاق الخطاب فيهما يجعلهما عامتي التوجيه لكل الناس. ويدخل في ذلك
513
المسلمون. وأنهما قد توختا أيضا كما يتبادر:
١- تقرير ما للنية من أثر في عمل المرء ونتائجه.
٢- دعوة الناس إلى عمل الخير والسير في طريق الحق والهدى لا بقصد الجزاء الدنيوي العاجل لأن هذا قد يحدث وقد لا يحدث، وإذا حدث فلا يكون دليلا على أن قصد عمل الخير لذاته صادق ومخلص.
٣- تثبيت فكرة الآخرة وتقرير وجوب الإيمان بالله ومراقبته وتقواه في ما يعمله المرء في الدنيا أملا في رضاء الله وغفرانه والسعادة الأخروية الخالدة. فإذا صدر المرء في عمله عن هذا القصد والأمل مع مرافقة الإيمان استوى عنده نيل الجزاء الدنيوي وعدمه وأقدم على عمل الخير لذاته ابتغاء رضاء الله ورضوانه. وفي هذه المقاصد من السمو والتلقين والتربية الأخلاقية ما هو رائع جليل.
ولقد أورد البغوي في صدد مدى الآية حديثا عن أنس بن مالك فيه توضيح وتبشير جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ لا يظلم الله المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».
ولقد تكرر تقرير ما قررته الآية مرارا بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها حيث يفيد هذا أن حكمة التنزيل قد أسبغت على هذا الأمر خطورة لما فيه من تلقين جليل سام. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا عن أبي هريرة يفيد أن ما قررته يشمل أو يتناول الذين يعملون الأعمال الصالحة من المسلمين رياء مهما كانت أعمالهم.
وقد روى مسلم والنسائي والترمذي حديثا مقاربا لما ورد في الطبري عن أبي هريرة أيضا، وقد جاء في حديث الترمذي: «قال النبيّ ﷺ إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها، قال قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ
514
القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنّك تعلّمت العلم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «١».
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
. (١) أولئك: راجعة على الأوجه إلى الذين هم على بينة من ربهم.
(٢) الأحزاب: تعني الفئات العديدة التي تتجمع لمقصد مشترك وتتحزب له.
وهي هنا وفي الأماكن الأخرى من القرآن عنت الفئات التي تحزبت ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
(٣) مرية: شك وريب.
(٤) إنه الحق من ربك: قيل إن الجملة راجعة إلى الشاهد كما قيل إنها راجعة إلى الموعد. وقيل أيضا إنها راجعة إلى القرآن والقولان الأولان أكثر وجاهة وورودا في مقام الجملة.
تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون «٢» في الضمائر الواردة في الجملة الأولى من الآية وفي مداها. منها أن المقصود من (أفمن) هو جبريل أو النبي ﷺ أو علي بن أبي طالب. ومنها أن معنى (ويتلوه) يؤيده ويتبعه. ومنها أن المقصود
(١) التاج ج ١ ص ٥٠.
(٢) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.
515
من (شاهد منه) هو القرآن أو جبريل أو النبي ﷺ أو علي بن أبي طالب أو الإنجيل واسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقحم إقحاما بدون أي مناسبة. وهذا ديدن رواة الشيعة. والذي يتبادر لنا أنه الصواب استلهاما من فحوى الجملة وروحها وروح وفحوى الآية معا أي جملة أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تعني الذين آمنوا بعد أن ظهرت لهم البينة والبرهان. وأن جملة (ويتلوه) يعني يؤيد ذلك البرهان وأن جملة شاهِدٌ مِنْهُ تعني القرآن، ومن مرجحات ذلك الجملة التي بعدها والله أعلم.
وفي الآية:
١- سؤال إنكاري ينطوي على نفي معقولية وإمكان التسوية بين المؤمنين والكافرين وتعليل ذلك بأن الأولين قد أدركوا الحقيقة الإلهية وصاروا منها على يقين وبينة وخاصة بعد ما جاءهم من ربهم شاهد ودليل وهو القرآن الذي سبقه شاهد ودليل آخر وهو كتاب موسى عليه السلام الذي أنزله الله كذلك إماما هاديا ورحمة فامنوا وصدقوا، بعكس الآخرين الذين هم في غفلة عن هذا وضلال.
٢- وإنذار لكل من كفر بالله تعالى ولم يصدق القرآن من مختلف الفئات بأن موعده ومصيره إلى النار.
٣- وأمر رباني للنبي ﷺ أو للسامع إطلاقا بأن لا يكون عنده أي شك وتردد في ذلك فهو الحق من الله ولو لم يؤمن به وصدقه أكثر الناس.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية مدنية، ويلحظ أنها منسجمة مع ما قبلها سياقا وموضوعا. وكذلك مع ما بعدها. وفيها معنى التعقيب على ما سبقها.
وكل هذا يبرر الشك في صحة الرواية التي لم نطلع على تأييد لها. ونخشى أن تكون من موضوعات الشيعة لتبرير صرف أَفَمَنْ وشاهِدٌ مِنْهُ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث كان في أوائل الإسلام التي نزلت السورة فيها ما يزال حدث السن.
516

[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٤]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
. (١) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: قد تكررت هذه الجملة، وهي في مقامها بمعنى (ليس من أحد أشد جرما وجورا ممن يفتري على الله الكذب).
(٢) الأشهاد: جمع شاهد أو شهيد وكلاهما بمعنى واحد. وربما أريد بهم الأنبياء أو الملائكة أو كلاهما حيث ورد في آيات أخرى أن النبيين وفي آيات أخرى أن الملائكة يشهدون محاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة وقد مرّت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها.
(٣) لم يكونوا معجزين: ليسوا معجزين الله عن قهرهم وإهلاكهم.
(٤) ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون: قيل إن (ما) هنا ليست للنفي وإن معنى الآية إنهم يعذبون لأنهم كانوا يستطيعون السمع فلم يسمعوا والرؤية فلم يبصروا. وقيل إن معناها ما داموا يسمعون ويبصرون فإنهم معذبون، وقيل إنها للنفي وإنها تعني أنهم يعذبون لأنهم كانوا من شدة العناد والمكابرة إلى درجة أن يوصفوا بعدم استطاعة السمع والرؤية وهذا ما نراه الأوجه «١»
(١) انظر تفسير الطبري فقد روى كل هذه الوجوه عن أهل التأويل.
517
(٥) لا جرم: جرم بمعنى قطع وكسب. ولكن التعبير صار كالمثل بمعنى حقا وبمعنى لا محالة.
(٦) أخبتوا: خشعوا أو أخلصوا أو خضعوا لله.
في الآيات حملة شديدة على المشركين وزعمائهم بخاصة، فهي:
١- تتساءل تساؤلا يتضمن التقرير والتوكيد بأنه ليس من أحد أعظم جرما وأشد ظلما من الذين يفترون على الله الكذب وتؤكد بأنهم سيقفون أمام الله فيشهد عليهم الأشهاد بأنهم هم الذين كذبوا على الله فيهتف باللعنة على الظالمين الذين كانوا كافرين بالآخرة والذين كانوا يمنعون الناس عن سبيل الله ويضعون العراقيل في طريق الدعوة إليه.
٢- تؤكد أنهم لن يكون لهم أولياء ونصراء يحمونهم من نقمة الله وأن عذابهم سيكون مضاعفا لأنهم اشتدوا في تصاممهم عن سماع كلمة الحق وفي تعاميهم عن رؤية الحق حتى لقد كانوا في مثابة العاجزين عن السمع والإبصار، وأنهم خسروا أنفسهم وغاب عنهم شركاؤهم الذين زعموها كذبا وافتراء.
٣- تقرر أن من الطبيعي أن يكونوا الأخسرين في الآخرة. وأنهم إذا كانوا أهملوا في الدنيا فليس ذلك لأنهم كانوا معجزين الله فيها وإنما لأن حكمته اقتضت ذلك. واستطردت الآيات إلى ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخلصوا وخشعوا لله تعالى ذكرا تنويهيا بالمقابلة لذكر الكفار مما هو مألوف في النظم القرآني، فقررت أنهم هم أصحاب الجنة الخالدون فيها ومثلت كلا من الفريقين بالبصير والأعمى والسميع والأصم وتساءلت تساؤلا فيه معنى التقرير بأنه لا يمكن أن يستوي الأعمى والبصير ولا السميع والأصمّ، ودعت الناس بأسلوب الحث إلى التدبر والتذكر لاستبانة الحق من الباطل.
والكذب على الله في الآيات يعني عقيدة الشرك. والقرينة على ذلك هي جملة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
وجملة الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تعني الزعماء الذين تولوا قيادة المناوأة للدعوة النبوية ومنع الناس من الاستجابة إليها. وهذا وذاك هو ما قصدناه في مطلع الشرح من جملة الآيات
518
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
على المشركين وزعمائهم بخاصة.
والمتمعن في الآيات يلمس ولا ريب شدة الحملة في التنديد والإنذار وتصوير ما سيكون من أمر الكفار وزعمائهم، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوبهم وإيقاظ ضمائرهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والمتبادر كذلك أن الاستطراد التنويهي إلى ذكر المؤمنين قد تضمن تبشير هؤلاء وبث الطمأنينة في نفوسهم.
والآيات كما هو المتبادر استمرار لموقف الجدل والحجاج وتعقيب عليه.
فبعد أن حكى في الآيات السابقة ما كان من أقوال الكفار وتحدياتهم جاءت الآيات تحمل عليهم هذه الحملة الشديدة. ولعل في ورود هذه الآيات عقب الآية السابقة قرينة على مكية هذه الآية التي ذكرت بعض الروايات أنها مدنية.
وروح الآيات وفحواها يتضمنان تقرير كون الذين استحقوا الجنة أو النار في الآخرة إنما استحقوها نتيجة لاختيارهم طريق الهدى أو الضلال في الدنيا. وهذا يوجب التأويل الذي أولناه لجملة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٤٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
519
(١) أراذلنا: الفئة الحقيرة الوضيعة.
520
(٢) بادي الرأي: لأول وهلة أو الظاهر الواضح.
(٣) عميت عليكم: أغلق عليكم فهمها.
(٤) أنلزمكموها: هل نكرهكم عليها.
(٥) تزدري: تحتقر.
(٦) إن كان الله يريد أن يغويكم: تعبير أسلوبي فيه تنديد وإنذار.
(٧) فلا تبتئس: فلا تحزن.
(٨) اصنع الفلك بأعيننا: اصنع السفينة برعايتنا وهدايتنا.
(٩) فار: انفجرت منه المياه.
(١٠) التنور: مكان إيقاد النار لخبز الخبز.
(١١) في معزل: بعيد منعزل.
(١٢) حال: فرّق.
(١٣) أقلعي: توقفي أو كفي.
(١٤) غيض الماء: انحسر الماء.
(١٥) الجودي: اسم الجبل الذي استقرت فوقه السفينة.
(١٦) إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح: إن عمله غير صالح فليس من نوعك ولا ينبغي أن يعد من أهلك.
تعليق على قصة نوح عليه السلام
الآيات حلقة من سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص عقب حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وتعجيزياتهم للتذكير والتمثيل والإنذار، فهي والحالة هذه متصلة بالسياق.
والآيات واضحة المعاني لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد احتوت قصة نوح عليه السلام بتفصيل أو في مما جاء في سورتي الأعراف والشعراء مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيها جديد لم يذكر فيما سبق وهو: الأمر بصنع السفينة، وكيفية حدوث
521
الطوفان، وأخذ زوجين اثنين من كل حي، وموج الطوفان العظيم الذي شبه بالجبال، واستواء السفينة على الجودي، ومسألة ابن نوح الذي ظل مع الكفار، والحوار الذي جرى بينه وبين قومه حول رسالته وحول الذين آمنوا بها منهم وبينه وبين الله حول غرق ابنه.
والقصة كما ذكرنا قبل واردة في سفر التكوين، وليس في السفر المتداول اليوم ذلك التفصيل ولا الحوار ولا مسألة ابن نوح وإن كان فيه تفصيل عن حجم السفينة لم يرد في الآيات. والذي نرجحه أن ما ذكر في الآيات كان واردا في قراطيس أو أسفار أخرى كانت متداولة في أيدي أهل الكتاب وكان هو المتداول في أوساطهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق قصة نوح في هذه السورة وفي غيرها بيانات كثيرة معزوة إلى كعب الأحبار وغيره من رواة المسلمين من اليهود وغيرهم وكثير منها لم يرد في القرآن ولا في سفر التكوين المتداول «١» حيث يؤيد هذا ما قلناه، هذا ويدل على أن من أهل بيئة النبي ﷺ من كان يعرف أشياء كثيرة من قصة نوح وطوفانه. ولم نر ضرورة ولا فائدة في إيراد ذلك أو تلخيصه لأنه غير متصل بشروط القرآن من القصة.
واسم الجبل الذي استوت عليه السفينة في سفر التكوين أرارات، وهو في شمال جزيرة الفرات. وهذا الجبل يذكر في كتب التفسير والتاريخ العربية القديمة باسم الجودي وهو الاسم المذكور في الآيات وذكره في القرآن دليل على أنه كان متداولا معروف المكان في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على آية تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا
والآية الأخيرة من الآيات تثير إشكالا حيث تذكر أن ما أوحاه الله تعالى
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والمنار والطبرسي والبغوي.
522
للنبي ﷺ من القصة هو من أنباء الغيب التي ما كان يعرفها هو ولا قومه من قبل.
ومن شأنها أن تنقض ما قلناه. ولما كان سفر التكوين متداولا في أيدي الكتابيين في بيئة النبي ﷺ حتما، سواء كان بنصه اليوم أو زائدا أو ناقصا والعرب كانوا على صلة بهم، ومنهم من كان يدين بالنصرانية واليهودية، بل ومنهم من كان يعرف العبرانية ويقرأ الكتب بها «١». فمن الصعب أن يفرض أن لا يكون من العرب السامعين من لا يعرف قصة نوح والحالة هذه. ومما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قومه المذكورة في سورة نوح وهي: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، حيث كانت هذه الأصنام مما تعبدها العرب ومما كانوا يعزونها إلى قوم نوح، وحيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن اسم نوح وقصته مع قومه مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ قبل نزول القرآن ولقد قلنا آنفا إن في كتب التفسير بيانات كثيرة حول قصة نوح غير واردة في القرآن عزاها رواة الأخبار إلى أناس عاشوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أشياء وردت في سفر التكوين المتداول اليوم مثل إطلاق نوح غرابا ثم حمامة من السفينة مرتين لاختبار جفاف الأرض وعودة الحمامة في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون «٢». وهذا مما قد يدل على أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ من طريق الكتابيين الذين كان سفر التكوين في أيديهم، ويؤيد ما قلناه من أن القصة كانت معروفة في بيئة النبي ﷺ عن طريق أهل الكتاب الذين كان سفر التكوين في أيديهم.
ولقد كان هذا الإشكال مما تنبه له بعض المفسرين حيث أشار إليه الخازن وعلّله باحتمال كون العلم بها كان مجملا لأن قصة نوح كانت مشهورة معروفة كما قال وأشار إليه كذلك البيضاوي وعلله باحتمال كون القصد هو عدم معرفة النبي ﷺ وجميع قومه بجميع التفصيلات وأن هذا لا يمنع أن يكون عرفها بعضهم أو عرف بعضهم بعضها. ومن الجدير بالذكر أن قصة نوح في السور الأخرى السابقة والآتية خلت من مثل هذا الإشكال. ونحن نرى في تعليق هذين المفسرين
(١) جاء في صدد ورقة بن نوفل في حديث رواه البخاري وأوردناه في سياق تفسير سورة العلق. [.....]
(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري مثلا وانظر الإصحاح ٨ من سفر التكوين.
523
وجاهة ظاهرة ولا نرى معدى عنه أو عما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر ولا يعرف الناس تفصيل أحداثه ولقد قررنا قبل أن هدف القصص القرآنية إنما يتحقق بمعرفة السامعين لها جزئيا أو كليا لأنها إنما جاءت للوعظ والتذكير والتمثيل.
هذا ولقد علق المفسرون على قصة نوح في هذه السورة تعليقات متنوعة كما فعلوا في مناسبة ورودها في السور الأخرى. ومن ذلك مسألة عمومية طوفان نوح لجميع الأرض أو خصوصيته بقوم نوح وبلاده «١». ونحن نرى في هذا وأمثاله تكلفا لا طائل من ورائه وليس مما يتصل بالهدف القرآني.
مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام
وفي الحلقة مواضع عبر جديدة، منها ما في الحوار المحكي بين الله تعالى ونوح عليه السلام بشأن ابنه من موعظة وعبرة بليغتين حيث يقرر أن قربى الدم مهما كانت لا حمة بين رجال الله وذوي أرحامهم فلا يمكن أن تغني عن هؤلاء شيئا إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين، وأن المعول على الإيمان والعمل الصالح في تثبيت قيمة المرء وصلاحه وفساده واستحقاقه لرضاء الله تعالى ونقمته، وهذه العبرة في القصص الواردة في السور التي سبق تفسيرها ممثلة في زوجة لوط ووالد إبراهيم عليهما السلام، وفي سورة التوبة نهي للنبي ﷺ والمؤمنين من الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي قرباهم كما ترى في هذه الآيات: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وهكذا تتم السلسلة ويتقرر المبدأ القرآني الجليل في هذا الباب.
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير المنار والطبري وابن كثير والخازن وغيرهم.
524
ومنها الحوار الذي كان يجري بين نوح وقومه بشأن الذين آمنوا من الضعفاء والفقراء. ففيه صورة لما كان يجري بين النبي ﷺ وزعماء الكفار مما حكته آيات عديدة، منها آيات الأنعام هذه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وآية سورة الكهف هذه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) حيث كان زعماء قريش ينظرون إلى الفقراء الذين آمنوا بالنبي ﷺ واتبعوه بنظر الازدراء ويطلبون من النبي ﷺ طردهم. وفي الحوار تثبيت للمؤمنين من هؤلاء وتنبيه لهم بأن موقف الكفار منهم ليس جديدا بل هو ديدن الكفار السابقين أيضا، وتنويه بهم وتقرير بأنهم قد استحقوا رحمة الله وبرّه بإيمانهم وعملهم.
ومنها ما حكي من قول نوح عليه السلام لقومه بأنه لا يعلم الغيب وليس عنده خزائن الله وليس هو ملكا. وهذا ما أمر النبي ﷺ أن يقوله للكفار كما مرّ شرحه في سياق سورتي يونس والأعراف، ومما جاء في آية سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) والعبرة في هذا إعلان وحدة طبيعة الأنبياء وكونهم جميعا ليسوا إلّا مبلغين عن الله وليسوا إلّا بشر كسائر البشر.
تعليق على آية أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ من آيات الحلقة
هذا، ولقد اختلف المفسرون في المقصود بالآية [٣٥] «١» حيث قال بعضهم إنها معترضة وإنها تعني مشركي العرب وتأمر النبي ﷺ بالرد عليهم إذا قالوا إن ما
(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والبغوي.
525
يقصه مفترى وحيث قال بعضهم إنه من الجدل والحوار بين نوح عليه السلام وقومه لأنهم اتهموه بالافتراء على الله حينما بلغهم أنه رسوله إليهم. وكلا القولين محتمل، وإن كنا نرى الأول أوجه. وأكثر المفسرين على ذلك أيضا. ولعل بدء الآية التالية لها بخطاب نوح قرينة على ذلك وفي النظم القرآني أمثلة من ذلك. كما أن ذلك القول قد حكي عن مشركي العرب مرات عديدة سبقت أمثلة منها.
وإذا صحت وجاهة القول الأول ففي الرد الذي أمرت الآية النبي ﷺ برده على المشركين تحدّ ضمني لهم وتقرير ضمني بأنه يعرف عظم مسؤولية الافتراء على الله ولا يمكن أن يقترفه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
. (١) مدرارا: كثيرا متتابعا.
526
(٢) اعتراك بعض آلهتنا بسوء: يريدون بذلك أن يقولوا إن بعض معبوداتنا أصابوك بسوء فغدوت تهذي كالمجنون بدعوتك ومواعظك.
(٣) ما من دابة إلّا هو آخذ بناصيتها: ما من دابة إلّا هو أي الله مالك لأمرها ومحيط بحركاتها وسكناتها.
(٤) تولوا: تتولوا.
تعليق على قصة هود عليه السلام
وهذه حلقة ثانية من السلسلة فيها قصة هود عليه السلام مع قومه، وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي الحلقة حوار بين هود عليه السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى مما اقتضته حكمة التنزيل وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة ومرت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي ﷺ حيث يبدو في ذلك أيضا عبرة واضحة بإعلان وحدة طبيعة ذوي النوايا الخبيثة والسرائر الفاسدة ووحدة مواقفهم من الدعوة إلى الهدى والحق التي يدعو إليها رسل الله تعالى. وفي هذا تطمين للنبي ﷺ والمؤمنين من جهة وتبكيت وتقريع وإنذار للكفار من جهة أخرى.
ومن الحوار الذي فيه عبرة أيضا قول هود عليه السلام لقومه إنكم إن تتولوا فلن تضروا الله شيئا وإن الله قادر على إهلاككم واستخلاف غيركم في الأرض محلكم حيث ينطوي في هذا إنذار للمشركين الذين كانوا يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مواضع العبرة في الآيات إيذان الله بتنجية هود والذين آمنوا معه من العذاب الذي وقع على الكافرين من قومه حيث ينطوي في هذا بشرى وتطمين للنبي والذين آمنوا.
527

[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٨]

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
. (١) استعمركم فيها: جعلكم قادرين على إعمارها.
(٢) قد كنت فينا مرجوا قبل هذا: يريدون بذلك أن يقولوا إننا كنا نظنك أعقل، وكان لنا فيك بسبب ذلك أمل ورجاء.
(٣) فعقروها: قطعوا أرجلها.
(٤) جاثمين: قاعدين على ركبهم وهم أموات.
(٥) كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا فيها ويسكنوها.
تعليق على قصة صالح عليه السلام
وهذه حلقة ثالثة من السلسلة فيها قصة صالح عليه السلام وقومه وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. وفي الحلقة حوار بين صالح عليه السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى كذلك مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي ﷺ حيث تبدو هنا أيضا
العبرة التي نبهنا إليها في تفسير قصة هود عليه السلام ومثل هذا يقال في ما ذكرته الآيات من تنجية صالح عليه السلام وقومه أيضا.
وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة في سياق هذه الحلقة أيضا عن صالح وقومه وناقته، وتامر قومه عليه وعلى الناقة لم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها أو تلخيصها لأنها لا تتصل بالهدف القرآني وهو العبرة والتذكير.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
. (١) حنيذ: مشوي.
(٢) نكرهم: أنكرهم واستغرب أمرهم.
(٣) أوجس منهم خيفة: استشعر الخوف منهم.
(٤) ضحكت: قال المفسرون إنها ضحكت حينما رأت الرسل لا يأكلون من الطعام أو حينما بشروها بإسحاق وهي تظن أن ذلك مستحيل لأنها وزوجها كانا عجوزين.
(٥) بعلي: زوجي.
(٦) الروع: الخوف أو الدهشة.
(٧) أواه: كثير التأوه بمعنى كثير البكاء والدعاء والابتهال.
(٨) منيب: راجع إلى الله ومسلم له.
تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام
وهذه حلقة رابعة فيها قصة جديدة من قصص إبراهيم عليه السلام. فقد ذكرت قصته مع قومه في سورة الشعراء، وهذه القصة تحكي مجيء رسل الله إليه بالبشرى، ثم إلى قوم لوط بالعذاب. وتكررت هذه القصة بعد هذه السورة بأساليب متقاربة. وهذه القصة مما ذكر في سفر التكوين بما في ذلك الحوار بين إبراهيم ورسل الله الملائكة وضحك سارة وتعجبها من أنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم، خلافا لقصة سورة الشعراء على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. وهي هنا مقاربة إجمالا لما ذكر في سفر التكوين عدا عدم أكل رسل الله من الطعام حيث ذكر في هذا السفر أنهم أكلوا وعدا البشرى يبعثون مع ذكره عهد ربه له أن يكون مع اسحق ابن سارة وأن ينمي ذريته «١».
وسفر التكوين كان متداولا في أيدي أهل الكتاب واليهود في بيئة النبي ﷺ بحيث يقال بجزم إن هذه القصة مما كان متداولا في هذه البيئة. ونعتقد إلى هذا أن ما لم يذكر في السفر وذكر في القرآن أو ما ذكر في القرآن مباينا لما ذكر في السفر كان متداولا بين اليهود وكان واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا.
وفي القصة من العبر تقرير قدرة الله على جعل إبراهيم وزوجته ينجبان رغم طعنهما في السن رحمة بنبيه وخليله. وقد نوهت به وبأهل بيته تنويها كريما. ومما فيها أيضا ردّ على إبراهيم عليه السلام حينما جادل في قوم لوط عليه السلام بأنهم قد حق عليهم العذاب فلا راد له. وفي هذا إنذار لسامعي القرآن من قوم النبي ﷺ بأن صلتهم به لن ترد عنهم العذاب الرباني إذا حق عليهم بإصرارهم على الكفر والإثم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
(١) انظر الإصحاحات ١٦ و ١٧ و ١٨ من سفر التكوين.
530
(١) سيئ بهم: ساءه مجيئهم خوفا عليهم.
(٢) ضاق بهم ذرعا: التعبير يقصد به بيان ما ألمّ بالمرء من ضيق وشدة.
(٣) عصيب: شديد الخطر.
(٤) يهرعون إليه: يسارعون إليه.
(٥) يعملون السيئات: كناية عن عادتهم السيئة بإتيان الذكور.
(٦) لو أن لي بكم قوة: لو أن لي قوة بكم تنصرني عليهم وأدفع عنكم بها قومي.
(٧) ركن شديد: ملجأ حصين أحميكم فيه.
(٨) لن يصلوا إليك: لن يقدروا على أذيتك.
(٩) بقطع من الليل: في أثناء ظلمة الليل.
(١٠) سجّيل: طين جاف وهي كلمة معربة من الفارسية.
(١١) منضود: مصفوف أو متتابع.
(١٢) مسومة: معدة أو عليها علامة ربانية.
531
تعليق على قصة لوط عليه السلام
وهذه حلقة خامسة من سلسلة القصص تحتوي قصة لوط عليه السلام ومجيء رسل الله إليه وما كان من التدمير الذي حل بقومه وبلادهم وتنجية لوط وأهله باستثناء زوجته، وآياتها واضحة المعنى. والقصة واردة في الإصحاح (١٩) من سفر التكوين المتداول مقاربة لما جاء في هذه السورة وسورتي الشعراء والأعراف اللتين مرّ تفسيرهما. وقد علقنا عليها في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وتكرارها هنا يتضمن تكرار العبرة في ما كان من إهلاك الله لقوم لوط وامرأته معا وتنجيته والذين آمنوا معه.
وفي الآيات جديد لم يرد في السور السابقة وهو انزعاجه من مجيء رسل الله لأنه لا يقدر على حمايتهم. وهذا مباين لما في سفر التكوين المتداول الذي ذكر أن لوطا ألح عليهم لينزلوا في ضيافته «١». ونحن نعتقد أن ما جاء في القرآن كان متداولا وواردا في قراطيس أخرى، وهو المتسق مع ما حكي من أخلاق قوم لوط وعاداتهم السيئة التي كان لوط يعرفها بطبيعة الحال. وفي تفسير الطبري وغيره لهذه الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الصدر الأول فيها ما هو المتطابق مع سفر التكوين وغير المتطابق، لم نر ضرورة ولا طائلا لإيراده أو تلخيصه هنا لأنه غير متصل بالهدف القرآني ويدل على كل حال على تداول تفصيلات لم ترد في السفر عن هذه القصة في عصر النبي ﷺ وبيئته، مما فيه دعم لما نقول.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٩٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
(١) انظر الإصحاح ١٩.
532
(١) لا يجرمنكم شقاقي: لا يجعلنكم شقاقي أو لا تحملنكم رغبة مخالفتي.
(٢) ما نفقه: ما نفهم.
(٣) رهطك: عشيرتك أو أسرتك.
(٤) وما أنت علينا بعزيز: لست شخصيا غاليا علينا أو مكرما عندنا أو قويا.
(٥) اتخذتموه وراءكم ظهريا: بمعنى تناسيتموه ولم تبالوا به.
(٦) اعملوا على مكانتكم: استمروا في عملكم وحالتكم.
(٧) ارتقبوا إني معكم رقيب: انتظروا وأنا منتظر معكم. وفي الجملة معنى الإنذار بعذاب الله.
533
تعليق على قصة شعيب عليه السلام
وهذه حلقة سادسة من السلسلة. وقد احتوت قصة شعيب عليه السلام وقومه أهل مدين. وآياتها واضحة. وقد وردت هذه القصة في سورتي الشعراء والأعراف بصيغ متقاربة مع بعض زيادات اقتضتها حكمة التنزيل ولقد علقنا على مدى القصة في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وفي الحوار الذي يحكي بين شعيب وقومه مماثلة لما حكته آيات عديدة لبعض ما كان يقع بين النبي ﷺ والكفار العرب حيث ينطوي في ذلك إظهار وحدة الطبائع التي تجمع بين الكفار وزعمائهم بخاصة في مختلف الأدوار. وبالإضافة إلى ذلك فإن فيما احتوته آيات القصة من إنذار ووعيد وتنديد وتأنيب وتطمين قد انطوى إنذار ووعيد للكافرين السامعين وتثبيت وتطمين للنبي ﷺ والمؤمنين.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
. (١) يقدم قومه: بمعنى يتقدم قومه ويقودهم.
(٢) بئس الورد المورود: الورد بمعنى الورود على الماء، ومعنى الجملة:
بئس الورد الذي أورد فرعون قومه لأنه أوردهم النار.
(٣) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة: لحق بهم في هذه الدنيا سخط الله وغضبه.
(٤) بئس الرفد المرفود: الرفد بمعنى العون والعطاء والقرى. ومعنى الجملة: بئس الرفد الذي رفد به فرعون قومه.
تعليق على قصة موسى عليه السلام
وهذه حلقة سابعة من السلسلة وهي الأخيرة، وقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون الإشارة فيها إلى قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون مقتضبة جدا.
وقد وردت القصة مفصلة في سور سبق تفسيرها. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، ومن مواضع العبرة هنا ما يمكن أن يكون إنذارا للكفار السامعين وبخاصة للذين اتبعوا الزعماء من سوادهم وتنبيههم إلى أن هؤلاء الزعماء سيوردونهم النار وبئس هي من مورد وسيكون نصيبهم جميعا لعنة ونقمة ربانيين في الدنيا والآخرة وبئس ذلك من نصيب.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
. (١) قائم: بمعنى باق وموجود.
(٢) حصيد: بمعنى مدمر وهالك.
(٣) تتبيب: خسارة.
(٤) يوم مشهود: يوم عظيم حافل.
الآيات جاءت معقبة على سلسلة القصص جريا على النظم القرآني. وفيها توكيد صريح لما قلناه مرارا لأهداف القصص القرآنية وهي العبرة والتذكير والإنذار والتثبيت، حيث قررت:
١- أن الله يقص أنباء القرى والأمم السابقة على النبي ﷺ ومن يسمع القرآن
535
للعبرة والتذكير. ومن هذه القرى والأمم ما هو باق يرى الناس آثار تدمير الله فيه ومنها ما زال.
٢- وأن الله لم يظلم تلك القرى والأمم وإنما ظلموا أنفسهم بانحرافهم وبغيهم، ولم تكن آلهتهم التي كانوا يدعونها من دون الله لتنفعهم شيئا حينما حق عليهم عذاب الله تعالى، ولم تزدهم إلّا خسارا.
٣- وأن الله إذا أخذ القرى والأمم وهي ظالمة باغية فيكون أخذه لها شديدا أليما.
٤- وأن في ذلك نذيرا للناس من شأنه أن يحملهم على الارعواء ويدعوهم إلى التفكير وبخاصة من يحسب حساب الآخرة منهم ويومها الرهيب الهائل الحافل بالأحداث الجسام والمجموع له جميع الناس، والذي إنما يؤخره الله تعالى بمقتضى حكمته لأجل محدود قصير. وإذا كان أخذ الله في الدنيا للظالمين يثير خوفا ورعبا فعذابه في الآخرة يجب أن يكون أشد إثارة لهما لأن الأول يأتي ثم ينقضي ولكن الآخر طويل المدى.
والإنذار في الآيات قوي موجه للعقول والقلوب معا وقد استهدف كما هو المتبادر إثارة الرعب والارعواء في قلوب الكفار وزعمائهم. ولعل في جملة وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) إنذارا بأن الفرصة أمامهم سانحة ولكنها قصيرة فعليهم أن لا يضيعوها.
تعليق على جملة وَهِيَ ظالِمَةٌ
وجملة وَهِيَ ظالِمَةٌ [١٠٢] تنطوي على معنى أوسع وأشد من جملة (وهي كافرة) كما هو المتبادر فالظلم يشمل الشرك والكفر ويشمل في الوقت نفسه الإجرام والبغي والعدوان على الناس والفساد والتكبر في الأرض. ويتبادر لنا أن هذا هو مقصود الجملة القرآنية وليس الكفر وحده. وفي آية آتية ما يمكن أن يؤيد ذلك.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية الثانية حديثا بطرقه رواه الشيخان والترمذي
536
أيضا عن أبي موسى بهذا النص: «قال النبي ﷺ إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية» «١» حيث ينطوي في الحديث توكيد للإنذار الرهيب الذي احتوته الآية.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
. (١) لا تكلم: لا تتكلم.
(٢) لهم فيها زفير وشهيق: المراد بهذه الجملة وصف الشدة التي سوف يقاسيها أهل النار. فالمرء حينما يشتد عليه البلاء يسرع نفسه ويضيق.
(٣) غير مجذوذ: غير مقطوع.
والآيات استمرار بياني للآيات السابقة، فحينما يأتي ذلك اليوم يخشع الناس ويسكتون تهيبا من الموقف. ولن يستطيع أحد أن يتكلم إلّا بإذن الله، والناس في ذلك اليوم صنفان أشقياء وسعداء. فالأولون يلقون في النار حيث يقاسون من البلاء أشده ويخلدون فيها ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله الفعّال لما يريد. وأما الآخرون فينزلون في الجنة ويخلدون فيها ويتمتعون بنعم الله التي لا تنقطع ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله كذلك.
وفي الآيات ما يثير الرعب والخوف في قلوب الكفار والطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو ما استهدفته في جملة ما استهدفته على ما هو المتبادر.
(١) التاج ج ٤ ص ١٣١.
537
تعليق على جملة
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم «١» في تأويل جملة ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقالوا فيما قالوه إن الاستثناء الأول عائد إلى مذنبي المؤمنين الذين سوف يخرجون أخيرا من النار ويدخلون الجنة وقالوا إن الاستثناء هو في صدد زيادة أنواع العذاب والنعيم وقالوا إنه على طريقة قول العرب: «ما لاح كوكب» و «ما أقام ثبير» و «ما دامت السماء سماء والأرض أرضا» ويريدون بذلك التأبيد، والقول الأخير يعني أن التعبير أسلوبي مما اعتاد العرب استعماله وهم يقصدون التأبيد. وهو قول وجيه يزيل وهم التناقض الذي قد يبدو بين العبارة القرآنية هنا وبين آيات كثيرة وردت فيها جملة خالِدِينَ فِيها بالنسبة لأهل الجنة وأهل النار بدون قيد إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لهم هل تعرفون هذا فيقولون قد عرفناه وهو الموت الذي وكّل بنا فيضجع فيذبح على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» «٢».
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله ﷺ من أخبار المشاهد الأخروية فإن في الحديث من جهة توكيدا للخلود الأبدي في النار والجنة لمن استحقه من الناس ومؤيد لما تفيده العبارة التي جاءت كأسلوب تعبيري عن التأبيد حسب تخاطب العرب. ومن الحكمة المستشفة منه قصد الترهيب للكفار والبشرى للمؤمنين.
ومع ذلك فقد يتبادر أيضا أن التعبير من الأساليب التي جرى عليها الوحي
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي والبغوي.
(٢) التاج ج ٥ ص ٣٨٢.
538
القرآني في كثير من الآيات حيث يقرن الأمر بمشيئة الله تعالى إعلانا بأن كل شيء وأمر منوط بأمره وإذنه ومشيئته. وأنه لا ضرورة ولا طائل من التخمين وإطالة الكلام في العبارة ومداها كما فعل بعضهم «١» وتفويض الأمر في حكمة مداها لله عز وجل مع ملاحظة كون الهدف الجوهري للآيات هو إنذار الكفار السامعين ومن بعدهم ليرعووا ويتوبوا وتبشير المؤمنين السامعين ومن بعدهم ليغتبطوا ويثبتوا والله أعلم.
تعليق على جملة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
روى الطبري في سياق هذه الجملة حديثا عن عمر بن الخطاب رواه أيضا البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه: «قال عمر أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما فرغ منه فقال فيما فرغ منه يا ابن الخطاب. كلّ ميسّر أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء» «٢».
وروى البغوي حديثا عن علي بن أبي طالب رواه أيضا مسلم والترمذي جاء فيه:
«كان رسول الله ﷺ جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل. قال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) الآيتين في سورة الليل».
ولسنا نرى في هذين الحديثين ما يوهم أن الله قد كتب الشقاء والسعادة من الأزل على أناس بأعيانهم وبصورة اعتباطية تنزّه عن ذلك، بل فيهما ما يمكن أن يفيد أن ذلك منوط بسلوكهم. وكل ما يمكن أن يكون بالإضافة إلى ذلك أن الله
(١) كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [١٢٨] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
(٢) التاج ج ٥ ص ١٧٣ و ١٧٤.
539
سبحانه يعلم الذين يسلكون سبيل الشقاء فيستحقون النار والذين يسلكون سبيل السعادة فيستحقون الجنة. أما من باب وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة: [٢٦] ووَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ الرعد: [٢٧] وهذا هو المتسق مع المبادئ القرآنية المحكمة على ما شرحناه في مناسبات سابقة. على أن في آيات سورة الليل التي قرأها رسول الله على ما جاء في الحديث الثاني قرينة حاسمة فهي تنسب الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى والبخل والاستغناء والتكذيب بالحسنى لفاعلي ذلك وترتب تيسير الله للأولين للحسنى وتيسير الآخرين للعسرى على ذلك. وهذا أيضا وارد في بقية آيات سورة الليل التي تأتي بعد الآيتين.
تعليق على جملة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ
وقد وقف بعض المفسرين «١» إزاء تعبير لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لأن هناك آيات جاء فيها ما قدم يوهم نقض ذلك مثل آية سورة النحل هذه: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) ومثل آيات سورة ص هذه: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤).
ومما ذكره الزمخشري في رفع الإشكال أن ذلك اليوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. وهذه التخريجات وجيهة وكل الصور المذكورة فيها مما ورد في آيات قرآنية أخرى مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.
(١) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري.
540
على أننا لا نرى إشكالا من جهة التعبير لورود جملة إِلَّا بِإِذْنِهِ لأن جملة إِلَّا بِإِذْنِهِ تحل كل إشكال. ومع ذلك فإننا لا نرى المقام يستدعي الإشكال في أصله. ونرى أن التعبير أسلوبي قصد به تصوير شدة الهول الأخروي وأثره. ويمكن أن يقال أيضا بالإضافة إلى واجب المسلم بالإيمان بما ذكره القرآن من مشاهد أخروية إن تنوع الأسلوب القرآني في أوصاف مشاهد الآخرة وحسابها وعذابها ونعيمها متأتّ من تنوع المشاهد والمواقف بين النبي ﷺ والكفار أولا وأنه يمكن أن يكون قرينة على ما ذكرناه في مناسبات سابقة من أن الترهيب والترغيب مقصودان لذاتهما في الآيات القرآنية ثانيا. ولعل من القرائن على ذلك كون الأوصاف والصور والمشاهد الأخروية الواردة في القرآن هي في نطاق مألوف السامعين من مشاهد وصور وأوصاف دنيوية تتصل بالنعيم والعذاب ومجالس القضاء إلخ حتى يكون لها تأثير في السامعين الذين لا يتأثرون إلّا بما هو معروف ومجرب عندهم ولا يفهمون إلا ما هو في نطاق معارفهم. هذا مع تكرار تقرير كون الحياة الأخروية من المسائل الإيمانية الغيبية التي يجب الإيمان بما جاء عنها في القرآن مع الوقوف في ذلك عند ما وقف القرآن بدون تزيد ولا تخمين. مع تكرار القول أيضا إن آيات المشاهد الأخروية من المتشابهات التي تتحمل تأويلات عديدة ومنها ما لا يعلم تأويله إلا الله وأن هذا يوجب كذلك الوقوف عند ما وقف القرآن مع استشفاف الحكمة التي يتبادر أن منها ما مر ذكره والله أعلم.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
. في الآية تقرير بأن الكفار إنما يعبدون- كما كان يعبد آباؤهم- عبادات باطلة، وإنه ليس في ذلك محل للشك والمراء، وتوكيد بأن الله تعالى سوف يوفيهم استحقاقهم على ذلك بدون نقص.
واتصال الآية بما سبقها ظاهر من حيث إنها في صدد الكفار الذين كانوا موضع الحديث والإنذار كما يدل عليه الضمير الراجع إليهم.
تعليق على آية فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ
ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه وقف عند الآية وبين سبب نهي النبي ﷺ عن الشك فيما يعبد الكفار، مع أن أسلوب الآية يستدعي ذلك.
وقد استلهمنا منها أن بعض المسلمين أو بعض الكفار كانوا يدافعون عن أنفسهم بأنهم مؤمنون بالله معتقدون بأنه الخالق الرازق المؤثر في كل شيء، وبأنهم محترمون بيته وتقاليد ملة إبراهيم خليله ويفعلون المكرمات فأريد في الآية ردّ ذلك ما داموا يشركون مع الله غيره في العبادة والدعاء مهما كان القصد وتوكيد كونهم ضالين هم وآباءهم من قبلهم بسبب شركهم.
ومع أن الخطاب في أول الآية موجه إلى النبي ﷺ فإن هذا لا يمنع أن يكون موجها إلى المسلمين أيضا الذين قد يكون بينهم المدافع أو المعتذر أو المتسائل عن الأمر.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
. (١) لمّا: تعددت الأقوال في معنى هذا الحرف في الآية، فقيل إنه بمعنى إلا وقيل إن في الآية محذوفا تقديره «وإن كلّا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم» ونحن نرى الأول أوجه.
في الآيات إشارة إلى ما كان من اختلاف في فهم الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى عليه السلام وتأويله، وتنبيه إلى أنه لولا اقتضاء حكمة الله في التأجيل لقضى
542
قضاءه في المختلفين فيه الذين هم في شك منه مريب، وتوكيد بأن الله لا بدّ موف كل عامل جزاء عمله من خير وشر، وهو الخبير بما يعمل الناس.
تعليق على الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ والآية التالية لها
لقد أدار فريق من المفسرين القدماء «١» الكلام على الآيتين على اعتبار أن فيهما تسلية للنبي ﷺ وإنذارا للكفار. فإذا كان الكفار قد كذّبوا بالقرآن فقد فعل أقوام قبلهم ذلك بالنسبة لكتاب الله تعالى الذي آتاه موسى عليه السلام. ولسوف يجزيهم الله بما يستحقون من حيث إنه لا بد من أن يجزي كل طائفة بما تستحق.
ونتيجة لذلك صرفوا الضمير في (إنهم) إلى الكفار والضمير في (منه) إلى القرآن.
وخالفهم فريق آخر فقال إن الجملة عائدة إلى الكتابيين الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام. واستدل على ذلك بآية سورة الشورى وهي: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) وقد يكون هذا هو الأوجه. ولا سيما إن هناك آيات كثيرة مدنية ومكية غير آية سورة الشورى ذكرت اختلاف أهل الكتاب واليهود خاصة في ما نزل على أنبيائهم، ومن ذلك ما مرّ في السور التي سبق تفسيرها لولا أن يكون هذا يجعل الآيتين منقطعتين عن السياق السابق واللاحق لهما. وقد يتبادر لنا من فحوى الآيتين وروحهما ومقامهما احتمال آخر يجعلهما جزءا من السياق غير شاذين ومنقطعتين عنها وهو ما لا يستساغ.
وهذا الاحتمال هو أن يكون الكفار قد تحدثوا عن كتاب موسى عليه السلام واختلاف بني إسرائيل فيه كأنما أرادوا أن يقولوا إن اتخاذهم الملائكة شفعاء لدى الله- وهو ما تضمنته الآيات السابقة وردته- هو اجتهاد وليس من شأنه أن ينفي
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والطبرسي والقاسمي.
543
عنهم صفة الإيمان بالله وكونه الخالق الرازق كما يريد القرآن، وإن بني إسرائيل قد اختلفوا عن اجتهاد في كثير مما احتواه كتابهم فاحتوت الآية الأولى ردا عليهم يتضمن تقرير كون اختلاف بني إسرائيل لم يكن اجتهادا في المبادئ لأن المبادئ التي من جملتها توحيد الله مطلقا لا تتحمل اختلافا وإنما كان اختلافهم نتيجة لتوسعهم في التأويل والتخريج. ثم أكدت الآية الثانية ما قررته الآية السابقة للآيتين بأن الله تعالى سيوفي كل الناس أعمالهم.
وهكذا تظهر صلة الآيتين بالسياق قوية وتكون الآية الأولى إذا صح استلهامنا- ونرجو أن يكون صحيحا- قد احتوت صورة طريفة من صور الجدال بين نبهاء الكفار والنبي ﷺ حيث كان كثير من هؤلاء النبهاء لم يجحدوا رسالة النبي ﷺ والقرآن غباء. وإنما عنادا واستكبارا على ما قررته آيات عديدة أوردناها في المناسبات السابقة.
ومع ما ذكرناه فليس ما يمنع أن تكون الآية الأولى قد تضمنت أيضا تسلية للنبي ﷺ من حيث أرادت تقرير أن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب فوقف الناس منه موقف المصدق والمكذب والمؤمن والشاك والمؤول والمختلف كما كان شأن العرب من القرآن، وأن الله قادر على أن يعجل في القضاء على الشاكين المكذبين لولا أن حكمته اقتضت التأجيل إلى الحين المعين في علم الله.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
. (١) ولا تطغوا: ولا تتجاوزوا ما أمرتم به.
(٢) ولا تركنوا: فسرها بعضهم بالميل وبعضهم بالاعتماد والاستناد وكلا
544
التفسيرين وجيه وإن كان الثاني أوجه.
(٣) زلفا من الليل: الإزلاف بمعنى التقرب. والجملة بمعنى ساعات من الليل القريبة من النهار، ويمكن أن يكون قصد بها وقت العشاء ووقت الفجر فهما أول الليل وآخره بحيث يكون ذلك مقابلة لجملة طَرَفَيِ النَّهارِ.
الآيات تأمر النبي ﷺ بالاستقامة على ما رسمه الله من مبادئ وحدود هو والمؤمنون معه وعدم الانحراف عن ذلك وتجاوزه، وتؤكد أن الله بصير بما يعملونه ومراقبهم فيه، وتنهاهم عن الميل والركون للظالمين وتنذرهم بأن هذا يجرهم إلى النار فضلا عن أنهم لا يمكن أن ينتصروا بذلك لأنهم ليس لهم ناصر من دون الله، وتحث النبي ﷺ على إقامة الصلاة في أول النهار وآخره وفي أول الليل وآخره كذلك، وتقرر أن ما يقدمه المرء من صالح الأعمال يمحو ما قد يكون بدر منه من هفوات وسيئات، وأن في هذا تذكرة للذاكرين وترغيبا للراغبين، ثم تثبت النبي ﷺ وتحثه على التمسك بالصبر وتطمئنه بأن الله تعالى لا يضيع أجر الصابرين المحسنين.
والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها اتصالا تعقيبيا، وقد احتوت التفاتا للنبي ﷺ والمؤمنين بالنصائح والمواعظ والتنبيهات التي من شأنها أن تثبت قلوبهم وتمنحهم رضاء الله بعد أن سبقتها آيات فيها وعيد وإفحام وردّ وتكذيب للكافرين.
فعليهم أن يستقيموا على ما رسمه الله تعالى لهم من مبادئ وحدود دون أن يركنوا إلى الظالمين ففي ذلك خيرهم وسعادتهم وطمأنينتهم وفي الخروج عنه هلاكهم.
تعليق على آية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا
ومما ذكره المفسرون في سياق تفسير الآية [١١٢] أن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما نزلت على رسول الله ﷺ آية هي أشد عليه من هذه الآية حتى قال شيبتني هود وأخواتها فسئل عما شيبه منها فقال فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «١».
(١) انظر تفسير الآية في البغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.
545
والمتبادر إذا صحت الرواية أن النبي ﷺ نبه المؤمنين بذلك إلى ما قد تحتاج إليه الاستقامة على أوامر الله وحدوده من عزيمة قوية وإيمان عميق، وذلك حق لا ريب فيه، ومما قالوه في معنى (استقم) اثبت على أوامر الدين ونواهيه ولا تزغ عنها ولا تحتل فيها، ولا شك في أن الكلمة تتحمل هذه المعاني أيضا.
ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله الثقفي قال: «قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم»، وروي عن عمر بن الخطاب قوله: «إن الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تزوغ زوغان الثعلب».
ومن المفسرين «١» من فسر جملة وَلا تَطْغَوْا بمعنى التجاوز إلى ما فيه معصية وطغيان، ومنهم من قال إنها تتضمن معنى التحذير من الغلو في الدين.
وأورد أصحاب القول الثاني في سياقها حديثا نبويا روى صيغة مقاربة من البخاري عن أبي هريرة جاء فيها: «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فسدّدوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» «٢».
وكلا التفسيرين وارد إلا أن روح الجملة تجعل القول الأول أكثر وجاهة وورودا. والحديث لم يرد كتفسير للآية، وفيه في حدّ ذاته تلقين بليغ.
تعليق على جملة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
تعددت الأقوال في معنى (تركنوا) منها أنها بمعنى (تميلوا) ومنها أنها بمعنى (تستندوا) والثاني هو المتسق أكثر في مدى الركون اللغوي على ما حققه السيد رشيد رضا. وتعددت الأقوال كذلك في المقصود (بالذين ظلموا) حيث قيل إنهم الكافرون والمشركون كما قيل إنهم الظلمة البغاة. وقد رجح الطبري الأول وقد
(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن. [.....]
(٢) الخازن هو الذي أورد الحديث وقد نقلنا صيغته برواية البخاري من التاج ج ١ ص ٤١- ٤٢.
546
يكون هذا هو الأوجه في ظروف نزول الآية من حيث إنه لم يكن من المشركين الكافرين في العهد المكي من لا يوصف بغير الظلم في موقفه من الدعوة بقطع النظر عن شركه وكفره. وقد وصف الشرك في القرآن المكي بالظلم العظيم كما جاء في آية سورة لقمان [١٣] ووصف الكفار المشركون بالظالمين كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة الفرقان [٢٧] وسورة الأعراف [٩].
غير أنه يتبادر لنا أن للقول الأول وجاهة على المدى البعيد عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يؤيد ذلك إطلاق العبارة القرآنية بحيث يصح القول إن في الجملة تلقينا مستمر المدى يوجب كل مسلم مخلص بعدم الميل والاستناد إلى الباغي المنحرف عن الحق والمرتكب للمعاصي سواء أكان مسلما أم غير مسلم. وعدم الاعتماد عليه والتناصر معه ومداهنته والتعاون معه. وكل هذا يدخل في مدى ومفهوم الركون بها وواجبه بالوقوف منه موقف المناوئ المناضل في نطاق قدرته، وهذا الواجب يصبح أكثر لزاما على الجماعات الإسلامية.
ويلفت النظر بخاصة إلى جملة وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ التي أعقبت الجملة التي نحن في صددها فإنها ذات مدى ومغزى قويين في التنبيه والتحذير. فالركون إلى الذين ظلموا فضلا عن أن يجر إلى النار فإنه لن يضمن أي نصر ونجاح لأنه ليس غير الله يضمن ذلك. وليس غير الله ولي ونصير.
ولقد استطرد السيد رشيد رضا الذي توسع في هذه المسألة إلى موضوع طاعة أصحاب السلطان والتعاون معهم إذا كانوا بغاة منحرفين. وقد رأينا أن نرجئ الكلام على هذه المسألة إلى مناسبة آتية أكثر ملاءمة. ولقد سبق التعليق على الظلم في معنى البغي والعدوان والاغتصاب في سورة الفرقان بما يغني عن التكرار هذا من حيث نزولها ومقامها في السياق.
ولقد أورد المفسرون أحاديث وروايات وأقوالا عديدة في فحواها من ذلك عن مجاهد أن الحسنات التي تذهب السيئات هي «سبحان الله والحمد لله ولا إله
547
إلّا الله والله أكبر» «١». ومن ذلك قول روي في صيغ عديدة عن أبي بكر وعثمان وغيرهما من أصحاب رسول الله ﷺ أنها الصلوات الخمس. أو الصلاة مطلقا.
وساق الطبري حديثا رواه بطرق عن أبي مالك الأشعري عن النبي ﷺ قال:
«جعلت الصلوات كفارات لما بينهن فإن الله قال إن الحسنات يذهبن السيئات».
والقول إنها الصلاة أوجه من القول الأول. ومجيء الجملة بعد الأمر بإقامة الصلاة قرينة حاسمة على كونه الأوجه.
تعليق على آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
المصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآية مدنية، ويروي المفسرون في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن مسعود جاء فيه: «أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ ﷺ فذكر له ذلك فأنزلت الآية. فقال الرجل ألي هذه قال لمن عمل بها من أمّتي» «٢». وحديث رواه الترمذي عن أبي اليسر قال: «أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إنّ في البيت تمرا أطيب منه فدخلت معي فملت عليها فقبّلتها فسألت أبا بكر فقال استر على نفسك ولا تخبر أحدا وتب إلى الله فلم أصبر وسألت رسول الله ﷺ فقال أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا، حتى تمنّى أنه لم يكن أسلم إلّا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار. وأطرق رسول الله طويلا حتى أوحي إليه
(١) هذه الصيغة مروية عن رسول الله ﷺ ولكن ليست على كونها تفسيرا للآية. وقد رواها الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع؟ قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر». التاج ج ٥ ص ٩٠.
(٢) التاج ج ٤ ص ١٣١- ١٣٢.
548
بالآية فقرأها فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة» «١».
ومقتضى الحديثين أن الآية نزلت في العهد المدني. ويلحظ أنها منسجمة في السياق ومعطوفة على ما قبلها. وبينها وبين ما قبلها مماثلة في الصيغة فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ووَ أَقِمِ الصَّلاةَ حيث يبرر هذا الشك في مدنية الآية التي تبدو والجملة هذه مقحمة في سياق مكي.
وفي كتب تفسير الطبري والبغوي صيغ متعددة من باب الحديثين، منها ما يفيد أن النبي ﷺ تلا الآية على الرجل تلاوة. وأمره بالوضوء والصلاة والتوبة حيث يتبادر أن النبي ﷺ قرأ الآية على سبيل التقوى وتطمين المذنب الذي جاء إليه معترفا بذنبه نادما تائبا وأن الذين رووا مدنيتها ونزولها في هذه المناسبة قد التبس الأمر عليهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث أخرى في نفع الصلاة، منها حديث رواه أيضا مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي ﷺ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر» «٢». ومنها حديث رواه الطبري بطرقه عن النبي ﷺ جاء فيه: «إن النبي ﷺ كان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا فهزّه حتى تحاتّ ورقه ثم قال لراوي الحديث ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم تفعله؟ فقال: إن المسلم إذ توضّأ فأحسن الوضوء ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ثم تلا هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» «٣».
ويجب أن نستدرك أمرا فإن الربط بين الصلاة التي عدت حسنات وبين محو
(١) التاج ج ٤ ص ١٣١- ١٣٢.
(٢) التاج ج ١ ص ١١٩.
(٣) هناك أحاديث أخرى أوردناها في تعليقنا على الصلاة في سورة العلق وعلى جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ في سورة مريم فنكتفي بما أوردناه.
549
السيئات في الآية قائم على ما هو المتبادر على كون المرء الذي يبدر منه خطيئة حينما يقف أمام الله عز وجل يتذكر ما بدر منه فيشعر بالخجل والندم ويسوقه هذا إلى التكفير عن عمله والكف عنه. وفي الفقرة الأخيرة من الآية توضيح هذا المعنى أو قرينة عليه، ففي ذكر الله قوة رادعة عن الشر دافعة إلى الخير. والصلاة أقوى وسيلة إلى ذكر الله. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الصلاة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة ليس من شأنها أن تمحو سيئة ما. وأن ما يتوهمه عوام الناس من أنهم يتلافون بقيامهم وركوعهم وسجودهم الآلي فقط نتائج ما يقترفونه من ذنوب في غير محله. فهدف الآية هو إصلاح النفس وإيقاظ الضمير بوسيلة الصلاة وذكر الله تعالى فيها. ولا يكون هذا مجديا إلّا إذا صلى المرء خاشعا شاعرا ذاكرا متأثرا نادما على ذنبه مصمما على توبته منه معتقدا ذلك فعلا. ومن الأحاديث النبوية التي وردت في هذا المعنى: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» «١» و «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» «٢».
وقد يتبادر مع ذلك أن كلمة (السيئات) في الآيات والأحاديث قد عنت الهفوات الصغيرة التي سميت في القرآن باللمم أيضا التي قد يغفرها الله تعالى للمسلم بحسنات صلاته إذا أداها على وجهها واجتهد في الوقت نفسه في تجنب الكبائر على ما شرحناه في سياق سورة النجم بما يغني عن التكرار. وفي أحد الأحاديث التي مر إيرادها «إن الصلاة كفارة لما قبلها ما لم تغش الكبائر» حيث ينطوي في هذا تأييد لما قلناه.
وجملة إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ جاءت بأسلوب مطلق، وهي في الوقت ذاته جملة تامة، وقد تبادر لنا من ذلك أنها تتضمن في ذاتها مبدأ عاما، وإن الصلاة على عظم خطورتها هي من الحسنات وليست كل الحسنات، فالصدقات المفروضة (الزكاة) والتطوعية حسنة، والجهاد حسنة، ومساعدة الضعفاء والذبّ عنهم حسنة، والبرّ بالوالدين حسنة، والتعاون على الحق والخير والصبر والأمر
(١) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.
(٢) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.
550
بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير حسنة إلخ... وكما تذهب الصلاة الصادقة السيئات فإن مقتضى هذا المبدأ أن تذهب هذه الحسنات السيئات إذا ندم مقترفها وتاب عنها، ومما يؤيد ذلك آية سورة الفرقان هذه: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) التي جاءت عقب تعداد الجرائم الكبيرة التي يحرمها الله وينذر مقترفيها بالعذاب المضاعف والهوان المخلد، وآيات سورة التوبة هذه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) وفي سورة النساء آية عظيمة في هذا الباب حيث تتضمن أن اجتناب المرء الكبائر مما يجعل الله عز وجل يغفر له الهفوات والسيئات وهي هذه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (٣١). ولقد ورد في حديث نبوي رواه الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه: «يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «١». وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «٢». والحديثان يؤيدان ما قلناه من عمومية المبدأ الذي احتوته الآية وإطلاقه.
وهكذا يفتح هذا المبدأ وما ورد في سياقه من أحاديث وما أيده من آيات أفقا واسعا أمام المؤمن، ويتضمن وسيلة عظمى من وسائل إصلاح المؤمن وحفزه على عمل الصالحات والحسنات إذا ما قارف ذنبا مهما بدا عظيما وندم عليه، وهو إن كان يشبه التوبة التي شرحنا مداها في سياق سورة الفرقان ففيه زيادة من حيث حفزه على الحسنات في سبيل محو السيئات.
هذا، ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى
(١) انظر تفسير الآية في ابن كثير والحديث الثاني رواه الترمذي انظر التاج ج ٥ ص ٥٧.
(٢) المصدر نفسه.
551
جملة طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ كما تعددت أقوالهم في عبارات مماثلة في سورتي الإسراء وطه على ما ذكرناه في تفسيرهما. ومما قيل إن طَرَفَيِ النَّهارِ هما الفجر إلى المغرب فيكون المقصود من ذلك صلوات الفجر والظهر والعصر ويكون المقصود من وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ صلوات المغرب والعشاء. كما قيل إن العبارة الأولى عنت صلاتي الفجر والمغرب والعبارة الثانية عنت صلاة العشاء.
والمتبادر أن القول الأول هو أكثر ورودا والله تعالى أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
. (١) فلولا: هنا بمعنى فهلا للتنديد والتعجب.
(٢) أولو بقية: بمعنى أولو فضل وخير وتقوى وعقل.
(٣) الذين ظلموا: المتبادر المستلهم من روح الآية أن هذه الجملة بمعنى الذين بغوا وطغوا وعصوا.
(٤) ما أترفوا فيه: ما كان سببا لترفهم من الشهوات.
(٥) بظلم: هنا بمعنى بدون حق وسبب موجب.
في الآيات تقرير فيه معنى التعقيب على ما كان من أمر الأمم السابقة التي قصّ الله أنباءها، فقد كان ينبغي أن يكون فيها أولو عقل وفضل وتقوى ينهون الناس عن الفساد في الأرض ولكن هؤلاء كانوا قليلين فلم يؤثروا، وهم الذين أنجاهم الله وأنجى الذين ساروا على طريقتهم من بعدهم. أما سائرهم فقد كانوا ظالمين واستمروا في طريق الإجرام والبغي والشهوات والترف فأهلكهم الله. فالله تعالى لا يهلك القرى ويدمرها إذا كان أهلها صالحين لأن ذلك ظلم يتنزه عنه
552
سبحانه وصلة الآيات والحالة هذه بالسياق ملموحة.
ويمكن أن يستلهم من مطلع الآية الأولى قصد تعليل بقاء الناس أجيالا بعد أجيال في حين أن منهم من ينتسب إلى الأمم التي أهلكها الله، فلو لم يكن من القرون والأمم السابقة أناس ولو قليلون من ذوي العقول والتقوى والصلاح كانوا ينهون عن الفساد في الأرض لبادت أجيال الناس ولما بقي منهم ديّار.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وتعليل اجتماعي بليغ كما فيه تنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بالنبي ﷺ على قلتهم وتلقينهم أنهم قد تحفظ بهم الأجيال والديار فعليهم الصبر والله لا يضيع أجر المحسنين، وفيه كذلك إنذار للكافرين الذين اتبعوا أهواءهم واستغرقوا في شهواتهم واستمروا في عنادهم ومكابرتهم وبغيهم. والمتبادر أن هذا وذاك هو استهدفته الآيات أو مما استهدفته.
تعليق على آية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ
قال المفسرون في معنى الآية قولين أحدهما أن الله تعالى لا يهلك القرى إلّا إذا شذت عن الصلاح فكفرت بالله وكذبت الرسل واقترفت المنكرات. وثانيهما أن الله لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين يتعاطون الحق بينهم ولا يتظالمون وإن كانوا غير مؤمنين بالله ورسله وإنما يهلكهم إذا تظالموا. وروى الطبرسي حديثا نبويا مؤيدا للقول الثاني لم يرد في الصحاح جاء فيه: «وأهلها مصلحون أي ينصف بعضهم بعضا».
القول الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر ومضمون الآية، والآية التي قبلها يدعمه دعما قويا حيث اقتصر الكلام فيهما على الفساد في الأرض والإجرام والظلم واتباع الشهوات وأسباب الترف وجملة وَهِيَ ظالِمَةٌ في الآية [١٠٢] من السورة تدعم ذلك أيضا. وللسيد رشيد رضا قول سديد في ذلك حيث يحمل الجملة على معنى الصلاح الاجتماعي والعلمي والعمراني أو يجعل ذلك من ضمن ما يحمله
553
معنى الجملة ويعلل بذلك عدم تذكير الله تعالى الأمم الصالحة على هذا الوجه مع كفرها وشركها ويقول إن الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم. وشيء من مثل هذا ملموح في كلام بعض المفسرين القدماء كالطبري وابن كثير والزمخشري، والله أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
. تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً والآية التالية لها
المتبادر أن الآيتين جاءتا كتعقيب على ما سبقهما وأنهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. ولقد تعددت التأويلات التي قالها أو رواها المفسرون للآيتين.
من ذلك أن الاختلاف المذكور في الأولى هو اختلاف الأديان والنحل. وأن الاستثناء الذي جاء في أول الآية الثانية عائد إلى الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن الاختلاف هو بسبيل وصف أهل الباطل والأشقياء بسبيل وصف أهل الحق.
وأن هذا الاختلاف على أي قول هو من حكمة الله ومشيئته ليمتاز كل صنف عن الآخر وينال كل منهم ما يستحقه. ومن ذلك أن الاختلاف بسبيل بيان اختلاف الناس في الرزق ومراتب الحياة الاجتماعية. وإن حكمة الله اقتضته ليتسخر بعضهم لبعض.
والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك إذا اعتبرت جملة وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وما بعدها كلاما مستأنفا مستقلا عن ما قبله. أما إذا اعتبرت جزءا من معنى عموم الآيتين فيكون القول الأول هو الأوجه. وهناك من أوّل الآيتين بمعنى أن الله قادر حمل الناس على الإيمان والحق ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم. وأن الاختلاف كان نتيجة ذلك فاستحقوا الثواب والعقاب. وهذا أيضا وجيه بل يتبادر لنا أنه أوجه التأويلات للآيتين روحا ونصا وأنه المتسق مع مبادئ قرآنية مرّ على
تقريرها وشرحها في السور التي سبق تفسيرها.
وقد يصح أن يضاف إلى ذلك في الوقت نفسه أن الآيتين انطوتا أولا على تطمين النبي ﷺ وتسليته عما كان من مواقف الكفار وعنادهم مع إنذار لهؤلاء. فلا محل لحزنه وغمّه. فإن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وقسرهم على الإيمان والتصديق. ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم فتكون جهنم مصير كل من اختار الكفر والبغي. وعلى ضوء هذا فتكون جملة إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بسبيل التنويه بالذين آمنوا برسالة النبي ﷺ الذين تداركتهم رحمة الله فلم يكونوا من أهل جهنم بالإضافة إلى أنها عامة مستمرة المدى. ومثل هذا التطمين للنبي ﷺ والتنويه بالمؤمنين قد تكرر كثيرا ومرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها لأن المواقف التي تقتضيهما كانت تكرر.
وثانيا على رد على طريقة الأسلوب الحكيم على تساؤل كثير من الناس حيث احتوت تقرير كون اختلاف الناس هو مظهر طبيعي وناموس من نواميس الله فيهم لييسر كلا منهم حسب قابليته واختياره فلو شاء لخلقهم على جبلة واحدة ووتيرة واحدة وملة واحدة. وحينئذ لا يتميزون عن سائر الحيوانات. ولا يكون معنى لما اقتضته حكمة الله من جعلهم أهلا للتكليف وخلفاء في الأرض ليكونوا فيها أولي الأمر والشأن والانتفاع من مختلف مظاهر كونه ومن بعثهم يوم القيامة ليجزي كلا منهم بما كسب في الحياة الدنيا والله تعالى أعلم.
وقد يبدو لأول وهلة بين الآية الأولى وآية سورة يونس [١٩] التي جاء فيها:
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا تناقض. ولسنا نرى ذلك فآية يونس في صدد وحدة فطرة الله التي فطر الناس عليها وما كان من اختلافهم وشذوذهم عنها على ما شرحناه في سياقها وفي هذه الآية تعليل لذلك الاختلاف والشذوذ. والله تعالى أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
555
(١) في هذه: روى المفسرون في تأويل هذه الجملة ثلاثة أقوال منها أنها بمعنى هذه السورة. ومنها أنها بمعنى هذه الدنيا. ومنها أنها بمعنى هذه الأنباء.
ولعل القول الأخير هو الأوجه لأن كلمة الأنباء هي الأقرب ذكرا.
في الآيات تعقيب على السياق والكلام السابق كما هو المتبادر، فالله تعالى إنما يقص على نبيه ﷺ ما يقصه من أنباء الرسل السابقين ليثبت به فؤاده، ويتبين حكمة الله في خلقه، ولقد جاء في هذه الآيات الحق الذي فيه موعظة وتذكرة للمؤمنين. وعليه أن لا يبالي بالذين لم يؤمنوا لأن حكمة الله اقتضت أن يكون في الناس الصالح والطالح والمهتدي والضالّ والأخيار والأشرار، وأن يقول لهم سيروا على الطريقة التي ترغبون ونحن نسير على الطريقة التي نرغب، وانتظروا حكم الله وأمره ونحن من المنتظرين لهما أيضا. وعليه أن يتوكل على الله ويستمر في عبادته وذكره. فالأمر كله راجع إليه، وهو المطلع على كل ما خفي وظهر في السموات والأرض، وليس غافلا عما يفعل الناس مؤمنوهم وكفارهم.
والمتبادر أن الآيات استهدفت أيضا فيما استهدفته تسلية النبي ﷺ وتوكيد كونه غير مسؤول عن موقف الكفار. وكون ما نزل عليه هو الحق الذي يهتدي به الطيبون الصالحون في نواياهم وقلوبهم وأخلاقهم، كما استهدفت إنذار الكفار وتوكيد كون الله محيطا بأعمالهم وكونهم راجعين إليه ومسؤولين أمامه.
كذلك جاءت خاتمة قوية لمواقف المناظرة والجدل التي حكتها فصول السورة وخاتمة قوية أيضا للسورة.
[تم بتوفيق الله الجزء الثالث ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع وأوله تفسير سورة يوسف]
556
فهرس محتويات الجزء الثالث
تفسير سورة الجن ٧ شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته ٨ تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته ١٧ تعليق على جملة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا... ١٩
تفسير سورة يس ٢٠ تعليق على آيات إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ... ٢٣
تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته ٢٧ تعليق على محاولة استنباط النظريات العلمية من الآيات ٣١ تعليق على تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ... ٣٢
نموذج آخر للتفسيرات الصوفية ٣٣ تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء ٣٤ تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي ٣٩ تفسير سورة الفرقان ٤٧ تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي ٥٠ تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين ٥٣ دلالة تعبيري اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ ٦٣ تعليق على تحدي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي ٦٥
559
تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر ٦٥ تعليق على تعبير انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ... ٦٦
تعليق على تعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً... ٦٨
تعليق على تعبير مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ ٧١ تعليق على ما في القرآن من تكرار التنديد بالظالمين ٧١ تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ٧٦ تعليق على جملة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ٨٠ تعليق على تحدي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة ٨٢ تلقين الآيتين [٤٣ و ٤٤] وما بعدهما ٨٦ تعليق على الأمر بالتوكل على الله ٩٣ تعليق على اسم الرحمن ٩٧ تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها ١٠٢ تعليق على تعبير لَوْلا دُعاؤُكُمْ ١٠٥ تفسير سورة فاطر ١٠٧ تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا ١١٠ تعليق على تعبير فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ... ١١١
تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ... ١١٤
تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ١١٨ تعليق على جملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ١٢١ تعليق على جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ١٢٥ تعليق على جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ١٢٩ تعليق على جملة إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ١٣١ تعليق على جملة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ١٣٢ سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة ١٣٦
560
تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب ١٣٨ حكمة الله المنطوية في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ... ١٤٠
تفسير سورة مريم ١٤١ تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها ١٤٧ تعليق على جملة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ١٥٨ تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام ١٦٠ تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام ١٦٢ تعليق على شخصية إدريس عليه السلام ١٦٣ تعليق على الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والآيات الثلاث ١٦٦ تعليق على آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ١٦٨ تعليق على جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ١٧٣ تعليق على جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ١٧٧ تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ... ١٨١
تفسير سورة طه ١٨٦ تعليق على الآيات الأولى من سورة طه ١٨٧ تعليق على مدى السلسلة القصصية عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون ١٩٠ تعليق على جملة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ١٩٣ تعليق على الحلقة الثانية من سلسلة قصص موسى عليه السلام ١٩٤ تعليق على أمر الله تعالى لموسى بملاينة الكلام مع فرعون ١٩٥ تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل ١٩٩ تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ٢٠٢ تعليق على جملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ ٢٠٨ تعليق على جملة وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ٢٠٩
561
تعليق على الآية فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ... ٢٠٩
تعليق على الجديد في قصة آدم وإبليس في هذه السورة ٢١٤ تعليق على مدى الآية التي تأمر بذكر الله وتسبيحه ٢١٦ تلقينات آية وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى... ٢١٩
تعليق على تحدي الكفار للنبي بالإتيان بآية ٢٢٠ تفسير سورة الواقعة ٢٢٥ تعليق على وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ... ٢٢٨
تعليق على ما جاء في الآيات في وصف مجلس الشراب ٢٢٩ تعليق على منازل أصحاب اليمين ٢٣١ تعليق على التنديد بالترف والمترفين ٢٣٢ تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة ٢٣٣ تعليق على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه ٢٣٣ تعليق على آيات إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ... ٢٣٧
تفسير سورة الشعراء ٢٤١ تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة ٢٤٢ تعليق على كلمة مُحْدَثٍ في الآيات ٢٤٤ تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة ٢٤٧ تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة ٢٥٠ تعليق على قصة نوح ٢٥٢ تعليق على قصة هود ٢٥٤ تعليق على قصة صالح ٢٥٥ تعليق على قصة لوط ٢٥٦ تعليق على قصة شعيب ٢٥٧
562
تعليق عام على القصص ٢٥٨ تعليق على آيات وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ... ٢٥٩
تعليق على استعجال الكفار عذاب الله ٢٦٥ تعليق على كلمة الأعجمي والأعجمين ٢٦٥ تعليق على آيتي وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ... ٢٦٦
تعليق على آيات وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ... ٢٦٧
تعليق على آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ٢٧٠ بناء الأخوة الدينية في الإسلام ٢٧١ ما في معالنة النبي لأقاربه بالبراءة ٢٧٣ تلقين جملة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ... ٢٧٣
تعليق على آيات هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ... ٢٧٥
تعليق على آية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ٢٧٦ تعليق على استثناء المؤمنين من ذم الشعراء ٢٧٦ دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة ٢٧٨ تفسير سورة النمل ٢٧٩ تعليق على اجتماع كلمتي القرآن والكتاب في آية واحدة ٢٨٠ تعليق على جملة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ٢٨١ تعليق عام على آيات السورة الأولى ٢٨٢ تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة ٢٨٤ مغزى وصف الله نفسه بربّ العالمين ٢٨٦ تعليق على قصة داود وسليمان وملكة سبأ ٢٨٨ هدف الحلقة ومواضع العبرة فيها ٢٩٠ تعريف سبأ ٢٩١ تعليق على قصتي صالح ولوط مع قومهما ٢٩٢
563
تعليق على الآيات التي جاءت بعد سلسلة القصص ٢٩٤ تعليق على آية إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ... ٢٩٨
تعليق على الدابة المذكورة في الآية [٨٢] ٣٠١ تعليق على مدى الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ... ٣٠٣
تعليق على جملة الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ٣٠٧ تفسير سورة القصص ٣٠٨ تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون ٣١٣ تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون ٣١٨ تعليق على آيات وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ٣٢٠ تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ٣٢٢ تعليق على آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ... ٣٢٤
مشهد يسجل أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب ٣٢٦ تعليق على آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... ٣٢٧
تعليق على آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى... ٣٣٠
تعليق على الآية وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ... ٣٣٤
تعليق على جملة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ... ٣٣٨
تعليق على قصة قارون ٣٤٢ تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص ٣٤٦ دلالة قرآنية ٣٤٩ تفسير سورة الإسراء ٣٥١ تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى ٣٥٦ تعليق على أحداث بني إسرائيل في أول السورة ٣٥٨ تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في هذه السورة ٣٦٣
564
تعليق على مدى الآية مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ... ٣٦٦
مذهب السلف الصالح في فهم القرآن ٣٦٨ تعليق على آية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً...
٣٧٠
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية في السورة ٣٧٥ تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ... ٣٧٦
صور من تقاليد العرب وعاداتهم ٣٧٧ تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة ٣٧٨ تعليق على صرف جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ٣٨٣ تعليق على تحديد عدد السموات بسبع ٣٨٧ تعليق على آية وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا... ٣٩٣
تعليق في صدد تفضيل الأنبياء ٣٩٧ تعليق على الآية وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها... ٤٠٠
تعليق على الآية وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ... ٤٠٢
تعليق على آية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ... ٤٠٧
تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ... ٤١٠
تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ... ٤١٥
تعليق على الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... ٤١٩
تعليق على جملة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ... ٤٢٣
تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه ٤٢٩ تعليق على الآية وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ٤٣٨ تفسير سورة يونس ٤٤٢ تعليق على قول الكفار ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا... ٤٥١
مدى عقيدة الشرك عند العرب ومدى عقيدة التوحيد الإسلامية ٤٥٣ تعليق على جملة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً... ٤٥٤
565
تعليق على جملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... ٤٦٦
تعليق على جملة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ... ٤٦٦
تعليق على الآية وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى... ٤٦٨
تعليق على جملة صَبَّارٍ شَكُورٍ ٤٦٩ تعليق على كلمة (سورة) ٤٧٠ تعليق على آية وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ... ٤٧١
تعليق على جملة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ٤٧٦ تعليق على الآية أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ... ٤٨٣
تعليق على قصة نوح عليه السلام ٤٨٧ تعليق على آيات قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل ٤٩٠ تعليق على الآية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا... ٤٩٣
تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ... ٤٩٧
تعليق على كلمة (الحنيف) ٤٩٩ تفسير سورة هود ٥٠١ قوة استهلال السورة ٥٠٢ تعليق على ما يبدو من كلام النبي المباشر للناس ٥٠٣ تعليق على جملة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ٥٠٦ تعليق على جملة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ٥٠٧ تعليق على الآية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى... ٥١١
دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن ٥١٢ تعليق على آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا... ٥١٣
تعليق على قصة نوح عليه السلام ٥٢١ تعليق على آية تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ... ٥٢٢
مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام ٥٢٤
566
تعليق على آية أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ٥٢٥ تعليق على قصة هود عليه السلام ٥٢٧ تعليق على قصة صالح عليه السلام ٥٢٨ تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام ٥٣٠ تعليق على قصة لوط عليه السلام ٥٣٢ تعليق على قصة شعيب عليه السلام ٥٣٤ تعليق على قصة موسى عليه السلام ٥٣٥ تعليق على جملة وَهِيَ ظالِمَةٌ ٥٣٦ تعليق على جملة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ ٥٣٨ تعليق على جملة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ٥٣٩ تعليق على جملة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ٥٤٠ تعليق على آية فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ... ٥٤٢
تعليق على الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ... ٥٤٣
تعليق على آية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ... ٥٤٥
تعليق على جملة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ٥٤٦ تعليق على آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ... ٥٤٨
تعليق على آية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى... ٥٥٣
تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ٥٥٤
567
Icon