ﰡ
وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر، والتي هى على وعد من الله به- حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم، ويجمع فى كيانه وحده، سفههم، وعنادهم، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين..
إنه أبو لهب.. وامرأته حمالة الحطب..
[سورة اللهب.. ونظمها] بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٥) [سورة المسد (١١١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)
التفسير:
«أبو لهب» - كما أشرنا من قبل، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين..
ومع أنه كان عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم-
وقوله تعالى:
«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».
التب: القطع للشىء.. وهو كالبت.. ولفظه يدل على القطع والحسم، ويحكى الصوت الذي يحدث عند فصل الشيء عن الشيء..
والمفسرون مجمعون على أن هذا دعاء على أبى لهب من الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكّنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هى مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصّل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وتب» أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الخبر على حقيقته، وأنه خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال..
والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو فى حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفى هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه!! وقوله تعالى:
«ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ».
هو تعقيب على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه فى قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟ إنه بين مخالب عقاب محلق به فى السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك!! وما كسبه أبو لهب، هو أولاده، لأن الولد من كسب أبيه، ومن تثميره، كما يقول النابغة الذبياني.
مهلا فداء لك الأقوام كلّهم | وما أثمر من مال ومن ولد |
«سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ»..
هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب فى الآخرة، بعد أن عرف مصيره فى الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه فى الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قتل صناديدها، وأسر زعماؤها..
وفى وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنّى بها «أبو لهب».. فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها فى الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب..
وقوله تعالى:
«وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ»..
معطوف على فاعل «سيصلى» أي سيصلى هو نارا ذات لهب، وستصلى امرأته معه هذا النار، ذات اللهب..
وقوله تعالى: «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» منصوب على الذّم، بفعل محذوف قصد به التخصيص للصفة الغالبة عليها، وتقديره: أعنى، أو أقصد.. حمالة الحطب.
و «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» أي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت
«يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» (٣١: الأنعام).
وانظر إلى الإعجاز القرآنى فى وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي- بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوما، وقد كان..
فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم..
وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز فى التفرقة بين «أبى لهب» وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب- وإن كان من وقود النار- إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها «أبو لهب» فلا بد أن تشتعل، وتحترق! وقوله تعالى: «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ».
الجيد: العنق، والجيد من محاسن المرأة، وسمى جيدا من الجودة، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلى وجواهر..
والمسد: الليف، أو ما يشبهه، مما تتخذ منه الحبال..
وفى تعليق هذا الحبل فى جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفى تشويه خلقها.. فما أبشع «جيد» امرأة كان من شأنه أن يتحلى
وأكثر من هذا..
فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء فى صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة..
إنها تصلح أن تكون- فى نظمها- غناء، أو نشيدا، أو حداء.. ولا نحسب إلا أنها كانت، بعد أيام قليلة من نزولها، نشيدا مرددا فى طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفى البوادي على أفواه الرعاة، والحداة، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان، والأنغام، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز..
ألا يمكن أن تنشد هكذا:
تبت يدا أبى لهب/ وتبّا ما أغنى عنه ماله/ وما كسبا سيصلى نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة الحطب فى جيدها/ حبل من مسد ثم ألا يمكن أن تكون صوت حداء.. هكذا..
تبت يدا أبى لهب وتب... ما أغنى عنه ماله وما كسب
سيصلى نارا ذات لهب... وامرأته حمالة الحطب
فى جيدها حبل من مسد؟
ثم ألا يمكن أن تكون نشيد رعاة.. هكذا:
تبّت يدا/ أبى لهب/ وتب ما أغنى عنه/ ماله/ وما كسب سيصلى/ نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة/ الحطب فى جيدها/ حبل/ من مسد؟
وهكذا، يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار، وفى مواجهتهم بهذا الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر- فى هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن بالله- ولو حتى عن نفاق- لأقام حجة قاطعة على كذب النبي، وافتراء ما جاء
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضى بها على محمد ودعوته.. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة، بكلمة الإسلام، فى أوضح صورة، وأكملها وأصرحها، كما جاءت بها سورة «الإخلاص».
وتلك شهادة قائمة على الدهر، بأن هذا القرآن كلام الله، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(١١٢) سورة الإخلاص
«وتسمى سورة التوحيد» نزولها: نزلت بمكة.. بعد الناس.
عدد آياتها: أربع آيات.
عدد كلماتها: إحدى عشرة كلمة.
عدد حروفها: سبعة وأربعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ، ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وكلمته الأولى إلى قومه..