تفسير سورة الفلق

تفسير الماوردي
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب النكت والعيون المعروف بـتفسير الماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ
سورة الفلق
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة.
بسم الله الرحمان الرحيم

﴿قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد﴾ وهذه والناس معوذتا رسول الله ﷺ حين سحرته اليهود، وقيل إن المعوذتين كان يقال لهما (المقشقشتان) أي مبرئتان من النفاق، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن، وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت. ﴿قُلْ أَعُوذُ بربِّ الفَلَقِ﴾ فيه ستة تأويلات:
373
أحدها: أن الفلق سجن في جهنم، قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن. الثالث: أنه الخلق كله، قاله الضحاك. الرابع: أنه فلق الصبح، قاله جابر بن عبد الله ومنه قول الشاعر:
(يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتفقا أرْعى النجومَ إلى أنْ نوَّرَ الفَلَقُ.)
الخامس: أنها الجبال والصخور تنفلق بالمياه. السادس: أنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره، قاله الحسن. ولأصحاب الغوامض أنه فلق القلوب للأفهام حتى وصلت إليها ووصلت فيها، وأصل الفلق الشق الواسع، وقيل للصبح فلق لفلق الظلام عنه كما قيل له فجر لانفجار الضوء منه. ﴿مِن شَرِّ ما خَلَق﴾ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن شر ما خلق جهنم، قاله ثابت البناني. الثاني: إبليس وذريته، قاله الحسن. الثالث: من شر ما خلق في الدنيا والآخرة، قاله ابن شجرة. وفي هذا الشر وجهان: أحدهما: أنه محمول على عمومه في كل شر. الثاني: أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب. ﴿ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ﴾ فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب. الثاني: القمر إذا ولج أي دخل في الظلام. روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: أخذ رسول
374
الله ﷺ بيدي ثم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب، وهذا الغاسق إذا وقب. الثالث: أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عنذ وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد. الرابع: أنه الليل، لأنه يخرج السباع من آجامها، والهوام من مكامنها ويبعث أهل الشر على العبث والفساد، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي، قال الشاعر:
(يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا إذ جئْتَنا طارِقاً والليلُ قد غَسَقا)
وأصل الغسق الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها، والغسّاق: صديد أهل النار، لجريانه بالعذاب وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق. فعلى تأويله أنه الليل في قوله (إذا وقب) أربعة تأويلات: أحدها: إذا أظلم، قاله ابن عباس. الثاني: إذا دخل، قاله الضحاك. الثالث: إذا ذهب، قاله قتادة. الرابع: إذا سكن، قاله اليمان بن رئاب. ﴿ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ قال أهل التأويل: من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر، قال الشاعر:
(أعوذ بربي من النافثا تِ في عِضَه العاضه المعْضِه)
وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك، طلباً للشفاء، كما قال متمم بن نويرة:
(نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ.)
وقد روى الحسن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (من عقد عقدة ثم
375
نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه، ) والنفث: النفخ في العقد بلا ريق، والتفل: النفخ فيها بريق، وفي ﴿شر النفاثات في العقد﴾ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إيهام للأذى وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض، إلا استشعار ربما أحزن، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية. الثاني: أنه قد يؤذى بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور فيؤثر فيه كتأثير العين، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله. الثالث: أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن يمتحن الله بعض عباده. فأما المروي من سحر النبي ﷺ فقد أثبته أكثرهم، وأن قوماً من اليهود سحروه وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها. روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي ﷺ اشتكى شكوى شديدة، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: ما شكواه؟ فقال الآخر: مطبوب، (أي مسحور، والطب: السحر) قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها، فبعث رسول الله ﷺ عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة، فأمر بحل العقد، فكان كلما حل عقدة وجد راحة، حتى حلت العقد كلها، فكأنما أنشط من عقال، فنزلت عليه المعوذتان، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد، وأمر أن يتعوذ بهما. وأنكره آخرون، ومنعوا منه في رسول الله ﷺ وإن صح في غيره، لما في استمراره عليه من خبل العقل، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول: ﴿إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً﴾. ﴿ومن شر حاسد إذا حسد﴾ أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل، فالحسد شر
376
مذموم، والمنافسة رغبة مباحة، وقد روي أن النبي ﷺ قال: (المؤمن يغبط والمنافق يحسد.) وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان: أحدهما: من شر نفسه وعينه، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر، والمعيون المصاب بالعين، وقال الشاعر:
(قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ)
الثاني: أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فإنه يتبع المساوىء ويطلب العثرات، وقد قيل إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه. وافتتح السورة ب (قُلْ) لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها، وهي من السورة لنزولها معها، وقد قال بعض فصحاء السلف: احفظ القلاقل، وفيه تأويلان: أحدهما: قل (قل) في كل سورة ذكر في أوائلها لأنه منها. والثاني: احفظ السورة التي في أولها (قل) لتأكيدها بالأمر بقراءتها.
377
سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

378
﴿ مِن شَرِّ ما خَلَق ﴾ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن شر ما خلق جهنم، قاله ثابت البناني.
الثاني : إبليس وذريته، قاله الحسن.
الثالث : من شر ما خلق في الدنيا والآخرة، قاله ابن شجرة.
وفي هذا الشر وجهان :
أحدهما : أنه محمول على عمومه في كل شر.
الثاني : أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب.
﴿ ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب.
الثاني : القمر إذا ولج، أي دخل في الظلام.
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم نظر إلى القمر فقال :" يا عائشة، تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب، وهذا الغاسق إذا وقب " ١.
الثالث : أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد.
الرابع : أنه الليل ؛ لأنه يخرج السباع من آجامها، والهوام من مكامنها، ويبعث أهل الشر على العبث والفساد، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي، قال الشاعر :
يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا إذ جئْتَنا طارِقاً والليلُ قد غَسَقا
وأصل الغسق الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم : غسقت القرحة إذا جرى صديدها، والغسّاق : صديد أهل النار، لجريانه بالعذاب، وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق٢.
فعلى تأويله أنه الليل في قوله :﴿ إذا وقب ﴾أربعة تأويلات :
أحدها : إذا أظلم، قاله ابن عباس.
الثاني : إذا دخل، قاله الضحاك.
الثالث : إذا ذهب، قاله قتادة.
الرابع : إذا سكن، قاله اليمان بن رئاب.
١ رواه الترمذي عن عائشة كما أخرجه النسائي والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى..
٢ هكذا في الأصل. وفي اللسان –غسق: الغسق هملان العين بالعمش والماء..
﴿ ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ ﴾ قال أهل التأويل : من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر، قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا تِ في عِضَه العاضه المعْضِه١
وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك، طلباً للشفاء، كما قال متمم بن نويرة :
نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ.
وقد روى الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه ".
والنفث : النفخ في العقد بلا ريق، والتفل : النفخ فيها بريق.
وفي ﴿ شر النفاثات في العقد ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه إيهام للأذى، وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض، إلا استشعار ربما أحزن، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية.
الثاني : أنه قد يؤذي بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور، فيؤثر فيه كتأثير العين، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله.
الثالث : أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن، يمتحن الله بعض عباده.
فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم، وأن قوماً من اليهود سحروه، وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها.
روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما : ما شكواه ؟ فقال الآخر : مطبوب، ( أي مسحور، والطب : السحر ) قال : ومن طبّه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي، فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة، فأمر بحل العقد، فكان كلما حل عقدة وجد راحة، حتى حلت العقد كلها، فكأنما أنشط من عقال، فنزلت عليه المعوذتان، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد، وأمر أن يتعوذ بهما٢.
وأنكره آخرون، ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره، لما في استمراره عليه من خبل العقل، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول :﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ﴾.
١ العضه: كعنب الكذب والسحر والبهتان، والعاضه: الساحر.
وقد جاء البيت في اللسان مادة عضه، غير منسوب..

٢ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن سعد والحكام وعبد ابن حميد وابن مردويه. وقال ابن القيم: هذا الحديث ثابت عند أهل العلم..
﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ﴾ أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة هي تمني مثلها، وإن لم تزل، فالحسد شر مذموم، والمنافسة رغبة مباحة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المؤمن يغبط، والمنافق يحسد ".
وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان :
أحدهما : من شر نفسه وعينه، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر، والمعيون المصاب بالعين، وقال الشاعر :
قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ
الثاني : أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فإنه يتبع المساوئ، ويطلب العثرات، وقد قيل : إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض، فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه.
وافتتح السورة ب " قُلْ " ؛ لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها، وهي من السورة لنزولها معها، وقد قال بعض فصحاء السلف : احفظ القلاقل، وفيه تأويلان :
أحدهما : قل " قل " في كل سورة ذكر في أوائلها ؛ لأنه منها.
والثاني : احفظ السورة التي في أولها " قل "، لتأكيدها بالأمر بقراءتها.
Icon