﴿ بسم الله ﴾ المحيط بكل ما بطن، كإحاطته بكل ظاهر ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت نعمته كل باد وحاضر ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم : الأوّل منها، والأثناء، والآخر.
ﰡ
أحدهما : أنّ الناس يعظمون، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا.
الثاني : أنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم.
قال الملوي : والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب.
فائدة : قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى ؛ لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى المُلك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ؛ لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء، والمِلك بكسر الميم أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها.
تنبيه : يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس، وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان، واقتصر عليه الزمخشري قال : كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق، بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس ؛ لأنه قد يقال لغيره : رب الناس، كقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ]، وقد يقال : ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. فإن قيل : هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة ؟ أجيب : بأنّ عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار.
ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السام وهو الموت، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى، فإنه يطرد الشيطان، وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى :﴿ الخناس ﴾، أي : الذي عادته أن يخنس، أي : يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة، كلما كان الذكر خنس، وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر.
قال قتادة : الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل : كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال : رأسه كرأس الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه، فذلك قوله تعالى :﴿ الذي يوسوس في صدور الناس ﴾.
وقال القرطبي : وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
تنبيه : يجوز في محل ﴿ الذي يوسوس ﴾ الحركات الثلاث، فالجرّ على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس، ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين.
قال الحسن : هما شيطانان لنا، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة : إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس.
وعن أبي ذر قال لرجل : هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال : أومن الإنس شياطين ؟ قال : نعم، لقوله تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن، سموا ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى :﴿ وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ ﴾ [ الجن : ٦ ]، وكما سموا نفراً في قوله تعالى :﴿ قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن ﴾ [ الجن : ١ ]، وكما سموا قوماً، نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال : وهو يحدّث : جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون ﴿ والناس ﴾ عطفاً على الجنة، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني، كما يقال : أنس وأنسي، والهاء لتأنيث الجماعة.
وقيل : إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس، فعلى هذا يكون في صدور الناس عاماً في الجميع.
و﴿ من الجنة والناس ﴾ بياناً لما يوسوس في صدروهم. وقيل : معنى ﴿ من شر الوسواس ﴾ الوسوسة التي تكون ﴿ من الجنة والناس ﴾ وهو حديث النفس.
قال صلى الله عليه وسلم :«إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ».