وتسمى ما قبلها كما أشرنا اليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهى ست آيات لا سبع وان أختار بعضهم.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المفسرحمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته. وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته.
وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب. وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات. بحسب مزايا الاستعدادات. فاتضحت من معالم العوالم المراتب. وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم. فأبصرتها عين الوجود. وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم. فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطىء أقدامه ومعدن السر الإلهي. الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه. فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور. ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور. وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا.
وشق له من اسمه ليجله | فذو العرش محمود وهذا محمد |
فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية. فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا. فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم.
ووالى متبعيهم وأولاهم، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان.
«أما بعد» فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه. إن العلوم وإن تباينت أصولها، وغربت وشرقت فصولها، واختلفت أحوالها. وأتهمت وأنجدت أقوالها. وتنوعت أبوابها. وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها، فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة. إلا أن أعلاها قدرا، وأغلاها مهرا وأسناها مبنى، وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا، وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا. وأمنحها رفقا العلوم الدينية. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها، وتنهد كعابها، ورقة كلامها، ولين قوامها.
على نفسه فليبك من ضاع عمره | وليس له منها نصيب ولا سهم |
أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها.
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة | على غير سلمى فهو دمع مضيع |
ألا إنما الأيام أبناء واحد | وهذي الليالي كلها أخوات |
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا | أنيس ولم يسمر بمكة سامر |
طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال: كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس.
نعم السمير كتاب الله إن له | حلاوة هي أحلى من جنى الضرب |
به فنون المعاني قد جمعن فما | تفترّ من عجب إلا إلى عجب |
أمر ونهي وأمثال وموعظة | وحكمة أودعت في أفصح الكتب |
لطائف يجتليها كل ذي بصر | وروضة يجتنيها كل ذي أدب |
«الفائدة الثانية» فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي- وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن، فأما ما يحتاجه التفسير فأمور: «الأول» علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك- وهذا مما لا شبهة فيه- نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني- وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى.
«الثاني» معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها- وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. «الثالث» علم المعاني والبيان والبديع، ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى- وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين
«السادس» الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات. «السابع» علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا- وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق- وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة- وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. قال: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة
بالحديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم»
ثم قال: ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله، وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار- وقليل ما هم- لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر «وأما التفسير بالرأي» فالشائع المنع عنه واستدل عليه بما
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»
وفي رواية عن أبي داود «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»
ولا دليل في ذلك أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به- والله تعالى أعلم- فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل، وأما الحديث الثاني فله معنيان، الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى، والثاني وصحح من قال: «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار» وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] وقال تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤] وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: ٢٩]
وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه»
وقد دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس
بقوله «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه سئل هل خصكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم
لكل آية ستون ألف فهم،
وروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع»
قال ابن النقيب: إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق، ومعنى
قوله ولكل حرف حد
أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى
قوله: ولكل حد مطلع
أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به
وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع
والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق. والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون، والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه، وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام انتهى.
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [يوسف:
١١١، الأنعام: ١٥٤، الأعراف: ١٤٥] وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور: ١٦] بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت.
وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها.
وفتحك القلعة الشهباء في صفر | مبشر بفتوح القدس في رجب |
وإذا لم تر الهلال فسلم | لأناس رأوه بالأبصار |
هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط (١) كما حكي عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر، قال السيوطي: قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى- وأنا متبرئ من حولي- أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل، وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو- إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة- وما نقل ولم يتواتر نحو- ثلاثة أيام متتابعات- ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة،
بقوله:
«سبقت رحمتي غضبي»
وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك»
فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد: عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين، ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]. وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: ١٢]. إلى غير ذلك من الآيات.
«وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا: ولا بد للعبد الكامل منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية، والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن
وما كل زهر ينبت الروض طيب | ولا كل كحل للنواظر إثمد |
ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما. وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي «فالأول» من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج «والثاني» منه كيفية في الصوت المحسوس «والأول» من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح «والثاني» كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يوسف: ٧٧] فإن «قال» بدل من «أسر» أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار فقيل: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وهو بدل من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى [الزخرف: ٨٠]
وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السر بما أسره ابن آدم في نفسه.
وقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: ٢٠٥] وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: ١٥٤] أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما
رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن»
فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها.
وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث.
وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب؟!
«والمعنى الثاني» له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة، ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالآذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة، فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشؤون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه «أما» في مرتبة الخيال
فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه»
وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩] وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: ٢١، ٢٢] وقول الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له
كقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث،
والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها «فالحاصل» لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلى ومن حيث لا، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل، والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا: بأن لله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمة ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة
ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة «وما يقال» من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيته انتهى «واعتراضه» الدواني بوجوه قال «أما أولا» فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خبر وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف «وأما ثانيا» فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها «وأما ثالثا» فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارىء من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة «فنقول» هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارىء وما
«وأما رابعا» فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أن من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك «وأما خامسا» فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى «والجواب» أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به. وما هو أمر واحد، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة «والدليل» على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين «وأما» عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن «وأما» الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن ان المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ. «وأما» الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون: إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول يكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل- وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر من مظاهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه «وأما الخامس» فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصا في أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم
تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا «ومنهم» ومن اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول (١) بالنص فيكون معجزة بلا شبهة، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، وهذا واضح لمن ساعدته العناية، وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم- واتحدت أغراضهم- وإن اختلفت أساليبهم- وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن اتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد- وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد.
«فأقول» قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الايجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذا قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء «الأول» العبارة الصادرة عنه «والثاني» مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها «الثالث» علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها.
«الرابع» ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا، والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقي الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور «الأول» الإرادة والكراهة الحقيقية «الثاني» اللفظ الصادر عنه «الثالث» مفهوم لفظه ومعناه- والأول ليس كلاما اتفاقا- والثاني كذلك على مذهبهم فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه:
«الأول» أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف «الثاني» أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة (٢) وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم «الثالث» أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف ومدلوله في النهي- ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر- ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى.
«ولا يخفى» أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ. مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين- وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة
(٢) منها ما
رواه البخاري عن أبي سعيد قال ﷺ «قال الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث
اهـ منه.
«وأما الثالث» فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها- وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض- وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين «أحدهما» أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة «الثاني» أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل- نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا- وقال المخالفون:
استعمل لغة في النفسي والعبارة «قلنا» نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع- قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك- ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة- وأما قوله تعالى: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: ٨] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة «في أنفسهم» ولو أطلق لما فهم إلا العبارة، وأما قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ [الملك: ١٣] الآية فلا حجة فيه لأن الإسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر- وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان- وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى.
أما أولا فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة- وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا: نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما «وأما ثانيا» فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه- وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم- لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية «وأما ثالثا» فلأن ما قاله في قوله تعالى:
يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة فِي أَنْفُسِهِمْ ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] وفي آية بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: ١١] إذ لو كان مجرد ذكر «في أنفسهم» قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر «بأفواههم- وبألسنتهم» قرينة على
«وأما ثالثا» فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة «وأما رابعا» فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد «العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان- إلى أن قال- والقلب ملك فإذا صلح» الحديث وفي حديث أبي هريرة «القلب ملك وله جنود- إلى أن قال- واللسان ترجمان» الحديث فما قيل (٢) إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت «أما أولا» فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم «وأما ثانيا» فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر «وأما ثالثا» فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب.
وكم من عائب قولا صحيحا | وآفته من الفهم السقيم |
مرام شط مرمى العقل فيه | ودون مداه بيد لا تبيد |
(٢) قائله الموفق بن قدامة اهـ منه.
وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت الغاية بيديه، هذا وإذا سمعت ما تلوناه، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق «فأقول» الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، فقد قال تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: ٥٢]، وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الشعراء: ١٠]، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [القصص: ٣٠] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات: ١٦]، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل: ٨] واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت (١) بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى، وأخبار لا تستقصى.
«روى» البخاري في الصحيح «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان»
ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات (٢). ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة، وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور، وفي صحيح مسلم حجابه النور، وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا مُوسى إِنَّهُ أي المنادي المتجلي أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد لعزتي ولكني الْحَكِيمُ [النمل: ٩] فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي
«ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث،
ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية
(٢) مثل قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وحديث «إذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى من عليين على كرسيه
- إلى أن قال-
ثم يصعد تبارك وتعالى على كرسيه،
وحديث «فإذا الرب قد أشرف عليها من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة»
إلى غير ذلك اهـ منه.
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم (١) صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا
فلي فرس للحلم بالحلم ملجم | ولي فرس للجهل بالجهل مسرج |
فمن رام تقويمي فإني مقوم | ومن رام تعويجي فإني معوج |
(٢) هم المعتزلة اهـ منه.
(٣) هم الكرامية اهـ منه.
«الفائدة الخامسة» في بيان المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن أقول روى أحد وعشرون صحابيا (١) حديث نزول القرآن على سبعة أحرف حتى نص أو عبيدة على تواتره
وفي مسند أبي يعلى أن عثمان رضي الله عنه قال على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وأنا أشهد معهم،
واختلف في معناه على أقوال «أحدها» أنه من المشكل الذي لا يدرى لاشتراك الحرف (٢) وفيه أن مجرد الاشتراك لا يستدعي ذلك اللهم إلا أن يكون بالنظر إلى هذا القائل «ثانيها» أن المراد التكثير لا حقيقة العدد وقد جروا على تكثير الآحاد بالسبعة والعشرات بالسبعين والمئات بسبعمائة وسر التسبيع لا يخفى وإليه جنح عياض وفيه مع عدم ظهور معناه أن
حديث أبيّ كما رواه النسائي «أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف»
ونحوه من الأحاديث لا سيما
حديث أبي بكرة الذي في آخره «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة»
أقوى دليل على إرادة الانحصار بل في جمع القلة نوع إشارة إلى عدم الكثرة كما لا يخفى «ثالثها» أن المراد بها سبع قراءات وفيه أن ذلك لا يوجد في كلمة واحدة إلا نادرا (٣) والقول أن كلمة تقرأ بوجه أو وجهين إلى سبع يشكل عليه ما قرىء على أكثر اللهم إلا أن يقال ورد ذلك مورد الغالب وفيه ما لا يخفى حتى قال السيوطي قد ظن كثير من القوم أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح فتدبر «رابعها» أن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة على ألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. وعجل وأسرع، وإليه ذهب ابن عيينة وجمع وأيد
برواية حتى بلغ سبعة أحرف قال: كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب،
وبما حكي أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: ٤٣، ٤٤] فقال الرجل طعام اليثيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول الفاجر؟ قال نعم قال فافعل، وفيه أن ذلك كان رخصة لعسر تلاوته بلفظ واحد على الأميين ثم نسخ وإلا لجازت روايته بالمعنى ولذهب التعبد بلفظه ولا تسع الخرق ولفات كثير من الأسرار والأحكام وهذا يستدعي
(٢) أي لغة بين الكلمة والمعنى والجهة قاله ابن سعدان النحوي اهـ منه.
(٣) مثل (عبد الطاغوت) (ولا تقل لهما أف) اهـ منه.
«سادسها» أن المراد سبعة أصناف وعليه كثيرون ثم اختلفوا في تعيينها فقيل: محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص، وقيل: إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، وقيل أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار. وقيل غير ذلك والكل محتمل بل وأضعاف أمثاله إلا أنه لا مستند له ولا وجه للتخصيص.
«سابعها» أن المراد سبع لغات وإليه ذهب ثعلب وأبو عبيد والأزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي. واعترض بأن لغات العرب أكثر، وأجيب بأن المراد أفصحها وهي لغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة قائلا: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش بدليل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: ٤] وعليه يلتزم كون السبع في بطون قريش، وبه جزم أبو علي الأهوازي وليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل أنها مفرقة فيه ولعل بعضها أسعد من بعض وأكثر نصيبا. وقيل السبع في مضر خاصة لقول عمر رضي الله عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وقال بعضهم: إنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وقيل أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتها دفعا للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولم يقع ذلك بالتشهي بل المرعي فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيفية نزول القرآن على هذه السبع أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في كل عرضة بحرف إلى أن تمت. قال السيوطي بعد نقل هذا القول وذكر ما له وما عليه وبعد هذا كله هو مردود بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقبيلة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات انتهى، ويا ليت شعري ادعى أحد من المسلمين أن معنى إنزال القرآن على هذه السبع من لغات هؤلاء العرب أنه أنزل كيفما كان وأنهم هم الذين هذبوه بلغاتهم ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك فإذا لا تختلف أهل قبيلة واحدة في كلمة ولا يتنازع اثنان منهم فيها أبدا أم أن الله تعالى شأنه ظهر كلامه في مرايا هذه اللغات على حسب ما فيها من المزايا والنكات. فنزل بها وحيه. وأداها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ووعاها أصحابه فكم صحابي هو من قبيلة وعى كلمة نزلت بلغة قبيلة أخرى وكلاهما من السبع وليس له أن يغير ما وعى بل كثيرا ما يختلف صحابيان من قبيلة في الرواية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكل من روايتيهما على غير لغتهما كل ذلك اتباعا لما أنزل الله تعالى وتسليما لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ينفي صحابي غير روايته وينكر رواية غيره وكل ذلك يدل على أن مرجع السبع الرواية لا الدراية فرد الإمام السيوطي لا أدري ماذا أرد منه وما الذي أسكت عنه، فها هو بين يديك، فاعمل ما شئت فيه، وسلام الله تعالى عليك، ومما ذكرناه علمت أن القلب يميل إلى هذا السابع فافهم، وقد حققنا بعض الكلام في هذا المقام في كتابنا الأجوبة العراقية، عن الأسئلة الإيرانية فارجع إليه إن أردته والله سبحانه وتعالى أعلم «الفائدة السادسة» في جمع القرآن وترتيبه، اعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع. وثانيا بحضرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال
واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: ١٢٨] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر» وأخرج ابن أبي داود بسند رجاله ثقات مع انقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو على أنه مما عرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عام وفاته وإنما اكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين والقول بأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة مما لا حجار له (٣) وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف (٤)، وبعضها موضوع (٥) وما صح (٦) فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم،
وقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله
أي على الوجه الذي تقدم فلا ينافي ما في مختصر القرماني أن أول من جمعه عمر رضي الله تعالى عنه. وما روي عن أبي بريدة أنه قال أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فهو مع غرابته وانقطاعه محمول على أنه أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي الله تعالى عنه قاله الإمام السيوطي وهي عثرة منه لا يقال لصاحبها لعا لأن سالما هذا قتل في وقعة اليمامة كما يدل عليه كلام الحافظ ابن حجر في إصابته ونص عليه السيوطي نفسه في إتقانه بعد هذا المبحث بأوراق ولا شك أن الأمر بالجمع وقع من الصديق بعد تلك الوقعة وهي التي كانت سببا له كما يدل عليه حديث البخاري الذي قدمناه فسبحان من لا ينسى، وما اشتهر أن جامعه عثمان فهو على ظاهره باطل لأنه رضي الله تعالى عنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين (٧) على القراءة
(٢) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء هي الحجارة الرقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة اهـ منه.
(٣) هذا القول لابن حجر قاله على سبيل الظن وهو من بعضه اهـ منه.
(٤) وهو ما أخرجه أبو داود من طريق ابن سيرين اهـ منه.
(٥) وهو ما أخرجه غير واحد من رواية أبي حيان التوحيدي أحد زنادقة الدنيا اهـ منه.
(٦) كرواية أبي الضريس في فضائل علي رضي لله تعالى عنه اهـ منه.
(٧) وقيل في حدود سنة ثلاثين ولا مستند له اهـ منه.
أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا.
وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان،
وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لما أحرق مصحفه: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي كذب كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه، وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم.
ويشكل عليه ما مر آنفا من قول زيد ففقدت آية من الأحزاب إلخ فإنه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بها ولعلها تشبه مسألة التضاريس، ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس، ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة وكثيرا ما تعتري السارحين في رياض حظائر قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا. وزيد هذا كان في الجمعين ولعله الفرد المعول عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه. وفي ثانيهما ذكره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه.
وبعد انتشار هذه المصاحف بين هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة على المرتضى. وهو باب مدينة العلم لكل عالم. والأسد الأشد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان وزعمت الشيعة أن عثمان بل أبا بكر وعمر أيضا حرفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره،
فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية (٣)
(٢) فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا كما أخرج ذلك ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات اهـ منه.
(٣) والمشهور عندنا أنه ستة آلاف وستمائة وست عشرة آية اهـ منه.
وروي عن سالم بن سليمة، قال قرأ رجل على أبي عبد الله- وأنا أسمعه- حروفا من القرآن ليس ما يقرأها الناس فقال أبو عبد الله مه عن هذه القراءات واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله على حده،
وروي عن محمد ابن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: ٩٢] ليس كلام الله بل محرف عن موضعه والمنزل- أئمة هي أزكى من أئمتكم-
وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب له أن سورة الولاية أسقطت بتمامها وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت، وكذا أسقطوا لفظ- ويلك من قبل لا تحزن إن الله معنا، وعن ولاية علي من بعد، وقفوهم إنهم مسؤولون، وبعلي بن أبي طالب من بعد، وكفى الله المؤمنين القتال، وآل محمد من بعد وسيعلم الذين ظلموا- إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا وهو كرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزا وقطبا أشد تحريفا عند هؤلاء من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل، وأنت تعلم أن هذا القول أوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيه وسفاهة مفتريه، ولما تفطن بعض علمائهم لما به جعله قولا لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان (١) أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن الغاية اشتدت والدواعي توفرت عى نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد، وقال أيضا: إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميزانه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب وكذا القول في كتاب المزني ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان وأنه كان يعرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته انتهى. وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال- والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال- إلا أن الرجل قد دس في الشهد سمّا وأدخل الباطل في حمى الحق الأحمى «أما أولا» فلأن نسبة ذلك إلى قوم من حشوية العامة الذين يعني بهم أهل السنة والجماعة فهو كذب أو سوء فهم لأنهم
أخرج أحمد عن أبيّ قال قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك فقرأ عليّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ١- ٤] إن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره»
وفي رواية «ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه»
وفي رواية الحاكم «فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب»
وما
روي عنه أيضا أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد- اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق
- فهو من ذلك القبيل ومثله كثير، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر، والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلا أنها محمولة على ما ذكرناه، وأين ذلك مما يقوله الشيعي الجسور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠].
وأما ثانيا فلأن قوله: إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن إلخ إن أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقا في العسب واللخاف فمسلم إلا أنه خلاف الظاهر من سياق كلامه وسباقه وإن أراد أنه كان في العهد النبوي مقروءا كما هو الآن لا غير وكان مرتبا ومجموعا في مصحف واحد غير متفرق في العسب واللخاف فممنوع والدليل الذي استدل به لا يدل عليه كما لا يخفى، ويا لله العجب كيف ذكر في هذا المعرض ختمات ابن مسعود وأبيّ على النبي صلّى الله عليه وسلم وجعل ذلك من أدلة مدعاه مع أن مروي كل منهما يخالف مروي الآخر وكلاهما يخالفان ما في المصحف العثماني فالسور مثلا في مصحفنا مائة وأربع عشرة بإجماع من يعتدّ به وقيل ثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين (١) بل صح عنه (٢) أنه كان يحكهما من المصاحف ويقول ليستا من كتاب الله تعالى وإنما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما
(٢) كما أخرجه عبد الرحمن بن أحمد والطبراني عن النخعي اهـ منه.
وما يدل بظاهره من الآثار على أنه اجتهادي معارض ساقط عن درجة الاعتبار كالخبر الذي أخرجه ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمرو أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها- فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه، بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة: ١٢٧] ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبيّ: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: ١٢٨] إلى آخر السورة.
وأما ترتيب السور ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني (٣) قال أبو بكر الأنباري: أنزل الله تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا بالمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة، فمن قدم أو أخر فقد أفسد (٤) نظم القرآن وقال الكرماني: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وقال الطيبي
(٢) في المناسبات اهـ منه.
(٣) وهذا آخر قوله اهـ منه.
(٤) وبعضهم استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن للإشارة إلى ظهور التغابن بعد فقده صلّى الله عليه وسلم اهـ منه.
أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين (١) فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال.
فهذا يدل على أن الاجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله انشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب، والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما انشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في اللوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى الله تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلا بد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب، وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل، ولا يصدهم عن اتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل، أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما، ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما، وعثمان رضي الله تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف، وقبل ما فعله ولم يتوقف، وكم لعمر رضي الله تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف واجتمعت الكلمة في أيامه واقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه، وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الاستقلال لجواز أن يكون السؤال للاستخبار عن سر عدم المخالفة، والجواب لابدائه على ما خطر في البال، وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فافهم ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك. «الفائدة السابعة» في بيان وجه إعجاز القرآن:
«اعلم» أن إعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الاستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب والأهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز «فنقول» : قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ومفاصله ورد بوجهين «الأول» أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر: ١٨] وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢] ومثله كثير «الثاني» أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك، وذهب الجاحظ إلى أنه اشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه «الأول» أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا، والمعجز لا بد أن ينتهي إلى
١٩٦] وقال عثمان: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «الثاني» أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بإعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها، وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل، وقيل إعجازه قدمه واعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وأيضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به «وقال» الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والنظام: إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته، وقال المرتضى: بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة واعترض بأربعة أوجه «الأول» أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل «الثاني» أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك.
«الثالث» أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها «الرابع» وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار، واستدل بعضهم على
قال الوليد (٢) :«لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فاقترح عليه أبو جهل أن يقول فيه ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته»
وقولهم: إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة والاخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة.
«أما الأول» فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه (٣) عدول عن سواء السبيل «وأما الثاني» فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة.
«وأما الثالث» فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده.
«وأما الرابع» فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير «وأما الخامس» فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب، واعتراضهم على كون الأخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الاخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجوه باطل.
«أما الأول» فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات
(٢) والخبر طويل أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس اهـ منه.
(٣) على انه يكفينا في الغرض كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا فافهم اهـ منه.
«وأما الثالث» فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا التزام ذلك «وأما الرابع» فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا. ومن يقول وجهه مجرد الإخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الإعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه، والاعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد بوجهيه مدفوع «أما الأول» فلأن اشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: ٦٩] وأما الآيتان الأوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفى المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد، والسدي بأن نفى المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة. وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء: ٩٤، الكهف: ٥٥] إلا إرادة الله أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي. ومعنى الثانية «وما منع الناس أن يؤمنوا» إلا استغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول التزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادي لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق.
وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث، وأما الاختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] لأن المراد به أحد أمرين، الأول الاختلاف المناقض للبلاغة، والثاني الاختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الاختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الاختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر اختلاف مقال لاختلاف الأحوال، والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك، وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى، وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء احتمال ورفع خيال، فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦] لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [البقرة: ١٩٦] بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك، وأما قول عثمان إن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف يتركه لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة.
فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع. وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: ٦٣] وعن قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: ١٦٢] وعن قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: ٦٩] ؟ فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب، وكذا ما روي عن سعيد بن جبير كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطؤوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه، وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأي رضي الله تعالى عنها. وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القراءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما الوجه الثاني «فلأن من ذهب» إلى أن وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد يقول القرآن بجملته معجز. لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر.
وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف.
نجوم سماء كلما انقضّ كوكب | بدا كوكب تأوي إليه كواكب |
من كل لفظ تكاد الأذن تجعله | ربا ويعبده القرطاس والقلم |
١] إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الأتباع «والثاني» في قوله «وانحر» حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحر فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الإقدام عليه «والثالث والرابع» في قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:
٣] حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه اشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول.
وما كل مخضوب البنان بثينة | ولا كل مصقول الحديد يماني |
اختلف فيها، فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول (١) وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية (٢) وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه، وقيل: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه، وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث (٣) إلا أنه قد صح أيضا عن ابن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال، وثانيا على امتناع الامتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن الله تعالى قد امتن عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: ١] فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة «قد» ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ [الحجر: ٨٨، طه: ١٣١] الآية إلا أنه قد خدش الدليل، لا يقال: إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة، وأما على نفي نزولها بالمدينة أيضا فلا لأنا نقول: النفي هو الأصل وعلى مدعي الإثبات الإثبات وأنى به وما قالوا في الجواب عن الاعتراض بأن النزول ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر أخرى لورود مالك وملك أو ببسملة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى، والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من
فقد روينا عن أبي ميسرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال فلما برز سمع النداء: يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) حتى فرغ من فاتحة القرآن
ولولا صحة الأخبار على غير هذا النحو كان هذا الخبر أقوى دليل على مكيتها فافهم اهـ.
(٢) ويلزم منه أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بضع عشرة سنة بلا فاتحة وهي خاتمة في البعد اهـ منه.
(٣)
فقد روينا عن أبي هريرة قال «إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
اهـ منه.
وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة بِرَبِّ النَّاسِ أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى إِلهِ النَّاسِ فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما. وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ما هنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه، ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظامهم جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وبحث فيه بعد الإغماض عما فيه
وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق، ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير. ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطانه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها. ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا. والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والخمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس. وقال بعض أئمة العربية: إن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفأة، ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر، والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف. وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بهذا المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من وسوسة الوسواس قيل: وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في صحيح البخاري يعقد على قافية رأس العبد إذ هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء، وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه.
وقوله تعالى الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز
وأخرج ابن شاهين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطما كخطم الطائر، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس».
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ قيل أريد قلوبهم مجازا. وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك
«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم»
. ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية إنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي. وقال ابن سينا: الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادئ المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلّا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا، ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس. والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول، إما الجر على الوصف وإما الرفع والنصب على الذم والشتم، ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على الْخَنَّاسِ وأما على الأول ففي الكواشي أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظر للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلّا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: ١١٢] أو متعلق بيوسوس، ومِنَ لابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان وأنهم يعلمون الغيب. وجوز فيه الحالية من ضمير يُوَسْوِسُ والبدلية من قوله تعالى مِنْ شَرِّ بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن مِنَ تبعيضية. وقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي: ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم، وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه. ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: ١٩٩] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: ٦] ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلّا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته. جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى. ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع، وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم. والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه. ومثل هذا الرمز ما قيل
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين | يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس |
وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة بِرَبِّ النَّاسِ أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى إِلهِ النَّاسِ فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما. وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ما هنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه، ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظامهم جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وبحث فيه بعد الإغماض عما فيه
وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق، ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير. ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطانه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها. ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا. والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والخمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس. وقال بعض أئمة العربية: إن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفأة، ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر، والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف. وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بهذا المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من وسوسة الوسواس قيل: وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في صحيح البخاري يعقد على قافية رأس العبد إذ هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء، وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه.
وقوله تعالى الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز
وأخرج ابن شاهين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطما كخطم الطائر، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس».
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ قيل أريد قلوبهم مجازا. وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك
«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم»
. ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية إنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي. وقال ابن سينا: الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادئ المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلّا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا، ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس. والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول، إما الجر على الوصف وإما الرفع والنصب على الذم والشتم، ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على الْخَنَّاسِ وأما على الأول ففي الكواشي أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظر للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلّا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: ١١٢] أو متعلق بيوسوس، ومِنَ لابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان وأنهم يعلمون الغيب. وجوز فيه الحالية من ضمير يُوَسْوِسُ والبدلية من قوله تعالى مِنْ شَرِّ بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن مِنَ تبعيضية. وقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي: ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم، وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه. ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: ١٩٩] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: ٦] ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلّا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته. جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى. ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع، وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم. والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه. ومثل هذا الرمز ما قيل
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين | يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس |