ﰡ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (١)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (٢)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(١) ماء رواء: كثير مرو.
(٢) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى | من أغضب المولى، و أرضى العبيد! |
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب
ألجأ إليه وأستعين به. ورب الناس: مربيهم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (١)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (٢)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(١) ماء رواء: كثير مرو.
(٢) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى | من أغضب المولى، و أرضى العبيد! |
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (١)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (٢)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(١) ماء رواء: كثير مرو.
(٢) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى | من أغضب المولى، و أرضى العبيد! |
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (١)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (٢)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(١) ماء رواء: كثير مرو.
(٢) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى | من أغضب المولى، و أرضى العبيد! |
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
ولكنه الله: ﴿الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد﴾!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (١)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (٢)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(١) ماء رواء: كثير مرو.
(٢) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى | من أغضب المولى، و أرضى العبيد! |
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب