تفسير سورة البقرة

القطان
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

بدئت سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة، وهي تُقرأ حروفاً مفرّقة، لا لفظة واحدة، وفي القرآن عدة سور بدئت بحروف على هذ النحو، منها البقرة آل عمران مدنيّتان والباقي سور مكيّة.
وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع: منها ما هو حرف واحد مثل «ص. والقرآنِ ذي الذِكر». «ق. والقرآن المجيد» «ن. والقلمِ وما يسطُرون» ؛ ومنها ماهو حرفان، مثل «طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى». «يس والقرآنِ الحكيم». «حم تنزويلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم» ؛ ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو اكثر مثل «ألم» «المص» «كهيعص» و «حم عسق» الخ.
وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً، جمعها بعضهم في عبارة «نصٌّ حكيم قاطع له سر». والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فرقان: فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه. ولم يرد عن النبي ﷺ المراد منها، فالله أعلم بمراده.
وفريق يقول: لا يجوز ان يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق. وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا. فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها؛ وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلاً اشارة الى انه تعالى «أحد، أول، آخر، أبدي، أزلي»، واللام مثلا اشارة الى انه «لطيف»، والميم الى انه «ملك، مجيد، منان» الخ..
اما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو: انها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وفي متناول المخاطَبين به من العرب، فهو يتحداهم ان يصوغوا من تلك الحروف مثله، وهم أمراء الكلام، واللغةُ لغتهم هم.
من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله!
﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
ذلك: اسم اشارة للبعيد كنايةً عن الإجلال والرفعة، ولذا لم يقل سبحانه «هذا هو الكتاب». المعنى: هذا هو الكتاب الكامل، القرآن، الذي انزلناه على عبدنا، لا يرتاب في ذلك عاقل منصف، ولا في صدق ما اشتمل علهي من حقائق وأحكام. وقد جعلنا فيه الهداية الكاملة للَّذين يخافون الله ويعملون بطاعته، قد سمت نفوسهم فاهتدت الى نور الحق والسعي في مرضاة الله. و «فيه» هنا لا تفيد الحصر، بل الشمول، لكنه ليس كتاب علم، بالمعنى الحديث، وانما هو كتاب كامل في الدين. أما ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ فانها تعني: من شيء متعلق بالدين، لا بالعلوم الطبيعية التي يستجدّ منها كل عصر نصيب.
المتقون: جمع متقٍ، وهو المؤمن المطيع لأوامر الله. وأصلُ الاتقاء هو اتخاذ الوقاية التي تحجز عن الشر، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله حاجزاً واقيا بينه وبين العقاب الإلَهي، وهؤلاء المتقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: الذين يؤمنون بالغيب الآيات ٣٥.
الذين يصدّقون بما غاب عنهم علمُه، كذات الله تعالى وملائكته، والدار الآرة وما فيها من بعث ونشور، وحساب، وجنة ونار.
ويقيمون الصلاة: يؤدون الصلاة المفروضة علهيم خاشعين لله، وقلوبهم حاضرة لمراقبة خالقهم. واقامة الصلاة توفية حقوقها وإدامتها. وقد أمر الله تعالى باقامة الصلاة، وطلب أن تكون تامة وافية الشروط، فقال: ﴿أَقِمِ الصلاة﴾، و ﴿والمقيمين الصلاة﴾.. هذا يعني أنهم يوفونها حقها. وعندما ذم المنافقين قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: ٤] وفي ذلك تنبيه على أن المصلّين كثير، والمقيمين قليل. وقد نوه القرآن كثيراً بالصلاة وحثّ على اقامتها في كثير من الآيات، لأثرها العظيم. في تهذيب النفوس والسموّ بها الى الملكوت الأعلى. وسيأتي تفصيل ذلك في كثير من الآيات...
﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الرزق كل ما يُنتفع به من المال والثمار والحيوان وغيره. والإنفاق العطاء.. يعطون من أموالهم التي رزقهم إياها الله الى المحتاجين من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم. وكذلك ينفقون في سبيل الله للجهاد وفي الدفاع عن الوطن، ولبناء المساجد والمدارس والمستشفيات. ومساعدة كل مشروع فيه نفع للناس. فكما أن الله يرزقهم يجب عليهم أن ينفقوا، لأن الدنيا أخذ وعطاء. والواقع اليوم أن كثيراً من الناس قد بات همهم جمعَ المال وتكديسه، فأولئك ليسوا من المتقين. وآية الانفاق هنا أن يكون في وجه الخير ونفع الناس، اما على الترف والمباهاة وفي طريق السفه فإن الانفاق تبذير ممجوج بمقته الله، وعلى المسلمين ان يوقفوه ولو كان ذلك عن طريف العنف. ان أموال الله التي في يد المسلمين هي لكافّتهم بالخير، لا لقلتهم بالضلالة.
والمتقون هم الذين يؤمنون بالقرآن الذي أوحي اليك، وبما بينتَ لهم من الدين وما فيه من أحكام وحدود. والإنزال هنا هو الوحي من العليّ القدير. وكذلك يؤمنون بما أُنزل من قبلك على الرسل الكرام من التوراة والانجيل والزبور والصحف. وبها يمتاز الاسلام عن غيره ويفضُله. لأن المسلم الحق يؤمن بجميع الديانات السماوية وجميع الأوبياء والرسل.
﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ اليقين حقيقةُ العلم. أيقن الأمرَ وبالأمر، تحققه. والذين يصدّقون حق اليقين بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، فهم يؤمنون بها ايماناً قاطعاً لا تردد فيه. صفات المؤمن الحق. الايمان بالغيب. مع التقوى. وإقامْ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً وشعوراً بالإخاء. وسعة الضمير لموكب الايمان العريق المتلاحق بالوحي، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن بنيّ صاحب راسلة، ثم اليقين باليوم الآخر بلا تأرجح في هذا اليقين.
الهدى: التوفيق والرشاد. والفلاح: الفوز والنجاة. إن الذين تقدمتم صفاتهم في التقوى والايمان بالغيب والعطاء وتصديق جميع الرسل والاديان السماوية واليقين بالآخرة هم المهتدون الظافرون برضى الله وهداه وأولئك هم أهل الفلاح والفوز والنجاة.
هذه صورة من ثلاثة صور استعرضها القرآن لثلاث فئات: الاولى التي تقدَّم وصفها هي جماعة المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى في آيتين. والثانية: الكافرون الجاحدون، وقد وصفهم تعالى أيضا في آيتين. والفئة الثالثة: المنافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية. بهذا يتبين لنا ان الناس أمام القرآن ثلاث طوائف تقدمت الطائفة المؤمنة.
المفردات
الكُفر: ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه، وجحد الايمان.
والختم: الطبع، كأنما خُتم على قلوبهم فلا ينفذ اليها الإيمان.
والغشاوة: ما يغطى به الشيء.
ان هؤلاء الكافرين ميئوس منهم، سواء أخوّفتهم يا محمد أم لم تفعل، فهم لا يؤمنون. لقد أُغلقت قلوبهم وطُبع عليها ففي سمعهم ثِقَل وعلى أعينهم حجاب. وذلك ما فسدت به فطرتهم من أوهامهم الضالة، وقصور استعدادهم لادراك الحق. ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصّلت: ٥]. اولئك هم الكافرون، لهم عذاب أليم. فلا يؤثّر فيهم موعظة ولا تذكير ولا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
هذه هي الصورة الطائفة الثانية، وقد بين الله أوصافها في كثير من آيات القرآن وعبر عنها بالكافرين، والفاسقين، والخاسرين، والضالين، والمجرمين.
والصورة الثالثة هي صورة المنافقين، الطائفة التي ظهرت في المدينة بعد الهجرة، وبعد أن ترك «ّز المسلمون وقيت شوكتهم، فضعفت هذه الطائفة عن المجاهرة بالكفر والعناد. لذلك ظلوا كافرين في قلوبهم وإن ظهروا بين المسلمين كالمسلمين: يقولون كلمة التوحيد ويصلّون كما يفعل المسلمون. لقد ظنّوا أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، ومن ثمَ اتخذوا لأنفسهم وجهين. وما ابتُلي المسلمون في أي زمان ومكان بشّرِ من هذه الطائفة: انها تدبر المكائد، وتروّج الأكاذيب، وتنفث سموم الشر والفتن. وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم، حتى لا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، بل وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهِم» المنافقون «.
أما هنا فقد جاء فيهم ثلاثة عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم وحقيقتهم وخطتهم في الضلالة. هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضماو على لاكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه: ان بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون باله واليوم الآخر، وهم كاذبون. انما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين. وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم انه غير مطلع على خفاياهم. لكنهم في الواقع انما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم. والله يعلم دخائل أنفسهم. ان هؤلاء القوم في قلوبهم مرض الشك والعناد والحسد، فزادهم الله مرضاً على مرضهم، بنصره للحق، ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ريائهم.
القراءات:
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «يخادعون اللهَ والّذين آمنوا وما يخادعون غلا أنفُسَهم؟» وقرأ الباقون «وما يخدعنون إلا أنفُسَهم».
المفردات:
الفساد: خروج الشيء عن حد الاعتدال. والصلاح ضده. والسفه: خفة في العقل وفساد في الرأي.
واذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الارض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنسفهم من الفساد، وقالوا انما نحن مصلحون. وما ذلك الا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء.
واذا قيل لهم: ادخلوا في الإيمان بهذا الدين العظيم الذي دخل فيه الناس، قالوا ساخرين: أتريدون منا ان نكون مثل هؤلاء الضعفاء السفهاء، نصدّق الأوهام وننقاد للأضاليل! وذلك لأن كثيراً من المسلمين كانوا من الفقراء والموالي والعبيد مثل بلال وصهيب وسلمان الفارسي. وقد رد الله عليهم قولهم وتطاولهم وحكَم عليهم بأنهم هم السفهاء، لكنهم لا يعملون حقاً ان النقص والسفه محصور فيهم.
واذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين، قالوا: آمنا بما آمنتم به وصدّقنا الرسول وقبلنا دعوته، نحن معكم. واذا اجتمعوا بشياطين الكفر من اخوانهم الضالين، قالوا لهم: نحن معكم، انما قلنا للمؤمنين ما علمتم استخفافاً بهم واستهزاء بعقولهم.
ولقد روي ان عبد الله بن أبيّ بن سلول، رأسَ المنافقين، كان مع اصحابه فقدِم عليهم جماعة من الصحابة. فقال عبد الله لقومه: انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر وقال: مرحبا بالصدّيق، سيد بني تيم، وشيخ الاسلام، والثاني رسول الله في الغار. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: مرحباً بسيد بني عديّ، والفاروق، والقوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بين عليّ رضي الله عنهم فقال: مرحبا بابن عم رسول الله، وختَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
فنزلت هذه الآية.
هذا هو عبد الله بن أُبيّ الذين كان الأوسُ والخزرجُ في يثرب يريدون ان يتوّجوه ملكاً عليهم قبل هجرة الرسول. فلما تمت الهجرة وأسلم معظم الخزرج وجميع الأوس، أُلغيت فكرة ملكيته، فحقد عبد الله على الاسلام وحسد النبي على فضله، لكنه عجز عن اظهار حنقه فنافق، وأصبح يكيد للمسلمين سراً وإن جاهر بالاسلام زوراً.
ورد الله عليهم بقوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي يجازيهم على استهزائهم ويكتب عليم الهوان، ويمهلهم في عماهم عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه.
ان مثَل المنافقين مثل الذين باعوا الهدى، واشتروا به الضلالة. فكانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة فتكسد وتبور. بذلك لا يربح في تجارته، ويخسر ماله. والضلال والضلّ الهدى.
المفردات:
المِثل والمثَل كالشِبه والشَبه والشبيه، يُستعمل في تمثيل حالة الشيء وبيانه. وللمَثَل وقع كبير مؤثر في الكلام. وقد اكثر القرآن من ضرب الأمثال ﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٢٩].
شبّه الله حال المنافقين بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أنارت ما حولهم من الأشياء ذهب اللهُ بنورهم، وترك موقديها في ظلماتٍ كثيفة لا يبصرون معها شيئاً. وذلك لأن الله تعالى قدّم لهم أسباب الهداية فأبصروا وعرفوا الحق بالإيمان، ثم عادوا الى النفّاق والكفر. انهم لم يتمسكوا بهداية الله، فصارت بصائرهم مطموسة بسبب نفاقهم وتذبذبهم، فاستحقوا ان يبقوا في الحيرة والضلال.
وهؤلاء كالصُمّ، لأنهم فقدوا منفعة السمع، إذ لايسمعون الحق سماع قبولٍ واستجابة. وهم كالبُكم أي الخرس، لأنهم لا ينطقون بالهدى والحق. كذلكهم كالذين فقدوا ابصارهم لأنهم لا ينتفعون بها ولا يعتبرون. لقد سُدت عليهم منافذ الهدى وظلوا حائرين في ظلمة الكفر والنفاق فهم لا يرجعون عن ضلالهم. وتبين حقيقتُهم في سورة المنافقين ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾.
والله سبحانه وتعالَى لمّا وصفهم في الآية السابقة بأنهم اشترو الضلالة لأنفسهم الهدى الذي تخلّوا عنه مثّل هداهم الذي باعوهن بالنار المضيئة لما حولها، ومثل الضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وبقائهم في ظلمات لا يبصرون.
وهناك صورة اخرى للمنافقين، وهي صورة مفزعة تبيّن حالهم في حيرتهم بعد كذبهم على الله والناس وعلى أنفسهم مثلَ قوم نزل عليهم «صيّب من السَماءِ: ، أي سحاب فيه مطر شديد ورعد وصواعق، في ليلة مظلمة. لقد ارعدت السماء وأبرقت، ولم يجد القوم ملاذاً يلتجئون اليه الا خداع أنفسهم. لقد أخذوا يجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، ويرتجفون خائفين من الموت لا يدرون الى اين يهربون.
ذالك فَرَقهم من الرعد، أما البرق الشديد الوهج فهو يكاد يخطف أبصارهم من شدته، وكّلما أضاء لهم مشوا في ضوئه خطوات، ثم يزول. واذا ذاك يشتد الضلام فيقفون متحيرين ضالين.
وهذه صورة ناطقة لحال المنافقين: تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها، فيهمّون ان يهتدوا، لكنهم إذا خلَوا الى شياطينهم من اليهود عادوا الى الكفر والنفاق. ولو أراد الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم من غير إرعاد ولا برق، فهو واسع القدرة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكنه جاء بالصورة المذكورة تقريباً لغير المحسوس بالمحسوس، ومن باب ضربِ المثل.
انه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال وفيه هو ورعب، وفيه فزع وحيرة.. والحقّ ان الحركة التي تعمر المشهد كلَّه لَتصوّر موقف الاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها اولئك المنافقون. فيا له من مشهدٍ حيّ يرمز لحالة نفسية، ويجسّم صورة شعورية. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال لنفوس كأنها مشهد محسوس.
بعد ان استعرض الله تعالى طوائف الناس الثلاث: المؤمنين المتقين، والكافرين، والمنافقين وجّه دعوة للناس جميعاً الى عبادته والايمان بالكتاب الذي أنزله على عبده محمد ﷺ، وخاطبهم ب ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾، فصوفهم بهذه الإنسانية التي هي عنوا على العقل والنظر والتدبُّر.
يا أيها الناس اعبُدوا ربَّكم. الذي أنشأكم وخلقكم كما خلق الأقوام الذين سبقوكم. إنه خالق هذا الكون وكل شيء فيه. اعبُدوه لعلكم تُعدون أنفسكم وتهيئونها لأن تتطهر بفضل عبادتها له فيسهُل عليها ان تذعن للحق.
وبعد ان أرشدهم الرحمن الى دلائل التوحيد وحثهم على عبادة الخالق العظيم أشار لهم الى دلائل وحدانيته من آيات قدرته المحيطة بهم في أرضه وسمائه، وبصّرهم بما أنعم عليهم فيها من وسائل الحياة، وموارد الرزق فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ مهّده بقدرته وبسَط رقعته بحكمته كما يسهُل عليكم العيش فهيا والانتفاع بها. والبسط والتمهيد هنا لا يعني كروية في الشكل ولا عدمها، وانما يعني تذليل الأرض لنفع الانسان. لكنّ الله بسط لنا في الأرض السهول، وجعل لنا فيه الجبال الشاهقة والبحار العميقة، والأنهار الجارية والأودية السحيقة: كل ذلك جعله لنا، نتمتع بكافة خيراتها العديدة الأصناف. اما فوقنا فقد جعل السماء وأجرامها وكواكبها المتراصة في نظرنا كالنبيان المشيد. ومن هذه السماء أمدّنا جلّ وعلا بسب بالحياة والنعمة. ألا وهو الماء، أنزله علينا يغيثنا به فجعله سبباً لأخراج النبات والشجر المثمر. لذا فإن من عمى البصيرة والبصر أيها الناس ان جعلوا لله أندادا. وفلا تفعلوه. إذ من الغيّ وحده أن تنصروا ان لله نظراء، ثم تأخذون تعبدونهم كعبادته. انه خالقكم، ليس له مثيل ولا شريك، وأنتم بفطرتكم الأصيلة تعلمون انه لا مثيل له ولا شريك، فلا تحرّفوا هذه الطبيعة. نعم ان كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون بالإلَه لكنهم يتذرعون بقولهن: انما نعبد هذه الأصنام لتُقِّربنا الى الله.. فهل الله حاجة الى وثن يتخذه واسطة بينه وبين عبادهن!!
وفي هذه الآية جزء من دلائل الإعجاز في القرآن الكريم: ، وهو قوله تعالى ﴿السماء بِنَآءً﴾، ففي ذلك معنى ما كان يمكن أن يعرفه النبي الأميّ غلا بوحي من الله. فالسماء في المعنى العلمي هي كل ما يحيط بالارض في أي اتجاه، والى أي مدى، وعلى أية صورة، ويشمل ذلك الجوّ المحيط بالارض الى ارتفاعات تنتهي حيث يبدأ الفراغ الكوني الشاسع بما فيه من الأجرام السماوية المنتشرة في اعماقه السحيقة على اختلاف أشكالها وأحجامها. وهي تتحرك في نظام بديع عجيب، على أساسه يتوالى ظهورها واختفاؤها لسكان الأرض. وهي جميعاً في دورانها وترابطها بقوى الجاذبية، كالبنيان في تماسكه واتزانه، وتدّرجه طبقة بعد طبقة.
10
وكل هذا لم يكن معروفاً للعلم في عصر محمد. ﷺ.
وفي الجزء الأدنى من السماء، وهو الحد المحيط بالأرض القريبُ منها مباشرة توجد الطبقات الجوية المختلفة الواقية من الإشعاعات الضارة عن أرجاء الكون، والتي لا تسمع الا للأشعة المنيرة منها بالنفاذ، فهي كالمضلات الواقية. وفي هذه الطبقة يكون السحاب ومنه المطر.
وبعد أن بيَّن الله للناس انه هو الخالق الواحد المعبود بحق، وانه المنعم بكل ما في الوجود برف قائلا: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ وذلك لا، المشركين كانوا ينكرون الراسلة وأن القرآن وحي من عند الله. لذا طلب اليهم، لتبرير شكّهم وإنكارهم، عند أنفسهم، أن يأتوا بسورة واحدة ت ضارع أياً من سور القرآن في بلاغتها وإحكامها وعلومها وسائر هدايتها. وحجّتهم قائلاً: نادوا الذين يشهدون لكم أنكم أتبتم بسورة مماثلة. استعينوا بهم في اثبات دعواكم. غير انكم لن تجدهم.. وهؤلاء الشهود هم غير الله حُكماً، لأن الله يؤيد عبده بكتابه، ويشهد له بأفعاله.
ثم ينتقل الى التحدّي والتحذير فيقول: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
فإن لم تستطيعوا ان تأتوا بسورةٍ من مِثلِ سوَر القرآن ولن تستطيعوا ذلك بحال من الأحوال، لأن القرآن كلام الهل الخالق، فهو فوق طاقة المخلوقين فالواجب عليكم ان تجتنبوا مايؤدي بكم الى عذاب الآخرة، وإلى النار التي سيكون وقودها الكافرين من الناس والحجارة من أصنامكم، والتي أعدّها الله لتعذيب الجاحدين أمثالكم.
ولقد سجل القرآن على المشركين المكابرين واقع العجز الدائم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل جزءٍ منه أو سورة واحدة. وذلك من إعجاز القرآن. لأن التحدي ظل قائماً في حياة الرسول الكريم رغم وجود الفصحاء والبلغاء من خطباء العرب وشعرائهم وكبار متحدثيهم. ولا يزال قائماً الى يومنا هذا والى يوم الدين. وحيث عجز بلغاء ذلك العصر وفصحاؤه. فإن سواهم أعجز. في هذا أكبر دليل على ان القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من الخالق العظيم، انزله تصديقاً لرسوله محمد بن عبد اللنه، الرسول الأميّ الذي لم يجلس الى معلم، ولم يدخل أية مدرسة.
وبعد أن حذّر المكذّبين المعاندين وأنذرهم بعقاب الفجّار في نار لاهبة أخذ يبشّر المؤمنين المتقين بالجنة. لقد أذعنوا للحق دون شك أو ارتياتب، وعملوا الأعمال الصالحة الطيبة، فبشّرْهم يا محمد بما يسرهم ويشرح صدروهم: لقد أعدّ الله لهم عنده جنات تتخللها الأنهار الجارية تنساب تحت أشجارها وبين قصورها، وكلّما نالوا رزقاً من بعض ثمارها قالوا: هذا شبيه ما رزقنا الله في الدنيا من قبل. ومع أن الثمرات التي ينالونها اذ ذاك تتشابه في الصورة والشكل والجنس مع مثيلاتها في الدنيا فهي تتمايز عنها في الطعم واللذة. ولهم في الجنة زوجات رضيّات، مطهرات من الخبث والدنس، هن أرفعُ من المكر والكيد ومساوء الاخلاق. هناك سيبقون في الحياة الخالدة، ويعيشون في النعيم المقيم.
11
المفردات:
ضربُ المثل أيرادهُ ليُتمثل به ويُتصوّر ما اراد المتكلم بيانه. يقال: ضرب الشيءَ مثلاُ، وضرب به مثلاً، وتمثّله به. وقد وردت عبارة ضرب المثل في القرآن في عدة آيات: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً﴾ [الكهف: ٣٢] ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣].. ﴿واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية﴾ [يس: ١٣].
وهذه الآية جاءت رداً على الكفرة المعاندين حيث قالوا أما يستحي ربُّ محمد ان يضرب مثَلاً بالذباب والعنكبوت! فبّين الله تعالى انه لا يعتبريه ما يتعري الناسَ من استحياء، فلا مانع من ان يصوّر لعباده ما يشاء من أمورٍ بأي مثل مهما كان صغيرا، بعوضة فما فوقها. فالذين آمنوا يعلمون ان هذا حق من الله، أما الذين كفروا فيتلقّونه بالاستنكار. وفي ذلك يكون المثل سبباً في ضلال الذين يجانبون الحق وسبباً في هداية المؤمنين به.
وقد وصفهم تعالى بقوله: ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ اي الّذين تركوا العملَ بعهد الله، وهو صيّتُه لهم وأمرُه إياهم بلزوم طاعته وتحاشي معصيته. وعهدُ الله هو العهد الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة، تدركه العقول السليمة، وتؤيده الرسل والأنبياء.
أما نقضُهم له فهو انهم يقطعون ما أمر الله به ان يكون موصولا، كوصل الأقارب وذوي الأرحام، والتوادّ والتراحم بين بني الإنسان، وسائر ما فيه عمل خير. وعلاوة على ذلك تجدُهم يفسدون في الارض بسوء المعاملة، وإثارة الفتن وأيقاد الحروب وافساد العمران.
وجزاء هؤلاء أنهم هم الخاسرون، لكل توادٍّ وتعاطف وتراحم بينهم وبين الناس في الدنيا ولهم الخزي والعذاب في الآخرة.
يقوم الاسلام على أصول ثلاثة هي: توحيد الله بالعبادة، والإقرار برسالة سيدنا محمد، والايمان بالبعث والنشور. هذه هي أصول الدين عند الله، بعث بها كلَّ نبي، وطلبها في كل كتاب، وأرسل محمداً ﷺ يجدّدها في القلوب ويحييها في النفوس. والعبادة الكاملة هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
على هذا درج القرآن يوقظ العقول، وينبّه الناس الى هذه الأصول، فهو يُوجّه الأنظار على الدوام الى الأدلة الكونية الدالة على حقيقة الدعوة، واستبعاد ان يكفر انسان ذو عقل بها بعد ثبوتها في الأنفس والآفاق: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله..﴾ إن حالكم تثير العجب! كيف تكفرون أيها المشركون والجاحدون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم؟ إنكم لو نظرتم في أنفسكم، وعرفتم كيف كنتم والى إين سترجعون، لأفقتم من غفلتكم هذه. لقد كنتم أمواتا في حالة العدم، فخلقكم الله ووهبكم هذه الحياة جاعلاً إياكم في أحسن تقويم. ثم انه تعالى يعيدكم أمواتا، ثم يعيدكم أحياء للحساب والجزاء يوم القيامة، إنّكم إليه لا الى غيره تعودون.
ثم بيّن الله في الآية للناس نعمة أخرى مترتبةً على خلْقهم وايجادهم، وهي أنه هو الذي تفضل على الخَلق فخلَق لمنفعتهم كل هذه النعم الموجودة في الارض، توجهت ارادته الى السماء فجعل منها سبع سماوات منتظمات، فيها ما ترون أيها الناس وما لا ترون، والله محيط بكل شيء.
ولكلمة «استوى» عدة معانٍ، فيقال: استوى أي اعتدل، وسوّيت الشيءَ فاستوى عدلته فاعتدل، واستوى الطعام نضح، والعود استقام، والرجل انتهى شبابه وبلغ أشُدَّه واستقام أمره. واستوى على دابّته استقر، وعلى سرير الملك جلس واستولى عليه، واستوى الى الشيء قصد.
يصح أن يراد بِ «سَبْع سماواتٍ» الطبقات المختلفة لما يحيط بالارضِ. وذلك ان الله تعالى بعد ان أكمل تكوين الأرض ودبّت الحياة على سطحها كيَّف سبحانه جَوَّ الارض المحيط بها بما يلائم هذه الحياة ويحفظها من أهوال الفضاء. وهكذا كانت طبقات الجو المختلفة، ودوائر التأمين في الفراغ الكوني الذي يحدثنا العلم عن بعضها. والحق ان هذه الطبقات لم تُعرف الا من جديد، ولا يزال علم الفلك حتى الآن في طفولته، فأنى لمحمد ان يعلم هذه الأمور إلا من الله العليّ الحكيم! لقد بعثه بالحق وأنزل عليه الوحي وعلّمه بالقرآن ما لم يكن يعلم.
ان أمر الخليقة، وكيفية تكوين هذا الكون على هذه الصورة. وخلق الحياة فيه. لهي من الشئون الإلَهية التي حيّرت العقول. والتي يعزّ الوقوف عليها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الانسانية بطريقة لطيفة. ومثّل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحِكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار.
ويعتبر بعض العلماء هذا النوع من القصص في القرآن من المتشابه الذي لا يمكن حمله على ظاهره. ذلك أن هذه الآيات بحسب قانون التخاطب إما ان تكون استشارة. وذلك محال على الله تعالى. واما ان يكون إخباراً منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراضاً منهم ومحاجّة وجدالا، وذلك لا يليق بجلال الله ولا بملائكته الذين ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
وللعملاء في هذا النوع من المتشابه طريقتان:
الاولى: طريقة السلَف وهي التنزيه كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] وتفويض الأمر الى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك، مع العلم بأن الله يعلّمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به من أعمالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرّب المعاني من عقولنا ويصروها لمخيّلاتنا.
والثانية: طريقة الخلَف وهي التأويل، يقولون: ان قواعد الدين الاسلامي وُضعت على أساس العقل. فمن ثمَ لا يخرج شيء منها عن العقول، فإذا ورد في القرآن أو الحديث شيء يخالف العقل حسُن تأويله حتى يقرب الى الأذهان.
وعلى هذا قالوا: ان قصة الخلق انماوردت مورد التمثيل لتقريبها من أذهان الناس، ولفْهم حالة خَلق الانسان وحال النشأة الاولى. لذا بيّن الله سبحانه انه هو الذي أحيا الانسان ومكّن له في الارض، ثم بين بعد ذلك أصل تكوين الانسان وما أودع فيه من عِلم الأشياء وذكّره به.. فاذكر يا محمد نعمةً أخرى من ربك على الانسان، وهي أنه قال للملائكة: إني جاعل في الأرض من أمكّنه فيها وأجعله صاحب سلطان، وهو آدم وذريته. وإنها لمنزلة عظيمة وتكريم كبير لهذا الانسان!
فاستفهم الملائكة عن سر ذلك قائلين: أتجعل في الأرض من يُفسد فيها بالمعاصي وسفك الدماء بالعدوان، لما في طبيعته من شهوات، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتكم ونطهّر ذكرك ونمجّدك؟ فأجابهم الله بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون، من المصلحة في ذلك. لقد أودعتُ فيه من السر ما لم أودعه فيكم.
وفي هذا ارشاد للملائكة وللناس ان يعلموا أنّ أفعاله تعالى كلّها بالغةٌ غايةَ الحكمة والكمال، وإن لم يفهموا ذلك من أول وهلة.
وقال فريق من المفسرين: ان قول الملائكة: «أتجعل فيها من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء» يُشعر بأنه كان في الأرض صنفٌ أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وانه كان قد انقرض يوم خلْق الاسنان، وقدّر الملائكةُ ان الصنف المستخلَف الجديد، أي آدم وذريته، لن يسلك الا مثل ما سلك سابقوه، وقاسوا فعله اللاحق على فعل السلف السابق، من إفساد وسفك دماء..
14
من ثم استنبطوا سؤالهم وكأنهن اعتراض، مع انه تقرير مبني على قياس. واذا صحّ هذا فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وانما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة البائدة منه في الذات والمادة، كيما يصح القياس.
وهذه الآية تجلّي حجة الرسول ودعوته من حيث أنه: اذا كان الملائكة محتاجين الى العلم ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم، فإن البشر أولى منهم في إنكار مال لم يعرفوه حتى يعلموا؛ وأن الافساد في الارض وجحود الحق ومناصبه الداعي اليه العداءَ ليس بدعاً من قريش، وانما هو طبيعة البشر.
والملائكة والملائك جمع مَلك نؤمن بوجودهم ولا نعرف عنهم الا ما ورد في الكتاب. إنهم أرواح علوية مطهّرة، يعبدون الله، لا يعصون الله ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤمرون. ولفظة ملَك في اللغة مَعناها الرسالة. ويقول الطبري: سُميت الملائكة ملائكةً بالرسالة لأنه رُسل الله الى أنبيائه.
نسبّح بحمدك: نصلّي لك، وننزهك ونبرّئك مما يضيفه اليكم أهل الشرك. ونقدس لك: نعظّمك ونمجّدك. وكل ذلك اقراراً بالفضل وشكرانا لله على خلقهم.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا..﴾ الآية آدم أبو البشر، وجمعُه أوادم، يجوز أن يكون لفظه عربيا. واشتقاقه من الأُدمة، وهي السُّمرة الشديدة، أو من أديم الارض اي قشرتها لأنه خُلق من تراب: «ان الله خلق آدم من قبضة قَبَضَها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منه الأحمر والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحزن، والخبيث والطيب».
قال السهيلي في «الروض الأُنُف» : قيل؛ ان آدم عربي، أوعبراني، أو سرياني (وهذا ظنّ مردود، والحقيقة لا يعلمها غلا الله). وعلّمه اسماء جميع الأشياء وخواصها، وأودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين (ونحن نصرف ذلك الى انه أودع فيه القدرة على الإدراك والتمييز، لا علّمه لفظاتٍ معينة في لغة بعينها). وبعد أن علّمه أسماء الأشياء وخواصها ليتمكن في الأرض عرض هذه الأشياء على الملائكة وقال لهم: أخبروني بأسماء هذه الأشياء وخواصها ان كنتم صادقين في ظنّكم أنكم أحقُّ بخلافة الأرض من هذا المخلوق الجديد، انطلاقا من واقع طاعتكم لي وعبادتكم إياي. فقالوا: سبحانك ربنا، إننا ننزهك التنزيه اللائق بك، ونقر ونعترف بعجزنا، فلا علم عندنا الا ما وهبتنا إياه، انك أنت العالم بكل شيء، والحكيم في كل أمر تفعله.
فلما اعترفوا بعجزهم قال الله تعالى لآدم: أخبرهم يا آدم بهذه الأشياء.
15
فأجاب آدم وأظهر فضله عليهم. فقال الله تعالى مذكّراً لهم بإحاطة علمه: ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب في السماوات والارض، وأعلم ما تُظهرون في قولكم، ما تخفون في نفوسكم!!
وفي هذه الآية دليل على شرف الانسان على غيره من سائر المخلوقات حتى الملائكة، وانه أفضلهم. وفيها دليل على فضل العلم على العبادة، وان العلم أساسٌ مهم في الخلافة في هذه الارض، فالأعلم هو الأفضل، يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]. ولقد قام الدين الإسلامي على العلم، فلمّا تأخر المسلمون عنه تقدّمهم غيرُهم.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ...﴾ الآية اذكرُ يا محمد حين قلنا للملائكة اسجُدوا سجود خضوع وتحيّة لآجم (لا سجود عبادة، فالمعبود هو الله وحده) فصدعوا للأمر الرباني وسجدوا. وقد جاء السجودُ في القرآن بمعنى غير العبادة كما هو هنا، وفي سورة يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ [يوسف: ١٠٠] أي تحيةً، كما هي العادة التي كان الناس يتبعونها في تحية الملوك والعظماء.
ولقد سجد الملائكة كلهم أجمعون الا أبليس أبى وامتنع. لقد استكبر، فلم يطع أمر الحق، ترفعاً عنه، وزعماً بأنه خيرٌ من آدم، كما ورد في سورة الأعراف ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الاعراف: ١٢]. وكان من الكافرين بِنِعم الله وحكمته وعلمه.
وقد التبسَ على بعض الغربيّين أمرُ السجود، وذلك ديدنُهُم في النقد كلّما وجدوا له فرصة في قصص القرآن. قال: بابيني «الايطالي صاحب كتاب» الشيطان «:» انه يستغرب ان يؤْمر إبليس بالسجود لآدم مع غلوّ القرآن في تحريم الشِرك وتنزيه الوحداينة الإلَهية. «فهو إما أنه لا يعرف ان السجود قد يكون للتحية والتكريم. أو انه من اولئك المتعصّبين الذين لا يريدون ان يفهموا. وهؤلاء لا حيلة لنا معهم، وهم في الغرب كثيرون.
وإبليس: أشهر اسم للشيطان الأكبر، ومن أشهر أسمائه في اللغات:»
لوسيفر «و» بعلزبول «و» مغستوفليس «و» عزازيل «. وقد تقدم أن الشيطانَ كل عاتٍ ومتمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء، وهذا الأسماء تمثل قوةَ الشر الكبرى في العالم في موقفها أمام عوامل الخير والكمال.
والشيطان كلمةٌ عربية أصيلة، لأن اللغة اشتملت على كل أصل يمكن اني تفرع منه لفظ الشيطان، ففيها مادة شط وشاط وشطَنَ وشَوَط، وكل هذه الألفاظ تدل على البُعد والضلال والتلهُّب الاحتراق. وهي تستوعب أصول المعاني التي تُفهم من كلمة شيطان. وقد كان العرب يسمّون الثعبان الكبير شيطاناً، وبذلك فسّر بعض المفسّرين قوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ [الصافات: ٦٥] أي الأفاعي، وورد كثيرا في الشعر العربي.
ويرى بعضهم ان»
إبليس «مأخوذ من الإبليس، ومعناه النَّدم والحُزن واليأس من الخير، فيما يقول بعضهم إنه أعجمي..
16
لكنه على كل حال يدل على الفتنة والفساد.
وإبليس من الجن، لما ورد بصراحة في القرآن ﴿وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠].
قال الزمخشري: «جنّيُّ الملائكةِ والجن واحد، لكن من خَبُثَ من الجن وتمرد شيطان، ومن تطهّر ملَك». وقال الراغب: «» الجن يقال على وجهين احدُهما للروحانيين والمستترين عن الجواس كلها بإزاء الإنس، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة كلها «.
ويقول في تفسير المنار:»
وليس عندنا دليل على ان بين الملائكة والجن فصلاً جوهرياً يميمز أحدهما عن الآخر وانما هو اختلاف أصنافٍ عندما تختلف أوصاف، كما ترشد اليه الآيات. وعلى كل حال فانّ جميع هذه المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها «فعلينا ان نؤمن بها كما وردت.
ولا يهمنا ان كان ابليس من الملائكة أو من الجن، فهذا جدلٌ لا طائل تحته، والمهم انه عصى ربه وأصبح عنواناً على الشر والطغيان.
17
قد عُلم مما تقدم ان حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الانسان أمرٌ يفوضه السلَفُ الى الله تعالى، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه.
اما الخلف فيلجأون الى التأويل، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل.
وقد مضت سنّة الله في كتابه ان يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة، تقريباً للأفهام. ومن ذلك انه عرّفنا قيمة أنفسنا، وما أُدعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات. فعلينا والحال هذه ان تجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق.. بذلك تظهر حكمته فينا، ونشرف، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ومعنى سجودهم لأصلنا.
فمجمل الآيات السابقة ان هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الارض أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك. وقدّر الملائكة انه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى اعلمهم الله ان علمهم لم يحط بمواقع حكمته. ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم الا طائفة محدودة منها. لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه الا روحاً واحداً هو مبعث الشر، أبى الخضوع واستكبر عن السجود. فكان بذلك من الكافرين.
ومجمل الآيات هنا: ان الله تعالى لما خلق آدم وزوجته أسكنهما الجنة وقال لهما: اسكنا فيها، وكُلا منها ما تشاءان، من اي مكان وأي ثمر، ولا تقربا شجرة معينة، لتأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين. لكن ابليس الحاسد لآدم، الحاقد عليه، أخذ يغريهما بالأكل من تلك الشجرة حتى زلاَ فأكلا منها. عند ذلك أخرجهما الله مما كان فيه من النعم وأمرهما أن يعيشا في هذه الارض، وذرّيتهما من بعدهما، ويكون بعضهم لبعض عدوّا. وأبلغهم أن لهم في الأرض استقراراً، وتيسيراً للمعيشة الى أجل معين، لأن هذه الدنيا فانية والدار الآخرة هي الباقية.
﴿فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ يعني ان الله تعالى ألهمه بعض الدعاء وهي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ فتاب عليه، اي رجع عليه بالرحمة والقبول ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ الذي يقبل التوبة عن البعد اذا اقترف ذنباً ثم ندم على ما فرط منه. انه هو الذي يحفّ عباده بالرحمة اذا هم أساؤوا ورجعوا اليه تائبين.
وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآليهة التي فَطَر الله عليها الخلق، الملائكة والبشر، وليدركوا ان المعصية من شأن البشر، فكأنه تعالى يقول: لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين، ولا تبخع نفسك على ان لم يؤمنوا برسالتك، إن الضعف موجود في طبائعهم.
18
انظر ما وقع لآدم وما كان منه، وسنّة الله لا تتبدل.
وقد استقر أمر البشر على ان سعادتهم في اتّباع الهداية الإلَهية، وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
والجننة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيها المفسرون. فقال بعضهم انها جنة الخُلد، اي دار الثواب التي اعدها الله للمؤمنين يوم القيامة. قال ابن تيمية «وهذا قول أهل السنّة والجماعة، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة»، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلات هما ابو حنيفة والماتريدي وكثيرون غيرهم.
وقال كثيرون ان تلك الجنةى بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد. وعلى هَذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال: «نحن نعتقد ان هذه الجنة بستان من البساتين، كان آدم وزوجته منعمين فيها وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها».
وقال الأولي في تفسيره: روح المعاني، «ومما يؤيد هذا الرأي:
٠١ ان الله خلق آدم في الارض ليكن خليفة فيها هو وذريته.
٠٢ انه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الارض عرج به الى السماء، ولو حصل لذُكر، لأنه أمر عظيم.
٠٣ ان الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة!
٠٤ انها دار للنعيم والراحة، لا دار تكليف وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
٠٥ أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها.
٠٦ انه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، ولا دار رجس.
وعلى الجملة، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم وطرد منها....»
.
اما الشجرة التي نُهي آدم وزجته ان يأكلا منها فلم يبيّن الله في كتابه نوعها، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها، فلا نستطيع ان نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع.
وقال الاستاذ العقاد في كتابه: المرأة في القرآن «ان قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء هي الصورة الانسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنيسة بين عامة الأحياء، الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها، أي حيث ينبغي ان تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الانسان. وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع، ووردت في الاصحاح الثالث من سِفر التكوين. وفي الاصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني، والاصحاح الثاني في تيموثاوس.
وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في ادراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور اكل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به ارادة النوع، والمحفاظة على بقائه.
19
وخلاصة القول: ان ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل الا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب. وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة. يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق، أو اعطاء الصورة بعد اعطاء الوجود...
وفيها يتبين ان من تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة ان خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلَّف وهم مكلَّفون، وخطيئته لا تُلزمخم وتبوته لا تغنيهم. اما مولدهم منه فإنما يُخرجهم على سنَة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكّرمون ويموتون.
واما قضية عصيان آدم ومخالفته فقد تكلم فيها المفسرون، والمستشرقون الغربيون، وتخبطوا في ذلك. والحق ان قليلاً من النقاد الغربيين من يفطن للخاصة الاسلامية التي تتمثل في قصة آدم هذهز اذ الغالب في أوساطهم ان يتكلموا عن زلة آدم فيسمّوها «سقوطا» ثم يرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين. هذا مع انه ليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الارضية، وانما هو انتقال الانسان من حال الى حال او من عهد البراءة والدعة الى عهد التكليف والمشقة.
وجوهر المسألة في القصة ان القرآن الكريم لم يذكر قط شيئاً عن سقوط الخليقة من رتبة الى رتبة دونها، ولا سقوط الخطيئة الدائمة بمعنى تلك التي يدان فيها الانسان بغير عمله. انه لا يعرف ارادةً معاندة ف يالكمون لإرادة الله يكون من أثرها ان تنازعه الأرواحَ وتشاركه في المشيئة وتضع في الكون أصلاً من أصول الشر.
لقد جاء الاسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر والحساب والثواب أصحَّ العقائد التي يدين بها ضمير الانسان، وقوام ذلك عقيدتان:
أولاهما: وحدة الارادة الالَهية في الكون.
والثانية: ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربّه «.
20
﴿قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً..﴾ أي آدم وحوّاء وابليس، فقد انتهى طور النعيم الخالص الذي كنتم فيه، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان: هدًى وايمان، وضلال وخسران؛ ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ عن طريق رسولٍ مرشد وكتاب مبين فإن لكم الخيار. فمن تبع هداي الذي أشرعه وسلَكَ صراطي المستقيم الذي أوضحه ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من وسوسة الشيطان وما يعقبها من الشقاء والعذاب بعد يوم الحساب والعرض على الملك الديّان، ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فوت مطلوب أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية ان الصبر والتسليم مما يرضى الله ويوجب مثوبته، فيكون لهم من ذلك خير عوض عما فاتهم، وأفضل تعزية عما فقدوه.
والهبوط في «اهبطوا» أصله الانحدار على سبيل القهر، ويجوز أن يُقصد به هنا مجرد الانتقال كما في قوله تعالى: «اهبطوا مصراً» أي ارتحِلوا اليها.
وقد أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرّتين:
الاولى، للاشارة الى أنهم يهبطون من الجنة الى دار بلاء وشقاء، ودار استقرار في الأرض للتمتع بخيراتها الى حين.
والثانية، لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وانهم ينقسمون فريقين: فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسُله، وفريق سار في الضلال وكذّب بالآيات، فحق جزاؤهم في جهنم خالدين فيها أبدا. وهم المشار اليهم بقوله تعالى: ﴿والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
والآيات جمع آية: وهي العلامة الظاهرة، وكل ما يدل الإنسانَ ويرشده.
اسرائيل: لقب يقعوب بن اسحاق بن ابراهيم، ومعنى اسرائيل. الأمير المجاهد، أو صفّي الله. وهناك من يرى أنه تعني «عبد ايل»، اي عبد الله، من فعل أسِر العبري، ورديفِه في العربية. اما إسحاق، فمن أصل «يستحك» العبري ومعناه: يضحك. وقد اعترض الكثير من علماء اللاهوت الاوروبيين على الستمية بصيغة «الفعل» حتى شكّوا في الأصل. وبنوه: ذريته، وهم الأسباط الاثنا عشر، ويسمَّون العبرانيين ايضا لعبورهم نهر الأردن. وهم منتشرون في العالم كله، حيث اختصوا بالنشاطات السهلة الكبيرة المردود، وكانوا يقدَّرون قبل الحرب العالمية الثانية بنحو ١٦ مليوناً، هلك منهم في الحرب نحو خمسة ملايين كما يزعمون. ويتكلم أكثرهم اللغة الإيديّة، وهي لغة أقلِّيَةٍ اساسُها الألمانية ممتزجة بكلمات عبرية، والعبرية لغتهم الاولى وهي احدى اللغات الساميّة.
ويبدأ تاريخهم المعروف باقامة فريق منهم في «غوش» في الشمال الشرقي من مصر، منذ عدة قرون قبل المسيح، أيام رمسيس الثاني، وكانوا زرّعا. وقد لاقوا في مصر بعض العنَت الى ان خرج بهم موسى. وفي طور سيناء أبلغهم الوصايا العشر فلم يحفظوها. ثم تاهوا في الصحراء سنين عديدة قبل ان يستولوا على قسمٍ من ارض كنعان استقروا فيه.
وكانوا منقسمين الى قبائل، على رأس كل احدة شيخ قبلي وكاهن يسمّونه القاضي. هذا هو نظام القضاة. ولقد حاربوا الفلسطينيين القادمين من كريت، بقيادة شاؤول. فهزمهم هؤلاء. ثم جاء داود ووحّدهم وانتصر بهم على اعدائه، وحقّق لشعبه السلام والرفاهية.
وعقبه سليمان الذي بنى أول هيكل. ثم انقسم بعده اليهود الى اسباط الشمال بقياة يربعام، وكونّوا مملكة السامرة، وأسباط الجنوب تحت قيادة ابن سليمان وكونوا مملكة يهوذا.
ودارت الحرب بين المملكتين مدة طويلة، ثم استولى الآشوريون على المملكتين، ونفوا كثيرا من اليهود. ثم استولى عليهما المصريون، ومن بعدهم البابليون الذين هدموا الهيكل ٥٨٦ ق. م وا×ذوا اليهود اسرى الى بابل. وقد بقوا هناك حتى سمح لهم قورش الفارسي بالعودة، واعادوا بناء هيكلهم مرة أخرى سنة ٥١٦ ق. م. وفي العصر الهليني كانوا جماعة دينية لا كيان لهم، واستعادوا استقلالهم السياسي تحت المكابيين. ثم أدى النضال بين الفريسيين والصدوقيين، وهما من أهم الفرق اليهودية، الى ان تدخّل الرومان الذين استولوا على البلاد من البطالسة وهدموا اورشليم سنة ٧٠ م. وفي القرون الوسطى وقع على اليهود من قبل الاوروبيين اضطهاد شديد استمر حتى القرن الثامن عشر. لقد حُرّم عليم امتلاك الارض، وممارسة كثير من المهن الحرة، ولم يُترك لهم الا التجارة الصغيرة وتسليف النقود. لذا تجمعت شراذمهم في أحياء خاصة بهم. وقد طرد كثير منهم من فرنسا وانجلترا واسبانيا والبرتغال، ولجأوا الى هولندا وبلاد الاسلام حيث عاشوا آمنين.
22
ثم أخذت الرأسمالية بيدهم في القرن الثامن عشر للميلاد وأصبحوا وراء الأعمال الاقتصادية الكبرى.
وقد أدى تحررهم التدريجي الى ظهور تيارين متعارضين في أوساطهم، أولهما يدعو الى رسالة ثقافية، وعلى رأسه موسى مندلسون، والثاني يدعو الى رسالة سياسية هي الصهيونية، وعلى رأسه ثيودور هرتزل ١٨٩٦. وقد نشط التيار الثاني وسعى معتنقوه الى المطالبة بدولة يهودية في فلسطين حتى نجحوالا في ذلك بمساعدة الدول الغربية المسيحية، وما مساعدتها هذه الا حركة امتداد للحروب الصليبية الغابرة.
هكذا وُجدت الحركة الصهيونية الرامية الى أقامة دولة يهودية على غرار الدولة القديمة التي قضت عليها روما. وقد سعى زعيمها هرتزل سعياً حثيثاً لجمع المال والرجال وعقّد أول مؤتمر لجماعته في مدينة بال بسويسرا وفي ذلك المؤتمر قال هرتزل: «الآن خُلقت دولة اسرائيل»، فقد قرر المؤتمرون تكوين منظمات صيهونية في البلاد التي يقطنها عدد كاف من اليهود. وقام بأمر الصهيونية من بعده زعماء آخرون أمثال ماكسي نوردو، وحاييم وايزمان. وتعاقبت مؤتمارتها، وتحمس لها يهود شرق اوروبا، وأمداها يهود امريكا بالمال.
وتطلعت الصهيونية الى فلسطين. ثم جاء وعد بلفور، الوزير الانجليزي، سنة ١٩١٧ الذي سمح لليهود ان يكون لهم وطن قومي في فلسطين فعزز آمال الصهاينة. ومن ثم بدأت هجرة اليهود الى فلسطين سنة ١٩٢٣ وزادت في عهد الانتداب الانجليزي بالتواطؤ، وقد شجّعت على ذلك حركات الاضطهاد في أوروبا كالحركة النازية.
وفي سنة ١٩٤٥ أوقف الانجليز الهجرة، ولكن بعد أن أصبح عدد اليهود في فلسطين خطرا على العرب. ثم كانت المشلكة الفلسطينية الكبرى التي عُرضت على هيئة الأمم، فقررت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في ١٤ يونيه ١٩٤٨.
ولم يقبل العرب هذا التقسيم لأنه هدرٌ لحقهم في وطنهم، ورغم ذلك أُعلنت الدولة اليهودية في ذلك التاريخ. وقامت الحرب بين أهل فلسطين واليهود حتى دخلت جيوش الدول العربية. ولم يكن العرب على استعداد للحرب اما اليهود فكانوا قد أعدوا كل شيء، بفضل الدول الغربية. لذا أخذوا أكثر من القسم الذي خصصه لهم قرار التقسيم.
ولا تزال الحالة متوترة والحرب قائمة ولن تهدأ حتى يسترد الفلسطينيون حقوقهم كاملة. والله نسأل ان يلهمنا رشدنا ويوحّد صفوفنا بقوة من عنده. ولابد من نصرِنا عليهم طال الزمن أو قصر.
بعدن استعرض سبحانه وتعالى في أوائل هذه السورة الكتابَ الحكيم وانه لا ريب فيه، بيّن أصناف البشضر من مؤمن وكافر ومنافق، ثم طالب الناس بعبادته. ثم اقام الدليل على ان الكتاب مُنزل من عند الله على عبده محمد وتحدى المرتابين ان يأتوا بمثله. ثم حاجّ الكافرين. ثم ذكر خلق السماوات والأرض، وان جميع ما في الارض من منافع هي للانسان.
23
وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذِكر اليهود لسببين:
الأول أنهم أقدم الشعوب التي أُنزلت عليها الكتب السماوية، والثاني لأنهم كانواأشد الناس حقداً على المؤمنين في المدينة المنورة. كان اليهود في المدينة وشمال الحجاز، في خَيبر وغيرها، يكيدون للاسلام، ويوغرون صدور المشركين على النبي والصحابة، فذكّرهم الله تعالى بنعمته عليهم اذا جعل النبوة فيهم زمناً طويلا، وطلب اليهم القيام بواجب شكرها وكأنه يسألهم أن أوفوا بوعدي الذي أخذتُه علكيم وأقررتموه على أنفسكم وهو الايمان والعمل الصالح والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء حتى أوفي بوعدي لكم، وهو حسن الثواب والنعيم المقيم.
وهذه الآية تشير إلى وجوب وفاء كلا المتعاقدين بما عليه من التزام، فاذا أخلّ احدهما بالتزامه سقط وجوب الوفاء عن الآخر.
ان عليكم يا أبناء يعقوب وذريته أن تؤمنوا بالقرآن الذي أنزلتُ مصدّقاً لما عندكم من كتب، واحذروا ان تسارعوا الى جحود القرآن فتكونوا أول الكافرين به بدل أن تكونوا أول المؤمنين بهديه.
﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ اي لا تُعرِضوا عن التصديق بالنبيّ وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرؤوسيهم من مالٍ وجاه، ويرجوه المرؤوسون من الحظوة باتباع الرؤساء خشية سطوتهم اذا ما خالفوهم. كذلك اتقوني بالإيمان، واتّباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.
﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لا تخلطوا الحق المنزَل من عند الله بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، ولا تكتموا الحق وأنتم تعرفونه حق المعرفة.
لقد بيّنت هذه الآية مسلكهم في الغرابة والإغراء... فرغم انه قد جاء في الكتب التي بين أيديهم تحذير متكرر من أنبياء كذَبةٍ يُبعثون فيهم ويجترحون العجائب، وجاء فيها أيضاً ان الله تعالى يبعث فيه نبياً من ولد اسماعيل وزوجه الجارية هاجر فقد ظلّ الاحبار يكذبون على العامل ويقولون: إن محمداً واحدٌ من اولئك الأنبياء الذين وصفتهم التوراة بالكذب. لقد ظلوا يكتمون ما يعرفون من أوصافه التي تنطبق عليه، وبذلك يحرّفون كثيرا من الكتب التي بين أيديهم.
وهنا أمَرهم الله تعالى أن يؤمنوا حقيقة وفعلاً، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة علّها تطهّرهم، ثم أن يركعوا مع الراكعين.. حتى يكون من المسلمين حقيقة.
24
لا يزال الكلام موجَّهاً الى بني إسرائيل، وأحبارهم على الخصوص. لقد وبخهم الله على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، فقد كانوا يتلون التوراة ولا يعملون بما فيها. كانوا يأخذون ما يوافقهنم ويتركون ما يعارض شهواتهم وأهواءَهم. وقد جاء في عدة مواضع من التوراة نبأ البشارة بالنبي محمد ﷺ، فحرّفوا هذه الباشرة وأوّلوها بما يوافق هواهم. حتى إن بعض احبارهم كان ينصح سراً بالإيمان بمحمد لمن يحب ولا يعمل بذلك.
﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ يعني: ألا يوجد فيكم عقل يردكم عن هذه السفة؟
ومع ان الخطاب ليهود، وهذا حالهم، فإنه عامٌ وعبرة لغيرهم.
وبعد ان بيّنت الآيات سوء حالهم وأن عقلهم لم ينفعهم، أرشدتْهم الى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل والعمل فقال تعالى: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾.. والصبر حبْسُ النفس على ما تكره. وقد حث الله على الصبر كثيراً في عدة آيات، وجعل أحسن الجزاء لمن صبر على الشدائد، وعن الشهوات المحرمة التي تميل اليها النفوس، وعلى أنواع الطاعات التي تشق على النفس. كذلك أمر بالاستعانة بالصلاة لما فيها من تصفية النفس ومراقبتها في السر والنجوى. وناهيك بعبادة يناجي فيها العبدُ ربه خمس مرات في اليوم! وليست الصلاة مجرد عبادة فحسب، بل هي انبعاث خفي لروح العبادة في الانسان، وأقوى صورة للطاقة التي يمكن أن يولّدها الانسان. واذا ما أصبحت الصلاة الصادقة عادةً فإن حياتنا ستمتلىء بفيض عميق من الغنى الملموس.
لذلك ورد الحث على الصلاة في كثير من الآيات. ان الصلاة قوة لا يقدّرها الا العارفون والملهمون. ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ أي أن الصلاة ثقيلة شاقّة إلا على المؤمنين ايماناً حقيقياً، الخاشعين لله حقا. ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي الّذين يتوقعون لقاءَ الله تعالى يوم الحساب والجزاء، فيجازيهم أحسن الجزاء على ماقدّموا من عمل صالح.
كرر الله تذكيرهم بالنعم التي أنعمها عليهم، ومن أكبرها انه فضهلم في ذلك على العالمين.. لأنهم أهل التوحيد فيما غيرهم أهل شِرك. كلنهم لم يشكروا هذه النعم، فوبخهم الله تعالى بقوله: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾، فبيّن لهم سمات ذلك اليوم الشديد الهول حيث يقف الناس للحساب وتنقطع الأسباب. آنذاك تبطُل منفعة الانسان، وتتحول سنّة هذه الحياة من انطلاق الانسان واختياره ليدفع عن نفسه بالعدل والفداء أو الشفاعة عند الحكام. ان ذلك اليوم يختلف عن أمر الدنيا، وتضمحل فيه جميع الوسائل الا ما كان من عمل صالح.
﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ اي ليس لهم من يمنعهم من العذاب.
وقد كان اليهود يعتقدون ولا يزالون أنهم، بدعوى انتسابهم للأنبياء لا يدخلون النار أو لا تمسّهم النار الا أياماً معدودة لأن لهم الجاه والتأثير يوم القيامة، كما أن أحبارهم يشفعون لهم، بل يمكنهم ان يخلّصوا مجريهم بشتى الوسائل التي يستخدمونها في الدنيا.. فجاء الاسلام وسفّه هذه العقيدة وعلّمنا انه لا ينفع في ذلك اليوم الا مرضاة الله بالإيمان والعمل الصالح الذي يتجلى في أعمال الجوارح.
ونأتي الى معنى شفاعة النبي عامٌ لا يخص بها أشخاصاً معينين، وهي كما قال ابن تيمية «دعء يدعوه النبي ﷺ فيستجيبه المولى جلّ وعلا»، وهذا خلاف ما يعتقده اليهود كما مر آنفاً، انطلاقا من دعوى أنهم شعب الله المختار استناداً الى ما جاء في كتبهم من هراء وكذب.
القراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿ولا تقبل منها شفاعة﴾ بالتاء.
في هذه الآيات تعداد لنعم الله تعالى على بني اسرائيل ومننه الكثيرة، فيقول تعالى: واذكروا من نِعَمنا علكيم أن أنجيناكم من ظلم فرعون وأعوانه الذين كانوا يذيقونكم أشد العذاب، فإنهم كانوا يذبحون الذكور من أولادكم تحسّباً من أن ينازعهم في حكم البلاد، ويبقون الإناث ليتخذوهن جواري لهم. وفي هذا العذاب والتعرض للفناء بلاء شديد من ربكم لكم واختيار عظيم.
وفرعون لقبٌ لمن ملك مصر قبل البطالسة، مثل كسرىعند الفرس وقيصر عند الروم، وتُبَّع في اليمن، والنجاشي في الحبشة.
واذكروا كذلك من نعم الله عليكم أننا شققنا من أجلكم البحر وفصلنا بضعه عن بعض لتسيروا فيه، فتتخلصوا وتنجوا من ملاحقة فرعون وجنوده.. هكذا جوتم، كما انقمنا لكم من عدوكم فأغرقناه أمام أبصاركم.
وهذه القصة من خوارق العادات ومن معجزات الأنبياء التي يؤيدهم اللهن بها حين يرسلهم. وخوارق العادات جائزةٌ عقلا، وهي خاضعة لارادة الله وفق النواميس الطبيعية التي وضعها سبحانه وتعالى، لكن تفسيرها هو الذي يبدوا خارقاً. فالحق أن السنن والقوانين الكونية لا تحكُم على واضعها ومبررها بل هو الحاكم المتصرف فيها.
واذكروا حين واعد ربُّكم موسى أربعين ليلة لمناجاته، وتلقى التوراة. فلما ذهب موسى الى معياده، بعد اجيتاز البحر سألتموه أن يأتيكم بكتاب من ربكم، فلمّا أبطأ علكيم اتخذتم عِجْلاً من ذهبٍ وعبدتموهن من دون الله. بذلك عدتم الى كفركم والإشراك في الله. يومذاك كان الذهب هو ربكم، فبئس ما تفعلون.
أما العجل فقد اتسعاروهن من عبادة الكنعانيين.
والمراد بهذه الآيات هو تذكير أحفادهم بالنعمة وبيان كفرهم بها. وذلك ليظهر أن تكذيبهم بمحمد ﷺ ليس بغريب منهم، بل هو معهود فيهم. وهو دليل على أنهم عبيد المادة يجرون وراءها، هذا ديدنهم منذ أول أمرهم الى الآن. ومن فعلَ من الأمم الأخرى فقد اكتسب بعض صفاتهم.. إنه تهوّد.
ثم عفَونا عنكم ومحونا عقوبتكم أملاً في ان تنصلح حالكم ولعلّكم تشكرون ربكم على عفوه عنكم، وفضله عليكم، وتشجيعاً لأن تداوموا على طاعة الله ورسله.
واذكروا حين أنعمنا عليكم فأنزلنا على نبيكم موسى كتاباً من عندنا جعلناه يفرّق بين الحق والباطل، ويبين لكم الحلال من الحرام. وذلك لكي تسترشدوا بنور هذا الكتاب وتهتدوا من الضلال باتباع ما جاء فيه.
القراءات:
قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «واعدنا» والباقون «وعدنا».
ما زال السياق في الكلام على بني إسرائيل. واذكر أيها الرسول الكريم قول موسى لقومه يوم عبدوا العِجل حين كان غائباً عنهم يناجي ربه: يا قومي ظلمتم أنفسكم باتخاذمكم عجل السامريّ معبوداً من دون الله، فتوبوا الى خالقكم وارجعوا عن هذه الجريمة، فاقتلوا أنفسكم ندماً على فعلتكم وتكفيراً عن معصيتكم.
روي ان موسى لما رجع من ميقات ربه، رأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، فغضب غضباً شديداً، ورمى بالألواح من يده، ثم أحرق العجل الذي صنعوه. ثم قال: من كان من حرب الرب فليُقبل إلي، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا. وانها لكفارة عنيفة، وتكليف مرهق كان لا بد منه لتطهُر تلك النفوس الشريرة المنغمسة في عبادة المادة المتجسدة بالعجل الذهبي. واذ فعل بعضهم ما أمر به موسى قُلبت توبتهم وتدراكتهم رحمة الله الت تسع كل شيء.
واذكروا نعمتي عليكم يوم سألتم وقلتم له: اننا لن نصدّقك في قولك إن هذا كتاب الله، وأنك سمعت كلامه حتى نرى الله عياناً. حنيذاك انقضّت عليكم صاعقة من السماء زلزلتكم جزاء عنادكم واظلمكم وأنتم تنظرون. قال المفسرون: ان الذين طلبوا رؤية الله هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات الله كما جاء في سورة الأعراف. آية ١٥٤.
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾
فالحادثة واحدة هنا مختصرة وفٌصلت وشرحت في الأعراف.
الظاهر من لفظ الآية ان الله بعثهم بعد ان أماتهم. وهذا رأي بعض المفسرين. والبعض الآخرة يرى ان الصاعقة التي أصابتهم صعقتهم حتى صاروا كالأموات، ثم لمّا طلب موسى من ربه العفوَ.. أفاقوا من غَشيتِهنم ليشكروا الله على نجّاهم وعفا عنهم.
ثم يذكّرهم تعالى بما أفاء عليهم من النعم: ومن فضلِنا عليكم أننا جعلنا السحاب لكم كالظُلَّة يصونكم من حر الصحراء التي انتم بها. وأنزلنا عليكم المنّ، وهو طعام لذيذ حلو كالعسل كان ينزل مع ندى الصباح فيلتقطونه بسهولة، وكان لهم بدل الخبز. اما السلوى فهو طائر لحمه لذيذ يعرف بالسُّمّان، كان يأتيهم أسراباً كثيرة.
فلم يشكروا هذه النعم بل كفروا بها. ولما كان كفرهم لا يضر الله وانما يضرهم هم. فقد جاء قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
القرية: قيل إنها بيت المقدس. الرغد: الهنيء والسعة من العيش. الجز: العذاب.
اذكروا يا بني اسرائيل حين قلنا لكم ادخلوا الأرض التي فيها تلك القرية التي عينها لكم موسى، فكلوا مما فيها وعيشوا راغدين. ادخلوا من بابها خاشعين، وقولوا حُطّ عنا يا ربنا ذنوبنا، فاذا فعلتم ذلك غفرنا لكم ذنوبكم، وللمحسنين منكم عندنا زيادة. فقالوا: ﴿ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: ٢٢].
وهكذا خالف الضالمون أمر بهم وبدّلوا ما أُمروا به بالإحجام عن طاعة الأوامر، استهزاءً بالجزاء، فأنزل الله على الظالمين منهم عذابا من فوقهم.. جزاء لهم على فسقهم وخروجهم على أوامر ربهم.
القراءات:
قرأ نافع «يغفر» بالياء. وقرأ ابن عامر «تغفر» بالتاء على البناء للمفعول. وقرىء «رُجزا» بضم الراء.
عثا يعثو عثوا عثيا: أفسد أشد الافساد. وكذلك عَثيَ يعثى....
واذكروا يوم طلب موسى من ربه السقيا لكم حين اشتكم بكم العطش في التيه. فقلنا له اضرب بعصاك حجراً من أحجار الأرض. ويرى المفسرون أن في ذلك اشارة الى حفر الأرض لا مجرد الضرب بالعصا. فضربه، فنبع الماء منفجرا في اثني عشر مسرباً، على عدد أسباط بني اسرائيل، وتعين لكلم سبط منهم مشربٌ خاص حتى لا يقع بنيهم نزاع وخصام.
وقال لهم الله تعالى على لسان نبيه: الآن كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من هذا الماء العذب وأنتم في هذه الصحراء المجدبة، ولا تنشروا الفساد في الارض.
الصبر: حبس النفس عن الشيء. البقل من النبات: ما نبيت من البذور. القثاء: الفقوس. الفوم: الثوم. الأدنى: الدون الأخس. الهبوط الى المكان: النزول اليه والحلول به. الصر: البلد العظيم. المسكنة: الفقر. باؤا بغضب: استحقوا الغضب.
واذكروا أيها اليهود أفعال أسلافكم يوم سيطر عليهم البطر حيث كانوا في صحراء مجدبة لا شيء فيها فأنعم الله عليهم بالماء والمن والسلوى والغمام يظللهم، وكان قد أخرجهم من ديار الذل والاضطهاد ومع كل هذا فإنهم يتضجّرون فيقولون لنبيهم: اننا لا نطيق قَصر طعامنا على صنف واحد هو المن والسلوى. فاسأل ربك أن يخرج لنا ممن تنبت الأرض من الخضر البقول الحبوب. اذ ذاك تعجّب مسى من ذلك وأنكروه عليهم فقال لهم أتفضّلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن! اذن اتركوا سيناء وادخلوا مدينة من المدن فانكم ستجدون فيها ما تريدون. لكنهم جبنوا عن ذلك. ومن ثم دهمهم الفقر والخنوع والذلة، واستحقوا غضب الله عليهم جزاء الكفر والعناد والعصيان.
القراءات
قرىء: «اهبُطوا» بضم الباء وهو جائز لغة. ويقول ابن جرير الطبري: اهبطوا مصرا «، بالألف والتنوين هي القراءة التي لا يجوز غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك.
وقد جاء في مصحف ابن مسعود»
مصر «بدون تنوين. وهذا لا يعتمد لأن الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان وتركوا ماعداه. والفرق في معنى القراءتين واضح.
بعد ان ذكر جرائم اليهود، وبين ما نالهم من غضب الله جزاء ما اقترفوا من الأعمال السيئة والكفر وقتل الأنبياء، والبطر والتمرد ومخالفة الشرائع قرر سبحانه وتعالى في هذه الآية ان كل من آمن به وباليوم الآخر واتبع طريق الهدى من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، وكان موحداً لا يبعد الأصنام، وعمل صالحاً فان له ثواب عمله الصالح. وهؤلاء لا خوف عليهم يوم القيامة. ولاهم يحزنون اسفاً على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وزينتها. ان لهم ما يعدهم الله من نعيم مقيم عنده.
وكل هذا قبل البعثة المحمدية. أما بعدها فقد تقرر شكل الايمان الأخير.
القراءات:
قرأ نافع وحده «الصابين» بالياء بدون همزة.
والصابئون قوم يقرون بالله وبالمعاد وبعض الأنبياء، لكنهم يعتقدون بتأثير النجوم والافلاك ف يالخير والشر وتصريف مقدّرات الانسان. ولذا فهم أقرب الى الشِرك.
الطور: الجبل المعروف. الميثاق: العهد.
واذكروا حين أخذنا على أسلافكم العكهد بالعمل بتوراة موسى وقلنا لهم خذوا ما آتيانكم بجد ومواظبة على العمل بما فيه، ورفعنا فوقكم الجبل كالمظلَة كل ذلك لعلكم تتقون بايمانكم وعملكم العذابَ والخسران يوم القيامة.. فأعرضتم بعد ذلك كله، فاستحققتم العذاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم. ولولا ذلك لخسرتم سعادة الدنيا والآخرة.
الاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء. القرد: الحيوان المعروف. الخاسىء: المبعد المطرود من رحمة الله، الذليل. النكال: العقوبة، نكل تنكيلا ونكالا. الموعظة: التذكرة، وعظ يعظ وعظا وموعظة.
من تشريع موسى لليهود ان لا يعملوا يوم السبت، أي يوم الراحة والعبادة، لكن اليهود كما هو معهود بهم لا يثبتون على عهد ولا يطيعون الا أهواءهم.
هنا يذكّر الله اليهود الذي على زمن النبي وفي كل زمان ويقول لهم: لقد علمتم بلا ريب خبر أسلافكم الذين تجاوزوا الحد في السبت بأن صادوا السمك فيه، وهو يوم راحة وعيد العملُ فيه محرم، لذلك مسخناهم وصيّرناهم مبعدين عن الخير أذلاّء صاغرين، مطرودين كالكلاب الخاسئين.
والمسخ كما يقول الطبري عن مجاهد مسخٌ مجازي، أي: انه ما مُسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظاً، ولا تعي زجراً. وهذا ما أكده ابن كثير حيث قال: الصحيح ان المسخ معنوي كما قال مجاهد.
﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً﴾ اي فجعلنا هذه العقوبة عبرة رادعة للمخالفين.
الهزؤ: السخرية. فارض: كبيرة انقطعت ولادتها. بكر: صغيرة لم يركبها الفحل.
عوان: نَصَف بين الكبيرة والصغيرة. فاقع: ناصع شديد الصفرة. الذلول: المدرب الذي عُوّد على العمل. تثير الارض: تقلبها وتهيئها للزراعة. مسلمة: خالية من العيوب. لا شية فيها: لونها واحد ليسي فيها ألوان مختلفة. والشية: العلامة. ادّارأتم: اختصتم، وتدافعتم بأن قال بعضكم أنتم القتَلة وقال الآخرون بل أنتم.
في هذه الآية يقص علينا تعالى موضوعاً يبين فيه تعنت اليهود، ومما حكتهم واستهزاءهم بأوامر الله، وتعجيزهم لنبيهم، وتنطعهم بالدين. وأصل القصة ان جريمة قتل وقعت في بني إسرائيل ولم يعرف القاتل. فأتوا الى مسى يطلبون حكمه فيها فقال لهم: ان الله تعالى يأمركم ان تذبحوا بقرة ليكون ذلك مفتاحاً لمعرفة القاتل. فقالوا: أتسخر منا يا موسى! فقال: أعوذ بالله ان أكون من الجاهلين. وهنا بدأ تعنتهم اذ قالوا: اطلبت لنا من ربك ان يبين لنا لون هذه البقرة. فأجابهم موسى: ان الله تعالى يقول انها بقرة صفراء لونها فاقع تسر الناظرين لصفاء لونها ووضوحه. ثم لجّوا في سؤالهم فقالوا: ادعُ لنا ربك يبين شأن هذه البقرة، لأن البقر كثير وقد تشابه علينا. فقال لهم ان الله يقول انها بقرة لم تذلل بالعمل في حرث الارض وقلبها للزراعة، ولم تعمل في سقي الارض، وهي مسلَّمة بريئة من العيوب ليس فيها آية علامة أو لون آخر. فقالوا: الآن جئت بالبيان الواضح، وأخذوا يبحثون عن البقرة التي بهذه الصفات. ووجدوها عند أيتام فقراء فاشتروها بأضعاف ثمنها ثم ذبحوها، وما كادوا يفعلون ذلك لكثرة أسئلتهم وطول لجاجهم.
ثم يأتي الى القصد الاول من ذبح البقرة. وهني قوله: قتل بعضكم نفساً فود كل منكم ان يدفع عن نفسه التهمة، وتخاصمتم في ذلك، والله يعلم الحقيقة وهو كاشفها ومظهرها مع أنكم تكتمونها.
فقلنا على لسان موسى: اضربوا التقيل بجزء من هذه البقرة، فلما فعلتم أحيا الله التقيل وذكر اسم قالته ثم سقط ميتا.. وتلك معجزة من الله لنبيه موسى، والله على كل شيء قدير.
جمع المفسرين مجمعون على أن ضرب القتيل كان بجزء من البقرة وإن اختلفوا في تعيين ذلك الجزء. ومعرفة هذا الجزء لا تنقص ولا تزيد
في قدر المعجزة، وانما هي علم لا يفيد أحدا.
وقد خالف المرحوم عبد الوهاب النجار في تفسير «اضربوه ببعضها» في كتابه قصص الأنبياء ص ٢٥٩٢٦٢ وقال: المراد بعض أجزاء التقيل. يعني ان يضرب المتهم بجزء من جسم القتيل، هذا ما نفهم من كلامه وهو يقول: ان قصة ذبح البقرة منفصلة عن قصة القتل. وكل واحدة على حدة. أما المراد بذبح البقرة فهو أن بني إسرائيل كانوا مع المصريين الذين يقدسون البقر. وكانت فيهم بقية من هذا التقديس بدليل أنهم عبدوا تمثال العجل، فكان لا بد لاقتلاع هذه البقية من نفوسهم تكليفهم ذبح البقرة، فكان لذلك الأمرُ بالذبح، وكان لذلك المجادلة والتلكؤ منهم، فذبحوها وما كادوا يقومون بالذبح. والرأي هنا أقرب الى التعليل المنطقي لا مجرد التفسير.
ويريكم آياته وهي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتيب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبارُ الميت بقاتله مما ترتتب عليه الفصل في الخصومة وازالة أسباب الفتن العداوة لعلكم تفقهون أسباب الشريعة وفائدة الخضوع لها.
القسوة: الجفاء والغلطة والصلابة. قست: جفَت وغلظت. يتفجر: يخرج بشدة ويسيل.
يتشقق: يتصدع. يهبط: ينزل ويتردى من خوف الله.
وصف الله بني اسرائيل في ذلك الزمان، وبعد ان رأوا الكثير من آيات الله التي عددها، بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصحبت أشد من الحجارة قساوةً لأن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منه النهر الخيّر والماء الزلال النافع، وبعضها يخرّ من خشية اللة لو كان له عقل مثل بني الانسان. أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر ولم تنفذ الى أعماقها النذر والآيات. ما الله بغافل عما تعملون، فهو يُحصيه عليكم ثم يجازيكم بألوان من النقم.
انتقل الكلام هنا من مخاطبة اليهود في شأن أجدادهم الى الحديث مع المسلمين، فقد كان النبي شديد الحرص على دخول اليهود في الاسلام، لأن أصل الدينين واحد من حيث التوحيد والتصديق بالعبث، فافتتح الكلام بهذه الجملة الاستفهامية: افتطمعون ان يؤمنوا لكم.. ؟ أبعد كل ما قصصناه يطمع طمع طامع في ايمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التارخي الملوث؟
ثم يقص علينا من مساوىء أفعال اليهود واقاويلهم في زمان البعثة زهاء عشرين سبباً لا تبقي مطمعاً لطامع في ايمانهم.
وهو لايدع زعماً من مزاعمهم الا قفى عليه بالرد والتفنيد، وقد بدأ هذا الوصف بتقسمهم فريقين: علماء يحرّفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم، وجهلاء أميين هم ضحايا التلبيس الذي يأتيه علماؤهم. فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلَّل باسم الدين وعالمها مظلِّل يكتب من عنده ويقول هذا من عند الله!
لذلك ينبهنا الله الى انه: ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون ان تطمعوا في ان يؤمن اليهود بدينكم، وقد اجتمعت في مختلف فرقهم اشتاب الرذائل. ان احبارهم يسمعونن كلام الله ويفهمونه ثم يحرّفونه عمداً. واذا لقي اناس منهم أصحاب النبي قالوا لهم كذباً. ونفاقاً أنّا آمنا كإيمانكم وان محمداً هو الرسول الذي بشّرت به التوراة، فاذا خلا بعضهم الى بعض عاتبهم الباقون منهم على قولهم السابق، خشية ان يكون ذلك حجة على اليهود قاطبة يوم القيامة.
هل غاب عن هؤلاء الذين يلومون غيرهم ويكتمون من صفات النبي ما يكتمون ويحرّفون كلام الله ان الله يعلم ما يُسِرون من كفرٍ ومكيدة وما يعلنون من اظهار الايمان ومن هؤلاء اليهود أميّون جهلة لا يعرفون شيئاً، ولا يعرفون عن التوراة الا الأكاذيب تنفق مع أمانيّهم حسب ما رسمه لهم أحبارهم.
والأماني جمع أمنيَة. وهي في الاصل ما يقدّره الانسان في نفسه، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يُتمنى وما يُقرأ. وعلى ذلك يكون المعنى: انهم يعتقدونن أكاذيب أخذوهنا تقليداً من المحّرفين، أو مواعيد فارغة سمعوها منهم، كقولهم ان الجنة قصرٌ على اليهود وحدهم وان النار لن تمسّهم الا أياماً يتركونها بعدها الى الجنة.
﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أي وما هو الا قوم قصارى أمرهم الظن الواهي دون علم ولا فهم. ومع هذا فهم أكثر الناس جدلاً في الحق، وأشدهم كذباً وغرورا.
﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ...﴾
الويل: الهلاك، اي هلاك وعذاب كبير لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون من عندهم ثم يقولون للأميين هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله. كل هذا الافك ليصلوا من ورائه الى أغراض تافهة قليل. فالحق أثمن الأشياء وأغلاها.
وقد جنى أحبار اليهود ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي ﷺ، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددهم الله على كل جناية بالويل والثبور.
وهنا جعل يبين منشأ اجترائهم على كل موبقة، وهو غرورهم بزعمهم ان النار لن تمسهم الا اياماً معدودات. فقل لهم يا محمد، ومن باب دحض الدعوى: أين البرهان على ما تزعمون؟ ثم ينقصه الحق تعالى ببيان مخالفته لقانون العهد الإلَهي الذي لا يعرف شيئاً من الظلم، ولا المحاباة.
المس: واللمس بمعنى، وهو اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة. العهد: الخبر أو الوعد. بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق. الكسب: جلب المنفعة، وهنا يراد به التهكم. السيئة: الفاحشة.
يزعم اليهود أنهم سيعذَّبون بالنار اربعين ليلة وذلك عدةُ أيام عبادتهم للعجل، وزعم بضعهم ان النار ستمسُّهم سبعة أيام فقط. وهنا يرد الله تعالى عليهم افتراءهم ويسألهم: هل تعاهدتم مع الله على ذلك. فاطمأننتم لأن الله لا يخلف عهده معكم؟ ثم يؤكد أن: من كسَب سيئةً وأحاطت به خطيئةٌ وفأولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون «.
فحْكم الله نافذ في خقله لا فرق بين يهودي وغيره الا بما كسبت يداه.
القراءات:
قرأ ابن كثير وحفص: اتخذتم باظهار الذال. وقرأ الباقون بالادغام. اتخذتم. وقرأ نافع:»
خطيئاته «وقرىء خطيته وخطياته.
بيَن سبحاه هنا ان الّذين أطاعوا وصدقوا وعملوا صالح الأعمال سيدخلون الجنة ينعمون بما أعطاهم الله. وقد جرت سنة الله في كتابه العزيز ان يتبع الوعيد بالوعد حتى يستبشر الذين آمنوا ولا يقنطوا من رحمة الله وتلك حكمة بارزة من لدنه. ويظهر من سياق الآية أن الإيمان وحده لا يكفي اذ يقول: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ فالإيمان يجب ان يقترن بالعمل به.
الميثاق: العهد الشديد. اليتيم: من لا أب له. المسكين: من سكنت يده عن العمل، العاجز عن الكسب.
بعد ما بسطت الآيات السابقة ما انعم الله به على بني اسرائيل جاء الكتاب هنا يبين أهم ما أُمر به أسلافهم من عبادات وكيف كانوا يُصمّون أسماعهم عن سماع دعوى الحق.
فأول شيء وأهمه دعاؤهم الى عبادة الله، وحده ثم الاحسان الوالدين. ويترتب على ذلك ترابط الاسرة وتماسكها. فالأمة مكونة من مجموع الأسر والبيوت، وصلاح الأمة بصلاح الأسرة. وقد أكد القرآن على ترابط الأسرة، والحفاظ عليها، وتقويتها من برِّ الوالدين أولاً. ثم ذوي القربى، ثم الاحسان الى اليتامى بحسن تربيتهم وحفظ حقوقهم من الضياع.
ولقد قال النبي ﷺ: «أنا وكافلُ اليتيم في الجنة» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي عنه سهل بن سعد. وفي رواية: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسّبابة والوسطى. فهل بعد ذلك منزلة أكبر!
ثم قالت تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ فبعد ما أمر بالإحسان الى الوالدين والاقربين والمساكين واليتامى أمرنا، اذا لم نستطع أن نحسن الى جميع الناس بالفعل، فلنُحسن العِشرة، اذ ان الكلمة الطيبة صدقة كما ورد في الحديث الصحيح.
ثم بعد ذلك قال: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ وهنا لم يقل «صلّوا» بل قال أقيموا الصلاة، أي صلوها على أحسن وجوهها. وهاتان فريضتان من أهم الفرائض التي تنقّي النفوس من الأدران. فاذا صلحت النفوس صلَح المجتمع بأسره.
ثم ماذا حصل بعد ان أخذ الميثاق على أسلاف بني إسرائيل؟ الذي حصل أنهم تولوا وأعرضوا ونقضوا الميثاق الا قليلا منهم أذعن للحق.
القراءات
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: «لا تعبدون» بالتاء الفوقية، وقرأ الباقون: «لا يعبدون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: «حَسَنا» والباقون «حُسنا» وقرىء: «حُسُنا» بضمتين. و «حسنى» كبشرى.
السفك: اراقة الدماء. التظاهر: التعاون. الأثم، العدوان: تجاوز الحد في الظلم.
ذكّر الله بني اسرائيل في الآية السابقة بما أُمروا به من عبادة الله وحده والاحسان الى الوالدين وذوي القربى، وان يعاشروا الناس جميعاً بالحسنى.. ثم بيّن أنهم لم يطيعوا ما أُمروا به وتولَّوا وهم معرضون. وهنا يمضي السياق فيقص علينا عن حال اليهود، مواقفهم التي تجلى فيها العصيان ويذكّرهم بأهم الأمور التي نُهوا عنها وقد أخذ الله عليهم العهد باجتنابها.
والخطاب هنا لليهود في عهد النبي ﷺ، فقد كانوا في المدينة ثلاثة أحياء: بنو قينقاع، وبنو النضير، حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس. وكان العداء بين الأوس والخزرج مستحكما، فهم في أغلب الأحيان في حرب دائمة. اذ ذاك كان يقاتل كلُّ فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وبينهم اليهودي من الفريق الآخر.
وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله. وكانوا يخرجونهم من ديارهم اذا غُلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم. وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم. ثم اذا انتهت الحرب يَفدون الأسارى ويفكّون أسر المأسورين من اليهود، عملاً بحكم التوراة.
هذا هو التناقض الذي يواجههم القرآن، وهو يسألهم باستنكار شديد ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ ؟ ان الكتاب ينص على تحريم القتل والاخراج من الديار وأنتم تنقضون ذلك. لذا فان الله يتوعدهم بالخزي في الحياة الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة. وذلك أنه آثروا أعراض الدنيا الزائلة على نعيم الآخرة الدائم. فلن يخفَّف عنهنم عذاب جنهم، ولن يجدوا من ينقذهم منه.
القراءات:
قرأ عصام وحمزة والكسائي. «تظاهرون» بحذف احدى التاءين وقُرىء «تتظاهرون» بهما معاً. وقرأ حمزة «أسرى» جمع أسير كجريح وجرحى. وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر: «تفدوهم» وقرأ عاصم في رواية المفضل «تردون» بالتاء. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية ابن بكر وخلف ويعقوب «يعلمون» بالياء.
قفّيناه: أتبعناه. البينات: الحجج الواضحة. أيدناه: قويناه. روح القدس: جبريل. غلف: ومفرده أغلف: المغطى المقفل الذي لا يفقه ما يقال.
ولقد أعطينا موسى الكتاب، أي التوراة، ثم أَتبعنا من بعده الرسل يعلّمونكم شرائع الله، وأعطينا عيسى بن مريم المعجزات الباهرة، وقويناه بروح القدس الذي يمدّه بالوحي من عندنا وهو جبريل، فلم يكن حظه بأحسن من حظ سابقيه.
ثم بين الله تعالى ما كانت حظ الرسل من بني اسرائيل فقال: أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفكسم استكبرتم عن اتّباعه وبغيتم في الارض، ففريقاً كذبتموه، وفريقاً قتلتموه!! هكذا كان موقفهم من أنبيائهم. بعد ذلك كله قالوا: ان قلوبنا مغلقة لا تنفذ اليها دعوة جديدة، كدعوة محمد، فلا نكاد نفقه شيئاً مما يقول.
ولم تكن قلوبهم كما يزعمون، لكنهم استكبروا وآثروا الضلالة على الهدى.. فلعنهم الله أي طردهم عن الهدى بسبب ذلك «فقليلاً ما يؤمنون» اي سبب هذا الطرد.
القراءات:
قرىء «آيدناه» بمد الألف وفتح الياء بدون تشديد وقرأ ابن كثير «القدس» باسكان الدال في جميع القرآن.
يستفتحون: يستنصرون. اشتروا: باعوا. البغي: الفساد: بغضب: رجعوا محّملين بالغضب. مهين: مذل. بما وراءه: بما سواه.
كل هذا القصص الذي يقصه الله عن بني اسرائيل للمسلمين انما يُقصد به تحذيرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تُسلب منهم الخلافة في الارض. والامانة التي ناطها الله بهم.
﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله...﴾ هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة.. ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾. ولما جاء رسولنا محمد بالقرآن، وهو كتاب من عند الله مصدّق لما أُنزل عليهم من التوراة، وعرفوا من التوراة نفسها صدق ما فيهن كفروا به عناداً وحسداً. وذلك لأن من جاء به رسول من غير بني اسرائيل.
روى كثير من الصحابة ان الأوس والخزرج تغلبوا على اليهود، وأذلّوهم زمن الجاهلية فكانوا يقولون للعرب: إن نبيّاً الآن مبعثُه قد أظلّ زمانه، يقتلكم قتل عادٍ وإرمَ. وكان اليهود يستفتحون به على الكفار، يعني يستنصرون به، ويقولون: اللهمّ ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة. فلما بعث الله محمداً كفروا به. وقد قال لهم مُعاذ بن جبَل وبشرْ بن البراء: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شِرك، وتخبروننا انه مبعوث، وتصِفونه بصفاته. فقال له سلام بن مشكم بن النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالّذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله تعالى في ذلك: «ولما جاءهم، الآية...» ومعنى «مصدق لما معهم» : موافق له في التوحيد وأصول الدين والايمان بالبعث واليوم الآخر.
﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ ساء ما باعوا به أنفسهم، حين اختاروا الكفر على الايمان، حسداً أن يأتي نبي من غير اليهود، منكِرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في ان يوحي لمن يشاء من عباده.
واذا قيل لهم، أي اليهود المعاصرين للنبي في الحجاز، صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن على محمد وابتعوه، قالوا: نحن نؤمن بما أُنزل علينا من التوراة فحسب.. مع ان القرآن مصدق لما معهم من التوراة. وعلى هذا يكون كفرهم بهذا الكتاب المصدق لما في كتابهم كفراً بكتابهم نفسه.
ثم يخاطب الله الرسول الكريم بقوله تعالى: قل يا محمد لليهود، لمَ كنتُم تقتلون أنبياء الله في الماضي مع أنهم دعوا الى ما انزل عليكم؟ إنّ قتلكم للأنبياء دليل قاطع على عدم ايمانكم برسالتهم.
القراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب «ان ينزل» بالتخفيف، والباقون «ان ينزّل» بالتشديد.
ولقد جاءكم موسى يا معشر اليهود بالآيات الواضحة المعجزات الناطقة بصدقه، والعصا التي تحولت ثعبانا، يدهِ التي أخرجها بيضاء للناظرين. وبالمنّ والسلوى وغيرها.. فكفرتم كفراً صريحاً ورجعتم الى الشِرك وموسى حيّ بينكم وبمجرد غيابه عنكم لمناجاة ربه.
لقد اتخذتم العجل إلهاً وعبدتموه رجوعاً منكم الى وثنتيكم السابقة.
واذكروا اذ أخذنا عهودكم بأن تأخذوا ما آتيانكم من التوراة بقوة، فتعلموا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم عنه، لكنكم لما رأيتم ما فيها من تكاليف شاقة. استثلقتم اعباءها وارتبتم فيها. فأريناكم على صدق هذا الكتاب آيةً بالغة اذ رفعا جبل الطور فوقكم حتى صار كأنه ظُلَة، وظننتم انه واقع بكم. عند ذاك اعلنتم الطاعة والقبول، وقلتم آمنا وسمعنا، لكن أعمالكم ظلت تكشف عن عصيانكم وتمردكم وتشير الى ان الايمان لم يخالط قلوبكم. وكيف يدخل الايمان قلوبكم. وقد شُغفت بحب المادة والذهب الممثلة في العجل الذي عبدتموه!
قال يا محمد ليهود بني اسرائيل الحاضرين الذي يتبعون أسلافهم: بئس ما يأمركم به ايمانكم ان كان يأمركم بقتل الأنبياء والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده.
ثم أمر الله نبيه الكريم ان يتحداهم في ادّعائهم صادق الإيمان، وكامل اليقين فقال: قل إن كانت.. الآيات ٩٤٩٦
انْ صدَقَ قولكم فيما زعمتم من ان الله خصّكم وحدكم بالنعيم بعد الممات، وان الجنة نلكم لا يدخلها الا من كان يهودياً، وانكم شعب الله المختار فتمَّنوا الموت الذي يوصِلكم الى ذلك النعيم. فامتَنعوا من اجابة النبي ﷺ لأنهم يعلمون حقاً ان دعواهم مجرد كذب. ولعلمِهم بأنهم ان فعلوا ذلك فالوعيد نازل بهم، فهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبدا.
بل إنك يا محمد لتجدَنّهم احرص الناس على الحياة، بل إنه أكثر امن حِرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة. ولذلك يود أحدهم ان يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر. والحق ان طول حياته لن يبعده عن عذاب الله والله بصير بما يعملون. فالمرجع اليه، والأمر كله بيديه.
«روي ابن جرير في تفسير ان عصابة من اليهود حضرت عند الرسول الكريم فقالوا: يا أبا القاسم، حدِّثنا عن خلالٍ نأسلك عنهم لايعلمهن الا نبي. فقال: سلو عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه: لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعُنّي على الاسلام. فقالوا: ذلك لك. فلما سألوه وأجابهم وعرفوا انه صادق، قالوا: حدثْنا من وليّك من الملائكة، وعندها نتابعك أو نفارقك، لو كان وليك سواه ن الملائكة لتابعناك وصدّقناك. قال: فما يمنعكم ان تصدقوه؟ قالوا: انه عدوُّنا ينزل بالعذاب والنقمة ويأتي بالشدة وسفك الدماء. ولون ان ميكائيل كان ينزل عليك لتابعناك وصدّقناك، لأنه ينزل بالحرمة والغيث» فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾، لأن جبريل ما يجيء بهذا الكتاب من عنده واينما ينزله بأمر الله. وكل هذه حجج ومعاذير واهية اعتذروا بها عن الايمان بمحمد عليه السلام، ولاتصلح ان تكون مانعة من الايمان بكتاب. انزله الله جامعٍ لكل صفات شريفة.
القراءات
قرأ حمزة وال الكسائي «جبريل»، وقرأ ابن كثير «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء، وقرأ عاصم برواية أبي بكر «جبريل»، وقرأ الباقون «جبريل» كقنديل.
نبذة: طرحه، نقضه. الفريق: الجماعة لا واحد له من لفظه.
ثم يتجه الخطاب الى الرسول عليه السلام ليُثبّته على ما أنزل اليه من الآيات البينات مقررا انه لا يكفر بهذه الآيات الا الفاسقون من علماء بني اسرائيل وأحبارهم.
وكما تذبذبوا في العقيدة والايمان، تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود، فكانوا كلما عادهوا النبي والمسلمين عهدا نقضه فريق منهم، لأن معظمهم لا يؤمنون بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق. وهذا ليس بغريب، فهو من صلب تعغاليم تلمودهم. وأساسُ ما وضعه أحبارهم ان كل من عاداهم ليس له حرمة، ولا ذمة، ولا يجوز أن يُبْرَم معه عهد. كذلك لا يرجى ايمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم، كما ان غرورهم بأنفسهم وتجبرّهم قد جعلاهم في طغيانهم يعمهون.
السحر: ما لطف مأخذه وخفي سببه. وسحره: خدعه، ويقال أحيانا للشيء المعجب أو الحديث اللطيف. وقد جاء في الحديث «ان من البيان لسحرا».
لما جاء محمد ﷺ الى اليهود، وهو رسول من الله اليهم والى الخلق كافة، مصدقاً لما معهم من التوراة التي فيها أوصافه ومتفقاً مع ما في التوراة من أصول التشريع، كالتوحيد بالله، والأخذ بجميع القيم نبذ فريق من اليهود القرآن وراء ظهورهم، أي جحدوه وأعرضوا عنه كأنهم لا يعلمونه. وماذا عملوا بعد ذلك! لقد آثروا السِّحر واتبعوا ما يقصُّهع الشياطين عن عهد سليمان، ما يضللون به الناس من دعاوةى مكذوبة، كزعمهم ان سليمان كان ساحراً، وانه سخر الانس والجن عن طريق السحر الذي يستخدمه. ما كفَر سليمان وما كان ساحراً بل رسولاً من عند الله. ولكن الشياطين هم الذين كفروا وتقوّلوا على سليمان هذه الأقاويل وأخذوا يعلّمون الناس السحر من عندم.
﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ في هذه الآية تفسيرات، فبعض المفسرين يقول ان معناها: ولم ينزل الله على هاروت وماروت في بابل أيَّ سحر. ويكون المعنى: واتَّبعة الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا...
وقال بعضهم وهم أكثرون: يكون المعنى السحرَ الذي أُنزل على الملكين ببابل هاروت وما روت. مع ان هذين الملكين ما كانا يعلّمان احداً حتى يقولا له انما نعلّمك ما يؤدي الى الفتنة والكفر فاعرفه ولا تعمل به.
ومن هنا أخذ بعض العلماء جواز تعلُّم السحر للعلم به وعدم العمل به.
ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة التي كان الملكان يقولانها لهم فاستخدموا ما يتعلّمون منهما وجعلوا يفرقون به بين المرء وزوجه. وما هم بضارّين به من احد الا باذن الله. وهذه قاعدة عظمى يقررها القرآن وهي: ان الضرر والنفع بإذن الله.
ولا يزال في وقتنا هذا مع ما تقدم العلم به من أبحاث كثيرٌ من السحر والشعوذة وغير ذلك من التنويم المغناطيسي، والتلبثة. ونحن نجد كثيراً من الناس يملكون خصائق لم يكشف العلم عن كنهها بعد. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء المنوِّمين يأتون بالعجب العجاب، وقرأت الكثير من القصص عن أناس عندهم خصائص عجيبة. وكل ما استطاع العلم ان يقوله تجاه هذه الأمور وهذه القوى انه اعترف بها وأعطاها أسماء، ولكنه عجز عن تفسيرها. وصدق الله العظيم: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
أما من هما الملكان: هاروت وما روت؟ وهنل هما رجلان حقيقة؟ فلا يوجد خبر صحيح يثبت شخصيتهما أو حقيقة جنسهما. وانما كانت قصتهما معروفة مشهورة ووردت في القرآن اشارات مجملة عنها، ولنسا مكلفين بالاستقصاء عنهما والأفضل عدم البحث في ذلك.
القراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الشياطين كفروا» بتخفيف النون من لكن، ورفع الشياطين. وقرأ الباقون «ولكنّ» بالشديد ونصب الشياطين.
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من هؤلاء اليهود فلا تقولوا حينما يتلو الرسول عليكم الوحي (راعنا) رغبة في أن يجعلكم موضع رعايته، ويتمهل عليكم في تلاوته حتى تعوا القرآن وتحفظوه، لأن خبثاء اليهود يتظاهرون في ذلك ويستعملون كلمة «راعنوا»، ومعناها «شرّنا أو شرير»، فيلوون ألسنتهم بهذه الكلمة حتى تصير مطابقة للفظ شتيمةٍ ويوجهونها للرسول الكريم ليسخروا منه فيما بينهم. ولكن اسعمِلوا كلمة اخرى لا يجد اليهود فيها مجالاً لخبثهم وسخريتهم فقولوا: «أنظرنا». واسمعوا جيداً لما يتلوه علكيم.
وللكافرين يوم القيامة عذاب أليم. واعلموا ان هؤلاء الكافرين والمشركين لا يحبون ان يأتكيم أي خير من ربكم. والله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء من عباده. وقد خصكم بهذا الكتاب العظيم الذي جمع به شملكم، وظهر عقولكم من زيغ الوثنية، والله ذو الفضل العظيم.
النسخ في اللغة الازالة، يقال: نسخت الشمس الظل: أزالته. الإنساء: اذهاب الشيء من الذاكرة. الولي: الصديق. النصير: المعين. يتبدل: يُبدل. يستبدل. ضل: حاد عن الطريق المستقيم. السواء، من كل شيء: الوسط. السبيل: الطريق.
في هذه الآيات ردٌّ على اليهود الذين كانوا يطعنون في الاسلام والقرآن والنبي ﷺ. وكانوا لا يتركون فرصة دون أن يعترضوا ويحاولوا تشويه الحقائق. فكانوا يقولون: ما بال هذا النبي يأمر قومه بام ثم يبدله بعد ذلك؟ فردَ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ أي ما نغير حكم آية او نؤخرها الا أتينا بما هوخير منها. وذلك لمصلحة الناس واظهار الدِّين. كل هذا من الله. القادر على كل شيء والذي له ملك السماوات والارض، يتصرف فيه كيف يشاء، وحسب مصلحة عباده. فلا تتعنتوا كما فعل اليهود من قبلكم حين سألوا رسولهم موسى ان يأتيهم بأشياء مستحيلة. وفي هذا نصيحة وتأديب للمسلمين ان يعملوا با يأمرهم به نبيهم الكريم، وينتهوا عما ينهاهم عنه. أما من لا يتأدب. بل يترك الثقة بالبينات المنزلة حسب المصلحة، ويطلب غيرها فقد اختار الكفر واستحبَ العمى على الهدى.
القراءات: قرأ ابن عامر: ما نُنسخ من أنسخ الرباعي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» اي نؤخرها. وقرىء «تنسها». و «تنسها» بالبناء للمفعول. وقرأ ابو عمرو «ناتِ» بدون همزة.
العفو: ترك العقاب على الذنب.
الصفح: الإعراض عن المذنب. وهو يشمل العقاب وترك اللوم.
الخطاب للمؤمنين تحذيراً من بعض أحبار اليهود مثل كعب بن الاشرف، وحييّ بن أخطب. وأبي ياسر بن أخطب وأمثالهم الذين كانوا أشد الناس عداوة للإسلام ولنبيّه ﷺ.
بعد ان عرض الله حالة المنافقين والكافرين وناقش اليهود مناقشة طويلة، ثم أدّب المؤمنين كيف يخاطبون النبي وعلمهم ان التعاليم والأوامر المنزلة من عند الله بعضُها عُرضة للغير والتبديل حسب المصلح جاء هنا يحذّر جماعة المسلمين من ان كثيرا من الهيود يودون ان يردوهم عن الاسلام حسدا لهم، بعد ان تبين لليهود من كتابهم نفسه ان المسلمين على الحق. وذلك لأنهم يخشون ان ينتقل السلطان منهم ويفلت من ايديهم. بعد هذا يعلم القرآن المسلمين الأخلاق العظيمة فيأمرهم سبحانه بضبط النفس وان يعاملهم بالرفق واللين. كما وعدهم بأنهم ان تحلّوا بهذه الأخلاق فانهم منصورون. وأكد ذلك بقوله ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، فتتغلبوا على من يناوئكم.
ثم ذكر تعالى بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدهم به فقال:
﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ حافِظوا على شعائر دينكم، فأقيماو الصلاة على أحسن وجه من الخشوع وأداء اركانها، واعطوا الزكاة الى أهلها. بهذه الأعمال الطيبة ينصركم الله إنه عالم بجميع أعمالكم، لا تخفى عليه من أمركم خافية وهو مجازيكم عليها.
الأماني: جمع امنية: وهي كل ما يتمناه المرء ولا يدركه. البرهان: الججة والدليل. من اسلم وجهه: تعبير عن الايمان والاخلاص له والعلم بأوامهر. بلى: حرف يأتي ردا للنفي.
في هاتين الآيتين يبين الله تعالى دعوى كل من اليهود والنصارى في ان الجنة لهما ولأتباعهمنا فقط. تلك أمانيّهم، وهي لا تتعدى ان تكون كذباً يزعمونه دون دليل. فقولوا لهم: هاتوا دليلكم ان كنتم صادقين. والواقع انه يدخل الجنة من لم يكن يهوديا ولا نصراينا اذا آمن بالله وأخلص نفسه له وابتع أوامره. ذلك ان رحمة الله لا تختص بشعب ولا ملّة ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ [النساء: ١٢٣].
ومن العجيب ان اليهود يكذّبون النصارى ويعادونهم. والنصارى يكذبون اليهود ويعادونهم.. والجميع من أهل الكتاب. وهم يتلون الكتاب: التوراة والانجيل. والكتابان من عند الله ولكن المطامع الشخصية. والتعصب الاعمى جعلاهم يكفّر بعضهم بعضاً. ومن يقرأ التلمود يجد فيه أمورا بشعة قذرة في وصف المسيح عليه السلام. من ذلك قوله: «يسوع المسيح ارتد عن الدين اليهودي وعبد الاوثان، وكل مسيحي لم يتهود فهو وثني عدو لله ولليهود..» وفيه أقوال تقشعر منها الأبدان. وكذلك النصارى يتهمون اليهود بالكفر والخروج عن دين الله. ولا أدري كيف يقولون ذلك مع ان المسيح عليه السلام يقول في الانجيل: جئت لأتم الناموس لا لأنقُصه. وكذلك قال الوثنيون من قبلهم بأنهم هم وحدهم الذين على الحق. وكل هذه الأقوال باطلة. وليس مثل الاسلام في صراحته وسعة أفقه، فهو يصدق بالأديان السماوية ويعتبرها، ويؤمن بكتبها الحقيقة قبل ان يطرأ عليها التحريف. ما أعظم قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ..﴾ [البقرة: ٢٨٥]. هذا هو الاسلام وهذه هي عظمته.
في هذه الآية انذار كبير وتحذير مخيف لكل من يمنع احدا من عبادة الله او يصد الناس عن دخول المساجد لأداء عباداتهم، أو من يسعى في خرابها. والمنى: أي امرىء أشد تعدياً وجرأة على الله ممن يفعل شيئاً من هذه المعاصي! ان لهؤلاء في الدنيا خزياً ولهم في الآخرة عذاب عظيم. وهذا انذار عام يصدُق على كفار قريش حين منعوا النبي ﷺ وأصحابه من دخول مكة وتأدية العمرة عام الحديبية، كما يصدق على كل من عمل على تعطيل مسجد أو حالَ دون أداء شعائر الله فيه.
قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه الى استقبال الكعبة في الصلاة. وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب المِلل السابقة من ان العبادة لا تصح الا في المعابد، لأن الله موجود في كل مكان. انه رب المشارق والمغارب. ثم شُرعت بعد ذلك القبلة الموحدة، وجعلت الكعبة رمزاً لذلك. ولا يزال بعض مفهوم هذه الآية سارياً الى الآن على من لم يعرف أين القبلة.
والذي يرجحه ابن جرير في تفسيره ان هذه الآية ليست منسوخة بل ان حكمها باق ومعمول به على أساس انه «اينما تولّوا وجوهكم في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوّع وفي حال مسايفتكم عدوَّكم، في تطوعكم ومكتوبكم، فثم وجه لله» وفي هذا توسيعك كبير.
قانتون: خاضعون، طائعون. بديع السماوات: مبدعها، خالقها ومخترعها.
في هاتين الآيتين انتقال الى موضوع جديد، هو نسبة الولد الى الله، فقد قال اليهود: عُزَير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله. وقال المشركون قديما: الملائكة بنات الله.
وهنا ينفي سبحانه هذا كله فيقول: ان له كل ما السماوات والأرض، ومن كان هذا شأنه، وجميع ما في الكون مسخر لأمره، فهو ارفع من ان يحتاج الى نسل او يتخذ ولدا. وكيف يتخذ ولدا من أبدع هذا الكون العجيب بما فيه من سماوات وأرض ونجوم وكواكب، وقد اذعن كل ما فيه لإرادته، واذا أراد أمراً فاما يقول له: كن فيكون؟؟
الذين لا يعلمون: مشركوا العرب والجهلة من أهل الكتاب.
ولق أمعنوا في عنادهم فطلبوا من الرسول آية حسّية أو يكلمهم الله بنفسه. وهكذا طلبت الأمم السابقة من أنبيائهم، فقد قال بنو اسرائيل لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهارا. وطلب أصحاب عيسى اليه اني ينزل عليهم مائدة من السماء. اما نحن فقد بيّنّا للناس الآيات على يديك يا محمد، بما لا يدع مجالاً للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان.
ثم يلتفت تعالى الى الرسول الكريم فيخاطبه بما معناه: «إنّا ارسنلاك بالشيء الثابت الذي لا تضل فيه الأوهام وجعلناك بشيراً لمن اطاع بأنه من الفائزين، ونذيراً لمن عصى انه من الكافرين الجاحدين. فلا عليك إن أصرّوا على الكفر والعناد، فانك لن تُسأل عن أصحاب الجحيم. فأنت لم تُبعث ملزماً ولا جبارا، وانما بعثت معلماً وهادياً بالدعوة والأسوة الحسنة. وفي هذا تسلية للنبي الكريم لئلا يضيق صدره.
القراءات:
قرأ نافع ويعقوب: ﴿ولا تسأل عن أصحاب الجحيم﴾ بالنهي. والباقون»
لا تسئلُ «.
الملة: الطريقة، الدين، الشريعة، جمعها ملل. الاهواء: جمع هوى، وأهل الأهواء أهل البدع، قال السيد الجرجاني «الهوى ميلان النفس الى ما تستلذ من الشهوات من غمير داعية للشرع». ولا يستعمل في الغالب الا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه.
كان النبي ﷺ حريصاً على ان يبادر أهلُ الكتاب الى الايمان به، فكبُر عليه إعراضهم عن اجابة دعوته، مع انها موافقة لأصول دينهم. وهنا يخاطبه الله تعالى بأنهم لن يرضوا عنه ابدا. فيقول له: لا ترهق نفسك في استرضاء المعاندين من اليهود والنصارى، فان هؤلاء لن يرضوا عنك حتى تتبع دينهم الذي يزعمون انه هو الصواب. ولا يوجد هدى حقيقي الا ما أنزل الله على أنبيائه وماأنزلتُه عليك من الاسلام. لا ما أضافه اليهود والنصارى من تحريف وتغيير حتى فرّقوا دينهم وكانوا شيعا. ولئن اتبعتَ أهواءهم وما أضافوا الى دينهم وجعلوه أصلاً م أصول شريعتهم فان الله لن ينصرك أو يساعدك على ذلك. وهذا انذار شديد الى الرسول الكريم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل، ولكنه في الحقيقة موجه للناس كافة. وقد جاء الكلام هنا على هذا الأسلوب الشديد ليرشد من يأتي بعده ان يصدع بالحق ولا يبالي بمن خالفه مهما قوي حزبه واشتد امره. فمن عرف ان الله ناصره لا يخاف انكار المعاندين.
يذكر الله سبحانه في هذه الآية ان هناك فريقاً من أهل الكتاب يرجى ايمانهم، وهم الذين يتدبرون كتابهم ويتبعون ما جاء فيه من الحق فيؤمنون به، ولا يحرّفونه عن موضعه. وقد آمن منهم جماعة وكانوا من خيرة الصحابة كعبد الله بن سلام. أما من يكفر بما أُنزل اليك يا محمد بعد ان تبيَّّن له الحق فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
هذه الآية عظة من الله تعالى لليهود في عصر الرسول الكريم، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بانقاذهم من أيدي عدوهم، واعطائهم كثيرا من النعم. فخاطبهم على هذه الصورة.
يا بني اسرائيل، اذكروا نعتمي عليكم وانقاذي اياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وانزالي عليكم المنَّ والسلوى في تهيكم، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي اياكم على غيركم ممن كانوا في ذلك الزمان.. وذلك كله حتى يترك اليهود المعاصرون للرسول تماديهم في الغي والضلال ويثوبوا الى رشدهم. ثم يورد الآية التي بعدها «واتقوا يوما..» ترهيبا منه للذين وعظهم بالآية التي قبلها. فيقول: اتقوا يا معشر بني اسرائيل، المبدّلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المذكبين برسولي محمد عذا يوم لا تجزىي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يشفع فيما وجب عليها شافع، ولا يمنعها احد من عذاب الله.
الابتلاء: الاختبار. الكلمات: التكاليف من أمر ونهي وتشريع..
أتَمَّهن: قام بهن خير قيام.
واذكر يا محمد لقومك المشركين وغيرهم ان الله تعالى اختبر ابراهيم ببعض الأوامر والنواهي، فقام بما امره خير قيام، فقال له: اني جاعلك للناس رسولا يقتدى بهديك.
قال ابراهيم: واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم. قال الله تعالى: أجبتك على ما طلبت، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، فهم لا يصلحون ان يكونوا قدوة للناس. ذلك ان الإمامة الصالحة لا تكون الا لذوي النفوس الفاضلة. وفي الآية اشارة الى انه سيكون من ذريته الابرار والفجار.
القراءات: قرأ ابن عامر: ابراهام بالألف جمع ما في هذه السورة.
البيت: الحرم المكي. مثابة: مرجعا يثوب اليه الناس. مقام ابراهيم: هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة. وقيل ان الحرم كله مقام ابراهيم.
عهد: وصّى.
في هذه الآيات يأتي الحديث عن ابراهيم واسماعيل، وعن البيت الحرام وشعائره، لتقدير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جمعيا حول النسب الذي يمتُّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركوا العرب، وهو ملة ابراهيم ونسبه الى عقيدة المسلمين.
اذكروا قصة بناء ابراهيم مع ابنه اسماعيل لبيت الله الحرام بمكة، اذ جعلنا هذا البيب للخلَف ملاذا ومأمنا، واذ امرنا الناس ان يتخذوا منه مكاناً يصلّون فيه. وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل، اي وصيناهم، بتطهير البيت، وان يصوناه من كل رجس معنوي كلاشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، وقت اداء العبادات. كما أوصيناهما ان يجعلاه مهيَّأً للناس للطواف والصلاة والسعي.
ومقام ابراهيم الذي جاءت الاشارة اليه كان ملاصقاً للكعبة، وكان الحجاج أثناء الطواف يتزاحمون عنده، وربما حدث كثير من الانزعاج لبعضهم، مما حدا بالمسئولين ان يستفتوا العلماء لإبعاده قليلا. وقد افتى بذلك جمهور من العلماء فتمت زحزحته عن مكانه. وهناك من المفسرين من يقول: مقام ابراهيم هو الحرم جميعه، سماه الله بيته لأنه أمر المصلّين ان يتوجهوا في عبادتهم اليه. والحكمة في ذلك ان الناس في حاجة الى التوجه الى خالقهم لشكره والثناء عليه، لكنهم يعجزون عن التوجه الى «ذات مجردة» لا تنحصر في جهة، فعيّن الله لهم هذا البيت المقدس نسبة اليه.
واذكروا اذا طلب ابراهيم الى ربه ان يجعل مكة، البلد الحرام، بلداً آمنا، وان يرزق مَن يحل فيه من ثمرات الأرض وخيراتها. هذا ما طلبه ابراهيم، فأجابه الله تعالى اليه. اما من كفر فإني انا العلي القدير، أُمتِّعه في هذه الحياة الدنيا القصيرة الأمد ثم أسوقه الى عذاب النار يوم القيامة.
القراءات:
قرأ نافع وابن عام: «اتخذوا» بلفظ الماضي. وقرأ ابن عامر: «فأمتعه» من أمتع الرباعي.
القاعدة: ما يقوم عليه البناء من أساس. الأمة: الجماعة. والمناسك: جمع منسك العبادة، وأصبحت شائعة في عبادة الحج. الكتاب: القرآن. الحكمة: كلمة معامة تجمع معاني العلم والعدل والحلم وكل أنواع المعرفة التي تجعل المرء حكيما يسلك طريق السداد: ويزكيهم: يطهر نفوسهم من دنس الشرك والمعاصي.
بعد ما مر من الآيات التي نوهت بالحرم والبيت، وان الله جعله بلدا آمناً تجبى اليه الثمرات انتقل التنويه الى ان الذي بنى ذلك البيت هو ابراهيم بمعنونة ولده اسماعيل.
وكانا يدعوان بقولهما: ربنا تقبّل منا هذا العمل الخالص لوجهك الكريم، إنك انت السميع لدعائنا؛ العليم بنيّاتنا في جميع اعمالنا.
وفي الآية اشارة الىأن كل من عمل عملاً صالحاً أو أدى فريضة مقررة وابتهل الى الله بالدعاء طالبا القبول فإنَّه لا يرده خائبا.
ربنا واجعلنا مخلصين لك بأن لا نتوجه بقلبنا الا اليك، ولا نستعين بأحد الا بك، ولا نقصد بعملنا الا مرضاتك. واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، وعلّمنا طريقة عبادتنا الصحيحة لك في بيتك المحرم وما حوله، في الحج وغيره، ووفّقنا للتوبة انك تقبل توبة عبادك وتغفر لهم بفضل من رحمتك.
ربنا وابعث في ذريتنا رسولاً منهم، يقرأ آياتك، ويعلّمهم ما تُنزل من الوحي، ويبصّرهم بكل علم نافع وشريعة قويمة، ويطهرهم من ذميم الأخلاق، إنك انت القوي الذي لا يُغلب، ولا يناله ضيم، والعزيز الحكيم الذي يفعل ما تقتضيه الحكمة والعدل والصلاح.
وقد أجاب الله دعاءهما وأرسل فيهم محمداً ﷺ من ذرّية اسماعيل، فكوّن من العرب بفضل الاسلام أُمة كانت خير الأمم. واذا كانت هناك الآن وحدة اسلامية عامة أو شيء يشبه هذه الوحدة، فإنما هي بفضل القرآن وُجدت وبفضل القرآن ستبقى، مهما تختلف الظروف وتدلهمّ الخطوب. فالقرآن هو أساس هذه الوحدة الجديدة كما كان أساسا للوحدة القديمة. والعرب أجدر ان يفهموه وينفذوه، فقد نزل فيهم، وأنزل بلغتهم، واتّجه اليهم أول ما أُنزل.
رغب في الشيء: أحبه، ورغب عنه: لم يردّه وزهد فيه. سفِه نفسه: أذلها واحتقرها. اصطفيناه: اخترناه. أسلم: أخلص العبادة لله.
هذه هي ملة ابراهيم: الاسلام الخالص. ولَنعم ما فعله ابراهيم وما دعا اليه ربه، فكيف تعرضون عنها، وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضراً ولا نفعا! انه لا يعرض عن ملة ابراهيم الا من امتهن نفسه واحتقرها. ولقد اصطفينا ابراهيم من بين خلقنا في الدنيا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح. اذ قال له ربه حين دعاه: أسلِم، فلبى دعوته حالاً وقال: أسلمت واخصلت ديني لله. اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما ن من المشركين. وبعد ذلك وصى ابراهيم بنيه بهذه الدعوة كا وصى يعقوب أولاده من بعده أن اتبعوا ملة أبيكم ابراهيم فالله قد اختار لكم هذا الدين الحنيف، فحافظوا على هذه النعمة، ولا تموتن الا وأنتم مسلمون.
القراءات:
«وصى بها ابراهيم» قرأ نافع وابن عامرب «وأوصى بها».
شهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر. وهو المقصود.
روي ان اليهود قالوا للنبي الكريم: ألست تعلم ان يعقوب أوصى بنيه باليهودية؟ فجاءت هذه الآية رداً علهيم. أكنتم هناك يوم حضرته الوفاة وعرفتم الملة التي مات عليها!
اعلموا ان يعقوب مات على دين ابراهيم، وكذلك ابناؤه بعده. فلقد سألهم: ماذا تعبدون من بعدي؟ فأجابوا: نعبد إلَهك وإله آبائك ابراهيم واسماعيل واسحاق، لا نشرك به شيئا ونحن له منقادون مسلمون.
وقد ارشدت الآية الكريمة الى ان دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كل نبي، وروحُه التوحيد والاستسلام لله والاذعان لِهَدْي الأنبياء.
تلك أمة ابراهيم ويعقوب والصالحين من بنيهما، وهي جماعة قد خلت، لها ما كسبت في اسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، ولكم ما كسبتم من الهدى أو الضلا. انهم لا يُسألون عن أعمالكم ولا تسألون عما كانوا يعملون. اولئك لا ينفعهم الا ما اكتسبوا، وأنتم لا ينفعكم الا ما اكتسبتم.
هودا: يهودا. حنيفا: مائلا عن الباطل الى الحق، ثم صار علَما للاستقامة. الأسباط: جمع سبط وهو ولد الولد. الاسباط من بني اسرائيل كالقبائل من العرب: تولوا: اعرضوا. في شقاق: في نزاع. صبغة الله: فطرة الله التي فطر الناس عليها.
قال اهل الكتاب: كونوا ايها المؤمنون يهوداً او نصارى تهتدوا الى الطريق السوي، فقل لهم يا محمد: بل نتبع ملة ابراهيم الذي لا تنازعون في هداه ولم يكن من المشركين. ودين ابراهيم الحنيف هو الذي عليه محمد واتباعه المؤمنون. وذلك لأنهم يؤمنون بالله وبرسله كتبه. لذلك قال بعده هذه الآية: قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا من القرآن، وآمنا بما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى غير محرّفة، والانجيل الذي أنزله الله عليى عيسى غير محرف أيضاً. وآمنا بما أُتي النبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم فنكفر ببعضه ونؤمن ببعض، بل نشهد بأن الجميع رسل الله بعثهم بالحق والهدى، ونحن له مسلمون مذعنون بالطاعة والعبودية. فإن آمنوا بكل هذا وتركوا ما هم عليه من تحريف كتبهم وادعائهم حلول الله في بعض البشر، فقد اهتدوا الى الحق. اما إن اعرضوا عما تدعوهم اليه، وفرقوا بين رسل الله فاتركهم. فانهم في شقاق وعداوة، والله سوف يكفيك امرهم ويريحك من لجاجهم ونزاعهم.
غن ما ذثكر آنفاً هو الايمان الحقيقي، وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. اختار الله هذه الرسالة وجعَلها آخر رسالاته الى البشر لتقوم عليها وحدة انسانية واسعة الآفاق، كل الناس فيها سواء، أفضلهم أتقاهم وانفعهم. ومن أحسنُ من الله صبغة! وتختتم الآية بهذه العبارة اللطيفة «ونحن له عابدون» أي ان الله هدانا بهدايته، وارشدنا الى حجته، ونحن لا نخضع الا لله، ولا نتبع الا ما هدانا وأرشدنا اليه، فلا نتخذ الاحبار والرهبان اربابا يزيدون في ديننا وينقصون.
اتحاجوننا: اتجادلوننا.
بعد ان بين الله تعالى ان الملة الصحيحة هي دين ابراهيم، وهي صبغة الله تعالى، وان محمداً جاء متبعاً لها متمماً للراسلات التي سبقته شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فقال: قل يا محمد، اتجادلوننا في الله زاعمين انه لا يصطفي الأنبياء الا منكم، وهو ربكم ورب كل شيء لا يختص به قوماً دون قوم! ان رب العالمين يصيب برحمته من يشاء ويجزي كل قوم بأعمالهم، لنا اعمالنا، ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون.
ام تقولون ان ابراهيم واسماعيل واسحاق والأسباط كانوا يهوداً او نصارى مثلكم مع أن الله ما انزل التوراة والانجيل اللذين قامت علهيما اليهدية والنصرانية الا من بعد هؤلاء! لقد اخبرنا الله بذلك، فهل انتم أعلم أم الله؟ بل انه اخبركم بذلك في أسفاركم، فلا تكتموا الحق. ومن أظلمُ ممن كتم حقيقة يعلمها من كتابه! ان الله لا يترك امركم سدى فهو يعلم حقائق الأمور، وهو محيط بما تأتون وماتذرون.
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ...﴾ اعاد القرآن الآية التي مرت منذ قليل للتأكيد على انه لا علاقة لهم بالأسلاف الماضين..
القراءات:
قرأ بن عامر، وحمزة والكسائي وحفص «ام تقولون» بالتاء. والباقون: «ام يقولون» بالياء.
السفيه وجمعه سفهاء: الجهال، ضعاف العقول. ولاه عن الشيء: صرَفه. القبلة: ما يستقبل الانسان.. ثم خصه بالجهة التي يستقبلها المسلمون في الصلاة. الوسط: العدل والخيار. من ينقلب على عقبيه: يترك ما كان عليه من التقوى والاستقامة.
لما هاجر الرسول الكريم الى المدينة مكث ستة أو سبعة عشر شهرا يصلي متوجهاً الى بيت المقدس. وفي شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة أوحي اليه ان يتوجه بالصلاة الى الكعبة كما يقول ابن عباس. فغضب اليهود من تحويل القبلة هذا وجاء نفر من أحبارهم، منهم رفاعة بن قيس وكعب بن الاشرف والربيع ابن ابي الحقيق فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم انك على ملة ابراهيم ودينه؟! ارجع الى قبلتك نتبعك وتصدقك. وما كانت أقوالهم هذه الا كذباً وما أرادوا بذلك الا فتنة النبي ﷺ.
فأنزل الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس..﴾ الآية سيقول الذين ضعُفت احلامهم وأضلتهم أهواؤهم من اليهود والمنافقين والمشركين: أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانواعليها؟.
قل يا محمد، إنّ جميع الجهات لله لا فضل لجهة على أُخرى، وليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور، وكذلك الكعبة والبيت الحرام. وانما جعل الله للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم، والله وحده هو الذي يختار ما يشاء ليكون قبلة للصلاة. وهو يهدي بمشيئته كل أمة من الأمم ويلهمها ما فيه الخير لها. وكذلك جعلناكم امة وسطاً خياراً عُدولا، جَمَعَ دينُها بين المادة والروح فجاء وسطاً جامعاً بين حق الروح وحق الجسم. وخير الامور الوسط. وذلك لتشهدوا يوم القيامة على جميع الناس الماديين الذي فرطوا في جنب الله واخلدوا الى الملذات وعبادة المادة، وقالوا إِنْ هي الا حياتنا نموتونحيا وما يهلكنا الا الدهر.. وكذلك الذين غلَوا في الدين وتخلّوا عن جميع اللذات الجثمانية وتعلقوا بالروحانيات فقط. لقد جعلناكم كذلك لتكونوا أمة وسطا بين هؤلاء وهؤلاء، وبكل معاني الوسط، سواء في الوساطة يمعنى الحسن والفضل أو الاعتدال والقصد، أو التفكير والشعور. ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ اذ هو المرتبة العليا لمرتبة الوسط.
﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ...﴾ اما القبلة إلى بيت المقدس واليت شرعناها لك حيناً من الدهر ثم أمرناك ان تتحول عنها فانما جعلناها امتحانا للمسلمين، ليتبين منهم من يطيع أوامر الله ويتبع الرسول الكريم، من يغلب عليه هواه فيضلّ عن سواء السبيل.
ولقد كان الأمر بالتوجه الى بيت المقدس ثم التحول الى الكعبة شاقاً الا على الذي وفقهم الله الى الايمان. والله رؤوف بعباده، لأنه ذو رحمة واسعة فلا يُضيع عمل عامل من عباده.
القراءات:
قرأ الحرميان، وابن عامر وحفص «لرؤوف» بالمد على وزن فعول. والباقون «رَؤُف» فَعُل.
تتقلب الوجه في السماء: التطلع الى السماء. الشطر: الجهة.
كان النبي ﷺ منذ وصوله المدينة يتطلع الى ان يؤمر بان تكون قبلته الكعبة. قبلة ابيه ابراهيم. فيه قبلة بني قومه، يعظمونها ويفتخرون بها. لذلك جعل يديكم النظر الى السماء، راجيا ان يمنّ الله عليه بالوحي الذي يأمره بذلك، فأوحى الله تعالى اليه قوله ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء....﴾ فها نحن أولاء نؤتكي سؤلك، فاستقبل في صلاتكم المسجد الحرام، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون.
اما أل الكتاب فانهم يعلمون ان استقبال القبلة في المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على رسوله، ومع ذلك تجدهم يثيرون الشغب والفتنة، ويؤثّرون على الضعاف في دينهم، ويوهمونهم ان ما يقولونه مأخوذ من كتبهم، وما هو من كتبهم، ولكنهم يريدون بذلك الخداع والفتنة. والله ليس غافلا عنهم، وهو يجزيهم بما يفعلون.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد.
القراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «يعملون» بالياء. وبالباقون «تعملون» بالتاء.
ثم يؤكد تعالى عنادهم وكفرهم بهذه الآية، وتفسيرها: ولئن جئت يا محمد اليهود بكل برهان وحجة بأن الحق هو ما جئت به من فرض تحويل القبلة.. ما صدقوا به ولا اتبعوك، لأن إنكارهم ما كان لشبهة تزيلها الحجة. بل هو عناد ومكابرة، فلا يُجدي معهم برهان ولا تقنعهم حجة.
واذا كان اليهود يطمعون في رجوعك الى قبلتمهم ويعلقون اسلامهم على ذلك، كما راجعك نفر منهم فقد خاب رجاؤهم ولن تتحول الى قبلتهمه. ان اليهود لن يتركوا قبلتهم ويتوجهوا الى المشرق. ولا النصارى تغير قبلتها وتتجه الى المغرب.
﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم...﴾ ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود فابتعت قبلتهم من بعدما أوحينا إليك أنهم مقيمون على باطل فإنك اذّاك من الظالمين أنفسهم المخالفين لأمري.
ان أهل الكتاب ليَعلمون ان تحويل القبلة الى المسجد الحرام حق، وأنك يا محمد النبي المنعوت في كتبهم بأنه سوف يصلي الى الكعبة.. وهم يعرفون ذلك كمعرفتهم لأبنائهم. وذلك ما قاله عبد الله بن سلام، أحد احبار اليهود. قبل ان اسلم وصار من عظماء الصحابة. لسيدناعمر رضي الله عنهـ: انا اعلم بأن محمداً نبي أكثر مما اعلم انه مني. وكذكل قال تميم الداري وهو من علماء النصارى.. ولكن بعضهم أصروا على الكفر وكتموا الحق الذي يعرفونه، اتباعا لهواهم، وتعصباً وحفظاً على سطلناهم.
اعلم يا محمد ان الحق هو ما أعلمك به ربك لا ما يضلَّل به اهل الكتاب فلا تكن من اهل الشك والتردد. ومن ذلك الحق امرُ القبلة فامض فيه ولا تبال بالمعارضين.
والنهي في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم...﴾ الخطاب فيه موجه الى النبي عليه السلام، والمراد به من كانوا غير راسخي الايمان من أُمته.
بعد ان اقام الحجة على أهل الكتاب وبين أنهم يعملون من كُتبهم ان محمداً نبي، وان جحودهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة بيّن الله تعالى هنا ان كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه اليها حسب شريعتها، ليس في ذلك شيء من التفاضل، وإنما التفاضل في عمل الخير، فسارعوا اليها المؤمنون الى الخيرات وتنافسوا فيها، ان الله سبحانه سيجمعكم يوم القيامة ويأتي بكم من كل مكان تكونون فيه، ثم يحاسبكم على ما قمتم به من أعمال، فيوفّي المسحن جزاءه والمسيء عقابه، أو يتفضل فيصفح. وهو على جمعكم من قبوركم وعلى غير ذلك مما يشاء قدير.
الى أي جهة توجهت في اسفارك يا محمد فاستقبل المسجد الحرام. هاذ هو الحق من ربك، فاحرص عليه انت وأمتك، فان الله ليس بغافل عن أعمالكم. وحيثما كنتم من أقطار الارض، مقيمين أو مسافرين، فصلُّوا متجهين الى المسجد الحرام.
وقد كرر سبحانه هذا الأمر ثلاث مرات تأكيدا لأهمية هذا الموضوع حتى تنقطع حجة أهل الكتاب والمشركين ومن تبعهم من المنافقين، الا الذين ظلموا منهم فلن ينقطع جدالهم وضلالهم. وسيظل اليهود يقولون: ما تحوّل الى الكعبة الا حباً لبلدة، ولو كان على حق للزم قبلة الأنبياء الذي قبله. ويقول المشركون: رجع الى قبلتنا وسيرجع الى ديننا. ويقول المنافقين: انه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة. لا تبالوا بمثل هؤلاء، فان مطاعنهم لا تضركم، واخشوني ولا تخالوا امري. بذلك أتم نعمتي عليكم بأعطائكم قبلة مستقبلة لكم، لعلكم تهتدون.
يعدد الله سبحانه نعمه الكثيرة على هذه الأمة فيقول: ان من تمام نعمتي عليكم توجيهكم الى المسجد الحرام. بعد أن أرسنلا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم الى الحق، ويظهر نفوسكم من دنس الشرك وسيء الاخلاق والعادات، التي كانت فاشية فيه العرب من وأد البنات، وسفك الدماء لأتفه الأسباب. ويعلمكم القرآن، ويبين لكم ما فيه من تشريع واسرار آلهية، كما يعلمكم أشياء كثيرة كانت مغيَّبة عنكم.
فاذكروني بالطاعة والعبادة وبأعمالكم الطيبة واشكروا لي هذه النعم بها، ولا تكفروا هذه المنن ولا تجحدوها.
بعد ان تم تقرير القبلة، وما واكبه من امتحان كبير للمؤمنين، وما لا قوه من اليهود والمنافقين والمشركين، وبعد بيان نعم الله على المؤمنين شرع سبحانه في توجيه هذه الأمة توجيها عظيما، وتوطينها على احتمال الشدائد، وتعويد النفوس على التضحية. وأعظم شيء يواجه الانسان به كل هذه المكاره هو الصبر. ولذلك قال تعالى: يا أيها المؤمنون، استعينوا في كل تأتون وما تذرون بالصبر، فانه أمر عظيم، ومزية كبرى وليس الصبر مجرد الاستسلام والخنوع اما الحوادث، إن ذلك عجز وصغار لا يرضى بهما الله لعبادة المؤمنين، وإما هو تحمُّل منع عمل دائب مدروس. وكذلك بالصلاة، وهي الوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته بخشوع وتدبر، وطلب المعونة والهداية منه. بذلك يطهُر جسد المؤمن، كما تطهر روحه. وقد خص الصبر والصلاة معاً لأن الصبر أشد الأعمال الباطنية على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهـ قال: «كان رسول الله ﷺ اذا حَزَبه أمر صلّى» فالصبر والصلاة من أقوى عُدد المؤمن في هذه الحياة، ان الله مع الصابرين.
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله...﴾ نزلت هذه الآية في شهداء بدر وهي تعم كل من استشهد في سبيل الله. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هو ميت، فإنه حي عدي في حياة نعيم، وعيش هنيء.
فالشهداء احياء في عالم غير عالمنا، ونحن لا نشعر بحياتهم، لأنها ليست في عالم الحس الذي يدرَك بالمشاعر. وقد صوّرها رسول الله أجمل تصوير رمزي فيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود: «ان أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي الى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعةً، فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا. وأي شيء نبغي وقد اعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يُسألوا قالوا: نريد ان تردنا الى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نُقتل فيك مرة أخرى، لما رأوا من ثواب الشهادة، فيقول الرب جل جلاله: اني كتبت انهم اليها لا يرجعون».
وقد وردت احاديث كثير تشيد بالجهاد في سبيل الله، وفضل الشهداء والشهادة. وهل هناك أعظم من التضيحة في سبيل الله والوطن!!
الابتلاء: الاختبار والامتحان.
المصيبة: كال ما يؤذي الانسان في نفسه أو ماله أو أهله. الصلاة من الله للفرد: التعظيم للانسان اعلاء منزلته. والرحمة منه: اللطف بما يكون من حسن العزاء.
هذا إخبار من الله تعالى للمسلمين انه مبتليهم بشدائد من الأمور ليُعلم من يتّبع الرسول مما ينقلب على عقبيه، وسيمتحنهم بشيء من الخوف من العدو، والجوع من القحط لختبرهم أيضاً. يومئذ تنقص أموالكم، وتكون حروب بينكم وبين الكفار، وتقع جدوب تنقص فيها ثماركم، ويومئذ يتبين الصادقون منكم في ايمانهم، من الكاذبين فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم من أهل النفاق فيه. ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي الا الصبر. ولذلك بشّر يا محمد الصابرين على امتحاني، والحافظين أنفسهم عن الإقدام على مخالفة أوامري، والذي يؤدون فرائضي مع ابتلائي اياهم والذين اذا نزل بهم ما يؤلمهم يؤمنون بان الخير والشر من الله، وان الأمر كله لله فيقولون: إنا مقرّون لله بالعبودية والملك، واليه راجعون مقرّبون بالفناء والبعث من القبور. فليس لنا من أمرنا شيء وانما له الشكر على العطاء وعلينا الصبر عند البلاء. أولئك لهم من ربهم مغفرة ورحمة، يجدون أثرها في برد قلوبهم عند نزول المصيبة.
هذه تربية ربانية عالية للمسلمين، ليعدّهم لأمر عظيم، وذلك الامر هو نشر دينه القويم، ودعوته السماوية التي أخرجت الناس من الظلمات الى النور. وقد قاموا بحقها ووفوها بعز وإيمان. لقد أدوها يومذاك خير أداء، وهو ما يُطلب منا اليوم: ان نأخذ بهذه الآداب الربانية ونلتف حول القرآن الكريم لنستعيد مجدنا وكرامتنا، ونستحق الحياة في هذا الكون، ونكون من المهتدين.
الصفا والمروة: جُبيلان في مكة في الحرم. شعائر الله والمشاعر: المناسك والعبادات.
الحج: الذهاب الى بيت الله الحرام في أيام موقوتة وذلك على من استطاع. والعمرة: معناها في اللغة الزيارة، وفي الشرع الزيارة لأداء مناسكها. فلا جناح عليه: لا اثم عليه.
التطوع: التبرع بالخير.
كان بين الصفا والمروة سوق تجارية عامة فكان في السعي بينهما بعض المتاعب، نتيجة لما يصادفه الساعي من الاحتكاك بالناس والحيوان. والمسافة بينهما نحو ٧٦٠ ذراعا. وقد ازيل السوق وضم الى الحرم، ونظم السعي من زحام فان المرء يسعى بكل راحة واطمئنان.
وقد كان في زمن الجاهلية على كل من الصفا والمروة صنم يطوف به أهل مكة ويتبركون. فلما جاء الاسلام تحرج بعض المسلمين، وقالوا كيف نطوف في هذا المكان وقد كان المشركون يتبركون بالاصنام فيه؟ كذلك كان أهل يثرب يحجون الى مناة، الصنم المشهور، فقالوا: بعد اسلامهم: يا رسول الله، إنا كنا في الجاهلية لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، فهل علينا من حرج ان نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله...﴾ الآية.
ان هذين الموضعين من مناسك الحج والعمرة، فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوف من الطواف بينهما، ولا حرج على من زاد وأكثر من الطاعة في العبادة فان الله تعالى يجازيه على الإحسان احسانا. وذلك انه مهما استكثر المؤمن من عمل الخير فان الله يزيده من الأجر أضعافا مضاعفة.
وفي هذا تعليم لنا وتأديب كبير، فاذا كان الله تعالى يشكرنا على تأدية الواجبات وعمل الطاعات فإن معنى هذا أن نشكر الله على ما أسبغ علينا من النعم الكثيرة. كذلك فيه تعليم لنا ان نشكر كل من أسدى الينا معروفا، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
القراءات:
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: «ومن يطَّوَّع» بالياء والادغام.
كتم الشيء: ستره واخفاه. والبينات: الأدلة الواضحة. الكتاب: يراد به الكتب المنزلة من عند الله. اللعن: الطرد والإبعاد.
الكلام هنا في عناد اليهود ومن تابَعهم من المنافقين. لذلك انتقل من بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة الى الحملة على هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى. والظاهر ان هناك من اعترض منهم أيضاً على مناسك الحج، لكن حكم الآية ههنا شامل لكل من كتم علماً فرض الله بيانه للناس.
ان أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام، ونبوة محمد رغم انهم يجدون ذلك لديهم في التوراة والانجيل، والذين عرفوا براهين صدق نبوته ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها عن الناس اولئك يصب الله غضبه عليهم ويبعدهم من رحمته.
ثم استثنى الحقُّ مَن تاب، فقال: إلا الذين تابوا، وأصلحوا حال أنفسهم بالتقرب الى الله صالح الأعمال فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته، وهو التواب الرحيم.
كان ما سبق حالَ من يرضى عنهم ربهم، اما الذين يموتون وهم كفار ولا يتوبون فاولئك لهم اللعنةُ الأبدية، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. انه مطرودون من جميع المخلوقات، يرجون رحمة ربهم ولا يستطيع احد ان يشفع لهم، وسيبقون في العذاب خالدين في النار، لا يخفَّف عنهم العذاب ولا هم يُمهلون حتى لو طلبوا ذلك.
يبين الله تعالى هنا القاعدة الكبرى في هذا الدين والأساس الأول الذي يبنى عليه وهي الوحدانية. فالذي يستحق منكم الطاعة ويستوجب منكم العبادة هو معبود واحد ورب واحد. فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه سواه. انه الذي وصعت رحمتُه كل شيء، فحسْب المرء ان يرجو رحمته ولا يعتمد رحمة سواه.
وقد قرَن الوحدانيةَ مع الرحمة دون غيرهما من صفاته، ليبين لعباده انه يرحم ويغفر أكبر الذنوب، يفعل ذلك ترغيباً في التوبة والرجوع اليه في كل حين.
في هذه الآية عرض موجز لبعض مشاهد الكون العجيب، وآيات لكل ذي عقل على وجود الله وألوهيته. وفيها تنبيه للحواس والمشاعر تفتح العين والقلب على عجائبها هذا الكون، فمن ذلك: ابداع السموات التي ترونها والكواكب تسير فيها بانتظام دون ان تتزاحم او تصدم، بل تبعث الحرارة والنور لهذا العالم، والارضُ وما فيها من البر والبحر، وتعاقب الليل والنهار في حياتها ما في ذلك من المنافع للناس. كذلك ما يجري في البحر من السفن التي تحمل الناس والمتاع، ولا يسيّرها الا الله. كذلك فهو الذي يرسل الرياح التي تبعث المطر، فيحيي الحيوان ويسقي الارض، والنبات. ومن خلقه ايضا ما ترونه من السحاب المعلّق بين السماء والارض.
والآن، هل يعقل ان تقوم هذه الأشياء كلها، وبهذا الاتقان والإحكام من تلقاء نفسها! ام هي صنع العليم القدير!
ويدلنا علم الفلك ان عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها، فمنها ماهو أكبر من الأرض وما هو أصغر منها. لكن أكثرها كبير جداً، حتى ليمكن ان يعدِل أحدها ملايين النجوم التي في مثل حجم ارضنا هذه.
عندما تكون السماء صافية نستطيع ان نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم ولكن هذا العدد يتضاعف الى أكثر من مليونين حين نستعمل تلكسوباً عادياً. ذلك ان الفضاء الكوني فيسح جداً، تتحرك فيه كواكب لا حصر لها، وبسرعة خارقة. فبعضها يواصل رحتله وحده، ومنها ما يسير مثنى مثنى، أو في مجموعات.
وأقرب حركة منا هي حركة القمر الذي يبعد حوالي ٠٠٠ر٢٤٠ ميل. وهو يكمل دورته حول الارض من تسعة وعشرين يوماً ونصف يوم. كذلك تبعد أرضنا عن الشمس مسافة (٠٠٠ر٠٠٠ر٩٢) ميل، وهي تدور حول محورها بسرعة الف ميل في الساعة، وقطر فلكها (٠٠٠ر٠٠٠ر١٩٠) ميل تكمله مرة واحدة في السنة. وهناك تسعة كواكب مع الارض وكلّها تدور حول الشمس بسرعة فائقة. فالمشتري مثلا يكمل دورة واحدة حول الشمس كل ١١ سنة وستة وثمانين يوما. وزحل كل ٢٩ سنة وستة وأربعين يوما. وأورانس كل ٨٤ سنة ويومين. ونبتون كل ١٦٤ سنة وسبعة وتسعين يوما. وأبعد هذه الكواكب السيّارة حول الشمس هو بلوتو الذي تستغرق دورة واحدة منه حول الشمس ٢٤٨ سنة و ٤٣ يوما. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرا.
ولا ننسى ذلك العملاق الذي نسميه «الشمس»، وهي أكبر من الأرض بمليون ومئتي ألف مرة. ثم ان هذه الشمس ليست بثابتة في مكانها وانما هي بدورها تدور مع كل هذه السيارات والنجميات في هذا النظام الرائع. وهناك آلاف من الأنظمة غير نظامنا الشمسي، يتكون منها ذلك النظام الذي يسمى المجرات.
87
وكأنها جميعا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة كما يدور الخذروف يلعب به الطفل، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
وبقدّر علماء الفلك ان هذا االكون يتألف من خمسمائة مليون واحدة من هذه المجرات، ويرون ان هذا الكون الفسيح بأعداده الهائلة من الكواكب والنجوم انما يسير بحركة منتظمة، طبقاً لنظام وقواعد محكمة لا يصطدم فيها بعضها ببعض. وان العقل حين ينظر الى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب، لا يلبث ان يحكم باستحالة أن يكون هذا قائمة بنفسه، بل يجزم ان هناك قدرة هي التي تقيمه وتهيمن عليه. تلك هي قدرة الله الواحد القدير. أفليس في هذه العجائب والمشاهد عبر ومواعظ لمن يتدبر بعقله ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة مبدعها وحكمته!
وقد قال بعض العلماء: ان لله كتابين، كتاباً مخلوقاً هو الكون، وكتابا منزلا مقرواً هو القرآن، يرشدنا الى طرق العلم بذلك، فمن اعتبر بهما فاز.
القراءات
قرأ حمزة والكسائي «وتصريف الريح» على الإفراد.
88
الند: المماثل جمعه انداد. السبب، وجمعه أسباب: أصل معناه الجبلُ ثم أصبح يطلق على كل ما يُتوصل به الى مقصد من المقاصد. الكرة: العودة. الحسرة: شدة الندم.
بعد ان بين الله تعالى ظواهر الكون الدالة على قدرة الخالق وعظمته يقول هنا: رغم هذه الدلائل الواضحة، والآيات البيّنات اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أرباباً متعددة غير الله، وجعلوهم اندادا له يطيعونهم ويعبدونهم ويحبونهم كحب المؤمنين لله، وقد يكون هؤلاء الأرباب من ؤسائهم الذين يتبعونهم ويتعلقون بهم، وقد يكونون احجاراً أو أشجارا، أونجوما وكواكب، أو ملائكة وشياطين، أو حيوانات وهذا شرط عظيم.
والذين آمنوا أشد حباً لله من كل ما سواه. والتعبير هنا بالحب جميل فوق انه صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب والانقياد التي لا تنقطع، فهو يلجأ الى الله دائما عد كل شدة أو نائبة.
ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ما سينالهم من العذاب يوم القيامة، يوم تكون القوة جميعها لله وحده؛ وانهم كانوا ضالين حين لجأوا الى سواه، ويتحققون من ان الله شديد العذاب لو يرون حين يتبرأ الرؤساء المتبوعين من الذين اتبعوهم، وحينَ تنقطع الأواصر والعلاقات وينشغل كل بنفسه، وتظهر حقيقة الالوهية وكذب القيادات الاخرى وضعفها وعجزها أمام تلك القدرة لندموا أشد الندم.
﴿وَقَالَ الذين اتبعوا...﴾ وسيقول التابعون، عندما يتبين لهم أنهم كانوا مخدوعين، ليت لنا رجعة الى الدنيا حتى نتبع سبيل الحق، ونتبرأ من هؤلاء الضالين المضلين كما تبرأوامنا. عند ذلك تبدو لهم أعمالهم السيئة فتكون حسراتٍ عليهم وندامة، ما هم بخارجين من النار.
القراءات:
قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ولو ترى الذين ظلموا» بالتاء، خطاباً للنبي ﷺ. ولو ترى ذلك لرأيت امرا عظيماً. وقرأ ابن عامر «اذ يُرون العذاب» على البناء للمفعول. وقرأ يعقوب «ان القوة لله» بكسر همزة ان.
خطوات الشيطان: آثاره وطرقه. السوء. الاثم. ما يسوء وقوعه أو عاقبته. الفحشاء: كل ما يَفحُش قبحه في أعين الناس. الفينا: وجدنا.
هذا نداء للناس جميعاً يدعوهم الله فيه فيقول: كلوا مما أحللتُ من الاطعمة على لسان رسولي اليكم، وهوكل طعام ما لم يكن ميتة أو دماً مسفوحا أو لحم خنزير او ما أُهلّ به لغير الله. ما عدا هذا فهو حلال لكم. دعُوا طرائق الشيطان ومسالكه فانه عدو لكم، فهو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرض على ارتكاب الجرائم والآثام.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وافساده: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء﴾ فهو يزين لكم ماهو سيء في ذاته، وتسلط عليكم كأنه آمر مطاع يدفعكم لأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم ويخرب عليكم آخرتكم. وهو يأمركم ان تقولوا على الله في دينه ما للا تعلمون، فتحرّمون ما أباح الله، وتحللون ما حرّم. وفي ذلك كله اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا اقبح ما يأمر به الشيطان.
واذا قيل لهؤلاء الذين اتبعوا خطوات الشيطان وتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل: يا هؤلاء، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي الصادق، وما فيه من هدى ونور مبين، قالوا: لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا. وهكذا تجدهم قد أبطلوا فضل ما خصّ الله به الانسان من الفكر. ذلك ان الله ميز الانسان بالعقل ليعرف الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الأفعال. فلما حيث الناسَ على تناول الحلال الطيب ونهاكم عن متابعة الشيطان، وجانبَ الكفار الرشاد باتباعهم الآباء والأجداد قال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ وهذا منتهى الذم والتوبيخ، فكيف يتبعون ما أَلْفوا عليه آباءهم وهم لا يعقلون!!
القراءات:
قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر «خطوات» بتسكين الطاء.
المثل: الصفة والحال. نعق: صاح.
بعد نعى سبحانه وتعالى على الكفار سوءَ حالهم وتقليدَهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم الى برهان يعتمدون عليه اعقب ذلك برسم صورة زرية لهذا الجمود، فصّور البيهمة السارحة التي تسمع صياح راعيها ولكنها لا تفهم ما يريد. وهذا مثلُ الكافرين في تقليدهم، وعدم تأملهم فيما يلقى اليهم. هؤلاء الكفار أضل من هذه البهائم، فهم عن الحق صم الآذان، عمي البصائر، خرس الألسنة، لا ينطقون بخير، ولا يصدون عن عقل.
الاهلال: رفع الصوت. وما أُهل به لغير الله: ما ذبح لصنم أومعبود غير الله.
يتجه الخطاب هنا الى المؤمنين خاصة، وليبيّن الله لهم ما حرم عليهم بع أن طلب اليهم أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم. وكان الناس قبل الاسلام فِرقا، فمنهم من حرم معلى نفسه أشياء معينة من الحيوان. وبعض أهل الاديان السابقة يتقربون الى الله بتعذيب أنفسهم وتحريم بعض المأكولات، واحتقار الجسد، وغير ذلك من ألوان التحريم الذي كان من عند أنفسهم، ومن وضع رؤسائهم.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة وسطاً تعطي الجسد حقه، والروح حقها. فأباح ان نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نتمنع عنه تديُّناً ولا تعذيباً للنفس، ولا نحرم بعضا ونحلل بعضا، تقليداً للرؤساء والحاكمين فقال: يا أيها الذين آمنوا أبيحَ لكم أن تأكلوا من الطعام الطيَب فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره انت كنتم تعبدونه حقا. وسأبيّن لكم المحرم عليكم فلا تسمعوا للمشركين وما حرّموا، ولا لما زعمه اليهود وغيرهم. ان المحرم عليكم هو ما مات من الحيوان ولم يذبح، فالميتة مؤذية للجسم. ونحن نعرف ان ما يموت بشيخوخة أو مرض يكون موته بسبب مواد سامة ضارة عجز جسمه عن دفع أذاها. اما في حال الاختناق أو الحرق والغرق فان الدم تتكون فيه مواد ضارة كثيرة.
والدم حرام عليكم أيضا: وكان العرب يأكلونه ويقدمونه لضيوفهم. كانوا يقصدون الحيوان ويحشون ما يسيلمن عِرقِه في مصران يشوونه ثم يأكلونه، وربما شربوا الدم طلباً للقوّة، فحرمه الله.
ولحم الخنزير: لأنه ضار وناقل للكثير من الأمراَ الخطيرة، ولا سيما في البلاد الحارة.
وما أُهل به لغير الله: كان العرب يذبحون القرابين لأصنامهم وآلهتهم ويرفعون أصواتهم باسم آلهتهم. وهذاشرك وكفر.
ثم يضع قاعدة جليلة هي اباحة هذه الممنوعات عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات. ولذلك قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فمن أُلجىء الى أكل شيء مما حرم الله بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك جوعاً، ولم يكن راغباً فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم.
الضلالة: ضد الهدى. الباطل: الهلاك. الهدى: الرشاد. الشرائع التي أنزلها الله على لسان انبيائه. الشقاق: العداء. التنازع.
يعود الحديث هنا في الحملة على الذين يخفون الحقائق، وقد جادل اليهودُ كثيراً في ما أحلّ الله للمؤمنين، كما كتموا ما تورده كتبهم من أمر النبي ونبوّته.. كل ذلك لقاء عَرَض من أعراض الدنيا، فما جزاؤهم؟ انهم لا يأكلون من ذلك العرض الا سبباً لدخول النار، فهي التي تملأ بطونهم يوم القيامة، وسوف يُعرِض الله عنهم يوم القيامة ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة، ولهم عذاب شديد موجع. ذلك بأنهم تركوا الهدى الواضح الذي لا خلاف فيه، واتبعوا الضلال، واشتروا العذاب بالمغفرة. بذلك كانوا هم الجناة على أنفسهم، فما أصبرهم على حر جهنم! لقد جاء الكتاب بالحق لكنهم انكروه، ومن غالب الحق غلبه الحق، وبقي هو في نزاع كبير فلا يهتدي الى الحق ابدا.
وكتمان الحق يتناول كل انسان من أية ملة كان، يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، فهو حكمٌ عام مستمر في كل مكان وكل زمان.
البر: الصلة، يقال بَرَّ رحمه اذا وصلها. والخير، والاتساع في الاحسان، والطاعة والصدق، وهو جماع الخير، والاخلاق الحسنة وما ينشأ عنها من أعمامل صالحة يتقرب بها العبد الى ربه، أما بالنسبة الى الله فهو الثواب والرضا والمحبة الآلهية.
المساكين: مفرده مسكين وهو الذي لا يستطيع العمل، ولا يفطن أحد له لانه لا يسأل الناس. ابن السبيل: هو المسافر إذا انقطع فلا يجد ما يوصله الى بلده. السائلين: الذين ألجأتهم الحاجة الى السؤال، فاضطروا الى التكفف. في الرقاب: تحرير العبيد واعانتهم على فك رقابهم. البأساء: الشدة. الضراء: كل ما يضر الانسان من مرض أو فقد حبيب من أهنل أو مال. حسن البأس: وقت الحرب.
وهذه أجمع الآيات في تحديد معنى البر من النواحي الواقعية. فهي ترشد الى ان البر لا يرتبط بشيء من المظاهر والصور والأشكال، واما بالحقائق ولب الأمور وروح التكاليف. كما ترشد الى ان البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير: برٌّ في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخُلق.
يعلمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ان الخير ليس في الجدل في أمور لا تجدي، ولا هو متعلق بالتوجه الى المشرق أو المغرب في صلاة مظهرية جوفاء، كلا، وانما هو أولاً الإيمان بالله في ربوبيته ووحدانيته؛ والايمان باليوم الآخر، حيث تتم المحاسبة على ما جنته الجوارح وما في القلوب والضمائر. بيد ان الايمان بالله واليوم الآخر لا يمكن للعقل البشري ان يصل اليه مستقلاًّ بل لا بد من واسطة تدلنا عليه. وهي من ثلاثة عناصر: الملائكة الذين يتلقون عن الله مباشرة، والأنبياء الذين يتلقُّون عن الملائكة، والكتاب الذي يتلقونه ويبلّغون ما فيه من أحكام وتشريعات. وقد عبر الله عنها بالكتاب اشارة الى وحدة الدين عد الله. هذه الأمور الخمسة هي البر في العقيدة: الايمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
أما البر في العمل فله شُعب كثير ترجع كلها مهما تنوعت الى بذل النفس والمال ابتغاء مرضاة الله، وادخال السرور على خلق الله. والعمل هو مَدَدُ العقيدة وفي نفس الوقت ثمرتها، يحفظها وينمّيها، ويدل عليها. وقد ذكرت الآية بذل النفس في أعظم مظهر له، ذلك هو اقامة الصلاة. فالصلاة هي عماد الدين، والفارق بين المؤمن وغيره. انها مناجاة العبد لربه، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والعاصمة من الهلع والجزع. هذه هي الصلاة اذا اقامها المرء على حقيقتها، فوقف بين يدي ربه وقد خلع نفسه من كل شيء في دنياه، وسلّم لله أموره ونسي ما عداه. بذلك يكون قد بذل نفسه لله، ووضعها بين يديه، فجاءت صلاته عهداً حقيقياً بينه وبين ربه.
ثم بين الله تعالى في الآية بذل المال في وصرتين، أحدهما قوله تعالى: ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب﴾ والثانية قوله تعالى: ﴿الزكاة﴾ ويجب ان يفهم هنا بمقتضى هذا الوضع القرآني الكريم ان الزكاة المفروضة شيء، وان ايتاء المال لهؤلاء الأصناف المذكورة شيء آخر لا يندرج في الزكاة ولا تغني عنه الزكاة.
94
وقد قدّم الله تعالى الكلام في بذل المال لسد حاجة المحتاجين، ودفع ضرورة المضطرين، وقيام بمصالح المسلمين وحث عليه وأكده لأنه هو البر الحقيقي. اما الزكاة فهي فرض من الفروض الواجبة على المسلم يؤديها طبقا لشروطها. فاذا لم يقم الاغنياء والقادرون ببذل المال على هذا الوجه واكتفوا بدفع الزكاة فقط فإنهم ليسوا على البر الذي أراده الله من عباده. وهذا أصل عظيم في تنظيم الحياة الاجتماعية يباح به لمن يولِّيه المسلمون أمرهم ان يشرّع الوانا من الضرائب اذا لم تفِ الزكاة بحاجة الأفراد والمجتمع.
﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ﴾ اي بذَلَه رغم فطرة حب المال عند الانسان، وبذلك يبرز معنى الايثار ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] و ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩]. وقد قال ﷺ «أفضل الصدقة ان تصَّدق وأنت صيح شحيح ت خشى الفقر وتأمل المغنى» أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
ذوي القربى: الأقرباء المحتاجين، وهم أحق الناس بالبر. وقد ورد في الحديث «ان الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة».
واليتامى: وهم الصغار فقدوا آباءهم وليس لهم عائل يرعاهم. وقد عني الاسلام بأمر اليتيم والحث على تربيته والمحافظة على نفسه وماله اذا كان له مال. وقد ظهرت عناية القرآن الكريم بشأن اليتيم منذ ان نزل الى ان انقطع الوحي، وستمر بنا آيات كثيرة في ذلك. ولقد قال النبي ﷺ «خير بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يحسَن اليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء اليه».
والمساكين: هم الذين لا يستطيعون العمل، ولا يفطن الناس اليهم لأنهم لا يسألون. وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به الطريق فلا يوصله الى اهله. والسائلين: الذين الجأتهم الحاجة الى السؤال، فاضطروا الى التكفف. وفي الرقاب: اي لتحرير الأرقاء. والاسلام أول دين شرّع «العتق». لقد حث على تحرير العبيد ولم يشرع الرق، لأن هذا كان موجودا منذ أقدم العصور. لذا جعل من مصارف الزكاة انفاقها في الرقاب، أي فكاك الاسرى، وعتق الرقيق. ولقد حث الرسول الكريم في كثير من وصاياه وأحاديثه على الرفق بالرقيق والعمل على تحريرهم.
والبر في الخُلق هو المبدأ الثالث في هذه الآية العظيمة: وهو يشمل مبدأ القيام بالواجب، وقد جاء التعبير عنه قوله تعالى: ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾، ومبدأ مقاومة الطوارىء والتغلب على عقبات الحياة كما جاء في قوله تعالى: ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس﴾ والعهد لفظٌ شامل يجمع ألوانا من ارتباطات والتزامات لا غنى للناس عنها، ولا استقامة للحياة بدونها.
95
وهي على كثرتها ترجع الى واحد من ثلاثة: عهد بين العبد وربه، وعهد بين الانسان وأخيه، وعهد بين دولة ودولة. اما مبدأ المقاومة فقد عبر عنه تعالى بقوله: ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس﴾، الصبر كما قدمنا الكلام عنه في شرح ﴿استعينوا بالصبر والصلاة﴾ هو عدة النجاح في الحياة، والسبيل الوحيد للتغلب على جميع الصعاب. وقد ذكر سبحانه هنا ثلاث حالات هي ابرز ما يظهر في الهلع: البأساء، والضراء وحين البأس. وقد تقدم تفسيرها.
هذه عناصر البر في العقيدة والعمل والخلق، تحدثت عنها هذه الآية الكريمة، وختمت حديثها بحصر الصدق والتقوى فيمن اتصف بهذه المبادىء من المؤمنين، ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون﴾، فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صدقوا في ايمانهم.
وهذه الآية دستور شامل عظيم.
القراءات:
قرأ حمزة وحفص «ليس البر» بالنصب والباقون «ليس البر» بالرفع. وقرأ نافع وابن عامر «ولكن البر» بتخفيف لكن ورفع البر.
96
كتب: فرض. القصاص: ان يُقتل القاتل. الألباب: جمع لب وهو العقل.
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ هذا نهج الآيات المدنية فانها تصدر بهذا النداء، والحكم لجميع الناس. فُرض عليكم القصاص في القتلى... وهو قتْل من قَتل نفسا عامداً متعمداً، ففي ذلك العدل والمساواة.
لقد كان القصاص في الجاهلية خاضعاً لقوة القبائل وضفعها، فبعضهم كان لا يكتفي بقتل القاتل الفرد بل يطلبون قتل رئيس القبيلة، وبعضهم كان يطلب قتل عدد من الأشخاص بدل المقتول. وهذا ظلم كبير. فجاء الاسلام بالعدل والمساوة وفرض قتل القاتل فقط. ثم خصّصت الآية فنصّت على بعض الجزيئات ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ تأكيداً لإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من فرض عدم التساوي في الدماء. اما الحكم في الاسلام فهو ان يُقتَل القاتل سواء كان حراً قتل عبدا أو بالعكس. وذلك لأن هذا جاء واضحاً في قوله تعالى: ﴿النفس بالنفس﴾ كما جاء في سورة المائدة.
ولكن، إذا قتل رجل ولده، اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من رأى يُقتل الولد كالإمام مالك، وذلك في حالة ما اذا أضجعه وذبحه بالسكين. ومنهم من قال لا يُقتل به، وهم الأغلب.
وكذلك اذا قتل جماعة رجلاً واحداً.. فجمهور العلماء انهم يقتلون به. كذلك فعل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
واختلفوا في قتل المسلم ذميا، فبعضهم قال لا يقتل به وهم الاغلب، وقال البعض يقتل به.
وبعد ان بين سبحانه وتعالى وجوب القصاص، وهو أساس العدل، ذكر تشريع العفو ليوجّه النفوس اليه، ويثير في سبيله عاطفة الاخوة الانسانية فقال تعالى ما معناه:
فمن عفى لهم من اخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء اليه باحسان. وذلك ان القاتل اذا حصل له تجاوز عن جنايته من ولي الدم، فيجب ان يكون تعاملهما بما يشرح الصدور، ويذهب بالأحقاد: على أخيه ان يُتْبع عفوه بالمعروف فلا يثقل عليه في البذل، ولا يحرجه في الطلب. اما القاتل المعفوّ له عن جنايته فعليه ان يقدر ذلك العفو، فلا يبخص صاحبه حقه، ولا يمطله في الأداء. وهنا تظهر عظمة الاسلام في القصاص، فقد نظر الى أمرٍ لم ينظر اليه القانونيون، وهو ان جعل القصاص هو رفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل، فان سمت نفوس اهل الدم فآثروا العفو وجب لهم دية قتيلهم. وعلى أولياء الدم إتباع هذا الحكم بالتسامح، وعلى القاتل أداء الدية دون مماطلة أو بخس.
ذلك هو الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال وهو تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم. فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة.
97
﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب﴾ من عظمة القرآن في تشريعه «المدني والجنائي» انه يلهب النفوس الى الامتثال ببيان ما في التشريع من حِكم وفوائد تعود عليها بخيري الدنيا والآخرة، وهنا جاءت هذه الآية الكريمة تشير الى ما في القصاص، تشريعاً وتنفيذا، من نفع للحياة ذاتها، فهو يحفظ الأرواح وإليه تطمئن النفوس.
ولا ريب ان من علم انه اذا قتَلَ قُتِل، وان القصاص له بالمرصاد كفّ نفسه عن قتل صاحبه، فسلم ذاك من القتل وهذا من القصاص. وكذلك في تنفيذ القصاص على الوجه الذي شرع الله، وهو قتل القاتل وحده دون اسراف بقتل غيره. وفي قوله تعالى: ﴿ياأولي الألباب﴾ اشارة لطيفة الى أن القصاص بجانبيه، من شأن أولي العقول الذين يقدّرون وسائل الحياة الصحيحة. وما اهمال الأمة في تشريع القصاص وإسرافها في الأخذ بالثأر الا نقيض للعقل والايمان. ثم اشار سبحانه بعد ذلك الى أن هذا التشريع من شأنه ان يعد النفوس للصلاح بدل الفساد، وللتقوى بدل العصيان، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فليتدبر أولو العقول مزية القصاص هذه.
98
كتب: فرض. خيرا: الخير كل ما يحقق نفعا أو سعادة، ويطلق على المال الكثير الطيب، وهو المقصود هنا. الوصية: ما يكتبه الرج ليُعمل به ومن بعده.
المعروف: الخير المتعارف به بين الناس. الجنف: الجور، والميل عن الصواب.
كان الكلام في الآية السابقة عن القصاص في القتل، وفي هذه الآيات جاء تشريع آخر هو الوصية عند الموت، والمناسبة بين هذه الآيات واضحة والخطاب موجه الى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير. فيقول سبحانه: فرض عليكم أذا حضرت أسبابُ الموت وعلله أحداً من الناس وكان عنده مال كثير يوصي من هذا المال للوالدين وذوي القربى بشيء منه، على ان لا تزيد الوصية على ثلث مال الموصي. فأما اذا كان ماله قليلاً وله ورثة فلا تجب عليه الوصية. لأن الله تعالى يقول: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ والخير: هو المال الكثير.
ونص الآية ان الوصية تجب للوالدين، والأقربين وهناك آية الميراث في سورة النساء التي تورّث الوالدين. وهناك حديث صحيح: «لا وصية لوارث»، رواه أصحاب السنن. ولذلك قال معظم العلماء: ان الوصية لا يتجوز للوارث بما وفي ذلك الأب والأم؟ وقال بعضهم يجوز أن يوصي لبعض الورثة عملاً بهذه الآية. اما الأقربون الذي لا يرثون فالوصية لهم جائزة بنص هذه الآية وحكمها باق.
وحكمة الوصية للأقارب عظيمة، فهي لون من الوان التكافل الاجتماعي. ولذلك قال تعالى ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ اي أوجب ذلك حقا على المتقين.
واذا صدرت الوصية عن الموصي كانت حقاً واجبا لا يجوز تغييره ولا تبديله، فمن بدّل هذا الحق بعد هذا الحكم، فقد ارتكب ذنبا عظيماً. ان الله سميع لأقوال المبدّلين والموصين ويعلم نياتهم ويجازيهم على أفعالهم.
وحكم الوصية عند جمهور العلماء انها مندوبة. وقال بعض العلماء انها واجبة.
﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ...﴾ الآية فاذا خرج الموصي في وصيته عن نهج الشرع فتنازع الموصى لهم في المال، أو مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك وأصلح فلا اثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطلٍ بحق، وازالة مفسدة بمصلحة، ان الله غفور رحيم.
القراءات:
قرأ حمزة ويعقوب والكسائي وأبو بكر «موصّ» بتشديد الصاد من وصّى.
الصيام: الامساك عن الطعام والشراب والنشاط الجنسي من طلوع الفرج الى غروب الشمس ايماناً واحتساباً لله تعالى.
والصيام عبادة قديمة جاءت بها الاديان السابقة، سماوية وغيرها. فقد كان قدماء المصريين يصومون، ومثلهم اليويان والرومان. وكان صيام في الديانة اليهودية، وورد في الأناجيل. ولا يزال الوثنيون من الهنود يصومون. ولذلك قال تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...﴾ ومعناه فُرض عليكم الصيام كما فرض على أهل المِلل قبلكم، وذلك كيما يعدّكم الله للتقوى بترك الشهوات المباحة. بذلك تتربّى عندكم العزيمة والارادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة. فالصوم من اجلّ العبادات التي تهذب النفوس، وتعوّدها ضبط النفس، وخشية الله في السر والعلن، لأن الصائم لا رقيب عليه سوى ضميره. هذا كما يتعود الانسان الشفقة والرحمة الداعيتين الى البذل والصدقة. أما الفوائد الصحية فإنها كثيرة جدا، منها ان الصوم المعتدل يذهِب السمنة وهي من أشد الأخطار على الصحة في العصر الحاضر ويطهر الأمعاء من السموم، وفوائد أخرى جليلة تُطلب في الكتب الطبية.
﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ..﴾ اي أياماً معيَّنة، وهي رمضان. فمن كان مريضاً أو مسافرا فان الله تعالى أباح له الافطار، ثم يقضي صيام ما أفطر في وقت آخر. وعلى الذين يطيقون الصيام، لكن بشدة افتداء إفطارهم باطعام مسكين. وذلك مثل الشيوخ الضعفاء والمرضى الذين لا يرجى برء امراضهم، والعمال الذين معاشهم الدائم بالعمل الشاق، والحبلى والمرضع اذا خافتا على ولديهما. فكل هؤلاء يفطرون، ويطعمون مسكينا عن كل يوم، ومن أوسط ما يطعمون أهليهم، بقدر كفايته، أكلة واحدة مشبعة. وخلاصة ما تقدم ان المسلمين امام الصوم أقساط ثلاثة:
١) المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، فالصوم عليه واجب، واذا أفطر أخلّ بأحد أركان الاسلام.
٢) المريض والمسافر، ويباح لهما الافطار مع وجوب القضاء، ولو كان السفر في البحر أو البر أو الطائرة. والمرض غير محدّد بل هو متروك للشخص يقدره. فقد روى طريف بن تمام العطاردي قال: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: وجعتْ اصبعي هذه. ومحمد بن سيرين من كبار العلماء المشهورين.
وقال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، في رمضان، فعادني اسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: افطرت يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم. فقال: خشيت ان تضعُف عن قبول الرخصة.
وكما رخّص الله تعالى في المرض رخص في السفر. روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: «خرج رسول الله في سفر في رمضان والناس مختلفون فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فشرب نهاراً ليراه الناس».
100
وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلتْ راحلته ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سُنّة؟ فقال: سنة، ثم ركب. رواه الترمذي.
وهذا من تمام نعمة الله على عباده وسيره بهم في طريق اليسر والسهولة، فلا ينبغي لمؤمن ان يضيق صدره برخَص الله، فان الله يحب ان تؤتى رخصه، انه بعباده رؤوف رحيم.
٣) الشيخ الكبير ومن يماثله ممن يشق عليهم الصوم لسبب من الأسباب التي لا يرجى زوالها. وهؤلاء أباح اله لهم ان يفطروا، وكلّفهم بالاطعام بدلاً عن الصوم. ومن تطوع فزاد في الفدية فذلك من عنده وهو خير له.
وفي حكم ما ذكرنا من الشيخوخة والمرض ما يزاوله بعض العمال والصناع من أعمال كاد تكون مستمرة طوال العام، ويشق عليهم الصوم معها مشقة عظيمة. فاذا تعينت هذه الأعمال سبيلاً لعيشهم بأن لم يجدوا سواها، أو لم يحسنوا غيرها فلهم ان يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينا. ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ...﴾. ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر...﴾.
ثم بين الله تعالى الايام المعدودات بأنها أيام شهر رمضان الجليل القدر عنده، والذي أُنزل فيه القرآن ليهدي جميع الناس الى الرشد ببياناته الواضحة الموصلة الى الخير. فمن أدرك هذا الشهر سليماً معافى مقيماً غير مسافر فيجب عليه صومه. ومن كانت مريضاً أو مسافرا فله ان يفطر. وقد بين لكم الله شهر الصوم لتكملوا عدة الأيام التي تصومونها، ولتكبّروا الله على ما هداكم اليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة، ولعلكم تشكرون له نعمة كلها.
القراءات:
قرأ عاصم برواية أبي بكر «ولتكمّلوا العدة» بالتشديد. وقرأ ابن عامر براوية ذكوان ونافع «فدية طعام مسكين» باضافة فدية الى طعام ومساكين بالجمع. وقرأ عامر برواية هشام «فدية طعام مساكين...» بدون اضافة.
101
الرفث: الجماع لباس لكم: الملابسة والمخالطة. المباشرة: الجماع. الاعتكاف: البقاء في المسجد للتعبد مدة. تختانون أنفسكم: تخونون.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي...﴾ جاءت هذه الآية في وسط آيات الصيام كأنها استراحة لطيفة، فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يبين للناس ان الذين يطيعونه ويؤدون فرائضه، هم قريبون منه وهو قريب منهم. انهن يستجيب دعائهم في كل مكان، وفي كل زمان. فهو يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم وليس بينه وبينهم حجاب، فكيف اذا كان هذا الداعي صائما! ففي مسند الامام أحمد الترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابي هريرة رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الامام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزّتي لأنصرنك ولو بعد حين» وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: «للصائم عند افطاره دعوة مستجابة» وكان عبد الله بن عمر اذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. من ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام.
فاذا كنت قريبا مجيباً دعوة من دعاني، فليستجيبوا لي بالايمان بي وتوجيه العبادات إليّ حتى أجيب دعاءهم، لعلهم يهتدون.
بعد ان بين لنا سبحانه كيفية الصيام، والاعذار المبميحة له، أردف في هذه الآية بقية أحكام الصوم، فقال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ اي إتيان نسائكم. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ وهذا تعبير لطيف فيه كل معاني التستر حيث يعبر عن المخالطة والمعاشرة باللباس وفيه ستر ووِقاء. كذلك يجب أن تكون الصلة بين الزوجين عشرة حسنة، وستراً من كل منهما على صاحبة. مع ان الله علم أنكم كنتم تخونن أنفسكم، اي تنقصونها حظها من تمتعكم بنسائكم في ليالي رمضان فقد تاب عليكم، وعفا عنكم. فالآن لا تتحرجوا من الحلال وكلوا واشربوا في ليل رمضان حتى يظهر لكم الفجر متميزاً من ضلام الليل، ثم أتموا الصيام الى الليل.
﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ هذا حكم عام لا يختص برمضان.. فكلّ من صلاة وذكر وقراءة قرآن وغيرها. واقله يوم وليلة، ولا حدّ لأكثره. والافضل ان يكون في العشر الأواخر من رمضان، لأن آخر اعتكاف للنبي كان كذلك. وله ثلاثة شروط: النية، والصيام، وترك مباشرة النساء. وعند الشافعي لا يشترط الصيام. ولا يجوز للمعتكف ان يخرج من المسجد الا لقضاء الحاجة.
﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ اي أحكامه المشتملة على الايجاب والتحريم والاباحة. فلا تقربوها، اي تتعدوها. وعلى هذا الطريق السوي من بيان أحكام الصيام جميعها يبين الله لكم آياته لتتقوها وتتجنبوا تبعاتها.
الأكل: الأخذ والاستيلاء. والادلاء: الالقاء، يقال: ادلى دلوه في البئر أرسلها. وأدلى اليه بمالٍ دفعه اليه. وأدلى بحجته أحضرها واحتج بها. فريقا: طائفة أو قسما.
يقصد الله تعالى ان لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل تعالى اكْل المرء مالَ أخيه بالباطل كأكل مال نفسه بالباطل، وكثيرا ما يرد في القرآن هذا التعبير حتى يشعرنا الله بأن الناس كلهم اخوان. وذلك كقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾. لقد جعل الله المؤمنين إخوة، وعلى الاخوة ان يحفظوا مال بعضهم. وهو بذلك يؤدبنا بأرفع الآداب، ويحضنا على ان نكون امناء فيما بيننا، فلا يعتدي بعضنا على بعض، ولا يظلم أحد منا غيره.
﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام﴾ : تلقوا بأموالكم الى الحكام ليُحكَم لكم بما حرام وتنتزعوا مال اخوانكم بشهادة باطلة أو بينة كاذبة، أو رشوة خبيثة، وأنتم تعلمون ان هذا ليس بمالكم، وأنكم انما ترتكبون معصية بشعة.
ويدخل تحت قوله تعالى «بالباطل» كل كسب حرام.
استقر المؤمنون في المدينة، وبدأ الناس يسألون عن أمور شتى تهمّهم في دينهم ودنياهم، وهذا سؤال من هذا الأسئلة، يرد في مجتمع جديد متطلع الى المعرفة. وكان من جملة السائلين معاذ بن جبل وثعلبة بن غنيم، وكان سؤالهم: ما بال الهلال يبدوا دقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوي ويعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدِق حتى يعود كما بدأ؟ فأجابهم الله تعالى اجابة مختصرة مفيدة لهم في حياتهم وتعاملهم: ان الأهلة أمارات وتوقيت يعرف بها الناس الشهور والسنين، ويعلمون أوقات زراعتهم وتجارتهم وعبادتهم كالحج، والصيام. لقد اكتفى بهذا الجواب المختصر لأنه أقرب الى فهمهمه وهم اذ ذاك أمة أمية لا دراية لها بعلم الفلك ولا الفضاء.
ثم أردف ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾.
وهذه اشارة الى أن الأنصار كانوا إذا حجّوا فجاؤوا لم يدخلوا بيوتهم من قبل ابوابها بل من ظهورها. فجاء رجل منهم وخالف العادة فعُيِّر بذلك. فأبطل الله هذه العادة، وأمرهم ان يدخلوا البيوت من أبوابها دائما وفي كل الأحوال. ثم بين لهم ان البر الحقيقي هو الابتعاد عن المعاصي والتحلي بالفضائل واتّباع الحق وعمل الخير.
القراءات:
قرأ ابو عمرو وورش وحفص «ليس البر» بضم الباء، وقرأ الباقون «البر» بكسر الباء، وقرأ نافع وابن عامر «ولكن البر» بتخفيف لكن ورفع البر.
سبيل الله: دينه. ثقفه: طفِر به. الفتنة: الابتلاء والشرك.
هذا أول أمر نزل للمؤمنين بالقتال، وهو كما نراه واضح محدد، هفو ان يقاتلوا الذين يعتدون عليهم، ولذلك قال: ولا تعتدوا بمبادأتهم، أو بقتل من لا يقاتل ولا رأي له في القتال، ان الله لا يحب المعتدين.
واذا نشب التقال، فاقتلوا أولئك لذين بدأوكم بالقتال حيث وجدتموهم، وأخرجوهم من مكة، وطنكم التي أخرجوكم منها. ولا تتحرجوا من ذلك فقط فعلوا ما هو أشد من القتل في المسجد الحرام، لقد فتنوا المؤمنين في مكة عن دينهم، بالتعذيب، حتى فروا من وطنهم. ولكن، ان المسجد الحرام حرمته فلا تنتهكوها الا اذا انتهكوها هم، فان قاتلوكم فيه فاقتلوهم وأنتم الغالبون باذن الله.
فان انتهوا ورجعوا عن الكفر بأن انقادوا الى الاسلام، فان الله يقبل منهم ويغفر لهم ما سلف من كفرهم.
الشهر الحرام: هنا: ذو القعدة. وهو أحد الأشهر الحرم الأربعة. الحرمات: كل ما يجب احترامه والمحافظة عليه. القصاص: المقاصة والمقابلة بالمثل.
الأشهر الحرم: رجب. ذو القعدة. ذو الحجة. والمحرم. وكانت العرب تحرّم القتال فيه هذه الأشهر، ثم جاء الاسلام فأقر ذلك. وفي عام ست من الهجرة أعلن النبي للمؤمنين وللناس جميعا أنه يريد العمرة ودعا الناس للخروج معه. وأحرم بالعمرة وساق معه سبعين بدنة هَدْياً الى الله. وخرج معه ألف وأربعمائة من أصحابه. فلما بلغوا الحديبية، وهو مكان قرب مكة، خرجت قريش متأهبة للقتال ومنعته من دخول مكة. ثم جرت مفاوضات انتهت بالصلح على ان يرجع رسول الله من مكانه في ذلك العام، ويعود في العام المقبل ليؤدي العمرة. فنحر الهديَ في ذلك المكان، وحلق، وأمر أصحابه ان يفعلوا ذلك وعاد الى المدينة. فلما كان العام المقبل خرج معتمرا ومعه أصحابه، ودخلوا مكة وأتموا العمرة ومناسكها ومكثوا فيها ثلاثة أيام ثم رجعوا الى المدينة. وهذا معنى قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام.. يعني أن ذا القعدة الذي أوصلكم الله فيه الى رحمه وبيته، على كراهة مشركي قريش، حيث قضيتم مناسككم لهو بالشهر الحرام الذي صدكم فيه مشركوا قريش قبل عام. وهكذا فقد أقصّكم الله منهم أيها المؤمنون. فاذا اعتدوا عليكم في الشهر الحرام وقاتلوكم فيه، فقابلوا ذلك بالدفاع عن أنفسكم فيه. انه حرام عليهم كما هو حرام عليكم. وفي الحرمات والمقدسات شُرع القصاص والمعاملة بالمثل، فمن اعتدى عليكم في مقدساتكم فادفعوا عدوانه بالمثل، واتقوا الله فلا تسرفوا في القصاص، واعلموا ان الله مع المتقين بعينهم وينصرهم.
وكان صلح الحديبية أول نصر سياسي كبير واعظم توفيق من الله لنبيه الكريم، وذلك باعتراف قريش به وبالمفاوضة معه وتوقيع الصلح.
التهلكة: الهلاك والمراد به هنا التقصير في بذلك المال استعداداً للجهاد.
لم يكن في بدء الاسلام جنود يأخذون رواتب، بل تطوُّع بالنفس وتطوع بالمال. وكان كثير من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد يأتون الى النبي ﷺ يطلبون منه ان يزودهم بدابة تنقلهم، فاذا لم يجد ما يحملهم عليه ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع...﴾ حزنا، حيث لم يجدوا ما ينفقون. فالله سبحانه وتعالى يعلّمنا في هذه الآية الكريمة درسا عظيماً. حيث يقول: وانفقوا الأموال في الإعداد للقتال في سبيل الله، ولا تقعدوا عنه، فانكم ان تقاعدتم وبخلتم رَكبَكُم العدو وأذلّكم، فكأنما ألقيتم بأيديكم الى الهلاك. وهذا ما قاله الصحابي الجليل أبو أيوب الانصاري كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه قال: «انما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار لمّا اعز الله الاسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً: ان أموالنا قد ضاعت وان الله قد أعزّ الاسلام، وكثر ناصروه، فلو قمنا فأصلحنا ما ضاع منها. فانزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة...﴾ فما زال ابو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى مات في القسطنيطينية ودُفن بها، وقبره عليه مسجد معروف فيها الى اليوم.
فالجهاد بالمال أمر مهم، بل هو أساس كبير في دعم الجهاد والمحافظة على كيان الأمة.
في الآيات التي مرتب معنا تحددت النقاط التالية: (١) شُرع القتال لدفع الأعداء، لذاته، ولا لحمل الناس على الاسلام. (٢) النهي عن الاعتداء فلا يُقتل من لا يحمل سلاحا ولا من استسلم، ولا تخرَّب الدور على أهلها، ولا تهدّم المدن. (٣) ملاحظة الفضيلة التي دل عليها الامر بالتقوى، فلا تُنتهك الاعراض، ولا يمثّل بقتيل. (٤) ان القتال ينتهي اذا انتهى المشركون عن فتنة المؤمنين في دينهم. (٥) لا قتال في الأشهر الحرم، فاذا اعتدى المشركون وقاتلوا وجب قتالهم. (٦) ان ترك الأعداء يقتلون بعضنا من غير ان نقاتلهم لهو هلاكٌ لنا. وهذا ما هو جار الآن بيننا وبين اليهود: يعتدون ويقاتلون ونحن واقفون ننظر ويلوم بعضنا بعضا.
فاذا دققنا النظر في هذه المباىء نجد ان حرب الاسلام فاضلة في بواعثها، وعادلة في سيرها ومراميها.
الحصر والاحصار: الحبس والمنع. والهَدي: هو ما يهديه الحاج الى البيت الحرام من الأنعام. المحل: مكان الحلول.
تقدمت الاشارة الى الحج في الآية: ١٨٩. ثم الى الأشهر الحرم والقتال فيها. وفي هذه الآية والآيات التي تليها يفصّل الله تعالى مناسك الحج. فيقول: وأدوا الحج والعمرة على وجه التمام قاصدين بهما وجه الله. والحج معروف، وقته في التاسع من ذي الحجة والأيام الثلاثة التي تليه. ويشتمل الحج على الطواف بالبيت أول ما يصل الحاج الى الحرم. ثم الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة. ثم النزول بالمشعَر الحرام. ثم الذهاب الى مِنى ورمي الجمار والنحر، وبعد ذلك الذهاب الى الحرم ليطوف طواف الافاضة ثم يسعى بين الصفا والمروة، وبعد ذلك يحلق الحج رأسه أو يقصّر من شعره. بذلك يتم الحج. وهو فرض مرةً واحدة على المستطيع.
وأما العمرة فانا سنّة، ولا وقت معين لها، وهي تشتمل على الاحرام، ثم الطواف ثم السعي، وبعد ذلك يحلق المعتمر شعره أو يقصّر وينحر اذا كان عليه دم، هذه مناسك العمرة.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ مُنعتم وأنتم محرمون من اتمام الحج، وبسبب عدوّ أو مرض أو نحوهما، وأردتم ان تتحلّلوا فعليكم ان تذبحوا ما تيسّر لكم من الهدي، بقرة أو شاة أو بدنة.. ثم تتحللون. ويجب ذبح الهدي في المكان الذي حصل فيه المنع. ولا تحلقوا رؤوسكم قبل أن تقوموا بهذا النسك.
ومن كان محرماًوآذاه شعر رأسه لمرض أو هوامٍ في رأسه فلا بأس ان يحلق، شريطة ان يصوم ثلاثة أيام، او يتصدق على ستة من الفقراء بقوت يومٍ لكل واحد، او ان يذبح شاة، ويتصدق بها.
واذا قصدتم الحج والعمرة، وبدأتم بالعمرة واتممتم مناسكها وتحللتم ثم احرمتم للحج من مكة فعليكم عند ذلك ذبح شاة، أو غيرها من الهدي. فمن لمن يجد شاة، فانعليه ان يصوم عشرة ايام: ثلاثة في الحج، وسبعة في وطنه عندما يرجع.. هذا اذا لم يكن من سكان الحرم. واتقوا الله ايها المؤمنون وحافظوا على امتثال أوامره، واعلموا انه شديد العقاب لمن انتهك حرماته.
الرفث: مباشرة النساء، وقد سبق. الفسوق. الخروط عن الآداب التي حددها الشرع من جدل وسباب وخصام.
هنا بين لنا تعالى ان الحج يقع في أشهر معلومات، هي شوال وذو القعدة وذو الحجة. وهذه الأشهر معروفة من أيام ابراهيم عليه السلام. فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر وأحرم فيه فعليه ان يراعي آدابه. ومن آداب الحج ان يبتعد عن النساء، وعن المعاصي من السباب والخصام والمراء مع رفقته في الحج، ويجتنب كل ما يجر الى الشحناء والخصام.
﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله...﴾ فاجتهدوا في فعل الخير وطلب الأجر منه فإنَّه مجازيكم. وتزوّدوا لآخرتكم بالتقوى فانها أحسن زاد، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون يا أهل العقول السليمة، فهو خير لكم.
الجناح: الحرج والاثم. الافاضة، من المكان: الدفع منه، والانطلاق. عرفات: هو المكان المعروف الذي يتم فيه أكبر أركان الحج. الذكر: الدعاء والتلبية، والتكبير والتحميد: المشعر الحرام: موضع بالمزدلفة فيه مسجد، وقال مجاهد: مزدلفة كلها هي المشعر الحرام.
كان بعض الناس يتأثممون من كل عمل دنيوي في ايام الحج، فقال تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فلا إثم في مزاولة التجارة وابتغاء الرزق أيام الحج، أما التجرد للعبادة فانه افضل.
واذا افضتم من عرفات بعد الوقوف بها ووصلتم المزدلفة ليلة عيد النحر فاذكروا الله عند المشعر الحرام. وقد جاء النبي الى المشعر الحرام بعد افاضته من عرفات، فصلى المغرب ثم العشاء وبات في المزدلفة ثم صلى الصبح. وبعد ذلك تابع سيره الى مكة.. فمن فعل ذلك فقد تم حجه. واكثر الفقهاء يقولون ان المبيت بالمزدلفة سنة لا فرض.
﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ كانت قريش ومن تبعهم من كنانة وفيس وجديلة لا يقفون مع الناس بعرفات في الجاهلية بل بمزدلفة، ترفعاً عن الوقوف مع غيرهم فأمر الله نبيه ان يأتي عرفات ثم يقف فيها ثم يُفيض منه ليبطِل ما كانت عليه قريش، وحتى تتحقق المساواة، ولا يكون هناك امتياز لأحد على احد.
واستغفِروا الله ما أحدثتم من تغيير المناسك، وادخال الشرك في عبادتكم ايها العرب ان الله واسع المغفرة قال للتوبة.
الخلاق: النصب والحظ. والمناسك: العبادات، وغلبت على مناسك الحج.
في هذه الآيات يعلمنا سبحانه ان نترك عمل أهل الجاهلية، حيث كانوا اذا فرغوا من الحج ذهبوا الى أسواق تقام في أماكن مختلفة، وشغلوا أنفسهم بالتفاخر بذكر الآباء ومآثرهم. هناك كانوا يتناشدون الاشعار والخطب ويعاقرون الخمر، وربما قامت من جراء ذلك منازعات تجر الى الحروب والخصام. وهنا يرشدنا الله فيقول: فاذا فرغتم من أعمال الحج فدعوا ما كنتم عليه وما كان عليه آباؤكم في الجاهلية واشغلوا أنفسكم بذكر الله كما كنتم تذكرون آباءكم، بل اذكروه أكثر من ذكركم لهم: ، لأن الله أَولى بالذكر منهم. ثم يعرض علينا صورتين من أخلاق البشر احداهما ذميمة والأخرى خيرة. فيقول: ان بعض الناس همّه الدنيا فقط فهو يقصُر دعاءه على عرض الدنيا وخيراتها الزائلة، هؤلاء لا حظ لهم في الآخرة ولا نصيب.
ومنهم من وفقه الله فاتجه بقلبه الى طلب الخير في الدنيا والآخرة، هؤلاء يطلبون سعادة الدارين، فلهم نصيب كبير مما كسبوا، والله يعطيهم ما طلبوا. وهو يرغّبنا ان ننهج منهجهم ونسير على سيرهم.
﴿واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ هي ايام مِنى الثلاثة وتسمى ايام التشريق. وفي هذه الأيام ترمى الجمار، والجمار حصيّات ترمى في أماكن معينة في منى، فيجوز للحاج ان يمكث يومين ثم يذهب الى الحرم لينهي حجه، ويجوز له ان يمكث ثلاثة ايام كما قال الله تعالى.
واتقوا الله تعالى حين أدائكم الحج، واعلموا انكم ستحشرون اليه يوم القيامة، والعاقبة يومئذ للمتقين.
بهذه الآيات تم الكلام على الحج ومناسكه وآدابه وبعض الآداب العامة.
يشهد الله: يحلف بالله. ألد الخصام: أشد الخصام. تولى: انصرف وأدبر، وبعضهم فسرها بانه تولى الحكم والسلطان فكان فساده أعظم. الحرث والنسل: الزرع والولد. أخذته العزة بالاثم: حملته الانفة والحمية. المهاد: الفراش. يشري نفسه: يبيعها. ابتغاء مرضاة الله: من اجل رضاء الله.
في هذه الآية الكريمة يعرض علينا تعالى نموذجين من صور البشر، الاول: ذلك المنافق الشرير صاحب المظهر الحسن واللسان الذلق اللطيف، الذي يعجب به الناس. اما فعلُه فهو سيء قبيح. انه يُشهد الله على أنه مؤمن صادق، لكنه كذاب آثم خدّاع، شديد الخصومة. فاذا انصرف من المجلس سعى في الفساد فاحرق الزرع وأهلك النسل والحيوانات. ان الله تعالى لا يحب المفسدين، بل يمد لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. واذا دُعي ذاك الرجل الى الصلاح والتقوى لم يرجع الى الحق، بل تكبّر وشمخ بأنفه وأخذته حمية الجاهلية.
ان هذا الصنف من الناس مصيره الى جهنم وبئس القرار.
قال الطبري: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، فقد جاء الى النبي بالمسجد وأظهر الاسلام، وكان حسن المنظر فصيحا. لما خرج وتولى صادف في طريقه زرعاً للمسليمن فأحرقه، وبعضَ الحيوانات فقتلها.
وعلى اي حال فإن العبرة بعموم اللفظ، والآية تنطبق على كل خداع منافق غشاش.
والثاني: ذلك الذي يؤمن بالله إيماناً حقيقيا، ويبذل نفسه في سبيل إعلاء دينه، فلا يطلب عرض الدنيا وزخرفها. وأمثال هذا رضي الله عنهم، وأعد لهم يوم القيامة جنات عدن يدخلونها، ورحمة من الله واسعة. ويقال إنها نزلت في صهيب الرومي، وقيل فيه وفي غيره. والعبرة كما قدمنا بعموم اللفظ، فهي عامة في كل من يبذل نفسه وماله في سبيل الله.
السلم: اسلام، والصلح، والانقياد. خطوات: جمع خطوة بضم الخاء، وهي المسافة مابين قدمي الماشي، والمعنى هنا آثار الشيطان واتباعه. الزلل: عثرة القدم، وهنا معناه الانحراف عن الحق. البينات: الحجج.
بعد ان بين الله في الآيات السابقة ان الناس فريقان: فريق يسعى في الارض بالفساد، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته دعا الناس كافة في هذه الآية الدخةل في الاسلام وهو دين الاسلام. فان الاسلام اساسه السلام، وشعاره «السلام عليكم». فالله سبحانه يأمر الذين آمنوا بالعمل بشرائع الاسلام كلها... خذوا الاسلام بجملته واعلموا به تكونوا قد دخلتم في السلام، واعتصتم بحبل الله. يومذاك تدخلون في عالم كله سلام. سلام مع النفس والضمير، ومع العقل والمنطق، سلام مع الناس ومع الوجود كله، سلام في الارض وسلام في السماء.
ومعنى «كافة» أي في جميع أحكام السلام والاسلام، لا في بعضها فقط، وكان بعض مؤمني أهل الكتاب يعظّمون السبت ويحرمون الابل وألبانها، وغير ذلك مما كانوا يفعلون، فأمره الله تعالى ان يتركوا كل ما كان سابقا ويدخلوا في الاسلام ويعملوا بجيع شرائعه.
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي لا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم الى الشقاق والنزاع.
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾. هذه الآية نص واضح في دعوة المؤمنين الى السلام، فالحرب والخصام سيرٌ وراء الشيطان. والآية تدعو المؤمنين الى ان يكونوا مسالمين مع أنفسهم...
ويدلّ هذا النص على ان الأصل في العلاقة بين الدولة الاسلامية وغيرها هي السلم، ففي الوقت الذي كان يه قانون الغاب يجدد العلاقات بين الدول جاء الاسلام بهذا المبدأ السامي. فالحرب التي شرعها الاسلام انما هي لتثبيت دعائم السلم، وتحقيق العدل لا للعدوان على الآخرين.
فان انحرفتم أيها المؤمنون عن الطريق، وأخطأتم الحق، من بعد ما جاءتكم حججي، وبينات هداي، فاعلموا ان الله ذو عزة، لا يمنعه الانتقامَ منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم له دافع.
القراءات:
قرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون «السلم» بكسرها، وخطوات بضم الطاء وسكونها قراءتان سبعيتان، تقدم ذلك في الآية ١٦٨.
هل ينتظر هؤلاء المعرضون عن الاسلام، المكذّبون برسوله وما جاء به، ان يريوا الله جهرة في غمامٍ سائر مع الملائكة، حتى يقتنعوا! لقد قضي الأمر بأن يكون هناك يوم قيامة، فلا مفر منهن. وحينئد يثاب الطائع ويعاقب العاصي.
﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ فجميعها في قبضته يصّرفها حيث شاء فيضع كل شيء موضعه الذي قضاه، فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلام وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم!!
القراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم «ترجع الأمور» بالبناء للمجهول وقرأ الباقون «ترجع الأمور» بفتح التاء.
بعدما تقدم لنا من ارشادات شافية، وبيانات عن طريق الهدى والصراط المستقيم يعود السياق هنا الى بني اسرائيل. وذلك للتحذير مواقفهم العديدة ضد الاسلام، واشعالهم الفتنَ قديماً وحديثاً.
أوجّه انتباه القارىء هنا الى أن اليهود دائما هم أصحاب الفتن ومثيرو القلاقل في العالم من قديم الزمان. هذه طبيعتهم. أليسوا الآن هم الذي أقلقوا العالم كله بفتنهم وتنكرهم لكل قيم! لذلك يعود القرآن هنا الى التحذير منهم فيقول: سل يا محمد بني اسرائيل: كم سقنان اليهم الأدلة القاطعة على صدق ما جئتَ به من عند الله، وفي ذلك نعمة هدايتهم الى الله، فكفروا بهذه الأدلة وعمدوا الىى تبديلها. فبعد ان وضُعت الأدلة للهادية أصبحت بالنسبة لكفر هؤلاء بها سبباً في زيادة ضلالهم وإثمهم.. ومن يبدل نعمة الله بهذه الصورة يحق عليه العذاب. ان الله شديد العقاب. وفي هذا عبرة لنا حيث بدلنا نعمة الله وهي الاعتصام بجله. فحلّ بنا ما حل من تمزق وتشتت وتخاذل.
بعد التحذير من التلكؤ في الاستجابة للدعوة، والتبديل بعد النعمة يذكُر لنا الله تعالى حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا. فيقول: ان السبب في الانحراف والكفر هو وحب الدنيا، فقد زُين للذين كفروا هذه الدنيا فتهالكوا عليها، وتهافتوا عليها فمضوا يسخرون من المؤمنين مثل عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيب، كما يسخرون من أغنياء المؤمنين بأنهم لا يتلذذون في الحياة. وقد رد تعالى على اولئك الساخرين بتفضيل أهل اليقين فقال ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي أن المتقين المؤمنين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما، وأرفع منزلة، فليمضوا في طريقهم لا يحلفون بشيء.
وستظل الحياة تعرف هذين الصنفين من الناس: المؤمنين الذي يتلقَّون قيمهم وفاهيمهم من الله فيرفعهم ذلك عن سفساف الحياة واعراض الارض، والكافرين الذين زُينت لهم الحياة الدنيا واستبعدتهم أعراضُها فتبعوا مطامعهم وهبطوا الى الحضيض.
﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ...﴾
يعطي كثيرا لا تضييق ولا تقتير لمن يشاء، فهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، ويعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا والآخرة. فالعطاء كله من عنده. لذلك ترك كثيرا من الأبرار ومن الفجار متمتيعني بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين. ولكن المتقين يكون أكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، اذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق.
الأمة: الجماعة من الناس. والأزمة: الملة والعقيدة، والأمة الزمن، (وادَّكَر بعد أمُة) والأمة: الامام، (ان ابراهيم كان أمة)، والمقصود هنا الجماعة من الناس.
يبين الله في هذه الآية سبب الاختلاف بين الناس في العقائد والمذاهب والأخلاق بعد ان كانوا أُمة واحدة في مبدأ خلقهم، يوم كانوا أُمة واحدة على الفطرة. وفلما كثروا وانتشروا في الارض وتطوت معايشهم اختلفوا وتعددت وجهات النظر فيمابينهم، فبعث الله الأنبياء والرسل، مبشرين ومنذرين، لينبهوا أقوامهم الى ما غلفوا عنه ويحذرهم من شر الأعمال. وأنزل معهم الكتب لبيان أحكامه وشرائعه. واذا كان للكتاب المنزل من عند الله هو الحكم فإن التنازع ينقطع وينحسم كثير من الشر في هذا العالم.
ثم تبع بعض الناس أهوائهم فاخلتفوا بعدها بين لهم الرسل طريق الحق والصراط المستقيم. وذلك بفعل الحكام والرؤساء والعلماء، لأنهم هم أهل النظر، القائمون على الدين بعد الرسل وهم الذين أُتوا لكتاب اليقرِّروا ما فيه، ويراقبوا سير العامة عليه.
وقوله تعالى: «بغياً بينهم» اي حسداً وظلما.
ثم أرشد إلى الايمان الصحيح يهدي الناس الى الحق في قوله ﴿فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ...﴾ فالمؤمنون يهتدون الى ما اختلف الناس فيه من الحق. والله هو الذي يوفقهم اذا اخلصوا.
المثل: الحال الذي له شأن. البأساء: الشدّة على الانسان في ماله وفي نفسه ووطنه.
والضراء: ما يصيب الانسان في نفسه كالقتل والجرح والمرض. والزلزال: الاضطراب في الأمر.
بعد ان أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد الى حاجة البشر الى معونة بعضهم بعضاً لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، دعت الضرورة الى شرع يحدد الحقوق ويهدي العقول الى ما لا مجال لنلزاع فيه.
وقد روى الطبري عن السدّي ان هذه الآية نزلت في غزوة الخندق. ومعنى الآية: ام حسبتم أيها المؤمنون ان تدخلوا الجنة بمجرد اقراركم بكلمة الاسلام دون ان يصيبكم ما اصاب الذين من قبلكم من أتباع الرسل والأنبياء من الشدائد والمحن، وأن تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من البأساء وهي شدة الحاجة والفاقة، ومن الضراء وهي العلل والأمراض، ولم تُزلزَلوا، اي لم يصِبكم من اعدائكم كثير من الخوف والرعب! كلا، انكم مثلهم.
وقد أخذتهم الشدة حتى بلغ الأمر ان قالوا متى نصرُ الله؟ ثم أخبرهم الله ان نصره قريب وانه جاعلهم فوق عدوّهم.
الخير: معناه هنا المال.
يسألك أصحابك يا محمد اي شيء يتصدقون به من أموالهم وعلى من يتصدقون؟ فقل لهم: ان الانفاق يكون من المال الطيب، وتصدّقوا به على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم، وعلى اليتامى والمساكين، ومن انقطع من ماله وأهله. وما تفعلونه من خير اليهم يُحصيه الله لكم حتى يثيبكم عليه.
كتب عليكم: فرض عليكم. الكره: المشقة.
مضى الكلام في الآية السابقة على الإنفاق في سبيل الله وللمحتاجين من الأسرة الاسلامية، وفي هذه الآية والتي بعدها يأتي الكلام على بذل الأرواح والأنس. المال اخو الروح، بل هو اغلى عند كثير من الناس.
اذات كان في الانفاق على الوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله فان القتال حماية له من اعدائه في الخارج. لذلك فرض الله علكيم القتال لحماية دينكم والدفاع عن أنفسكم. وهو كرهٌ لكم، لما فيه من المشقة وتعريض الأنس للموت، ولكن ربما كرهتم شيئاً يكون فيه خيركم، ان الله يعلم ذلك، وأنتم لا تعلمون.
وهذه أول آية فُرض فيها القتال، وقد نزلت في السنة الثانية من الهجرة. الجهاد فرض كفاية الا اذا دخل العدو بلاد المسلمين فاتحاً فيكون الجهاد فرض عينٍ على الجميع، وهذه فلسطين، فقد احتلها العدو ولم يهبّ المسلمون لقتاله. لقد أغفلوا فرض عين، وحكامهم هم المسؤولون. ولهم مع الله شأن.
الصد: المنع. الفتنة: الشرك وتعذيب المسلمين. حبط عمله: بطل وفسد.
سببُ نزول هذه الآية ان النبيّ ﷺ بعث عبد الله بن جحش مع ثمانية من المهاجرين في جُمادى الآخرة. قبل وقعة بدرٍ بشهرين، ليترصّدوات عِيراً لقريش. فهاجموا قريشاً وقتلوا منهم عمرو بن عبد الله الحضرمي. كما أسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكَم بن كيسان. ثم إنهم استاقوا العِير والأسيرين الى المدينة المنورة. وكان ذلك في غُرة رجب، وهو من الأشهر الحُرم. وكانوا يظنونه آخر يوم من جمادى الآخرة. فقالت قريش: لقد استحلّ محمدٌ الشهر الحرام. وقامت اليهود تشهّر بالنبيّ والمسلمين، ويقولون: عمرو، عَمُرت الحرب؛ والحضرمي، حضرت الحرب، وواقد، وقدت الحرب. وكان واقد بن عبد الله هو الذي قتل عمرو بنَ الحضرمي. فلما أكثر الناسُ في ذلك نزل الله الآية:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام...﴾ وتفسيرها:
يسألونك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام، فقل لهم ان القتال فيه أمرٌ مستنكَر، لكن ما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصدّ عن بيته، وأخراج المسلمين منه، والشِرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم كل ذلك أكبرُ عند الله من قتالكم في الشهر الحرام. لذلك اباح الله لنا القتال في الشهر الحرام لقمع هذه الشرور، على أساس اختيار أهو الشريّن. واعلموا أيها المسلمون ان سبيل هؤلاء معكم سبي التجني والظلم، وأنهم سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا، إذ لا همّ لهم الا منع الاسلام عن الانتشار. اذن فإن انتظاركم ايمانهم بمجرد الدعوة طمعٌ منكم في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهو من الفتنة عن الاسلام. ومن يضعف منكم امام هجماتهم ويرتد عن دينه ثم يموت على الكفر فاؤلك بطلت أعمالهم، وأولئك أهل النار هم فيها خالدون.
بعد ان ذكر الله المرتدين، بين لنا هنا جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين في سبيله فقال تعالى: ان المؤمنين ثبتوا على ايمانهم او هاجروا فراراً بدينهم، لإعلاء كلمة الله، ولينصروا الله ورسوله هم الذين يرجون رحمة الله وينتظرون عظيم ثوابه. وهم جديرون بأن ينالوا ذلك، والله واسع المغفرة للتائبين، عظيم الرحمة بالمؤمنين.
الخمر: كل ما اسكر من المشروبات. الميسر: القمار. الاثم: الذنب: العفو: الفضل والزيادة على الحاجة.
هذه أول آية نزلتن في الخمر، ثم نزلت بعدها الآية التي في سورة النساء ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ ثم نزلت الآية التي في المائدة. هكذا بالترتيب.
روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر انه قال: اللهم بينْ لنا في الخمر بيانا، فنزلت هذه الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافيا، فنزلت الآية التي في سورة النساء ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾. فدعى عمر فقرئت عليه فقال: الهلم بين لنا في الخمر بياناً شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر...﴾ الآية فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ قال عمر: انتهينا، انتهينا.
روى الشيخان عن ابن عمر ان رسول الله ﷺ قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.. الحديث». فحرمةُ الخرم ثبتت بالإجماع، وهو المصدر الثالث.
يسألونك يا محمد عن حكم الخمر والقمار، فقل ان فيها ضرراً كبيرا من افساد الصحة وذهاب العقل والمال واثارة العداوة والبغضاء بين الناس، وفيهما منافع كالتسلية والربح اليسير السهل.. ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما.
وأصل الميسر هو الجزور الناقةُ يقسمونها الى عدة أقسام ويضربون عليها القِداح، وهي قطع من الخشب تسمّى الأزلام، وهي عشرة وأسماؤها كما يلي: الفذ، والتوءم، والرقيب، والحلس، والمسبل، والمعلّى، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، فكان لكل واحد من السبعة الاولى نصيب معلوم. ولا شيء للثلاثة الأخيرة. وكان المعلّى اعلاها حيث له سبعة أجزاء ولذلك يضرب به المثل فيقال: «له القِد المعلّى». هذا هو قمار العرب في الجاهلية. وقد حرّمه الله لما فيه من اكل اموال الناس بالباطل وما يجلب من المنازعات والفتنة.
وهذا النص القرآني العظيم يوضح لنا ان التشريع يراعى فيه منافع العباد، فما كثرت منافعه بجوار مضاره كان مطلوبا ومباحا، ما قلّت منافعه بجوار مضاره كان منهيّاً عنه.
وهو يومىء الى امر واقع في هذه الدنيا، وهو ان الاشياء يختلط خيرها بشرها، فليس هناك خير محض، ولا شر محض. فالخمر وهي ام الخبائث، فيها نفع للناس بجوار شرها الذي لا حدود له. والميسر الذي يشغل النفس ويصيبها باضطراب مستمر، فيه نفع للناس وآثام تفسد الحياة، ولقد كانت حكمة الله بالغة في تحريم الخمر على مراحل، وذلك لتعلُّق العرب بها في ذلك الزمان، ولأن تحريمها دفعة واحدة كان من الصعوبة بمكان.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ ويسألونك يا محمد اي جزء من اموالهم ينفقون وأياً يمسكون؟ قل أنفقوا الزائد عن حاجتكم، وفي الصحيح قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعلو» واخرج مسلم عن جابر ان النبي قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فان فضل شيء فلذي قرابتك، فان فضل شيء عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا».
وكان يكره للمرء ان يتصدق بجميع ماله، ويجبّ ان يتصدق بما يزيد عن حاجته.
القراءات:
قرأ ابو عمرو «قل العفُو» بالضم.
العنت: المشقة. لأعنتكم: لأوقعكم في مشقة.
ويسألونك يا محمد بشأن اليتامى وما يوجبه الاسلام حيالهم، فقل: الخير لكم وهلم في اصلاحهم، فضموهم الى بيوتكم، وخالطوهم بقصد الاصلاح، فهو اخوانكم. ان اليتيم طفل فقد أباه، والعائلَ الذي يرعاه، فما احوجه الى عناية رؤوم تنتشلُه وتجعل له متنفّساً يسرّي به عن نفسه! وما أحوجه الى تشريع حيكم، ووصية من رب رحيم تحفظ عليه نفسه، وله مالَه، وتعدّه كي يكون رجلاً عاملا في الحياة.
ولقد كان بعض الاوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم، وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جيمعا، وكان الغبن يقع احيانا على اليتامى، فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام. مثل ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وآية ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى﴾ [النساء: ٩]. عندئذ تحرّج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتمامى عن طعامهم، فكان الرجل يكون في حجره اليتيم، يقدِّم له الطعام من ماله فاذا فضّل شيء منه بقي له حتى يعاود، أو يفسد فيُطرح. وهذا تشدد ليس من طبيعة الاسلام، فجاء القرآن هنا ليرد المسلمين الى الاعتدال واليسر. فالاصلاح لليتامى خير من اعزالهم، والمخالطة لا حرج فيها اذا حققت الخير لليتيم. والله يعلم المفسد من المصلح، فليس المعوَّل عليه هو ظاهر العمل وشكله، بل النيَّةُ فيه وثمرته. ولو شاء الله لشقَّ عليكم فألزمكم رعاية اليتامى من غير ان تخالطوهم لكنهم اذ ذاك ينشأون على بغض الجماعة.
ويكون ذلك افسادا لجماعتكم وإعناتاً لكم.. والله لا يريد إحراج المسلمين ولا المشقة عليهم فيما يكلفهم. وهو عزيز غالب على امره، حكيم لا يشرّع الا ما فيه مصلحتكم.
والحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الانفاق، بالسؤال عن الخمر والميسر، ان السؤالين الأولين بيّنا حال طائفتين من الناس في بذلهم وانفقاهم، فناسبَ ان يذكر بعدها السؤال عن طائفة هي أحق الناس للإنفاق عليها، واصلاح شؤونها، وهم اليتامى. وكأن الله تعالى يذكّرها بأنه حين مخالطتهم واصلاح امورهم يجب ان تكون النفقة من العفو الزائد على حاجتنا من أموالنا، ولا ينبغي ان نعكس ذلك ونطمع في أموالهم.
هنا نقع على جانب من دستور الأسرة، والجماعة الصغيرة التي يقوم عليها المجتمع الاسلامي، والتي أحاطها الاسلام برعاية ملوحظة، واستغرق في تنظيمها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهداً كبيراً، نراه متناثرا في عدة سور من القرآن الكريم. وقد روي في نزلو هذه الآية ان مرثد بن ابي مرثد الغنوي كان يهوى امرأة اسمها عناق في الجاهلية، وأرادت ان تتزوجه بعد ان أسلم فاستشار النبي في ذلك فنزلت هذه الآية، بمعنى: لا تتزوجا الوثنيات حتى يؤمنّ بالله ويصدقن بالرسول الكريم، وهذا أمر قاطع. فان الأمَة المؤمنة خير من المشركة التي لا تدين بدين سماوي. ولو كانت الآخيرة جميلة يعجبكم جمالها. ولا تزوِّجوا الرجال المشركين من المؤمنات الا اذا دخلوا في الاسلام. فان العبد المؤمن خير من المشرك ولو أعجبكم شكله وعزته وماله.
﴿أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ اي ان المشركين يدعون من يعاشرهم الى الشرك الذي يستوجب النار، فيما يدعوكم الله، من اعتزالكم المشركين في النكاح، الى ما فيه صلاحكم ورشادكم فتنالون الجنة والمغفرة.
والخلاصة انه لا يجوز ان نتصل بالمشركين الذين لا يدينون بدين سماوي برابطة الصهر، لا بتزويجهم ولا بالتزويج منهم. واما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات فقد جاء في القرآن الكريم نص واضح على حل الزواج بهن: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾.
الحيض: السيلان، وفي الشرع: دم يخرج من الرحم في مدة مخصوصة. الأذى: الضرر. الحرث: موضع النبت يعني الارض التي تنبت، شبهت بها النساء، لأنها منبت الولد. أنى شئتم: متى شئتم.
كثرت الأسئلة عن مخالطة النساءِ أيام مجيء العادة الشهرية عندهن، وذلك بسبب احتكاك المسلمين في المدينة باليهود وبسبب العادات الموروثة من الجاهلية. فقد كان اليهود لا يقربون المرأة أثناء حيضها، ويعتبرونها نجسة. فلا يجوز للرجل ان يمس جسدها أو يقرب من فراشها، فإن فعل، يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا الى المساء. وان اضطجع معها وهي حائض يكون نجسا سبعة أيام. وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحائض، ولا يؤاكلونها كما كانت تفعل اليهود. اما النصارى فكانت تتهاون مفي أمور الحيض، فكان هذا الاختلاف مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في الاسلام فنزلت الآية...
يسألونك يا محمد عن إيتان الزوجات زمن الحيض فأجبهم: إنه اذى، فامتنعوا عنه حتى يطهُرن، فاذا تطهرن فأتوهن في المكان الطبيعي، (لأنه لو كان يجوز اتيانهن في غيره لما قال تعالى: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ ). ومن نكان وقع منه شيء من ذلك فليتبْ الى الله فان الله يحب التوبة من عباده، وتطهُّرهم من الأقذار والفحش.
وقد أثبت العلم الحديث ان الحيض فيه أذى، اذ يكمون المهبل آنذاك ميدنا مفتوحاً للجراثيم. فالاتصال الجنسي في الحيض يعمل على وصول هذه الجراثيم الى المهبل، فتصيبه بمختلف الالتهابات التي قد تمتد الى الجهاز التناسلي، فتتولد مضاعفات قد تؤدي الى العقم.
وتعود العدوى الى الرجل عن طريق قناته البولية، وقد تمتد الاصابة الى المثانة والحالبين بل الى قاعدة الكليتين، حتى تصاب البروستاتا والخصيتان بما قد ينتج عنه الضعف الجنسي او العقم. والمرأة اثناء الحيض تكون راغبة عن الرجل، فالاتصال الجنسي بها في ذلك الوقت قد يؤثر في أعصابها من هذه الناحية. لذلك علّمنا القرآنُ الكريم ان نعتزل المرأة في وقت الحيض. أما مخالطتها ومسها والأكل معها والنوم في فراشها فكل هذا جائز وغير ممنوع.
﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ...﴾ لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأي وضع شئتم اذا كان ذلك في موضع النسل، قد بيّنا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم، فقدِّموا لأنفسكم الخير الذي امركم به ربكم، واتخذوا عنده به عهداً، لتجدوه حين تلقون ربكم يوم المعاد. واتقوه في معاصيه، واحذروا أن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل أثناء الحيض او بوضعها في غير موضع الحرث. وبشّر المؤمنين يا محمد بالفوز يوم القيامة.
العرضة: المانع. اللغو: ما يقع من غير قصد.
ولا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من عمل الخير والتقوى الاصلاح بين الناس، فاذا حلفتم الا تفعلوا، فكفّروا عن أيمانكم وأتوا الخير، لأن عمل البر أولى من المحافظة على اليمين. فالله لا يرضى ان يكون اسمه حجاباً دون الخير.
وكثيرا ما يتسرع الانسان الى الحلف بالله بأن لايفعل كذا ويكون خيرا، أو ان يفعل كذا ويكونُ شرا، فنهانا الله عن ذلك. وقدج ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري انه قال: «اني والله ان شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتُها»، وروى مسلم عن ابي هريرة عن رسول الله: «من حلف يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفِّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير».
ورأى بعض المفسرين في الآية معنى آخر، وهو النهي عن الجرأة على الله تعالى بكثرة الحلف به، وذلك أن مَن أكثرَ من ذكر شيء في معنى خاص فقد جعله عرضة.
﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ : اي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان اثناء الكلام دون ان تقصدوا به عقد اليمين.. فلا كفارة عليكم فيه، شأن كثير من المزاح. ومِثلُه ان يحلف على الشيء يظنّه ثم يظهر خِلافه، أو يحلف وهو غضبان. ولكنْ يؤاخذكم الله بما نويتم من اليمين على ايقاع فعل أو عدم ايقاعه، وعلى الكذب في القول مع التوثيق باليمين، لهذا عليه الكفارة.. حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال. والله عفور لمن يتوب، حليم يعفو عما لا تكتسبه القلوب.
يؤلون: يحلفون، آلى يؤلي ايلاءً. عزموا الطملاق: صمَّموا في قصده.
للذين يحلفون ان لا يقربوا نساءهم ان ينتظروا اربعة أشهر، فان رجعوا الى نسائهم وحنثوا في اليمين اثناء هذه المدة فان الله يغفر لهم، وعليهم الكفّارة. ان عزموا على الطلاق فان الله سميع لحلفهم وطلاقهم.
والخلاصة: ان من حلف على ترك إتيان امرأته، لا يجوز له ان يمكث أكثر من أربعة أشهر، فإن عاد اليها قبل انقضاء المدة لم يكن عليه اثم، وان أتمها تعيّن عليه أجد امرين: الرجوع الى المعاشرة الزوجية أو الطلاق. وعليه ان يراقب الله فيما يختاره منهما، فان لم يطلِّق بالقول كان مطلِّقا بالفعل، اي انها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم انفه. فاذا كانت المدة أقل من اربعة أشهر فلا يلزمه شيء. وقد فضّل الله تعالى الفيئة، اي الرجوع، على الطلاق، وجعل جزاءها المغفرة منه.
وقد كانت هذه العادة من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب ان يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي مطلّقة ولا ذات بعل. وكان المسلمون في ابتداء الاسلام يفعلون هذا فأزال الله ذلك الضرر عنهم بهذه الآية.
التربص: الانتظار. القرء: الحيض أو الطهر من الحيض. بعولة: جمع بعل وهو الزوج.
وعلى المطلقات اللاتي دخل بهنّ أزواجهن ان ينتظرن ثلاثة حيضات لا يجوز للمرأة منهنّ ان تتزوج قبل انقضائها، وهي العدة. والحكمة في ذلك هي التأكيد من أنها ليست ذات حمل. ولا يجوز لهن ان يكتمن ما خلق الله في ارحامهن من الاولاد، أو دم الحيض.. ذلك ان بعض المطلقات يدّعين ان مدة الحيض طالت فيطالبن بالنفقة عن تلك المدة.
وكانت المرأة في الجاهلية قد تتزوج بعد طلاقها دون ان تنتظر العدة، ثم يظهر انها حبلى من الاول، فتُلحق الولد بالثاني.. وفي هذا اختلاط الأنساب وضياع لحقوق الناس. فلما جاء الإسلام حرّم هذا وشدّد في ذلك بقوله: ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ اي اذا كن صادقات في الايمان بالله واليوم الآخر.
والأزواج أحقّ من غيرهم في ارجاع مطلقاتهم اليهم قبل انقضاء العدة إذا قصدوا الاصلاح وحسن المعاشرة. أما اذا قصدوا الإضرار بالمرأة ومنعها من التزوج حتى تبقى كالمعلّقة، فلا، ويكون الزوج آثماً عند الله.
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف...﴾ ان للرجال والنساء حقوقا الواحد منهم تجاه الآخر وعليهم وعليهن واجبات. «وبالمعروف» تعني ان هذه الحقوق والواجبات موكولة الى اصطلاح ما يجري عليه العرف بينهم وما تعارفوا عليه من آداب وعادات. وقد أجمل النبي ﷺ هذه الحقوق عندما قضى بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ، حيث قضى عليها بخدمة البيت، وعليه بماكان في خارجه من الأعمال.
وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شؤون المنزل وعلى الرجل السعي والكسب في خارجه. ولا يمنع هذا من استعانة اي منهما بالخدم ولا من مساعدة كل منهما للآخر.
أما قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فقد فسرتها الآية الواردة في سورة النساء: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾. فهذه الدرجة هي الرياسة ومسؤولية القيام على المصالح، والانفاق على الأسرة.
ان الحياة الزوجية تقتضي وجود مسؤول يُرجع اليه عند اختلاف الآراء والرغبات حتى لا يعمل كلٌّ ضد الآخر، فتنفَصِم عروة الوحدة الجامعة. والرجل هو الأحق بذلك.
﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فمن عزّته ان أعطى المرأة مثل ما اعطى الرجل من الحقوق بعد ان كانت كالمتاع لدى جميع الأمم. إنه هو الذي رفعها عما كانت عليه في كل شريعة من الشرائع الماضية. فلقد كانت المرأة عند الرومان مثلاً أمَة في بيت زوجها عليها واجبات، وليس لها حقوق.
ويرى الاستاذ سيد قطب ان هذه الدرحة مقيدة في هذا السياق بحق الرجل في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة، كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها.
الامساك بالمعروف: ان يرجع زوجته بقصد المعاشرة الحسنة. افتدت: اي دفعت عن نفسها فدية لتخلصها بها، حدود الله: احكامه. الاعتداء: تجاوز الحد.
شُرع الطلاق في الاسلام حينما تشتد الخصومة بين الزوجين الى حد لا يتجدي فيه محاولة الاصلاح. وقد عُرف الطلاق من قديم، فكان للمرأة عند العرب في جاهليتهم طلاق وعدة ومراجعة في العدة. لكنه لم يكن للطلاق حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق زوجته ثم يطلقها الى غير حد. تطليق فمراجعة ثم تطليق فمراجعة وهكذا، لا يتركها لتتزج غيره فتستريح ولا يثوب الى رشده فحيسن عشرتها، وانما يتخذها ألعوبة في يده.
فأنزل الله تعالى: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والمعنى ان الطلاق المشروع، عند تحقق ما يبيحه، يكون على مرتين، مرة بعد رمة. فاذا ما طلق الرجل زوجته المرة الأولى أو الثانية كان عليه إما ردّها الى عصمته مع احسان عشرتها، وهذا هو الامساك بالمعروف، وإما ان يتركها تنقضي عدتها وتنقطع علاقتها به، وذلك هو التسريح بالاحسان. فان عاد الزوج بعد ان راجعها من الطلاق الثان وطلقها ثالثة حرمت عليه، حتى تتزوج من غيره ويطلقها الأخير وتنقضي عدتها منه. بذلك تكون المدة التي انفصل عنها الأول فيها لا تقل عن ستة أشهر، وبعد ذلك يجوز له ان يتزوجها ان ارادت.
﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً...﴾ الآية لا يحل للرجل ان يسترد شيئاً من صداقٍ أو نفقة أنفقها على زوجته في مقابل طلاقها، ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته وتخاف معه ان تخرج عن حدود الله، فهنا يجوز لها ان تطلب الطلاق مه، وان تعوضه عن تحطيم بيته. وذلك بأن ترد المهر الذي دفعه لها أو بعض النفقة عليها أو كلها.
وهكذا يراعى الاسلا م جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس، ويراعى مشاعر القلوب التي لا حيلة للانسان فيها، ولا يجبر الزوجة على حياة تنفر منها. وفي الوقت ذاته لا يضيع على لرجل ماله بلا ذنب جناه.
وأول حادث حدث في الاسلام من هذا القبيل أن جميلة بنت أُبَيّ بن سلول كانت زوجة لثابت بن قيس، وقد جاءت الى رسول الله وقالت له: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا، إاني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبلَ في عندة من الرجال فاذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة، وأقبحشهم وجها. وقال ثابت: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي، حديقة، فلترد على حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم، وان شاء زدته. ففرق النبي بينهما. وهذا معنى قوله تعالى ﴿أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ وهو ان يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك حلّ له ان يأخذ ما اعطته من فدية على فراقها.
130
هذا ما سماه الفقهاء «خلعا» وهو طلاق، عدته كعدته.
تلك حدود الله، أوامره ونواهيه، فلا تتجاوزوا ما أحلّه لكم الى ما حرمه عليكم. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم. والذي يظلم زوجته يكون قد خان امانة الله. وظلم بذلك نفسه. والرابطة الزوجية امتن الروابط وأحكمها، وهي أساس بناء المجتمع. ولقد حذّر النبي الكريم النساء من الإساءة الى أزواجهن، فقد روى احمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان انه ﷺ قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة».
131
لقد دخل تفسير هذه الآية الكريمة في الآيى التي قبلها «الطلاق مرتان..» وملخصه: إن من طلّق زوجة مرّتين بعدهما رجعتان ثم طلقها ثالثة حَرُمت عليه حتى تتزوج من غيره ويطلقها الأخير فتعتد منه.
بلغن اجلهن: آخر عِدتهن.
ولا تمسكوهن ضِراراً: أي قصدَ الإضرار بهن.
واذا طلقتم النساء وقرب انتهاء عدتهن، فاعزموا احد الأمرين: امساك بالمعروف، قاصدين اقامة العدل وحسن العشرة. أو طلاق بالمعروف حتى تذهب المرأة في حال سبيلها. ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا. اذ لا يجوز ان يكون القصد من المراجعة إلحاق الضرر بها حتى تلجئوهنا الى افتداء نفسها. من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه في الدجنيا. بسلوك طريق الشر وحرمان نفسه سعادة الجياة الزوجية. واستحق سخط الله عليه.
﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾
وفي هذا وعيد لمن يتهاون في الأحكام التي شرعها الله لعباده.
﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ بتنظيم الحياة الزوجية تنظيما عاليا، وبما انزل عليكم من كتاب مبين للرسالة المحمدية وما فيها من حكم وقصص تتعظون بها وتهتدون.
﴿واتقوا الله﴾ بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية.
﴿واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يُسرّ العبد أو يعلنه وهو مجازيكم بما كنتم تعلمون.
فلا تعضلوهن: لا تمنعوهن عن الزواج. أزكى: أطهر.
كان من عادات العرب في الجاهلية ان يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوّج المرأة الا وليُّها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها ممن تحب، ولمصلحته هو.
اخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن معقل بن يسار قال: كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها أياه. فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها. ثم خُطبت إلي فأتاني مع الخُطاب يخطبها، فقله له: خُطبت إليّ فمنعتها الناس فآثرتك. ثم إنك طلقتها طلاقا لك فيه رجعة. فلما خُطبت إليَ أتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا ترجع إليك أبدا.
وكان لا بأس به، وكانت المرأة تريد ان ترجع اليه، فعلم الله حاجته اليها وحاجتها الى بعلها فأنزل الله الآية. قال/ ففيَّ نزلت، فكفّرت عن يميني وأنكحتها اياه.
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا اذا طلقتم النساء وانقضت عدتهنّ وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهنّ وأردن هن ذلك فلا تمنعوهن من الزواج. هذا اذا رضي كل من الراجل والمرأة بالآخر زوجا، على حسن العشرة. ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر، وهو أدعى الى تنمية العلاقات الشريفة في مجتمعكم وأطهر في نفوسكم من الادناس والعلاقات المريبة. والله يعلم من مصالح البشر وأسرار نفوسهم ما لا تعلمون.
الحول: العام. الوسع: ما تتسع له القدرة. الفصال: الفطام.
على جميع الوالدات، مطلقات او غير مطلقات، أن يرضعن أولادهن مدة سنتين كاملتين، ويجوز انقاص هذه المدة برضى الوالدين اذا رأيا ذلك من مصلحة المولود.
والآية تفيد وجوب الإرضاع على الأم ولا يكون الاسترضاع الا حيث لا يمكنها ذلك. وقد اتفق الفقهاء على وجوب الإرضاع عليها ديانةً، لأن لبن الأم هو الغذاب الأمثل للمولود. والرضاعة تفيد الام ولا تضرها الا في أحوال شاذة يقررها الطبيب الامين الموثوق.
والفطام الطبيّ يكون تدريجيا، ويجوز أن يفطم الصغير لأل من عامين كما قدمنا اذا كانت صحته تعاونه.
﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ بما ان الوالدات حملن للوالد وأرضعن له، فعليه ان ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة، وذلك ليقمن بحق الولد ويحفظنه ويرعينه. ويكون ذلك الانفاق حسب البيئة التي تعيش فيها المرأة ولا تلحقها منه غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه. وهو على قدر طاقة الوالد بلا إسراف ولا تقتير.
﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ولا ينبغي ان يكون ذلك الانفاق سبباً في إلحاق المولود ضرراً بأمه بأن يهضم حقها في نفقتها، ولا سبباً في الحاق الضرر بأبيه بأن يكلَّف فوق طاقاته. واذا مات الأب او كان فقيراً عاجزا عن الكسب كانت النفقة على وارث الولد لو كان له مال. فان رغب الوالدان بالتراضي في فطام الطفل قبل تمام العامين فلهما ذلك، لأنهما صاحبا الحق المشترك في الولد. وان شئتم أيها الآباء ان تتخذوا مراضع للأطفال غير امهاتهم فلا مانع من ذلك اذا أرديتم لهن الأجور المتعارف عليها لأمثالهن، والا فإن المرضع لن تهتهم بالطفل ولا بارضاعه، ولا نظافته. واتقوا الله فلا تفرّطوا في شء من هذه الأحكام وراقبوه في اعمالكم، واعلموا انه مطلع عليها مجازيكم بها.
القراءات:
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب «لا تضار» بالرفع.
والذين يُتوفون منكم ايها الرجال ويتركون زوجات لهم، فعلى الزوجات ان يمكثن بعدهم دون تعرض للزواج مدة اربعة اشهر وعشر ليال قمرية. وذلك حتى يَتبين ان هذه غير حامل. وكانت المرأة في الجاهلية تلقى الكثير من العنت من الأهل والناس بعد وفاة زوجها. كانت اذا ترمّلت دخلت مكاناً رديئاً ولبست شر ثيابها ولم تمسّ طيباً ولا زينة طيلة سنة. وبعد ذلك تخرج، وتقوم بعمل بعض الشعائر السخيفة فتأخذ بعرة وتقذفها، وتركب دابة، وأشياء أخرى مثل هذه السخافات. فلما جاء الاسلام خفف عنها وجعل المدة اربعة أشهر وعشرة أيام. فاذا انتهت المدة فلا يجوز لأحد ان يمنعها ان تمارص عملها، وتتزوج من تشاء. ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ اي محيط بدقائق اعمالكم. فاذا جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع الشريف صلحت أحوالكم وسعدتم في دنياكم وأحسن الله جزاءكم في أُخراكم.
لا جناح: لا اثم. خطبة النساء، بكسر الخاء: طلب الزواج منهنّ. أكْنَنْتُم: أخفيتم.
ولا اثم على الرجال ان يلمّحوا للمرأة أثناء العِدة بالرغبة في الزواج، ولا فيما يكتمه الرجل في نفسه من رغبة في الزواج من المرأة، اثناء عدّتها. ان الله يعلم ان الرجال لا يصبرون عن التحدث في شأنهن، ولهذا أباح التعريض دون التصريح. ولكن لا يجوز ان تواعدوهن على الزواج سراً، فإن المواعدة على هذه الحال مظنّةٌ للقيل والقال.
﴿إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ لا يستحي منه أحد من الناس. فقد أخرج الطبري عن ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته سكينة بنت حنظلة، قالت: دخل عليَّ محمد بن علي زين العابدين (المعروف بالإمام الباقر) وانا في عِدّتي فقال: يا ابنة حنظلة انا من علمتِ قرابتي من رسول الله، وحقّ جدّي عليٍّ وقدمي في الاسلام. فقلت: غفر الله لك يا ابا جعفر، اتخطبني في عدتي، وانت يؤخذ عنك؟ قال: أوَقد فعلت؟ انا اخبرتك بقرابتي من رسول الله وموضعي. وقد دخل رسول الله على أم سلمة بعد وفاة زوجها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله فما كانت تلك خِطبة.
﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ ولا تبرموا عقد الزواج حتى تنقضي العدة. واذا وقع العقد فانه يكون باطلا. واعلموا ان الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا ولا تقدموا على ما نهاكم عنه، ولا تيأسوا من رحمته ان خالفتم، إنه واسع المغفرة حليم لا يعجَل بالعقوبة امهالاً لإصلاح زلاّتكم.
لا جناح: لا حرج، ولا تبعة. مال تسموهن: ما لم تدخلوا بهن. الفريضة: المهر. متعوهن: اعطوهن عطية ينتفعن بها. الموسع: الغنيّ. الفقير. متاعاً: حقاً ثابتا. المعروف: ما يتعارف عليه الناس. الذي بيده عقدة النكاح: الزوج. الفضل: المودة والصلة.
مازال الحديث في قضايا الطلاق، وهنا يوضح لنا سبحانه وتعالى حالتين من صور الطلاق قبل الدخول:
الأول: لا ذنب عليكم ان طلّقتم النساء من قبل ان تدخلوا بهن أو تفرضوا لهن مهرا، فإن حدث ذلك من احدكم فلميتّع المرأةَ بعطيّةٍ منه على قدر طاقته، الغني بحسب قدرته ومروءته، والفقير كذلك.
وهذه المتعة واجبة للمطلَّقة قبل الدخول التي لم يسمَّ لها مهر. والحكمة في شرعها ان في الطلاق قبل الدخول سوءَ سمعة للمطلقة، فاذا هو اعطاها عطية قيّمة تزول هذه الغضاضة، وتكون شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبله هو ولا علة فيها.
الحالة الثانية: اذا عقد رجل على امرأة وسمى لها مهرا ثم طلقها قبل ان يدخل بها، فيجب عليه في هذه الحالة ان يدفع لها نصف المهر المسمّى. ثم يترك القرآنُ الأمر بعد ذل للمروءة والسماحة والفضل، فللزوجة ان تعفو اذا ارادت وتتنازل عن حقها أو بعضه، وللزوج ان يعفو عن باقي المهر، وحينئذ تأخذ الزوجة المهر كاملا.
ثم أتبع ذلك تعالى بعبارات رقيقة جميلة ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ﴾ فيحث على استبقاء المودة بأن يتسامح الطرفان ويعفوا عن هذه المادة الزائلة حتى تبقى القلوب صافية نقية موصولة بالله. وختم الله الآية بقوله: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
القراءات:
قرأ حمزة، والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان «قدره» بفتح الدال.
الوسطى: الفضلى. تأتي بمعنى المتوسط بين شيئين. قانتين: خاشعين لله ذاكرين.
في اثناء الكلام على تنظيم الأسرة يذكّرنا تعالى بالمحافظة على الصلاة، عماد الدين، فيقول: داوِموا على الصلوات الخمس جميعا وحافظوا عليها. ثم إنه أكد على الصلاة الوسطى وهي صلاة العصر، لأنها في أواخر النهار حين ينتهي الإنسان من عمله اليومي فيقف بين يدي الله متضرعاً للخير وشاكرا على ما رزقه ووفّقه. وقيل في الصلاة الوسطى هي الظهر والمغرب والعشاء والفجر، وكلها بين صلاتين.
وهناك من قال ان الصلاة الوسطى هي الصلاة الفضلى المتقنة التي أقيمت وأُديت على أحسن وجه.
﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي خاشعين منصرفين بكل مشاعركم. وقد روى احمد والشيخان عن زيد بن أرقم قال: «كنا يكلّم الرجل منا صاحبه وهو الى جنبه في الصلاة، حتى نزلت الآية ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
فان أدرك وقت الصلاة في مكان فيه خوفٌ من عدوّ أو لص، وخفتم على أنفسكم أو اموالكم فلا تتركوا الصلاة، بل صلّوها كيفما تيسَّر لكم، مشاة أو راكبين، فاذا زال الخوف عنكم فصلّوا الصلاة على أصولها، واذكروا الله كما علّمكم على لسان نبيكم.
يذرون: يتركون. وصية: أي يوصون وصية.
وعلى الذين يُتوفون منكم ويتركون زوجات لهم بعدهم، أو يُوصون لهن ان يٌقمن في بيت الزوجية مدة عام كامل، لا يجوز لأحد ان يخرجهن منه في ذلك العام... عليهم ان يوصوا لهن بشيء من المال في تلك المدة.
فإن خرجن من تلقاء أنفسهن قبل ذلك فلا اثم عليكم ايها الاولياء أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهن بما لا ينكره الشرع، والله عزيز غالبٌ على أمره. يعاقب من خالفه، وحكيمٌ يراعي في احكامه مصالح العباد.
وللنساء اللاتي يطلَّقن بعد الدخول حقٌ في ان يعطَين ما يتمتعن به من المال، جبراً لخاطرهن، يُدفع إليهن بالحنسى على قدر حال الزوج.
والخلاصة المطلَّقات أربعة أصناف.
١) مطلقة مدخول بها وقد فُرض لها مهر، وهذه لها كل المهر المفروض.
٢) مطلقة غير مدخول بها ولم يسمَّ لها مهر، وهذه يجب لها المتعة بحسب حال الزوج، ولا عدة لها.
٣) مطلقة مفروض لها مهر وغير مدخول بها. ولها نصف المهر المسمى، ولا عدة لها.
٤) مطلقة مدخول بها غير مفروض لها مهر. وهذه تأخذ مهر مثيلاتها من اسرتها وقريباتها.
هكذا يبين الله لكم آياته بما فيها من التشريعات المحققة للمصحلة لتتدبروها وتعلموا بما فيها.
القراءات:
قرأ ابو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم «وصية» بالنصب، وقرأ الباقون «وصية» بالرفع.
مر بنا كثير من القصص الأمم السابقة، اختارها سبحانه وتعالى لينبه الناس الى ما فيها من العبر. وقد وردت هذه القصص مجملة مختصرة مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقاها أباً عن جد، ومثل قصص ابراهيم وأنبياء بني اسرائيل، والتي كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطتهم اليهود في قورن كثيرة.
وهنا يقص علينا القرآن خبر قوم لم يسمّهم ولم يَرِدْ فيهم خبر صحيح. وقد قال عدد من المفسرين ان هذا مثلٌ ضربه الله لا قصة واقعة. والمقصود منه تصحيح التصور عن الحياة والموت، وحقيقتهما الخافية، وردّ الأمر فيهما الى قدرة الله، والمضيّ في حمل التكاليف والواجبات.
روي عن ابن عباس ان الآية عُني بها قوم كثيرو العدد خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد فأماتهم الله، ثم أحياهم، وأمرهم ان يجاهدوا عدوهم. فكأن الآية ذُكرت ممهدةً للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾. وعلى هذا يكون معناها: ألم تعلم يا محمد هذه القصة العجيبة؟ وهي حالة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد خشية الموت، فقضى الله عليهم بالموت والهوان من أعدائهم. حتى إذا استبسلت بقيتهم وقامت بالجهاد أحيا الله جماعتهم به.
والخلاصة ان موت الأمة يكون بتسليط الأعداء عليها والتنكيل بها، جزاء تخاذلها وتفرقها كما هو حاصل للعرب اليوم. اما إحياؤها فيكون بفعلٍ جماعة مؤمنة من أبنائها تسترد قواها وتعيد لها ذلك المجد الضائع والشرف المسلوب. وهو أيضاً حاصل للعرب.
والأمر بالجهاد هنا يوضح أن الآية السابقة جاءت مثلاً للتذكير وتفهيم الناس ان الجبن والبخل والخوفَ مِن مسببات ضعف الأمم وموتها. فاذا علمتم يا أيها الناس ان الفرار من الموت لا ينجي منه، فجاهدوا في سبيل الله، وابذلوا أنفسكم لإعلاء كلمته، واعلموا ان الله يسمع ما يقول المخلفون منكم وما يقول المجاهدون.
بما ان الجهاد يحتاج الى المال، وقد أمر سبحانه في الآية السابقة بالجهاد فقد حث هنا على بذل المال فيما يُعين عليه. والله تعالى يقول: ان المال الذي ينفَق في سبيل الله لا يذهب سدى، بل هو دَين عند الله، يضمنه ويضاعفه أضعافاً كثيرة، في الدنيا مالاً وبركة وسعادة، وفي الآخرة نعيماً مقيماً في جنات الخلد.
﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ هو الذي يعطي ويمنع، يضيّق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين. لذلك لا تبخلوا في الانفاق في سبيله بما وسّع عليكم، واعلموا ان المنفِق في هذا السبيل انما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها. والاسلام دين التكافل الاجتماعي بحق، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ والحديث الشريف «مَثَل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» الى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وعندها يوفي الله كل انسان بحسب ما قدم من خير أو شر.
القراءات:
قرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر «يبصط» بالصاد، ومثلَ ذلك في سورة الأعراف في ﴿وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَسْطَةً﴾.
الملأ: القوم. كتب: فرض. اصفطاه: اختاره. السعة: الغنى. البسطة في الجسم: العِظم والضخامة.
يبين لنا الله تعالى هنا في هذه القصة، كما في معظمم الآيات المتعلقة باليهود، نفسية بني إسرائيل وتعنتهم. فبعد موسى اجتمع أهل الرأي فيهم الى نبي لهم لم يسمّه القرآن وطلبوا اليه ان ينصّب علهيم ملكاً ليقاتلوا تحت رايته. فقال لهم نبيهم وقد أراد ان يستوثق من صدق عزيمتهم: الا يُنتظر منكم ان تجبُنوا عن القتال اذا فرض عليكم؟ فأنكروا ان يقع ذلك منهم قائلين: وكيف لا نقاتل لاسترداد حقوقنا وقد أخرجَنا العدوّ من أوطاننا، وتركْنا أهلنا وأولادنا! فلما أجاب الله رغبتهم وفرض عليهم القتال أعرضوا عنه وتخلّفوا، الا جماعة قليلة منهم.
وكان إعراضهم وتخلفهم هذا ظلماً منهم لأنفسهم ونبيِّهم ودينهم، والله عليم بالظالمين.
وقال لهم نبيّهم: ان الله استجاب لكم فاختار طالوت ملكاً عليكم. فاعترض كبراؤهم على اختيار الله قائلين: كيف يكون طالوت ملكاً علينا ونحن أولى منه! انه ليس بذي نسب، فليس هو من سلالة الملوك ولا النبوة، وليس له مال. وهذا هو مقياس الأولوية عندهم.
فردّ عليهم نبيهم قائلا: ان الله اصطفاه من بينكم لأن فيه صفات ومزايا أهمَّ من المال والنسب. وهي السعة في العلم، للتدبير وحسن القيادة، والخبرة بشؤون الحرب وسياسة الحكم، مع قوة الجسم. السلطانُ بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ولا يعتمد على وراثة أو مال، والله واسع عليم.
التابوت: صندوق فيه التوراة. السَّكينة: ما تسكن اليه النفس ويطمئن به القلب. يطعمه: يذوقه. الطاقة: أدنى درجات القوة. الفئة: الجماعة.
في هذه الآيات الكريمة بقية قصة النبي الاسرائيل الذي لم يُسّمَّ مع قومه، فقد قال لهم: ان دليل صدقي على ان الله اختار طالوت ملكاً عليكم هو ان يأتيكم بالتابوت الذي سُلب منكم تحمله الملائكة، وفي هذا التابوت بعض آثار آل موسى وآل هارون كالتوراة والعصا والألواح وأشياء أخرى توارثها علماؤكم. وفي ذلك علامة على عناية الله بكم، ان كنتم مؤمنين.
فلما خرج طالوت من البلد يصحبُه جنوده الكثيرون عطشوا، فقال لهم طالوت: ان الله مختبركم بنهرٍ في طريقكم، فلا تشربوا منه بل اغرفوا بأيديكم قليلا منه فقط، فمن شرب منه أكثر من غَرفة فانه ليس من جيشنا، لخروجه عن طاعة الله فلم يصبروا على هذا الاختبار وشربوا إلا جماعهة قليلة صبرت وأطاعت. فاصطحب طالوت هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر. فلما ظهرت لهم كثرة عدوّهم قالوا: لن نستطيع اليوم ان نقاتل جالوت وجنوده، لكثرتهم وقلّتنا. فقال نفر منهم ثبَّتَ الله قلوبهم: لا تخافوا، كم من جماعة قليلة مؤمنة غلبت جماعةً كثيرة كافرة بإذن الله، والله مع الصابرين.
وقد دعوا الله عندما برزوا اللحرب أن يثّبت أقدامهم، وينصرهم على أعدائهم الكافرين. فهزوا عدوّهم بإذن الله تعالى. وكان في الجيش داود النبي فقتل جالوتَ قائ الكفار، وأعطاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء.
تلك آيات الله نقصّها عليك أيها الرسول الكريم بالحق والصدق لتكون لك أسوة ودليلاً على صدق رسالتك، ولتعلم أننا سننصرك كما نصرنا مَن قبلك من المرسلين، كيما علم بأن الكثرة لا قيمة لها اذا لم تكن منظمة مؤمنة، وان الايمان بالله والعمل الصادق هما القوة الحقيقية.
القراءات:
قرأ ابن عامر والكوفيون: «غرفة» بالضم، الباقون: «غرفة» بالفتح.
هؤلاء الرسل المشار اليهم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ فضّلنا بعضهم معلى بعض في مراتب الكمال، ومع انهم كلَّهم رصل الله، وهم جديرون ان يقتدى بهم، ويهتدى بهديهم فقد امتاز بعضهم عن بعض بخصائص: في أنفسهم، وفي شرائعهم وأممهم. فمنهم من كلّمه الله مثل موسى، ومنهم من رفعه الله الى درجات الكمال والشرف مثل محمد، الذي اختص بعموم الرسالة، وكمال الشريعة وختم الرسالات. وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، وأمددناه بالمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيدناه بروح القُدس.
وقد جاء هؤلاء الرسل بالهدى ودين الحق. وكان مقتضى هذا ان يؤمن الناس جميعا، ولا يختلفوا ولا يقتتلوا. ولو شاء الله ما فعلوا، ولكن الله لم يشأ ذلك. لهذا اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. والله يفعل ما يريد لحكمة قدّرها.
خلة: صداقة ومودة.
يا أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، أنفقوا من بعض ما رزقكم الله في وجوه الخير، فهو الذي ينجيكم يوم القيامة، يوم لا تستطيعون ادراك ما فاتكم في الدنيا، ولا بيع ولا شراء، يوم لا تنفع صداقة ولا شفاعة دون اذن الله، ولا يستطيع احد ان يفدي احدام. إن الكافرين هم الذين ظهر ظلمهم يومذاك، ولسوف يندمون على ما علموا حيث لا تنفع الندامة.
القيوم: الدائم القيام بتدبير خلقه. لا تأخذه: لا تستولي عليه. سنة: فتور يتقدم النوم، نعاس. الكرسي: إما العرش، أو العِلم الالَهي. يئوده: يثقله.
في هذه الآية الكريمة التي اشتهرت باسم آية الكرسي تقرير أصول الدين في توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب طاعته، والوقوف عند حدوده. وقد جمعت هذه الآية أصول الصفات الالَهية ايضاً، فهو واحد حيّ، قيُّوم لا يصيبه نعاس ولا نوم، له ما خفي من العالم وما بطن، مطلق التصرف لا يَرُدُّ حُكمه شفيع، عالم بخفيّات الأمور لا يستطيع أحد ان يدرك شيئاً من علمه الا ما أراد ان يُعلم به من يرتضيه، وسع علمُه كل شيء في السموات والأرض، ولا يشقّ عليه حفظهما وتدبيرهما، وهو العلي العظيم.
وانها لآيةٌ تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعاً للغرور بالشفعاء. هي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة. وقد ورد في حديث أخرجه الإمام احمد عن أسماء بن يزيد «إنها أعظم آية في كتاب الله وانها مشتملة على اسم الله الأعظم».
تبين: ظهر ووضح. الرشد: بالضم والرشد، والرشاد: الهدى وكل خير. الغي: الجهل. الطاغوت: الشيطان، وكل ما يُعبد من دون الله. العروة، من الدلو أو الكوز، مقبضه. الوثقى: الوثيقة المتينة.. والمراد بها هنا الايمان بالل. الانفصام: الانقطاع، والانكسار.
لا يُكره احد على الدخول في الاسلام، فقد وضح طريق الحق والهدى من طريق الغي والضلال. فمن هداه الله لأن يدخل في الدين ويكفر بالأوثان وكل ما سِوى الله، فقد استمسك بأمتن وسائل الحق، التي لا تنقطع، كما اعتصم بطاعة الله فلا يخشى خذلانه إياه عند حاجته اليه في الآخرة.
وهذه الآية من أكبر الحجج التي تبيّن عظمة الإسلام، فهي نص صريح على ان مبدأه هو حرية الاعتقاد. وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام ارادته ومشاعره. لقد ترك أمره لنفسه فيما يختص في الاعتقاد. وحرية الاعتقاد هي أو حقوق الانسان. ومع حرية الاعتقاد هذه تتمشى الدعوةى للعقيدة. ان الإسلام هو الدين والوحيد الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، والذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه غيرهم على اعتناقه.
روى الطبري عن ابن عباس ان رجلاً من الأنصار يقال له الحصيني كان له ابنان نصرنيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي: ألا أُكرهمما على الاسلام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
اما الذين يقولون ان الاسلام قد انتشر بالسيف، فإنهم من المغرضين المفترين على الله. ذل أن الجهاد في الإسلام انما فُرض لرد الاعتداء ولحماية العقيدة، لا ليكرِه أحداً على الإسلام.
الله متولي شئون المؤمنين، يخرجهم من ظلمات الشك والجهل والحيرة المؤدية الى الكفر، الى نور الحق والاطمئنان وهو الإيمان. والكافرون أولياؤهم الشياطين ودعاة الشر والضلال، يخرجهم من امكانية تقبّل نور الإيمان الى واقع ظلمات الكفر والضلال. انهم أهلُ النار هم فيها خالدون.
حاج: جادل. بهت: انقطع وسكت متحيرا.
ألم ينته الى علمك يا محمد قصة ذلك الملك الجبار الذي ادعى الربوبيّةَ وجادل ابراهيم خليل الله، في الوهية ربه ووحدانيته. لقد أبطره الملك فحمله على الاسراف والاعجاب بقدرته، حتى جادل ابراهيم، فعندما قال له ابراهيم: ان الله يحيي ويميت، وذلك ينفخ الروح في الجسم واخراجها منه قال الملك: أنا أيضاً أحيي وأميت، أعفو عمن حُكم عليه بالاعدام فأحييه، وأميت من شئت إماتته فآمرُ بقتله.
فقال ابراهيم ليقطع مجادلته: ان الله يُطلع الشمس من المشرق، فان كنت تستطيع ان تغير شيئاً من نظام هذا الكون فأطعل لنا الشمس من المغرب. عند ذاك بُهت الملك وانقطع، وسكت متحيرا. ومع هذا بقي على غيه وضلاله وقال: ان هذا انسان مجنون فأخرِجوه، ألا ترونه قد اجترأ على آلهتكم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين الى اتباع الحق.
القراءات:
قرأ حمزة «رب» بحذف الياء. وقرأ نافع «أنا» من غير ان يمد الألف.
القرية: معروضة، وقد تطلق على البلد الكبير. وهنا لم يحدد مكانها، ولم يرد خبر صحيح عن مواضعها. خاوية على عروشها: خالية وساقطة على سقوفها. ويقال العروش هي الأبنية أيضا. لم يتسنّه: لم يتغير ولم يفسد ننشزها: نجعلها ترتفع، ثم نكسوهنا اللحم.
في هذه الآية الكريمة والتي بعدها يعرض علينا الله سبحانه وتعالى أسرار الحياة والموت. فالموتُ نتيجة حتيمة لهذه الحياة، بل هو ظاهرة طبيعية مكلمة لصفات الكائن الحي. فكما تتصف الأحياء بالنمو والتكاثر والحركة تتصف أيضاً بالضعف والفناء.
وبين الآية السابقة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهذه الآيةِ عطف. فيقول: ألم تعلم بهذه القصة العجيبة، قصة ذلك الرجل الذي مر على قرية متهدمة سقطت سقوفها وهلك أهلها، فقال متعجبا: كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم! وكيف تعمرُ هذه القرية بعد خرابها! فأماته الله مائة عام، ثم بعثه حتى يبيّن له سهولة البعث على الله. وبعد ذلك سُئل: كم المدة التي لبثْتَها ميتا؟ قال، وهو لا يعلم: قد مكثت يوما أو بعض يوم. فقال له الله: بل مكثتَ مائة عام. ثم وجّه نظره الى أمر آخر من دلائل قدرته فقال لهك انظر الى طعامك لم يفسد ولم يتغير، وكذلك شرابك. وانظر الى حمارك أيضاً كيف نخرتْ عظامه وتقطعت أوصاله حتى تستيقن طول المدة الي مكثتها وتؤمن بالإحياء بعد الموت. ولنجعلَكَ آيةً ناطقة للناس بالبعث. انظر الى العظم نركّبه ونجعله ينمو ثم نكسوه اللحمن ثم ننفخ فيه الروح فتتحرك.
لقد أطلعناك على بعض آياتنا الدالة على قدرتنا على البعث، لتعلم ان الله تعالى قادر على ان يعيد العمران للقرية ويعرها بالناس والحيوان. وأن ذلك القادر على الإحياء بعد مائة عام وهو قادر عليه بعد آلاف السنين. و ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾. فلما ظهر له إحياء الميت عياناً قال: إن الله على كل شيء قدير.
القراءات:
قرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بغير الهاء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «ننشرها» بالراء المهملة من أنشر، وقرأ حمزة والكسائي: «اعلم» بصيغة الأمر.
بَلى: نعم. صرْهن: اضممهن. سعيا: مسرعات.
وهذه الآية تتعلق بالحياة والموت أيضاً.
واذكر يا محمد قصة ابراهيم يوم قال لربه: أرني يعيني كيف يكون إحياء الموتى، فقال له تعالى: أَوَلمْ تؤم بأني قادر على إحياء الموتى. ؟ قال: بلى، علمت وصدّقت، ولكن ليزداد إيمامني ويطمئن قلبي. قال: خذ أربعة من الطير الحي فضمها اليك ثم جزِّئهنّ بعد ذبحهن واجعل على كل جبل من الجبال المجاورة جزءا، ثم نادهن فسيأتِينَك مسرعات وفيهن الحياة كما كانت، واعلم ان الله لا يعجز عن شيء وهو ذو حكمة بالغة في كل شيء.
وهذه الأمور من المعجزات التي لا تحدث الا على أيدي الأنبياء. ولو أننا أنعمنا النظر يومياً فيما حولنا لرأينا كثيرا من المعجزات في أنفسنا وفي نظام هذا الكون والحياة، لكنّا ألفنا هذه الأشياء، وأصبحت عندنا أمورا عادية. ان كثيرا من المخترعات الحديثة لو أخبرنا عنها أحدٌ قبل مدة من الزمن لما صدقناه، مع أنها من صنع الانسان، فكيف بقدرة الله جل وعلا!
القراءات:
قرأ حمزة ويعقوب «فصرهن» بكسر الصاد، وهي لغة أيضاً. وقرأ أبو بكر «جُزوا» بالواو.
مر في الآيات المتقدمة الكلام على الحياة والموت والبعث، وان الانسان لا ينفعه بعد الموت الا ما قدّم من عمل صالح، وفي هذه الآيات وما يتلوها الى آخر السورة تقريباً يبين الله تعالى لنا قواعد النظام المالي والاقتصادي الاسلا مي.
مثَل الذين ينفقون المال يبتغون به اللله وحسن ثوابه كمثل من يزرع زرعاً طيباً فتُنبت الحبة الواحدة منه سبع سنابل في كل سنبلة منها مائة حبة. وهذا تصوير جميل لكثرة ما يعطيه الله من الأجر على الانفاق في الدنيا، والله يضاعف عطاءَه لمن يشاء ويزيد.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الانفاق. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ. في الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم يضاعَف، الحسنة بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف، الا الصوف فإنه لي وأنا أَجزي به».
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة».
المن: ان يعُدَّ فاعل الخير ما فعله لمن أحسن إليه كأن يقول أعطيتك كذا وكذا، وهو تكدير وتعيير. الأذى: ان يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه. قول معروف: كلام جميل. رئاء الناس: مراءاة لأجلهم. صفوان: حجر أملس. الوابل: المطر الشديد. صلد: أملس.
في هذه الآيات يعلّمنا الله آداب الصدقات، بأن نؤديها عن طيب نفس ودون ان نمنّ على الذين تصدق عليهم ولا نؤذيهم، وان الكلام اللطيف الرقيق خير من الصدق التي يتبعها أذى للمتصدَّق عليهم، فالله غني عن صدقة يأتي بعدها الأذى والمن والتنكيد.
وقد حث القرآن الكريم على الصدقات والتصرف بالمال وانفاقه عن طيب نفس في آيات كثيرة، وذلك حتى يقوم المجتمع على أساس التكافل مع الأُخوة والمحبة، فيضل مجتمعاً سليماً متكافلا.
ان الذين يبذلون أموالهم في وجوه الخير المشروعة ولا يمنّون أو يتفاخرون على المحسَن اليهم، ولا يؤذيهم بالكلام الجارح والتطاول لهم عند ربهم ثواب لا يقدَّر قدره، ولا خوف عليهم حيث الناس، ولا هم يحزنون يوم يحزن البخلاء الممسكون.
هذا، وكلام طيب وردٌّ جميل على السائل تَطيب به نفسه لهو أنفع لكم وأعظم فائدة من صدقة فيها الأذى. والبشاشة في وجهه خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو المقابلة. ان الله غني عن صدقةعباده، فهو لا يأمرهم ببذل المال لحاجة منه اليه، ولكن ليطهّرهم ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح شئونهم الاجتماعيّة.
ثم أقبل تعالى يخاطب المؤمنين وينهاهم نهياً صارماً عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ اي لا تضيعوا ثوب صدقاتكم باظهار فضلكم على المحتاجين اليها، فتكونوا كمن ينفقون أموالهم رياءَ أمام الناس، بدافع الشهرة وحب الثناء. ان حال هؤلاء المرائين مثلُ حجر أملس عليه تراب، نزل عليهن مطر شديد، فأزال التراب وتركه صلداً لا خير فيه. وكما أن المطر الغزير يزيل التراب الّذي ينبت فيه الزرع عن الحجر، فإن المن والأذى والرياء تبطل ثواب الصدقات. والله لا يهدي القوم الكافرين الى ما فيه خيرهم ورشادهم.
وفي هذا تعريض بأن الرئاءَ والمن والأذى على الانفاق لهي من صفات الكفار، فعلى المؤمن ان يتجنب هذه الصفات.
مرضاة الله: طلب رضوانهن. تثبتا من أنفسهم: لتمكين أنفسهم من مراتب الايمان والاحسان. الربوة: المكان المرتفع من الارض. آتت أُلكها: اثمرت واعطت انتاجها الجيد.
بنعد ان ذكر سبحانه حال الذين ينفقون أموالهم رياء ثم يمنِّنون ويؤذون من أحسنوا اليهم ذكر في هذه الآية الكريمة حال المؤمنين الصاديقن الذين ينفقون أموالهم اتبغاء رضوان الله تعالى، وتمكيناً لأنفسهم في مراتب الايمان. وقد جعلهم مثلَ بستان في أرض مرتفعة خصبة أصابه مطر جيد كثير فأعطى من الثمرات ضعفين، وحتى لو جاءه مطر خفيف فانه يكتفي بذلك المطر.
وهكذا حال المؤمن الجواد المنفق، ان أصابه خير كثير تصدّق وأنفق بسخاء عن طيب خاطر، وان أصابه خير قليل انفق بقدر ما يستطيع.. فخيره دائم وبره لا ينقطع.
القراءات:
قرأ ابن عامر وعاصم «بربوة» بفتح الراء كما هو هنا والباقون «بربوة» بضم الراء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «اكلها» بتسكين الكاف.
الجنة: البستان: الربوة: المرتفع من الارض. الاعصار: ريح شديدة عاصفة دوّامة.
أيحب احد منكم ان يكون له بستان فيه نخل واعناب، تجري بين أشجاره الأنهار فتسقيها، وقد أثمر من كل الثمرات الطيبة، والرجل عجوز أوهنته الشيخوخة وعنده أبناء صغار لا يقدرون على الكسب! وفي حين يرجو الرجل ان ينتفع من ارضه هذه اذا بإعصار فيه نار يحرقها عن آخرها! اذ ذاك يبقى هو وأولاده حيارى لا يدرون ما يفعلون.
كذلك شأن من ينفق ويتصدق ثم يُتبع الصدقة بالمنّ والأذى. انه يبطل ثوابه. وهو يأتي يوم القيامة وهو اشد حاجة الى ثواب مابذل، لكنه يجد امامه اعصار الرياء والمن والأذى قد احرق صدقاته وجعلها هباء منثورا. بثمل هذه الأمثال الواضحة بيبن الله لكم اسرار شرائعه وفوائدها لتتفكروا فيها وتعتبروا بها.
لا تيمّموا: لا تقصدوا. تغمضوا: تتساهلوا.
تبين لنا هذه الآية الكريمة نوع المال الذي نتصدق به وطريقة الصدقة.
يا أيها المؤمنون، اذا تصدقتم فأنفقوا من جيد أموالكم: من كسبكم، ومن أحسن الثمرات لتي تخرجها لكم أرضكم. إياكم ان تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتنفقوا منه. فلو قُدم إليكم لرفضتموه، الا أن تُغمضوا فيه.. اي تتسامحوا وتتساهلوا بقبوله. واعلموا ان الله غني عن انفاقكم فلا يصله منه شيء، وانما يأمركم به لمنفعتكم، وهو مستحق لكل حمد، يتقبل الطيبات ويجزي عليها بالحسنى.
وقد رُوي في نزول هذه الآيات عدة روايات. منها ما وراه ابن ابي حاتم عن البراء قال: نزلت فينا. كنا اصحابَ نخلٍ فكان الرجل منا يأتي من نخله بالقِنو، فيعلقه في المسجد. كان أهلُ الصُفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم اذا جاع فضرب بعصاه، سقط البُسر والتمر فيأكل. وكان اناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشَف والشيص، (نوع من رديء التمر) فيعلّقه. فنزلت الآية.. فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
الفحشاء: كل المعاصي. وهنا المراد بها البخل. المغفرة: الصفحة عن الذنب. الفضل: الرزق.
الشيطان يخوفكم من الفقر ويغريكم بالبخل ويحاول ان يصرفكم عن صالح الاعمال، حتى لا تنفقوا أموالكم في وجوه الخير، بل في المعاصي. والله سبحانه وتعالى يضمن لكم على الانفاق في سبيله مغفرة وعفواً عن ذنوبكم في الآخرة، وخلفاً من الجاه، وسمعةً حسنة بين الناس، ومالاً أزيَدَ مما انفقتكم، في الدنيا. فأياً تتبعون! إن الله واسع الرحمة والفضل، يحقق ما وعدكم به، وعليم بما تنفقون فلا يضيع أجركم عنده.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من يوم يصبح العباد فيه، الا وملَكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أَعطِ منفِقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم اعط ممسِكاً تلفا».
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي انه قال: «ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ الا عِزاً، وما تواضع أحد لله الا رفعه».
الحكمة: معرفة الأشياء، واصابة الحق بالعلم والعمل. وتطلق الحكمة على العدل والنبوة، والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها.
ان الله يعطي من أراد من عباده قدرة على معرفة الأشياء واصابة الحق في القوة والعمل، ومن أُعطي هذه الحكمة فقد فاز بغنى الدارَين ونال خيرا كثيرا، لأن الإنسان اذا ذاك يفعل الخير فينتظم له أمر الدنيا والآخرة. ﴿وما يذكّر الا أولو الألباب﴾ ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به الا ذوو العقول السليمة والنفوس الطاهرة التي تدرك الحقائق وتستخرج منها ماهو نافع في هذه الحياة.
القراءات:
قرأ يعقوب «ومن تؤت الحكمة» بكسر التاء اي ومن يؤته الله الحكمة.
النذر: التزام طاعة يتقرب بها العبد الى الله.
الكلام هنا عام في جميع أنواع النفقات وأعمال الخير، والنذور، ومعناه: ان أي نفقة من طرفكم في الخير أو الشر، ما أوجبتم على أنفسكم من النذور تقربا الى الله يعلمه الله، ويجازي عليه إن خيراً فخير، وان شرا فشر. ونحن نقول:
أما من كانت نفقته وصدقته رياء للناس، ونذوره للشيطان فان الله يجازيه بالذي أوعده من العذاب، ما للظالمين من اعوان ينصرونهم يوم القيامة.
والنذر فيما حرّمه الله لا يجوز، فمن نذرَ فعل معصية حَرُمَ عليه عملها.. فلقد اخرج النسائي عن عمران بن الحصين عن رسول الله انه قال: «النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكفّره ما كفر اليمين».
ان تظُهروا صدقاتكم خالية من الرياء والتصنع فأنعمْ بهذا العمل وأكرم به، ذلك ان اظهارها يشجع الناس على ان يقتدوا بكم فتكونون أسوة حسنة. وهو عمل طيب يرضى عنه ربكم.
وان اعطيتموها خفية وسراً حتى لا تُحرجوا الفقراء، وخوفاً من تدخُّل الرياء، فان ذاك افضل لكم، وبه تنقص ذنوبكم يوم القيامة.
وقد قال اكثرُ العلماء بأفضلية السر على العلانية في صدقة التطوّع، أما الزكاة المفروضة فالأفضل ان يعطيها علناً لأنها من شعائر الدين، وهذه يجب اظهارها حتى يقتدى بها الناس. والله تعالى يغفر لكم من خطاياكم وذنوبكم بسبب اخلاصكم في صدقاتكم، والله خبير بما تفعلون في صدقاتكم من الإسرار والإعلان.
القراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعم» بتفح النون وكسر العين، وقرأ أبو بكر وابو عمرو وقالون «فنعم» بكسر النون وسكون العين.
الهدى: الرشا، ضد الضلال. الخير: المال. ابتغاء وجه الله: في طلب رضاه. أحصروا في سبيل الله: حبسوا أنفسهم فوقفوها في سبيل الله. لا يستطيعون ضربا في الأرض: يعجزون عن التكسب في التجارة أو العمل. التعفف: منع النفس مما تريد من الشهوات. السيما: العلامة. إلحافاً: إلحاحاً.
ليس عليك يا محمد هدى المشركين الى الإسلام حتى تمنعَهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها الا اذا دخلوا فيه. ما انت الا بشير ونذير. ان عليك الارشاد والحث على الفضائل، والله يهدي من يشاء من خلقه الى الإسلام فيوفّقهم. ان أمْرَ الناس مفوَّض الى ربهم لا اليك، فلا تمنعهم الصدقة.
اخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال: «كان النبي يأمرنا ان لا نتصدق الا على أهل الاسلام حتى نزلت هذه الآية».
ويا أيها المسلمون: ان جميع ما تنفقونه من خير وتبذلونه من معونة لغيركم، مهما كان دينه، لكنم أنتم فائدته في الدنيا والآخرة. هذا اذا كنتم لا تقصدون بالانفاق الا ارضاء الله لا لأجل جاهٍ او مكانة، وفي تلك الحال يعود اليكم ثوابه كاملاً دون نقصان.
ويكون هذا الانفاق للفقراء الذين حبسوا أنفسهم للجهاد، فشغَلهم ذلك عن الكسب من أي عمل، أو لمن أصيب منهم بجراح اقعدته عن السعي في الأرض، المتعففين عن السؤال حتى ان الجاهل بحالهم لَيحسبهم أغنياء من شدة تعففهم. ولأمثال هؤلاء علامة لا يعرفهم بها الا المؤمن الذي يتحرى في انفقاه عمن يستحقون ذلك. والله عليم بما تبذُلونه من معروف، وسيجزيكم الله عليه الجزاء الأوفى.
قيل نزلت هذه الآية في أهل الصُّفة، وكانوا اربعمائة رجل وقفوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله.
وسؤال اناس من غير حاجة محرَّم، وقد وردت عدة أحاديث في النهي عنه. ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان رسول الله قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكينُ الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» وروى ابو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر عن النبي انه قال: «لا تحلُّ الصدقة لغني ولذي مِرّة سويّ» والمِرة: القوة.
القراءات:
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسَبهم» بفتح السين والباقون «يحسِبهم» بكسرها.
بعد أن رغّّب سبحانه وتعالى في الإنفاق وبيَّن فوائده بيّن في هذه الآية فضيلة الانفاق في جميع الاوقات والاحوال، وختمها بنص عام يشمل كل طرق الانفاق وجميع أوقاته، وبحكمٍ عام يشمل كل منفق لوجه الله: ان الذين يتصدقون باموالهم على الفقرء في جميع الأزمنة وسائر الأحوال، وتجود أنفسهم بالبذل في السر والعلانية لهم ثوابهم عند ربهم في خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الذين يحبسون المال بخلاً عن المحتاجين، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.
وبعد، فان الاسلام لا يقيم حياة أهله على الصدقة، بل على تيسير العمل والرزق لكل قادر أولاً، وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله على أساس التوفيق بين الجهد والجزاء ثانياً.
لكن هنالك حالات تختلف لأسباب استثنائية، وهي التي يعالجها بالصدقة. وقد رغّب الاسلام في الصدقة وحض عليها كثيرا. مرة في صورة فريضةٍ، وهي الزكاة، ومرة في صورة تطوع غير محدود هو الصدقة.
يأكلون: يأخذون. الربا: الزيادة يتخطبّه: يصرعه ويضربه. المس: الجنون. يمحق: ينقص. يربي. يزيد. ما سلف: ما تقدم.
يعتمد الاسلام في بناء المجتمع مبادىء قيمة، أهمها في الجانب المادي من من الحياة مطالبةُ كل فرد من أفراد المجتمع بالعمل الذي يكفل له حاجته. لقد أشعرَ الاغنياء ان حق الانتفاع بهذا المال مشتركٌ بينهم وبين اخوانهم الفقراء. كما أوجب مدَّ يد المعونة الى الفقراء والمساكين والمحتاجين، إما بالبذل والعطاء أوبتهيئة العمل. كذلك أوجب على ذوي المال ان يدفعوا الى اولياء الأمر ما يمكنّهم من اقامة المصالح التي تحقق الخير للمجتمع.
على هذه الأسس التي تقتضيها الأُخوة والتعاون، وتبادل الشعور بين الافراد، امتلأ القرِآن بآيات الحث على الانفاق للفقراء والمساكين وفي سبيل الله وفي هذا الوضع الذي انتهجه الاسلام في بناء المجتمع، كان من غير المعقول ان يبيح للغني من أهله ان يستقل بمتعة ماله دون ان يمد يده على المحتاج من اخوانه والمواطنين في دولته.
واذا كان من غير المعقول في الاسلام ان يباح للغني ان يقبض يده عن معونة أخيه الفقير، فمن غير المعقول أشد ان يباح له استغلال أخيه وأخذ ماله بالربا وشد الخناق. لذلك عمد الإسلام إلى الاصلاح بتحريم الربا تحريماً قاطعا.
وقد جاء الاسلا م في وقتٍ فرغت قلوب الناس فيه من معاني الرحمة والتعاون، كانوا يأكل قويهم ضعيفهم، ويستغل غنيهم فقيرهم فأفرغ جهده في القضاء على منابع الشر، وازالمة الحواجز التي قطّعت ما بين الناس من صلات التراحم والتعاون، وأخذ يبني المجتمع بناءً واحداً متماسك الأطراف. وكان أول ما اتخذه من ذلك ايجاباً الحثُّ على التعاون والتراحم. ثم كان تحذيره الشديد فيما يخص الناحية السلبية، فحرَّم الربا والرشوة، بعد ان حرم الشحَّو والضن يحق الفقير والمسكين.
وربا الجاهلية الذي كان عليه الناس نوعان الأول: ربا النسيئة، وهو أن يقرض الرجل أخاه من المال لزمن محدود على ان يدفعه له مع زيادة معيننة. وقد نص القرآن على تحريمه، وجعل التعامل به من الكبائر. والنوع الثاني: ربا الفضل، وهو ان يبيع الرجل نوعا من السلعة بمثلها مع زيادة احد العوضَين على الآخر، كأن يبيع قنطارا من القمح بقنطار وربع أو نصف.
وهذا ايضا من الربا المنصوص على تحريمه في الحديث الشريف لقوله ﷺ «ولا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبُرَّ بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح الا سواء بسواء، عينا بعين، يداً بيد» وقد اتفق الفقهاء على تحريمه، وأباحوا الزيادة اذا اختلف الجنس. وقد حرموا التأجيل في هذا الأصناف، واختلفوا في قياس غيرها عليها اختلافا كبيرا.
166
وتحريم الربا الذي جاء في القرآن الكريم، تنظيم اقتصادي عظيم: ، وهو يتفق مع قياس ما قرره الفلاسفة في الماضي وما انتهت اليه النظم الاقتصادية الحديثة. فأرسطو يقرر ان الكسب بالفائدة نظام غير طبيعي، فالنقد لا يلد النقد.
والاقتصاديون يقررون أن يطرق الكسب أربَع: ثلاثٌ منها منتجة والرابعة غير منتجة. فالثلاث المنتجة: العمل ويتبعه الصناعة؛ والزراعة؛ والمخاطرة في التجارة.. لأنها في نقل الأشياء من مكان انتاجها الى مكان استهلاكها تتعرض لمخاطر، وتزيد قيمتها بهذا الانتقال. وذلك في ذاته انتقال. وذلك في ذاته انتاج. أما الرابعة فهي الفائدة أو الربا، وهذه المخاطرة فيها، لأن القرض لا يتعرض للخسارة، بل له الكسب دائما؛ ولأنه لا انتاج الا لِعملِ المقترض، فالفائدة نتيجةٌ لذلك، هذا كما ان اباحة الكسب بالفائدة تؤدي الى تحكم رؤوس الأموال في العمل. وهذا غير سليم.
وتذكر الآية ان الذين يتعاملون بالربا لا يقومون يوم القيامة من قبورهم كبقية الناس وانما كالمجنون الذي اصابه مسّ من الشيطان فهو يتخبط بفعل الصرع. ولماذا؟ لأنهم ستحلّوا أكل الربا وقالوا لا فرق بين البيع والربا، فكما يجوز بيع السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطي الانسان أحد المحتاجين عشرة دراهم على أن يردها بعد أجلٍ، والسبب في كل من الزيادتين واحد هو الأجل. تلك حجتهم. وهم واهمون فيما قالوا، وقياسهم فاسد. فالله أحلّ الأرباح في الشراء البيع وحرّم الربا. ذلك ان البيع ملاحَظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعاً حقيقاً، اما الربا فهو اعطاء الدراهم ثم أخذُها بدون مخاطرة ولا تعب، كما ان الكسب فيها مضمون دائما بخلاف التجارة والعمل.
﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾.
أي: فمن بلغه تحريم الله الربا فتركه فورا، فله ما كان قد أخذه من الربا فيما تقدم لا يكلَّف بردِّهِ الى من دفعوه، وانما عليه ألا يأخذ ربا بعد ذلك.. ان أمره موكول الى الله يحكم فيه بعدله وعفوه. ما من عاد الى أكل الربا بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، فهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
ان الله تعالى يُذهب الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، لكنّه يضاعف ثواب الصدقات ويبارك في المال الذي خرجت منه الصدقة.
والله لا يحب لك من تمادى في إنكار ما أنعم الله به عليه من المال، كأن لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسي المحتاجين من عباده.
والأثيم: هو المنهمك في ارتكاب الذنوب والمحرمات، فهو قد جعل ماله آلة لجذب ما في أيدي الناس الى يده فاستغلّ إعسارهم وأخذ أقواتهم وامتص دماءهم.
167
من أسلوب القرآن الحكيم ان يأتي بآيات فيها صور متقابلة في كثير من المواضع، فهنا بعد ان بين شناعة الربا وسيئاته، وبعد الآيات التي حثت عل الصدقات والعطاء بدون مقابل عاد وأورد هذه الآية المباركة. وفيها يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح، وصفات المؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ليبشرهم ان ثوابهم مدّخر عند ربهم يوم الجزاء، لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم في الدنيا.
ذروا: اتركوا. ذو عسرة: معسر لا يستطيع دفع ما عليه. ميسرة: يسر.
هنا عاد التشديد في الربا والحث على تركه وعدم التعامل به، ومحاربة من يتعطاه وكأننه يحارب الله ورسوله.
يا أيها المؤمنون، خافوا الله واستشعروا هيبته في قلوبكم واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس ان كنتم مؤمنين حقا. فإن لم تفعلوا فكونوا على يقين من أنكم في حرب مع الل ورسوله، اذا خرجتم عن شريعته ونبذتم ما جاء به رسوله. وحربُ الله هي غضبه. وحرب رسوله هي مقاومته له في زمنه. هذا واعتبارهم خارجين من الاسلام يُحِلّ قتالهم فيما بعد.
وان تبتم توبة صحيحة فلكم رؤوس أموالكم، دون زيادة مهما كانت، لأن الزيادة التي تأخذونها ظلم لغيركم، كما ان ترك جزء من رؤوس الأموال ظلم لكم. وهذا معنى قوله تعالى ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾. وان وُجد رجل مدين لكم، لكنه لا يجد ما يسد به دينه فأمهِلوه الى حين اليسار، كيما يسدّد ذلك الدين. اما تصدُّكُم على المعسر المدين بمسامحته من جميع الدَّين أو بعضه فهو خير لكم، وأكثر ثوابا عند الله.
هذه هي النظرة الكاملة، والسماح للمَدين المعسر، وفيها فوائد كثيرة. فهي تجعل الناس مترابطين متعاطفين، وتضامنَهم أقوى وأمتن. هذا ما يرشدكم اليه ربكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم. بذلك تبنون مجتمعاً مثالياً لا مثيل له.
وقد ختم سبحانه وتعالىأياة الربا بآية بالغة الموعظة، اذا وعاها المؤمنون وعملوا بها هوّنت عليهم السماح بالمال والنفس وكل ما يملك المرء في هذه الدنيا.
قراءات:
قرأ عاصم «تصدقوا» بتخفيف الصاد، الباقون «تصدقوا» بالتشديد.
وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عباس «فآذنوا بحرب» بالمد.
وقرأ نافع وحمزة «ميسرة» بضم السين.
واحذروات أيها الناس يوماً ترجعون فيه الى الله، فتلقون ربكم، وليس لكم الا ما قدمتم من أعمال الخير. ذاك يومُ ثواب ومحاسبة، فيه توفَّى كل نفس أجرها على ما قدّمت من سيء أو صالح. وفيه لا يُظلم الناس ولا يُنقصون من ثوابهم شيئاً.
فاذا تذكرتم أيها المؤمنون ذلك اليوم، وفكرتم فيما أعد الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم خفف ذلك من غلوائهم ومال بكم الى نشدان الحق والخير.
قال كثير من العلماء ان هذه آخر آية نزلت على النبي ﷺ من القرآن وعاش بعدها تسع ليال كما روى الطبري عن ابن عباس.
قراءات
قرأ أبو عمرو ويعقوب: «تَرجعون» بفتح التاء.
أجل مسمى: موعد محدد. وليملل: الاملال والاملاء واحد، أملّ وأملى بمعنى واحد. لا يبخص: لا ينقص. السفيه: ضعيف الرأي. الضعيف: الصبي الصغير، أو الشيخ الهرم. شهيدين: شاهدين. لا تسأموا: لا تلموا وتضجروا أقسط: أعدل. رهان: جمع رهن.
يا أيها الذين آمنوا اذا د
اين بعضكم بعضاً بدين مؤجل الى وقت معلوم فيجب عليكم ان تكتبوه خفظاً للحقوق، وتفاديا للنزاع. وعلى الكاتب ان يكون عادلاً في كتابته، ولا يجوز له ان يمتنع عن الكتابة كما علّمه الله. اذن لقد شرط الله في الكاتب العدالة، كما شرط فيه ان يكون عالما بأحكام الفقه وكتابة الدَّين وعليه ان يكتب حسب اعتراف المدين. وعلى المدين ان يتقي الله ولا يُنقص من الدين شيئا. فان كان المدين لا يقدّر الأمور تقديراً حسنا، أو ضعيفا لصغر سنه أو مرض شيخوخة، أو لا يستطيع الإملاء لخرسٍ أو جهل بلغةِ الوثيقة فعلى من يتولى أموره (من وكيل أو قيم أو مترجم) ان يملي بالعدل بلا زيادة ولا نقصان. واشهدوا على ذلك الدَّين من رجالكم، فان لم تجدوا شاهدَين، فاشهودوا رجلاً وامرأتين عدولاً، حتى اذا نسيت احداهما ذكّرتها الاخرى. ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة اذا ما طُلب من الشهود. ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين قليلا كان أو كثيراً، ولا من ان تبيّنوا أجله المعيّن.. فالكتابة المستوفية الشروط أحفظ لحقوق الناس، وأحرى باقامة العدل بين المتعاملين منكم، وأعونُ على اقامة الشهادة. ان هذا أقرب الى درء الشكوك بينكم. اما في حال تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين فلا حرج في ترك الكتابة، اذ لا يترتب عليه شيء من التنازع والتخاصم. وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة حسماً للنزاع. وتفادوا انيلحق ضرر بكاتب أو شاهد، فذلك خروج على طاعة الله. واتقوا الله في جميع ما أمركم الله به ونهاكم عنه، فهو سبحانه يعلّمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارّين، وهو العليم بكل شيء.
وإن كنتم مسافرين، ولم تجدوا من يحسن الكتابة فليكن ضمان الدَّين شيئاً من الرهن يأخذه الدائن من المدين. فان كان الدائن يأمن المدين فلم يأخذ منه رهناً لحسن ظنه به فليؤدً الذي اؤتمن أمنانته ويؤكّد حسن ظن الدائن. واذا دُعيتم الى الشهادة فلا تكتموها، ان ذلك إثم كبير، والله مطلع عليكم وهو خير الشاهدين.
هذه آية الدَّين قد قررت مبادىء الإثبات: الكتابة، وأن القضاءي لا يكون بأقل من شاهدين عدلين أو رجل وامرأتين، وأنه يختص بالكتابة كاتب عدل، ووجوب الإشهاد على الكتابة، وأنه يستغنى عن ذلك اذا كانت المعاملات متبادلة في ساعتها غير مؤجلة، ووجوب الولاية على من لا يحسنون التصرف، وانه عند السفر يغني الرهن المقبوض عن الكتابة.
قراءات:
قرأ حمزة «إن تضل» ان شرطية جازمة «فتذكر» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «فتذكر» من اذكر الرباعي. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب والباقون بالرفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرُهُن» جمع رهن.
جاءت هذا الآية متممة لقوله تعالى: ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لأن كل شيء له، وهو خالقه، فهو العليم به، له ما في السموات وما في الارض، وان تُظهروا أيها المؤمنون ما في قلوبكم او تكتموه عن الناس يجازكُم به الله يوم القيامة، فهو ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ [غافر: ١٩] والمعوَّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر.
روى الامام أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهـ قال: لما نزلت هذه الآية ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله، فأتوا النبي وقالوا: لقد كُلِّفنا من الاعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت هذه الآية ولا نطيقها. فقال النبي: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلَّمنا» فألقى الله الإيمان في قلوبهم وأنزل ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...﴾ الآية. فكانت الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين به. وصار الأمر الى ان قضى الله تعالى ان للنفس ما اكتسبت من «القول والعمل».
وهذا هو نهج الاسلام الصحيح العادل.
﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب من يشاء، وهو تعالى على كل شيء قدير.
قراءات:
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ برفع يغفر ويعذب كما هو هنا: وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط.
غفرانك: نطلب مغفرتك، الا وسعها: الا طاقتها. كسبت واكتسبت: الفرق بينهما ان كسبت تستعمل في الخير، واكتسبت في الشر. إصرا: حِملا ثقيلا، وهي التكاليف الشاقة التي كانت تفرض على الأمم السابقة لكثرة عنادها وتشددها. مولانا: ما لكنا ومتولي أمورنا.
بهاتين الآيتين الكريمتين تُختتم هذه السورة الكبيرة التي هي أطول سورة في القرآن. هما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة يصلح ختاماً لها متناسقاً مع موضوعتها وجوّها وأهدافها.
فقد افتتح سبحانه هذه السورة العظيمة ببيان أن القرآن لا ريب فيه وانه هدى للمتقين، وبيّن صفات هؤلاء، وأصول الايمان التي أخذوها بها، ثم ذكر الكافرين والمنافقين، ثم أرشد الى كثير من الاحكام كما قدمنا في أول السورة. وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول وللمؤمنين، كما لقّنهم من الدعاء ما يرضيه ويطهرُ نفوسهم من الأدناس. واخيرا وصلوا الى طريق السعادة، وفازوا بخير الدارين.. وهذا منتهى الكمال الانساني وغاية في ما تصبوا اليه نفوس البشر.
آمن الرسول بما جاء به الوحي من عند الله، وآمن معه المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله. ومن فضيلة هذا الدين ان المؤمنين به يحترمون جميع الأنبياء والرسل لا يفرّقون بين أحد منهم، وهذه ميزة لهم على غيرهم من أهل الكتاب الذين يقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض.
ويقول المسلمون: لقد بلّغنا الرسولُ الكريم تنزيل الله المحكم، واستجبنا لما فيه وأطعنا أوامره، فاغفر لنا ربّنا ذنوبنا، اليك وحدك المرجع والمآب. وقد منّ الله على المؤمنين حيث قال: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، اي لا يكلف عباده الا ما يطيقون، فضلا منه ورحمة؛ فلكل نفس ما كسبت من قول أو فعل، وعليها ضرّ ما اكتسبت من شر.
ثم علّم الله المؤمنين كلمات يدعونه بها ترفع عنهم الحرج، وتخفف عنهم عبء الخطأ والنسيان فقال: قولوا ربنا لا تؤاخذنا ان نسيان أو أخطأنا، ولا تشدّد علينا فتكلّفنا ما يشق علينا كما شدّدت على بني اسرائيل بسبب تعنتهم وظلمهم. ربنا لا تحمّلنا ما يشق علينا من الأحكام والتكاليف، واعفُ عنا بكرمك، واغفر لنا بفضلك، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، إنك انت مالكنا ومتولي أمورنا فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين حتى تقوم بنشر دينك وإعلاء كلمتك.
وقد روى الطبراني في آخر هذه السورة عن ابن عباس ان رسول الله عند قراءة هذه الآية قال «ان الله تعالى يقول قد فعلت، أي عفوتُ عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على الكافرين، فأعطيتُ هذه الأمة خوايتم سورة لم تعطَها الأمم قبلها» فاذا اتخذ المسلمون العدّة، وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد اليها المولى سبحانه، فانه يستجيب دعوتهم وينصرهم على اعدائهم. فقلد ورد في الأثر ان هذه الأمة لا تغلب من قلّة، لكنها قد تغلب لعدم قيام وُلاتها بالحق، وغفلة شعوبها عن واجباتهم.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا الى العمل الصادق بكتابه وسنته وأن يجمع شلمنا، ويوحد كلمتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
Icon