تفسير سورة البقرة

معاني القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الأخفش . المتوفي سنة 215 هـ

أما قوله ﴿ الم ﴾ ( ١ ) فإن هذه الحروف أسكنت لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجا لو عطف بحرف العطف وذلك أن العرب تقول [ ٩ء ] في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف فيقولون : " ألفْ باءْ تاءْ ثاءْ " ويقولون : " ألفٌ وباءٌ وتاءٌ وثاءٌ ". وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف [ ف ] يقولون : " واحدْ اثنانْ ثلاثة ". وبذلك على انه ليس بمدرج قطع ألف " اثنين " وهي من الوصل. فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله.. ومثل ذلك ﴿ المص ﴾ و﴿ الر ﴾ و﴿ المر ﴾ و﴿ كهيعص ﴾ و﴿ طسم ﴾ و﴿ يس ﴾ و﴿ طه ﴾ و﴿ حم ﴾ و﴿ ق ﴾ و﴿ ص ﴾. إلا أن قوما قد نصبوا ﴿ يس ﴾ و﴿ طه ﴾ و﴿ حم ﴾ وهو كثير في كلام العرب، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية " هابيل " و " قابيل " فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال : " اذكر حم وطس ويس ". أو جعلوها كالأسماء، التي [ هي ] غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح " أينَ "، وكقول بعض الناس ﴿ الْحَمْدِ للَّهِ ﴾. وقرأ بعضهم ﴿ صَ ﴾ و﴿ نَ ﴾ و﴿ قَ ﴾ بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماءَ للسورة*، فصارت أسماء مؤنثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا [ ٩ب ] نحو " هِنْد " و " جُمْل " و " دَعد " **. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع ].
وإني لأَهوى بيت هِنْدٍ وأهلها على هنواتٍ قد ذكرن على هِنْدِ
وهو يجوز في هذه اللغة أوَ يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر وإذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف، [ ف ] جعل ﴿ ص ﴾ وما أشبهها اسما للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقال بعضهم " صادِ والقرآنِ " فجعلها من " صاديت " ثم أمركما تقول " رامِ " كأنه قال : " صادِ الحقَّ بعملك " أي : تعمده، ثم قال ﴿ وَالْقُرْآنِ ﴾ فأقسم، ثم قال ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾. فعلى هذا وقع القسم. وذلك أنهم زعموا أن " بل " هاهنا إنما هي " إنّ " فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم : " إنما هي حروف يستفتح بها " فإن قيل " هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى " ؟. فإن معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى. فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول [ من الرجز وهو الشاهد الخامس ] :
* بلْ. وبلدةٍ ما الأنس من أُهّالها *
[ ١٠ء ] أو يقول [ من الرجز وهو الشاهد السادس ] :
* بلْ. ما هاجَ أحزاناً وشجواً قد شجا *
ف " بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر. وقال قوم : " إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتى بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم كان يقول : " ألر " و " حم " و " ن " هذا هو اسم " الرحمن " جل وعزَّ، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا إن قوله ﴿ كهيعص ﴾ كاف هاد عالم صادق فاظهر من كل اسم منها حرفا ليستدل به عليها. فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى. لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لان ﴿ الم ﴾ و﴿ طسم ﴾ و﴿ كهيعص ﴾ ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال ﴿ الم ﴾ ﴿ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ ﴾ فالميم مفتوحة لأنها لقيها حرف ساكن فلم يكن من حركتها بد. فان قيل : " فهلا حركت بالجر " ؟ فان هذا لا يلزم فيها [ و ] إنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم : " فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن [ ١٠ب ] ليفصلوا بينها وبين غيرها. وقالوا : " مِنَ الرجل " ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون : " هلِ الرجل " و " بلِ الرجل " وليس بين هذين وبين " من الرجل " فرق، إلا أنهم قد فتحوا " مِنَ الرجل " لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا ﴿ إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾. وقد اجتمعت كسرتان لان " مِنْ أكثر استعمالا في كلامهم من " إذْ "، فادخلوها الفتح ليخف عليهم. وان شئت قلت " ألم " حروف منفصل بعضها من بعض، لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضا منفصلة مما بعدها، فالأصل فيه أن تقول ﴿ الم ألله ﴾ فتقطع ألف ﴿ الله ﴾ إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت " واحد، اثنان " فقطعت. وكما قرأ القراء ﴿ نون وَالْقَلَمِ ﴾ فبينوا النون لأنها منفصلة. ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة. ألا ترى انك تقول " خذه من زيد " و " خذه من عمرو " فتبين النون في " عمرو " ولا تبين في " زيد ". فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف وتحذف الألف في لغة من قال " منَ أبوك " فلا تقطع. وقد جعل قوم ( نون ) بمنزلة المدرج فقالوا ﴿ نونَ والقلمِ ﴾ فاثبتوا النون ولم يبينوها. وقالوا ﴿ يس [ ١١ ] وَالْقُرْآنِ ﴾ فلم يبينوا أيضا. وليست * هذه النون ها هنا بمنزلة قول ﴿ كهيعص ﴾ و﴿ طس تِلْكَ ﴾ و﴿ حم عسق ﴾ [ ف ] هذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد، لان النون قريبة من الصاد، لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التاء والسين في ﴿ طس تِلْكَ ﴾ وفي ﴿ حم عسق ﴾، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها. وتبينت النون في ﴿ يس ﴾ و﴿ نون ﴾ لبعد النون من الواو لان النون بطرف اللسان والواو بالشفتين.
وقال ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ( ٢ ) وقال ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ فنصبهما بغير تنوين. وذلك أن كل اسم منكور نفيته ب " لا " وجعلت " لا " إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين، لان " لا " مشبهة بالفعل، كما شبهت " إنْ " و " ما " بالفعل. و( فيه ) في موضع خبرها وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و( لا ) بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه لأنك جعلته و " لا " اسما واحدا، وكل شيئين جُعِلاَ اسما لم يصرفا. والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد " لا " في موضع نصب عملت فيه " لا ".
وأما قوله ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ فالوجه فيه الرفع لان المعطوف عليه لا يكون إلا رفعا [ ١١ب ] ورفعته لتعطف الآخر عليه. وقد قرأها قوم نصبا وجعلوا الآخر [ رفعا ] على الابتداء.
وقوله ﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ فالوجه النصب لان هذا نفي ولأنه كله نكرة. وقد قال قوم ﴿ فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالٌ فِي الْحَجِّ ﴾ فرفعوه كله، وذلك انه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعاً في بعض كلام العرب. قال الشاعر :: [ من البسيط وهو الشاهد السابع ] :
وما صرمتُكِ حتى قلتِ معلنةً لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جَمَل
وهذا جواب لقوله " هل فيه رفثٌ أو فسوقٌ " فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبراً، فلذلك يكون جوابه رفعاً. وإذا قال " لا شيءَ " فإنما هو جواب " هل من شيء "، لان " هل مِن شيءٍ " * قد اعمل فيه " مِن " بالجر وأضمر الخبر والموضع مرفوع، مثل " بحسبِك أَنْ تشتمَني " [ ف ] إنما هو " حسبُك أَنْ تشتمني ". فالموضع مرفوع والباء قد عملت.
وقد قال قوم ﴿ فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ فرفعوا الأول على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنه قال " فلا يكونن فيه رفثٌ ولا فسوقٌ " كما تقول : " سمعُكَ إلي " تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل ** : " حسبُك " و " كفاك ". وجعل الجدال [ نصبا ] على النفي. وقال الشاعر [ من الكامل وهو الشاهد الثامن ].
[ ١٢ء ] ذاكم وَجَدِّكُم الصَّغار بأسرِه لا أُمَّ لي إنْ كان ذاكَ ولا أَبُ
فرفع أحدهما ونصب الآخر.
وأما قوله ﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ فرفع لان " لا " [ لا ] تقوى أنْ تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها ب " فيها " فرفع على الابتداء ولم تعمل " لا ".
وقوله ﴿ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ( ٢ ) [ ف " فيه " ] و " عليه " و " إليه "، وأشباه ذلك في القرآن كثير. وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو، لان الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك. فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة ومن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة ومن كان من لغته إلحاق الياء ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة. وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو فانه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو ﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ ﴾ وقوله ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ وقوله ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ ﴾ وأشباه هذا في القرآن كثير.
ومن العرب من يتم لان ذلك من الأصل فيقول ﴿ فكذّبُوهو ﴾ ﴿ فأنجَيْناهو ﴾ ﴿ وألقى موسى عصاهو ﴾و ﴿ لا ريبَ فيهُو هُدىً للمتقين ﴾ وهي قراءة أهل المدينة. [ ١٢ب ] وقد قال قوم ﴿ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ فألقوا الواو وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف. وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده ﴿ منهو نذير ﴾ تُلْحَقُ الواو وان كانت لا تكتب. وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئا.
ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة، أو حرف مكسور. وإنما يكسر بنو تميم. فأما أهل الحجاز فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضا قال ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾. وأهل الحجاز [ يقولون ] ﴿ من بعدِهُو ﴾ فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضا، وذلك قليل قبيح يقول : " مررت بِهِ قبلُ " و " بِهُ قبلُ " يكسرون ويضمون، ولا يلحقون واوا ولا ياء، ويقولون " رأيتُهُ قبلُ " فلا يلحقون واوا. وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
قد قرأ بعض القراء ﴿ فِيهْ هُدَى ﴾ فادغم الهاء الأولى * في هاء ﴿ هُدى ﴾ لأنهما التقتا وهما مثلان.
وزعموا أن من العرب من يؤنث " الهُدى ". ومنهم من يسكن هاء الإضمار للمذكر قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع ] :
فَظِلْتُ لدى البيت العتيق أُخيلُه [ ١٣ء ] ومِطواي مشتاقانِ لَهْ أرِقانِ
وهذه في لغة اسد السراة، زعموا، كثير.
وقوله ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ ( ٣ ) ففيها لغتان، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو. وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلاّ أن يكون ما قبلها مكسورا أو ياء ساكنة، فان كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو " عليْهِم " و " بِهِمْ " و " مِن بعدِهِمْ " فمن العرب من يقول : " عليهِمِي " فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء، ومنهم من يقول : " عليْهُمُو " فيلحق الواو ويضم الميم والهاء، ومنهم من يقول : " عليهِم " و " عليهُم "، فيرفعون الهاء ويكسرونها، ويقفون الميم، ومنهم من يقول : " عليهِمُو " فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو، ومنهم من يقول : " عليهُمِي " فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء.
وكل هذا إذا وقفت عليه فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء. وهذا في القرآن كثير.
ومنهم من يجعل [ " كُمْ ] في ] " عليكم " و " بكم " إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة " هُمْ " وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون " عليكِمي " و " بِكِمي " وأنشد [ ١٣ب ] الاخفش قال سمعته من بكر بن وائل :[ من الطويل وهو الشاهد العاشر ] :
وإنْ قالَ مولاهمْ على جُلِّ حاجةٍ من الأمرِ رُدّوا فَضْلَ أحلامِكِم رَدُّوا
وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن حركت الميم بالضم إن كان بعدها واو، فان كان بعدها واو حذفت الواو، وان كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر.
وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو " مررت به اليوم " و " رأيته اليوم ".
وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واوا في الشعر وذا لا يكاد يعرف. وقال الشاعر :[ من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر ] :
تاللهِ لولا شُعْبتي من الكرم وشعبتي فيهِم من خالٍ وعَمّ
فأما قوله ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ( ٦ ) فإنما دخله حرف الاستفهام وليس باستفهام لذكره السواء، لأنه إذا قال في الاستفهام : " أَزيدْ عندك أم عَمْرو " وهو يسأل أيهما عندك فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحق بالاستفهام من الآخر. فلما جاءت التسوية في قوله ﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية. ومثلها ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ ١٤ء ] ولكن ﴿ أَسْتَغْفَرْتَ ﴾ ليست بممدودة، لان الألف التي فيها ألف وصل لأنها من " اسْتَغْفَر " " يَستغِفرُ " فالياء مفتوحة من " يَفْعل " وأما ( أَأَنْذرتهم ) ففيها ألفان ألف ﴿ أَنْذَرت ﴾ وهي مقطوعة لأنه يقول " يُنْذِرُ " فالياء مضمومة ثم جعلت معها ألف الاستفهام فلذلك مددت وخففت الآخرة منهما لأنه لا يلتقي همزتان. وقال ﴿ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هذا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾. وقال بعضهم انه على قوله ﴿ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ وجعل قوله ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هذا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾ بدلا من ﴿ تُبْصِرُونَ ﴾. لان ذلك عنده بصرا منهم أن يكون عندهم هكذا وهذه " أم " التي تكون في معنى " أيهما ". وقد قال قوم " إنها يمانية " وذلك أن أهل اليمن يزيدون " أم " في جميع الكلام. وأما ما سمعنا من اليمن فيجعلون " أم " مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون " رأيت امْرَجُلَ " و " قام ا مرجل " يريدون " الرجل ". ولا يشبه أن تكون ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ ﴾ على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد انه سمع أعرابيا فصيحا ينشدهم :
[ من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر ] :
يا دَهرُ أَمْ كان مَشْيِي رَقَصا بلْ قدْ تكونُ مشيتي تَرَقُّصا
فسأله فقال : " معناه ما كان مشيي رقصا ف " أم " ها هنا زائدة. وهذا [ ١٤ب ] لا يعرف. وقال علقمة بن عبدة :[ من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر ] :
وما القلب أَمْ ما ذكرُهُ رَبَعِيَّةً يُخَطُّ لَها من ثَرْمَداءَ قَلِيبُ
يريد " ما ذكرُهُ ربيعةً " يجعله بدلا من " القلب "، وقال بعض الفقهاء : " إن معناه انه قال فرعون ﴿ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ أم انتم بصراء ". وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر ] :
فَيا ظبيةَ الوعساءِ بين جُلاجِلٍ وبينَ النَّقا أَأَنتِ أَمْ أُمُّ سالِمِ
يريد : " أَأَنت أَحسن أَمْ أمُّ سالِم " فأضمرَ " أَحْسَن ". يريد : " أليسَ أَنا خيراً من هذا الذي هو مَهين ". ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام كأنك تميل إلى أوله قال ﴿ لاَ رَيْبَ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾. وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب : " إنَّها لإِبل " ثم يقولون * " أَمْ شاءٌ " [ وقولهم ]** " لقد كان كذا وكذا أَمْ حَدَّثتُ نفسي "، ومثل قول الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الخامس عشر ] :
كَذَبَتْكَ عَينُكَ أَمْ رأيتَ بواسِطٍ غَلَسَ الظَلامِ مِنَ الرَّبابِ خيالا
وليس قوله ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ لأنه شك، ولكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم كما تقول : " ألستَ الفاعلَ كذا وكذا " ليس تستفهم إنما توبخّه. ثم قال ﴿ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. ومثل هذا في القرآن كثير، قال ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ [ ١٥ء ] بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾ ثم قال ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ ﴾ [ و ] ** ﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ ﴾ كل هذا على استفهام الاستئناف. وليس ل " أَمْ " غير هذين الموضعين لأنه أراد أن ينبه، ثم ذكر ما قالوا عليه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل " ألْخَيْرُ أَحَبُّ إلَيكَ أَمْ الشَرّ " ؟ وأنت تعلم انه يقول " الخير " ولكن أردت أن تقبح عنده ما صنع. وأما قوله ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ فقد نهاه عن الآثم والكفور جميعا. وقد قال بعض الفقهاء :: " إنَّ " " أوْ " تكون بمنزلة الواو وقال [ من المتقارب وهو الشاهد السادس عشر ] :
يُهِينُونَ من حقَروا شَأيَهُ وإنْ كانَ فيهِمْ يَفِي أو يَبَرّ
يقول : " يَفِي وَيَبرّ ". وكذلك هي عندهم ها هنا وإنما هي بمنزلة " كلُ اللحمَ أو التمرَ " إذا رخصت له في هذا النحو. فلو أكل كله أو واحدا منه لم يعص. فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى فيكون أن ركب الكل أو واحداً [ قد ] عصى. كما كان في الأمر إن صنع واحداً أطاع. وقال ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ ومعناه " ويزِيدُونَ " ومخرجها في العربية انك تقول : " لا تجالسْ زيداً أو عمراً أَوْ خالِداً " فإنْ أَتى واحداً منهم أو كُلَّهُم كانَ عاصياً. كما أَنَكَ إذا قلت : " اجلس إلى فلان أو فلان [ ١٥ب ] أوْ فلان " فجلس إلى واحد منهم أَوْ كلِهِّم كان مطيعا. فهذا مخرجه من العربية. وأرى الذين قالوا : " إنَّما " أو " بمنزلة الواو " إنما قالوها لأنهم رأوها في معناها. وأما ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ فإنما يقول ﴿ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ ﴾ عِنْد الناس "، ثم قال ﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ عند الناس " لأنّ الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ. وقد قال قوم " إنَّما " أو " ها هنا بمنزلة " بل " وقد يقول الرجل " لأَذْهَبَنَّ إلى كَذا وكَذا " ثم يبدو له بعدُ فَيَقولَ " أَوْ أَقْعُد " فقال ها هنا ﴿ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ ﴾ عند الناس " ثم قال ﴿ أَوْ يَزيدون ﴾عند الناس " أي أن الناس لا يشكون أنهم قد زادوا. والوجه الآخر هكذا. أي " فكذا حال الناس فيهم " أي : إن الناس يشكون فيهم. وكذا حال " أم " المنقطعة إن شئت جعلتها على " بل " فهو مذهب حسن. وقال مُتَمِّم بن نويرة [ من الوافر وهو الشاهد السابع عشر ] :
فلو كانَ البكاءُ يردُّ شيئاً بكَيْتُ على جُبَيْرٍ أو عِفاقٍ
على المَرْأَيْنِ إذْ هَلَكا جميعا بشأنهما وحزنٍ واشتياق
وقال ابنُ أحمر [ من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر ] :
فقلتُ البِثي شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثالثٍ إلى ذاكَ ما قَد غَيَّبتَنِي غِيابِيا
[ ١٦ء ] وأما قوله ﴿ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾﴿ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُون ﴾ فان هذه الواو واو عطف كأنهم قالوا :﴿ أإِنا لَمَبْعُوثُون ﴾فقيل لَهُم : " نَعم وآباؤكم الأوَّلُون " فقالوا ﴿ أَوَ آبَآؤُنَا ﴾، وقوله ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ ﴾ ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ﴾ وأشباه هذا في القرآن كثير. فالواو مثل الفاء في قوله ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ﴾ وقوله ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ ﴾ وان شئت جعلت هذه الفاءات زائدة. وان شئت جعلتها جواباً لشيء كنحو ما يقولون " قد جاءني فلان " فيقول " أَفَلَمْ أقض حاجته " فجعل هذه الفاء معلقة بما قبلها.
وأما قوله ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ ( ٧ ) فان الختم ليس يقع على الأبصار. إنما قال ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ ثم قال ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ مستأنفا. وقوله ﴿ خَتَمَ اللَّهُ ﴾ لأن ذلك كان لعصيانهم الله فجاز ذلك اللفظ، كما تقول : " أَهَلَكتْهُ فُلانَةُ " إذا أُعْجِب بها. وهي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في إتباعها. أو يكون " خَتَم " حكم بها إنها مختوم عليها.
وكذلك ﴿ زادهم الله مرضا ﴾ ( ١٠ ) على ذا التفسير والله اعلم.
ثم قال ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ٨ ) فجعل اللفظ واحدا، ثم قال ﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ فجعل [ ١٦ب ] اللفظ. جميعا، وذلك أن ﴿ مَنْ ﴾ اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعا في المعنى، ويكون اثنين. فان لفظت بفعله على معناه فهو صحيح. وان جعلت فعله على لفظه واحدا فهو صحيح [ و ] مما جاء من ذلك قوله ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ وقال ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ وقال ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ وقال﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ فقال ﴿ يَقْنُتْ ﴾ فجعله على اللفظ، لان اللفظ في ﴿ مَن ﴾ مذكر وجعل ﴿ تَعْمَلْ ﴾ و﴿ نُؤْتِهَا ﴾ على المعنى. وقد قال بعضهم ﴿ ويَعْمَلْ ﴾ فجعله على اللفظ لان لفظ ﴿ مَنْ ﴾ مذكر. وقد قال بعضهم ﴿ وَمَنْ تَقْنُتْ ﴾ فجعله على المعنى لأنه يعني امرأة. وهي حجة على من قال : " لا يكون اللفظ في مَن على المعنى إلا أن تكون ﴿ مَنْ ﴾ في معنى ﴿ الذي ﴾، فأما [ في ] المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في ﴿ مَنْ ﴾ على المعنى.
وقولهم* هذا خطأ لان هذا الموضع الذي فيه ﴿ وَمَنْ تَقْنُتْ ﴾ مجازاة. وقد قالت العرب " ما جاءَتْ حاجَتُكَ " فأَنَّثُوا " جاءتْ " لأنها ل " ما "، وإنما أنثوا لان معنى " ما " هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضُهُم " من كانت أمّكَ " فنصب وقال الشاعر [ من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر ] :
[ ١٧ء ] تَعَشّ فإِنْ عاهدَتنِي لا تخونُني نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصطَحِبانِ
ويروى ﴿ تَعالَ فإن ﴾. وقد جعل ﴿ مَنْ ﴾ بمنزلة رجل. قال الشاعر [ من الرمل وهو الشاهد العشرون ] :
رُبَّ مَنْ انضجتُ غيظاً صَدْرَهُ قد تَمَنَّى لِيَ شَرّاً لم يُطَعْ
فلولا إنها نكرة بمنزلة " رجل " لم تقع عليها " ربّ ".
وكذلك ( ما ) نكرة إلا أنها بمنزلة " شيء ". ويقال : إن قوله :﴿ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾ على هذا. جعل ( ما ) بمنزلة " شيء " ولم يجعلها بمنزلة " الذي " فقال : " ذا شَيْءٌ لَدَيَّ عَتيد ". وقال الشاعر [ من الخفيف وهو الشاهد الحادي والعشرون ] :
رُبَّ ما تَكْرَهُ النفوسُ من الأمْرِ له فَرْجَةٌ كَحَل العِقالِ
فلولا أنها نكرة بمنزلة " مَنْ " لم تقع عليها " رُبَّ ". وقد يكون ﴿ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾ على وجه آخر، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول : " هذا أحمرُ أخضرُ ". وذلك أن قوما من العرب يقولون : " هذا عبدُ اللَّهِ مقبلٌ ". وفي قراءة ابن مسعود ﴿ وهذا بَعلي شَيْخٌ ﴾ كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا أو يكون كأنه رفعه على التفسير كأنه إذا قال ﴿ هذا ما لَدَيَّ ﴾، قيل : " ما هو " ؟ أو علم انه يراد ذلك منه فقال ﴿ عَتِيد ﴾ أي ما عندي عتيد. وكذلك ﴿ وهذا بَعْلِي شيخٌ ﴾*. وقال الراجز [ وهو الشاهد الثاني والعشرون ] :
مَنْ يَكُ ذابَتٍّ فهذا بَتّى مُقَيِّظٌ مُصَيِّف مُشَتِّى
[ ١٧ب ] وقال ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ ف " ما " ها هنا اسم ليست له صلة لأنك إن جعلت ﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ صلة ل( ما ) صار كقولك : " إنّ اللهَ نِعْمَ الشيء " أو " نعم شيئا " فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل ( ما ) اسما وحدها كما تقول : " غَسَلتُه غَسْلاً نِعِمّا " تريد به : " نِعْمَ غَسْلاً ". فان قيلَ : " كيفَ تكونُ ( ما ) اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها " قلتُ : " هي بمنزلة " يا أيُّها الرجل " لان " أيا " ها هنا اسم ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار ( ما ) مثل الموصوف ها هنا. لأنك إذا قلت " غَسَلتُه غَسْلاً نِعِمّا " فإنما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلم به وحده. ومثل " ما أَحْسَنَ زيدا " ( ما ) ها هنا وحدها اسم وقوله " إني مما أن اصنع كذا وكذا " ( ما ) ها هنا وحدها اسم كأنه قال : " إنّي مِن الأمر " أو " منْ أَمْري صنيعي كذا وكذا " ومما جاء على المعنى قوله " كَمَثلِ الذي استوقدَ ناراً أَضاءَتْ ما حولَهُ ذهبَ الله بنورِهِم }[ ١٧ ] لان " الذي " يكون للجميع، كما قال ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.
وأما قوله ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ( ٩ ) ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين فانه إنمّا يقول :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ﴾ عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم " [ ١٨ء ] ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم ﴾ ( ٩ ) وقال بعضهم ﴿ يُخادِعُونَ ﴾ يقول " يَخْدَعون أنفسهم بالمخادعة لها " وبها نقرأ.
وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول : " باعَدْتُه مُباعَدَةً " و " جاوزتُه مجاوزَةً " في أشياء كثيرة. وقد قال ﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ فذا على الجواب. يقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به " أَنَا الذي خدعتُكَ " ولم تكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. وكذلك ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ و﴿ اللَّهُ يستهزئ بِهِمْ ﴾ ( ١٥ ) على الجواب. والله لا يكون منه المكر والهزء. والمعنى ان المكر حاق بهم والهزء صار بهم.
وأما قوله ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ ( ١٠ ) فمن فخم نصب الزاي فقال ﴿ زَادَهم ﴾ ومن أمال كسر الزاي فقال ﴿ زادهم ﴾ لأنها من " زِدت " أولها مكسور. فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو وهم بعض أهل الحجاز ويقولون أيضا ﴿ وَلِمَنْ خِافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ و﴿ فَانكِحُواْ مَا طِابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ ﴾ [ و ] ﴿ وَقَدْ خِابَ ﴾ ولا يقولون ﴿ قِال ﴾ ولا ( زِار ) لأنه يقول ( قُلْتُ ) و( زُرْتُ ) فأوله مضموم. فإنما يفعلون هذا في ما كان أوله من " فعلتُ " مكسوراً إلاَّ أنَّهم ينحون الكسرة كما [ ١٨ب ] ينحون الياء في قوله ﴿ وَسَقِاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾. و﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾. ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم. وما كان من نحو هذا من بنات الواو وكان ثالثاً نحو ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا ﴾ ونحو ﴿ وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ﴾.
فإن كثيراً من العرب يفخمه ولا يميله لأنها ليست بياء فتميل إليها لأنها من " طَحَوْتُ " و " تَلَوْتُ ". فإذا كانت رابعة فصاعداً أمالوا وكانت الإمالة هي الوجه، لأنها حينئذ قد انقلبت إلى الياء. ألا ترى انك تقول " غَزَوْتُ " و " أَغْزَيْتُ " ومثل ذلك ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾. و﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ و﴿ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ أمالَها لأنَّها رابعة، و " تَجَلّى " فَعلْتُ منها بالواو لأنها من " جَلَوْت " و " زكا " من " زَكَوْتُ يزكو " و﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ من " الغشاوة ".
وقد يميل ما كان منه بالواو نحو ( تَلاِها ) و( طَحِاها ) ناسٌ كثير، لأنَّ الواو تنقلب إلى الياء كثيرا مثل قولهم في ( حُور ) ( حِير ) وفي " مَشُوب " " مَشِيب " وقالوا " أَرْضٌ مَسْنِيّة " إذا كان يسنوها المطر. فأمالوها إلى الياء لأنها تنقلب إليها.
وأمالوا كل ما كان نحو " فَعْلى " و " فُعْلى " نحو " بُشْرى " و " مَرْضى " و " سَكْرى "، لأن هذا لَوْثُنِّيَ كان بالياء فمالوا إليها.
وأما قوله ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ ( ١٠ ) ف( يُكَذِّبُونَ ) : يجحدون وهو الكفر. وقال بعضهم :( يَكْذِّبُونَ ) خفيفة [ ١٩ء ] وبها نقرأ. يعني " يكذِبونَ على الله وعلى الرسل ". جعل " ما " والفعل اسما للمصدر كما جعل " أنْ " والفعل اسما للمصدر في قوله " أُحبُّ أَنْ تأتِيني "، وأما المعنى فإنما هو " بكذِبهِم " و " تَكْذيبِهِم ". وأدخل " كان " ليخبر انه كان فيما مضى، كما تقول : " ما أحسنَ ما كانَ عبدُ الله " فأنت تَعَجَّبُ من " عبد الله لا من " كونه ". وإنما وقع التعجبُ في اللفظ على كونه. وقال ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ وليس هذا في معنى " فاصدع بالذي تؤمر به ". لو كان هذا المعنى لم يكن كلاما حتى تجيء ب " به " ولكن " إصدع بالأمر " جعل " ما تؤمر " اسما واحداً. وقال ﴿ ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ ﴾ يقول " بالإِتيان " يجعل " ما " و " أَتَوْا " اسما للمصدر. وإنْ شئتَ قلت : " أَتَوْا " ها هنا " جاءُوا " كأنه يقول : " بما جاءوا " يريد " جاءوه " كما تقول " يفرحون بما صنعوا " أي " بما صنعوه " ومثل هذا في القرآن كثير. وتقديره " بكونِهم يكذبون " ف " يكذبون " مفعول ل " كان " كما تقول : " سرني زيد بِكونه يعقل " أي : بكونه عاقلا.
وأما قوله ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ ( ١١ ) فمنهم من يضم أوله لأنه في معنى " فُعِلَ " فيريد أن يترك أوله مضموما ليدل على معناه، ومنهم من يكسره لان الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم والكسر القياس. [ ١٩ب ] ومنهم من يقول في الكلام : " قد قُولَه له " و " قد بُوع المتاع " إذا أراد " قَدْ بِيع " و " قِيل ". جعلها واوا حين ضم ما قبلها، لان الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم. ومنهم من يروم الضم في " قُيل " مثل رومهم الكسر في " رِدَّ " لغةٌ لبعض العرب أن يقولوا " رِدَّ " فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين. وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمها الكسر كما يروم في " قيل " الضم. وقال الفرزدق :[ من الطويل وهو الشاهد الثالث والعشرون ] :
وما حِلَّ من جهل حُبا حُلَمائِنا ولا قائل المعروفِ فينا يُعَنَّفُ
سمعناه ممن ينشده من العرب هكذا.
وأما قوله ﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنهَّمْ هُمُ السُّفهاءُ ﴾ ( ١٣ ) فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعا، وقالوا ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ [ و ] ﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ وقالوا ( أإِذا ) ﴿ أَإِنّا ﴾ كل هذا يهمزون فيه همزتين، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذا. ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء فان إحداهما. تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة وذلك انه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبدا فجعلوها إن كان ما قبلها مفتوحاً ألفا ساكنة نحو " آدم " و " آخر " [ ٢٠ء ] و " آمن " وإن كان ما قبلها مضموما جعلت واوا نحو " أُوْزُزْ " إذا أمرته أن يَؤُز وان كان ما قبلها مكسورا جعلت ياء نحو " إِيْتِ " وكذلك إنْ كانت الآخرة متحركة بأي حركة كانت والأُولى مضمومة أو مكسورة فالآخرة تتبع الأولى نحو " أن أفعل " من " أَأَب " [ ف ] تقول " أُووب ". ونحو " جاءَ في الرفع والنصب والجر. فأما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها. ولكن تكون على موضعها، فان كانت مكسورة جعلت ياء، وان كانت مضمومة جعلت واوا، وان كانت مفتوحة جعلت أيضا واوا لان الفتحة تشبه الألف. وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واوا ما لم يكن لها أصل في الياء معروف فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء فجعلت الغالب عليها الواو نحو " آدم " و " أوادم ". فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة. ولان اللتين في كلمة واحدة لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين [ ٢٠ب ] لأَنَّ ما في الكلمتين كلُّ واحدة على حيالها فتخفيف الآخرة أقيس، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الأولى. فمن خفف الآخرة في قوله ﴿ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ألا ﴾ قال ﴿ السفهاءُ ولا ﴾ فجعل الألف في ( ألا ) واوا. ومن خفف الأولى جعل الآلف التي في ( السفهاء ) كالواو وهمز ألف ( ألاّ ). وأما ﴿ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ فإنَّ الأولى لا تخفف لأنها أول الكلام. والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدئ بها. وقد قال بعض العرب ( آإذا ) و( آأنذرتهم ) و " آأنا قلت لك كذا وكذا " فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان. كل ذا قد قيل وكل ذا قد قرأه الناس. وإذا كانت الهمزة ساكنة فهي في لغة هؤلاء الذين يخففون إن كان ما قبلها مكسورا ياء نحو ﴿ أنبِيهم بأسمايهم ﴾ ونحو ( نَبِّينا )*. وإن كان مضموما جعلوها واوا نحو " جونَه "، وان كان ما قبلها مفتوحا جعلوه ألفا نحو " راس " و " فاس ". وان كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده واذهبوا الهمزة [ ٢١ء ] يقولون [ في ] " في الأرض " :( فِلَرْض ) [ وفي ] ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ اله ﴾ :( مِنِلاهٍ ) يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة أي حركة كانت ويحذفون الهمزة.
وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى* مكسورة والآخرة مكسورة فأردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة، لان الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو " هؤلاء يماء الله "، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة. وان كانت الآخرة مفتوحة نحو " هؤلاء أخواتك "، أو مضمومة نحو " هؤلاء أُمَّهاتُك " لم تجعل بين بين، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وان كان الأول مهموزا أو غير مهموز فهو سواء إذا أردت تخفيف الآخرة ومن ذلك قولهم " مِئين " و " مَئير " في قول من خفف. وان كان الحرف مفتوحاً بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين، لان المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة، نحو " البَيْع " والواو الساكنة نحو " القَوْل " وهذا مثل ﴿ يَتَفَيَّؤُا [ ٢١ب ] ظِلاَلُهُ ﴾ و﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ ﴾ و﴿ آاذا ﴾ و﴿ آانا ﴾ إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين. والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان، إلا إنا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعا قراءة أهل الكوفة وبعض أهل البصرة. ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول " هذا قارِوٌ " و " هؤلاء قارِوُونَ " و( يستهزِوون )، وليس هذا كلام من خفف من العرب إنما يقولون ﴿ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ و﴿ قارِئون ﴾.
وإذا كان ما قبل الهمزة مضموما وهي جعلتها بين بين. وان كانت مكسورة أو مفتوحة لم تكن بين بين وما قبلها مضموم، لان المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة. وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واوا خالصة لأنهما يتبعان ما قبلهما نحو " مررت بأكمُوٍ " و " رأيت أكمُواً " و " هذا غلامُوَبيكَ " تجعلها واوا إذا أردت التخفيف إلا أن تكون المكسورة [ ٢٢ء ] مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو " هذا غلاميخوانك " و( وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ يلا ).
وإذا كانتا في معنى " فُعِلَ " والهمزة في موضع العين جعلت بين بين لان الياء الساكنة تكون بعد الضمة ففي " قُيْلَ " يقولون " قِيلَ "، ومثل ذلك " سُيِل " و " رُيِس " فيجعلها * بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموما. وأما " رُوِس " فليست " فُعِلَ " وإنما هي " فُعْلَ " فصارت واوا لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة.
وقوله ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا ﴾ ( ١٤ ) فأذهب الواو لأنه كان حرفا " ساكنا لقي اللام وهي ساكنة فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته لان فيما بقي دليلا على الجمع. وكذلك كل واو ما قبلها مضموما من هذا النحو. فإذا كان ما قبلها مفتوحا لم يكن بد من حركة الواو لأنك لو ألقيتها لم تستدل على المعنى نحو ﴿ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ ﴾ وحركت الواو بالضم لأنك لو قلت " اشتر الضلالة " فألقيت الواو لم تعرف انه جمع، وإنما حركتها بالضم لان الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه. وقد قرأ قوم وهي لغة لبعض العرب ﴿ اشْتَرَوِاْ الضَّلاَلَةَ ﴾ [ ٢٢ب ] لما وجدوا حرفاً ساكنا قد لقي ساكنا كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأما قوله ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ ( ١٤ ) فانك تقول " خلوت إلى فلان في حاجة " كما تقول : " خلوت بفلان " إلاَّ أنَ " خلوت بفلان " له معنيان احدهما هذا والآخر سخِرْتُ به. وتكون " إلى " في موضع " مَعَ " نحو ﴿ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ كما كانت " من " في معنى ( علىَ ) في قوله ﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ﴾* أي : على القوم، وكما كانت الباء في معنى " على " في قوله " مَرَرتُ بِهِ " و " مَرَرْتُ عليه ". وفي كتاب الله عز وجل ﴿ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ﴾ يقول " على دينار ". وكما كانت " في " في معنى " على " نحو ﴿ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ يقول " على جُذوعِ النَخْل ". وزعم يونس أن العرب تقول : " نزلت في أبيك " تريد " عليه " وتقول : " ظفِرتُ عليه " أي " بِهِ " و " رضيتُ عليه " أي : " عَنْه " قال الشاعر [ من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون ] :
إذا رضِيتْ عَلَيَّ بنو قُشَيْر لَعَمْرُ اللّهِ أعجبَنَي رِضاها
وأما قوله ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ( ١٥ ) فهو في معنى " ويَمُدُّ لَهُم " كما قالت العرب : " الغلام يلعب الكِعاب " تريد : " يلعب ** بالكِعاب " وذلك أَنهم يقولون " قد مَدَدْتُ له " و " أَمْدَدْتُه " في غير هذا المعنى وهو قوله جل ثناؤه ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ ﴾ وقال ﴿ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾. وقال بعضهم [ ٢٣ء ] ( مِدادا ) و( مَدّا ) من " أَمْدَدْناهُم " وتقول " مَدّ النهرُ فهو مادّ " و " أَمَدّ الجُرُح فهو مُمِدّ ". وقال يونس : " ما كان من الشَرّ فهو " مدَدْت " وما كان من الخير فهو " أَمْدَدْت ". [ ف ] تقول كما فسرت له فإذا أردت أنك تركته قلت : " مَدَدْتُ له " وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أَمْدَدْتُه ".
وقوله ﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ ( ١٦ ) فهذا على قول العرب : " خاب سعيُك " وإنما هو الذي خاب، وإنما يريد " فما رَبحوا في تجارتهم " ومثله ﴿ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [ و ] ﴿ ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ إنما هو " ولكنّ البرَّ برُّ من آمنَ بالله " وقال الشاعر :[ من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون ] :
* وكيفَ تُواصِلُ من أصْبَحَتْ خَلاَلتُه كأبي مَرْحَبِ *
وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون ] :
وَشَرُّ المنايا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ كهُلْكِ الفتاةِ أسلَمَ الحَيّ حاضره
إنما يريد " وشر المنايا منية ميّت وسط أهله، ومثله : " أكثر شربي الماءُ " و " أكثر أكلي الخبرُ " وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال ﴿ وَاسْألِ الْقَرْيَةَ ﴾ يريد : " أهل القرية "، ( والعِيرَ ) أي : " واسأل أصحاب العِير " [ ٢٣ب ]. وقال ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾ فإنما هو - والله اعلم - " مثَلُكُم ومثلُ الذين كَفَروا كمثلِ الناعِقِ والمنعوقِ بهِ ". فحذف هذا الكلام، ودل ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾ يقول " مثلُهم في دعائِهم الآلهةَ كمثلِ الذي ينعِق بالغَنَم " لان - آلهتهم لا تسمعُ ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.
وقوله ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ ( ١٧ ) فهو في معنى " أَوْقَد "، مثل قوله " فلم يستجبه " أي " فلم يُجِبْهُ " وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون ] :
وداعٍ دعا يا من يُجيبُ إلى النَدى فلم يَستَجِبْهُ عندَ ذاك مُجيبُ
أي : " فلم يُجِبْهُ ".
وقال ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ ( ١٧ ) فجعل ( الذي ) جميعا فقال ( وتَرَكَهم )* لان " الذي " في معنى الجميع، كما يكون " الإنسان " في معنى " الناس ".
وقال ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( ١٧ ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ ( ١٨ ) فرفع على قوله : " هُمْ صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " رفعه على الابتداء ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسنا.
وأما ﴿ حَوْلَهُ ﴾ ( ١٧ ) فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون ] :
[ ٢٤ء ] هذا النهارُ بدا لَها من هَمِّها ما بالُها بالليلِ زالَ زوالَها
نصب " النهارَ " على الظرف وان شاء رفعه وأضمر فيه. وأما " زوالَها " فانه كأنه قال : " أزالَ اللَّهُ الليلَ زوالَها ".
وأما ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ ( ٢٠ ) فمنهم من قرأ ( يَخْطِفُ ) من " خَطَفَ " وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد رواها يونس ( يَخِطِّفُ ) بكسر الخاء لاجتماع الساكنين. ومنهم من قرأ ( يَخْطَفُ ) على " خَطِفَ يخطَفُ " وهي الجيدة، وهما لغتان. وقال بعضهم ( يَخِطِّفُ ) وهو قول يونس من " يَخْتَطِفُ " فأدغم التاء في الطاء لان مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم ( يَخَطِّفُ ) فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر كسر لاجتماع الساكنين فقال ﴿ يَخِطِّفُ ﴾ ومنهم من قال ﴿ يِخِطِّفُ ﴾ كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء اتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها كما اتبعها في كلام العرب كثيرا، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون " قِتِلوا " و " فِتِحوا " يريدون :[ " اقتِلوا " و ]* اِفْتحَوا ". قال أبو النجم [ من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون ] :
* تَدافُعَ الشِيبِ ولم تِقِتِّل *
وسمعناه من العرب مكسورا كله، فهذا مثل " يِخِطِف " إذا كسرت [ ٢٤ب ] ياؤها [ لكسرة خائها ] وهي بعدها فأتبع** الآخر الأول.
وقوله ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾ ( ٢٠ ) فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك فيقول ﴿ لَذَهَبْ بِسَمْعِهِمْ ﴾ وجعل " السَمْع " في لفظ واحد وهو جماعة لان " السَمْعَ " قد يكون جماعة و " قد ] يكون واحداً و[ مثله ] قوله ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ ومثله قوله ﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ وقوله ﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾ ومثله ﴿ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾.
وقوله ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ فقطع الألف لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير [ ف ] إذا صغرت قلت : " أُنَيْداداً ". وواحد " الأنْدادِ " : نِدٌّ. و " النِدُّ " : المِثْل.
وقوله ﴿ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ( ٢٤ ) ف " الوَقُودُ " ** : الحطب. و " الوُقودُ " : الاتقادُ وهو الفعل. يقرأ ﴿ الوَقود ﴾ و﴿ الوُقود ﴾ ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك " الوَضُوءُ " وهو : الماء، و " الوُضُوءُ " وهو الفعل، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد.
وقوله ﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ( ٢٥ ) فجرّ " جناتٍ " وقد وقعت عليها " أَنَّ " لأنَّ كلَّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ، [ ٢٥ء ] ألا ترى انك تقول : " جَنّه " فتذهب التاء. وقال ﴿ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ و " السماوات " جرّ، و " الأرضَ " نصب لان التاء زائدة. ألا ترى انك تقول : " سماء "، و﴿ قَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ﴾ لان هذه ليست تاء إنَّما هي هاء صارت تاءً بالاتصال، وإنما تكون تلك في السكوت إلا ترى انك تقول : " رأيتُ سادَه " فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ ﴿ أَطَعْنا سَادَاتِنا ﴾ جرّ لأنك إذا قلت : " ساده " ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء، تقول : " رأيت ساداتٍ "، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحداً، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول : " مسلمين و " صالحين " نصبه وجره بالياء. وقوله ﴿ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ و﴿ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ ﴾ فان التاء من أصل الكلمة تقول " صوت " و " صويت " فلا تذهب التاء، و " بيت " [ و " بُوَيْت " ]* فلا تذهب التاء. وتقول : " رأيت بُوَيْتاتِ العربِ " فتجرّ، لان التاء الآخرة زائدة لأنك تقول : " بيوت " فتسقط التاء الآخرة. وتقول : " رأيت ذواتِ مال " لان التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت : " ذاه " ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف [ ٢٥ب ] إليه.
وقوله ﴿ هذا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ ( ٢٥ ) لأنه في معنى " جيئوا به " وليس في معنى " أُعْطَوْهُ ". فأما قوله :﴿ مُتَشَابِهاً ﴾ فليس انه أشبه بعضه بعضا ولكنه متشابه في الفضل. أي كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي أَنْ ﴾ ( ٢٦ ) ف " يستحي " لغة أهل الحجاز بياءين وبنو تميم يقولون " يَسْتَحى " بياء واحدة، والأولى هي الأصل لان ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه. إلا ترى أنهم قالوا : " حَيِيْتُ " و " جَوِيْتُ " فلم تُقَلَّ العين. ويقولون : " قُلْتُ " و " بِعْتُ " فيعُلُّونَ العين لما لم تعتلّ اللام، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا " لَمْ يَكُ " و " لَمْ يَكُنْ " و " لا أَدْرِ " و " لا أَدْرِي ".
وقال ﴿ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ﴾ ( ٢٦ ) لان " ما " زائدة في الكلام وإنما هو إنَّ الله لا يستَحي أن يضرِبَ بعوضَةً مَثَلاً ". وناس من بني تميم يقولون ﴿ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ﴾ يجعلون ( ما ) بمنزلة " الذي " ويضمرون " هو " كأنهم قالوا : " لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي هو بعوضةٌ " يقول : " لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضَةٌ مثلاً.
وقوله ﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ ( ٢٦ ) قال بعضهم : " أَعظمَ منها " وقال بعضهم : كما تقول : " فلان صَغِير " فيقول : " وفوقَ ذلك " [ ٢٦ء ] يريد : " وأصغَرُ * من ذلك ".
وقوله ﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً ﴾ ( ٢٦ ) فيكون " ذا " بمنزلة " الذي ". ويكون " ماذا " اسما واحدا إن شئت بمنزلة " ما " كما قال ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾ فلو كانت " ذا " بمنزلة " الذي " لقالوا " خيرٌ " ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب لأنه لو قال " ما الذي قلت " ؟ فقلت " خيراً " أي : " قلت خيراً " لجاز. ولو قلت : " ما قلت " : " فقلت : " خيرٌ " أي : " الذي قلت خيرٌ " لجاز، غير انه ليس على اللفظ الأول كما يقول بعض العرب إذا قيل له : " كيف أصبحت " ؟ قال : " صالحٌ " أي : " أنا صالحٌ ". ويدلك على أن " ماذا " اسم واحد قول الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثلاثون ] :
دَعِي ماذا علمتُ سأَتَّقيهِ ولكنْ بالمغيَّبِ نَبِّئِيني
فلو كانت " ذا " ها هنا بمعنى ( الذي ) لم يكن كلاما.
وأما قوله ﴿ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ ( ٢٧ ) ف " أَنْ يُوصل " بدل من الهاء في " به " كقولك " مررت بالقومِ بعضِهم ".
وأما " ميثاقه " فصار مكان " التَوثُّق " كما قال ﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ﴾ والأصل " إِنباتاً " وكما قال " العَطاء " في مكان " الإِعطاء ".
وقوله ﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ ( ٢٨ ) فإنما يقول كنتم ترابا ونُطَفا فذلك [ ٢٦ب ] ميّت. وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب : " قَدْ كان هذا قُطْنا " و " كان هذا الرُّطَبُ بُسْرا ". ومثل ذلك قولك للرجل : " اعمل هذا الثوب " وإنما معك غزل.
هذا باب من المجاز :
وأما قوله ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ ﴾ ( ٢٩ ) وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأن ذكر " السماء " قد دل عليهن كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسرين أن " السماء " جميع مثل " اللبن ". فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جازان يجمع فقال ﴿ سَوّاهُنَّ ﴾ فزعم بعضهم أن قوله ﴿ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾ جمع مذكر ك " اللّبن ". ولم نسمع هذا من العرب والتفسير الأول جيد.
وقال يونس :﴿ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾ ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر :[ من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون ] :
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ولا أرضُ** أبقلَ إبقالَها
وقوله :[ من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون ] :
فإمّا تَرَيْ لِمَّتى بُدِّلَتْ فإنَّ الحوادِثَ أَوْدَى بِها
وقد تكون " السماء " يريد به الجماعة كما تقول : " هَلَكَ الشاةُ والبعيرُ " يعني كل بعير وكل شاة. وكما قال ﴿ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ أي : من الأرضين.
وأما قوله ﴿ اسْتَوى إلى السماء ﴾ ( ٢٩ ) فان ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى [ ٢٧ء ] لتحول، ولكنه يعني فعله كما تقول : " كان الخَلِيفَة في أهْلِ العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أَهلِ الشام " إنما تريد تحول فعله.
وأما قولُ الملائِكَة ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ ( ٣٠ ) فلم يكن ذلك إنكارا منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يُسَبِّحون ويُقَدِّسون. أو قالوا ذلك لأنهم كرهوا أَنْ يُعْصى الله، لان الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قَوْلُه ﴿ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ( ٣٠ ) وقال ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ وقال ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ﴾ فذلك لان الذكر كله تسبيح وصلاة. تقول : " قَضَيْتُ سُبْحتي من الذكِر والصَلاة " فقال " سَبِّح بالحَمْد ". أي : " لتَكُنْ سُبْحَتُكَ بالحَمْدِ لله ". وقوله ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾ جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون ] :
أَلَسْتُمْ خيرَ مَن رَكِبَ المطايا وأنْدى العالَمِينَ بطونَ راحِ
أي : أنتم كذلك.
وقوله ﴿ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ ( ٣١ ) فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء ويدلك على ذلك قوله ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء ﴾ ( ٣١ ) فلم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله فقال ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ [ ٢٧ب ] صَادِقِينَ ﴾ كما يقول الرجل للرجل : " أَنْبِئْني بهذا إنْ كنتَ تَعْلَم " وهو يعلم انه لا يعلم يريد انه جاهل. فأعظموه عند ذلك فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ﴾[ ٣٢ ] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب " إخباراً عن أنفسهم بنحو ما خبر الله عنهم. وقوله ﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ﴾ فنصب " سبحانَكَ " لأنه أراد " نسبِّحكَ " جعله بدلا من اللفظ بالفعل كأنه قال : " نُسَبِّحُكَ بسُبْحانِكَ " ولكن " سُبْحان " مصدر لا ينصرفُ. و " سُبْحان " في التفسير : براءة وتنزيه قال الشاعر :[ من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون ] :
أقولُ لَمّا جاءني فَخْرُه سُبحانَ من عَلْقَمةَ الفاخِرِ
يقول : براءة منه.
هذا باب الاستثناء
وقوله ﴿ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ فانتصب لأنك شغلت الفعل بهم عنه فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول : " جاءَ القومُ إلاّ زيداً " لأنَّك لما جعلت لهم الفعل وشغلته بهم وجاء بعدهم غيرهم شبهته بالمفعول به بعد الفاعل وقد شغلت به الفعل.
وقوله ﴿ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ ﴾ ( ٣٤ ) ففتحت ﴿ استكبرَ ﴾ لأن كل " فَعَلَ " أو " فُعِلَ " فهو يفتح نحو :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ ﴾ ونحو ﴿ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ ونحو ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [ ٢٨ء ] ونحو ﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ لانّ هذا كله " فَعَلَ " و " فُعِلَ ".
هذا باب الدعاء
وهو قوله ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ ﴾ ( ٣٥ ) و﴿ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ ﴾ ( ٣٣ ) و﴿ يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ ﴾ فكل هذا إنما ارتفع لأنه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنما يريد " أعني فلانا " و " أدعو " وذلك مثل قوله ﴿ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا ﴾ و﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ﴾ إنما يريد : " يا ربِّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا " وقوله " رَبَّنا تَقبِّلْ مِنّا ".
هذا باب الفاء
قوله ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ ( ٣٥ ) فهذا الذي يسميه النحويون " جواب الفاء ". وهو ما كان جوابا للأمر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود. ونصب ذلك كله على ضمير " أنْ "، وكذلك الواو. وان لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وإنما نصب هذا لان الفاء والواو من حروف العطف فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما حتى كأنه قال " لا يكُنْ منكما قربُ الشجرة " ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم [ ٢٨ب ] فأضمر مع الفعل " أَنْ " لأنَّ " أَنْ " مع الفعل تكون اسما فيعطف اسما على اسم. وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله ﴿ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾ هذا جواب النهي و﴿ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾ جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله ﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ أي : " وَدُّوا لَوْ يُدْهِنُونَ ". ونحو قوله ﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ ﴾ جعل الأول فعلا ولم يَنْوِ به الاسم فعطف الفعل على الفعل وهو التمني كأنه قال " وَدُّوا لو تَغْفَلونَ وَلَوْ يَمِيلُونَ " وقال ﴿ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ أي " لا يؤذَن لَهُمْ ولا يَعْتَذِرُونَ ". وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو فان شئت أيضا نصبته على ضمير " أن " إذا نويت بالأول أن تجعله اسما كما قال ﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ﴾ ﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ [ بِمَا كَسَبُوا ]* وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ ﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ ﴾ فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزا، ولو رفعه على الابتداء جاز أيضا. وقال ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ فتجزم ﴿ فَيَغفِر ﴾ إذا أردت [ ٢٩ء ] العطف، وتنصب إذا أضمرت " إنْ " ونويت أن يكون الأول اسما، وترفع على الابتداء وكل ذلك من كلام العرب. وقال ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ ثم قال ﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ ﴾ فرفع ﴿ وَيَتُوبُ ﴾ لأنَه كلام مستأنف ليس على معنى الأول. ولا يريد " قاتلوهم : " يتبْ الله عليهم " ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت. وقال الشاعر [ من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون ] :
فإِنْ يهلِكْ أبو قابوس يهلِكْ ربيعُ الناسِ والشَهْرُ الحرامُ
ونُمْسِكَ بعدَه بذِنابِ عيشٍ أجبِّ الظهرِ ليس له سنامُ
فنصب " ونمسكَ " على ضمير " أَنْ " ونرى أَنْ يجعل الأول اسما ويكون فيه الجزْم أيضا على العطفِ والرفعُ على الابتداء. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون ] :
ومَنْ يَغتربْ عن قومِهِ لا يَزَلْ يرى مصارعَ مظلومٍ مجرّا ومَسْحُبا
ومَنْ يغتربْ عن قومِهِ لا يَجِدْ لهُ على مَنْ لهُ رَهْطٌ حواليهِ مغْضبا
وتُدْفنُ منه المحسَنات وان يسيء يَكُنْ ما أساءَ النار في رأسِ كَبْكَبا
ف " تُدفنُ " يجوز فيه الوجوه كلها. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون ] :
فإن يَرْجعِ النعمان نَفْرَحْ ونَبْتَهِجْ ويأتِ مَعَدّاً مُلْكُها وربيعُها
وإِنْ يَهْلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّةٌ وتُخْبَأُ في جوفِ العياب قُطُوعها
[ ٢٩ب ] وقال تبارك وتعالى ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ فهذا لا يكون إلا رفعا لأنه الجواب الذي لا يستغنى عنه. والفاء إذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبدا مبتدأ وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول " إن تأتِني فأمُركَ عندي على ما تحبُّ ". فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد " إنْ " بجواب. ومثلها ﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ وقال بعضهم ﴿ فَأُمَتِّعُهُ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ﴾ ف﴿ أَضْطَرُّهُ ﴾ إذا وصل الألف جعله أَمْرا. وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح. غير أن الألف ألف وصل وإنما قطعتها " ثُمَّ " في الوجه الآخر، لأنه كل ما يكون معناه " أَفْعَلُ " فانه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع. قال ﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ ﴾ وهو من " أتى " " يأتي " وقال ﴿ أَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾ فترك الألف التي بعد ألف الاستفهام لأنها ألف " أفعل " وقال الله تبارك* وتعالى فيما يحكى عن الكفار ﴿ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ فقوله ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ جواب للاستفهام، لأنَّ ﴿ لَوْلا ﴾ ها هنا بمنزلة " هلا " وعطف ﴿ وَأَكُن ﴾ على موضع ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنَّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم. وقد قرأ بعضهم ﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ ﴾[ ٣٠ء ] عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ ﴿ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ﴾ جزم. فجزم ﴿ يَذَرْهُم ﴾ على انه عطف على موضع الفاء لان موضعها يجزم إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أَنْ يعطفها على ما بعد الفاء فهو أجود وهي قراءة. وقال ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم ﴾ جزم ورفع على ما فسرت. وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل ﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا ﴾ [ و ] ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ فانتصب الآخر لأنَ الأوّلَ نوى أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وان شئت جزمت على العطف كأنك قلت " ولمّا يعلمِ الصابرين ". فان قال قائل : " ولما يَعْلمِ الله الصابرين " ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ﴾ فهو لم يعلمهم ؟ قلت بل قد علِم، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال " ليَعْلَمَه الناسُ " كما قال ﴿ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً ﴾ وهو قد علم ولكن ليبين ذلك. وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن ﴿ لِيُعْلَم أَيُّ الحزبين ﴾ ولا أراهم قرأوه إلاَّ لجهلهم بالوجه الآخر.
ومما جاء بالواو* ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ [ ٣٠ب ] الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾ إنْ شئتَ جعلت ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾ نصباً إذ نويت أن تجعل الأول اسما فتضمر مع ﴿ تَكْتُمُوا ﴾ " أَنْ " حتى تكون اسما. وان شئت عطفتها فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا ﴾ فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه. وزعموا انه في قراءة ابن مسعود ﴿ وَأَقُولُ لَّكُما ﴾ على ضمير " أَن " ونوى أَنْ يجعل الأوَّلَ اسما، وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون ] :
لقد كان في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويته تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأمَ سائِمُ
- ثواءٌ وثواءً او ثواءٍ رفع ونصب وخفض - فنصب على ضمير " أَنْ " لأن التقضي اسم، ومن قال " فَتُقْضى " رفع : " ويسأمُ " لأنه قد عطف على فعل وهذا واجبٌ، وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون ] :
فإِنْ لم أصدِّقْ ظَنَّكُمْ بتَيقُّنٍ فَلا سَقَتِ الأوْصالَ مِنّي الرّواعِدُ
ويَعلمَ أكفائي من الناسِ أَنَّني أَنَا الفارسُ الحامي الذمارِ المذاودُ
وقال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الأربعون ] :
فإن يقدِرْ عليكَ أبو قُبَيْسٍ نَمُطَّ بِكَ المَنِيَّة في هَوانِ
وَتُخْضَبَ لِحيَةٌ غَدَرَتْ وخانتْ بِأَحْمَرَ من نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ
[ ٣١ء ] فنصب هذا كله لأنه نوى أن يكون الأوّل اسما فأضمر بعد الواو " أنْ " حتى يكون اسما مثل الأول فتعطفه عليه. وأما قوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ و﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فهذا على جواب التمني، لأنَّ معناه " لَيْتَ لَنّا كَرَّةً ". وقال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون ] :
فلستُ بمدركٍ ما فاتَ مني ب " لهفَ " ولا ب " ليتَ " ولا " لواني "
فأنزل " لوَاني " بمنزلة " ليْتَ " لان الرجل إذا قال : " لَو أنّي كنتُ فعلتُ كذا وكذا " فإنما تريد " ودِدتُ لو كنتُ فَعلْتُ ". وإنَّما جازَ ضمير " أَنْ " في غير الواجب لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضا له.
فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عز وجل ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ فالمعنى : " إسمعوا أنزلَ اللّهُ من السماءِ ماءً " فهذا خبر واجب و﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون ] :
سأترُكُ منزلي لِبني تَميمٍ وأَلْحَقُ بالحجاز فأستريحا
وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة [ من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون ] :
[ ٣١ب ] لها هَضْبَةٌ لا يَدْخُلُ الذُلُّ وَسْطَها ويأوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما
واعلم أن إظهار ضمير " أن " في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز ألا ترى انك إذا قلت : " لا تأتِه فيضرِبَك " لم يجز أن تقول : " لا تأْتِه فأنْ يضرِبَكَ " وإنما نصبته على " أنْ " فلا يسحن إظهاره كما لا يجوز في قولك " عسى أنْ تفعلَ " : " عسى الفعل " ولا في قولك : " ما كان ليفعل " : " ما كان لان يفعل " ولا إظهار الاسم الذي في قولك " نعم رجلاً " فرب ضمير لا يظهر لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر فإذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ فيدخله اللبس.
وأما قوله ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ( ٣٦ ) فإنما يعني " الزَلَلَ " تقول : " زَلَّ فلانُ " و " أَزْلَلْتُه " و : " زالَ فلانُ " و " أَزالَهُ فُلانُ " والتضعيف القراءة الجيدة وبها نقرأ. وقال بعضهم :
﴿ فأزالَهُما ﴾ أخذها من " زَالَ، يزولُ ". تقول : " زالَ الرجلُ " و " أزالَهُ فلان ".
وقال ﴿ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ ( ٣٦ ) فإنما قال ﴿ اهْبِطُواْ ﴾ والله اعلم لأنّ إبليسَ كان ثالثهم فلذلك جمع.
قال ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ ( ٣٧ ) فجعل آدم المتلقى. وقد قرأ بعضهم ﴿ آدمَ ﴾ نصبا ورفع الكلمات جعلهن المتلّقِيات.
وقال ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾[ ٣٢ء ] وذلك أن " إمّا " في موضع المجازاة وهي " إما " لا تكون " أَمَا " وهي " إنْ " زيدت معها " ما " وصار الفعل الذي بعدها بالنونِ الخفيفةِ أو الثقيلة وقد يكون بغير نون. وإنَّما حسنت فيه النون لما دخلته " ما " لأنَّ " ما " نفي وهو ما ليس بواجب وهي من الحروف التي تنفي الواجب فحسنت فيه النون نحو قولهم " بِعينٍ مّا أَرَيَنَّك " حين أدخلت فيها " ما " حسنت النون. ومثل " إمّا " ها هنا قوله ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ﴾ وقوله ﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [ ٩٣ ] رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ فالجواب في قوله ﴿ فَلاَ تَجْعَلْنِي ﴾. وأشباه هذا في القرآن والكلام كثير. وأما " إمّا " في غير هذا الموضع الذي يكون للمجازاة فلا تستغني حتى ترد " إمّا " مرتَيْن نحو قوله ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ ونحو قوله ﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ﴾ وإنما نصب لأنّ " إمّا " هي بمنزلة " أوْ " ولا تعمل شيئاً كأنه قال " هَدَيْناهُ السبيلَ شاكراً أوْ كَفُورا " فنصبه على الحال و " حتى رَأَوْا ما يُوعَدُون العذابَ أَوْ الساعة " فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد " إمّا " في كل شيء يجوز فيه الابتداء [ و ]* لو قلت : " مررت برجل إمّا قاعدٍ وإمّا قائمٍ " جاز. وهذا الذي في القرآن جائز أيضا، ويكون رفعا إلا انه لم يقرأ.
وأما التي تستغني عن التثنية فتلك تكون مفتوحة الألف [ ٣٢ب ] أبدا نحو قولك " أَمّا عبد الله فمنطلق " وقوله ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [ ٩ ] وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ و﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾. فكلُّ ما لم يحتج فيه إلى تثنيةِ " أَمّا " فألفها مفتوحة إلا تلك التي في المجازاة.
و " أَمّا " أيضا لا تعمل شيئا ألا ترى انك تقول ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ فتنصبه ب " تنهر " ولم تغيّر " أمّا " شيئا منه.

باب الإضافة.


أما قوله ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ( ٣٨ ) فانفتحت هذه الياء على كل حال لان الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في " هُدَى ". فلما احتجت إلى حركة الياء حركتها بالفتحة لأنها لا تحرك إلا بالفتح. ومثل ذلك قوله ﴿ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ﴾ ولغة للعرب يقولون " عصَيَّ يا فَتى " و﴿ هُدَيَّ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ لما كان قبلها حرف ساكن وكان ألفا، قلبته إلى الياء حتى تدغمه في الحرف الذي بعده فيجرونها مجرى واحدا وهو أخف عليهم. وأما قوله ﴿ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾ و﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [ و ] ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾. فإنما حركت بالإضافة لسكون ما قبلها وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل " عَلايَ " ولا " لَدايَ " كما تقول " على زيد " و " لدى زيد " ليفرقوا بينه وبين الأسماء، لان هذه ليست بأسماء. و " عَصايَ " و " هُدايَ " [ ٣٣ء ] و " قَفايَ " أسماء. وكذلك ﴿ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ﴾ و﴿ يا بُشْرَايا هذا غُلاَمٌ ﴾ لأنَّ آخر " بُشْرى " ساكن. وقال بعضهم ﴿ يا بُشْراي هذا غلام ﴾ لا يريد الإضافة، كما تقول " يا بشارة ".
فإذا لم يكن الحرف ساكنا كنت في الياء بالخيار، إن شئت أسكنتها وان شئت فتحتها نحو ﴿ إِنِّيْ أَنَا اللَّهُ ﴾ و﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ ﴾، و﴿ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيْ مُؤْمِناً ﴾ و﴿ بَيْتِيَ ﴾[ و ] ﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِيْ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ و﴿ دُعَائِي إِلاَّ ﴾. وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان فان شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنين وان شئت فتحتها كيلا يجتمع حرفان ساكنان. إلا أن أحسن ذلك الفتح نحو قول الله تبارك وتعالى ﴿ جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾ و﴿ نِعْمَتِيَ الَّتِي ﴾ وأشباهِ ذا. وبه نقرأ. وإنْ لقيته أيضا ألف وصل بغير لام فأنت فيه أيضاً بالخيار إلاّ أَنَ أحسنه في هذا الحذف وبها نقرأ ﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ و﴿ هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴾.
فإذا كان شيء من هذا الدعاء حذفت منه الياء نحو ﴿ يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ و﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ و﴿ رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾.
ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدعاء وغيره من كل شيء. وذلك قبيح قليل إلا ما في رؤوس الآيْ، فانه يحذف الوقف. [ ٣٣ب ] كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي نحو قوله :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون ] :
[ أَبا مُنْذِرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا ] حنانيكَ بعضُ الشرِّ أَهونُ من بَعْضِ
وقوله :[ من الوافر وهو الشاهد الخامس والأربعون ] :
[ ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ فاصبَحينا ] وَلا تُبْقِي خُمورَ الأنْدَرينَ
إذا وقفوا فإذا وصلوا قالوا : " من بعض " و " الأنْدرينا " وذلك في رؤوس الآي كثير نحو قوله ﴿ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ [ و ] ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾. فإذا وصلوا أثبتوا الياء. وقد حذف قوم الياء في السكوت والوصل وجعلوه على تلك اللغة القليلة وهي قراءة العامة وبها نقرأ لان الكتاب عليها.
وقد سكت قوم بالياء ووصلوا بالياء، وذلك على خلاف الكتاب، لان الكتاب ليست فيه ياء وهي اللغة الجيدة. وقد سمعنا عربيا فصيحا ينشد :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون ] :
فما وَجَدَ النَّهْدِيُ وَجْداً وَجَدْتُهُ ولا وَجَدَ العُذْرِيُّ قبلِ جَمِيلُ
يريد " قبلِي " فحذف الياء. وقد أعمل بعضهم " قَبْل " إعمال ما ليس فيه ياء فقال : " قبلُ جميل " وهو يريد " قبلي ". كما قال بعضُ العرب " يا ربُّ اغفِر لي " فرفع وهو يريد " يا ربّي ".
وأما قوله ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ﴾ و﴿ أَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ﴾ فتثبت فيه الألف لأنهما رأس آية، لان قوما من العرب يجعلون أواخر القوافي إذا سكتوا عليها على مثل حالها إذا وصلوها وهم أهل الحجاز. [ ٣٤ء ] وجميع العرب إذا ترنموا في القوافي أثبتوا في أواخرها الياء والواو والألف. وأما قوله ﴿ يا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ ﴾ فأنث هذا الاسم بالهاء كقولك " رجُلٌ رَبْعَةٌ " و " غُلامٌ يَفَعَةٌ ". أو يكون ادخلها لما نقص من الاسم عوضا. وقد فتح قوم كأنهم أرادوا " يا أبتا " فحذفوا الألف كما يحذفون الياء، كما قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون ] :
[ ولست بمدرك ما فات مني ] " لهفَ " ولا ب " ليتَ " ولا لَوَآني "
يريد : " لَهْفاه ". ومما يدلك على أن هذا الاسم أنث بالهاء قول الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والأربعون ] :
تقولُ ابنتي لما رأتنِيَ شاحِباً كأنَّكَ فينا يا أَبات غريبُ
فرد الألف وزاد عليها الهاء كما أنثَ في قوله " يا أمتاه " فهذه ثلاثة أحرف. ومن العرب من يقول : " يا أمَّ لا تفعلي " رخّم كما قال : " يا صاحِ ". ومنهم من يقول " يا أميّ " و " يا أبي " على لغة الذين قالوا : " يا غلامِي. ومنهم من يقول " يا أبِ " و " يا أمِّ " وهي الجيدة في القياس.
وأما قوله ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ فمن العرب من يهمِزُ ومنهم من لا يهمز. ومنه من يقول ﴿ إسرَائِل ﴾ يحذف الياء التي بعد الهمزة ويفتح الهمزة ويكسرها.

باب المجازاة.


فأما قوله ﴿ وَأَوْفُواْ [ ٣٤ب ] بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ فإنما جزم الآخر لأنه جواب الأمر، وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير " إنْ تَفْعلوا " أُوفِ بَعَهْدِكُم وقال في موضع آخر ﴿ ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ وقال ﴿ فَذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ فلم يجعله جوابا، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون فقال " ذَرْهُم في حال لعبهم " وقال ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ ﴾ وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله انه يكون وجرى على الإعراب كأنه قال : " إنْ تركتهم أَلْهاهُم الأمل " وهم كذلك تركهم أو لم يتركهم. كما أن بعض الكلام يعرف لفظه والمعنى على خلاف ذلك، وكما أن بعضهم يقول : " كَذَبَ عليكُمُ الحجّ ".
ف " الحجُّ " مرفوع وإنما يريدون أن يأمروا بالحج. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون ] :
كَذَبَ العتيقُ وماءُ شنٍّ باردٍ إن كنتِ سائِلتي غَبوقاً فاذْهَبي
وقال :[ من الوافر وهو الشاهد التاسع والأربعون ] :
وذُبْيانِيةٌٍ توصي بينها أَلا كَذَبَ القراطِفُ والقُروفُ
قال أبو عبد الله : " القَراطِفُ "، واحدها " قَرْطَفٌ " : وهو كل ما له خَمَلٌ من الثياب. و " القُروفُ "، واحدها " قَرْفٌ " : وهو وعاءٌ من جلود الإبل [ ٣٥ء ] كانوا يَغَلون اللحم ويحملونه فيه في أسفارهم ". ويقولون " هذا جُحرُ ضبٍّ خَرِبٍ " والخرب هو الجُحْرُ. ويقولون، [ أحدهم ] : " هذا حبُّ رُمّاني ". فيضيف الرُمّان إليه وإنما له الحبّ وهذا في الكلام كثير.
وقوله ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ﴾ و﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ فأجراه على اللفظ حتى صار جوابا للأمر. وقد زعم قوم أن هذا إنما هو على " فَلْيَغْفِروا " و " قُلْ لَعِبادي فَليَقولوا " وهذا لا يضمر كله يعني الفاء واللام. ولو جاز هذا [ لَ ] جاز قول الرجل : " يَقُمْ زَيْدٌ "، وهو يريد " لَيَقُمْ زَيْدٌ ". وهذا الكلمة أيضاً أمثل لأنك لم تضمر فيها الفاء مع اللام.
وقد زعموا أن اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الخمسون ] :
مُحَمَّدُ تَفْد نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ إذا ما خِفْتَ من شَيْءٍ تَبالا
يريد : " لِتَفْدِ "، وهذا قبيح. وقال : " تَقِ اللّهَ امرُؤٌ فعل كذا وكذا " ومعناه : " ليَتَّق اللّهَ ". فاللفظ يجيء كثيرا مخالفاً للمعنى. وهذا يدل عليه. قال الشاعر في ضمير اللام :[ من الطويل وهو الشاهد الحادي والخمسون ] :
على مثلِ أصحاب البعوضَةِ فَاخمِشي لكِ الويلُ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ من بكى
يريد " ليبكِ مَنْ بكى " فحذف [ ٣٥ب ] وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام :[ من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون ] :
فَيَبْكِ على المِنْجابِ أضيافُ قَفْرةٍ سَرَوْا وأُسارى لم تُفَكَّ قيودُها
يريد : " فَلْيَبْكِ " فحذف اللام.

باب تفسير أنا وأنت وهو


وأما قوله ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [ و ] ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [ ٤١ ] فقال ﴿ وَإيّايَ ﴾ وقد شغلت الفعل بالاسم المضمر الذي بعده الفعل. لأن كل ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو فهو منصوب نحو قولك : " زيداً فَاضْرِبْ أَخاهُ ". لأن الأمر والنهي مما يضمران كثيراً ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضا جائز على أن لا يضمر. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون ] :
وقائِلَةٍ خولانَ فانكَحْ فتاتَهُمْ وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلّوُكما هِيا
وأما قوله ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾ [ و ] ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ فزعموا - والله أعلم - إن هذا على الوحي، كأنه يقول " ومِمّا أَقُصُّ عليكمُ الزانيةُ والزاني، والسارقة والسارقُ ". ثم جاء بالفعل من بعد ما اوجب الرفع على الأول على الابتداء وهذا على المجاز كأنه قال " أمرُ السارقِ والسارِقة وشأنُهما مما نَقُصَّ عليكم " [ ٣٦ء ] ومثله قوله ﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ ثم قال ﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ ﴾ كأنه قال : " وَمِمّا أقُصُّ عليكُمْ مَثَلُ الجنة " ثم أقبل يذكر ما فيها بعد أن اوجب الرفع في الأول على الابتداء. وقد قرأها قوم نصبا إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول، وهو في الأمر والنهي. وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام نحو قوله ﴿ أَبَشَرَاً مِنّا واحِداً نَتَّبِعُه ﴾. وإنما فُعِلَ هذا في حروف الاستفهام لأنه إذا كان بعده اسم وفعل كان أحسن أن يبتدئ بالفعل قبل الاسم، فان بدأت بالاسم أضمرت له فعلا حتى تحسن الكلام به وإظهار ذلك الفعل قبيح.
وما كان من هذا في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير. وهذا الحرف قد قرئ نصباً ورفعا ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾.
وأما قوله ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ فهو يجوز فيه الرفع وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب، وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره. لأن قولك : " إنّا عَبدُ اللّهِ ضَرَبْناهُ ". مثل قولك : " عبدُ اللّهِ ضَرَبْناهُ " لان معناهما في الابتداء سواء. قال الشاعر [ من المتقارب وهو الشاهد الرابع والخمسون ] :
[ ٣٦ب ] فأَمّا تَمِيمٌ تَميمُ بنُ مُرٍّ فأَلْفاهُمُ القومُ رَوْبى نِياما
وقال [ من الطويل وهو الشاهد الخامس والخمسون ] :
إذا ابنُ أبي مُوسى بلالٌ بلغتِهِ فقامَ بفأسٍ بينَ وَصْلَيكِ جازِرُ
ويكون فيهما النصب. فمن نصب ﴿ وأَما ثَمُودَ ﴾ نصب على هذا.
وأما قوله ﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ ﴾ وقوله ﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾ ثم قال ﴿ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ وقال ﴿ الرحمن[ ١ ] عَلَّمَ الْقُرْآنَ [ ٢ ] خَلَقَ الإِنسَانَ [ ٣ ] عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ ثم قال ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ وقال ﴿ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾ فهذا إنما ينصب وقد سقط الفعل على الاسم بعده لأن الاسم الذي قبله قد عمل فيه فأضمرت فعلا فأعملته فيه حتى يكون العمل من وجه واحد. وكان ذلك أحسن قال [ الشاعر ] :[ من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون ].
نغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ونُرْخِصُه إذا نَضِجَ القُدورَ
يريد " نُغالي باللحم " فان قلت ﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ ﴾ ليس بنصب في اللفظ فهو في موضع نصب قد عمل فيه فعل كما قلت : " مررت بزيدٍ وعَمْراً ضربتُه، كأنك قلت : " مررت زيداً " وقد يقول هذا بعض الناس. قال الشاعر :[ من المنسرح وهو الشاهد السابع والخمسون ] :
أَصبحتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا آمِلْكُ رأسَ البعيِرِ إنْ نَفَرا
والذيبَ أخشاهُ إنْ مَرَرْتُ بهِ وَحدِي وأَخشى الرياحَ والمَطَرا
[ ٣٧ء ] وكلُّ هذا يجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب أجود وأكثر.
وأما قوله ﴿ يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ فإنما هو على قوله " يَغْشى طائفةً منكم وطائفةٌ في هذهِ الحال ". [ و ] هذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول : " ضربتُ عبْدَ اللّهِ وزيدٌ قائم ". وقد قرئت نصبا لأنها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنه قد يسقط الفعل على شيء من سببها وقبلها منصوب بفعل فعطفتها عليه وأضمرت لها فعلها فنصبتها به. وما ذكرنا في هذا الباب من قوله ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ [ وقوله ] ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ ﴾ ليس في قوله ﴿ فَاقْطَعُواْ ﴾ و﴿ فَاجْلِدُواْ ﴾ خبر مبتدأ لان خبر المبتدأ هكذا لا يكون بالفاء. [ ف ] لو قلت " عبدُ اللّهِ فَيَنْطَلِقُ " لم يحسن. وإنما الخبر هو المضمر الذي فسرت لك من قوله " ومما نقص عليكم " وهو مثل قوله :[ من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون ] :
وقائلةٍ خولانُ فانكحْ فتاتَهُم [ وأكرومةُ الحَيَّيْنِ خلوٌ كَما هِيا ]
كأنه قال : " هؤلاءِ خَولانُ " كما تقول : " الهلالُ فانظرْ إليه " كأنك قلت : " هذا الهلالُ فانظُر إليه " فأضمر الاسم.
فأما قوله ﴿ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ﴾ فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لان " الذي " إذا كان صلته فعل جاز أن يكون خبره بالفاء نحو قول الله عز وجل ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [ ٣٧ب ] ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ ثم قال﴿ فَأُوْلئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾.

باب الواو.


أما قوله ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ ( ٤٥ ) فلأنه حمل الكلام على " الصلاةِ ". وهذا كلام منه ما يحمل على الأول ومنه ما يحمل على الآخر. وقال ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ فهذا يجوز على الأول والآخر، وأقيس هذا إذا ما كان بالواو أن يحمل عليهما جميعاً. تقول : " زيد وعمرو ذاهبان ". وليس هذا مثل " أو " لان " أو " إنما يخبر فيه عن أحد الشيئين. وأنت في " أو " بالخيار إن شئت جعلت الكلام على الأول وان شئت على الآخر، وأن تحمله على الآخر أقيس لأنك إن تجعل الخبر على الاسم الذي يليه [ الخبر ] فهو أمثل من أن تجاوزه إلى اسم بعيد منه. قال ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾ فحمله على الأول، وقال في موضع آخر ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ وقال ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾ فحمله على الآخر. قال الشاعر :[ من البسيط وهو الشاهد الثامن والخمسون ] :
أمّا الوَسامَةُ أو حُسْنُ النِساءِ فَقَدْ أُوتيتِ مِنْهُ لو أن العقلَ محتَنِكُ
وقال ابنُ أحمر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع والخمسون ] :
[ ٣٨ء ] رماني بداءٍ كنتُ منهُ ووالدي بريئاً ومن أَجْلِ الطَوِيِّ رماني
وقال الآخر :[ من المنسرح وهو الشاهد الستون ] :
نحنُ بِما عندَنا وأنتَ بما عندَكَ راضٍ والرأيُ مُخْتَلِفُ
وهذا مثل قول البرجمي :[ من الطويل وهو الشاهد الحادي والستون ] :
مَنْ يكُ أمْسى بالمدينةِ دارُهُ فإنّي وَقَيّاراً بِها لَغَرِيبُ

باب اسم الفاعل.


قال ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ ( ٤٦ ) فأضاف قوله ﴿ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ ولم يقع الفعل. وإنما يضاف إذا كان قد وقع الفعل تقول : " هم ضاربوا أبيك " إذا كانوا قد ضربوه. وإذا كانوا في حال الضرب أو لم يضربوا قلت : " هم ضاربون أخاك " إلا أن العرب قد تستثقل النون فتحذفها في معنى إثباتها وهو نحو ﴿ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ مثل ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ ولم تذق بعد. وقد قال بعضهم :﴿ ذائقةٌ الموتَ ﴾ على ما فسرت لك. وقال الله جل ثناؤه ﴿ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ ﴾ وهذا قبل الإرسال ولكن حذفت النون استثقالا. وقال ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ فأثبت التنوين لأنه كان في الحال. وقال ﴿ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً ﴾ على ذلك أيضا. وزعموا [ ٣٨ب ] إن هذا البيت ينشد هكذا :[ من البسيط وهو الشاهد الثاني والستون ] :
هل أنتَ باعثُ دينارٍ لحاجَتِنا أو عبد ربٍّ أخا عمرو بنِ مِخْراقِ
فأضاف ولم يقع الفعل ونصب الثاني على المعنى لان الأول فيه نية التنوين، كقول الله جل وعزّ ﴿ جَاعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ﴾ ولو جررت " الشمس " و " القمر " و " عبد رب أخا عمرو " على ما جررت عليه الأول جاز وكان جيدا. وقال ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ فالنصب وجه الكلام لأنَّك لا تجرى الظاهر على المضمر، والكاف في موضع جرّ لذهاب النون. وذلك لان هذا إذا سقط على اسم مضمر ذهب منه التنوين والنون إن كان في الحال وان لم يفعل، تقول : " هو ضاربُك الساعةَ أو غداً " و " هم ضاربوك ". وإذا أدخلت الألف واللام قلت : " هو الضارب زيداً " ولا يكون أن تجرّ زيداً لأن التنوين كأنه باق في " الضارب " إذا كان فيه الألف واللام، لأن الألف واللام تعاقبان التنوين. وتقول : " هما الضاربانِ زيداً " و " هما الضاربا زيدٍ " لأن الألف واللام لا تعاقبان التنوين في الاثنين والجمع.
فإذا أخرجت النون من الاثنين والجمع من أسماء الفاعلين [ ٣٩ء ] أضفت وان كان فيه الألف واللام، لأن النون تعاقب الإضافة وطرح النون ها هنا كطرح النون في قولك : " هما ضاربا زيد " ولم يفعلا، لأن الأصل في قولك : " الضاربان " إثبات النون لأن معناه وإعماله مثل معنى " الذي فعل " وإعماله. قال الشاعر : " من المنسرح وهو الشاهد الثالث والستون ] :
الحافظو عورةِ العشيرِ لا يأتيُهمُ من ورائِنا نطف
وفي كتاب الله ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ ﴾ وقد نصب بعضهم فقال ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةَ ﴾ و " الحافظو* عورةَ " استثقالاً للإضافة كما حذفت نون " اللَذينِ " و " الذينَ ". قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الرابع والستون ] :
أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَذا قَتَلا المُلوكَ وَفَكَّكا الأغْلالا
وقال :{ من الطويل وهو الشاهد الخامس والستون ] :
فإنّ الذي حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهم * همُ القومُ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالد
فألقى النون. وزعموا أن عيسى بنَ عمر كان يجيز :[ من المتقارب وهو الشاهد السادس والستون ]
فألفيتُهُ غيرَ مُستَعْتِبٍ ولا ذاكِرَ اللّهَ إلا قليلا
كأنه إنما طرح التنوين لغير معاقبة إضافة وهو قبيح إلا في كل ما كان معناه " اللذين " و " الذين " فحينئذ يطرح منه ما طرح من ذلك. ولو جاز هذا البيت لقلت : " هم ضاربو زيدا " وهذا لا يحسن. وزعموا أن بعض [ ٣٩ب ] العرب قال ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ وهو أبو السَمّال وكان فصيحا. وقد قرئ هذا الحرف ﴿ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابَ الأَلِيمِ ﴾ وهو في البيت أمثل لأنه اسقط التنوين لاجتماع الساكنين. وإذا ألحَقْتَ النونَ نصبت لأن الإضافة قد ذهبت، قال ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ [ و ] وقال ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد السابع والستون ] :
النازلونَ بكلِّ معتَرَكِ والطيبونُ معاقدَ الأُزْرِ

باب إضافة الزمان إلى الفعل.


قال ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ ( ٤٨ ) فنون اليوم لأنه جعل " فيه " مضمرا، وجعله من صفة اليوم كأنه قال " يوماً لا تَجْزِى نفسٌ عن نفسٍ فيه شيئاً ". وإنما جاز إضمار " فيه " كما جاز إضافته إلى الفعل تقول : " هذا يومُ يفعل زيد ". وليس من الأسماء شيء يضاف إلى الفعل غير أسماء الزمان، وذلك جاز إضمار " فيه ". وقال قوم : " إنَّما أضمر الهاء أراد " لا تَجْزِيهِ " وجعل هذه الهاء اسما لليوم مفعولا، كما تقول : " رأيتُ رجلاً يحبُّ زيدٌ " تريد : " يحبُّه زيد ". وهو في الكلام يكون مضافا، تقول : " اذكر يومَ لا ينفعُكَ شيء " أي : " يومَ لا منفعة " [ ٤٠ء ] وذلك أن أسماء الحين قد تضاف إلى لفعل قال ﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ أي " يومُ لا نطقَ "، وقد يجوز فيه " هذا يومُ لا ينطِقون " إذا أضمرت " فيهِ " وجعلته من صفة " يوم " لأنّ يوما نكرة وقد جعلت الفعل لشيء من سببه وقدمت الفعل. فالفعل يكون كله من صفة النكرة كأنك أجريته على اليوم صفة له إذا كان ساقطا على سببه، وقد قال بعضهم ﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ وكذلك ﴿ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ وكل ما أشبه هذا فهو مثله. ولا يضاف إلى الفعل شيء إلا الحين، إلا أنهم قد قالوا [ من الوافر وهو الشاهد الثامن والستون ] :
بآيةِ تقدِمون الخيلَ زُورا كأنَّ على سنابِكِها مُداما
[ وقالوا ] [ من الوافر وهو الشاهد التاسع والستون ] :
أَلا من مُبْلِغٌ عَنّي تَميماً بآيةِ ما تُحِبّونَ الطَّعاما
فأضاف " آية " إلى الفعل. وقالوا : " اذهب بذي تَسْلَم " و " بذي تَسْلَمان " فقوله : " ذي " مضاف إلى " تسلم " كأنه قال : " اذهبْ بِذِي سلامَتِكَ " وليس يضاف إلى الفعل غير هذا. ولو قلت في الكلام : " واتقوا يومَ لا تَجزى نفسٌ فيهِ " فلم تنون اليوم جاز، كأنك أضفت وأنت لا تريد أن تجيء ب " فيهِ " ثم بدالك بعد فجئت به، كما تقول : " اليومَ آتيكَ فيه " فنصبت " اليوم " لأنك جئت ب " فيه " بعد ما أوجبت النصب [ ٤٠ب ] وقال قوم : " لا يجوز إضمار " فيه ". ألا ترى انك لا تقول : " هذا رجلٌ قصدتُ " وأنت تريد " إليه " ولا " رأيتُ رجلاً أرغَبُ " وأنت تريد " فيهِ " والفرقُ بينَهما أن أسماء الزمان يكون فيها ما لا يكون في غيرها، وان شئت حملتها* على المفعول في السَعَةَ كأنك قلت : " واتقوا يوما لا تجزيه نفسٌ " ثم ألقيت الهاء كما تقول : " رأيتُ رجلاً أُحِبُّ " وأنت تريد " أحبه ".

باب من التأنيث والتذكير.


أما قوله ﴿ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ ( ٤٨ ) فهو مثل قولك : " لا تَجْزِي عنك شاة " و " يجزى عنك درهم " و " جَزى عنك درهمٌ " و " وجَزَتْ عنك شاةٌ ". فهذه لغة أهل الحجاز لا يهمزون. وبنو تميم يقولون في هذا المعنى : " أَجْزَأَتْ عنهُ وتجزئ عنه شاة " وقوله " شيئا " كأنه قال : " لا تجزئ الشاةُ مُجْزى ولا تُغْنِي غَناءٌ ". وقوله ﴿ عَن نَّفْسٍ ﴾ يقول : " مِنْها " أي : لا تكون مكانها.
وأما قوله ﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ فإنما ذكر الاسم المؤنث لان كل مؤنث فرقت بينه وبين فعله حسن أن تذكر فعله، إلاّ أَنَّ ذلك يقبح في الإنس وما أشبههم مما يعقل. لأنَّ الذي يعقل أشد استحقاقا للفعل. وذلك أن هذا إنما يؤنث ويذكر ليفصل بين [ ٤١ء ] معنيين. والموات ك " الأرض " و " الجدار " ليس بينهما معنى كنحو ما بين الرجل والمرأة. فكل ما لا يعقل يشبه بالموات، وما يعقل يشبه بالمرأة والرجل نحو قوله ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ لما أطاعوا صاروا كمن يعقل، قال ﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ فذكر الفعل حين فرّق بينه وبين الاسم، وقال ﴿ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ﴾ وتقرأ ﴿ تُؤْخَذُ ﴾. وقد يقال أيضاً ذاك في الإنس، زعموا أنهم يقولون " حَضَر القاضيَ امرأةٌ ". فأما فعل الجميع فقد يذكّر ويؤنث لأن تأنيث الجميع ليس بتأنيث الفصل ألا ترى أنك تؤنث جماعة المذكرّ فتقول : " هِيَ الرَِّجالُ " و " هِيَ القومُ "، وتسمي رجلا ب " بعال " فتصرفه لان هذا تأنيثٌ مثلُ التذكير، وليس بفصل. ولو سميته ب " عَناقِ " لم تصرفه، لان هذا تأنيث لا يكون للذكر، وهو فصل مابين المذكر والمؤنث تقول : " ذهب الرجل " و " ذهبت المرأة " فتفصل بينهما. وتقول : " ذهب النساء " و " ذهبت النساء " و " ذهب الرجال " و " ذهبت الرجال ". وفي كتاب الله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ و﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السبعون ] :
[ ٤١ب ] فما تركتْ قومي لقومِكَ حَيَّةً تَقَلَّبُ في بَحْرٍ ولا بَلَدٍ قَفْرِ
وقال ﴿ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [ و ] ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾. [ و ] قال الشاعر اشد من ذا وقد أخر الفعل، قال :[ من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون ] :
فإمَّا تَرَيْ لِمَّتِى بُدِّلَّتْ فإنَّ الحوادِثَ أَوْداى بها
أراد " أودتْ بها " مثل فعل المرأة الواحدة يجوز أن يذكر [ ف ] ذكر هذا. وهذا التذكير في الموات أقبح وهو في الإنس أحسن، وذلك إن كل جماعة من غير الإنس فهي مؤنثة تقول : " هي الحمير " ولا تقول " هم ". إلا أنهم قد قالوا : " أولئك الحمير "، وذلك أن " أولئك " قد تكون للمؤنث والمذكر تقول : " رأيت اولئك النساء ". قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون ] :
ذُمّى المنازِلُ بعدَ منزِلةِ اللِّوى والعيشَ بعدَ أولئكِ الأيَّامِ
وأما قوله ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ ( ٤٩ ) و﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾( ٥٠ ) وأمكنة كثيرة، فإنما هي على ما قبلها، إنما يقول : " اذكروا نعمتي " و " اذكُروا إذ نَجَّيْناكُم " و " اذكروا إذْ فَرَقْنا بكُم البَحْرَ " و " اذكرُوا إذْ قُلتُم يا مُوسى لَنْ نَصْبِر " وقال بعضهم " فرّقنا ".

باب أَهْل وآل.


وقوله ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ ( ٤٩ ) وقد قال ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ فإنما حدث عما كانوا يلقون منهم. و﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ في موضع رفع وان شئت جعلته في موضع نصب على الحال كأنه يقول " وإذ نَجَّيْناكُم من آلِ فرعَون سائِمين لكم " والرفع على الابتداء.
وأما " آلُ " فإنها تحسن إذا أضيفت إلى اسم خاص نحو : " أتيتُ آل زيد " و " أهل زيد " ]*، و " أهل مكةَ " و " آلَ مكةَ " و " أهلَ المدينةِ " و " آلَ المدينةِ ". ولو قلت : " أتيتُ آل الرجلِ " و " آل المرأةِ " لم يحسن، ولكن : " أتيتَ آلَ اللّهِ " وهُم زعموا أهلُ مكة. وليس " آلُ " بالكثير في أسماء الأرضين وقد سمعنا من يقول ذلك، وإنما هي همزة أبدلت مكان الهاء مثل " هَيْهاتَ " و " أَيْهَاتَ ".
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ ﴾ ( ٥٠ ) يقول فرقنا بين الماءين حين مررتم فيه.
وقال ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ ( ٥١ ) أي : واعدناه انقضاءَ أربعين ليلة، أي : رأسَ الأربعين، كما قال ﴿ وَسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾[ ٤٢ء ] وهذا مثل قولهم " اليومَ أربعونَ يوماً منذُ خرجَ " و " اليومَ يومانِ " أي : " اليومَ تمامُ الأربعين " و " تمامُ يَوْمَيْن "
وأما قوله ﴿ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ ( ٥٤ ) فانتصب ﴿ الْعِجْلَ ﴾ لأنه مفعول به، تقول : " عجبت من ضربِكَ زيداً ". وقوله ﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ مهموز لأنه من [ ٤٢ب ] " برأ اللّهُ الخلقَ " " يَبْرأُ " " بَرْءاً ". وقد قرأ بعضهم هذه الهمزة بالتخفيف فجعلها بين الهمزة وبين الياء. وقد زعم قوم أنها تجزم ولا أرى ذلك إلا غلطا منهم، سمعوا التخفيف فظنوا انه مجزوم والتخفيف لا يفهم إلا بمشافهة* ولا يعرف في الكتاب. ولا يجوز الإسكان، إلا أن يكون اسكن وجعلها نحو " عَلْمَ " و " قَدْ ضُرْبَ " و " قَدْ سَمْعَ " ونحو ذلك.
سمعت من العرب من يقول :﴿ جَاءَتْ رُسُلْنا ﴾ جزم اللام وذلك لكثرة الحركة قال الشاعر :[ من السريع وهو الشاهد الثاني والسبعون ] :
وأنتِ لو باكرتِ مَشْمولَةً صهباءَ مثلَ الفَرَسِ الأشْقَرِ
رُحْتِ وفي رجلَيكِ ما فيهما وقد بَداهَنْكِ من المِئزِرِ
وقال امرؤ القيس [ من السريع وهو الشاهد الثالث والسبعون ] :
فاليومَ أشربْ غيرَ مُستحقبٍ إِثماً من اللّهِ ولا واغِلِ
وقال آخر :[ من الرجز وهو الشاهد الرابع والسبعون ] :
* إنَّ بَنِي ثَمَرَةْ فُؤادي *
وقال آخر :[ من الرجز وهو الشاهد الخامس والسبعون ] :
يا عَلْقَمة يا عَلْقَمة يا علقمة خيرَ تميمٍ كلِّها وأَكرمَهْ
وقال :[ من الرجز وهو الشاهد السادس والسبعون ] :
إذا اعوججْنَ صاحبْ قَوِّمِ بالدَّوِّ أمثالَ السفينِ العُوَّمِ
ويكون " رُسُلْنا " على الإدغام، يدغم اللام في النون ويجعل فيها غنة. [ ٤٣ء ] والإسكان في ﴿ بارئْكُم ﴾ على البدل لغة الذين قالوا : " أَخْطَيْت " وهذا لا يعرف.

باب الفعل.


أما قوله ﴿ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ ( ٥٥ ) فيقول : " جِهاراً " أي : " عِيانا يكشف ما بيننا وبينه " كما تقول : " جَهِرَتْ الرَكِيَّةُ " إذا كان ماؤها قد غطاه الطين فنفّي ذلك حتى يظهرَ الماء [ و ] يصفو.
وأما قوله ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ ( ٥٧ ) ف " الغَمامُ " واحدتُه " غَمامةٌ " مثل " السَّحابِ " واحدتُه " سَحابة ". وأما " السَّلْوَى " فهو طائر لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده " سَلْوى " مثل جماعته، كما قالوا : " دِفْلَى " للواحد والجماعة، و " سُلامَى " للواحد والجماعة. وقد قالوا " سُلامَيات ". وقالوا " حُبَارَى " للواحد، وقالوا للجماعة : " حُبارَيَات "، وقال بعضُهم للجماعة " حُبَارى ". قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والسبعون ] :
وأَشلاءُ لَحْمٍ من حُبارَى يصيدُها إذا نَحْنُ شِئْنا صاحبٌ مُتَأَلَّفُ
وقالوا : " شُكَاعَى " للواحد والجماعة، وقال بعضهم للواحد : " شُكاعاة ".
وقوله ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ ( ٥٨ ) أي : " قولوا " : " لتكن منك حِطَّةٌِ لذُنُوبِنا " كما تقول للرجل : " سَمْعُكَ إلَيَّ ". كأنهم قيل لهم : " قُولُوا : " يا رب لتَكُن [ ٤٣ب ] مِنْكَ حِطَّةٌِ لِذُنوبِنا ". وقد قرئت نصبا على انه بدل من اللفظ بالفعل. وكلُ ما كان بدلا من اللفظ بالفعل فهو نصب بذلك الفعل، كأنه قال : " أحْطُطْ عَنَّا حِطَّةً " فصارت بدلا من " حُطَّ " وهو شبيه بقولهم : " سَمْعٌ وطاعةٌ "، فمنهم من يقول : " سَمْعاً وطاعةَ " إذا جعله بدل : " أَسْمَعُ سمعا وأَطيعُ طاعَةً ". وإذا رفع فكأنه قال : أمْرِي سَمْعٌ وطاعَةٌ ". قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الثامن والسبعون ] :
اناخوا بأَيدي عُصْبَةٍ وسُيوفُهم على أُمَّهاتِ الهامِ ضَرْباً شَآمِيا
وقال الآخَر :[ من الوافر وهو الشاهد التاسع والسبعون ] :
تَرَكْنا الخيلَ وَهْيَ عليهِ نَوْحاً مُقَلَّدَةً أعِنَّتَها صُفُونا
وقال بعضهم : " وَهْيَ عَلَيْهِ نَوْحٌ " جعلها في التشبيه هي النوح لكثرة ما كان ذلك منها كما تقول : " إنَّما أنتَ شَرٌّ " و " إنَّما هُوَ حِمارٌ " في الشبه، أو تجعل الرفع كأنه قال : " وهْيَ عَلَيْهِ صاحِبَةُ نَوْحٍ "، فألقى الصاحبة وأقام النوح مُقامَها. ومثل ذلك قول الخنساء. [ من البسيط وهو الشاهد الثمانون ] :
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتَّى إذا ذَكَرَتْ فَإنَّما هِيَ إقْبالٌ وإدْبارُ
ومثله ﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ كأنهم قالوا : " مَوعَظتُنا إِياهُمْ مَعْذِرَةٌ " وقد نصب على : " نَعْتَذِرُ مَعْذِرَةً " وقال ﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ ﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾[ ٤٤ء ] على قوله ﴿ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ ﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ ﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ جعل الطاعة مبتدأ فقال ﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ خير من هذا، أو جعل الطاعة مبتدأ فقال " طاعةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوف خيرٌ من هذا ". وزَعم يونس انه قيل لهم " قُولوا حِطَةٌ " أي : تكلموا بهذا الكلام. كأنه فُرِضَ عليهم أَنْ يقولوا هذه الكلمة مرفوعة.
وقال ﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ ﴾ ( ٥٩ ) وقال ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ وقال بعضهم ﴿ والرِجْزَ ﴾*. وذكروا أن " الرُجْزَ " : صنم كانوا يعبدونه فأما " الرِجْزَ " فهو : " الرِجْسُ. [ والرِجْسُ : النَجَس ] وقال ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ و " النَجَسُ " : القَذَر.
وقال ﴿ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾ ( ٦٠ ) يكسر الشين بنو تميم، وأما أهل الحجاز فيسكنون ﴿ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾.
وقوله ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ ( ٦٠ ). من " عَثِيَ " * " يَعْثَى " وقال بعضهم : " يَعْثُو " من " عَثَوْتُ " ف " أَنَا أَعْثُو " مثل : " غَزَوْتُ " ف " أنَا أَغْزُو ".

باب زيادة " مِن ".


وأما قوله ﴿ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا ﴾ ( ٦١ ) فدخلت فيه ( مِنْ ) كنحو ما تقول في الكلام : " أهلْ البَصْرة يأكلون من البُرِّ والشَعير " وتقول : " ذهبتُ فَأصَبْتُ من الطَّعام " تريد " شَيْئا " ولم تذكر الشيء. كذلك ﴿ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ﴾ شيئا، ولم يذكر الشيء وان شئت [ ٤٤ب ] جعلته على قولك : " ما رأيت مِنْ أَحَدٍ " تريد : " ما رأيتُ أحَداً " و " هلْ جاءك مِنْ رَجْلٍ " تريد هل جاءك رَجُلٌ. فان قلت : " إنما يكون هذا في النفي والاستفهام " فقد جاء في غير ذلك، قال ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول : " زيدْ مِنْ أَفْضَلِها " تريد : هو أفضلها، وتقول العرب : " قد كانَ مِنْ حَدِيثٍ فَخَلِّ عَنّي حتّى أذهب " يريدون : قَدْ كانَ حَديثٌ. ونظيره قولهم : " هَلْ لَكَ في كذا وكَذا " ولا يقولون : " حاجَةُ، و : لا عَلَيْكَ " يريدون : لا بَأَسَ عَلَيْكَ*.
وأما قوله ﴿ اهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ ( ٦١ ) وقال ﴿ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ فزعم بعض الناس انه يعني فيهما جميعا " مِصْر " بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنث على هذا النحو " هِنْد " و " جُمْل " فمن العرب من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم : " أما التي في " يوسف " فيعني بها " مِصْرَ " بعينها، والتي في " البقرة " يعني بها مِصْراً من الأمصار.
وأما قوله ﴿ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ( ٦١ ) يقول : " رَجَعُوا بِهِ " أي صار عليهم، وتقول " باء بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بَوْءاً ". وقال ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ مثله.

باب من تفسير الهمز.


أما قوله ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ( ٦١ ) [ و ] ﴿ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ ﴾ كل ذلك [ ٤٥ء ] جماعة العرب تقوله.
ومنهم من يقول ﴿ النُّبَاءَ ﴾ أولئك الذين يهمزون " النَبِىء " فيجعلونه مثل " عَريف " و " عُرَفاء ". والذين لم يهمزوه جعلوه مثل بنات الياء فصار مثل " وَصِيّ " و " أَوْصِياء " ويقولون أيضا : " هُمْ وَصِيُّونَ ". وذلك أن العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتى يصير كبنات الياء، يجتمعون على ترك همزة نحو " المِنْسأَةِ " ولا يكاد أحد يهمزها إلا في القرآن فان أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ، وهي من " نَسَأْتُ ". وجاء ما كان من " رَأَيْتُ " على " يَفْعَلُ " أو " تَفْعَلُ " أو " نَفْعَلُ " أو " أَفْعَلُ " غير مهموز، وذلك أن الحرف الذي كان قبل الهمزة ساكن، فحذفت الهمزة وحرك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول : " مَنَ أبوك ". قال ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾ وقال ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ وقال ﴿ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾ وقال ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾. وأما قوله ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾ و﴿ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴾ وما كان من " أَرَأَيْتَ " في هذا المعنى ففيه لغتان، منهم من يهمز ومنهم من يقول " أَريْتَ ". وإنما يفعل هذا في " أَرَأَيْتَ " هذه التي وضعت للاستفهام لكثرتها. فأما " أَرأَيْتَ زَيْداً " إذا أردت " أَبْصَرْتَ زَيَداً " فلا يتكلم بها إلاّ مهموزة [ ٤٥ب ] أو مخففة. ولا يكاد يقال " أَرَيْتَ " لأَنَّ تلك كثرت في الكلام فحذفت كما حذفت في " [ أَمَانَّه ] ظريف " يريدون : " أَما إِنَّه ظَريفٌ " [ ف ] يحذفون ويقولون أيضاً " لَهِنَّكَ لَظَريفٌ " يريدون : " [ ل ] إنَّكَ لَظَريفٌ ". ولكن الهمزة حذفت كما حذفوا في قولهم :[ من البسيط وهو الشاهد الحادي والثمانون ] :
لاهِ ابنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَنّي وَلا أَنَتَ دَيّاني فَتَخْزُوني
وقال الشاعر " من الكامل وهو الشاهد الثاني والثمانون ] :
أَرأيْتَ إنْ أَهْلَكْتُ مالِيَ كُلَّهُ وَتَرَكْتُ مَا لَكَ فيمَ أَنْتَ تَلُومُ
[ فَهَمَز ] وقال الآخر :[ من المتقارب وهو الشاهد الثالث والثمانون ] :
ارَيْتَ امْرَءاً كنتُ لَمْ أَبْلُهُ أَتَانِيْ وَقالَ اتَّخِذْنِي خَلِيلا
فلم يهمز. وقال [ من الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون ] :
يا خاتَِمَ النُّبَاءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبيلِ هُداكا
وأما قوله ﴿ بِمَا عَصَوْا ﴾ ( ٦١ ) [ ف ] جعله اسما هنا كالعصيان يريد : بعصيانهم، فجعل " ما " و " عَصَوْا " اسما.
قوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ ( ٦٣ ) فهذا على الكلام الأول. يقول : " اذُكروا إذ أَخَذْنا ميثاقَكُم وَرَفَعَنا فَوقَكُم الطورَ خُذُوا " يقول : " فَقلنا لَكُم " : " خُذُوا ". كما تقول : " أَوْحَيتُ إليْهِ : قُمْ " كأنه يقول : " أَوْحَيْتُ إلَيْهِ فقلتُ له : " قُمْ " وكان في قولك [ ٤٦ ] : " أَوْحَيْتُ إلَيْهِ " دليل على أَنَّكَ قد قلت له.
وأما قوله ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ ( ٦٥ ) يقول : " ولَقَد عَرَفْتُمْ " كما تقول : " لقد علِمت زَيْداً وَلَمْ أَكُنْ أَعلَمُه ". وقال ﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ يقول : " يَعْرِفُهُم ". وقال ﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ أي : لا تَعْرِفُهم نَحْنُ نَعْرِفهُم. وإذا أردت العلم الآخر قلت : " قَدْ عَلِمْتُ زَيْداً ظريفاً " لأنك تحدث عن ظرفه. فلو قلت : " قدْ عَلِمْتُ زَيْداً " لم يكن كلاما.
وأما قوله ﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ ( ٦٥ ) فلأنك تقول : " خَسَأْتُهُ " " فخسئ " " يَخْسَأُ خَسْأً شديدا " ف " هُوَ خاسئ " و " هُمْ خاسِئُون ".
وأما قوله ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً ﴾ ( ٦٦ ) فتكون على القردة، وتكون على العقوبة التي نزلت بهم فلذلك أُنّثَت.
وأما قوله ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ ( ٦٧ ) فمن العرب والقراء من يثقله، ومنهم من يخففه وزعم عيسى بن عمر أنّ كلَ اسمٍ على ثلاثة أحرف أَوَّلُهُ مَضْموم فمن العرب من من يثقله ومنهم من يخففه نحو : " اليُسُر " [ و " اليُسْر " ]، و " العُسُر " [ و " العُسْر " ]، و " الرُحُم " [ و " الرُحْم " ]. وقال بعضهم ﴿ عُذْراً ﴾ خفيفة ﴿ أونُذُراً ﴾ مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ. وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر تحرك أيضاً ثانية بالضم.
وأما قوله ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ [ ٤٦ب ] وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ ﴾ ( ٦٨ ) فارتفع ولم يصر نصبا كما ينتصب النفي لان هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنما هو اسم مبتدأ وخبره مضمر، وهذا مثل قولك : " عبدُ اللّهُ لا قائمٌ ولا قاعدٌ " أدخلت " لا " للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه " لا ".
وأما قوله ﴿ بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ ﴾ ( ٦٩ ) ف " الفاقِعُ " : الشديد الصفرة. ويقال : " أَبْيضُ يَقَقٌ " : أي : شديدُ البياض، و " لِهاقٌ " و " لَهَقٌ " و " لَهاقٌ "، و " أَخَضَرُ ناضِرٌ " و " أَحْمَرُ قانِىءٌ " و " ناصِعٌ " و " فاقِمٌ ". ويقال : " قَدْ قَنَأَتْ لِحْيَتُهُ " فَ " هي " تَقْنَأُ قُنُوءا " أي : احمّرت. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الخامس والثمانون ] :
............. كَما قَنَأَتْ أَنامِلُ صاحِبِ الكَرْمِ
و " قاطِفُ الكَرْمِ ". وقال آخر :[ من الكامل وهو الشاهد السادس والثمانون ] :
مِنْ خَمِرّ ذي نَطَفٍ أَغَنَّ كَأنَّما قَنَأَتْ أَنامِلُهُ مِن الفِرْصادِ
وأما قوله ﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ ( ٧٠ ) [ ف ] جعل " البَقَر " مذكرا مثل " التَمْر " و " البُسْر " كما تقول : " إنَّ زيداً تَكَلَم يا فَتَى " وان شئت قلت ( يَشّابهُ ) وهي قراءة مجاهد. ذكّر " البقر " يريد ﴿ يَتَشابَهُ ﴾ ثم أدغم التاء في الشين. ومن أَنَّث البقَر " قال ﴿ تَشّابَهُ ﴾ فادغم، وان شاء حذف التاء الآخرة ورفع كما تقول [ ٤٧ء ] " إنَّ هذِهِ تَكَلَّمُ يا فَتِى " لأنها في " تَتَشابَهُ " إحداهما تاء " تَفْعَلُ " والأخرى التي في " تَشابَهَتْ " فهو في التأنيث معناه " تَفْعَلُ ". وفي التذكير معناه " فَعَلَ " و " فَعَلَ " أبدا مفتوح كما ذكرت لك والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث لأنك تريد " تَشابَهَتْ " ف " هي " تَتشابهُ " وكذلك كل [ ما كان ] من نحو " البَقَرِ " ليس بين الواحد والجماعة [ فيه ] إلا الهاء، فمن العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه، ومنهم من يقول : " هي البُرُّ والشعير " وقال :﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾ فأنث على تلك اللغة وقال " باسقات " فجمع لان المعنى جماعة. وقال الله جل ثناؤه ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾ فذكر في لغة من يذكر وقال ﴿ وينشئ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ فجمع على المعنى لان المعنى معنى سحابات. وقال ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنْظُرُ إِلَيْكَ ﴾ وقال ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ على المعنى واللفظ.
وقد قال بعضهم :﴿ إنَّ الباقِرُ ﴾ مثل " الجامِل " يعني " البَقَرَ " و " الجِمالَ " قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد السابع والثمانون ] :
مالِي رأيتُكَ بعد أَهْلِكَ مُوحِشا خَلِقاً كَحَوْضِ الباقِرِ المُتَهَدِّمِ
وقال :[ من الطويل وهو الشاهد الثامن والثمانون ]
[ فَإِنْ تَكُ ذا شاءٍ كَثِيرٍ فإنَّهُمْ ] ذَوُو جامِلٍ لا يَهْدَأُ اللَّيْلَ سامِرُهُ
وأما قوله ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ [ ٤٧ب ] ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ ( ٧١ ) " مسلمة " على " إنَّها بَقَرَةٌ مُسَلَّمةٌ ".
﴿ لاشِيَةَ فِيهَا ﴾ ( ٧١ ) يقول : " لا وَشْيَ فيها " من " وَشَيْتُ شِيَةً " كما تقول : " وَدَيْتُه دِيَةً " و " وَعَدْتُهُ عِدَةً ".
وإذا استأنفت ( ألآن ) ( ٧١ ) قطعت الألفين جميعا لأن الألِفَ الأولى مثل ألف " الرَّجل " وتلْك تُقطع إذا استُؤنفت، والأُخرى همزة ثابتة تقول " ألآن " فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في ( قَالُوا ) ( ٧١ ) لأنَّه إنَّما كان يذهبها لسكون اللام، واللام قد تحرّكت لأنَّه قد حوّل عليها حركة الهمزة.
وأما قوله ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ ( ٨٢ ) فإنما هي " فَتَدارَأْتُم " ولكن التاء تدغم أحيانا كذا في الدال لان مخرجها من مخرجها. فلما أدغمت فيها حوّلت فجعلت دالا مثلها، وسكنّت فجعلوا ألفا قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها كما قالوا : " اضرْب " فألحقوا الألف حين سكنت الضاد. ألا ترى انك إذا استأنفت قلت " ادّارأتم " ومثلها ﴿ يَذَّكَّرُونَ ﴾ و﴿ تَذَّكَّرُونَ ﴾ [ و ] ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ ﴾ ومثله في القرآن كثير. وإنما هو " يَتدَبَّرون " فأدغمت التاء في الدال لأن التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكل ما قرب مخرجه فافعل به هذا [ ٤٨ء ] ولا تقل في " يَتَنَزَّلون " : " يَنّزَّلون " لان النون ليست من حروف الثنايا كالتاء.
وقال ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ ( ٧٤ ) وليس قوله :﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ كقولك : " هُوَ زيدٌ أو عمرو " إنّما هذه ﴿ أَوْ ﴾ التي في معنى الواو، نحو قولك : " نَحْنُ نأكُل البُرَّ أَوْ الشَعير أو الأُرُزَّ، كلَّ هذا نَأْكُلُ " ف﴿ أَشَدُّ ﴾ ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو " وهي أشدُّ قَسْوَةً " وقال بعضهم ﴿ فَهْيَ كالحِجارَةِ ﴾ فأسكن الهاء وبعضهم يكسرها. وذلك أن لغة العرب في " هيَ " و " هَو " ولام الأمر إذا كان قبلهن واو أو فاء أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ ﴾ [ و ] قال ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. [ و ] قال ﴿ وَلْيتوبوا ﴾ وقف وكسر. وقال ﴿ فَلْيَعْبُدُواْ ﴾. وقف وكسر.

باب إِنَّ وأَنَّ.


قال ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ﴾ ( ٧٤ ) فهذه اللاّم لام التوكيد وهي منصوبة تقع على الاسم الذي تقع عليه " إنَّ " إذا كان بينها وبين " إِنَّ " حشو نحو هذا. [ و ] هو مثل : " إنَّ في الدارِ لَزَيْداً ". وتقع أيضاً في خبر " إنَّ " وتصرف " إِنَّ " إلى الابتداء، تقول : " أَشْهَدُ إنَّهُ لَظَريفٌ " قال الله عزَّ وجلِ ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ [ ٤٨ب ] لَكَاذِبُونَ ﴾ وقال ﴿ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [ ٩ ] وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [ ١٠ ] إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴾ وهذا لو لم تكن فيه اللام كان " أَنَّ رَبَّهُمْ " لان " أنَّ " الثقيلة إذا كانت هي وما عملت فيه بمنزلة " ذاكَ " أوْ بمنزلة اسم فهي أبدا " أَنَّ " مفتوحة. وإنْ لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم فهي " إنَّ " على الابتداء. ألا ترى إلى قوله ﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ يقول : " اذْكُرُوا هذا " وقال ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ ﴾ لأنه يحسن في مكانه " لولا ذاكَ " وكل ما حسن فيه " ذاك " أنْ تجعله مكان " أنَّ " وما عملت فيه فهو " أَنَّ ". وإذا قلت ﴿ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ لم يحسن أَنْ تقول : " يَعْلَم لَذالِكَ ". فان قلت : " اِطْرح اللام أَيضاً وقل " يُعْلَمُ ذَاكَ " فاللام ليست مما عملت فيه " إِنّ ". وأما قوله ﴿ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ فلم تنكسر هذه من اجل اللام [ و ] لو لم تكن فيها لكانت " إنَّ " أيْضاً لأَنَّهُ لا يحسن أَنْ تقول " ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إلاّ ذَاكَ " و " ذاكَ " هو القصة. قال الشاعر :[ من المنسرح وهو الشاهد التاسع والثمانون ] :
ما أَعْطيانِي وَلا سَألْتُهُما إلاّ وإني لَحاجِزِي كَرَمي
فلو أُلْقِيَتْ من هذه اللامَ أيضا لكانت " أَن ". وقال ﴿ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ [ ٤٩ء ] وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ كأنه قال : " ذاكَ الأمْر " وهذا قوله ﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ تقع في مكانه " هذا ". وقال ﴿ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ كأنه على جواب من قال : " ما الأَمْرُ " ؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون : " ذلكم... " كأنه قال : " ذلِكُمْ الأمرُ وأَنَّ اللّهَ موهنُ كيدِ الكافرين " فحسن أن يقول : " ذلك م " و " هذا ". وتضمر الخبر أو تجعله خبر مضمر. وقال ﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى ﴾ ﴿ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ﴾ لأنه يجوز أن تقول : " إنَّ لَكَ ذاكَ " و " هذا " وهذه الثلاثة الأحرفُ يجوز فيها كسر " إِنَّ " على الابتداء. ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾ فيجوز أن تقول : " فنادته الملائكة بِذاكَ " وان شئت رفعته على الحكاية كأنه يقول : " فنادَتْهُ الملائكةُ فَقالَتْ : " إِنَّ اللّهُ يُبَشِّرُكَ " لأنَّ كُلَّ شيء بعدَ القولِ حكاية، تقول : " قُلْتُ : " عبدُ اللّهِ مُنْطَلِقٌ " وقلت : " إنَّ عبدَ اللّهِ زيداً مُنْطَلِقٌ " إلاَّ في لُغَةِ من أعمل القول من العرب كعمل الظن فذاك ينبغي [ له ] أنْ يفتح " أَنَّ ". وقال ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ فيزعمون أنَّ هذا " ولأنَّ هذهِ أمَّتَكُم أُمَّةٌ واحدةٌ وَأَنَا رَبُّكُّمْ فَاتَّقُونِ " يقول : " فَاتَّقُون لأَنَّ هذِهِ أُمَّتَكُمْ " [ ٤٩ب ] وهذا يحسن فيه كذاك، فان قلت : " كيف تلحق اللام ولم تكن في الكلام ". فان طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ من " أَنَّ " حسن ألا تراه يقول " أَشْهد أَنَّك صادِقٌ " وإنَّما هو " أشهد على ذلك ". وقال ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾ يقول : " فلا تدعوا مع الله أحدا لأَنَّ المساجدَ لله "، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنه عمل فيه ما بعده، أضافه إليه بحرف الجر. ولو قلت " أنّكَ صالِحٌ بَلَغَنِي " لم يجز، وان جاز في ذلك. لأنَّ حرف الجر لما تقدم ضميره قوي. وقد قرئ مكسورا. قال بعضهم : " إنَّما هذا على ﴿ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾ و " أُوحِيَ إليََّ أَنَّ المَساجِدَ لِلّهِ " و " أُوْحِي إليَّ أَنهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ ". وقد قرئ ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ﴾ ففتح كل " أَنْ " يجوز فيه على الوحي.
وقال بعضهم ﴿ وَإِنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ﴾ فكسروها من قول الجن. فلما صار بعد القول صار حكاية وكذاك ما بعده مما هو من كلام الجن.
وأما " إنَّما " فإذا حسن مكانها " أَنَّ " فتحتها، وماذا لم تحسن كَسَرْتَها. قال ﴿ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم اله وَاحِدٌ ﴾ فالآخرة يحسن مكانها " أَنَّ " فتقول : " يُوحى إليَّ أَنَّ إلهَكُم إلهٌ واحد " قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد التسعون ] :
[ ٥٠ ] أرانِي - وَلا كُفْرانَ لِلّهِ - إنَّما أُواخِي من الأقْوامِ كُلَّ بَخِيلِ
لأنَّهُ لا يَحْسُنُ ها هُنا " أَنَّ " [ ف ] لو قلت : " أَراني أنما أواخي من الأقْوام " لم يحسن. وقال :[ من الخفيف وهو الشاهد الحادي والتسعون ] :
أَبْلِغ الحارثَ بنَ ظالِمِ المُو عِدِ والناذِرَ النُّذُورَ عَلَيّا
أَنَّما تَقْتُلُ النِّيامَ، وَلا تَقْ تُلُ يَقْظانَ ذا سِلاحٍ كَمِيّا
فحسن أن تقول : " أَنَّكَ تَقْتُلُ النِّيام ". وأَمَّا قوله عز وجل ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ فالآخرةُ بَدَلٌ من الأُولى.
وَأمّا " إنْ " الخفيفة فتكون في معنى " ما " كقول الله عز وجل ﴿ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ ﴾ أيْ : ما الكافرون. وقال ﴿ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ ﴾ أيْ : ما كان للرحمن ولد ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ مِنْ هذهِ الأمة للرَّحْمن، بِنَفْيِ الوَلَدِ عَنْهُ.
أَي : أَنا أَوَّلُ العابِدِينَ بأَنَّهُ ليْسَ للرحمن وَلَد. وقال بعضُهُمُ ﴿ فَأَنا أَوَّلُ العَبِدِين ﴾ يقول : " أَنا أَوَّلُ مَنْ يَغْضَبُ من ادّعائِكُمْ لِلّهِ وَلدا ".
ويقول : " عَبِدَ " " يَعْبَدُ " " عَبَدا " أي : غَضِبَ. وقال ﴿ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى " ما " وكذلك ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن [ ٥٠ب ] مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾ ف " إنْ " بمنزلة " ما "، و " ما " التي قبلها بمنزلة " الذي ". ويكون للمجازاة نحو قوله ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ ﴿ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ ﴾. وتزاد " إنْ " مَع " ما "، يقولون : " ما إنْ كانَ كَذا وَكَذا " أي : " ما كانَ كَذَا وَكَذا "، و : " ما إنْ هذا زَيْدٌ ". ولكنها تغير " ما " " فلا يُنْصَبُ بِهَا الخبر. وقال الشاعر : من الوافر وهو الشاهد الثاني والتسعون ] :
وما إنْ طِبْنا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنايانا وَطُعْمَةُ آخَرِينا
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة وهي مكسورة ولا تكون إلاَّ وفي خبرها اللام، يقولون : " إنْ زَيْدٌ لَمنطلِقٌ " ولا يقولونه بغير لام مخافة أن تلتبس بالتي معناها " ما ". وقد زعموا أن بعضهم يقول : " إنْ زيداً لمَنُْطَلِقٌ " يعملها على المعنى وهي مثل ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ يقرأ بالنصب والرفع و " ما " زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد وهي التي في قوله ﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾ ولكنها إنما وقعت على الفعل حين خففت كما تقع " لكنْ " على الفعل إذا خففت. ألا ترى أنك تقول : " لكن قد قال ذاك زيد ". ولم يُعَرُّوها من اللام في قوله ﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾[ ٥١ء ] وعلى هذه اللغة فيما نرى - والله أعلم - ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ وقد شددها قوم فقالوا ﴿ إنّ هذانِ ﴾ وهذا لا يكاد يعرف إلا أنهم يزعمون أن بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا فيقولون : " رأيت أخواك " و " رأيت الرجلان " وأوضعته علاه " و " ذهبت إلاهُ " فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد أنه سمع أعرابياً فصيحا من بلحارث يقول : " ضَرَبْتُ يَداهُ " و " وضعته علاه " يريد : يدَيْه وَعَلَيهِ. وقال بعضهم ﴿ إنَّ هذَيْنِ لَساحِران ﴾ وذلك خلاف الكتاب. قال الشاعر :[ من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون ] :
طاروا عليهن فَشُلٌ عَلاها واشْدُدُ بمثْنى حَقبٍ حَقْواها
ناجَيَةً وناجِياً أَباها.
وأَمَّا " أَنْ " الخفيفة فتكون زائدةً مع " فَلمَّا " و " لَمّا " قال ﴿ فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ ﴾ وإنما هي " فَلَمَّا جاء البَشِير " وقال ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا ﴾ يقول " ولَمّا جَاءَتْ " وتزاد أيضاً مع " لَوْ " يقولون : " أَنْ لَوْ جِئْتني كانَ خيراً لك " يقول " لَوْ جِئْتَني ". وتكون في معنى " أَي " قال ﴿ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ﴾ يقول " أيْ امشوا ". وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله ﴿ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ ﴾ و﴿ أَنَّ [ ٥١ب ] لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ على قولك " أَنْهُ لَعْنَةُ اللّهِ ". و " أَنْهُ الحَمْدُ لِلّهِ ". وهذه بمنزلة قوله* ﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ﴾ [ و ] ﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ولكن هذه إذا خففت وهي إلى جنب الفعل لم يحسن إلا أن معها " لا " حتى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار. ولا تعوض " لا " في قوله ﴿ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ ﴾ لأنها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم. وعوّضتها " لا " إذا كانت مع الفعل لأنهم أرادوا أن يبيّنوا أنها لا تعمل في هذا المكان وأنها ثقيلة في المعنى. وتكون " أنْ " الخفيفة تعمل في الفعل وتكون هي والفعل اسما للمصدر، نحو قوله ﴿ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ إنما هي " عَلى تسويةِ بِنَانِهِ ".

باب من الاستثناء.


﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ ( ٧٨ ) منصوبة لأنه مستثنى ليس من أول الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى " لكن " خارجا من أول الكلام إنما يريد " لكنْ أمانيَّ " و " لكِنَّهُم يَتَمَنَّونَ ". وإنما فسرناه ب " لكن " لنبين خروجه من الأول. ألا ترى أنك إذا ذكرت " لكن " وجدت الكلام منقطعاً من أوله، ومثل ذلك في القرآن كثير [ منه قوله عز وجل ] ﴿ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ [ ٥٢ء ] مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ﴾ ﴿ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ ﴾ وقال :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ وقال :﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ يقول : " فَهَلاّ كانَ منهُمْ مَنْ يَنْهى " ثم قال : " ولكنْ قَليلاً مِنْهُمْ مَنْ يَنْهى " ثم قال :" ولكنْ* قَليلٌ مِنْهُمْ قَدْ نَهَوْا " فلما جاء مستثنى خارجاً من الأول انتصب. ومثله ﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ يقول " فُهَلاّ " كانت ثم قال : " ولكنّ* قومَ يونسَ " ف " إلا " تجيء في معنى " لكنّ " *. وإذا عرفت أنها في معنى " لكنّ " فينبغي أن تعرف خروجها من أوله. وقد يكون ﴿ إِلاَّ قَوْمُ يُونُسَ ﴾ رفعا، تجعل " إلاّ " وما بعده في موضع صفة بمنزلة " غير " كأنه قال : " فهلا كانَتْ قريةٌ آمنتْ غيرُ قريةِ قومِ يونس " ومثلها ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ فقوله ﴿ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ صفة [ و ] لولا ذلك لانتصب لأنه مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام. وكل مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز إلقاؤه [ ف ] لو قلت " لو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ لَفَسدَتا " جاز، فقد يجوز فيه النصب ويكون مثل قوله " ما مَرَّ بي أحَدٌ إلاَّ زيداً مثلُكَ ". قال الشاعر فيما هو صفة :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع والتسعون ] :
[ ٥٢ب ] أُنِيخَتْ فألقتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَليلٌ بها الأَصْواتُ إلاَّ بُغامُها
وقال :[ من الوافر وهو الشاهد الخامس والتسعون ] :
وَكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوه لَعَمْرُ إِبيكَ إلا الفَرْقَدانِ
ومثل المنصوب الذي في معنى " لكنْ " قول الله عز وجل ﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾ وهو في الشعر كثير وفي الكلام. قال الفرزدق :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والتسعون ] :
وما سَجَنُوني غيرَ أَني ابْنُ غالِبِ وأَني من الأَثرَينَ غَيْرَ الزَعانِفِ
يقول : " ولكنَّني "، وهو مثل قولهم : " ما فيها أحدٌ إلا حماراً " لما كان ليس من أول الكلام جعل على معنى " لكنَّ " ومثله :[ من الخفيف وهو الشاهد السابع والتسعون ] :
ليسَ بَيْنِي وبينَ قيسٍ عِتابَ غيرَ طَعْنِ الكُلا وَضَرْبِ الرِقابِ
وقوله :[ من الطويل وهو الشاهد الثامن والتسعون ] :
حَلَفْتُ يميناً غَير ذِي مَثْنَوِيَّةٍ وَلا عِلْمَ إلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِغَايِبِ
وبصاحب.

باب الجمع.


وأمّا تَثْقِيلُ ﴿ الأَمَانِيُّ ﴾ فلأن واحدها " أُمْنِيَّة " مُثْقَّل. وكلُّ ما كان واحده مثقلا مثل : " بُخْتِيَّة " و " بَخاتِيّ " فهو مُثَقَّل. وقد قرأ بعضهم ﴿ إلاّ أَمانِي ﴾ فخفف وذلك جائز لان الجمع على غير واحده وينقص منه ويزاد فيه. فأما " الأَثافِي " فكُلُّهُم يخفّفها وواحدها " أُثِفيَّة " مثقّلة [ ٥٣ء ] وإنما خففوها لأنهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز. ومثل تخفيف " الأمانِي " قولهم : " مِفْتاح " و " مَفاتِح " وفي " مِعْطاء " " مَعاطٍ " قال الأخفش : " قد سمعت بلعنبر تقول : " صحارِيَ " و " مَعاطِيّ " فتثقل.
وقوله ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ ( ٧٨ ) أي : فَماَّ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ ".
﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ ﴾ ( ٧٩ ) يرفع " الويلُ " لأنه اسم مبتدأ جعل ما بعده خبره. وكذلك " الوَيْحُ و " الوَيْلُ " و " الوَيْسُ " إذا كانت بعدهنّ هذه اللام ترفعهن. وأما " التَعْسُ " و " البُعْدُ " وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أَنّ كل ما كان من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام فهو رفع باللام ونصب بغير لام نحو ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾ و " وَيْلٌ لِزَيْدٍ " ولو ألقيت اللام قلت : " ويلَ زيدٍ " و " ويحَ زيدٍ " و " ويسَ زيدٍ "، فقد حسنت إضافته بغير لام فلذلك رفعته باللام مثل ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾. وأما قوله ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ ﴾ و﴿ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾ و﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾ فَهذا لا تَحسن إضافتَهُ بغير لام. ولو قلت : " تَعْسَهُم " أو " بُعْدَهُم " لم يحسن. وانتصاب هذا كله بالفعل، كأنك قلت : " أَتْعَسَهُم اللّهُ تَعْساً " " وأَبْعَدَهُم اللّهُ بُعدا ". وإذا قلت " ويْلَ زيدٍ " فكأنك قلت [ ٥٣ب ] " ألْزَمَهُ اللّهُ الوَيْلَ ". وأما رفعك إياه باللام فإنما كان لأنك جعلت ذلك واقعا واجبا لهم في الاستحقاق. ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم على ضمير الفعل وهو قياس حسن، فيقولون : " وَيْلاً لزيد " و " وَيْحاً لِزيد ". قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع والتسعون ] :
كَسَا اللُؤْمُ تَيْماً خُضْرَةً في جُلُودها فَوَيْلاً لِتَيْمٍ من سرابيلها الخُضْرِ
قال الاخفش : " حدثني عيسى بن عمر أنه سمع الأعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب. قال أبو زُبَيدَ :[ من الطويل وهو الشاهد المئة ] :
أَغارَ وأَقْوى ذات يومٍ وخَيْبَةٌ لأوَّلِ مَنْ يَلْقى غيٌ مُيَسَّرُ

باب اللام.


وقوله ﴿ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ( ٧٩ ) فهذه اللام إذا كانت في معنى " كَيْ " كان ما بعدها نصبا على ضمير " أَنْ "، وكذلك المنتصب ب " كيْ " هو أيضاً على ضمير " أَنْ " كأنه يقول : " الاشتراءِ "، ف " يَشتَرُوا " لا يكون اسما إلا ب " أنْ "، ف " أَنْ " مضمرة وهي الناصبة وهي في موضع جر باللام. وكذلك ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً ﴾ " أَنْ " مضمرة وقد جرتها " كيْ " وقالوا : " كَيْمَهْ " ف " مَهْ " اسم لأنه " ما " التي في الاستفهام وأضافَ " كَيْ " إليها. وقد تكون " كَيْ " بمنزلة " أَنْ " هي الناصبة [ ٥٤ء ] وذلك قوله ﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ ﴾ فأوقع عليها اللام. ولو لم تكن " كَيْ " وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام وكذلك ما انتصب بعد " حتّى " إنَّما انْتَصَبَ بضمرِ " أَنْ " قال ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ﴾ و﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ إنَّما هو " حتَّى أَنْ يَأْتِيَ " و " حَتّى أَنْ تَتَّبعَ "، وكذلك جميع ما في القرآن من " حتّى ". وكذلك ﴿ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ﴾ اي : " حتّى أَنْ يقولَ " لأنّ " حتّى " في معنى " إلىّ "، تقول " أَقَمْنا حتّى الليلِ " أيْ : " إلى اللَّيْلِ ". فإن قيل : إظهارُ " أَنْ " ها هنا قبيح قلتُ : " قد تُضمر أشياءُ يقبحُ إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها ". ألا ترى أَنَّ قولك : " إنْ زيداً ضربْتَهُ " منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن. وقد قرئت هذه الآية ﴿ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ﴾يريد : " حتّى الرَّسُولُ قائلٌ "، جعل ما بعد " حتّى " مبتدأَ. وقد يكون ذلك نحو قولك : " سِرْتُ حتّى أدْخُلُها " إذا أردت : " سرت فإذا أَنَا داخِلٌ فيها " و " سِرْتُ أمسِ حتّى أَدْخُلُها اليومَ " أيْ : حتّى " أَنَا اليومَ أَدْخُلْها فَلا أُمْنَعْ ". وإذا كان غاية للسير نصبته. وكذلك ما لم يجب مما يقع عليه " حتّى " نحو ﴿ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً ﴾. وأما ﴿ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ فنصب ب " لَنْ " كما نصب ب " أنْ " وقال [ ٥٤ب ] بعضهم : إنما هي " أَنْ " جُعِلَتْ " لا " كأنه يريد " لا أَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ " فلما كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميعُ " لَنْ " في القرآن. وينبغي لمَنْ قال ذلك القول أن يرفع " أزيدٌ لَنْ تَضْرِبُ " لأنَّه في معنى " أزيدُ لا ضَرْبَ لَه ". وكذلك ما نصب ب " إذَنْ " تقول : " إذَنْ آتيَكَ " تنصب بها كما تنصب ب " أَنْ " وب " لَنْ " فإذا كان قبلها الفاء أوْ الواو رفعت نحو قول الله عز وجل ﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ وقال ﴿ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ﴾ وقد يكون هذا نصبا أيضاً عنده على إعمال " إذَنْ ". وزعموا أنَّهُ في بعض القراءة منصوب وإنَّما رفع لأنَّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو ولم يحمل على " إذَنْ "، فكأنه قال : " فَلا يُؤتُونَ الناسَ إذاً نَقِيرا " [ و ] " ولا تُمَتَّعُونَ إذَنْ " وقوله ﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أنْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [ و ] ﴿ وَحَسِبُواْ أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ و﴿ أنْ لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ﴾ فارتفع الفعل بعد " أنْ لا " لأنَّ [ " أنْ " ] هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خففت وجعل الاسم فيها مضمرا، والدليل على ذلك أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل. ألا ترى أنَّكَ تقول " أَفَلا يَرَوْنَ أنَّه لا يرجعُ إليهِمْ "، وتقول : " أَنَّهُمْ لا يَقْدِرونَ على شَيْء " [ و ] " أَنَّهُ لا تَكونُ [ ٥٥ء ] فتنة ". وقال ﴿ آيَتكَ أنْ لا تُكَلِّمَ الناسَ ﴾ نصب لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنما هو ﴿ آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ ﴾ كما تقول :﴿ آيتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ ﴾ وأدخلت ﴿ لا ﴾ للمعنى الذي أريد من النفي. ولو رفعت هذا جاز على معنى آيتك أنك لا تكلم، ولو نصب الآخر جاز على أن تجعلها " أنْ " الخفيفة التي تعمل في الأفعال. ومثل ذلك ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴾ وقال ﴿ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ وقال ﴿ إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ وتقول : " عَلِمْت أَنْ لا تُكَرِّمُني " و " حسِبْتُ أَنْ لا تُكْرِمُنِي ". فهذا مثل ما ذكرت لك. فإنما صار " عَلِمْتُ " و " اسْتَيْقَنْتُ " ما بعده رفع لأنه واجب. فلما كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده " أنْ " التي تعمل في الأفعال، لأن تلك إنما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول " أُريدُ أَنْ تَأْتِيَني " فلا يكون هذا إلا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنه. وأما " خَشِيتُ أنْ لا تُكْرِمَني " فهذا لم يقع. ففي مثل هذا تعمل أن الخفيفة ولو رفعته على أمر قد استقر عندك وعرفته كأنك جريته فكان لا يكرمك فقلت : " خَشِيتُ أنْ لا تُكْرِمُني " أي : خشيتُ أَنَّكَ [ ٥٥ب ] لا تُكْرِمُني جاز.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان " كَيْ " وأنشدوا هذا البيت فزعم أنه سمعه مفتوحا :[ من الوافر وهو الشاهد الحادي بعد المائة ] :
يُؤامِرُني رَبيعَةُ كُلَّ يَومٍ لأُهْلِكَهُ وأَقْتِنيَ الدَّجاجا
وزعم خلف أنها لغة لبني العنبر وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا :[ من الطويل وهو الشاهد الثاني بعد المائة ] :
فقُلْتُ لكَلْبِيَّيْ قُضاعَةَ إنَّما تَخَبَّرْ تُماني أهْلَ فَلْجٍ لأَمْنَعا
يريد " مِنْ أهلِ فَلْجٍ ". وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أن أصل اللام الفتح وإنما كسرت في الإضافة ليفرق بينها وبين لام الابتداء. وزعم أبو عبيدة انه سمع لام " لعلَّ " مفتوحة في لغةِ من يجرّبها ما بعدها في قول الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائة ] :
لِعَلَّ اللّهِ يُمْكِنُنِي عَلَيْها جِهاراً من زُهَيْرٍ أَوْ أَسِيدِ
يريد " لِعَلَّ عبدِ اللّهِ " فهذه اللام مكسورة لأنها لام إضافة. وقد زعم انه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام " كَيْ ". وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد " كيما " وأنشد :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المائة ] :
إذا أَنْتَ لم تَنْفَعْ فَضُرَّ فإنَّما يُرَجّى الفَتَى كيما يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
فهذا جعل " ما " اسما وجعل " يَضَرُّ " و " يَنْفَعُ " من صلته جعله اسما للفعل وأوقع " كَيْ " [ ٥٦ء ] عليه وجعل " كَيْ " بمنزلة اللام. وقوله ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ وقوله ﴿ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة " ما " ويكون الذي بعد الفاء بدلا من " أن " التي قبلها. وأجوده أن تكسر " إن " وأَن تجعل الفاء جواب المجازاة. وزعموا أنه يقولون " أَخُوكَ فوُجِد " " بل أخوك فَجُهِدَ " يريدون " أخوك وُجِدَ " و " بل أخوك جُهِدَ " فيزيدون الفاء. وقد فسر الحسن ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾ على حذف الواو. وقال : " معناها : قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها "، فالوا في هذا زائدة. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة ] :
فإذا وَذَلِكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ إلاَّ كَلَمَّةِ حالِمٍ بِخَيالِ
وقال : " من الكامل وهو الشاهد السادس بعد المائة ] :
فإذا وذلك َ ليسَ إلاّ حينُه وإذا مَضَى شَيْءٌ كأَنْ لَمْ يُفْعَلِ
كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير.
وقوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ ( ٨٣ ).
وقوله ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ ( ٨٣ ) فجعله أَمْراً كأنّه يقول : " وإحساناً بالوالدينِ " أي : " أَحْسِنُوا إحْسانا ".
وقال ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ ( ٨٣ ) فهو على أحد وجهين إمّا أَنْ يكون يراد ب " الحُسْنِ " " الحَسَنَ " كما تقول : " البُخْل " و " البَخلَ "، وإمّا أنْ يكونَ جعل " الحُسْنَ " هو " الحَسَنَ " في التشبيه كما تقول : " إنَّما أَنْتَ أَكلٌ وشُرْبٌ ". قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثامن بعد المائة ] :
وَخَيْلٍ قدْ دَلَفْتٌ لَها بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ
" دَلَفْتُ " : " قَصَدْتُ " [ ٥٧ء ] فجعل التحية ضربا. وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن. وقد قرأها بعضهم ﴿ حَسَنا ﴾ يريد " قولوا لهم حَسَناً " وقال بعضهم ﴿ قولوا للناسِ حُسْنى ﴾ يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا " الحُسْنى " لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتكلم بتذكيرها إلا بالألف واللام [ ف ] لو قلت : " جاءَني أَحْسَنُ وأَطْوَلُ " لم يَحْسُن حتّى تقول : " جاءَني الأَحْسَنُ والأَطْوَلُ " فكذلك هذا يقول : " جاءَتْنِي الحُسْنى والطُولى ". إلاّ أَنهم قد جعلوا أِشياء من هذا أسماء نحو " دُنْيا " و " أُوْلَى ". قال الراجز :[ وهو الشاهد التاسع بعد المائة ] :
* في سَعْيِ دُنْيا طالَ ما قَدْ مَدَّتِ *
ويقولون : " هي خَيْرَةُ النِساءِ " [ " هنّ خَيْراتُ النِّساء " ] لا يكادون يفردونه وإفراده جائز. وفي كتاب الله عز وجل ﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ وذلك انه لم يرد " أَفْعَلَ " وإنما أراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال : " فلانٌ خَيْرٌ " أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ( ٨٣ ) ثم قال ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ ( ٨٣ ) ثم قال ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المائة ] :
أسيئي بِنا أوّ أَحْسِنِي لا مَلُومَةٌ لَدَيْنا وَلا مَقْليةٌ إِنْ تَقَلَّت
[ ٥٨/ ء ] وإنما يريدون " تَقَلَّيْتِ ". وقال الآخر :[ من الكامل وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائة ] :
شَطَّتْ مُزارَ العاشِقينَ فأصبحَتْ عَسِراً عَلَيَّ طِلابُكِ ابْنَةٌ مَخْرَمِ
إنَّما أراد " فأصبحت ابنَةُ مخرَمٍ عسراً على طلابُها ". وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال : " شَطَّتْ مَزارَ العاشِقين " كأنه قال : " شَطَطْتِ مزار العاشِقين " لأنه إيّاها يريدُ بهذا الكلام. ومثله مما يخرج من أوله قوله :[ من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائة ] :
* إنَّ تَميماً خُلِقَتْ مَلْمُوما *
فأراد القبيلة بقوله : " خُلِقَتْ " ثم قال " مَلْمُوما " على الحي أو الرجل، ولذلك قال :
* مثلَ الصَّفا لا تَشْتَكِي الكُلُوما *
ثم قال :
* قَوماً تَرَى واحدَهُم صِهْمِيما *
فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي ثم قال :
* لا راحِمَ الناسِ ولا مُرْحُوما *
وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائة ] :
أقولُ لَهُ والرمحُ يأطِرُمَتْنَهُ تأَمَّل خُفافاً إِنَّنِي أَنَاذلِكا
و " تَبَيَّنْ خْفافاً "، يريد : " أَنَا هُوَ ". وفي كتاب الله عز وجل ﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لان ذلك يدل على المعنى. وقال الأسْودَ :[ من البسيط وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائة ] :
وَجَفْنَةٍ كإِزاءِ الحَوْضُ مُتْرَعَةٍ ترى جَوانِبَها بِالشَّحْمِ مَفْتُونا
[ ٥٨ب ] فيكون على انه حمله على المعنى أَي : ترى كلَّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام. وقوله " مأطِرُ مَتْنَه " يثنى متنه. وكذلك ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ثم قال ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ لان الذي أخبر عنه هو الذي خاطب. قال رؤبة :[ من الرجز وهو الشاهد الخامس عشر بعد المائة ] :
الحَمْدُ لِلّهِ الاَعَزِّ الأَجْلَلِ أَنْتَ مَلِيكُ الناسِ ربّاً فَاقْبَلِ
وقال زهير :[ من الوافر وهو الشاهد السادس عشر بعد المائة ] :
فإنّي لَوْ أُلاقِيكَ اجْتَهَدْنَا وكانَ لِكُلِّ مُنْكَرَةٍ كِفاء
فأبرئ مُوضَحاتِ الرأسِ مِنْهُ وَقَدْ يَشْفِى من الجَرَبِ الهِناءُ
وقال الله تبارك وتعالى ﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ فَذَكَّر بعد التأنيث كأنه أراد : هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون. ومثله ﴿ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾ فيكون هذا على : الذي أرى ربّي أي : هذا الشيء ربي. وهذا يشبه قول المفسرين ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ قال : إنَّما دخلت " إلى " لأن معنى " الرَفَث " و " الإفضاء " واحد، فكأنه قال : " الإفضاء إلى نِسائِكُمْ "، وإنما يقال : " رَفْثَ بامرَأَتِه " ولا يقال : " إلى امرأته " وذا عندي كنحو ما يجوز من " الباء " في مكان " إلى " في [ قوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ وإنما هو " أحسن إلي " فلم " إلى " ووضع " الباء " مكانها ] وفي مكان " على " في قوله [ ٥٩ء ] ﴿ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ ﴾ إنما هو " غمّاً على غَمٍّ " [ وقوله ] ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ أي : " على قِنطارٍ " كما تقول : " مررتُ بِهِ " و " مررت عَلَيْهِ " كما قال الشاعر :- وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب - :[ من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون ] :
إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللّهِ أَعْجَبَنِي رِضاها
يريد : " عنى ". وذا يشبه ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ لأنك تقول : " خَلَوْتُ إلَيْهِ وصنعنا كذا وكذا " و " خَلَوْتُ به ". وان شئت جعلتها في معنى قوله ﴿ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ أي : " معَ اللّهِ "، وكما قال ﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ﴾ أي : " على القَوْمِ ".
[ وقوله ]* ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ﴾ ( ٨٤ ) فرفع هذا لأنه كُلَّ ما كان من الفعل على " يَفْعَلُ هو " و " تَفْعَل أنت " و " أَفْعلٌ أَنا " و " نَفْعَلُ نَحن " " فهو أبداً مرفوع لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي [ ٥٦ب ] والمجازاة. وليس شيء من ذلك ها هنا وان رفع لموقعه في موضع الأسماء. ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال : " اِسْتَحْلَفْناهُم لا يَعْبُدون " أي : قُلْنا لَهُم : " واللّهِ لا تُعْبَدوْنَ "، وذلك أنها تقرأ ﴿ يَعْبُدون ﴾ و﴿ تَعْبُدون ﴾. قال ﴿ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ ﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ ﴾ فإن شئت جعلت " لا يَسَّمَّعُون " مبتدأ وإنْ شئت قلت : هو في معنى " أنْ لا لا يَسَّمَّعُوا " فلما حذفت " أنْ " اِرتفع، كما تقول : " أَتَيْتُكَ تُعْطِيني وتُحْسِنُ إِلَيَّ وتَنْظُرُ في حاجتي " ومثله " مُرْهُ يُعطِيني " إنْ شئت جعلته على " فَهْوَ يُعطِيني " وإنْ شئت على " أَنْ يُعطِيني ". فلما أَلْقَيْتَ " أَنْ " ارتفع. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة ] :
ألا أَيُّهذا الزاجِرِي احضر الوغي وأَنْ أَتْبَعَ اللَّذَّاتِ هَلْ أنت مُخْلِدِي
ف " أَحْضُرَ " في معنى " أَنْ أُحْضُرَ ".
وقال ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء ﴾ ( ٨٥ ) وفي موضع آخر ﴿ هَا أَنْتُمْ هؤلاء ﴾ كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب. وردّد* التنبيه توكيدا. وتقول :
" ها** أَنَا هذا " و " ها** " أَنْتَ هذا فتجعل " هذا " للذي يخاطب، وتقول : " هذا أنت ". وقد جاء أشد من ذا. قال الله عز وجل ﴿ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ ﴾ والعصبة هي تنوء بالمفاتيح. قال [ وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر ] :
تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها عَجِيزَتُها......
يريد : " تَنوء بعجزيتها، أي : لا تقوم إلا جهدا بعد جهد " قال الشاعر [ من البسيط وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائة ] :
مِثْلُ القَنافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَت نَجْرانَ أَوْ بَلَغَتْ سَوآتِهِم هَجَرُ
[ ٥٩ب ] وهو يريد أن السؤات بلغت هَجَراً، و " هَجَرُ " رفعٌ لأنَّ القصيدةَ مرفوعة ومثلُ ذا قول الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائة ] :
وَتَلْحَقُ خَيْلٌ لا هَوادَةَ بَينَها وتَشْقى الرِّماحُ بالضَياطِرةُ الحُمْرِ
والضياطرةُ هم يشقونَ بالرماح. و " الضياطرةُ " هم العِظام وواحد هم " ضَيْطار " مثل " بَيْطار " ومثل قول الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد العشرون بعد المائة ] :
لَقَدْ خِفْتُ حَتَّى ما تزَيدُ مَخافَتِي عَلى وعِلٍ بِذِي الفَقارَةِ عاقِلِ
يريد : حتى ما تزيد مخافةُ وَعِلٍ على مخافتي.
وقال ﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ( ٨٥ ) فجعلها من " تَتَظاهَرُونَ " وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ. وقد قرئت ﴿ تَظاهَرون ﴾ مخففة بحذف التاء الآخرِة لأَنَّها زائدة لغير معنى. وقال ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أَسْرى ﴾ ( ٨٥ ) وقرئت ﴿ أُسَارَى ﴾. وذلك لأن " أَسير " " فَعِيل " وهو يشبه " مَرِيضاً " لأنَّ به عيبا [ ٥٧ب ] كما بالمريض، وهذا " فَعِيل " مثله. وقد قالوا في جماعة " المريض " : " مَرْضى " وقالوا ﴿ أُسارَى ﴾ فجعلوها مثل " سكارَى " و " كُسالىَ "، لأنَّ جمع " فَعْلان " الذي به علة قد يشارك جمع " فَعِيل " وجمع " فَعِل " نحو : " حَبِطٌ " و " حَبْطى " و " حُباطَى " و " حَبِجٌ " و " حَبْجى " و " حُباجى ". وقد قالوا ﴿ أَسارى ﴾ كما قالوا ﴿ سَكَارَى ﴾.
وقال بعضهم ﴿ تَفْدُوهم ﴾ ( ٨٥ ) من " تَفْدِي " وبعضهم ﴿ تُفادُوهم ﴾ من " فادَى " يُفادِي " وبها نقرأ وكل ذلك صواب.
وقال ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ﴾ ( ٨٥ )، وقال ﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ و﴿ وَمَآ أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ ﴾رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر " ما " فهو رفع، لأن " ما " لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى " ليس " لا يشركها معها شيء. وذلك قول الله عز وجل ﴿ مَا هذا بَشَراً ﴾، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا " ما " بالفعل.
وقال ﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ ( ٨٨ ) وتفسيره : فقليلاً يؤمنون، و " ما " زائدة كما قال ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾ يقول : " فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ " وقال ﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ أي : لَحَقٌّ مثلَ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وزيادة " ما " في القرآن والكلام نحو ذا كثير. قال [ من المنسرح وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائة ] :
لَوْ بَأَبانَيْنِ* جاءَ يَخْطِبُها خُضِّبَ ما أَنْفُ خاطِبٍ بِدَمِ
أي : خُضِّبَ بِدَمٍ أنفُ خاطِبٍ.
وقال ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ ( ٨٩ ) فان قيل فأين جواب ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ [ ٦٠ء ] كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ قلت : " جوابه في القرآن كثير، [ و ] استغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه. كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به ** نحو قول الله عز وجل ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ﴾ فيذكرون [ أن ] تفسيره : لَوْ سُيِّرَتْ الجِبالُ بقرآنٍ غيرِ هذا لَكَانَ هذا القرآنُ سَتُسَيَّر بِهِ الجِبالُ، فاستُغْنِيَ عن اللَّفْظِ بالجَوابِ إذْ عُرِفَ المَعْنى. وقال ﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ﴾ ولم يجئ ل " تحسَبَنَّ " الأول بجواب وتُرِكَ للاستغناءِ بما في القرآن من الأجوبة. وقال ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ معناه : لا يَحَسَبُنَّهُ خَيْراً لَهُمْ، وحذف ذلك الكلام وكان فيما بقي دليل على المعنى. ومثله ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ثم قال ﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ ﴾ من قبل أن يجيء بقوله " فَعَلُوا كَذا وَكَذا " لان ذلك في القرآن كثير، استغني به. وكان في قوله ﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ دليل على أَنَّهُمْ أعرَضُوا فاستغني بهذا [ ٦٠ب ] وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا. وقال ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ﴾ وقال ﴿ لِيُتَبَرِّواْ ﴾ على معنى : خَلَّيْناهُمْ وإيّاكُمْ لَمْ نَمْنَعْكُمْ مِنْهُم بِذُنُوبِكُم. وقال ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ ولم يذكر أنه خلاهم وإياهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أَسْلفوا ثم لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلطوا عليهم بظلمهم. وقال ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾ فليس لهذا جواب. وقال ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ فجواب هذا إنما هو في المعنى، وهذا كثير. وسنفسر كل ما مررنا به إن شاء الله. وزعموا أن هذا البيت ليس له جواب :[ من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائة ] :
وَدَوِّيَّةٍ قَفْرٍ تَمَشّى نَعامُها كَمَشْيِ النَّصارى في خِفافِ الأَرَنْدَجِ
يريد : " ورُبَّ دَوِّيَّةٍ " ثم لم يأت له بجواب. وقال :[ من البسيط وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المائة ] :
حتَى إذا أسْلَكُوهُ في قُتائِدَةٍ شَلاًّ كَما تَطْرُدُ الجَمالَةُ الشرُدُا
فهذا ليس له جواب إلا في المعنى. وزعم بعضُهم أنَّ هذا البيت :[ من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة ] :
فإذا وذلِكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يكنْ إلاّ كَلَمَّةِ حالِمٍ بِخِيالِ
قالوا : الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر.
وقال ﴿ بِئْسَ مَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ( ٩٠ ) [ ٦١ء ] ف﴿ ما ﴾ وحدها اسم، و﴿ أَن يَكْفُرُواْ ﴾ تفسير له نحو : " نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ " و﴿ أَنْ يُنَزِّل ﴾بَدَلٌ من ﴿ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ ﴾.
وقال ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ﴾ فنصب ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ لأنه خبر معرفة. و﴿ تَقْتُلُونَ ﴾ في معنى " قَتَلْتُم ". كما قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائة ] :
وَلَقَدْ أمرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّني فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلتُ لا يَعْنِيني
يريد : " لقد مَرَرْتُ " بقوله " أَمُرُّ ".
وقوله ﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾ ( ٩٦ ) فهو نحو : ما زَيْدٌ بِمُزَحْزِحِهِ أنْ يُعَمَّرَ، و : ما زَيْدٌ بِضارِّهِ أَنْ يقُومَ، [ ف " أنْ يُعَمَّرَ " ] في موضع رفع وقد حسنت الباء كما تقول : ما عبدُ الله بملازِمِهِ زَيْدٌ.
وقوله ﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ ( ٩٧ ) ومن العرب من يقول ﴿ لجبرائيل ﴾ فيهمزون ولا يهمزون، وكذلك " إسرائيل " منهم من يهمز ومنهم من لا يهمز، ويقولون " مِيكائِيل " فيهمزون ولا يهمزون ويقولون " مِيكال " كما قالوا " جِبْرِيل " . وقال بعضهم " جبرعَل " ولا أعلم [ وجهه ] إلا أني قد سَمِعت " إِسرائِل " وقال بعضهم " إسْرِييلِ " فأمال الراء. قال أبو الحسن : " في " " جبريل " " ست لغات : جَبْراييل وجَبْرَئيل وجَبْرئِلْ جَبْراعيل جَبْرَعِيل جَبرعل وجَبْريل وجِبريلَ فَعليل فِعليل وجَبْرائِل. جبراعل.
وقال ﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ ( ٩٨ ) فأظهر [ ٦١ب ] الاسم وقد ذكره في أوَّل الكلام. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائة ] :
ليتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعَبُ دَائِباً كانَ الغُرابُ مُقَطَّعَ الأوْداجِ
وقال ﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾ ( ١٠٠ ) فهذه واو تجعل مع حرف الاستفهام وهي مثل الفاء التي في قوله ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ ﴾ فهذا في القرآن والكلام كثير، وهما زائدتان في هذا الوجه. وهي مثل الفاء التي في قولك : أَفَا الله لَتَصْنَعَنَّ كَذَا وكَذا، وقولك للرجل : أَفَلا تَقُوم. وان شئت جعلت الفاء والواو ها هنا حرف عطف.
وقوله ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ ( ١٠٢ ) معطوفان على ﴿ الْمَلَكَيْنِ ﴾، أو بدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان وموضعهما جر. و﴿ بابلَ ﴾ لم ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل مؤنث على حرفين أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنث فهو لا ينصرف ما دام اسما للمؤنث.
وقال ﴿ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾ ( ١٠٢ ) فليس قوله ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ ﴾ جوابا لقوله ﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ ( ١٠٢ ). وقال ﴿ يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ ( ١٠٢ ) لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما زوج، فالمرأة زوج والرجل زوج. قال ﴿ وَخَلَقَ [ ٦٢ء ] مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ وقال ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾. وقد يقال أيضاً " هُما زَوْجٌ " للاثنين كما تقول : " هُما سَواءٌ " و : " هُما سِيّانِ ". [ والزَوْج أيضاً : النَمَطُ يُطْرَحُ على الهَوْدَجَ ]. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة ] :
مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يظُلُّ غِصيَّةُ زَوْجٌ عَلَيهِ كِلَّةٌ وَقِرامُها
وقد قالوا : " الزَوْجَة ". قال الشاعر :[ من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة ] :
زَوْجَةُ أَشْمَطَ مَرْهُوبٍ بَوادِرُهُ قَدْ صارَ في رَأْسِهِ التَخْويصُ والنزَعُ
وقال ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ ( ١٠٢ ) فهذه لامُ الابتداء تدخل بعد العلم وما أشبهه ويبتدئ بعدها، تقول : " لَقَدْ علمت لَزَيدٌ خيرٌ منك " قال ﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ وقال ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ﴾. وقال ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ ( ١٠٢ ) ثم قال ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني بالأولين الشياطين لأنهم قد علموا ﴿ ولَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني الإنس. وكان في قوله ﴿ لَمَثُوبَةٌ ﴾ دليل على " أُثِيبُوا " فاستغني به عن الجواب [ ٦٢ب ].
وقال ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ ( ١٠٣ ) فليس لقوله ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا ﴾ جواب في اللفظ ولكنه في المعنى يريد لَأُثِيبُوا " فقوله ﴿ لَمَثَوبَةٌ ﴾ يدل على " لَأُثِيبُوا " فاستُغْنِيَ به عن الجواب. وقوله ﴿ لَمَثُوبَةٌ ﴾ هذه اللام للابتداء كما فسرت لك.
وقال ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ( ١٠٥ ) أي : " ولا مِنَ المُشْرِكِين " لا يَوَدُّونَ ﴿ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ ( ١٠٥ ).
وقال ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ( ١٠٦ ) وقال بعضهم ﴿ نَنْسَأْها ﴾ أي نُؤَخِّرْها، وهو مثل ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾لأنَّهُ تأخير. [ و ] " النَسِيئَةُ " و " النَسِيءُ " أصْلُهُ واحدٌ من " أنسأت " * إلاّ أَنَّكَ تقول : " أَنْسَأتُ الشَيْءَ " أي : أَخَّرْتُه ومصدره : النَسِيءُ. و :
" أَنْسَأْتُكَ الدَيْنَ " أي : جعلتك تؤخِّره. كأنه قال : " أَنْسَأْتُكَ " ف " نَسَأْتُ " و " النَسِيء " أنَّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر. وقال بعضهم ﴿ أَوْ نَنْسَها ﴾ كل ذلك صواب. وجزمه بالمجازاة. والنسيءُ في الشهر : التأخير.
وقال ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ ( ١٠٨ ) ومن خفف قال ﴿ سُيِل ﴾ فان قيل : كيف جعلتها بين بين وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة. والياء الساكنة لا تكون بعد ضمة، والسين مضمومة ؟ " قلت : " أَمَّا في " فُعِلَ " فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة لأنهم قد قالوا " قُيْل " و " بُيْعَ " وقد تكون الياء في بعض " فُعِلَ " واوا خالصة لانضمام ما قبلها وهي معه في حرف واحد كما تقول : " لم تَوْطُؤ الدابَّةُ " وكما تقول : " قَدْ رئس فلان ".
وقال ﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن [ ٣٦ء ] كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ( ١١١ ) فزعموا أن " الهُود " : جماعة " الهائِد " *. و " الهائد " * : التائِب الراجع إلى الحق. وقال في مكان آخر ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً ﴾ أي : كونوا راجعين إلى الحق، [ ويقال ] " هائِد " و " هُوَّد " مثل " ناقِه " [ و " نُقَّه "، و ] " عائِدْ " و " عُوَّد "، و " حائِل " و " حُوَّل "، و " بازِل " و " بُزَّل ". وجعل ﴿ مَن كَانَ ﴾ واحدا لأنَّ لفظ ﴿ مَنْ ﴾ واحدٌ وجمع في قوله ﴿ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾. وفي هذا الوجه تقول : " مَنْ كانَ صاحبك ".
وقال ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ( ١١٤ ) إنما هو " مِنْ أنْ يُذْكَرُ فيها اسمه " ولكن حروف الجرّ تحذف مع " أَنْ " كثيراً ويعمل ما قبلها فيها حتى تكون في موضع نصب، أو تكون ﴿ أَن يُذْكَرَ ﴾ بدلا من " المَساجِد " يريدون : " مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ أَنْ يُذْكَر. وقال
﴿ وَسَعَى* فِي خَرَابِهَا ﴾ ( ١١٤ ) فهذا على " مَنَعَ " و " سَعَى " * ثم قال ﴿ أُوْلئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ﴾ ( ١١٤ ) فجعله جميعاً لأنَّ
﴿ مَنْ ﴾ تكونُ في معنى الجماعة.
وقال ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ ( ١١٥ ) لأنَّ ﴿ أَيْنَما ﴾ من حروف الجزم من المجازاة والجواب في الفاء.
وقال ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( ١١٧ ) فرفعه على العطف كأنه إنما يريد أن يقول : " إنَّما يَقُولُ كُنْ فَيكونُ " وقد يكون أيضا رفعه على الابتداء. وقال : " إِذَا أَرَدْنَاه**ُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " فان جعلت ﴿ يَكُون ﴾ ها هنا معطوفةً. [ ٦٣ب ] نصبت لأنَّ ﴿ أَنْ نَقُولَ ﴾ نصب ب " أَنْ " كأنه يريدُ :﴿ أَنْ نَقُولَ ﴾ ﴿ فيكونَ ﴾. فان قال : " كيف والفاء ليست في هذا المعنى ؟ فان الفاء والواو قد تعطفان على ما قبلهما وما بعدهما، وان لم يكن في معناه نحو " ما أنتَ وزيداً "، وإنما يريد " لم تضرب زيداً " وترفعه على " ما أنت وما زيد " وليس ذلك معناه. ومثل قولك : " إيّاكَ والأَسَدَ ". والرفع في قوله ﴿ فيَكُونُ ﴾ على الابتداء نحو قوله ﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ﴾ وقال ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً ﴾. وقد يكون النصب في قوله ﴿ ويَتَّخَذَها ﴾ وفي ﴿ نُقِرَّ في الأرْحامِ ﴾ أيضاً على أوَّلِ الكلام. قال الشاعر فرفع على الابتداء :[ من الوافر وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائة ] :
يُعالِجُ عاقِراً أَعْيَتْ عَلَيْهِ لِيَلْقِحَها فَيَنْتِجُها حُوارا
وقال الشاعر أيضاً :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائة ] :
وما هُوَ إلاّ أَنَّ أَراها فُجاءَةً فَأَبْهَتُ حَتَّى ما أَكَادُ أُجِيبُ
والنصب في قوله ﴿ فأَبْهَتُ ﴾ على العطف والرفع على الابتداء.
وقال ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ ( ١١٩ ) وقد قرئت ﴿ ولا تَسْأَلُ ﴾ وكلّ هذا رفعٌ لأنه ليس بنهيٍ وإنَّما هو حال كأنه قال " أرسلناك بشيراً ونذيراً وغيرَ سائِلٍ أو غيرَ مَسؤْول " وقد قرئتا جزما جميعا [ ٦٤ء ] على النهي.
وقال ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ ( ١٢١ ) كما يقولون : " هذا حَقٌّ عالمٍ " وهو مثل " هذا عالِمٌ كُلُّ عالِمٍ ".
وقال ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ ( ١٢٤ ) أي : اختبره. و﴿ إِبْرَاهِيمَ ﴾ هو المبتلي فلذلك انتصب.
وقال ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ ( ١٢٤ ) لأنَّ العَهْدَ هو الذي لا يَنالُهُم، وقال بعضهم ﴿ لا ينالُ عهدي الظالِمُون ﴾ والكتاب بالياء. وإنما قالوا
﴿ الظالمونَ ﴾ لأنهم جعَلوهُم الذينَ لا ينالون.
وقال ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ ( ١٢٥ ) على ﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ ( ١٢٢ ) ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ وأُلْحِقَتْ الهاءُ في " المَثابة " لما كُثُر مَنْ يَثُوب إليه كما تقول : " نَسَّابَة " و " سيّارَة " لِمَنْ يكثُر ذلك منه.
وقال :﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ ( ١٢٥ ) يُريدُ ﴿ واتَّخَذُوا ﴾ كَأَنَّهُ يقولُ : " واذْكُروا نِعْمَتي وإذْ اتَّخَذُوا مُصَلى من مَقامِ إبراهيمَ "
و﴿ اتخَِّذُوا ﴾ بالكسر وبها نقرأ لأنَّها تدلّ على الغَرْض.
وقال :﴿ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ ( ١٢٥ ) ف﴿ السُّجُودِ ﴾ جماعة " السَّاجد " كما تقول : " قَوْمٌ قُعُودٌ " و " جُلوسٌ ".
وقال :﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ ( ١٢٦ ) ف﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ بدل على التبيان كما تقول : " أَخَذْتُ المالَ نِصْفَهُ " و " رأيتُ القومَ ناساً مِنْهُم ". ومثل ذلك ﴿ يسألونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ يريد : عنْ قِتالٍ فيه. وجعله بدلا. ومثله [ ٦٤ب ] ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ ومثله ﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ شبيه هذا أيضا إلاّ أنه قدر فيه حرف الجرّ.
وقال :﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ ( ١٢٦ )على الأمر ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ﴾ ( ١٢٦ ) فجزم ﴿ فَأَمْتِعْهُ ﴾ على الأمر وجعل الفاء جواب المجازاة. وقال بعضهم ﴿ فَأُمَتِّعُهُ ﴾ وبها نقرأ رفع على الخبر وجواب المجازاة الفاء.
وقال ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ ( ١٢٧ ) أي كانَ إسْماعِيلُ الذي قال :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾.
وقال :﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ ( ١٢٨ ) وقال بعضهم :﴿ وأَرْنا ﴾ أسكنْ الراء كما تقول " قَدْ عَلْمَ ذلك " وبالكسر نقرأ. وواحد " المناسِك " : " مَنْسِك " مثل " مَسْجِد " ويقال أيضا : " مَنْسَك ".
وقال :﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ ( ١٣٠ ) فزعم أَهل التأويل انه في معنى : " سَفَّهَ نفسَه " وقال يونس : " أُراها لُغَة ". ويجوز في هذا القول : " سِفِهْتُ زَيْداً "، وهو يشبه " غِبَنَ رأيَه " و " خَسِرَ نَفْسَه " إلا أن هذا كثير، ولهذا معنى ليس لذاك. تقول : " غِبَنَ فيَ رأيِهِ " و " خَسِرَ في أَهْلِهِ " و " خَسِرَ في بيعِه ". وقد جاء لهذا نظير، قال : " ضُرِبَ عبدُ اللّهِ الظهرَ والبَطْنَ " ومعناه : على الظهر والبطن " كما قالوا : " دَخَلْتُ البيتَ " وإنما هو " دَخَلْتُ في البيتِ ". وقوله : " تَوَجَّهَ مَكَّةَ [ ٦٥ء ] والكُوفَةَ " وإنما هو : إلى مَكَّة والكُوفَةِ. ومما يشبه هذا قول الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون ] :
نُغالِي اللَّحْمَ لِلأَضْيافِ نِيْئاً وَنَبْذُلُهُ إذا نَضِجَ القُدورُ
يريد : نُغالى باللحم. ومثل هذا ﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ ﴾ يقول : " لأوْلادِكمُ " [ و ] ﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾ أي : عَلَى عُقْدَةِ النِكاحِ. وأحسن [ من ] ذلك أن تقول : " إنَّ سَفِهَ نَفْسَهُ " جرت مجرى " سَفُهَ " إذْ كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى " نَفْسِه " و " رَأيِهِ " وأشباهُ ذا مِمّا هو في المعنى نحو " سَفِهَ " إذا لم يتعد. وأما " غَبِنَ " و " خَسِرَ " فقد يتعدى* إلى غيره تقول : " غَبِنَ خَمْسين " و " خَسِرَ خَمْسِين ".
وقال :﴿ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ ﴾ ( ١٣٢ ) فهو - والله اعلم - " وقَالَ يعقوبُ يا بَنِيَّ " لأنه حين قال ﴿ وَوَصَّى بِهَآ ﴾ قد أخبر أنه قال لهم شيئا فأجرى الأخير على معنى الأول، وإن شئت قلت ﴿ وَيَعْقُوبُ ﴾ معطوف كأنك قلت : " ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ " ثم فسر ما قال يعقوبُ، قال : " يا بني ".
وقال :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ ﴾ استفهام مستأنف.
وقال :﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ﴾ ( ١٣٣ ) فأبْدَلَ " إذْ " الآخرة من الأولى.
وقال :﴿ إلهك وَإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ ( ١٣٣ ) على البدل وهو في موضع جر إلا أَنها [ ٦٥ب ] أعجمية فلا تنصرف.
وقوله :﴿ إلها وَاحِداً ﴾ ( ١٣٣ ) على الحال.
وقال :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ ( ١٣٤ ) يقول : " قَدْ مَضَتْ " ثم استأنف فقال :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾.
وقال :﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ( ١٣٥ ) بالنصب.
وقال :﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ ( ١٣٨ ) بالنصب. لأنهم حين قالوا* لهم ﴿ كُونُواْ هُوداً ﴾ ( ١٣٥ ) كأنه قيل لهم : " اتَّخِذُوا هِذِهِ المِلَّةَ " فقالوا : " لا ﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي : نَتَّبِعُ مِلَّةَ إبْراهيم، ثم أبدل " الصِّبْغَةَ " من " المِلَّة " فقال ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ بالنصب. أو يكون أراد : " كونوا أصحابَ مِلَّةٍ " ثم حذف " أَصْحاب " كما قال :﴿ ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ يريد : " بِرَّ مَنْ آمَن باللّهِ ". والصِِّبْغَةُ : هي الدين.
وقال :﴿ أَتُحَاجُّونّا ﴾ ( ١٣٩ ) مثقلة لأنهما حرفان مثلان فأدغم أحدهما في الآخر، واحتمل الساكن قبلهما إذ كان من حروف اللين، وحروف اللين الياء والواو والألف إذا كن سواكن.
وقال بعضهم :﴿ أتُحاجُّوننا ﴾ فلم يدغم ولكن أخفى فجعل حركة الأولى خفيفة وهي متحركة في الوزن، وهي في لغة الذين يقولون : " هذِهِ مِئَةُ دِّرْهَمٍ " يشمون شيئاً من الرفع ولا يبينون وذلك الإخفاء. وقد قرئ هذا الحرف على ذلك ﴿ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ بين الإدغام والإظهار. ومثل ذلك ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ﴾ وأشباه هذا كثير وإدغامه أحسن [ ٦٦ء ] حتى يسكن الأول.
وقال :﴿ أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ( ١٤٠ ) قال بعضهم :﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾ على ﴿ قُلْ أَتُحاجّونَنا ﴾ و﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾. ومن قال ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ جعله استفهاما مستأنفا كما تقول : " إنَّها لإِبِلٌ " ثم تقول : " أَمْ شاءٌ ".
وقال ﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾ ( ١٤٢ ) يعني " القِبْلَةَ " ولذلك أنث.
وقال ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾ ( ١٤٥ ) لأنْ معنى قوله ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ﴾. ولو أَتَيْتَ. ألا ترى أنك تقول : " لَئِنْ جِئْتَنِي ما ضَرَبْتُكَ " على معنى " لَوْ " كما قال ﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ ﴾ يقول : " وَلَو أَرْسَلْنا رِيحاً " لان معنى " لَئِنْ " مثل معنى " لَوْ " لأنّ " لَوْ " لم تقع وكذلك " لَئِنْ " كذا يفسره المفسرون. وهو في الإعراب على أَنَّ آخرَهُ معتمد لليمين كأنه قال " و الله ما تَبِعُوا " أي : ما هم بمتَّبِعين.
وقال ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ( ١٤٧ ) على ضمير الاسم ولكن استُغْنِيَ عنه لما ذكره كأنه قال. " هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ".
وقال ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ ( ١٤٨ ) على : " ولِكل أمَّةٍ وُجْهَةٌ " وقد قال قوم ﴿ وَلِكُلِّ وُجْهَةٍ ﴾ فلم ينونوا " كلّ ". وهذا لا يكون لأنك لا تقول : " لِكُلِّ رَجُلٍ هُو ضارِبُه ". ولكن تقول : لِكُلِّ رَجُلٍ ضارِبٌ " فلو كان " هُوَ مُوَلٍّ " كان كلاما. فأما " مُولِّيها " على وجه ما قرأ فليس بجائز.
[ ٦٦ب ] وقال ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ ( ١٥٠ ) فهذا معنى " لكنّ ". وزعم يونس انه سمع أعرابيا فصيحا يقول : " ما أشْتَكِي شَيْئاً إلاَّ خَيْراً " وذلك أنه قيل له : " كَيْفَ تَجِدُكَ ". وتكون " إلاّ " بمنزلة الواو نحو قول الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الثلاثون بعد المائة ] :
وأَرى لَها دَاراً بأَغْدِرَةِ الس يِدانِ لم يَدْرُسْ لَها رَسْمُ
إلاّ رَماداً هامِداً دَفَعَتْ عَنْهُ الرياحَ خَوالِدٌ سُحْمُ
أراد : أرى لَها داراً ورماداً. وقال بعضُ أهْلِ العِلم إن الذين ظلموا ها هنا هم ناس من العرب كانوا يهوداً أو نصارى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه، فأما سائر العرب فلم يكن لهم حجة وكانت حجة من يحتج منكسرة. إلا انك تقول لمن تنكسر حجته " إن لك علي الحجة ولكنها منكسرة وانك تحتج بلا حجة وحجتك ضعيفة ".
وقال ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ ( ١٥٠ ) يقول : " لأنْ لا يَكُونَ للناسِ عَلَيْكُمْ حُجة ولأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيكُم " عطف على الكلام الأول.
وقوله ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ ( ١٥١ ) ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾( ١٥١ ) أي كما فعلت هذا فاذكروني.
وقال ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ [ ٦٧ء ] أَمْوَاتٌ ﴾ ( ١٥٤ ) على : وَلا تَقُولُوا هُمْ أمواتٌ. وقال ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً ﴾ نصب على " تَحْسَبُ "، ثم قال ﴿ بِلْ أَحْياءٌ ﴾ أي : بلْ هُمْ أحياءٌ. ولا يكون أنَ تجعله على الفعل ؛ لأَنهُ لو قال : " بلْ احْسبُوهم أحياءَ " كان قد أمرهم بالشك.
وقال ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ( ١٥٨ ) " إطَّوَّفَ " " يَطَّوّفُ " ؛ وهي من " تَطَوَّفَ ". فأدغم التاء في الطاء، فلما سكنت جعل قبلها ألفا حتى يقدر على الابتداء بها. وإنما قال ﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ﴾ لان ذلك كان مكروها في الجاهلية في الجاهلية فأخبر أنه ليس بمكروه عنده.
وقال ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ ( ١٦١ ) لأنه أضاف اللعنة ثم قال ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ( ١٦٢ ) نصب على الحال.
وقال ﴿ وَلَوْ يرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ ( ١٦٥ ) ف " إنَّ " مكسورة على الابتداء إذ قال ﴿ وَلَوْ تَرى ﴾. وقال بعضهم ﴿ ولو يَرى الذين ظلموا إذ يَرَوْنَ العذاب أن القوةَ لِلّهِ جَميعاً ﴾ يقول : " وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ القُوَّةَ لِلّه " أي : " لَوْ يَعْلَمون " لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال ﴿ وَلَوْ تَرى ﴾ فإنما يخاطب النبي صلى الله عله وسلم ولو كسر " إنّ " إذا قال ﴿ وَلَوْ يَرى الذينَ ظَلَمُوا ﴾ على الابتداء جاز لو يرى أو يعلم. وقد تكون في معنى لا يحتاج معها إلى شيء تقول [ ٦٧ب ] للرجل : " أما وَاللّهِ لَوْ تَعْلَم " و " لَوْ يَعْلَم " قال الشاعر :[ من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة ] :
إنْ يَكُنْ طِبَّكِ الدَّلالُ فَلَوْفِي سالِفِ الدَّهْرِ والسنينَ الخَوالِي
فهذا ليس له جواب إلاّ في المعنى. وقال :[ من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة ] :
فَبِحَظٍّ مِمَا تَعيشُ ولا تَذْ هَبْ بِكَ التُّرهاتُ في الأَهْوالِ
فأضمر " فعيشي ". وقال بعضهم ﴿ وَلَوْ تَرى ﴾ وفتح ﴿ أَنَّ ﴾ على ﴿ تَرى ﴾ وليس ذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم، ولكن أراد [ أن ] يُعْلِمَ ذلك َ الناسَ كما قال ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ ليخبر الناس عن جهلهم وكما قال ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾.
وقال ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ ( ١٧٣ ) وإنما هي " المَيِّتَةُ " خففت وكذلك قوله ﴿ بَلْدَةً مَيْتاً ﴾ يريد به " ميّتا " ولكن يخففون الياء كما يقولون في " هيّن " و " ليّن " : هَيْن " و " لَيْن " خفيفة. قال الشاعر :[ من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائة ] :
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ
فثقل وخفف في معنى واحد. فأما " الميتة " فهي الموت.
وقال ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ ( ١٧٥ ) فزعم بعضهم أنه تعجب منهم كما قال ﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ تعجبا من كفره. وقال بعضهم ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ ﴾ أي : ما أَصْبَرَهُم، و : ما الذي أَصْبَرهم.
وقال [ ٦٨ء ] ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ ( ١٧٦ ) فالخبر مضمر كأنه يقول : " ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب " لأنه قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك قد قيل لهم فالكتاب حق.
وقال ﴿ ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ ( ١٧٧ ) ثم قال ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ ﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ ( ١٧٧ ) فهو على أول الكلام " ولكنَّ البرَّ برُّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاةَ " ثم قال ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ ﴾ ( ١٧٧ ) ف " ﴿ المُوفُونَ ﴾ رفع على " ولكنَّ الموفين " * يريد " بِرَّ الموفين " فَلَما لم يذكر " البرَّ " أقام ﴿ الموفونَ ﴾ مقام البرّ كما قال ﴿ وَاسْألِ الْقَرْيَةَ ﴾ فنصبها على ﴿ اسأل ﴾ وهو يريد " أهلَ القرية "، ثم نصب ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ على فعل مضمر كما قال ﴿ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ ثم قال ﴿ وَالْمُقِيمِينَ ﴾ فنصب على فعل مضمر ثم قال ﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ فيكون رفعا على الابتداء أو بعطفه على " الراسخين ". قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد السابع والستون ] :
لا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجَزْرِ
النَازِلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ معاقدَ الأُزْر
ومنهم من يقول " النازلون " و " الطيبين ". ومنهم من يرفعهما جميعا وينصبهما جميعا [ ٦٨ب ] كما فسرت لك. ويكون ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ معطوفا على ذَوِي الْقُرْبَى } ﴿ وَآتَى الصَّابِرِينَ ﴾.
وقال ﴿ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ ﴾ ( ١٧٧ ) فبناه على " فَعْلاء " وليس له " أَفْعَلُ " لأنه اسم، كما قد جاء " أَفْعَل " في الأسماء ليس معه " فَعْلاء " نحو " أَحْمَدُ ". وقد قالوا " أَفْعَلُ " في الصفة ولم يجئ له " فَعْلاءُ "، قالوا : " أَنْتَ مِنْ ذاكَ أَوْجلُ " و " أَوْجَرُ " ولم يقولوا : " وَجْلاءُ " ولا " وَجْراءُ " وهما من الخوف. و[ منه ] " رجلٌ أَوْجَلُ " و " أَوْجَرُ ".
وقال ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ ( ١٧٨ ) أي : " فعليه اتباعٌ بالمعروف أوْ أدَاءٌ إلَيْهِ بإحْسان " على الذي يُطْلَبُ.
وقال ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ ( ١٨٠ ) ف﴿ الْوَصِيَّةُ ﴾ على الاستئناف، كأنه - والله أعلم - ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ فَالوصية ﴿ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً ﴾.
ثم قال ﴿ أَيَّاماً ﴾ ( ١٨٤ ) أيْ : كُتِبَ الصِّيامُ أياماً. لأَنَّك شَغَلْتَ الفعل بالصيامِ حتى صار هو يقوم مقام الفاعل، وصارت الأيَّامُ كأنك قد ذَكَرْتَ مَنْ فَعَلَ بِها.
وقال ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ ( ١٨٤ ) يقول " فعَلَيْهِ عِدَّةٌ " رفع، وإنْ شِئْتَ نَصَبْتَ " العِدَّةَ " على " فَلْيَصُمْ عِدَّةً " إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُقرأ.
وقال ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ ( ١٨٤ ) وقد قرئت ﴿ فِدْيةُ طَعامِ مِسكين ﴾ وهذا ليس بالجيد، إنما الطعام تفسير للفدية، وليست الفدية بمضافة إلى الطعام. وقوله ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ يعني الصيام. وقال بعضهم ﴿ يُطَوَّقُونَه ﴾ أي يتكلّفون الصيام. ومن قال ﴿ مَساكِين ﴾ فهو يعني جماعة الشهر لان لكل يوم مسكينا. ومن قال ﴿ مِسْكين ﴾ فإنما أخبر ما يلزمه في ترك اليوم الواحد.
وقال ﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ( ١٨٤ ) لان " أن " الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم كأنه قال : " والصيامُ خَيْرٌ لكم ".
ثم قال ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ ( ١٨٥ )على تفسير الأيام، كأنه حين قال ﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ فسرها فقال : " هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ ". وقد نصب بعضهم ﴿ شَهْرَ رَمَضانَ ﴾ [ وذلك ]* جائز على الأمر، كأنه قال : " شَهْرَ رَمضانَ فصُوموا "، أو جعله ظرفا على ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾[ ٦٩ب ] أي : " في شَهْرِ رَمضانَ " و " رَمَضَان " في موضع جر لأن الشهر أضيف إليه ولكنه لا ينصرف.
وقال ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى ﴾ ( ١٨٥ ) فموضع ﴿ هُدىً ﴾ و﴿ بَيِّناتٌ ﴾ نصب لأنه قد شغل الفعل ب﴿ الْقُرْآنُ ﴾ وهو كقولك : " وجد عبد الله ظريفا ".
وأما قوله ﴿ وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( ١٨٥ ) فجرّ على " وبيناتٍ من الفرقان ".
﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ﴾ ( ١٨٥ ) وهو معطوف على ما قبله كأنه قال " وَيَريدُ لِتُكْمِلُوا العِدَّة " ﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ ﴾. [ ٦٩ء ] وأما قوله ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ فإنما معناه يريد هذا ليبين لكم. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائة ] :
أُرِيدُ لأَنْسى ذِكْرَها فَكَأنما تَمَثَّلُ لِي لَيْلى بِكُلِّ سَبيلِ
فمعناه : أريد هذا الشيء لأنسى ذكرها " أَوْ يَكُونُ أَضْمَر " " أَنْ " بعد اللام وأوصَلَ الفعلَ إلَيْها بحرف الجر. قال ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ فعدّى الفعل بحرف الجر، والمعنى : عَرَّفَهم الاختلافَ حتى تركوه ".
وقوله ﴿ يَرْشُدُونَ ﴾ ( ١٨٦ ) لأنها من : " رَشَدَ " " يَرْشُد " ولغة للعرب " رَشِدَ " " يَرْشَد " وقد قرئت ﴿ يُرْشَدُون ﴾.
وقال ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ ( ١٨٨ ) جزم على العطف ونصب إذا جعله جوابا بالواو.
وقال ﴿ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ فجر ﴿ الحَجّ ﴾ ( ١٨٩ ) فجر ﴿ الحج ﴾ لأنه عطفه على " الناس " فانجر باللام.
وقال ﴿ ولكنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ ( ١٨٩ ) يريد " بِرّ مَنْ اتقَّى ".
وأما قوله ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( ١٩٢ ) يريد : فإنَّ اللّهَ لهم.
وقوله ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ لأنه يجوز أن يقول ﴿ إِنِ انتَهَوْاْ ﴾ وهو قد علم أنهم لا ينتهون إلا بعضهم فكأنه قال : " إن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم " فأضمر. كما قال ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾ ( ١٩٦ ) أي : فَعَليه ما استيسر كما تقول " زيدا أكرمت " وأنت تريد " أكرمته " وكما تقول " إلى مَنْ تَقْصُد أقصد " تريد " إليه ".
وأما قوله ﴿ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾ ( ١٩٤ ) فان الله لم يأمر بالعدوان، وإنما يقول : " إِيتوا إليهم الذي كانَ يُسمى بالاعتداء " أي : افعلوا بهم كما فعلوا بكم، كما تقول : " إنْ تَعاطَيْتَ مني ظُلْما [ ٧٠ء ] تعاطَيْتُهُ مِنْكَ " والثاني ليس بظالم. قال عَمْرُو بن شَأس :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائة ] :
جَزَيْنا ذَوِي العُدْوانِ بالأَمْسِ مِثْلَهُ قَصاصاً سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
وقال ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ ( ١٩٥ ) يقول : " إلَى الهَلَكَةِ ". والباء زائدة نحو زيادتها في قوله ﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ وإنما هي : تنبت الدهن. قال الشاعر : من الطويل وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائة ] :
كَثِيراً بما يَتْرُكْنَ في كُلِّ حُفْرَةٍ زفيرَ القواضِي نَحْبَها وَسُعالَهَا
يقول : " كثيراً يَتْرُكْنَ " وجعل الباء و " ما " زائدتين.
وأما قوله ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ ( ١٩٦ ) فلأنك تقول : " أحصَرَني بَوْلي " و " أحصرني مَرضِي " أي : جعلني أحْصُرُ نفسي. وتقول : " حَصَرْتُ الرجل " أي : حبسته، فهو " مَحْصور ". وزعم يونس عن أبي عمرو انه يقول : " حَصَرْتُهُ [ إذا منعته ]* عن كُلِّ وَجْهٍ " وإذا منعته من التقدم خاصة فقد " أحْصَرْتُهُ "، ويقول بعض العرب في المرض وما أشبهه من الإعياء والكلال : " أَحْصَرْتُهُ ".
وقال ﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾ ( ١٩٦ ) أي : فعليه فدية.
وقال ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ ٧٠ب ] تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ ( ١٩٦ ) فإنما قال ﴿ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ وقد ذكر سبعة وثلاثة ليخبر أنها مجزية، [ و ] وليس ليخبر عن عدتها، ألا ترى أن قوله ﴿ كَامِلَةٌ ﴾ إنما هي " وافية ".
وقد ذكروا أَنَّهُ في حرف ابْنِ مَسْعودٍ ﴿ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثى ﴾ وذلك أن الكلام يؤكد بما يستغنى به عنه كما قال ﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾. وقد يستغنى بأحدهما، ولكن تكرير الكلام كأنه أوجب. ألا ترى أنك تقول : " رأيت أَخَويكَ كِلَيْهِما " ولو قلت : " رأيت أخويك " أستغنيت فتجيء ب " كليهما " توكيدا. وقال بعضهم في قول ابن مسعود " أُنْثى " انه إنما أراد " مُؤَنَّثَةَ " يصفها بذلك لان ذلك قد يستحب من النساء.
وقال ﴿ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ( ١٩٦ ) وإذا وقفت قلت : " حاضري " لان الياء إنما ذهبت في الوصل لسكون اللام من " المسجد "، وكذلك ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ وقوله ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ و﴿ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴾ وأشباه هذا مما ليس هو حرف إعراب. وحرف الإعراب الذي يقع عليه الرفع والنصب والجر ونحو " هو " و " هي "، فإذا وقفت عليه فأنت فيه بالخيار إن شئت ألحقت الهاء وان شئت لم تلحق. وقد قالت العرب في نون الجميع ونون الاثنين في الوقف [ ٧١ء ] بالهاء فقالوا : " هُما رَجُلانِه " و " مُسْلِمُونَهُ " و " قد قُمْتُهْ " إذا أرادوا : " قَدْ قُمْتُ " وكذلك ما لم يكن حرف إعراب إلا أن بعضه أحسن من بعض، وهو في المفتوح أكثر. فأما " مَرَرْتُ بأَحْمَرَ " و " يَعْمَرَ " فلا يكون الوقف في هذا بالهاء لان هذا قد ينصرف عن هذا الوجه. وكذلك ما لم يكن حرف إعراب ثم كان يتغير عن حاله فانه لا تلحق فيه الهاء إذا سُكِتَ عليه. وأما قوله ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ فإذا وقفت قلت " تَبُوءْ " لأَنها " أَنْ تَفْعَلَ " فإذا وقفت على " تَفْعَل " لم تحرّك. قال ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا ﴾ إذا وقفت عليه لأنه " أَنْ تَفَعَّلا " وأنت تعني فعل الاثنين فهكذا الوقف عليه قال ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ فإذا وقفت قلت : " مبوّأْ " ولا تقول " مبوّءا " لأنه مضاف، فإذا وقفت عليه لم يكن ألف. ولو أثبت فيه الألف لقلت في وقف ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ : " محلين " ولكنه مثل " رأيتُ غُلامي زيد " فإذا وقفت قلت : " غلامي ". وقال ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ﴾ فإذا وقفت قلت : " تراءَى " ولم تقل : " تراءيا " لأنك قد رفعت الجمعين بذا الفعل، ولو قلت : " تراءيا " كنت قد جئت باسم مرفوع بذا الفعل وهو الألف ويكون قولك " الجَمْعانِ " [ ٧١ب ] ليس بكلام إلا على وجه آخر.
وقال ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ ( ١٩٨ ) فصرف " عَرفاتٍ " لأنها تلك الجماعة التي كانت تتصرف، وإنما صرفت لأن الكسرة والضمة في التاء صارت بمنزلة الياء والواو في " مِسلمين " و " مُسلمون " لأنه تذكيره، وصارت التنوين في نحو " عَرَفاتٍ " و " مُسْلِماتٍ " بمنزلة النون. فلما سمي به ترك على حاله كما يترك " مسلمون " إذا سمي به على حاله حكاية. ومن العرب من لا يصرف [ ذا ] إذا سمي به ويشبه التاء بهاء التأنيث [ في ] نحو " حَمْدَةَ " وذلك قبيح ضعيف. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائة ] :
تَنَوَّرْتُها من أَذْرِعاتٍ وأَهلُها بيثربَ أَدْنى دارِهَا نظرٌ عالِ
ومنهم من لا ينوّن " اذْرِعات " * ولا " عانات " وهو مكان.
وقال ﴿ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ ( ٢٠٣ ) كأنه حين ذكر هذه الرخصة قد أخبر عن أمر فقال ﴿ لِمَن ِاتَّقَى ﴾ : أَي : ذلك لمن اتقى.
وقال ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قَلْبِهِ ﴾ ( ٢٠٤ ) إذا كان هو يشهد وقال بعضهم :﴿ وَيَشْهَدُ اللّهُ ﴾ أي إن الله هو الذي يشهد.
وقال ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ ( ٢٠٤ ) من " لَدِدْتُ " " تَلَدُّ " و " هو أَلَدُّ " و " هُمْ قَوْمٌ لُدٌّ " و " امْرَأَةٌ لَدّاءُ " و " نسوةٌ لُدُّ ".
وقال ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ ( ٢٠٧ ) يقول : " يَبيعُها " كما تقول : " شَرَيْتُ هذا المتاعَ " أي : بِعْتُهُ [ ٧٢ء ] و " شَرَيْتُهُ " " : اشْتَرَيتهُ أيضاً، يجوز في المعنيين جميعا، كما تقول : " إنَّ الجِلَّ لأَفْضَلُ المَتاعِ "، و " إنَّ " الجِلَّ لأَرْدَؤُهُ "، وعلى ذلك يجوز مع كثير مثله. وكذلك " الجَلَلُ " يكون العظيمَ ويكون الصغيرَ. وكذلك " السَّدَفُ " يكون الظُلْمةَ والضَوْءَ. وقال الشاعر :
[ من الرمل وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائة ] :
وأَرى أَربْدَ قد فارَقَني ومن الآرْزاءِ رُزْء ذُو جَلَل
أي : عظيم. وقال الآخر :[ من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائة ] :
ألا إنَّما أَبْكي لِيَوْمٍ لقِيتُه بِجُرْثُمِ صادٍ كلُّ ما بَعْدَهُ جَلَلَ
أي : صغير.
وأما قوله ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ ( ٢٠٧ ) فان انتصابه على الفعل وهو على " يَشْرِي " كأنه قال " لابتِغاءِ مَرْضاةِ الله " فلما نزع اللام عمل الفعل. ومثله ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ وأشباه هذا كثير. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الأربعون بعد المائة ] :
واغْفِرُ عَوْراءَ الكرِيم ادّخارَه وَأُعْرِضُ عَنْ شَتِم اللئيمِ تَكَرُّما
لما حذف اللامَ عمل فيه الفعل.
وقال ﴿ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ ( ٢٠٨ ) و " السِّلْمُ " : الإِسْلامُ. وقوله ﴿ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾ ذلك : الصُلْح. وقد قال بعضهم في " الصلح " : " السِّلم. وقال ﴿ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ وهو الاستسلام. وقال ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ أي : قالوا " بَراءَةً مِنْكُم " [ ٧٢ب ] لأنّ " السَّلام " في بعض الكلام هو : البراءة. تقول : " إنّما فلانٌ سَلامٌ بِسلام " أي : لا يُخالِطُ أحدا. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة ] :
سَلامَكَ رَبَّنا في كلِّ فَجْرٍ بَريئا ما تَغَنَّثُكَ* الذُّمومُ
يعني تَأَوَّبكَ، يقول : " براءَتَكَ ". وقال ﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ وهذا فيما يزعم المفسرون : قالوا خيراً. كأنه - والله اعلم - سمع منهم التوحيد فقد قالوا خيرا، فلما عرف أنهم موحدون قال : " سلامٌ عَلَيْكُم " فسلمَ عليهم. فهذا الوجه رفع على الابتداء. وقال بعضهم : " ما كان من كلام الملائكة فهو نصب وما كان من الإنسان فهو رفع في السلام ". وهذا ضعيف ليس بحجة. وقال ﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ فهذا يجوز على معنى : " سلامٌ عَلَيْكُم " في التسليم. أو يكون على البراءة إلا انه جعله خبر المبتدأ كأنه قال " أمِري سَلامٌ ". أي : أمري براءة منكم، وأضمر الاسم كما يضمر الخبر. وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر ] :
فَيا ظَبْيَةَ الوَعْساءِ بَيْنَ جَلاجِلٍ وَبَينَ النَّقا آأَنْتِ أَمْ أُمُ سالِمِ
على : " أ أَنْتِ هِي أَمْ أم سالِمِ " أيْ : أَشْكَلْتِ عليَّ بِشَبَهِ أمِّ سالِمِ بِكِ. وكل هذا قد اضمر الخبر فيه. ومثل ذلك ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم [ ٧٣ء ] مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ﴾فلما قال ﴿ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ﴾ كان فيه دليلٌ* على معنى ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ ﴾ " ومن أنفق من بعد الفتح " أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء.
وقال ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ( ٢٠٨ ) لان كل اسم على " فُعْلَة " خفيف إذا جمع حرك ثانية بالضم نحو " ظُلُمات " و " غُرُفات " لان مخرج الحرفين بلفظ واحد إذا قرب أحدهما من صاحبه [ كان ]** أيسر عليهم. وقد فتحه بعضهم فقال : " الرُكَبات " و " الغُرفاَت " و " الظُلُمات "، واسكن بعضهم ما كان من الواو كما يسكن ما كان من الياء نحو " كُلْيات " أسكن اللام لئلا تحوّل الياء واوا فاسكنها في " خُطْوات " لان الواو أخت الياء. وما كان على " فَعْلة " نحو : " سَلْوَة " و " شَهْوَة " حرّك ثانية في الجمع بالفتح نحو " سَلَوات " و " شَهَوات " فإذا كان أوله مكسورا كسر ثانيه نحو " كِسْره " و " كِسِرات "، و " سِدْرة "، و " سِدِرات ". وقد فتح بعضهم ثاني هذا كما فتح ثاني المضموم واستثقل الضمتين والكسرتين. وما كان من نحو هذا ثانيه واو أو ياء أو التقى فيه حرفان من جنس واحد لم يحرّك، نحو : " دُوْمَة " و " دُومات "، و " وعُوذَة " و " عوذات " وهي : المعاذة، و " بَيْضَة " و " بَيْضات " [ ٧٣ب ]، و " مَيْتةَ " و " مَيْتات ". لان هذا لو حرّك لتغير وصار ألفا فكان يغير بناء الاسم فاستثقلوا ذلك. وقالوا : " عِضَةٌ " و " عِضات " فلم يحركوا لان هذا موضع تتحرك فيه لام الفعل فلا يضعف ولولا انه حرك لضعف وأكثر [ ما ] في " الظُلُمات " و " الكِسِرات " وما أشبههما أن يحرك الثاني على الأول. وقد دعاهم ذلك إلى أَن قالوا " أذْكُر " فضموا الألف لضمة الكاف وبينها حرف فذلك أخلق. وقد قال بعضهم : " أَنَا أُنْبُوك " و " أَنا أُجُوك " فضم الباء والجيم لضمة الهمزة ليجعلها على لفظ واحد، فهذا اشد من ذاك. وقال : " هذا هُو مُنْحَدُرٌ من الجَبَل " يريد " مُنْحَدَرٌ " فضم الدال لضمة الراء، كما ضم الباء والجيم في " أُنْبُوكَ " و " أُجُوكَ ".
وقال ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ﴾( ٢١٠ ) على " وفي الملائكة ". وقال بعضهم ﴿ وَالْمَلائِكَةِ ﴾ أي : وتأتيهم الملائكةُ. والرفع هو الوجه وبه نقرأ. لأنه قد قال ذلك في غير مكان قال ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ﴾ وقال ﴿ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ و " المَلَكُ " في هذا الموضع جماعة كما تقول : " أَهْلَكَ الناسَ الدينارُ والدرهَمُ " و " هَلَكَ البَعِيرُ والشَّاءُ " تريد* : جماعة الإبل والشاء. وقوله ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾ يعني أمرهُ، لأَنّ [ ٧٤ء ] اللّهَ تبارك وتعالى لا يزُولُ كما تقول : " قَدْ خَشِينا أنْ تَأْتِينَا بنُو أُمَيَّة ". وإنما تعني حكمهم.
وقال ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ ( ٢١٣ ) يقول : " وما اختَلَفَ فيه إلاَّ الذينَ أُوتُوهُ بَغْياً بَيْنَهُمْ مِنْ بعدِ ما جاءَتْهُمْ البَيِّناتُ ".
وقال ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ ( ٢١٦ ) وقال بعضهم ﴿ حَمَلَتْهُ أُمه كَرْها ﴾ وقال بعضهم :﴿ كُرْها ﴾ وهما لغتان مثل " الغُسْل " و " الغَسْل "، و " الضُعْف " و " الضَّعْف " إلا أنه قد قال بعضهم انه إذا كان في موضع المصدر كان " كُرْهاً " كما تقول : " لا تقوم إلا كَرْهاً " وتقول : " لا تقوم إلا على كُرْهٍ " وهما سواء مثل " الرُّهْبِ " و " الرَّهْبِ " وقال بعضهم : " الرَّهَب " كما قالوا : " البُخْل " و " البَخْل " و " البَخَل ". وإنما قال ﴿ كُرْهٌ لَكُم ﴾ أي : ذُو كُرْهٍ وحذف " ذو " كما قال ﴿ وَسْألِ الْقَرْيَةَ ﴾.
وقال :﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ( ٢١٧ ).
وقال :﴿ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ( ٢١٧ ) على " وَصدٌّ عن المَسْجِدِ الحرامِ ".
ثم قال :﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ ﴾ ( ٢١٧ ) على الابتداء. وقال :﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهْوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ ( ٢١٧ ) فضعَّف لأن أهل الحجاز إذا كانت لام الفعل ساكنة ضعفوا وهي ها هنا ساكنة أسكنها بالجزاء. [ ٧٤ب ] وقال :﴿ وَمَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ ﴾ فلم يضاعف في لغة من لا يضاعف لأن من لا يضاعف كثير.
وقال :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ إذا جعلت ﴿ ماذا ﴾ بمنزلة ( ما ). وان جعلت ﴿ ماذا ﴾ بمنزلة " الذي " قلت :﴿ قُلْ الْعَفْوُ ﴾ والأُولى منصوبة وهذا مرفوعة كأنه قال :﴿ ما الذي يُنْفِقُون ﴾ فقال : " الذي يُنْفِقونَ العفُو ". وإذا نصبت فكأنه قال : " ما يُنْفِقُونَ " فقال : " يُنْفِقُونَ العَفْوَ " لأن ﴿ ما ﴾ إذا لم تجعل بمنزلة " الذي " ف " العَفْو " منصوب ب " يُنْفِقُون ". وان جعلت بمنزلة " الذي " فهو مرفوع بخبر الابتداء كما قال ﴿ مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ جعل ﴿ مَّاذَا ﴾ بمنزلة " الذي " وقال ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾ جعل ﴿ ماذا ﴾ بمنزلة " ما ". وقد يكون إذا جعلها بمنزلة " ما " وحدها الرفع على المعنى. لأنه لو قيل له : " ما صَنَعْتَ " ؟ فقال : " خيرٌ "، أي : الذي صنعت خيرٌ، لم يكن به بأس. ولو نصبت إذا جعلت " ذا " بمنزلة " الذي " كان أيضا جيدا لأنه لو قيل لك : " ما الذي صنعت " فقلت : " خيراً " أي : صنعتُ خيراً. كان صوابا. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثلاثون ] :
دَعِي ماذا عَلِمْتُ سَأَتَّقِيهِ ولكِنْ بِالمُغَيَّبِ نَبئِّيني
[ ٧٥ء ] جعل " ما " و " ذا " بمنزلة " ما " وحدها، ولا يجوز أن يكون " ذا " بمنزلة " الذي " في هذا البيت لأنك لو قلت : " دعي ما الذي علمت " لم يكن كلاما. وقال أهل التأويل في قوله ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ لأن الكفار جَحَدوا أَنْ يكونَ ربهم أنزل شيئا فقالوا لهم : " ما تقولونَ أنتُم أساطيرُ الأوَّلينَ " أي : " الذي تقولونَ أَنْتُم أَساطيرُ الأولينَ " ليس على " أَنَزَلَ ربُّنا أساطيرَ الأولين ". وهذا المعنى فيما نرى والله أعلم - كما قال ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ ( ٢٢٠ ) أي : فهم إخوانكم.
قال ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ ( ٢٢٢ ) وهو : الحَيْضُ. وإِنما أكثر الكلام في المصدر إِذا بني هكذا أَنْ يَرادَ به " المَفْعَل " نحو قولك : " ما في بُرِّكَ مَكَالٌ " أي : كَيْلٌ. وقد قيلت الأخرى أي : قيل " مَكِيلٌ " وهو مثل " مَحِيضٍ " من الفعل إذا كان مصدرا للتي في القرآن وهي اقل. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة ] :
بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزِلَّةٍ لا يَسْتَطِيعُ بِها القُرادُ مقيلا
يريد : " قَيْلُولَةً ". وتقول : " جِئْتُ مَجيئاً حَسَناً ". فبنوه على " مَفْعِل " وهو مصدره.
وقال ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ ( ٢٢٢ ) لأنك تقول : " طَهَرَتْ المرأةُ " فَ " هِيَ تَطْهُرُ ". وقال بعضهم " طَهُرَت ". وقالوا : " طَلَقَتْ " " تَطْلُق " [ ٧٥ب ] " و " طَلُقَت " " تَطْلُقُ " أيضا. ويقال للنفساء إذا أصابها النفاس : " نُفِسَت " فإذا أصابها الطَلْقُ [ قيل ] : طُلِقَتْ ".
وقال ﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ ( ٢٢٥ ) نقول : " لَغَوْتُ في اليمين " فَ " أَنا أَلغْو " " لَغْواً " ومن قال : " هو يَمْحا " قال : " هَو يَلْغا " " لَغْواً " و " مَحْواً ". وقد سمعنا ذلك من العرب. وتقول : " لَغِيتُ باسمِ فلانٍ " ف " أَنَا ألْغى به " " لَغَى " أي : أَذْكُرُهُ.
وقال ﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نسَائِهِمْ ﴾ ( ٢٢٦ ) تقول : " آلى* مِن امرأَتِهِ " " يُؤْلي " " إيْلاءً " و " ظاهَرَ مِنْها " " ظِهاراً " كما تقول : " قاتَلَ " " قِتالاً ". ﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾ جعل ذلك لهم أجلا ﴿ فَإِنْ فَاءُوا ﴾ يعني : " فان رَجِعُوا " لأنك تقول : " فِئْتُ إلى الحَقِّ ".
وقال ﴿ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ﴾ ( ٢٢٨ ) ممدودة مهموزة وواحدها " القَرْءُ " خفيفة مهموزة مثل : " القَرْع " وتقول : " قَدْ أَقْرَأَتِ المَرأَةُ " " إِقْراءً " بالهمز، إذا صارت صاحبة حيض. وتقول : " ما قَرَأَتْ حَيْضَةً قَطْ " مثل : " ما قَرَأَتْ قُرآناً ". و : " قَدْ قَرَأَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضتَيْنِ " بالهمز، و " ما قَرَأَتْ جَنِينا قطُّ " مثلها. أي : ما حَمَلَتْ. و " القَرْءُ " : انْقْطَاعُ الحَيْض. وقال بعضهم : " ما بَيْنَ الحَيْضَتَيْن قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائة ] :
[ ٧٦ء ] ذِراعَيْ بَكْرَةٍ أَدْماء بَكْرٍ هِجانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرأ جَنينا
وأما قول الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائة ] :
فَتُوضِحَ فالمِقراةَ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
فان " المِقرْاة " : المَسِيل وليس بمهموز.
وقال ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ ( ٢٣٢ ) ينهى أزواجهن أن يَمْنَعُوهن من الأزواج.
وقال ﴿ ذلك يُوعَظُ بِهِ ﴾ ( ٢٣٢ ) و﴿ ذالِكُمْ [ ٧٧ء ] أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ ( ٢٣٢ ) لأنه خاطب رجالا، وقال في موضع آخر " ذلِكُنَّ الذي لُمْتُنَّني فيه " لأنه خاطب نساء، ولو ترك " ذلك " ولم يلحق فيها أسماء الذين خاطب كان جائزا. وقال ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ ولم يقل ﴿ ذَلِكُنَّ ﴾ وقال ﴿ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾. وقال في المجادلة ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ وليس بأبعد من قوله ﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ فخاطب ثم حدّث عن غائب لان الغائب هو الشاهد في ذا المكان. وقال ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً ﴾.
وقال ﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ( ٢٣٣ ) لأنه يقول : " بيني وَبَيْنَكَ رَضاعَةٌ " و " رَضاعٌ " وتقول : " اللُّؤمُ والرَّضاعَةُ " وهي في كل شيء مفتوحة. وبعض بني تميم يكسرها إذا كانت في الارتضاع يقول " الرِّضاعة ".
وقال ﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ ﴾ ( ٢٣٣ ) رفع على الخبر يقول : " هكذا في الحكم أنه لا تضارُّ والدةٌ بولدها " يقول : " يَنْبَغي " فلما حذف " يَنْبَغي " وصار " تُضارُّ " في موضعه صار على لفظه. ومثله :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً ﴾( ٢٣٤ ) فخبر ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ﴾﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾( ٢٣٤ ) بَعْدَ مَوْتِهِم " ولم يذكر " بَعْدَ مَوْتِهِمْ " كما يحذف بعض الكلام يقول : " يَنْبَغي لَهُنَّ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ " فَلَما حذف " يَنْبغي " وقع " يَتَرَبَّصْنَ " موقعه*. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة ] :
على الحَكَمِ المَأْتِيِّ يَوْماً إذا قضى قَضِيَّتَهُ أنْ لا يَجُورَ وَيَقْصِدُ
[ ٧٦ب ] فَرَفَعَ " وَيَقْصِدُ " على قوله : " وَيَنْبَغي ". ومن جعل ﴿ لاَ تُضَارّ ﴾ على النهي قال ﴿ لاَ تُضَارَّ ﴾ على النصب وهذا في لغة من لم يضعف فأما من ضعف فانه يقول ﴿ لا تضارَرْ ﴾ إذا أراد النهي لان لام الفعل ساكنة إذا قلت " لا تُفاعَلْ " ** وأنت تَنهي. إلا أن " تضارَ " ها هنا غير مضعفة لان ليس في الكتاب إلا راء واحدة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣٣:وقال ﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ( ٢٣٣ ) لأنه يقول :" بيني وَبَيْنَكَ رَضاعَةٌ " و " رَضاعٌ " وتقول :" اللُّؤمُ والرَّضاعَةُ " وهي في كل شيء مفتوحة. وبعض بني تميم يكسرها إذا كانت في الارتضاع يقول " الرِّضاعة ".
وقال ﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ ﴾ ( ٢٣٣ ) رفع على الخبر يقول :" هكذا في الحكم أنه لا تضارُّ والدةٌ بولدها " يقول :" يَنْبَغي " فلما حذف " يَنْبَغي " وصار " تُضارُّ " في موضعه صار على لفظه. ومثله :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً ﴾( ٢٣٤ ) فخبر ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ﴾﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾( ٢٣٤ ) بَعْدَ مَوْتِهِم " ولم يذكر " بَعْدَ مَوْتِهِمْ " كما يحذف بعض الكلام يقول :" يَنْبَغي لَهُنَّ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ " فَلَما حذف " يَنْبغي " وقع " يَتَرَبَّصْنَ " موقعه*. قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة ] :
على الحَكَمِ المَأْتِيِّ يَوْماً إذا قضى قَضِيَّتَهُ أنْ لا يَجُورَ وَيَقْصِدُ
[ ٧٦ب ] فَرَفَعَ " وَيَقْصِدُ " على قوله :" وَيَنْبَغي ". ومن جعل ﴿ لاَ تُضَارّ ﴾ على النهي قال ﴿ لاَ تُضَارَّ ﴾ على النصب وهذا في لغة من لم يضعف فأما من ضعف فانه يقول ﴿ لا تضارَرْ ﴾ إذا أراد النهي لان لام الفعل ساكنة إذا قلت " لا تُفاعَلْ " ** وأنت تَنهي. إلا أن " تضارَ " ها هنا غير مضعفة لان ليس في الكتاب إلا راء واحدة.

وقال ﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ ( ٢٣٥ ) ف " الخِطْبَةِ " الذِكر، و " الخُطْبَةَ " : التَشَهُّد.
وقال ﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ ( ٢٣٥ )لأنه لما قال ﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ كأنه قال : " تذكرون ﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ ﴾ ( ٢٣٥ ) استثناء خارج على " ولكنْ ".
قال ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ ( ٢٣٧ ) أي : فعليكم نصفُ ما فرضتم ﴿ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ ﴾ ( ٢٣٧ ) وإنْ شئتَ نَصَبْتَ ﴿ نصفَ ما فَرضْتُمْ ﴾ على الأمر.
قال ﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ ( ٢٣٧ ) وقال بعضهم ﴿ ولا تَناسَوْا ﴾، وكلٌّ صَوابٌ. وقال بعضهم ﴿ وَلا تَنْسَوِا الفَضْلَ ﴾ فكسر الواو لاجتماع الساكنين كما قال ﴿ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ ﴾.
قال ﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ ( ٢٣٩ ) يقول : " صَلُّوا رِجالاً أَوْ صَلُّوا رُكْبانا ".
وقال ﴿ وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ ﴾ ( ٢٤٠ ) كأنه [ قال ] : " لأزْواجِهِمْ وَصِيَّةٌ ﴿ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ ﴾ ونَصَبَ ﴿ مَتاعاً ﴾ لأنه حين قال ﴿ لأزْواجِهِمْ ﴾﴿ وَصِيَّةً ﴾ فكأنه قد قال : " فَمَتِّعُوهُنَّ " ﴿ مَتاعاً ﴾ فعلى هذا انتصب قوله ﴿ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ ( ٢٤٠ ) يقول " لا إخْراجاً " أي : " متاعاً لا إخْراجاً " أي : لا تُخْرِجُوهُن إخْراجاً. وزعموا أنها في حرف ابن مسعود ﴿ كُتِبَ عَلَيكُم وَصِيَّةٌ لأزْواجِكم ﴾.
وقال بعضهم ﴿ وَصِيَّةٌ لأَزْوَاجِهِمْ ﴾ ( ٢٤٠ ) [ ٧٧ب ] فنصب على الأمر [ ورفع ] أي : عَلَيْكُمْ وصيةٌ بذلك " [ و ] " أَوْصُوا لَهُنَّ وَصِيَّةً "
وقال ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً ﴾ ( ٢٤١ ) أي : أُحِقُّ ذلِكَ حَقّاً.
وقال ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ ( ٢٤٥ ) وقال بعضهم ﴿ فَيُضَعِّفُه لَهُ ﴾. وتقرأ نصبا أيضاً إذا نويت بالأول الاسم لأنه لا يكون أن تعطف الفعل على الاسم، فأضمر في قوله ﴿ فيُضاعِفَهَ ﴾ " أنْ " حتى تكّون اسما فتُجْرِيه على الأَوّل إذا نوى به الاسم. والرفع لغة بني تميم لأنهم لا يَنْوون بالأول الاسم فيعطفون فعلا على فعل. وليس قوله ﴿ يُقْرِضُ اللَّهَ ﴾ لحاجة بالله ولكن هذا كقول العرب : " لكَ عِنْدي قرضُ صِدْقٍ " و " قَرْضُ سَوءٍ " لأمر تأتي فيه مسرَّتُه أو مساءته. قال الشاعر :[ من البسيط وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائة ] :
لا تَخْلِطَنَّ خَبيثاتٍ بِطَيِّبَةٍ واخْلَعْ ثيابك مِنْها وانجُ عُرْيانا
كُلُّ امرئ سوفَ يُجْزى قرضَهُ حَسَناً أوْ سَيِّئاً أَوْ مَدِينا مثلَ ما دانا
ف " القَرْض " : ما سلف من صالح أو من سيء.
قال ﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ( ٢٤٦ ) ف﴿ أنْ ﴾ ها هنا زائدة كما زيدت بعد " فلما " و " لَما " و " لَوْ " فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه " وَمالنَا لا نُقَاتِلُ " فأعملَ " أَنْ " وهي زائدة كما قال : " ما أَتاني منْ أحَدٍ " فأعمل " مِنْ " وهي زائدة قال الفرزدق :[ من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة ] :
[ ٧٨ء ] لَوْ لَمْ تَكُن غَطَفانٌ لا ذُنُوب لَها إليَّ لامَتْ ذَوو أَحْسابِها عُمَرَا
المعنى : لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفانٌ لَها ذُنُوب. و " لا " زائدة وأعملها.
وقال ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ( ٢٤٨ ). و " السَّكِينَةُ " هي : الوَقارُ. وأَما الحديدُ فهو : " السِّكِّينُ، مشدد الكاف. وقال بعضهم : " هي السِّكِّينُ " مثلها في التشديد إلا أَنَّها مؤنثة فأنث. والتأنيث ليس بالمعروف وبنو قُشير يقولون : " سِخِّين " للسكين. وقال ﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾.
وقال ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ ( ٢٥١ ) فنصبت ﴿ النَّاسَ ﴾ على إيقاعك الفعل بهم ثم أبدلت منهم ﴿ بَعْضَهُمْ ﴾ للتفسير.
وقال ﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ ( ٢٥٣ ) أي كلمه الله [ فلفظ الجلالة ]* في ذا الموضع رفعٌ.
وقال ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ ( ٢٥٣ ) أي رفع الله بعضهم درجات.
وقال ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ ( ٢٥٥ ) تقول " وَسِنَ " يَوْسَنُ " " سِنَةً " و " وَسَناً "
وقال ﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ ( ٢٥٥ ) لأنه من " آدُه " " يَؤُودُهُ " " أَوْداً " وتفسيره : لا يُثْقِلُهُ.
قال ﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ ( ٢٥٦ ) وإن شئت ﴿ الرَّشَدُ من الغَيِّ ﴾ مضمومة ومفتوحة.
[ وقال ] ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ ( ٢٥٧ ) جماعة في المعنى وهو في اللفظ واحد وقد جمع فقالوا " الطَواغيتُ ". وأما قوله :
﴿ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ ( ٢٥٧ ) [ ٧٨ب ] فيقول : " يَحْكُم بأنَّهم كذاك " كما تقول : " قَدْ أَخْرَجُك الله من ذا الأمر " ولم تكن فيه قط. وتقول : " أَخْرَجَنِي فُلانُ من الكِتْبَةِ " ولم تكن فيها قط. أي : لَمْ يجعَلْني من أهلها ولا فيها.
وقال ﴿ فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ أي : بَهَتَهُ إبراهيم و﴿ بُهِتَ ﴾ أجود وأكثر.
وقال ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ ( ٢٥٩ ) الكاف زائدة والمعنى - والله اعلم - ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ﴾( ٢٥٨ ) ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ والكاف زائدة. وفي كتاب الله ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ يقول : " لَيْسَ كَهُو " لأنَّ الله ليس له مِثْل.
وقال ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ ( ٢٥٩ ) فتثبت الهاء للسكوت وإذا وصلت حذفتها مثل ﴿ اِخْشَهْ ﴾. وأثبتها بعضهم في الوصل فقال ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ ﴾ فجعل الهاء من الأصل وذلك في المعنى : لم تمرر عليه السنون " ف " السَّنَةُ " منهم من يجعلها من الواو فيقول : " سُنَيَّةٌ " ومنهم من يجعلها من الهاء فيقول : " سُنَيْهَةٌ " يجعل الذي ذهب منها هاء كأنه أبدلها من الواو كما قالوا : أَسْنَتُوا " : إذا أصابتهم السنون. أبدل التاء من الهاء ويقولون : " بِعْتُه مُساناةً " و " مُسانَهَةً ". ويكون :﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ أن تكون هذه الهاء للسكوت. ويُحْمَلُ قول الذين وصلوا بالهاء على الوقف الخفي وبالهاء نقرأ في الوصل.
وقال ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ [ ٧٩ء ] آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُها ﴾ ( ٢٩٥ ) من " نَشَرْتُ " التي هي " ضدُّ " طَوَيْتُ " وقال بعضهم ﴿ نُنْشِرها ﴾ لأنه قد تجتمع " فَعَلْتُ " و " أَفْعَلْتُ " كثيراً في معنى واحد تقول : " صَدَدْتُ " و " أَصْدَدْتُ " وقد قال ﴿ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴾ وقال بعضهم ﴿ نُنْشِرُها ﴾ أي : نَرْفعها. تقول : " نَشَزَ هذا " و " أَنْشَزْتُهُ ".
وقال ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ( ٢٥٩ ) إذا عَنَى نفسه. وقال بعضهم ﴿ قال اعْلَمْ ﴾ جزم على الأمر كما يقول : " اعْلَمْ أَنَّه قَدْ كان كذا وكذا " كأنه يقول ذاك لغيره وإنما ينبه نفسه، والجزم أجود في المعنى إلا أنه أقل في القراءة والرفع قراءة العامة وبه نقرأ.
وأما قوله ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ ( ٢٦٠ ) فلم يكن ذلك شكّاً منه ولم يُرِد. به رؤية القلب وإنما أراد به رؤية العين.
وقوله الله عز وجل له ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ ( ٢٦٠ ) يقول : " أَلَسْتَ قَدْ صَدّقتَ " أَيْ : أنت كذاك. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون ] :
أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطَايا وَأَنْدى العالمِينَ بُطُونَ راحِ
وقوله ﴿ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ( ٢٦٠ ) أي : قلبي ينازعني إلى النظر فإذا نظرت اطمأن قلبي.
قال ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ ( ٢٦٠ ) أي : قَطِّعْهُنَّ وتقول منها : " صارَ " " يَصُورُ ". وقال بعضهم ﴿ فَصُرْهُنَّ ﴾ فجعلها من " صارَ " " يَصِيرُ " [ ٧٩ب ] وقال ﴿ إِلَيْكَ ﴾ لأنه يريد : " خُذْ أربعةً إليكَ فَصرهُنَّ ".
قال ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ ( ٢٦٤ ) والواحدة " صَفْوانةٌ ". ومنهم من يجعل " الصَّفْوان " واحدا فيجعله : الحجر. ومن جعله جميعا جعله : الحِجارَةَ مثل : " التَمْرَةِ " و " التَمْر ". وقد قالوا " الكَذَّان " : الكَذَّانَةُ " وهو شبه الحجر من الطين.
وقال ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾ ( ٢٦٥ ) وقال بعضهم ﴿ بِرَبْوة ﴾ و﴿ بِرِبْوة ﴾ و﴿ بِرِباوة ﴾ و﴿ بِرَباوة ﴾ كلٌّ من لغات العرب وهو كله من الرابية وفعله : " رَبا " " يَرْبو ".
قال ﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ ( ٢٦٥ ) وقال ﴿ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ﴾ و " الأُكْلُ " : هو : ما يؤكل. و " الأَكْلُ " هو الفعل الذي يكون منك. تقول : " أَكَلْتُ أ َكْلاً " و " أَكَلْت أ ُكْلَةً واحدةً " وإذا عَنَيْتَ الطعامَ قلت : " أُكْلَةً واحدةً ". قال :[ من الطويل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائة ] :
ما أَكْلَةٌ أَكَلْتُها بِغنيمَةٍ ولا جَوْعَةٌ أنْ جَعْتُها بِغَرامِ
ففتح الألف لأنه يعني الفعل. ويدلك عليه " وَلا جَوْعَةٌ " وإن شئت ضممت " الأكْلَةَ " وعنيت به الطعام.
و[ قال ﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ ( ٢٦٥ ) ]*
وتقول في " الوابِل " وهو : المطرُ الشَديد : " وَبَلَتْ السماء [ ٨٠ء ] وَ " أَوْبَلَتْ " مثل " مَطَرَتْ " و " أَمْطَرَتْ "، و " طَلَّتْ " و " أَطَلَّتْ " من " الطَلّ "، و " غاثَتْ " و " أَغاثَتْ " من " الغَيْث ". وتقول : " وُبِلَتْ الأرض " فهي " مَوْبُولَةٌ " مثل " وُثِئَتْ رِجْلُهُ " [ و ]* لا يكون " وَبَلَتْ " وقوله ﴿ أَخْذاً وَبِيلا ﴾ من ذا يعني : شديدا.
وقال ﴿ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾ ( ٢٦٦ ) وقال في موضع آخر ﴿ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ﴾ وكلٌّ سواء لأنك تقول : " ظَريفٌ "
و " ظِرافٌ " و " ظُرَفاءُ " وهكذا جمع " فَعِيل ".
وقال ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ ( ٢٦٨ ) وقال بعضهم ﴿ الفُقْر ﴾ مثل : " الضَّعْف " و " الضُّعْف " وجعل " يَعِدُ " متعدياً إلى مفعولين.
وقال ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ ( ٢٧٠ ) تحمل الكلام على الآخر كما قال ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾. وان شئت جعلت تذكير هذا على " الكَسْب " في المعنى كما قال ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾( ٢٧١ ) يقول : " فالإِيْتاءُ خَيْرٌ لَكُمْ والإِخْفاء ". وقوله ﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ فهذا على ﴿ ما ﴾. وقوله ﴿ أَوْ نَذَرْتُمْ ﴾ تقول : " نَذَرَ " " يَنْذُرُ على نفْسِهِ " " نَذْراً " و " نَذَرْتُ مالي " ف " أَنَا أَنْذَرُهُ " " نَذْراً " أخبرنا بذلك يونس عن العرب وفي كتاب الله عز وجل ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾. قال الشاعر :[ من مجزوء الكامل وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائة ] :
هُمْ يَنْذُرُونَ دَمي وَأَنْذُرُ أَنْ لَقِيتُ بأَنْ أَشُدَّا
وقال عنترة* :[ من الكامل وهو الشاهد الخمسون بعد المائة ] :
الشاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُما وَالنَّاذِرَيْنِ إذا لَمْ الْقَهُما دَمِي
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧٠:وقال ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ ( ٢٧٠ ) تحمل الكلام على الآخر كما قال ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾. وان شئت جعلت تذكير هذا على " الكَسْب " في المعنى كما قال ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾( ٢٧١ ) يقول :" فالإِيْتاءُ خَيْرٌ لَكُمْ والإِخْفاء ". وقوله ﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ فهذا على ﴿ ما ﴾. وقوله ﴿ أَوْ نَذَرْتُمْ ﴾ تقول :" نَذَرَ " " يَنْذُرُ على نفْسِهِ " " نَذْراً " و " نَذَرْتُ مالي " ف " أَنَا أَنْذَرُهُ " " نَذْراً " أخبرنا بذلك يونس عن العرب وفي كتاب الله عز وجل ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾. قال الشاعر :[ من مجزوء الكامل وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائة ] :
هُمْ يَنْذُرُونَ دَمي وَأَنْذُرُ أَنْ لَقِيتُ بأَنْ أَشُدَّا
وقال عنترة* :[ من الكامل وهو الشاهد الخمسون بعد المائة ] :
الشاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُما وَالنَّاذِرَيْنِ إذا لَمْ الْقَهُما دَمِي

[ ٨٠ب ] وقال ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ( ٢٧٤ ) فجعل الخبر بالفاء إذ كان الاسم " الذي " وصلته فعل لأنه في معنى " مَنْ ". و " مَنْ " يكون جوابها بالفاء في المجازاة لأن معناها " من ينفقْ ماله فله كذا ". وقال ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ وقال ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ وهذا في القرآنِ والكلامِ كثيرٌ، ومثْلهُ " الذي يأتينا فله درهم ".
وقال ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ﴾ ( ٢٧٩ ) تقول " قَدْ أَذِنْتُ ** مِنْكَ بِحَرْبٍ " و " هو يَأْذَنُ ".
وقال ﴿ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ ( ٢٧٩ ). وقال بعضهم ﴿ لا تُظْلَمُونَ ولا تَظْلِمون ﴾ كله سواء في المعنى.
وقال ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ ( ٢٨٠ ) يقول : " وانْ كانَ مِمَّن تُقاضُونَ ذو عسرة فعليكم أن تنظروا إلى الميسرة " وقال بعضهم ﴿ فَنَظْرَة ﴾ وان شئت لم تجعل ل " كان " خبرا مضمرا وجعلت " كانَ " بمنزلة : " وَقَعَ " وقال بعضهم ﴿ مَيْسُرِه ﴾ وليست بجائزة لأنه ليس في الكلام " مَفْعُلٌ ". ولو قرأها ﴿ مُوسَرِه ﴾ جاز لأنه من " أيْسَرَ " مثل : " أدْخَلَ " ف " هُو مُدْخَل ". وقال بعضهم ﴿ فَناظِرْهُ إلى مَيْسَرَةٍ ﴾ و﴿ مَيْسَرَةٍ ﴾ فجعلها " فاعِلْ " [ ٨١ء ] مِنْ " نَاظَرَ " وجزمها للأمر.
وقال ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ( ٢٨٠ ) يقول : " الصّدَقَةُ خَيْرٌ لَكُمْ ". جعل ﴿ أَنْ تَصَدَّقُواْ ﴾ اسما مبتدأ وجعل ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ خبر المبتدأ.
وقال ﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾ ( ٢٨٢ ) أيْ : إنْ لَمْ يَكُنِ الشّهِيدانِ رَجُلَيْنِ. ﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ ( ٢٨٢ ) فالذي يُسْتَشْهَدُ رَجُلٌ وامرأتان.
وقال ﴿ وَلاَ تَسْأَمُواْ ﴾ ( ٢٨٢ ) لأنها من " سَئِمْت " " تَسْأَمُ " " سَآمةً " و " سَأْمَةً " و " سَآماً " و " سَأْماً ".
[ وقال ] ﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ ﴾ ( ٢٨٢ ) جزم لأنه نهي وإذا وقفت قلت " يَأْبَ " فتقف بغير ياء.
وقال ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ ﴾ ( ٢٨٢ ) أي : تَقَع تِجَارَةٌ حاضِرةٌ. وقد يكون فيها النصب على ضمير الاسم " إلاّ أنْ تَكُونَ تلكَ تِجارةً.
وقال ﴿ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ ( ٢٨٢ ) على النهي والرفع على الخبر. وهو مثل ﴿ لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ إلاّ إنَهُ لَمْ يُقْرأ ﴿ لا تُضارُّ ﴾ رفعا.
وقوله ﴿ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ﴾ ( ٢٨٢ ) فقوله ﴿ بِدَيْنٍ ﴾ تأكيد نحو قوله ﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ لأنَّكَ تَقُول " تَدايَنَّا " فيدل على قولك " بِدَيْنٍ " قال الشاعر :[ من الرجز وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائة ] :
دَايَنْتُ أَرْوَى والدُّيونُ تُقْضَى [ فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا ]
تقوله : " دَايَنْتُها ودايَنَتْنِي فقد تَدايَنَّا " كما تقول : " قابَلْتُها وقَابَلَتْنِي فقد تَقَابَلْنا ".
وقال ﴿ ٨٢ء ] { أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ﴾ ( ٢٨٢ ) فأضمر " الشاهد ". وقال ﴿ إِلَى أَجَلِهِ ﴾ إلى الأجل الذي تجوز فيه شهادته والله أعلم.
وقال ﴿ فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ ( ٢٨٣ ) تقول : " رَهْنٌ "، و " رِهانٌ " مثل : " حَبْلٌ " و " حِبالٌ ". وقال أبو عمرو : " فَرُهُنٌ " وهي قبيحةٌ لأنَّ " فَعْلاً " لا يجمع على " فُعُل " إلا قليلاً شاذاً، زعم أنهم يقولون : " سَقْفٌ " و " سُقُفٌ " وقرأوا هذه الآية ﴿ سَقْفاً مِنْ فِضَّةٍ ﴾ وقالوا : " قَلْبٌ " و " قُلُبٌ " و " قَلْبٌ " من " قَلْبِ النَّخْلَةٍ " و " لَحْد " و " لُحُد " ل " لَحْدِ القَبْرِ " وهذا شاذٌ [ ٨١ب ] لا يكاد يعرف. وقد جَمَعُوا " فَعْلاً " على " فُعْلٍ " فقالوا : " ثَطٌّ " و " ثُطٌّ "، و " جَوْنٌ " و " جُونٌ "، و " وَرْدٌ " و " وُرْدٌ ". وقد يكون " رُهُنٌ " جماعةً ل " الرِّهانِ " كأنَّه جمع الجَماعة و " رِهانٌ " أَمْثَلُ* من هذا الاضطرار. وقد قالوا : " سَهْمٌ خَشْنٌ " في " سِهامٍ خُشْنٍ ". خفيفة. وقال أبو عمرو : " قالت العرب : " رُهُنٌ " ليفصلوا بينه وبين رِهانِ الخيل قال الاخفش : " كلُّ جماعةٍ على " فُعْل " فإنَّه يقال فيها " فُعُل ".
وقال﴿ فََلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ ( ٢٨٣ ) وهي من " أَدّى " " يُؤدِّي " فلذلك هَمَزَ و " اؤْتُمِنَ " همزها لأنها من " الأَمانَةِ " [ و ] موضع الفاء منها همزة، إلاّ أَنَكَ إذا استأنفت ثَبَتَتْ ألفُ الوَصْلِ فيها فلم تَهْمِز موضع الفاء لئلا تجتمع همزتان.
قال ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ ( ٢٨٥ ) جعله بدلا من اللفظ بالفعل كأنه قال : اِغْفِر لنا غُفْرانَكَ رَبَّنا " [ و ] مثله " سُبْحانَكَ " إنما هو " تسبيحَك " أي " نسبحك تسبيحَك " وهو البراءة والتنزيه.
Icon