تفسير سورة البقرة

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
تفسير سورة البقرة
بحول الله تعالى ومعونته هذه السورة مدنية، نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية( ١ ) نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ]، ويقال لسورة البقرة :( فسطاط القرآن ) لعظمها وبهائها، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ.
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام( ٢ )، وفيها خمسمائة حكم( ٣ )، وخمسة عشر مثلا، وروى الحسن ابن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال :( أي القرآن أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلمن قال : سورة البقرة )، ثم قال :( وأيها أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : آية الكرسي ) ( ٤ )، ويقال : إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين( ٥ ) من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش ) ( ٦ ).
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق، أو غمامتان سودوان، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما ) ( ٧ ) وفي البخاري أنه عليه السلام قال :( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) ( ٨ ).
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ) ( ٩ ). وروي عنه عليه السلام أنه قال :( لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن، وهي آية الكرسي ) ( ١٠ ).
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية، وقيل : وست وثمانون آية، وقيل : وسبع وثمانون.
١ - نزلت يوم النحر في حجة الوداع كما قاله (ق)..
٢ - تعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة البقرة في اثني عشرة سنة، ولما ختمها نحر جزورا شكرا لله تعالى، وفي الموطأ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها اهـ..
٣ - قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر..
٤ - رواه البغوي..
٥ - قال أهل اللغة: تجمع الطواسين، والطواسيم، والحواميم بذوات مضافا إلى واحد، فيقال: ذوات طسم، وذوات طس، وذوات حم..
٦ - رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك، عن معقل بن يسار رضي الله عنه..
٧ - رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي أمامة الباهلي في كتاب صلاة المسافرين وقصرها. والشرق: هو الضوء الذي يدخل من شق الباب..
٨ - هما: [آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون] إلى آخر السورة..
٩ - روه الإمام مسلم، والترمذي والنسائي، وغيرهم، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه..
١٠ - رواه الترمذي، عن أبي هريرة من حديث حكيم بن جبير، وفيه ضعف، وفي "الأحكام" لابن العربي المعافري ما نصه: وليس في فضلها (أي سورة البقرة) حديث صحيح إلا من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن البيت الذي تقرا فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان) خرجه الترمذي. انتهى.
وفيه نظر: ففي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي لبابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)اهـ.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سور البقرة في ليلة كفتاه) رواه أصحاب الكتب الستة من حديث ابن مسعود، ولفظ الشيخين (وكل ليلة) بزيادة (كل)، قاله بعض شيوخنا..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البقرة
هذه السورة مدنية، نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: ٢٨٠].
ويقال لسورة البقرة: «فسطاط القرآن» وذلك لعظمها وبهائها وما تضمنت من الأحكام والمواعظ.
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا.
وروى الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله ﷺ قال: «أي القرآن أفضل؟» قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: «سورة البقرة» ثم قال: «وأيها أفضل؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «آية الكرسي».
ويقال إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى.
وروي أن رسول الله ﷺ قال: «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى. وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش».
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرف، أو غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما».
وفي البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
وروى أبو هريرة عنه ﷺ أنه قال: «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان».
وروي عنه عليه السلام أنه قال: «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، فيها آية هي سيدة أي القرآن هي آية الكرسي».
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية، وقيل: ست وثمانون، وقيل سبع وثمانون.
قوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين:
81
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: «هي سرّ الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها وتمرّ كما جاءت».
وقال الجمهور من العلماء: «بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها» واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولا:
فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها».
وقال ابن عباس أيضا: «هي أسماء الله أقسم بها».
وقال زيد بن أسلم: «هي أسماء للسور».
وقال قتادة: «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر».
وقال مجاهد: «هي فواتح للسور».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد: «بل» و «لا بل». نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش.
وقال قوم: «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد ﷺ كما ورد في حديث حيي بن أخطب» وهو قول أبي العالية رفيع وغيره.
وقال قطرب وغيره: «هي إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم، فقوله الم بمنزلة قولك أ، ب، ت، ث، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفا».
وقال قوم: «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول سور منه حروف مقطعة».
وقال ابن عباس: «هي حروف تدل على: أنا الله أعلم، أنا الله أرى، أنا الله أفصّل».
وقال ابن جبير عن ابن عباس: «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله، وإما من نعمة من نعمه، وإما من اسم ملك من ملائكته، أو نبي من أنبيائه».
وقال قوم: «هي تنبيه ك «يا» في النداء».
وقال قوم: «روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة».
قال القاضي أبو محمد: والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل، لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر:
[الوليد بن المغيرة] [الرجز].
قلنا لها قفي فقالت قاف
82
أراد قالت: وقفت. وكقول القائل: [زهير بن أبي سلمى] [الرجز].
بالخير خيرات وإن شرّا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرّا فشر، وأراد: إلا أن تشاء. والشواهد في هذا كثيرة، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها.
وموضع الم من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو على أنه ابتداء، أو نصب بإضمار فعل، أو خفض بالقسم، وهذا الإعراب يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف، والنصب في بعض، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
الاسم من ذلِكَ الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع ذلِكَ رفع كأنه خبر ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في ذلِكَ هنا فقيل: هو بمعنى «هذا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه قد يشار ب «ذلك» إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقرب. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل: إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد.
وقال الكسائي: «ذلِكَ إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد». وقيل: إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. وقيل: إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال الم حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.
ولفظ الْكِتابُ مأخوذ من «كتبت الشيء» إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ككتب الخرز بضم الكاف وفتح التاء وكتب الناقة.
ورفع الْكِتابُ يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان. ولا رَيْبَ فِيهِ معناه: لا شكّ فيه ولا ارتياب به والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريب للكفار.
وقال قوم: لفظ قوله لا رَيْبَ فيه لفظ الخبر ومعناه النهي.
وقال قوم: هو عموم يراد به الخصوص أي عند المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير: «فيه» بضم الهاء وكذلك «إليه» و «عليه» و «به» و «نصله» ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن إسحاق: «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو.
وهُدىً معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر ذلِكَ، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله، ويصح أن يكون موضعه نصبا على الحال من ذلك، أو من الكتاب، ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في فِيهِ، والعامل معنى الاستقرار وفي هذا القول ضعف.
وقوله لِلْمُتَّقِينَ اللفظ مأخوذ من وقى، وفعله اتّقى، على وزن افتعل، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار لِلْمُتَّقِينَ. والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
يُؤْمِنُونَ معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران: ٧٣] وكما قال: فَما آمَنَ لِمُوسى [يونس: ٨٣] وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدّ بالباء يفهم من المعنى. واختلف القراء في همز يُؤْمِنُونَ فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون» وما أشبه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم» و «يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة.
وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله. وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل ننسأها [البقرة: ١٠٥] وَهَيِّئْ لَنا [الكهف: ٨] وما أشبهه.
وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.
واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل» وقال آخرون: «القضاء والقدر» وقال آخرون: «القرآن وما فيه من الغيوب» وقال آخرون: «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار».
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، والغيب في اللغة:
ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.
وقوله: يُقِيمُونَ معناه يظهرونها ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر: [الكامل].
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
أقمنا لأهل العراقين سوق الطّ طعان فخاموا وولّوا جميعا
وأصل يُقِيمُونَ يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها. والصَّلاةَ مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، كما قال الشاعر: [البسيط]
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا
ومنه قول الآخر: [الطويل]
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما
فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم: هي مأخوذة من الصّلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صلوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صلواه.
قال القاضي أبو محمد: والقول إنها من الدعاء أحسن.
وقوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ كتبت «مما» متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضا فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت في الخط.
والرزق عند أهل السنة. ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق. ويُنْفِقُونَ معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك.
قال ابن عباس: يُنْفِقُونَ يؤتون الزكاة احتسابا لها».
قال غيره: «الآية في النفقة في الجهاد».
قال الضحاك: «هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يسرهم».
قال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «هي نفقة الرجل على أهله».
قال القاضي أبو محمد: والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها.
فقال قوم: «الآيتان جميعا في جميع المؤمنين».
وقال آخرون: «هما في مؤمني أهل الكتاب».
وقال آخرون: «الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت».
قال القاضي أبو محمد: فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب وَالَّذِينَ خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف، «أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب «الذين» رفع على الابتداء، وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً ويحتمل أن يكون عطفا.
وقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب. «بما أنزل... وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول أظهر وألزم. وَبِالْآخِرَةِ قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل بالنشأة الآخرة.
ويُوقِنُونَ معناه يعلمون علما متمكنا في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه الله: «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك» تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين.
وقوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين، و «أولاء» جمع «ذا»، وهو مبني على الكسر لأنه ضعف لإبهامه عن قوة الأسماء، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب، و «الهدى» هنا الإرشاد. وأُولئِكَ الثاني ابتداء، والْمُفْلِحُونَ خبره، وهُمُ فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون هُمُ ابتداء، والْمُفْلِحُونَ خبره، والجملة خبر أُولئِكَ، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد: [الرمل].
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي... ولقد أفلح من كان عقل
وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله: [الطويل] ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير وقول الأضبط: [المنسرح]
لكلّ همّ من الهموم سعه... والصّبح والمسى لا فلاح معه
والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
86
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة: [الكامل] في ليلة كفر النجوم غمامها أي سترها ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر: [ثعلبة بن صغيرة] :
[الكامل].
فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما ألقت ذكاء يمينها في كافر
ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، ف «كفر» في الدين معناه غطى قلبه بالرّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.
فقال قوم: «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد».
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظرائهم» وقال الربيع بن أنس: «نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية. وقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ معناه معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر: [أعشى قيس] :[الطويل]
وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
قال أبو علي: في اللفظة أربع لغات: سوى بكسر السين، وسواء بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك.
ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا: «قي، وقواء»، وسَواءٌ رفع على خبر إِنَّ، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر إِنَّ، ويصح أن يكون خبر إِنَّ لا يُؤْمِنُونَ.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: «آنذرتهم» بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفا، وابن كثير لا يفعل ذلك. وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية. وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر: فبالهمزتين «أأنذرتهم»، وما كان مثله في كل القرآن.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما.
87
وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم» بحذف الهمزة الأولى، وتدل أَمْ على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] وقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النساء: ٤٠] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه.
وقوله تعالى: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاما.
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ مأخوذ من الختم وهو الطبع، والخاتم الطابع، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعا إصبعا.
وقال آخرون: ذلك على المجاز، وإن ما اخترع له في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختما.
وقال آخرون ممن حمله على المجاز: «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده، كما يقال أهلك المال فلانا وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه».
وقرأ الجمهور: وَعَلى سَمْعِهِمْ.
وقرأ ابن أبي عبلة: «وعلى أسماعهم»، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير، وأيضا فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه.
والغشاوة الغطاء المغشي الساتر، ومنه قول النابغة: [البسيط]
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
وقال الآخر: [الحارث بن خالد المخزومي] :[الطويل]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره.
وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة» بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع، والغشوة على الأبصار، والوقف على قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ.
88
وقرأ الباقون «غشاوة» بالرفع.
قال أبو علي: «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به» وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه خَتَمَ تقديره وجعل على أبصارهم، فيجيء الكلام من باب: «متقلدا سيفا ورمحا» وقول الآخر:
[الرجز] :
علفتها تبنا وماء باردا ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة».
قال: «ولم أسمع من الغشاوة فعلا مصرفا بالواو، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة».
وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف في قوله عَلى قُلُوبِهِمْ.
وقال آخرون: «الختم في الجميع، والغشاوة هي الخاتم».
قال القاضي أبو محمد: وقد ذكرنا اعتراض أبي عليّ هذا القول.
وقرأ أبو حيوة «غشوة»، بفتح الغين والرفع، وهي قراءة الأعمش.
وقال الثوري: «كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غشية» بفتح الغين والياء والرفع».
وقرأ الحسن: «غشاوة» بضم الغين، وقرئت «غشاوة» بفتح الغين، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة والأشياء التي هي أبدا مشتملة، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنانة والعصابة والربابة وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك، وعَظِيمٌ معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ٩]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين، لكنها تفتح مع الألف واللام. ومن قال: استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه.
89
واختلف النحويون في لفظة النَّاسِ فقال قوم: «هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فقيل ناس، ثم دخلت الألف واللام».
وقال آخرون: ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل، دخلت عليه الألف واللام.
وقال آخرون: «أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج». وهذه الآية نزلت في المنافقين.
وقوله تعالى: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ مِنَ ومعناها، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز.
وسمى الله تعالى يوم القيامة بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ.
فقال الحسن بن أبي الحسن: «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه».
وقال جماعة من المتأولين: «بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك».
واختلف القراء في يخادعون الثاني.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «يخادعون».
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «وما يخدعون».
وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة: «يخدعون» بضم الياء.
وقرأ قتادة ومورق العجلي: «يخدّعون» بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها. فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر: [عمرو بن كلثوم] :[الوافر].
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فجعل انتصاره جهلا، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وتتجه أيضا هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في
90
الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين. وقد قال الشاعر: [الكميت] [الطويل].
تذكر من أنّى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل
وأنشد ابن الأعرابي: [المنسرح]
لم تدر ما لا ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا في ها وفي أختها ولم تكد
وقال الآخر:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيستوتغ الذوبان أم لا يطورها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: [الطويل]
وكنت كذات الضنء لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
ووجه قراءة عاصم ومن ذكر، أن ذلك الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها، تقول: «خادعت الرجل» بمعنى أعملت التحيل عليه، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، والمصدر «خدع» بكسر الخاء وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم وفيها. ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] أي من قومه وإما أن يكون «يخدعون» أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم، ونحوه قول الله تعالى: لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: ١٨٧] ولا تقول رفثت إلى المرأة ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك، ومنه قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] وإنما يقال هل لك في كذا، ولكن لما كان المعنى أجد بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن، وهو باب سني من فصاحة الكلام، ومنه قول الفرزدق:
[الرجز].
كيف تراني قالبا مجني قد قتل الله زيادا عنّي
لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف. ومنه قول الآخر: [نحيف العامري] :[الوافر]
إذا رضيت عليّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي.
وأما الكسائي فقال في هذا البيت: «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها».
ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع، إذ هو مصير إلى عذاب الله.
قال الخليل: «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة».
91
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل.
وقوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني.
وقولهم: «ليت شعري» معناه ليت فطنتي تدرك، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [المنخل الهذلي].
عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ثم استفاؤوا وقالوا حبّذا الوضح
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له. فقالت طائفة: «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار».
وقال آخرون: «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠ الى ١٢]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكا، وإما جحدا بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون، وبنحو هذا فسر المتأولون.
وقال قوم: «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وقرأ الأصمعي عن أبي عمر: «مرض» بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح: «وليس بتخفيف».
واختلف المتأولون في معنى قوله فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً فقيل هو دعاء عليهم، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض.
وقرأ حمزة: «فزادهم» بكسر الزاي، وكذلك ابن عامر. وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر، وفتح الباقون. وأَلِيمٌ معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب: [الوافر].
أمن ريحانة الداعي السميع بمعنى: مسمع.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يكذّبون» بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال. فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
92
فهذا إخبار بأنهم يكذبون. والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم، والتوعد بالعذاب الأليم، متوجه على الكذب في مثل هذه النازلة، إذ هو منطو على الكفر، وقراءة التثقيل أرجح. وإِذا ظرف زمان، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان، لأنها تضمنت جثة، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد» فإنما تضمنت المصدر، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: «اليوم خمر، وغدا أمر» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر، والعامل في إِذا في هذه الآية قالُوا. وأصل قِيلَ قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها.
وقرأ الكسائي: «قيل وغيض وسيء وسيئت وحيل وسيق وجيء» بضم أوائل ذلك كله. وروي مثل ذلك عن ابن عامر. وروي أيضا عنه أنه كسر «غيض وقيل وجيء»، الغين والقاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين «سيء وسيئت» وكسر ما بقي. وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها، والضمير في لَهُمْ هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل.
وقال بعض الناس: «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود».
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: لم يجىء هؤلاء بعد ومعنى قوله: لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان.
ولا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ معناه بالكفر وموالاة الكفرة، ونَحْنُ اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم، إذ كان اسما قويا يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة، فأعطي أسنى الحركات.
وأيضا فلما كان في الأغلب ضمير جماعة، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو، ولقول المنافقين: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم مصلحون بين الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون الكفار. وأَلا استفتاح كلام، و «إن» بكسر الألف استئناف، وهُمُ الثاني رفع بالابتداء، والْمُفْسِدُونَ خبره والجملة خبر «إن»، ويحتمل أن يكون فصلا ويسميه الكوفيون: «العماد» ويكون الْمُفْسِدُونَ خبر «إن»، فعلى هذا لا موضع ل هُمُ من الإعراب، ويحتمل أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم فموضعه نصب، ودخلت الألف واللام في قوله: الْمُفْسِدُونَ لما تقدم ذكر اللفظة في قوله: لا تُفْسِدُوا فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون. قاله الجرجاني.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهدا، ولكِنْ بجملته حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم، وهذا مع أن يكون قولهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جحدا محضا للإفساد. والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اعتقادا منهم أنه
93
صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
المعنى صدقوا بمحمد ﷺ وشرعه، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خفت عقولهم؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال «ثوب سفيه» إذا كان رقيقا مهلهل النسج، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مرّ الرياح النواسم
وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرّين الذي على قلوبهم.
وقال قوم: «الآية نزلت في منافقي اليهود، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل».
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخصيص لا دليل عليه.
ولَقُوا أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء. وقرأ ابن السميفع «لاقوا الذين». وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقررا يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم، وكان رسول الله ﷺ يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» القصة: «دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق» فقال: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».
فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله ﷺ عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة. نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: ٦٠- ٦١]. قال قتادة:
«معناه إذا هم أعلنوا النفاق».
94
قال مالك رحمه الله: «النفاق في عهد رسول الله ﷺ هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه، وإنما كف رسول الله ﷺ عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين».
قال القاضي إسماعيل: «لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه وحده، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر.
قال الشافعي رحمه الله: «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه». وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه: «وإنما منع رسول الله ﷺ من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين».
قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ.
[المنافقون: ١].
قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث: فالمعنى الموجب لكف رسول الله ﷺ عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك هو الزنديق.
واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله ﷺ بالنفاق فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟ قالوا بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عنهم».
وذكر أيضا أهل الحديث ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال فيهم: «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين».
قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد: «إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله ﷺ وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: ١].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم
95
تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.
وقوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ وصلت خَلَوْا ب إِلى وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت خَلَوْا في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا، إذ هو فعل معادل لقوله لَقُوا، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق: [الرجز]
كيف تراني قالبا مجنّي فقد قتل الله زيادا عني
لما أنزله منزلة صرف ورد.
قال مكي: «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالا عن الاشتراك في الباء».
وقال قوم: إِلى بمعنى مع، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. [آل عمران: ٥٢، الصف: ١٤].
وقال قوم: إِلى بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض. وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله عنه: «هم رؤساء الكفر».
وقال ابن الكلبي وغيره: «هم شياطين الجن».
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الموضع بعيد.
وقال جمع من المفسرين: «هم الكهان». ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره، فمنهم الخالون، ومنهم الشياطين.
ومُسْتَهْزِؤُنَ معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار الإيمان هزوا ونستخف بهم.
ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في مُسْتَهْزِؤُنَ. وحكى عنه أبو علي أنها تخفف بين بين.
ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا فيقرأ «مستهزيون».
قال ابن جني: «حمل الياء الضمة تذكرا لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة».
وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، ويقال «هزىء واستهزأ» بمعنى، فهو «كعجب واستعجب»، ومنه قول الشاعر [أوس بن حجر] :[الطويل]
96
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء: «هي تسمية العقوبة باسم الذنب».
والعرب تستعمل ذلك كثيرا، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] :[الوافر].
ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزو حسبما يروى أن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن، وقال قوم: استهزاؤه بهم هو استدراجهم من حيث لا يعلمون، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء.
وَيَمُدُّهُمْ معناه يزيدهم في الطغيان. وقال مجاهد: «معناه يملي لهم»، قال يونس بن حبيب:
«يقال مد في الشر وأمد في الخير» وقال غيره: «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه، وأمدّه ما كان مغايرا له، تقول: مدّ النهر ومدّه نهر آخر، ويقال أمدّه».
قال اللحياني: «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّا، وفي التنزيل: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: ٢٧]. ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة».
قال ابن قتيبة وغيره: «مددت الدواة وأمددتها بمعنى».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن يكون «مددتها» جعلت إلى مدادها آخر، و «أمددتها» جعلتها ذات مداد، مثل «قبر، وأقبر، وحصر، وأحصر»، ومددنا القوم صرنا لهم أنصارا، وأمددناهم بغيرنا. وحكى اللحياني أيضا أمدّ الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [الإسراء: ٦].
قال بعض اللغويين: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يمهلهم ويلجهم.
قال القاضي أبو محمد: فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل، كما فسر في:
عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: ٩]. ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال: «طغا الماء وطغت النار». وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم.
ويَعْمَهُونَ يترددون حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر، والعامة الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم.
وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى المتقدم ذكرهم، وهو رفع بالابتداء والَّذِينَ خبره، واشْتَرَوُا
صلة ل الَّذِينَ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فحذفت لالتقاء الساكنين، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحن». ومنها أنها ضمت اتباعا لحركة الياء المحذوفة قبلها.
قال أبو على: «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو «أو» و «لو» إذ هذان يحركان بالكسر».
وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في: «اشتروا الضلالة».
وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو. والضلالة والضلال: التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد.
واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فقال قوم: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى».
وقال آخرون: استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: ١٧].
وقال آخرون: الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو معرض لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه.
وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل.
وقال قوم: الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا.
وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا: «ليل قائم ونهار صائم». والمعنى فما ربحوا في تجارتهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم» بالجمع.
وقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قيل المعنى في شرائهم هذا، وقيل على الإطلاق، وقيل في سابق علم الله، وكل هذا يحتمله اللفظ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: مَثَلُهُمْ
98
كَمَثَلِ
معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: ٣٥، محمد: ١٥] وفي تفسير قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: ٦]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مَثَلُهُمْ رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى:
[البسيط].
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، والَّذِي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واسْتَوْقَدَ قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي] :[الطويل].
فلم يستجبه عند ذاك مجيب وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ومستخلفات من بلاد تنوفة لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
ومنه قول الآخر: [الطويل] سقاها فروّاها من الماء مخلف ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في أَضاءَتْ فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:
[المنسرح]
99
وعلى هذا، ف (ما) في قوله: ما حَوْلَهُ مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف (ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة: هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة: إن المنافقين كانوا عند رسول الله ﷺ والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة: نطقهم ب «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة] :[الطويل].
وأنت لما ولدت أشرقت ال أرض وضاءت بنورك الطرق
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: ١٣].
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات.
قال القاضي أبو محمد: وذهب قوم في «ظلمات» بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع، والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد،
100
ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في مُهْتَدِينَ، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في تَرَكَهُمْ.
قال بعض المفسرين قوله تعالى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
أَوْ للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ معطوف على كَمَثَلِ الَّذِي. وقال الطبري: أَوْ بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة: [الطويل]
كأنهم: صابت عليهم سحابة... صواعقها لطيرهنّ دبيب
وقول الآخر: [الطويل]
فلست لإنسيّ ولكن لملأك... تنّزل من جوّ السماء يصوب
وأصل صيّب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعل في سيّد وميّت.
وقال بعض الكوفيين: أصل صيّب صويب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل، فبهذا يضعف هذا القول.
وقوله تعالى: ظُلُماتٌ بالجمع، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت، وكون الدجن مظلما هول وغم للنفس، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه، فإنه سارّ جميل، ومنه قول قيس بن الخطيم: [المتقارب]
101
فما روضة من رياض القطا... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا مزنة... دلوح تكشّف أدجانها
واختلف العلماء في الرعد: فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه، فهي الصَّواعِقِ، واسم هذا الملك الرعد، وقيل الرعد ملك، وهذا الصوت تسبيحه، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا هو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته: [المنسرح]
فجعني الرعد والصواعق بال... فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت». وقيل:
«الرعد اصطكاك أجرام السحاب». وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق:
فقال علي بن أبي طالب: «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب».
وقال ابن عباس: «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق ملك يتراءى، وقال قوم: «البرق ماء»، وهذا قول ضعيف.
والصاعقة: قال الخليل: «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحيانا نار، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه».
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين.
وقال النقاش: «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف. قال أبو عمرو: «وهي لغة تميم».
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت» بكسر الحاء وبألف. واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين: «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم. والعمى: هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كله صحيح بين.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي ﷺ إلى
102
المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدا ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلا للمنافقين».
وقال أيضا ابن مسعود: «إن المنافقين في مجلس رسول الله ﷺ كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم».
قال القاضي أبو محمد: وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه.
وقال قوم: «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده».
ومُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ معناه بعقابه وأخذه، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: ٤٢] ففي الكلام حذف مضاف، ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة.
واختلفت القراءة في هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس: «يخطف أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون الخاء، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب، وهي القرشية.
وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خطف» بفتح الطاء، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة: «يخطّف» بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، وهذه أصلها «يختطف» أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين.
وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يخطّف» بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة.
قال أبو الفتح: «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء».
وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضا، أنه قرأ «يخطّف» بفتح الياء والخاء والطاء وشدها.
وروي أيضا عن الحسن والأعمش «يخطّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء منها. وهذه أيضا أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء اتباعا.
وقال عبد الوارث: «رأيتها في مصحف أبي بن كعب «يتخطّف» بالتاء بين الياء والخاء».
وقال الفراء: «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة».
قال أبو الفتح: «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام، وذلك لا يجوز».
قال القاضي أبو محمد: لأنه جمع بين ساكنين دون عذر.
وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية.
103
ومعنى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل الْبَرْقُ في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم.
وكُلَّما ظرف، والعامل فيه مَشَوْا وهو أيضا جواب كُلَّما، وأَضاءَ صلة ما، ومن جعل أَضاءَ يتعدى قدر له مفعولا، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أضا لهم» بغير همز، وهي لغة.
وفي مصحف أبي بن كعب: «مروا فيه».
وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه».
وقرأ الضحاك: «وإذا أظلم» بضم الهمزة وكسر اللام، وقامُوا معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي: «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» يريد أثبت الدهر، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك. وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم.
وقال قوم: معنى الآية: كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه، فإذا افتضحوا عندكم قاموا، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية. ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم.
وقوله تعالى: عَلى كُلِّ شَيْءٍ لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه وقَدِيرٌ بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
«يا» حرف نداء، وفيه تنبيه، و «أي» هو المنادى.
104
قال أبو علي: «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا فكان يجتمع تعريفان، و «ها» تنبيه وإشارة إلى المقصود، وهي بمنزلة ذا في الواحد، والنَّاسُ نعت لازم لأي».
وقال مجاهد: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع في القرآن مكي، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدني.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدني يا أَيُّهَا النَّاسُ، وأما قوله في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح.
وقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ معناه وحدوه وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم.
و «لعل» في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى وليست من الله تعالى بمعنى ترجّ وتوقّع.
وقال سيبويه ورؤساء اللسان: هي على بابها، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى، ولَعَلَّكُمْ متعلقة بقوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقّع له ورجا أن يكون متقيا.
وتَتَّقُونَ مأخوذ من الوقاية، وأصله «توتقيون» نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء.
وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ نصب على إتباع الذي المتقدم، ويصح أن يكون مرفوعا على القطع.
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب تَتَّقُونَ فضعيف.
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين، وفِراشاً معناه تفترشونها وتستقرون عليها، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها، والسَّماءَ قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات»، وقيل هو جمع واحده «سماوة»، وكل ما ارتفع عليك في الهواء فهو سماء، والهواء نفسه علوا يقال له «سماء»، ومنه الحديث:
«خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا»، واللفظة من السمو وتصاريفه.
وقوله تعالى: بِناءً تشبيه بما يفهم، كما قال تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧].
وقال بعض الصحابة: «بناها على الأرض كالقبة».
وقوله: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يريد السحاب، سمي بذلك تجوزا لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة، ومنه قول الشاعر: [الوافر].
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
فتجوز أيضا في رعيناه، فبتوسط المطر جعل السماء عشبا، وأصل ماءً موه يدل على ذلك قولهم في
105
الجمع مياه وأمواه، وفي التصغير مويه، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه، وليس الحرام برزق، وواحد الأندادند، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلا أو خلافا أو ضدا، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما.
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل: الضد الند، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر.
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين. فقوله على هذا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار، وقيل المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم، أن الله لا ند له.
وقال ابن فورك: «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين»، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من جعل لله ندا، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله، لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
الريب الشك، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذين تحدوا، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا التعليق. وقرأ يزيد بن قطيب: «أنزلنا» بألف.
واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله مِثْلِهِ: فقال جمهور العلماء: هو عائد على القرآن ثم اختلفوا. فقال الأكثر من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خصّ به القرآن، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر.
وقال بعضهم: مِنْ مِثْلِهِ في غيوبه وصدقه وقدمه، فالتحدي عند هؤلاء وقع بالقدم، والأول أبين ومِنْ على هذا القول زائدة، أو لبيان الجنس، وعلى القول الأول هي للتبعيض، أو لبيان الجنس.
وقالت فرقة: الضمير في قوله مِنْ مِثْلِهِ عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا.
فقالت طائفة: من أمي صادق مثله.
وقالت طائفة: من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله. على زعمكم أيها المشركون.
106
وقالت طائفة: الضمير في مِثْلِهِ عائد على الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور.
وقوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ معناه دعاء استصراخ، والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير، قاله ابن عباس. وقيل عن مجاهد: إن المعنى دعاء استحضار.
والشهداء جمع شاهد، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم، وهذا قول ضعيف.
وقال الفراء: شهداؤهم يراد بهم آلهتهم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما قلتم من الريب. هذا قول بعض المفسرين.
وقال غيره: فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة. ويؤيد هذا القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١].
وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، دخلت «إن» على لَمْ لأن لَمْ تَفْعَلُوا معناه تركتم الفعل، ف «إن» لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال، وتَفْعَلُوا جزم ب لَمْ، وجزمت ب لَمْ لأنها أشبهت «لا» في التبرية في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا نصبت لَنْ، ومن العرب من تجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات: [البسيط] فلن أعرّض أبيت اللعن بالصفد وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي: «لن ترع» هذا على تلك اللغة، وفي قوله: لَنْ تَفْعَلُوا إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة.
وقرأ الجمهور: «وقودها» بفتح الواو. وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة: «وقودها» بضم الواو في كل القرآن، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر، وقد حكيا جميعا في الحطب وقد حكيا في المصدر.
قال ابن جني: «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها، لأن الوقود بالضم مصدر، وليس بالناس، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر، ومثله ولعت به «ولوعا» بفتح الواو، وكله شاذ، والباب هو الضم».
وقوله: النَّاسُ عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها.
وروي عن ابن مسعود في الْحِجارَةُ أنها حجارة الكبريت وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.
107
وفي قوله تعالى: أُعِدَّتْ رد على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، وأن غيرها هي للعصاة.
وقال الجمهور: بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد، إذ فعلهم كفر، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أعدّها الله للكافرين».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
بَشِّرِ مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصا على الشر المبشر به، كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤] ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رد على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات لأنه لو كان ذلك ما أعادها.
وأَنَّ في موضع نصب ب بَشِّرِ وقيل في موضع خفض على تقدير باء الجر وجَنَّاتٍ جمع جنة، وهي بستان الشجر والنخيل، وبستان الكرم يقال له الفردوس، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره، ومنه المجن والجنن وجن الليل. ومِنْ تَحْتِهَا معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة وقيل قوله مِنْ تَحْتِهَا معناه بإزائها كما تقول داري تحت دار فلان وهذا ضعيف، والْأَنْهارُ المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، لأنها لفظة مأخوذة من أنهرت أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
[الطويل].
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزا، كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وكما قال الشاعر: [مهلهل أخو كليب] [الكامل]
نبّئت أن النار بعدك أوقدت واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح أرض الجنة منضبطة. وقوله:
108
كُلَّما ظرف يقتضي الحصر وفي هذه الآية رد على من يقول: إن الرزق من شروطه التملك.
قال القاضي أبو محمد: ذكر هذا بعض الأصوليين وليس عندي ببين، وقولهم هذَا إشارة إلى الجنس أي: هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجبا وهو قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون خبرا من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين.
وقال الحسن ومجاهد: «يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا».
وقال ابن عباس: «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة».
وقال بعض المتأولين: «المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا».
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس الذي قبل هذا يرد على هذا القول بعض الرد.
وقال بعض المفسرين: «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز».
وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه مثله فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني.
وقرأ جمهور الناس: «وأتوا» بضم الهمزة وضم التاء.
وقرأ هارون الأعور: «وأتوا» بفتح الهمزة والتاء والفاعل على هذه القراءة الولدان والخدام، و «أتوا» على قراءة الجماعة أصله أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء ثم حذفت الياء للالتقاء.
وقوله تعالى: مُتَشابِهاً قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: «معناه يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم».
وقال عكرمة: «معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل الصفات».
وقوله تعالى: مُتَشابِهاً معناه خيار لا رذل فيه، كقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: ٢٣].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما، وقيل مُتَشابِهاً أي مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم، وأَزْواجٌ جمع زوج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة ويقال في المرأة زوجة ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم». ذكر البخاري وغيره الحديث بطوله. ومُطَهَّرَةٌ أبلغ من طاهرة، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبزاق وسائر أقذار الآدميات، وقيل من الآثام. والخلود الدوام في الحياة أو
109
الملك ونحوه وخلد بالمكان إذا استمرت إقامته فيه، وقد يستعمل الخلود مجازا فيما يطول، وأما هذا الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في هذه السورة قال الكفار: ما هذه الأمثال؟ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالا، فنزلت الآية.
وقال ابن قتيبة: «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت».
وقال قوم: «هذه الآية مثل للدنيا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى. ويَسْتَحْيِي أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.
وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن وغيرهما «يستحي» بكسر الحاء، وهي لغة لتميم، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء.
واختلف المتأولون في معنى: يَسْتَحْيِي في هذه الآية. فرجح الطبري أن معناه يخشى. وقال غيره:
معناه يترك وهذا هو الأولى. ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه. ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي على القائلين كيف يضرب الله مثلا بالذباب ونحوه، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع، فليست مما يستحيى منه.
وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا غير مرضي.
وقوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ، إِنَّ مع الفعل في موضع نصب، كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى يَضْرِبَ مَثَلًا يبين ضربا من الأمثال أي نوعا، كما تقول: هذا من ضرب هذا، والضريب المثيل. ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل، ومَثَلًا مفعول، فقيل هو الأول، وقيل هو الثاني، قدم وهو في نية التأخير، لأن «ضرب» في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين.
واختلفوا في قوله: ما بَعُوضَةً فقال قوم: ما صلة زائدة لا تفيد إلا شيئا من تأكيد. وقيل ما
110
نكرة في موضع نصب على البدل من قوله مَثَلًا، وبَعُوضَةً نعت ل ما، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن أَنْ يَضْرِبَ إنما يتعدى إلى مفعول واحد.
وقال بعض الكوفيين: نصب بَعُوضَةً على تقدير إسقاط حرف الجر. والمعنى أن يضرب مثلا ما من بعوضة.
وحكي عن العرب: «له عشرون ما ناقة فجملا»، وأنكر أبو العباس هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي يترجح أن ما صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصا وتقريبا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الخفيف]
سلع ما ومثله عشر ما عائل ما وعالت البيقورا
وبعوضة على هذا مفعول ثان.
وقال قوم: ما نكرة، كأنه قال شيئا. والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت: [الكامل].
فكفى بنا فضلا على من غيرنا حبّ النبيّ محمد إيّانا
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت غير صحيح عندي، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر: [الوافر].
لنعم البيت بيت أبي دثار إذا ما خاف بعض القوم بعضا
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج: «بعوضة» بالرفع.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي»، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم: «تماما على الذي أحسن» أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل.
وقوله تعالى: فَما فَوْقَها من جعل ما الأولى صلة زائدة، ف «ما» الثانية عطف على بعوضة، ومن جعل ما اسما ف «ما» الثانية عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: «المعنى فما فوقها في الصغر».
وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: «المعنى في الكبر».
قال القاضي أبو محمد: والكل محتمل، والضمير في أَنَّهُ، عائد على المثل.
واختلف النحويون في ماذا: فقيل هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل «ما»
111
اسم «وذا» اسم آخر بمعنى الذي، ف «ما» في موضع رفع بالابتداء، و «ذا» خبره، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقوله: مَثَلًا نصب على التمييز، وقيل على الحال من «ذا» في بِهذا، والعامل فيه الإشارة والتنبيه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فقيل هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وقيل بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق. وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم: «إن الله لا يخلق الضلال» ولا خلاف أن قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من قول الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً إلى آخر الآية ردا من الله تعالى على قول الكفار يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً والفسق الخروج عن الشيء. يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية: «يضل» بضم الياء فيهما.
وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يضل» بفتح الياء، «كثير» بالرفع «ويهدي به كثير. وما يضل به إلا الفاسقون» بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القراءة عنه، مع أنها مخالفة خط المصحف».
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى: «يضل» بضم الياء وفي الثانية «وما يضل» بفتح الياء «به إلا الفاسقون».
قال القاضي أبو محمد: وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به.
112
واختلف في تفسير هذا العهد: فقال بعض المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر.
وقال آخرون: بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وأن لا يعبدوا غيره.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فالآية على هذا في أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.
وقال قتادة: «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لم ينسب الطبري شيئا من هذه الأقوال، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية، والضمير في مِيثاقِهِ يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى، وميثاق مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن شييم: [الوافر].
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي وبعد عطائك المائة الرّتاعا؟
أراد بعد إعطائك.
وقوله تعالى: ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، ما في موضع نصب ب يَقْطَعُونَ واختلف الشيء الذي أمر بوصله؟
فقال قتادة: «الأرحام عامة في الناس» وقال غيره: «خاصة فيمن آمن بمحمد، كان الكفار يقطعون أرحامهم». وقال جمهور أهل العلم: الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، وأَنْ في موضع نصب بدل من ما، أو مفعول من أجله. وقيل أَنْ في موضع خفض بدل من الضمير في بِهِ، وهذا متجه.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره.
وقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟ وكَيْفَ في موضع نصب على الحال والعامل فيها تَكْفُرُونَ، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون؟ وكَيْفَ مبنية، وخصت بالفتح لخفته، ومن قال إن كَيْفَ تقرير
113
وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم، والواو في قوله وَكُنْتُمْ واو الحال، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين: فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: «فالمعنى كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس ميت، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة».
وقال آخرون: «كنتم أمواتا بكون آدم من طين ميتا قبل أن يحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم».
وقال قتادة: «كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم».
وقال غيره: «كنتم أمواتا في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم».
وقال ابن زيد: «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتا، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم».
وقال ابن عباس وأبو صالح: «كنتم أمواتا بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث».
وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: «وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقول الأول هو أولى هذه الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله أولا كُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخرا الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها، والضمير في إِلَيْهِ عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه، وقيل هو عائد على الاحياء، والأول أظهر.
وقرأ جمهور الناس «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان ويعقوب الحضرمي:
«يرجع ويرجعون وترجعون» بفتح الياء والتاء حيث وقع.
وخَلَقَ معناه اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
[زهير بن أبي سلمى] [الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبعض... القوم يخلق ثم لا يفري
ومنه قول الآخر: [مجزوء الكامل]
من كان يخلق ما يقو... ل فحيلتي فيه قليله
ولَكُمْ: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها.
114
وقال قوم: بل معنى لَكُمْ إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: «لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب». قال: «فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف»، وجَمِيعاً نصب على الحال.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى، ثُمَّ هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه، واسْتَوى: قال قوم: «معناه علا دون تكييف ولا تحديد»، هذا اختيار الطبري، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه.
وقال ابن كيسان: «معناه قصد إلى السماء».
قال القاضي أبو محمد: أي بخلقه واختراعه.
وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق.
وحكى الطبري عن قوم: أن المعنى أقبل، وضعفه.
وحكي عن قوم «المستوي» هو الدخان.
وهذا أيضا يأباه رصف الكلام، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر الأخطل: [الرجز]
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
فَسَوَّاهُنَّ قيل المعنى جعلهن سواء، وقيل سوى سطوحها بالإملاس، وسَبْعَ نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول ب «سوّى»، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال فسوّى منهن سبع، وقيل نصب على الحال، وقال سواهن إما على أن السماء جمع، وإما على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات: هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات.
115
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قال معمر بن المثنى: «إذ زائدة، والتقدير وقال ربك».
قال أبو إسحاق الزجاج: «هذا اجتراء من أبي عبيدة».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك رد عليه جميع المفسرين.
وقال الجمهور: ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال، وأيضا فقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة، وإضافة رب إلى محمد ﷺ ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة.
وقال قوم: أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن زيد: [الرمل]
أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة.
وقال ابن كيسان: «هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل، فوزنه فعأل، ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال: [الطويل]
فلست لأنسيّ ولكن لملأك تنزّل من جوّ السماء يصوب
وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة، والأول أبين.
وقال أبو عبيدة: «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان.
وجاعِلٌ في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
وقال الحسن وقتادة: «جاعل بمعنى فاعل».
116
وقال ابن سابط عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقرّ من هلك قومه من الأنبياء، وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن».
وخَلِيفَةً معناه من يخلف.
قال ابن عباس: «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم وألحق فلّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة».
وقال الحسن: «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ففي هذا القول، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.
وقال ابن مسعود: «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري» يعني بذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته.
وقرأ زيد بن علي «خليفة» بالقاف.
وقوله تعالى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها الآية، وقد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله: «لا يسبقونه بالقول» خرج على جهة المدح لهم.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: «فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة».
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا، الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم أَتَجْعَلُ فِيها الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك: إِنِّي جاعِلٌ قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟
والسفك صب الدم، هذا عرفه، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده.
117
وقراءة الجمهور بكسر الفاء.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: ويسفك» بضم الفاء.
وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال: من يجمع أن يفسد وأن يسفك.
وقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام.
قال القاضي أبو محمد: والأول أحسن.
وقولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الآية، أم نتغير عن هذه الحال.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: أَتَجْعَلُ؟.
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٥].
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم أَتَجْعَلُ وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
وقال قوم: معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم: أَتَجْعَلُ.
ومعنى نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.
وقال ابن عباس وابن مسعود: «تسبيح الملائكة صلاتهم لله».
وقال قتادة: «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة».
وبِحَمْدِكَ معناه: نخلط التسبيح بالحمد ونصله به، ويحتمل أن يكون قوله بِحَمْدِكَ اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.
وَنُقَدِّسُ لَكَ قال الضحاك وغيره: معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، والتقديس التطهير بلا خلاف، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة، ومنه بيت المقدس، ومنه القدس الذي يتطهر به.
وقال آخرون: وَنُقَدِّسُ لَكَ معناه ونقدسك أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
وقال قوم: نقدس لك معناه نصلي لك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ الأظهر أن أَعْلَمُ فعل مستقبل، وما في موضع نصب به،
118
وقيل أَعْلَمُ اسم، وما في موضع خفض بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: ما لا تَعْلَمُونَ فقال ابن عباس: «كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه». وقيل: بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده، قاله ابن عباس أيضا. واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.
قال: فلما قالت الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال الله لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني ما في نفس إبليس.
وقال قتادة: لما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أفعال الفضلاء من بني آدم.
وقوله تعالى: وَعَلَّمَ معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة.
وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته.
وقرأ اليماني: «وعلّم» بضم العين على بناء الفعل للمفعول، «آدم» مرفوعا.
قال أبو الفتح: «وهي قراءة يزيد البربري»، وآدَمَ أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه، وقيل آدَمَ وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه.
وقال الطبري: «آدم فعل رباعي سمي به»، وروي عن النبي ﷺ قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث».
واختلف المتأولون في قوله: الْأَسْماءَ فقال جمهور الأمة: «علمه التسميات» وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص».
قال القاضي أبو محمد: والأول أبين، ولفظة- علمه- تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها».
وقال حميد الشامي: «علمه أسماء النجوم فقط».
وقال الربيع بن خثيم: «علمه أسماء الملائكة فقط».
119
وقال عبد الرحمن بن زيد «علمه أسماء ذريته فقط».
وقال الطبري: «علمه أسماء ذريته والملائكة»، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ.
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال آخرون: «علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها».
وقال ابن قتيبة: «علمه أسماء ما خلق في الأرض».
وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها.
وقال بعضهم: «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته»، وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: «علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه»، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات. وقال أكثر العلماء:
«علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح».
وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص عند التعليم».
وقال قوم: «بل وصفها له دون عرض أشخاص».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها احتمالات، قال الناس بها.
وقرأ أبي بن كعب: «ثم عرضها».
وقرأ ابن مسعود: «ثم عرضهن» واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟ فقال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص.
وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعا نوعا، ومن قال في الأسماء إنها التسميات استقام على قراءة أبيّ: «عرضها»، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم» : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم.
وأَنْبِئُونِي معناه: أخبروني، والنبأ الخبر، ومنه النبيء.
وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: هؤُلاءِ ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة.
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصا استقام له مع لفظ هؤُلاءِ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط
120
جعل الإشارة ب هؤُلاءِ إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وهؤُلاءِ لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى: [الخفيف].
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي ت نعالا محذوة بنعال
وكُنْتُمْ في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين فأنبئوني.
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه السلام، معنى الآية: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الخليفة يفسد ويسفك.
وقال آخرون: صادِقِينَ في أني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي.
وقال الحسن وقتادة: روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم.
وقال قوم: معنى الآية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في جواب السؤال عالمين بالأسماء. قالُوا: ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: سُبْحانَكَ حكاه النقاش. قال: ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له «كم لبثت؟» ولم يشترط عليه الإصابة.
فقال، ولم يصب فلم يعنف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله محتمل.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: معنى إِنْ كُنْتُمْ «إذ كنتم».
قال الطبري: وهذا خطأ. وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة إِنِّي جاعِلٌ الآية، قيل: هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب.
وسُبْحانَكَ معناه: تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، وسُبْحانَكَ نصب على المصدر.
وقال الكسائي: «نصبه على أنه منادى مضاف».
قال الزهراوي: موضع ما من قولهم ما عَلَّمْتَنا نصب ب عَلَّمْتَنا، وخبر التبرئة في لَنا، ويحتمل أن يكون موضع ما رفعا على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في
121
الوجود إلا الله، وأَنْتَ في موضع نصب تأكيد للضمير في إِنَّكَ، أو في موضع رفع على الابتداء.
والْعَلِيمُ خبره، والجملة خبر «إن»، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب. والْعَلِيمُ معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل.
والْحَكِيمُ معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب: [الوافر].
أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع، ويجيء الْحَكِيمُ على هذا من صفات الفعل.
وقال قوم: الْحَكِيمُ المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس مانعته، ومنه قول جرير: [الكامل].
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
أَنْبِئْهُمْ معناه أخبرهم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحيانا، تقول نبئت زيدا.
قال سيبويه: معناه نبئت عن زيد. والضمير في أَنْبِئْهُمْ عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم.
قال أبو علي: «كلهم قرأ «أنبئهم» بالهمز وضم الهاء، إلا ما روي عن ابن عامر، «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به».
قال أبو عمرو الداني: «وقرأ الحسن والأعرج: «أنبيهم» بغير همز».
قال ابن جني: «وقرأ الحسن «أنبهم»، على وزن «أعطهم»، وقد روي عنه، «أنبيهم» بغير همز».
قال أبو عمرو: «وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس».
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن، «أنبهم» «كأعطهم»، فعلى إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول «أنبيت» كأعطيت، وهذا ضعيف في اللغة، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر.
قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ نبوة لآدم عليه السلام، إذ أمره الله أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
122
ويجوز فتح الياء من «إني» وتسكينها.
قال الكسائي: «رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزة فتحوها».
قال أبو علي: «كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، إذا كانت متصلة باسم، أو بفعل، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها، نحو قوله تعالى: وَلا تَفْتِنِّي أَلا [التوبة: ٤٩] وقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢]، والذي يخف: إِنِّي أَرى [الأنفال:
٤٨، يوسف: ٤٣، الصافات: ١٠٢] وأَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس: ٧٢، هود: ٢٩، سبأ: ٤٧].
وقوله تعالى: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معناه: ما غاب عنكم، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته وما في موضع نصب «بأعلم»
.
قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله أَعْلَمُ اسما بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإذا قدر الأول اسما فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب غَيْبَ، تقديره إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقالت طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.
وحكى مكي أن المراد بقول ما تُبْدُونَ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها الآية.
وحكى المهدوي أن ما تُبْدُونَ قولهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه.
وقال الزهراوي: «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم».
واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر، ويتوجه قوله تَكْتُمُونَ للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا، أي منكم فاعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع، وقال قتادة:
المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه، - وَإِذْ من قوله: وَإِذْ قُلْنا معطوف على إِذْ المتقدمة.
وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته وقُلْنا كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع، وقوله للملائكة عموم فيهم.
123
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «للملائكة اسجدوا» برفع تاء للملائكة اتباعا لضمة ثالث المستقبل.
قال أبو علي: «وهذا خطأ».
وقال الزجاج: «أبو جعفر من رؤساء القراءة ولكنه غلط في هذا».
قال أبو الفتح: لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفا ساكنا صحيحا، نحو قوله تعالى: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف: ٣١] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل، ومنه قول الشاعر [زيد الخيل] :[الطويل]
ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ذكره النقاش وغيره، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود.
وقوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٩] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقع.
واختلف في حال السجود لآدم، فقال ابن عباس: «تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله».
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس: «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام، لا سجود عبادة».
وقال الشعبي: «إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى لآدم إلى آدم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام.
وحكى النقاش عن مقاتل: «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه».
قال: «والقرآن يرد على هذا القول».
وقال قوم: سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يرد هذا.
وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ نصب على الاستثناء المتصل، لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازنا وملكا على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكا».
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: «واسمه الحارث».
وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبد وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذه الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».
ورجح الطبري قول من قال: «إن إبليس كان من الملائكة». وقال: «ليس في خلقه من نار ولا في
124
تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة».
وقوله عز وجل: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: ٥٠] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. [الصافات: ١٥٨] وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام: [الطويل]
وسخّر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ، لما كان خازنا عليها، وإِبْلِيسَ لا ينصرف لأنه اسم أعجميّ معرف.
قال الزجاج: «ووزنه فعليل».
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم: هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله، وأيوب من آب يؤوب، مثل قيوم من قام يقوم، ولما لم تصرف هذه- ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج: [الرجز].
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر: [الرجز] وفي الوجوه صفرة وإبلاس ومنه قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: ٤٤] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون- وأَبى معناه امتنع من فعل ما أمر به، واسْتَكْبَرَ دخل في الكبرياء، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في أكله من شجرة قد نهي عن قربها.
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ: وصار من الكافرين.
وقال ابن فورك: «وهذا خطأ ترده الأصول».
وقالت فرقة: «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم، لما فعل في الكفر فعلهم».
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول: «وكان من الكافرين معناه: من العاصين».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت.
125
وروي أن الله تعالى خلق خلقا وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإسناد في مثل هذا غير وثيق.
وقال جمهور المتأولين: معنى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
وذهب الطبري: إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. واختلف هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره، فمن قال إنه كفر جهلا قال: «إنه سلب العلم عند كفره». ومن قال كفر عنادا قال: «كفر ومعه علمه»، قال: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء. ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
اسْكُنْ معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، وأَنْتَ تأكيد للضمير الذي في اسْكُنْ، وَزَوْجُكَ عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، والْجَنَّةَ البستان عليه حظيرة، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.
واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؟ فقال ابن عباس «حين أنبأ الملائكة بالأسماء واسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه» فقال فيما يزعمون: لحمي ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا آدم ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم؟
قال: لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وحذفت النون من كُلا للأمر، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ، ولفظ هذا الأمر ب كُلا معناه الإباحة، بقرينة قوله: حَيْثُ شِئْتُما والضمير في مِنْها عائد على الْجَنَّةَ.
126
وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغدا» بسكون الغين، والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه، ومنه قول امرئ القيس: [الرمل].
بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد
ورَغَداً منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل: هو نصب على المصدر في موضع الحال، وحَيْثُ مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض، كقوله سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: ٨٢، القلم: ٤٤] ومن العرب من يقول «حوث»، وشِئْتُما أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.
قال القاضي أبو محمد: هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت الياء بعد.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ معناه لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس.
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشّجرة» بكسر الشين و «الشجر» كل ما قام من النبات على ساق.
واختلف في هذه الشَّجَرَةَ التي نهى عنها ما هي؟
فقال ابن مسعود وابن عباس: «هي الكرم ولذلك حرمت علينا الخمر».
وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: «هي شجرة التين».
وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وعطية وقتادة: «هي السنبلة وحبها ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد».
وروي عن ابن عباس أيضا: «أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة: «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد».
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا ضعيف.
127
قال: «واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول: إنها كانت حلوة ومرّت من حينئذ».
قال القاضي أبو محمد: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض.
وقوله فَتَكُونا في موضع جزم على العطف على لا تَقْرَبا، ويجوز فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه «أن المضمرة»، وعند الجرمي الفاء، والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه، ومنه قولهم: «من أشبه أباه فما ظلم»، ومنه «المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو بن قمئة: [الكامل]
ظلم البطاح بها انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد المقلع
والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: وَلا تَقْرَبا على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالما، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي، و «أزلهما» مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم.
قال أبو علي: فَأَزَلَّهُمَا يحتمل تأويلين، أحدهما، كسبهما الزلة، والآخر أن يكون من زل إذا عثر».
وقرأ حمزة: «فأزالهما»، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤديا إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في الكيفية، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَقاسَمَهُما والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقال بعضهم: إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال: يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلدا كان، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد؟.
وقال بعضهم: دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج إلى حواء وأخذ شيئا من الشجرة، وقال: انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر، وكذلك تحملين كرها، وتضعين كرها، تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: «وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة».
128
وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والضمير في عَنْها عائد على الشَّجَرَةَ في قراءة من قرأ «أزلهما»، ويحتمل أن يعود على الْجَنَّةَ فأما من قرأ أزالهما فإنه يعود على الْجَنَّةَ فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة.
وقال قوم: «أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها».
وقال آخرون: «تأولا النهي على الندب».
وقال ابن المسيب: «إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله».
وقوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ يحتمل وجوها، فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية.
وقيل: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا. وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يتقارب.
وقرأ أبو حيوة: «اهبطوا» بضم الباء. «ويفعل» كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدّ. والهبوط النزول من علو إلى أسفل.
واختلف من المخاطب بالهبوط، فقال السدي وغيره: «آدم وحواء وإبليس والحية».
وقال الحسن: «آدم وحواء والوسوسة».
قال غيره: «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته».
وبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ عَدُوٌّ من حيث لفظ بعض، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث لفظة عَدُوٌّ تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: ٤] وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: «المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك». وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه: [الطويل]
وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق
واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت فرقة: إِلى حِينٍ إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور. ويترتب أيضا على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله: وَلَكُمْ، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة، والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة.
قال الله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إبراهيم: ٢٥] وقد قيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن.
129
وفي قوله تعالى: إِلى حِينٍ فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد.
وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل بميسان، وأن إبليس نزل على الأبلة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
المعنى: فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، وآدَمُ رفع ب «تلقى»، وكَلِماتٍ نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم.
وحكى مكي قولا: أنه ألهمها فانتفع بها.
وقرأ ابن كثير: «آدم» بالنصب. «من ربه كلمات» بالرفع، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.
واختلف المتأولون في الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية [الأعراف: ٢٣].
وقال مجاهد: «هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم».
وقال ابن عباس: «هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم».
قال عبيد بن عمير: «إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته علي أم شيء ابتدعته؟
قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي»
.
وقال قتادة: «الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذا أدخلك الجنة».
وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، رسول الله «فتشفع بذلك، فهي الكلمات».
وقالت طائفة: «إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها
130
صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبواه، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا. وما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. [القصص: ١٦]. وما قال يونس: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. [الأنبياء: ٨٧].
و «تاب عليه» معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١].
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.
وكنية آدم أبو محمد، وقيل أبو البشر.
وقرأ الجمهور: «إنه» بكسر الألف على القطع.
وقرأ ابن أبي عقرب: «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه، وبنية التَّوَّابُ للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى. وقيل: كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم.
وحكى النقاش: أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا، وجَمِيعاً حال من الضمير في اهْبِطُوا، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا، واختلف في المقصود بهذا الخطاب، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم، وقيل ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفا لهما، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع، و «إن» في قوله فَإِمَّا هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى: مِنِّي إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى. واختلف في معنى قوله هُدىً، فقيل: بيان وإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أن يقال: بيان ودعاء.
وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر: هو فمن بعده.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ شرط جوابه فلا خوف عليهم.
131
قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وحكي عن الكسائي أن قوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جواب الشرطين جميعا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: حكي هذا وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: ٨٩].
فيقول سيبويه: «جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله: (فروح) عليه» ويقول الكوفيون: «فروح جواب الشرطين».
قال القاضي أبو محمد: وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون فَلا خَوْفٌ جوابا للشرطين.
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق: هُدىً وهي لغة هذيل.
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه: [الكامل].
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم فتخرموا، ولكل جنب مصرع
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي: «فلا خوف عليهم» نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم يَحْزَنُونَ على مرفوع، «ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوف» بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا» عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال، ويحتمل قوله تعالى: «لا خوف عليهم» أي فيما بين أيديهم من الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم منها، ويحتمل أن «لا خوف عليهم» يوم القيامة، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا الآية، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة، وقال وَكَذَّبُوا وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفروا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله وَكَذَّبُوا بِآياتِنا والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية، وأُولئِكَ رفع بالابتداء وأَصْحابُ خبره، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة، وهُمْ فِيها خالِدُونَ، ابتداء وخبر في موضع الحال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
132
يا حرف نداء مضمن معنى التنبيه.
قال الخليل: «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول: أريد أو أدعو».
وقال أبو علي الفارسي: العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل المضمر فقوي فعمل، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء، وبَنِي منادى مضاف وإِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو اسم أعجمي يقال فيه إسراءل وإسرائيل وإسرائيل، وتميم تقول إسرائين، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله.
وحكى المهدوي أن- إسرا- مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته.
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل، والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع، وتحركت الياء من نِعْمَتِيَ لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.
فقال الطبري: «بعثة الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر».
وقال غيره: «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم».
وقال آخرون: «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن.
وحكى مكي: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.
وقال ابن عباس وجمهور العلماء: بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في عَلَيْكُمْ يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد ﷺ استقام الضمير في عَلَيْكُمْ ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.
وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أمر وجوابه.
فقال الخليل: «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل».
133
وقرأ الزهري: «أوفّ» بفتح الواو وشد الفاء للتكثير.
واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد ﷺ في التوراة، وقيل العهد قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: ٦٣، ٩٣]، وقال ابن جريج: العهد قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: ١٢]، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة له، لأن العلة لا تتقدم المعلول.
وقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الاسم ايا والياء ضمير ككاف المخاطب، وقيل إِيَّايَ بجملته هو الاسم، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر، تقديره: وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن يتقدر مقدما لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف، فكان يجيء وارهبون، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء، وَآمِنُوا معناه صدقوا، ومُصَدِّقاً نصب على الحال من الضمير في أَنْزَلْتُ، وقيل من «ما»، والعامل فيه آمِنُوا وما أنزلت كناية عن القرآن، ولِما مَعَكُمْ يعني من التوراة وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ هذا من مفهوم الخطاب الذي: المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به، ونصب أول على خبر كان.
قال سيبويه: أَوَّلَ أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه» قال غير سيبويه: «هو أوأل من وأل إذا نجا، خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت».
وقيل: إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل، وسهل وأبدل وأدغم، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم، والمراد به الجماعة.
قال الشاعر: [الكامل]
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به وقيل معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، فإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم، واختلف في الضمير في بِهِ على من يعود، فقيل على محمد عليه السلام، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله: لِما مَعَكُمْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا القول يجيء أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ مستقيما على ظاهره في الأولية، وقيل الضمير في بِهِ عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله بِما أَنْزَلْتُ.
واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات، فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون
134
دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم: علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة.
وقال قوم: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة، ففي ذلك قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ٤١، المائدة: ٤٤].
وقال قوم: معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيّ وآياتي ثمنا قليلا، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وبين «اتقون» و «ارهبون» فرق، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
المعنى ولا تخلطوا، يقال «لبست الأمر» بفتح الباء ألبسه، إذا خلطته ومزجت بينه بمشكله وحقه بباطله.
وأما قول الشاعر:
وكتيبة لبّستها بكتيبة فالظاهر أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون المعنى من اللباس، واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: الْحَقَّ بِالْباطِلِ.
فقال أبو العالية: «قالت اليهود: محمد نبي مبعوث، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل».
وقال الطبري: «كان من اليهود منافقون فما أظهروا من الإيمان حق، وما أبطنوا من الكفر باطل».
وقال مجاهد: «معناه لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام».
وقال ابن زيد: المراد ب الْحَقَّ التوراة، و «الباطل» ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام، وتَلْبِسُوا جزم بالنهي، وَتَكْتُمُوا عطف عليه في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار «أن»، وإذا قدرت «أن» كانت مع تَكْتُمُوا بتأويل المصدر، وكانت الواو عاطفة على مصدر مقدر من تَلْبِسُوا، كأن الكلام ولا يكن لبسكم الحق بالباطل وكتمانكم الحق.
وقال الكوفيون: تَكْتُمُوا نصب بواو الصرف، والْحَقَّ يعني به أمر محمد صلى الله عليه وسلم».
135
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة في موضع الحال ولم يشهد لهم تعالى بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه السلام، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من واقعه على علم، وأنه أعصى من الجاهل.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معناه: أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها، وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقد تقدم القول في الصلاة، والزَّكاةَ في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها، والزَّكاةَ مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد، وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل الزَّكاةَ مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي ﷺ سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس.
وقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها.
وقال قوم: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
وقالت فرقة: إنما قال مَعَ لأن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة، فأمرهم بقوله مَعَ بشهود الجماعة، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص.
قال لبيد: [الطويل]
أخبر أخبار القرون التي مضت أدبّ كأني كلما قمت راكع
ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة، قال الأضبط بن قريع: [الخفيف]
لا تعاد الضعيف علك أن تر كع يوما والدهر قد رفعه
وقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، و «البر» يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر، وَتَنْسَوْنَ بمعنى تتركون كما قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: ٦٧].
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية، فقال ابن عباس: «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم».
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
136
وقال ابن جريج: «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي».
وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ معناه: تدرسون وتقرءون، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به، والْكِتابَ التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة.
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ معناه: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم؟
والعقل: الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير، أي يمنعه من التصرف، ومنه المعقل أي موضع الامتناع.
وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قال مقاتل: «معناه على طلب الآخرة».
وقال غيره: المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضا، ومنه الحديث: كان رسول الله ﷺ إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع. ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة.
وقال قوم: «الصبر» على بابه، وَالصَّلاةِ الدعاء، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى:
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال: ٤٥] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ على أي شيء يعود الضمير؟ فقيل على الصَّلاةِ، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله وَاسْتَعِينُوا، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقالت فرقة: على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا ضعف، لأنه لا دليل له من الآية عليه.
وقيل: يعود الضمير على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أضعف من الذي قبله.
و «كبيرة» معناه ثقيلة شاقة، والخاشعون المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
ويَظُنُّونَ في هذه الآية قال الجمهور: معناه يوقنون.
وحكى المهدوي وغيره: أن الظن هنا يصح أن يكون على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين.
137
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا تعسف، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسن بعد، كهذه الآية، وكقوله تعالى: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: ٥٣] وكقول دريد بن الصمة:
[الطويل]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم بالفارسي المسرد
وقوله تعالى: أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب، ففي الكلام حذف مضاف، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث.
وحكى المهدوي: أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد، مثل عافاك الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف فاعل في المعنى.
ومُلاقُوا أصله ملاقون، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفا، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء، وهي إضافة غير محضة، لأنها لا تعرف.
وقال الكوفيون: ما في اسم الفاعل الذي هو بمعنى المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة.
وراجِعُونَ قيل: معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: ٢٨، الحج: ٦٦، الروم: ٤٠] والضمير في إِلَيْهِ عائد على الرب تعالى، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه مُلاقُوا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضا فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع.
138
قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم: المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس».
وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا يَوْماً نصب يوما «باتقوا» على السعة، والتقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل، ولكن معناه: جيئوا متقين يوما. ولا تَجْزِي معناه: لا تغني.
وقال السدي: معناه لا تقضي، ويقويه قوله شَيْئاً وقيل المعنى: لا تكافئ، ويقال: جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم، فقالوا: جزى بمعنى: قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.
وقرأ أبو السمال «تجزىء» بضم التاء والهمز، وفي الكلام حذف.
وقال البصريون: التقدير لا تجزي فيه، ثم حذف فيه.
وقال غيرهم: حذف ضمير متصل ب تَجْزِي تقديره لا تجزيه، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر، وإنما يحسن في الصلة.
وقال بعض البصريين: التقدير لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير، ثم حذف الضمير بتدريج.
وقوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم.
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة، ولا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وهذا إنما هو في الكافرين، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، قال أبو العالية: «العدل الفدية».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، «والعدل» بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه.
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير، والضمير في قوله وَلا هُمْ عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى.
وقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي خلصناكم، وآلِ أصله أهل، قلبت الهاء ألفا كما عمل في ماء، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل أهيل، مويه، وقد قيل في آلِ إنه اسم غير أهل، أصله أول وتصغيره أويل، وإنما نسب الفعل إلى آلِ فِرْعَوْنَ وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم.
139
وقال الطبري رحمه الله: «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه».
ومنه قول أراكة الثقفي: [الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه عليّ وعباس وآل أبي بكر
يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر في آلِ أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد، وقد يقال آل مكة، وآل المدينة، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر، وفرعون موسى قيل اسمه مصعب بن الريان.
وقال ابن إسحاق: «اسمه الوليد بن مصعب».
وروي أنه كان من أهل إصطخر، ورد مصر فاتفق له فيها الملك، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام.
ويَسُومُونَكُمْ معناه: يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة، وسامه خطة خسف ويَسُومُونَكُمْ إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال، أي سائمين لكم سوء العذاب، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال، ويكون وصف حال ماضية، وسُوءَ الْعَذابِ أشده وأصعبه.
قال السدي: «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء، ويستحيي النساء».
وقال غيره: صرفهم على الأعمال: الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، وكان قومه جندا ملوكا، وقرأ الجمهور «يذبّحون» بشد الباء المكسورة على المبالغة، وقرأ ابن محيصن: «يذبحون» بالتخفيف، والأول أرجح إذ الذبح متكرر. كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر، فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه.
وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما: إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون: قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك.
وقال ابن عباس أيضا: إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل، ووكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من يحمل منهن.
وقيل: «وكل بذلك القوابل».
وقالت طائفة: معنى يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: نِساءَكُمْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور، والنساء هم الأطفال الإناث، وعبر عنهن باسم النساء بالمئال، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنّ،
140
ونفس الاستحياء ليس بعذاب، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء، ويُذَبِّحُونَ بدل من «يسومون».
وقوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر، وبَلاءٌ معناه امتحان واختبار، ويكون الْبَلاءُ في الخير والشر.
وقال قوم: الإشارة ب ذلِكُمْ إلى التنجية من بني إسرائيل، فيكون الْبَلاءُ على هذا في الخير، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم.
وقال جمهور الناس: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والْبَلاءُ هنا في الشر، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.
وحكى الطبري وغيره في كيفية نجاتهم: أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل، فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف، وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف.
وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض يوشع فرسه فيه حتى بلغ الغمر، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت؟ فو الله ما كذبت ولا كذبت، فأشار إلى البحر، وأوحى الله تعالى إليه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشعراء: ٦٣]. وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
فَرَقْنا معناه: جعلناه فرقا، وقرأ الزهري «فرّقنا» بتشديد الراء، ومعنى بِكُمُ بسببكم، وقيل لما كانوا بين الفرق وقت جوازهم فكأنه بهم فرق، وقيل معناه لكم، والباء عوض اللام وهذا ضعيف، والْبَحْرَ هو بحر القلزم، ولم يفرق البحر عرضا جزعا من ضفة إلى ضفة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة.
وذكر العامري أن موضع خروجهم من البحر كان قريبا من برية فلسطين وهي كانت طريقهم.
141
وقيل انفلق البحر عرضا وانفرق البحر على اثني عشر طريقا، طريق لكل سبط فلما دخلوها قالت كل طائفة غرق أصحابنا وجزعوا، فقال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر، فأدارها فصار في الماء فتوح كالطاق يرى بعضهم بعضا، وجازوا، وجبريل ﷺ في ساقتهم على ماذيانة يحث بني إسرائيل ويقول لآل فرعون: مهلا حتى يلحق آخركم أولكم، فلما وصل فرعون إلى البحر أراد الدخول فنفر فرسه فتعرض له جبريل بالرمكة فاتبعها الفرس، ودخل آل فرعون وميكائيل يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم على الضفة وحده انطبق البحر عليهم فغرقوا.
وتَنْظُرُونَ قيل معناه بأبصاركم، لقرب بعضهم من بعض.
وقيل معناه ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار.
وقيل: إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم.
وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر، كما تقول: هذا الأمر منك بمرأى ومسمع، أي بحال تراه وتسمعه إن شئت.
قال الطبري رحمه الله: وفي إخبار القرآن على لسان محمد ﷺ بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل، دليل واضح عند بني إسرائيل وقائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور «واعدنا».
وقرأ أبو عمرو. «وعدنا»، ورجحه أبو عبيد، وقال: إن المواعدة لا تكون إلا من البشر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة، ومُوسى اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف، والقبط على ما يروى يقولون للماء «مو»، وللشجر «سا»، فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمّي «موسى».
قال ابن إسحاق: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، ونصب أربعين على المفعول الثاني، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع، وهي فيما روي ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ.
قال النقاش: «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم، لأنه لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول: أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم: «آتنا غداءنا» ؟ وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد.
142
وقال بعض البصريين: وعده رأس الأربعين ليلة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف: وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ. قرأ أكثر السبعة بالإدغام.
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه بإظهار الذال وثُمَّ للمهلة، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة، واتخذ وزنه افتعل من الأخذ.
قال أبو علي: «هو من تخذ لا من أخذ» وأنشد [المخرق العبدي] :[الطويل]
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
ونصب الْعِجْلَ ب اتَّخَذْتُمُ، والمفعول الثاني محذوف، تقديره اتخذتم العجل إلها، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: ٢٧] وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في المعنى كقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: ١٦، المنافقون: ٢]، وكهذه الآية وغيرها. والضمير في بَعْدِهِ يعود على موسى.
وقيل: على انطلاقه للتكليم، إذ المواعدة تقتضيه.
وقيل: على الوعد، وقصص هذه الآية أن موسى ﷺ لما خرج ببني إسرائيل من مصر، قال لهم: إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته، وروي أنهم استعاروه برأيهم، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم، وقال لهم موسى عن الله تعالى:
إنه ينزل عليّ كتابا فيه التحليل والتحريم والهدى لكم، فلما جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة، فعدوا عشرين يوما بعشرين ليلة، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر، وقد أخلفنا الموعد، وبدا تعنتهم وخلافهم.
وكان السامري رجلا من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر، وقيل لم يكن من بني إسرائيل بل كان غريبا فيهم، وكان قد عرف جبريل عليه السلام وقت عبرهم البحر، فقالت طائفة: أنكر هيئته فعرف أنه ملك.
وقال طائفة: كانت أم السامري ولدته عام الذبح فجعلته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل ﷺ يغذوه بأصابع نفسه فيجد في إصبع لبنا، وفي إصبع عسلا، وفي إصبع سمنا، فلما رآه وقت جواز البحر عرفه، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب، وألقي في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان، فلما خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل: إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم، فجيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين.
وقيل: بل أوقد لهم نارا وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها، فجعلوا يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى، وجاء السامري فطرح القبضة، وقال كن عجلا.
143
وقيل: إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر ف قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨]، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلت منهم طائفة يعبدونه، فاعتزلهم هارون بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله.
ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلت بنو إسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح، من عبد منهم ومن لم يعبد وألقى الله عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضا يقتل الأب ابنه والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيدا، وتاب على البقية، فذلك قوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ.
وقال بعض المفسرين: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.
وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفنية، وخرج يوشع بن نون ينادي: ملعون من حل حبوته، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم، وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا العجل، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده، وأَنْتُمْ ظالِمُونَ مبتدأ وخبر في موضع الحال، وقد تقدم تفسير الظلم، والعفو تغطية الأثر وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو غيره، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب وعفا عنهم عز وجل أي عمن بقي منهم لم يقتل، ولَعَلَّكُمْ ترج لهم في حقهم وتوقع منهم لا في حق الله عز وجل، لأنه كان يعلم ما يكون منهم.
وقوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، إِذْ عطف على ما ذكر من النعم، والْكِتابَ هو التوراة بإجماع من المتأولين.
واختلف في الْفُرْقانَ هنا فقال الزجاج وغيره هو التوراة أيضا كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة الكتاب لا تعطي ذلك.
وقال آخرون: الْكِتابَ التوراة، والْفُرْقانَ سائر الآيات التي أوتي موسى صلى الله عليه وسلم، لأنها فرقت بين الحق والباطل.
وقال آخرون: الْفُرْقانَ: النصر الذي فرق بين حالهم وحال آل فرعون بالنجاة والغرق.
وقال ابن زيد: «الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا».
وقال الفراء وقطرب: معنى هذه الآية: آتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.
ولَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترج وتوقع مثل الأول.
144
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)
هذا القول من موسى ﷺ كان بأمر من الله تعالى، وحذفت الياء في «يا قومي» لأن النداء موضع حذف وتخفيف، والضمير في «اتخاذكم» في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع بالمعنى، و «العجل» لفظة عربية، اسم لولد البقرة.
وقال قوم: سمي عجلا لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا القول بشيء.
واختلف هل بقي العجل من ذهب؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحما ودما، والأول أصح.
و «توبوا» : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة.
وقرأ الجمهور: «بارئكم» بإظهار الهمزة وكسرها.
وقرأ أبو عمرو: «بارئكم» بإسكان الهمزة.
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات.
وقال المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب، وقراءة أبي عمرو «بارئكم» لحن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب، قال الشاعر: [الرجز] إذا اعوججن قلت صاحب قوم وقال امرؤ القيس: [السريع]
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقال آخر: [الرجز] قالت سليمى اشتر لنا سويقا وقال الآخر: [السريع] وقد بدا هنك من المئزر
145
وقال جرير:
ونهر تيري فما تعرفكم العرب وقال وضاح اليمن: [الرجز] إنما شعري شهد قد خلط بجلجلان ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات.
وقرأ الزهري «باريكم» بكسر الياء من غير همز، ورويت عن نافع.
وقرأ قتادة: «فاقتالوا أنفسكم» : وقال: «هي من الاستقالة».
قال أبو الفتح: «اقتال» هذه افتعل، ويحتمل أن يكون عينها واوا كاقتادوا، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس» والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده.
وقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف تقديره ففعلتم.
وقوله عَلَيْكُمْ معناه: على الباقين، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم.
قال بعض الناس: فَاقْتُلُوا في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخا، وبقول حسان:
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهم.
فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل.
وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد، والأول أصح، وقصة السبعين أن موسى ﷺ لما رجع من تكليم الله ووجد العجل قد عبد قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر ونحن أصحابك، ولكن أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه أن اختر منهم سبعين شيخا، فلم يجد إلّا ستين، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخا، وكان قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من مضى، فتأخر يوشع بن نون وطالوت بن يوقنا وذهب موسى عليه السلام بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثا ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجبل، فألقي عليهم الغمام.
146
قال النقاش وغيره: غشيتهم سحابة وحيل بينهم وبين موسى بالنور فوقعوا سجودا.
قال السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم، ففعل، فلما فرغ وخرجوا بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: ٧٥]، واضطرب إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ولم يطلبوا من الرؤية محالا، أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير.
وقال قتادة: «ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل موسى يناشد ربه فيهم ويقول: أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم فيهلكون ولا يؤمنون بي أبدا، وقد خرجوا معي وهم الأخيار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني وهم بحال الخير وقت الخروج.
وقال قوم: بل ظن موسى عليه السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله أَتُهْلِكُنا يعني السبعين بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف: ١٥٥] يعني عبدة العجل.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه، بقولهم لموسى «أرنا» وليس ذلك من مقدور موسى صلى الله عليه وسلم، وجَهْرَةً مصدر في موضع الحال، والأظهر أنها من الضمير في نَرَى، وقيل من الضمير في نُؤْمِنَ، وقيل من الضمير في قُلْتُمْ، والجهرة العلانية، ومنه الجهر ضد السر، وجهر الرجل الأمر كشفه.
وقرأ سهل بن شعيب وحميد بن قيس: «جهرة» بفتح الهاء، وهي لغة مسموعة عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكنا قد انفتح ما قبله، والكوفيون يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون جَهْرَةً جمع جاهر، أي حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر.
وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما: «فأخذتكم الصعقة»، ومضى في صدر السورة معنى الصَّاعِقَةُ، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند الصاعقة.
وتنظرون معناه إلى حالكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: حتى أحالهم العذاب وأزال نظرهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
147
أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود أو الموت، ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢].
وقال قوم: إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه السلام أن يجعلهم الله أنبياء، فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي أنبياء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي على هذه النعمة، والترجي إنما هو في حق البشر، ونزلت الألواح بالتوراة على موسى في تلك المدة، وهذا قول جماعة، وقال آخرون: إن الألواح نزلت في ذهابه الأول وحده.
وذكر المفسرون في تظليل الغمام: أن بني إسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه بين مصر والشام، فأمروا بقتال الجبارين فعصوا وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] فدعا موسى عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم موسى عليه السلام على دعائه عليهم، فقيل له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: ٢٦].
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين، وإذ كان جميعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام؟ قال: الله، فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا: من لنا من حر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل؟
فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، وذكر مكي: عمود نار. فقالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان.
ومعنى ظَلَّلْنا جعلناه ظللا، والْغَمامَ السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره.
وقال مجاهد: «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه. وقيل الْغَمامَ ما ابيض من السحاب.
والْمَنَّ صمغة حلوة، هذا قول فرقة، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حلو، وقيل: الذي ينزل اليوم على الشجر، وقيل: الْمَنَّ خبز الرقاق مثل النقي. وقيل: هو الترنجبين وقيل الزنجبيل، وفي بعض هذه الأقوال بعد. وقيل: الْمَنَّ مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملا.
وقال النبي ﷺ في كتاب مسلم: الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.
148
فقيل: أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل.
وقيل: أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد، فهي منة دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف.
وروي أن الْمَنَّ كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم، لأن يوم السبت يوم عبادة، والْمَنَّ هنا اسم جمع لا واحد له من لفظه، وَالسَّلْوى طير بإجماع من المفسرين، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
قيل: هو السمانى بعينه. وقيل: طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى، وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.
قال الأخفش: «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد». قال الخليل: السَّلْوى جمع واحدته سلواة.
قال الكسائي: السَّلْوى واحدة جمعها سلاوى، وَالسَّلْوى اسم مقصور لا يظهر فيه الإعراب، لأن آخره ألف، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفا آخر، وقد غلط الهذلي فقال: [الطويل]
وقاسمها بالله عهدا لأنتم ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
وقوله تعالى: كُلُوا الآية، معناه وقلنا كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
وقوله تعالى: وَما ظَلَمُونا يقدر قبله: فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب.
وقال بعض المفسرين: ما ظَلَمُونا ما نقصونا، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه، والْقَرْيَةَ المدينة تسمى بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور. وقيل إلى أريحا، وهي قريب من بيت المقدس.
قال عمر بن شبة: كانت قاعدة ومسكن ملوك، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه أمروا بدخول القرية المشار إليها، وأما الشيوخ فماتوا فيه، وروي أن موسى ﷺ مات في التيه، وكذلك هارون عليه السلام.
وحكى الزجاج عن بعضهم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه لأنه عذاب، والأول أكثر، وكُلُوا إباحة، وقد تقدم معنى الرغد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلة، فلذلك قال رَغَداً.
والْبابَ قال مجاهد: هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطة، وقيل هو باب
149
القبة التي كان يصلي إليها موسى صلى الله عليه وسلم.
وروي عن مجاهد أيضا: أنه باب في الجبل الذي كلم عليه موسى كالفرضة.
وسُجَّداً قال ابن عباس رضي الله عنه: معناه ركوعا، وقيل متواضعين خضوعا لا على هيئة معينة، والسجود يعم هذا كله لأنه التواضع، ومنه قول الشاعر: [الطويل] ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر وروي أن الباب خفض لهم ليقصر ويدخلوا عليه متواضعين، وحِطَّةٌ فعلة من حط يحط، ورفعه على خبر ابتداء، كأنهم قالوا سؤالنا حطة لذنوبنا، هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن.
وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقيل أمروا أن يقولوا مرفوعة على هذا اللفظ.
وقال عكرمة وغيره: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لتحط بها ذنوبهم.
وقال ابن عباس: قيل لهم استغفروا وقولوا ما يحط ذنوبكم.
وقال آخرون: قيل لهم أن يقولوا هذا الأمر حق كما أعلمنا. وهذه الأقوال الثلاثة تقتضي النصب.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «حطة» بالنصب.
وحكي عن ابن مسعود وغيره: أنهم أمروا بالسجود وأن يقولوا حِطَّةٌ فدخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون حنطة حبة حمراء في شعرة، ويروى غير هذا من الألفاظ.
وقرأ نافع: «يغفر» بالياء من تحت مضمومة.
وقرأ ابن عامر: «تغفر» بالتاء من فوق مضمومة.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «يغفر» بفتح الياء على معنى يغفر الله.
وقرأ الباقون: «نغفر» بالنون.
وقرأت طائفة «تغفر» كأن الحطة تكون سبب الغفران، والقراء السبعة على خَطاياكُمْ، غير أن الكسائي كان يميلها.
وقرأ الجحدري: «تغفر لكم خطيئتكم» بضم التاء من فوق وبرفع الخطيئة.
وقرأ الأعمش: «يغفر» بالياء من أسفل مفتوحة «خطيئتكم» نصبا.
وقرأ قتادة مثل الجحدري، وروي عنه أنه قرأ بالياء من أسفل مضمومة خطيئتكم رفعا.
وقرأ الحسن البصري: «يغفر لكم خطيئاتكم» أي يغفر الله.
وقرأ أبو حيوة: «تغفر» بالتاء من فوق مرفوعة «خطيئاتكم» بالجمع ورفع التاء.
وحكى الأهوازي: أنه قرىء «خطأياكم» بهمز الألف الأولى وسكون الآخرة. وحكي أيضا أنه قرىء بسكون الأولى وهمز الآخرة.
150
قال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همز كهدية وهدايا، وركية وركايا.
وقال الخليل: هو جمع خطيئة بالهمز، وأصله خطايىء قدمت الهمزة على الياء فجاء خطائي أبدلت الياء ألفا بدلا لازما فانفتحت الهمزة التي قبلها فجاء خطاء، همزة بين ألفين، وهي من قبيلهما فكأنها ثلاث ألفات، فقلبت الهمزة ياء فجاء خطايا.
قال سيبويه: «أصله خطايىء همزت الياء كما فعل في مدائن وكتائب فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء، ثم أعلت على ما تقدم».
وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ عدة، المعنى إذا غفرت الخطايا بدخولكم وقولكم زيد بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر وقال لا إله إلا الله فقيل هم المراد ب الْمُحْسِنِينَ هنا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
روي أنهم لما جاؤوا الباب دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم، وبدلوا فقالوا حبة في شعرة، وقيل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعرة وقيل شعيرة.
وحكى الطبري أنهم قالوا حطي شمقاثا أزبة، وتفسيره ما تقدم.
والرجز العذاب، وقال ابن زيد ومقاتل وغيرهما: «إن الله تعالى بعث على الذين بدلوا ودخلوا على غير ما أمروا الطاعون فأذهب منهم سبعين ألفا»، وقال ابن عباس: «أمات الله منهم في ساعة واحدة نيفا على عشرين ألفا».
وقرأ ابن محيصن «رجزا» بعضهم الراء، وهي لغة في العذاب، والرجز أيضا اسم صنم مشهور.
والباء في قوله بِما متعلقة ب فَأَنْزَلْنا، وهي باء السبب.
ويَفْسُقُونَ معناه يخرجون عن طاعة الله، وقرأ النخعي وابن وثاب «يفسقون» بكسر السين، يقال فسق يفسق ويفسق بضم السين وكسرها.
وَإِذِ متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر، واسْتَسْقى معناه طلب السقيا، وعرف استفعل طلب الشيء، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] بمعنى غني، وقولهم:
استعجب بمعنى عجب، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم استنسر البغاث، واستنوق الجمل، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال، وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية
151
منه، وكان الحجر من جبل الطور، على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وضربه موسى عليه السلام، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى صلى الله عليه وسلم، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون، وفي الكلام حذف تقديره فضربه فَانْفَجَرَتْ، والانفجار انصداع شيء عن شيء، ومنه الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.
واثْنَتا معربة دون أخواتها لصحة معنى التثنية، وإنما يبنى واحد مع واحد، وهذه إنما هي اثنان مع واحد، فلو بنيت لرد ثلاثة واحدا، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله اثْنَتا عَشْرَةَ لبعد العلامة من العلامة، ولأنهما في شيئين، وإنما منع ذلك في شيء واحد، نحو مسلمات وغيره.
وقرأ ابن وثاب وابن أبي ليلى وغيرهما: «عشرة» بكسر الشين، وروي ذلك عن أبي عمرو، والأشهر عنه الإسكان، وهي لغة تميم، وهو نادر، لأنهم يخففون كثيرا، وثقلوا في هذه، وقرأ الأعمش «عشرة» بفتح الشين وهي لغة ضعيفة، وروي عنه كسرها وتسكينها، والإسكان لغة الحجاز.
وعَيْناً نصب على التمييز، والعين اسم مشترك، وهي هنا منبع الماء.
وأُناسٍ اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا كل سبط، لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام.
والمشرب المفعل موضع الشرب، كالمشرع موضع الشروع في الماء، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها، وفي الكلام محذوف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المنفجر من الحجر المنفصل، وبهذه الأحوال حسنت إضافة الرزق إلى الله تعالى، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد.
وَلا تَعْثَوْا معناه ولا تفرطوا في الفساد، يقال عثى الرجل يعثي وعثي يعثى عثيا إذا أفسد أشد فساد، والأولى هي لغة القرآن والثانية شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثوا ولم يقرأ بهذه اللغة لأنها توجب ضم الثاء من تَعْثَوْا، وتقول العرب عاث يعيث إذا أفسد، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف، وهي السوسة التي تلحسه.
ومُفْسِدِينَ حال، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ، وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها، والتقدم في المعاصي والنهي عنها.
قوله عز وجل:
وإذ قلتم يموسى لن نّصبر على طعام وحد فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير
152

[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]

وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، وكنى عن المن والسلوى ب طَعامٍ واحِدٍ، وهما طعامان، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، ولتكرارهما سواء أبدا قيل لهما طَعامٍ واحِدٍ، ولغة بني عامر «فادع» بكسر العين.
ويُخْرِجْ: جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولا مما تنبت الأرض، وقال الأخفش: «من» في قوله:
مِمَّا زائدة «وما» مفعولة، وأبى سيبويه أن تكون «من» ملغاة في غير النفي، كقولهم: ما رأيت من أحد، ومِنْ في قوله: مِنْ بَقْلِها لبيان الجنس، وبَقْلِها بدل بإعادة الحرف، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم، والقثاء جمع قثأة.
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب: «قثائها»، بضم القاف.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: «الفوم الحنطة».
وقال مجاهد: «الفوم الخبز».
وقال عطاء وقتادة: «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه».
وقال الضحاك: «الفوم الثوم»، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل من الفاء، كما قالوا، مغاثير ومغافير، وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر، وعافور شر، على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح: أنها الحنطة، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح: [الطويل]
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم
يعني حنطة.
قال ابن دريد: «الفوم الزرع أو الحنطة»، وأزد السراة يسمون السنبل فوما»، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر، وأَدْنى مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة.
وقال علي بن سليمان: «هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى الأخس، إلا أنه خففت همزته».
وقال غيره: «هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفا لتطرفها».
وقرأ زهير للكسائي: «أدنأ»، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه،
153
يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه البقول لا خطر لها، وهذا قول الزجاج، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوا عار من هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو أَدْنى في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، فهي أَدْنى في هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها، وفي الكلام حذف، تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه، فقال لهم: اهْبِطُوا، وتقدم ذكر معنى الهبوط، وكأن القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط، وجمهور الناس يقرؤون «مصرا» بالتنوين وهو خط المصحف، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه.
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها: «أراد مصرا من الأمصار غير معين»، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه.
وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها.
قال الأخفش: «لخفتها وشبهها بهند ودعد». وسيبويه لا يجيز هذا.
وقال غير الأخفش: «أراد المكان فصرف».
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما: «اهبطوا مصر» بترك الصرف، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا: «هي مصر فرعون».
قال الأعمش: «هي مصر التي عليها صالح بن علي».
وقال أشهب: «قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون».
وقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب «سألتم» بكسر السين وهي لغة، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ معناه ألزموها وقضي عليهم بها، كما يقال ضرب الأمير البعث، وكما قالت العرب ضربة لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم، ومنه ضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، والذِّلَّةُ فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال، وَالْمَسْكَنَةُ من المسكين، قال الزجاج: «هي مأخوذة من السكون وهي هنا: زي الفقر وخضوعه، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته».
154
قال الحسن وقتادة: «المسكنة الخراج أي الجزية».
وقال أبو العالية: «المسكنة الفاقة والحاجة».
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ معناه: مروا متحملين له، تقول: بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد: «بؤ بشسع نعل كليب».
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده، والباء في بِأَنَّهُمْ باء السبب.
وقال المهدوي: «إن الباء بمعنى اللام» والمعنى: لأنهم، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو علامة لصدق الآية به، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «وتقتلون» بالتاء على الرجوع إلى خطابهم، وروي عنه أيضا بالياء.
وقرأ نافع: بهمز «النبيئين»، وكذلك حيث وقع في القرآن، إلا في موضعين: في سورة الأحزاب:
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ [الأحزاب: ٥٠] بلا مد ولا همز، ولا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا [الأحزاب: ٥٣]، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ» إذا أخبر، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء، بمعنى منبىء، كما قيل: سميع بمعنى مسمع، واستدلوا بما جاء من جمعه على نباء. قال الشاعر: [الطويل]
يا خاتم النبآء إنك مرسل بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف» وظرفاء وشبهه.
قال أبو علي: «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة: كان مسيلمة نبوته نبيئة سوء، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة»، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز، ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبوا إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر: [البسيط].
لما وردنا نبيا واستتبّ بنا مسحنفر كخطوط السيح منسحل
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء، وحكى الزهراوي أنه يقال نبوء إذا ظهر فهو نبيء، والطريق الظاهر نبيء بالهمز، وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله، وهمز، فقال له النبي عليه السلام: لست بنبيء الله، وهمز، ولكني نبيّ الله، ولم يهمز.
قال أبو علي: «ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار، والجمع كالواحد».
155
وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره: «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر».
وقوله تعالى: ذلِكَ رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بِما باء السبب، ويَعْتَدُونَ معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
اختلف المتأولون في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية، فقال سفيان الثوري: هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله مَنْ آمَنَ في المؤمنين المذكورين: من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة: من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون حقا بمحمد صلى الله عليه وقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وَالَّذِينَ هادُوا كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، وَالنَّصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وَالصَّابِئِينَ كذلك، قال: إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضا ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عبادا من النصارى فقال له آخرهم:
إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي ﷺ وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد ﷺ ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥] وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
156
وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود، وسموا بذلك لقولهم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: ١٥٦] أي تبنا، فاسمهم على هذا من هاد يهود، وقال الشاعر: [السريع] إني امرؤ من مدحتي هائد أي تائب، وقيل: نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب، فلما عرب الاسم لحقه التغيير كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها، وحكى الزهراوي أن التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد:
وخود من اللائي تسمعن بالضحى قريض الردافى بالغناء المهود
قال: ومن هذا سميت اليهود، وقرأ أبو السمال «هادوا» بفتح الدال.
وَالنَّصارى لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة، ويقال نصريا ويقال نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: ١٥٢، الصف: ٤] قال سيبويه: واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى، وأنشد: [أبو الأخرز الحماني] :[الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنّف
وأنشد الطبري: [الطويل]
يظل إذا دار العشيّ محنّفا ويضحي لديها وهو نصران شامس
قال سيبوية: إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلّا بياء نسب، قال الخليل: واحد النَّصارى نصريّ كمهريّ ومهارى.
والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبا، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيها بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي:
يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابىء التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها، وبالهمز قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.
157
ومَنْ في قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ في موضع نصب بدل من الَّذِينَ، والفاء في قولهم فَلَهُمْ داخلة بسبب الإبهام الذي في مَنْ و «لهم أجرهم» ابتداء وخبر في موضع خبر إِنَّ، ويحتمل ويحسن أن تكون مَنْ في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والفاء في قوله فَلَهُمْ موطئة أن تكون الجملة جوابها، و «لهم أجرهم» خبر مَنْ، والجملة كلها خبر إِنَّ، والعائد على الَّذِينَ محذوف لا بد من تقديره، وتقديره «من آمن منهم بالله».
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى، وجمع الضمير في قوله تعالى «لهم أجرهم» بعد أن وحد في آمَنَ لأن مَنْ تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يخرج ما بعدها مفردا على لفظها، أو مثنى أو مجموعا على معناها، كما قال عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: ٤٢] فجمع على المعنى، وكقوله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [النساء: ١٣] ثم قال خالِدِينَ فِيها [النساء: ١٣] فجمع على المعنى، وقال الفرزدق: [الطويل]
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فثنى على المعنى، وإذا جرى ما بعد مَنْ على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام.
وقرأ الحسن «ولا خوف»، نصب على التبرية، وأما الرفع فعلى الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، إِذْ معطوفة على التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق، مثل ميزان من وزن يزن، والطُّورَ اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، قاله ابن عباس، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم: الطُّورَ اسم لكل جبل، ويستدل على ذلك بقول العجاج: [الرجز]
دانى جناحيه من الطور فمر تقضّي البازي إذا البازي كسر
وقال ابن عباس أيضا: الطُّورَ كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله على أن اللفظة عربية، وقال أبو العالية ومجاهد: هي سريانية اسم لكل جبل.
وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون
158
الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين.
وقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ في الكلام حذف تقديره: وقلنا خذوا، وآتَيْناكُمْ معناه أعطيناكم، وبِقُوَّةٍ: قال ابن عباس: معناه بجد واجتهاد، وقيل: بكثرة درس، وقال ابن زيد: معناه بتصديق وتحقيق، وقال الربيع. معناه بطاعة الله.
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه وتضيعوه، والضمير عائد على ما آتَيْناكُمْ ويعني التوراة، وتقدير صلة ما: واذكروا ما استقر فيه، ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ترج في حق البشر.
وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الآية. تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا، وفَضْلُ اللَّهِ رفع بالابتداء، والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه، تقديره فلولا فضل الله عليكم تدارككم، وَرَحْمَتُهُ عطف على فضل، قال قتادة: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن المخاطب بقوله: عَلَيْكُمْ لفظا ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف، ولَكُنْتُمْ جواب «لولا»، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبر «كان». والخسران النقصان، وتوليهم من بعد ذلك: إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن، أو يكون المراد من لحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة: إن الفضل الإسلام، والرحمة القرآن، ويتجه أيضا أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)
عَلِمْتُمُ معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيدا بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، واعْتَدَوْا معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، وفِي السَّبْتِ معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، والسَّبْتِ مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من
159
السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من الساعة»، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها.
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانا حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتا بخزمة، وضرب له وتدا بالساحل، فلما ذهب السبت جاء وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين.
وكُونُوا لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء: كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠، مريم: ٣٥، يس: ٨٢، غافر: ٦٨]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.
وخاسِئِينَ معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخسأ. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين قِرَدَةً بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قِرَدَةً يعرفون الرجل والمرأة، وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبريا منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي ﷺ وثبت عنه أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر
160
هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في «جعلناها» : يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول بعد.
والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي: ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم، وَما خَلْفَها:
لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره: «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين، وَما خَلْفَها أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: لِما بَيْنَ يَدَيْها: أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، وَما خَلْفَها: لمن بقي منهم عبرة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول، وقال ابن عباس أيضا: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها، أي من القرى، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.
وَمَوْعِظَةً مفعلة من الاتعاظ والازدجار، ولِلْمُتَّقِينَ معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الآية: إِذْ عطف على ما تقدم، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو عمرو «يأمركم» بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم».
وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه، وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلا، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهي منهم: أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فكان جوابهم أن قالوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قرأ الجحدري «أيتخذنا» بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة: «هزؤا» بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز، وقرأ أيضا: دون همز «هزوا»، حكاه أبو علي، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاي والهمزة
161
بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي «هزّا»، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي ﷺ لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي ﷺ في قسمة غنائم حنين: «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله»، وكما قال له الآخر: «اعدل يا محمد»، وكلّ محتمل، والله أعلم.
وقول موسى عليه السلام: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، يحتمل معنيين: أحدهما الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم أَتَتَّخِذُنا هُزُواً لمن يخبرهم عن الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر «ادع» بكسر العين، وما استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع فارِضٌ على النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي، فروضا، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض، وقال الشاعر [العجاج] :[الرجز]
يا رب ذي ضغن عليّ فارض له قروء كقروء الحائض
والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول العرب: العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان: قد قوتل فيها مرتين فما زاد، ورفعت عَوانٌ على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان، وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم.
وبَيْنَ، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى ذلِكَ، إذ ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضا بَيْنَ على بابها.
وقوله: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه، وما رفع بالابتداء، ولَوْنُها خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله صَفْراءُ، إنها كانت كلها صفراء، قال مكي رحمه الله عن بعضهم: حتى القرن والظلف، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط، وقال الحسن أيضا: صَفْراءُ معناه سوداء، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
تلك خيلي منه وتلك ركابي هنّ صفر أولادها كالزبيب
والفقوع: نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، ولَوْنُها فاعل ب فاقِعٌ.
وتَسُرُّ النَّاظِرِينَ قال وهب بن منبه: كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، فمعناه تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس وغيره: الصفرة تسر النفس، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ معناه في سمنها ومنظرها كله، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية، والْبَقَرَ جمع بقرة، وتجمع أيضا على باقر، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت، وقرأ السبعة: «تشابه» فعل ماض، وقرأ الحسن «تشّابه» بشد الشين وضم الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضا «تشابه» بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود «يشابه» بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي «يشّبّه» بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة «متشبه» اسم فاعل من تشبّه، وحكي أيضا «يتشابه».
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا»، والضمير في إِنَّا، هو اسم إِنَّ، و «مهتدون» الخبر، واللام للتأكيد، والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمما به.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
ذَلُولٌ: مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيّنة الذّل بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذّل بضم الذال، وذَلُولٌ نعت ل بَقَرَةٌ، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «لا ذلول» بنصب اللام.
وتُثِيرُ الْأَرْضَ، معناه بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول
163
مثيرة، وقال قوم تُثِيرُ فعل مستأنف، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، وتَسْقِي الْحَرْثَ معناه بالسانية أو غيرها من الآلات، والْحَرْثَ ما حرث وزرع.
ومُسَلَّمَةٌ بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية: معناه من العيوب، وقال مجاهد:
معناه من الشيات والألوان، وقال قوم: معناه من العمل.
ولا شِيَةَ فِيها: أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة، يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم.
وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه: إن أباك قد استودع الله عجلة لك، فأذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل برا بأبيه فنام أبوه يوما وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفا، فقال له ابن النائم: اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفا، فقال له صاحب الجوهر: نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفا، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفا، فقال له ابن النائم: والله لا اشتريته منك بشيء برا بأبيه، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم: وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام، وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل بوزنها مرتين، وقال السدي: بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد: كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير، وحكى مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية.
والْآنَ مبني على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى أنها لا تفارقة في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرىء «قالوا الآن» بسكون اللام وهمزة بعدها، «وقالوا الان» بمدة على الواو وفتح اللام دون همز، «وقالوا الآن» بحذف الواو من اللفظ دون همز، «وقالوا الآن» بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول «يا الله».
164
وجِئْتَ بِالْحَقِّ معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، وجِئْتَ بِالْحَقِّ الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا:
هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت.
وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره: كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل، وقيل: كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.
و «ادارأتم» أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر: [الرجز] صادف درء السّيل درءا يدفعه وقال الآخر [الخفيف] :
مدرأ يدرأ الخصوم بقول مثل حدّ الصّمصامة الهندواني
والضمير في قوله: فِيها عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي «وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم»، وقرأت فرقة «فتدارأتم» على الأصل، وموضع ما نصب بمخرج، والمكتوم هو أمر المقتول.
وقوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي: لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال السدي: ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني: ضرب بالفخذ، وقيل: ضرب باللسان، وقيل: بالذنب، وقال أبو العالية: بعظم من عظامها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
الآية، الإشارة ب كَذلِكَ
إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبرة، ودلالة على البعث في الآخرة. وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد ﷺ ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.
قوله عز وجل:
ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه
165

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
قَسَتْ أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: ولم يرث قاتل من حينئذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا أن لا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.
وقوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ الآية، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي»، تقديره: فهي مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ مرتفع بالعطف على الكاف، أَوْ على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، وقَسْوَةً نصب على التمييز، والعرف في أَوْ أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنى أَوْ هنا، فقالت طائفة: هي بمعنى الواو، كما قال تعالى: آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] أي وكفورا، وكما قال الشاعر [جرير] :[البسيط]
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربّه موسى على قدر
أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمّدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليّا
ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤]، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو»، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة
166
يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طورا أو أشد طورا، وقرأ أبو حيوة: «قساوة»، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة: «وإن» مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في لَما، وما في موضع نصب اسم ل إِنَّ، ودخلت اللام على اسم إِنَّ لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب إِنَّ لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار: «ينفجر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في مِنْهُ حملا على لفظ «ما»، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار»، حملا على الحجارة، والْأَنْهارُ جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف: «لمّا» بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، ويَشَّقَّقُ أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله دكا، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعا، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أنّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧]، وكما قال زيد الخيل: [الطويل]
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وكما قال جرير: والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطا تخيل فيه الخشية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، وبِغافِلٍ في موضع نصب خبر مَا، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير «يعملون» بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد والسدي: عني بالفريق هنا الأحبار
167
الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع: عني السبعون الذين سمعوا مع موسى ﷺ ثم بدلوا بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش: «كلم الله»، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باق، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
المعنى: وهم أيضا إذا لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم؟ ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا مقطوعا من معنى الطمع، فيه كشف سرائرهم.
وورد في التفسير أن النبي ﷺ قال: «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن»، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية فيهم، وقال ابن عباس: نزلت في منافقين من اليهود، وروي عنه أيضا أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا قال بعضهم: لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه، وأصل خَلا «خلو» تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، وقال أبو العالية وقتادة: إن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة الأحبار: أتحدثون بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي عرفكم من صفة محمد ﷺ فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به؟، وقال السدي: إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟، وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم، وقال مجاهد: إن رسول الله ﷺ قال لبني قريظة: يا إخوة الخنازير والقردة، فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم؟ وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا في التوراة كذا وكذا، فكرهت الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية.
والفتح في اللغة ينقسم أقساما تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم
168
وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن، و «يحاجوكم» من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجّين كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر، وعِنْدَ رَبِّكُمْ معناه في الآخرة، وقيل عند بمعنى في ربكم، أي فيكونون أحق به، وقيل: المعنى عند ذكر ربكم.
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية وقرأ الجمهور «أولا يعلمون» بالياء من أسفل، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» بالتاء خطابا للمؤمنين، والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره الأحبار صفة محمد ﷺ والمعرفة به، والذي أعلنوه الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع.
وأُمِّيُّونَ هنا عبارة عن جهلة بالتوراة، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال، وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين، وقال عكرمة والضحاك:
هم في الآية نصارى العرب، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال: هم المجوس. والضمير في مِنْهُمْ على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون» بتخفيف الميم، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ ولا تكتب، ولذلك قال النبي ﷺ في العرب: «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، الحديث: والألف واللام في الْكِتابَ للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد. والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه «أماني» بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني».
واختلف في معنى أَمانِيَّ، فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب، وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٥٢] ومنه قول الشاعر [كعب بن مالك] :
[الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته، وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت».
169
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب، وإن نافية بمعنى ما، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
الذين في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء، قال الخليل: الويل شدة الشر، وقال الأصمعي:
الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء أي ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم، وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية: واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا، وقال أبو عياض: إنه صهريج في جهنم، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه جبل من جبال النار. وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم، والذين يَكْتُبُونَ: هم الأحبار الذين بدلوا التوراة.
وقوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي ﷺ ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وقال ابن إسحاق: كانت صفته في التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلا، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي ﷺ ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله، وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم.
والثمن قيل عرض الدنيا، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراما، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، ويَكْسِبُونَ معناه من المعاصي والخطايا، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الآية، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي ﷺ قال لليهود: من أهل النار؟ فقالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم: كذبتم لقد علمتم أنا لا
170
نخلفكم، فنزلت هذه الآية، ويقال إن السبب أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، قاله ابن عباس وقتادة، وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وابن جريج: إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما.
وأَتَّخَذْتُمْ أصله «ايتخذتم»، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفا في ياتخذوا وواوا في «موتخذ» فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن أَتَّخَذْتُمْ من «تخذ» لا من «أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد، وقال ابن عباس وغيره: معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟، وقوله فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ اعتراض أثناء الكلام.
وبَلى رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب، وقال الكوفيون: أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها، وقال سيبويه: هي حرف مثل بل وغيره، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان، ومَنْ شرط في موضع رفع بالابتداء، و «أولئك» ابتداء ثان، وأَصْحابُ خبره، والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.
وقالت طائفة: السيئة الشرك كقوله تعالى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: ٩٠]، والخطيئات كبائر الذنوب، وقال قوم: «خطيئته» بالإفراد، وقال قوم: السيئة هنا الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤]، والخطيئة الكفر، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم: معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها، وقال الربيع أيضا: المعنى مات على كفره، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي: المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. يدل هذا التقسيم على أن قوله مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضا قوله: أَحاطَتْ لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم.
قوله عز وجل:
وإذ أخذنا ميثق بنى إسراءيل لا تعبدون إلّا الله وبالولدين إحسانا وذى القربى واليتامى
171

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
المعنى: «واذكروا إذ أخذنا»، وقال مكي رحمه الله: «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر»، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم لا تَعْبُدُونَ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي. قال سيبوية: لا تَعْبُدُونَ متعلق لقسم، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون، وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، ف لا تَعْبُدُونَ على هذا معمول لحرف النصب، وحكي عن قطرب أن لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة، وقال قوم لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا.
والباء في قوله وَبِالْوالِدَيْنِ قيل هي متعلقة بالميثاق عطفا على الباء المقدرة أولا على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا، وقيل: تتعلق بقوله وإِحْساناً والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحسانا بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ بِالْوالِدَيْنِ تهمما فهو نحو قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، وَذِي الْقُرْبى عطف على الوالدين، والْقُرْبى بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم، وَالْيَتامى: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: «لا يتم بعد بلوغ»، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم، وَالْمَساكِينِ: جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، أمر عطف على ما تضمنه لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله وَبِالْوالِدَيْنِ، وقرأ حمزة والكسائي «حسنا» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءتين وقولوا قولا حسنا بفتح السين أو قولا ذا «حسن» بضم الحاء، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى، ورده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى، فذلك جائز، وهو
172
وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حسنا» بضم الحاء والسين، وقال ابن عباس:
معنى الكلام قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها، وقال ابن جريج: قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري: معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية: معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً:
منسوخ بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص».
وقوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ الآية خطاب لمعاصري محمد ﷺ أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، وثُمَّ مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من تَوَلَّيْتُمْ لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، وقَلِيلًا نصب على الاستثناء قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به، قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم وحديثا كابن سلام وغيره، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد ﷺ إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وقرأ قوم «إلا قليل» برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في تَوَلَّيْتُمْ، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن تَوَلَّيْتُمْ معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل، والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفكون» بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب لا تَسْفِكُونَ كما تقدم في لا تَعْبُدُونَ، ودِماءَكُمْ جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل أصله دمي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول، وقيل لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.
173
وقوله تعالى ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما.
وقوله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٥]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
هؤُلاءِ دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول هذا أقبل، وقيل تقديره أعني هؤلاء، وقيل هؤُلاءِ بمعنى الذين، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون، ف تَقْتُلُونَ صلة لهؤلاء، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري.
عدس ما لعبّاد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه: هؤُلاءِ رفع بالابتداء وأَنْتُمْ خبر مقدم، وتَقْتُلُونَ حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول هذا زيد منطلقا، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تقتّلون» بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة، والديار مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة «تظّاهرون» بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة «تظهرون» بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة «تظّهرّون» بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي
174
عمرو، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى بمكتسبات الإثم، وَالْعُدْوانِ تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم»، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم»، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم»، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم». وأُسارى جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقا، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلا بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على «فعالى» بفتح الفاء و «فعالى» بضمها كسكران وكسلان وسكارى وكسالى، قال سيبويه:
فقالوا في جمع كسلان كسلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا أُسارى شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
وتُفادُوهُمْ معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيدا بمال وفاديته بمال، وقال قوم: هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف.
وقوله تعالى: وَهُوَ مُحَرَّمٌ قيل في هُوَ إنه ضمير الأمر، تقديره والأمر محرم عليكم، وإِخْراجُهُمْ في هذا القول بدل من هُوَ، وقيل هُوَ فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، ومُحَرَّمٌ على هذا ابتداء، وإِخْراجُهُمْ خبره، وقيل هو الضمير المقدر في مُحَرَّمٌ قدم وأظهر، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
ثم توعدهم عز وجل. والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا. واختلف ما المراد بالخزي هاهنا فقيل: القصاص فيمن قتل، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو. والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات. وأشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون» بتاء.
175
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ الآية، قرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد: وبما يجري مجراه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا.
وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، والْكِتابَ التوراة، ونصبه على المفعول الثاني ل آتَيْنا، وَقَفَّيْنا مأخوذ من القفا، تقول قفيت فلانا بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع. وهذه الآية مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون: ١٤٤]، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسل» ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم، والْبَيِّناتِ الحجج التي أعطاها الله عيسى، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير، وقيل هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك، وأَيَّدْناهُ معناه قويناه، والأيد القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه». وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدس» بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة «بروح القدس» بواو، وقال ابن عباس رضي الله عنه:
«روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى»، وقال ابن زيد: «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا»، وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة: «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم»، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي ﷺ لحسان بن ثابت: «اهج قريشا وروح القدس معك»، ومرة قال له «وجبريل معك»، وقال الربيع ومجاهد: الْقُدُسِ اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل الْقُدُسِ الطهارة، وقيل الْقُدُسِ البركة.
وكلما ظرف، والعامل فيه اسْتَكْبَرْتُمْ، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه التوبيخ والتقرير، ويتضمن أيضا الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل.
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي تَهْوى ضمير من صلة ما لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: «فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت»، واسْتَكْبَرْتُمْ من الكبر، وَفَرِيقاً مفعول مقدم.
وقرأ جمهور القراء «غلف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمر» و «صفر»، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوات فهي لا تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: «المعنى عليها طابع»، وقالت طائفة:
غلف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله تعالى عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، وبَلْ في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد، وقليلا نعت لمصدر محذوف تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في يُؤْمِنُونَ لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيمانا قليلا، وعلى الذي قبله فوقتا قليلا، وعلى الذي قبله فعددا من الرجال قليلا، وما في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ زائدة مؤكدة، و «قليلا» نصب ب يُؤْمِنُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
الكتاب القرآن، ومُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقا» بالنصب.
177
ويَسْتَفْتِحُونَ معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي ﷺ قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم:
لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به ويَسْتَفْتِحُونَ معناه يستنصرون، وفي الحديث: «كان رسول الله ﷺ يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، «ولعنة الله» : معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب لَمَّا ولَمَّا الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قوله: كَفَرُوا، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريرا للذنب، وتأكيدا له، وقال الزجاج:
لَمَّا الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأنه محذوف، وقال الفراء: جواب لَمَّا الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب لما الثانية كَفَرُوا.
«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في «بئس» «بيس» اتباعا للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح، واختلف النحويون في بِئْسَمَا في هذا الموضع، فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة ببئس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: بيس الذي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، كقولك:
بيس الرجل زيد، و «ما» في هذا القول موصولة، وقال الأخفش: «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلا زيد»، فالتقدير «بيس شيئا أن يكفروا»، واشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ في هذا القول صفة «ما»، وقال الفراء «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا»، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و «ما» إنما تكف أبدا حروفا، وقال الكسائي: «ما»، واشْتَرَوْا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير، وقال الكسائي أيضا: إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم، وأَنْ يَكْفُرُوا في هذا القول بدل من «ما» المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خفض بدلا من الضمير في بِهِ، وأما في القولين الأولين ف أَنْ يَكْفُرُوا ابتداء وخبره فيما قبله، واشْتَرَوْا بمعنى باعوا، يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، وبِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل، وبَغْياً مفعول من أجله، وقيل نصب على المصدر، وأَنْ يُنَزِّلَ نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.
178
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل» بالتخفيف في النون والزاي، ومِنْ فَضْلِهِ يعني من النبوة والرسالة. ومَنْ يَشاءُ يعني به محمدا ﷺ لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب.
ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه، و «باؤوا» معناه: مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، وبِغَضَبٍ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد ﷺ على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
وقال قوم: المراد بقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، ومُهِينٌ مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: اليهود أنهم إذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد ﷺ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنون التوراة وما وراءه. قال قتادة: أي ما بعده، وقال الفراء: أي ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلا فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، ومُصَدِّقاً حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة. [البسيط] :
أنا ابن دارة معروفا بها حسبي وهل لدارة يا للنّاس من عار
ولِما مَعَهُمْ يريد به التوراة.
وقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على فَلِمَ لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمدا ﷺ من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء تَقْتُلُونَ بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله مِنْ قَبْلُ وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ مضمر].
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع.
وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد ﷺ لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وإِنْ كُنْتُمْ شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة: إِنْ نافية بمعنى ما.
179
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم «١»، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل، والضمير في قوله مِنْ بَعْدِهِ عائد على موسى عليه السلام، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة، ويحتمل أن يعود الضمير في بَعْدِهِ على المجيء. وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور.
وقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يعني التوراة والشرع، وبِقُوَّةٍ أي بعزم ونشاط وجد.
وَاسْمَعُوا معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط.
وقالت طائفة من المفسرين: إنهم قالوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا. ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية. وقالت طائفة: ذلك مجاز ولم ينطقوا ب سَمِعْنا وَعَصَيْنا، ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر [الرجز] :
امتلأ الحوض وقال قطني وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [البقرة: ٩١]، وقوله تعالى:
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ التقدير حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم: إن معنى قوله وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء، وقيل لبني إسرائيل:
اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمُ، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن، وقوله تعالى بِكُفْرِهِمْ يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع، وقوله تعالى: قُلْ بِئْسَما الآية أمر لمحمد ﷺ أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [البقرة: ٩١]،
(١) في نسخة: وذلك أعظم لذنبهم في دينهم.
180
و «ما» في موضع رفع والتقدير: بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول سَمِعْنا وَعَصَيْنا، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب، وإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط. وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: ١١٦]، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن، وقال قوم إِنْ هنا نافية بمنزلة «ما» كالتي تقدمت، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: «يأمركم بهو إيمانكم» برفع الهاء.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ الآية أمر لمحمد ﷺ أن يوبخهم، والمعنى:
إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، والدَّارُ اسم كانَتْ، وخالِصَةً خبرها، ويجوز أن يكون نصب خالِصَةً على الحال، وعِنْدَ اللَّهِ خبر كان، ومِنْ دُونِ النَّاسِ: يحتمل أن يراد ب النَّاسِ محمد ﷺ ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من «تمنوا» للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت» بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو. وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمدا ﷺ لأن اليهود قالت: نحن أبناء الله وأحباؤه، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي ﷺ ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه، فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وحرصا منهم على الحياة.
وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بقوله «تمنوا» أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس:
المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب، وقال أيضا هو وغيره: إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي ﷺ وارتفعت بموته. والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، وقالت فرقة: إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي ﷺ أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله.
ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه، وأَبَداً ظرف زمان وإذا كانت «ما» بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول سيبويه، والأخفش يرى الضمير في المصدرية، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.
181
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
«وجد» في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر:
تلفّت نحو الحيّ حتّى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وقال النبي ﷺ في الضب: «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، ألا ترى إلى قول امرئ القيس [الطويل] :
تمتّع من الدنيا فإنك فان
والضمير في أَحَدُهُمْ يعود في هذا القول على اليهود، وقيل إن الكلام تم في قوله حَياةٍ، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وهي المجوس، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عش ألف سنة» فكأن الكلام: ومن المشركين قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وفي هذا القول تشبيه بني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين، وقصد «الألف» بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب.
وقوله تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ: اختلف النحاة في هُوَ، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور، وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل بمزحزح، وقالت فرقة هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور، وأَنْ يُعَمَّرَ بدل من التعمير في هذا القول، وقالت فرقة هُوَ ضمير الأمر والشأن، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر، وقد جوز أبو علي ذلك في بعض مسائله الحلبيات، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد، وقيل ما عاملة حجازية وهُوَ اسمها والخبر في بِمُزَحْزِحِهِ، والزحزحة الإبعاد والتنحية.
وفي قوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وعيد، والجمهور على قراءة «يعملون» بالياء من أسفل، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب «تعملون» بالتاء من فوق، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل.
182
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية. نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال: لحوم الإبل وألبانها، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال: أي ماء علا كان الشبه له، وسألوه عن نومه، فقال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة، فقال: جبريل، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفهم يوما بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمدا نبي؟ قالوا نعم، قال: فلم تهلكون في تكذيبه، قالوا: صاحبه جبريل وهو عدونا، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله، فنزلت هذه الآية لقولهم.
وفي جبريل لغات: «جبريل» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، و «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: «رأيت النبي ﷺ في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك»، وجبريل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم، و «جبرءيل» بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم، «وجبرائل» بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة، و «جبرائيل» بزيادة ياء بعد الهمزة، و «جبراييل» بياءين وبها قرأ الأعمش، و «جبرئل» بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة، وبها قرأ يحيى بن يعمر، و «جبرال» لغة فيه، و «جبرين» بكسر الجيم والراء وياء ونون، قال الطبري: «هي لغة بني أسد» ولم يقرأ بها، و «جبريل» اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه.
وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر» و «ميك» و «سراف» هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل اسم الله تعالى، ويقال فيه إلّ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إلّ.
وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ الضمير في فَإِنَّهُ عائد على الله عز وجل، والضمير في نَزَّلَهُ عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي، وقيل: الضمير في «إنه» عائد على جبريل وفي نَزَّلَهُ على القرآن، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف، وجاءت المخاطبة بالكاف في قَلْبِكَ اتساعا في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي ﷺ بهذه الكاف، وإنما يجيء قوله: فإنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في كلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل:
قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق [الطويل]
183
فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «مالك»، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، ومُصَدِّقاً حال من ضمير القرآن في نَزَّلَهُ و «ما بين يديه» : ما تقدمه من كتب الله تعالى، هُدىً إرشاد، والبشرى: أكثر استعمالها في الخير، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به، ومقصد هذه الآية:
تشريف جبريل ﷺ وذم معاديه.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ الآية وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه، وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفا لهما، وقيل خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، وقرأ نافع «ميكائل» بهمزة دون ياء، وقرأ بها ابن كثير في بعض ما روي عنه، وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضا وحمزة والكسائي، «ميكائيل» بياء بعد الهمزة، وقرأ أبو عمرو وعاصم «ميكال»، ورويت عن ابن كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا، وقرأ ابن محيصن «ميكئل» بهمزة دون ألف، وقرأ الأعمش «ميكاييل» بياءين، وظهر الاسم في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لئلا يشكل عود الضمير، وجاءت العبارة بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم، ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله للمآل.
وروي أن رجلا من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له: أرأيت جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا، فقال له عمر رضي الله عنه: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ إلى آخر الآية، فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الخبر يضعف من جهة معناه.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئت بآية بينة؟ فنزلت هذه الآية. والْفاسِقُونَ هنا الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير: ما يَكْفُرُ بِها أحد إِلَّا الْفاسِقُونَ، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
قال سيبويه: الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال الأخفش: هي زائدة، وقال
184
الكسائي: هي «أو» وفتحت تسهيلا، وقرأها قوم «أو» ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، وكما يقول القائل:
لأضربنك فيقول المجيب: أو يكفي الله.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كله متكلف، واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول سيبويه وقرىء «عهدوا عهدا» وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وعَهْداً مصدر، وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهدا، والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، ولا يُؤْمِنُونَ في هذا التأويل حال من الضمير في أَكْثَرُهُمْ، ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود «نقضه فريق».
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، وما مَعَهُمْ هو التوراة، ومُصَدِّقٌ نعت ل رَسُولٌ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب، ولَمَّا يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها نَبَذَ الذي يجيء، والْكِتابَ الذي أوتوه: التوراة، وكِتابَ اللَّهِ مفعول ب نَبَذَ، والمراد القرآن، لأن التكذيب به نبذ، وقيل المراد التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ، ووَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:
ألم تر أنّي يوم جو سويقة بكيت فنادتني هنيدة ما ليا
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي بظهر فلا يعيى عليّ جوابها
وكَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية، يعني اليهود، قال ابن زيد والسدي: المراد من كان في عهد سليمان، وقال ابن عباس: المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الجميع، وتَتْلُوا قال عطاء: معناه تقرأ من التلاوة، وقال ابن عباس: تَتْلُوا تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون: المعنى ما كانت تتلو، وقرأ الحسن والضحاك: «الشياطون» بالواو.
وقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على عهد ملك سليمان، وقيل المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، وقال الطبري: اتَّبَعُوا بمعنى فضلوا، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على شرعه ونبوته وحاله، والذي تلته الشياطين: قيل إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان، وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليما فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم، وقيل إن سليمان، عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن
185
يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته، وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه، وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله ﷺ لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا.
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة من الله تعالى لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر، والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفرا، ولا يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك: فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ولا يقتل، واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل، وقال مالك: لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطين»، قال بعض الكوفيين: التشديد أحب إليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو، وقال أبو علي: ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان، والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، والسِّحْرَ مفعول ثان ب يُعَلِّمُونَ، وموضع يُعَلِّمُونَ نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.
وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ: ما عطف على السِّحْرَ فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتبعه ويؤمن من تركه، أو على قول مجاهد وغيره: إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل إن ما عطف على ما في قوله: ما تَتْلُوا، وقيل: ما نافية، رد على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملكين» بكسر اللام، وقال ابن أبزى: هما داود وسليمان، وعلى هذا القول أيضا ف ما نافية، وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، ف ما على هذا القول غير نافية، وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال: هما هارُوتَ وَمارُوتَ، فهذا كقول الحسن.
و «بابل» لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟ فقال قوم: هي
186
بالعراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقال قوم: هي بالمغرب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وقال قوم: هي جبل دماوند، وهارُوتَ وَمارُوتَ بدل من الْمَلَكَيْنِ على قول من قال: هما ملكان، ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل هارُوتَ وَمارُوتَ بدلا من الشَّياطِينُ في قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا، وقال هما شيطانان، ويجيء يُعَلِّمُونَ: إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس، ومن قال كانا علجين قال: هارُوتَ وَمارُوتَ بدل من قوله الْمَلَكَيْنِ، وقيل هما بدل من النَّاسَ في قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، وقرأ الزهري هارُوتَ وَمارُوتَ بالرفع، ووجهه البدل من الشَّياطِينُ في قوله تَتْلُوا الشَّياطِينُ أو من الشَّياطِينُ الثاني على قراءة من خفف «لكن» ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره هما هارُوتَ وَمارُوتَ.
وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن عمر رضي الله عنهما، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا له: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.
ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن يُعَلِّمانِ بمعنى يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير [الطويل].
تعلّم رسول الله أنّك مدركي وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد
وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه، وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه، و «لا تكفر» قالت فرقة: بتعلم السحر، وقالت فرقة: باستعماله، وحكى المهدوي أن قولهما: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله، ومِنْ في قوله مِنْ أَحَدٍ زائدة بعد النفي.
187
وقوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ: قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، وقيل هو معطوف على قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، ومنعه الزجاج، وقيل: هو معطوف على موضع وَما يُعَلِّمانِ لأن قوله وَما يُعَلِّمانِ وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج، والضمير في يُعَلِّمانِ هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم، والضمير في مِنْهُما قيل:
هو عائد عليهما، وقيل: على السِّحْرَ وعلى الذي أنزل على الملكين، ويُفَرِّقُونَ معناه فرقة العصمة، وقيل معناه: يؤخّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضا فرقة.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المرء» براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي «المرء» بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس «المرء» بفتح الميم وهمزة، والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق. [الطويل]
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقرأ الجمهور «بضارين به»، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد» فقيل: حذفت النون تخفيفا، وقيل: حذفت للإضافة إلى أَحَدٍ وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه بعلمه وتمكينه، ويَضُرُّهُمْ معناه في الآخرة وَلا يَنْفَعُهُمْ فيها أيضا، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة، والضمير في عَلِمُوا عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة، وقيل: على الشَّياطِينُ، وقيل على الْمَلَكَيْنِ وهما جمع، وقال اشْتَراهُ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله لَمَنِ المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في «بئسما»، وشَرَوْا معناه باعوا، وقد تقدم مثله، والضمير في يُعَلِّمُونَ عائد على بني إسرائيل باتفاق، ومن قال إن الضمير في عَلِمُوا عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون، ومن قال إن الضمير في عَلِمُوا عائد على الشَّياطِينُ أو على الْمَلَكَيْنِ قال: إن أولئك علموا أن لا خلاق
188
لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة، وقال مكي: الضمير في عَلِمُوا لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ للمتعلمين منهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا: موضع «أن» رفع، المعنى لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر، وَلَوْ تقتضي جوابا، فقالت فرقة جوابها لَمَثُوبَةٌ، لأنها مصدر يقع للمضي والاستقبال، وجواب لَوْلا يكون إلا ماضيا أو بمعناه، وقال الأخفش: لا جواب ل لَوْ في هذه الآية مظهرا ولكنه مقدر، أي لو آمنوا لأثيبوا.
وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر أيضا كمشورة ومشورة، ومثوبة رفع بالابتداء وخَيْرٌ خبره والجملة خبر ان، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح، وقال قوم: معناه لرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علما ينفع.
وقرأ جمهور الناس «راعنا» من المراعاة بمعنى فاعلنا أي أرعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على هذا التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: هي لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي ﷺ ليّا بلسانه وطعنا كما كان يقول: اسمع غير مسمع، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحا وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعنا» بالتنوين، وهذه من معنى الجهل، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا»، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي ﷺ كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا من الرعونة.
وانْظُرْنا مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي ﷺ على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعِنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود، وقرأ الأعمش وغيره «أنظرنا» بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.
ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن
لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما، وهو المؤلم، وَاسْمَعُوا معطوف على قُولُوا لا على معمولها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
التقدير ولا من المشركين. وعم الذين كفروا ثم بيّن أجناسهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ليبين في الألف واللام في الَّذِينَ أنها ليست للعهد يراد بها معين، ومعنى الآية أن ما أمرناكم به من أن تعظموا نبيكم خير من الله منحكم إياه، وذلك لا يودّه الكفار. ثم يتناول اللفظ كل خير غير هذا، وأَنْ مع الفعل بتأويل المصدر، ومِنْ زائدة في قول بعضهم. ولما كان ود نزول الخير منتفيا، قام ذلك مقام الجحد الذي يلزم أن يتقدم مِنْ الزائدة على قول سيبويه والخليل. وأما الأخفش فيجيز زيادتها في الواجب، وقال قوم: مِنْ للتبعيض لأنهم يريدون أن لا ينزل على المؤمنين من الخير قليل ولا كثير، ولو زال معنى التبعيض لساغ لقائل أن يقول: نريد أن لا ينزل خير كامل ولا نكره أن ينزل بعض، فإذا نفي ود نزول البعض فذلك أحرى في نزول خير كامل، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا، وقال قوم: الرحمة هي القرآن، وقال قوم: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية.
وقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية، النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، والثاني الإزالة، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩]، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر»، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين، والناسخ حقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا إذ به يقع النسخ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت، بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
والنسخ جائز على الله تعالى عقلا لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ لطروّ علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني. والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكون إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلّوا.
والمنسوخ عند أئمتنا: الحكم الثابت نفسه، لا ما ذهبت إليه المعتزلة، من أنه مثل الحكم الثابت
190
فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية.
والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت قطعا تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا. والنسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي، وردّ بعض المعترضين الأمر خبرا بأن قال: أليس معناه:
«واجب عليكم أن تفعلوا كذا» ؟ فهذا خبر، والجواب أن يقال: إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء.
وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى، وكقوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا [الممتحنة: ١١]، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.
وينسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة. فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله، وفي قوله تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: ١٠]، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي ﷺ لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصا، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت الأمة أنه لا نسخ. ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن.
وقال بعض المتكلمين: «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه»، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح.
191
وقرأ جمهور الناس «ما ننسخ» بفتح النون، من نسخ، وقرأت طائفة «ننسخ»، بضم النون من «أنسخ»، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة، قال أبو علي الفارسي: ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي لتعدية لأن المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محمودا أو بخيلا، قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد خرج قرأة هذه القراءة المعنى على وجهين أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في مِنْها ومِثْلِها عائدين على الضمير في نُنْسِها، والمعنى الآخر أن يكون نَنْسَخْ من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخا، وما شرطية وهي مفعولة ب نَنْسَخْ، ونَنْسَخْ جزم بالشرط.
واختلف القراء في قراءة قوله نُنْسِها، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «ننسها» بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة، وهذه من أنسى المنقول من نسي، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته، وقرأت طائفة «أو ننسها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين، وهذه بمعنى الترك، ذكرها مكي ولم ينسبها، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وهم، وقرأ سعد بن أبي وقاص «أو تنسها» على مخاطبة النبي ﷺ ونون بعدها ساكنة وفتح السين، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، وتلا سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦]، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف: ٢٤]، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضا «أو تنسها» بضم التاء أولا وفتح السين وسكون النون بينهما، وهذه من النسيان، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «ننسّها» بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة، وهذه أيضا من النسيان.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة، وهذه من التأخير، تقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسأ أي أخرتها، وكذلك يقال:
أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولا على مخاطبة النبي ﷺ وإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولا، وقرأ أبي بن كعب «أو ننسك» بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين
192
مكسورة وكاف مخاطبة، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها» مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية.
وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها»، وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان.
والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.
فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان:
أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقا بكم خيرا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضا على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في مِنْها أَوْ مِثْلِها عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصا وإما إشارة فكملناها.
وقال الزجاج: إن القراءة «أو ننسها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي ﷺ ولا نسي قرآنا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: ٨٦]، أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
193
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي ﷺ لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي ﷺ معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها.
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و «من» لابتداء الغاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق هذا القول لقوله تعالى أَوْ مِثْلِها إلا أن يعطف المثل على الضمير في مِنْها دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة: ١٨]، وقال قوم أَمْ هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي ﷺ مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي.
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ.
وقوله تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام العرب الموجود، وقَدِيرٌ اسم فاعل على المبالغة من «قدر» بفتح العين «يقدر» بكسرها. ومن العرب من يقول قدر بكسر العين يقدر بفتحها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في لَكُمْ دال على أن المراد بخطاب النبي
194
صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، و «الولي» فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و «النصير» فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر.
وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ: قالت فرقة: أَمْ رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
وقالت فرقة أَمْ استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب.
وقالت فرقة: أَمْ هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره: وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى بل إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده.
قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.
وقال أبو العالية: إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل. وتلا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
. [النساء: ١١٠].
قال القاضي أبو محمد: فتجيء إضافة الرسول ﷺ إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي ﷺ تفجير عيون وغير ذلك، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي ﷺ أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهبا، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، وكَما سُئِلَ مُوسى عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سيل» بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية: «الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، وضَلَّ أخطأ الطريق، و «السواء» من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥].
195
وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي ﷺ على ما ذكر ابن إسحاق وغيره [الكامل] :
يا ويح أنصار النبيّ ورهطه بعد المغيّب في سواء الملحد
وقال أبو عبيد: هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه، والسَّبِيلِ عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها.
وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، كَثِيرٌ مرتفع ب وَدَّ، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى ب كَثِيرٌ واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى يَرُدُّونَكُمْ يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، والْكِتابِ هنا التوراة، ولَوْ هنا بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب، وقيل يتقدر جوابها في وَدَّ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ف «ود» دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخرا عن لَوْ، وكُفَّاراً مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالا، وحَسَداً مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ: فقيل يتعلق ب وَدَّ لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله حَسَداً فالوقف على قوله كُفَّاراً، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧]، ويَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩]، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، وقيل يتعلق بقوله يَرُدُّونَكُمْ، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في راعِنا [البقرة: ١٠٤] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
والْحَقُّ: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلا وبعده وقوعا، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار»، والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [التوبة: ٢٩] إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة: ٢٩]، وقيل: بقوله «اقتلوا المشركين»، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
196
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأمر من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه الآية بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
قال القاضي أبو محمد: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٠ الى ١١٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
قالت فرقة من الفقهاء: إن قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عموم، وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وأما الزكاة فمجملة لا غير.
قال الطبري: إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود راعِنا [البقرة: ١٠٤]، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنين بما يحطه، والخير المقدم منقض لأنه فعل، فمعنى تَجِدُوهُ تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد.
وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ معناه قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فجمع قولهم، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف، وهود جمع هائد، مثل عائد وعود، ومعناه التائب الراجع، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا، وقال الفراء: أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس.
197
وقرأ أبي بن كعب «إلا من كان يهوديا»، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية، وقد قطعوا قبل بقوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: ٩٤، الجمعة: ٦]، وأمر محمد ﷺ بدعائهم إلى إظهار البرهان، وقيل: إن الهاء في هاتُوا أصلية من هاتا يهاتي، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل: هي عوض من همزة آتى، وقيل: ها تنبيه، وألزمت همزة آتى الحذف، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين، قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه، وقول اليهود لَنْ نفي حسنت بعده بَلى، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وقيل: هي «بل» زيدت عليها الياء لتزيلها على حد النسق الذي في «بل»، وأَسْلَمَ معناه استسلم وخضع ودان، ومنه قول زيد ابن عمرو بن نفيل: [المتقارب].
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس وفيه يظهر العز والذل، ولذلك يقال وجه الأمر أي معظمه وأشرفه، قال الأعشى: [السريع] :
وأول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر
ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد، وَهُوَ مُحْسِنٌ جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في «له» على لفظ مَنْ، وكذلك في قوله أَجْرُهُ، وعاد في عَلَيْهِمْ على المعنى، وكذلك في يَحْزَنُونَ، وقرأ ابن محيصن «فلا خوف» دون تنوين في الفاء المرفوعة، فقيل: ذلك تخفيف، وقيل:
المراد فلا الخوف فحذفت الألف واللام، والخوف هو لما يتوقع، والحزن هو لما قد وقع.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر.
وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي ﷺ فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ تنبيه لأمة محمد ﷺ على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب، وكان وقافا عند كتاب الله، والْكِتابَ الذي يتلونه قيل: التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس، وقيل: التوراة لأن النصارى تمتثلها، فالألف واللام للعهد.
198
اختلف من المراد بقوله لا يَعْلَمُونَ، فقال الجمهور: عنى بذلك كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم، وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقال قوم: المراد اليهود، وكأنه أعيد قولهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأخبر تعالى بأنه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء، أي شيء حق، ويعاقب من كان على غير شيء، وقال الزجاج: المعنى يريهم عيانا من يدخل الجنة ومن يدخل النار ويَوْمَ الْقِيامَةِ سمي بقيام الناس من القبور، إذ ذلك مبد لجميع مبدأ في اليوم وفي الاستمرار بعده، وقوله كانُوا بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم، بل في الدنيا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
وقوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ الآية، مَنْ رفع بالابتداء، وأَظْلَمُ خبره، والمعنى لا أحد أظلم.
واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم، فقال ابن عباس وغيره: المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلي ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار، وقال قتادة والسدي: المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه السلام، وقيل: المعنّي بختنصر، وقال ابن زيد: المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله ﷺ عن المسجد الحرام، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة، والمشهور مسجد بكسر الجيم، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها، وأَنْ يُذْكَرَ في موضع نصب: إما على تقدير حذف «من» وتسلط الفعل، وإما على البدل من المساجد، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل فيه أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله، ويجوز أن تكون أَنْ في موضع خفض على إسقاط حرف الجر، ذكره سيبويه، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خرابا، إذ هو داع إليه، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضربا، قاله قتادة والسدي، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي ﷺ أن لا يحج مشرك، وخائِفِينَ نصب على الحال، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.
ومن جعل الآية في النصارى قال: الخزي قتل الحربي وجزية الذمي، وقيل: الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة وغير ذلك، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا، وخِزْيٌ رفع بالابتداء وخبره في المجرور.
والْمَشْرِقُ موضع الشروق، وَالْمَغْرِبُ موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات
199
والمخلوقات، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك، و «أينما» شرط، وتُوَلُّوا جزم به، والجواب في قوله فَثَمَّ، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية، تقول وليت عن كذا وإلى كذا، وقرأ الحسن «تولوا» بفتح التاء واللام، وثمّ مبنية على الفتح، وهي في موضع نصب على الظرف، ووَجْهُ اللَّهِ معناه الذي وجهنا إليه، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا.
واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافا إلى الله تعالى في مواضع من القرآن، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا، وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى، وضعف أبو المعالي هذا القول، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال، وقال أبو منصور في المقنع: يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته.
واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال قتادة: أباح الله لنبيه ﷺ بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا، فاختار النبي ﷺ بيت المقدس حينئذ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة، وقال مجاهد والضحاك: معناه إشارة إلى الكعبة، أي حيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس، وقال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي ﷺ إلى بيت القدس، وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم؟ فنزلت وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية، وقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته، وقال النخعي: الآية عامة أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال: «كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة وأعلموا علامات، فلما أصبحوا رأوا أنهم قد أخطؤوها، فعرفوا رسول الله ﷺ بذلك، فنزلت هذه الآية»، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي ﷺ لم يكن مع القوم في السفر، وذلك خطأ، وقال قتادة أيضا: نزلت هذه الآية في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي ﷺ المسلمين إلى الصلاة عليه، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلّ إلى القبلة قط؟، فنزلت هذه الآية، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغه التوجه إلى القبلة، وقال ابن جبير: نزلت الآية في الدعاء لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠]، قال المسلمون: إلى أين ندعو، فنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وقال المهدوي: وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ موجود حيث توليتم.
200
وقال أيضا: وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله ﷺ عن البيت، وواسِعٌ معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها، وقيل واسِعٌ معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر، عَلِيمٌ بالنيات التي هي ملاك العمل، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا» بواو تربط الجملة بالجملة، أو تعطف على سَعى [البقرة: ١١٤]، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا» بغير واو، وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وحذف منه الواو يتجه من وجهين، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم، واختلف على من يعود الضمير في قالُوا، فقيل: على النصارى، لأنهم قالوا المسيح ابن الله.
قال القاضي أبو محمد: وذكرهم أشبه بسياق الآية، وقيل: على اليهود، لأنهم قالوا عزير ابن الله، وقيل: على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله، وسُبْحانَهُ مصدر معناه تنزيها له وتبرئة مما قالوا، وما رفع بالابتداء، والخبر في المجرور، أو في الاستقرار المقدر، أي كل ذلك له ملك، والذي قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً داخل في جملة ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات.
والقنوت في اللغة الطاعة، والقنوت طول القيام في عبادة، ومنه القنوت في الصلاة، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظله وهو كاره.
وبَدِيعُ مصروف من مبدع كبصير من مبصر، ومثله قول عمرو بن معديكرب: [الوافر] :
أمن ريحانة الداعي السميع يريد المسمع، والمبدع المخترع المنشئ، ومنه أصحاب البدع، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان: «نعمت البدعة هذه».
وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا، وقَضى، معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل
201
وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.
والأمر واحد الأمور، وليس هنا بمصدر أمر يأمر، ويكون رفع على الاستئناف، قال سيبويه: «معناه فهو يكون»، قال غيره: «يكون» عطف على «يقول»، واختاره الطبري وقرره، وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية.
وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب، وضعفه أبو علي، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر: «هذا لحن».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيهما معنى الشرط، تقول أكرم زيدا فيكرمك، والمعنى إن تكرم زيدا يكرمك، وفي هذه الآية لا يتجه هذا، لأنه يجيء تقديره: إن تكن يكن، ولا معنى لهذا، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان فالأول أكرم زيدا فيكرمك والثاني أكرم زيدا فتسود.
وتلخيص المعتقد في هذه الآية، أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر وقوع المعلومات، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل، ومن جعل من المفسرين قَضى بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها كُنْ، إذ التأمل يقتضي ذلك، على نحو قول الشاعر [أبو النجم العجلي] :[الرجز] وقالت الأقراب للبطن الحق قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يجري مع قول المعتزلة، والمعنى الذي تقتضيه عبارة كُنْ هو قديم قائم بالذات، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الآية، قال الربيع والسدي: هم كفار العرب.
قال القاضي أبو محمد: وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي ﷺ نحو هذا، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع نبوة، وقال مجاهد: هم النصارى لأنهم المذكورون في الآية أولا، ورجحه الطبري، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد رسول الله ﷺ من اليهود، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله، وقيل: الإشارة بقوله لا يَعْلَمُونَ إلى جميع هذه الوظائف، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها، ويكون الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ولَوْلا تحضيض بمعنى هلا، كما قال الأشهب بن رميلة «١» :[الطويل]
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكميّ المقنعا
وليست هذه لَوْلا التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها
(١) نسبة البيت للأشهب خطأ والصحيح أنه لجرير.
202
إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، وعلى بابها في المنع للوجوب يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر، والآية هنا العلامة الدالة، وقد تقدم القول في لفظها، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اليهود والنصارى في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار العرب، وهم الأمم السالفة في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار العرب والنصارى واليهود، وهم اليهود في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى، والكاف الأولى من كَذلِكَ نعت لمصدر مقدر، ومِثْلَ نعت لمصدر محذوف، ويصح أن يعمل فيه، قالَ: وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تشّابهت» بشد الشين، قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض.
وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك بذكر الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة، وقوله تعالى بَيَّنَّا قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى، وهي أن الكلام مدح لهم، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده، ومثال ذلك تيقن المقادة ثبوت الصانع، ومنه قول مالك- رحمه الله- في «الموطأ» في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه والشيء في نفسه على غير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
المعنى بَشِيراً لمن آمن، وَنَذِيراً لمن كفر، وقرأ نافع وحده «ولا تسأل» بالجزم على النهي، وفي ذلك معنيان: أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب، كما تقول: فلان لا تسأل عنه، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر، والمعنى الثاني روي فيه أن النبي ﷺ قال: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت وَلا تُسْئَلُ.
وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي ﷺ قال: «ليت شعري أي أبوي أحدث موتا»، فنزلت.
203
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه، وقيل وهو ابن شهر، وقيل ابن شهرين، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم، وقرأ باقي السبعة «ولا تسأل» بضم التاء واللام، وقرأ قوم «ولا تسأل» بفتح التاء وضم اللام، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان: أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم، أو لا يسأل هو عنهم، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال: وغير مسؤول أو غير سائل عنهم، عطفا على قوله بَشِيراً وَنَذِيراً، وقرأ أبي بن كعب «وما تسأل»، وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل»، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما، والْجَحِيمِ إحدى طبقات النار.
ويقال: رضي يرضى رضى ورضا ورضوانا، وحكي رضاء ممدودا، وقال: مِلَّتَهُمْ وهما مختلفتان بمعنى لن ترضى اليهود حتى تتبع ملتهم ولن ترضى النصارى حتى تتبع ملتهم، فجمعهم إيجازا، لأن ذلك مفهوم، والملة الطريقة، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه.
وروي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله ﷺ الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم، وأطلعه على سر خداعهم.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.
ثم قال تعالى لنبيه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الآية، فهذا شرط خوطب به النبي ﷺ وأمته معه داخلة فيه، و «أهواء» جمع هوى، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على إفراد الملة لقيل هواهم، والولي الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة، ونَصِيرٍ بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر.
وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الآية، الَّذِينَ رفع بالابتداء، وآتَيْناهُمُ الْكِتابَ صلة، وقال قتادة: المراد ب الَّذِينَ في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والْكِتابَ على هذا التأويل القرآن، وقال ابن زيد: المراد من آمن بمحمد ﷺ من بني إسرائيل، والْكِتابَ على هذا التأويل التوراة، وآتَيْناهُمُ معناه أعطيناهم، وقال قوم: هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة، فأثنى الله عليهم، ويحتمل أن يراد ب الَّذِينَ العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب، ويكون الْكِتابَ اسم الجنس، ويَتْلُونَهُ معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي، وقيل يَتْلُونَهُ يقرؤونه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال، ويَتْلُونَهُ إذا أريد ب الَّذِينَ الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون يَتْلُونَهُ في موضع الحال والخبر أُولئِكَ، وإذا أريد ب الَّذِينَ العموم لم يكن الخبر إلا أُولئِكَ، ويَتْلُونَهُ حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة، لأنه لو كان الخبر في يَتْلُونَهُ لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تِلاوَتِهِ، وحَقَّ مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا يجوز إضافته إلى واحد
204
معرف، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة، ونسيج وحده، والضمير في بِهِ عائد على الْكِتابَ، وقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الْهُدى الذي تقدم، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول الآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأن هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الذي أعطاه وبعثه به، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره، والضمير في يَكْفُرْ بِهِ يحتمل من العود ما ذكر في الأول، وفَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ابتداء وعماد وخبر، أو ابتداء وابتداء وخبر، والثاني وخبره خبر الأول، والخسران نقصان الحظ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٤]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
قرأ الحسن وغيره «نعمتي» بتسكين الياء تخفيفا، لأن أصلها التحريك كتحريك الضمائر لك وبك، ثم حذفها الحسن للالتقاء، وفي السبعة من يحرك الياء، ومنهم من يسكنها، وإن قدرنا فضيلة بني إسرائيل مخصوصة في كثرة الأنبياء وغير ذلك فالعالمون عموم مطلق، وإن قدرنا تفضيلهم على الإطلاق فالعالمون عالمو زمانهم، لأن أمة محمد ﷺ أفضل منهم بالنص، وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله: يُنْصَرُونَ ومعنى لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ أي ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي بعد أن أخذ العقاب حقه، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء.
والعامل في إِذِ فعل، تقديره: واذكر إذ، وابْتَلى معناه اختبر، وإِبْراهِيمَ يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام»، وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب مبتليا معلوم، فإنما يهتم السامع بمن ابْتَلى، وكون ضمير المفعول متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام.
واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس: هي ثلاثون سهما، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملا إلا إبراهيم صلوات الله عليه، عشرة منها في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ
[التوبة: ١١٢]، وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: ٣٥]، وعشرة في سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: ١]، وقال ابن عباس أيضا وقتادة: الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس، وقيل بدل فرق الراس: إعفاء اللحية، وخمس في الجسد تقليم الظفر،
205
وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، وقال ابن عباس أيضا: هي عشرة خصال، ست في البدن وأربع في الحج: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة، وقال الحسن بن أبي الحسن: هي الخلال الست التي امتحن بها، الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، وقيل بدل الهجرة: الذبح، وقالت طائفة: هي مناسك الحج خاصة، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر، فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
قال القاضي أبو محمد: وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم.
وقال الراوي: فأوحى الله إليه إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم.
وقال مجاهد وغيره: إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم: تجعلني للناس إماما، قال الله: نعم، قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة، قال الله: نعم، قال إبراهيم وأمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال الله: نعم، قال إبراهيم:
تجعل هذا البلد آمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات، قال الله: نعم.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم، وقد طول المفسرون في هذا، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها، وإنما سميت هذه الخصال كلمات، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم ﷺ لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧].
والإمام القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وهو هنا اسم مفرد، وقيل في غير هذا الموضع: هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام.
وجعل الله تعالى إبراهيم إماما لأهل طاعته، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه، وأعلم الله تعالى أنه كان حنيفا، وقول إبراهيم عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل، وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ، وهي أفعال تتقارب معانيها، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى.
وقوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي، أي قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة، وقال السدي:
206
النبوءة، وقال قتادة: الأمان من عذاب الله، وقال الربيع والضحاك: العهد الدين: دين الله تعالى.
وقال ابن عباس: معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه، ونصب الظَّالِمِينَ لأن العهد ينال كما ينال، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون» بالرفع، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٦]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
قوله وَإِذْ عطف على إِذْ المتقدمة والْبَيْتَ الكعبة، ومَثابَةً يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك، قال الأخفش: دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، وقيل: هو على تأنيث البقعة، كما يقال:
مقام ومقامة، وقرأ الأعمش «مثابات» على الجمع، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة «١» :[الطويل] :
مثاب لأفناء القبائل كلّها تخبّ إليها اليعملات الطلائح
وأَمْناً معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخذوا» بكسر الخاء على جهة الأمر، فقال أنس بن مالك وغيره:
معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، في الحجاب، وفي عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: ٥]، وقلت يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.
قال القاضي أبو محمد: فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال المهدوي: وقيل ذلك عطف على قوله اذْكُرُوا فهذا أمر لبني إسرائيل، وقال الربيع بن أنس: ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه، فهي من الكلمات، كأنه قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] وَاتَّخِذُوا، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر الذي يتضمنه قوله: جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً، لأن المعنى: توبوا، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا»
(١) جاء في لسان العرب أن البيت لأبي طالب.
207
بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وذلك معطوف على قوله وَإِذْ جَعَلْنَا، كأنه قال: وإذ اتخذوا، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ، فهي جملة واحدة، وعلى تقدير إذ فهي جملتان.
واختلف في مَقامِ إِبْراهِيمَ، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما، وخرجه البخاري: إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه.
وقال الربيع بن أنس: هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، وقال فريق من العلماء: المقام المسجد الحرام، وقال عطاء بن أبي رباح: المقام عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: مقامه مواقف الحج كلها، وقال مجاهد:
مقامه الحرم كله.
ومُصَلًّى موضع صلاة، هذا على قول من قال: المقام الحجر، ومن قال بغيره قال مُصَلًّى مدعى، على أصل الصلاة.
وقوله تعالى: وَعَهِدْنا العهد في اللغة على أقسام، هذا منها الوصية بمعنى الأمر، وأَنْ في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض، قال سيبويه: إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب، وطَهِّرا قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجيء مثل قوله: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [التوبة: ١٠٨] وقال مجاهد: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، وقيل: من الفرث والدم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار، وقيل: من الشرك، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفا للبيت، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك، ولِلطَّائِفِينَ ظاهره أهل الطواف، وقاله عطاء وغيره، وقال ابن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، والْعاكِفِينَ قال ابن جبير: هم أهل البلد المقيمون، وقال عطاء: هم المجاورون بمكة، وقال ابن عباس: المصلون، وقال غيره: المعتكفون.
قال القاضي أبو محمد: والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه، كما قال الشاعر [العجاج] :
[الرجز] عكف النبيط يلعبون الفنزجا فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم، والرُّكَّعِ السُّجُودِ المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الآية، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد
208
العيش، واجْعَلْ لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، وآمِناً معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلاث التي تحل بالبلاد.
وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره، ونبتت فيها أنواع الثمرات.
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعا وأنزلها بوجّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف.
واختلف في تحريم مكة متى كان؟ فقالت فرقة: جعلها الله حراما يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة: حرمها إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والأول قاله النبي ﷺ في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضا النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها حرام»، ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه، ومِنَ بدل من قوله أَهْلَهُ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه.
وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم، وقرؤوا «فأمتّعه» بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء، «ثم اضطرّه» بقطع الألف وضم الراء، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر، فإنه قرأ «فأمتعه» بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء، «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» بقطع الألف، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه» كما قرأ ابن عامر «ثم اضطره» بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه» «ثم نضطره»، ومِنَ شرط والجواب في فَأُمَتِّعُهُ، وموضع مِنَ رفع على الابتداء والخبر، ويصح أن يكون موضعها نصبا على تقدير وأرزق من كفر، فلا تكون شرطا.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقرؤوا «فأمتعه» بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره» بوصل الألف وفتح الراء، وقرئت بالكسر، ويجوز فيها الضم، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره» بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطره» بضم الطاء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين.
وقَلِيلًا معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال: متاعا قليلا، وإما
209
لزمان، كأنه قال: وقتا قليلا أو زمنا قليلا، والْمَصِيرُ مفعل كموضع من صار يصير، و «بيس» أصلها بئس، وقد تقدمت في «بئسما»، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلا، لأنه فان منقض، وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله، قال الشاعر [سليمان بن عبد الملك] :[الطويل]
وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق
ومنه تمتيع الزوجات، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
المعنى: واذكر إذ، والْقَواعِدَ جمع قاعدة وهي الأساس، وقال الفراء: «هي الجدر».
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تجوز، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد، وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه، هذا قول بعض النحاة، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب.
والْبَيْتِ هنا الكعبة بإجماع، واختلف بعض رواة القصص: فقيل إن آدم أمر ببنائه، فبناه، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده، وقيل: إن آدم هبط به من الجنة، وقيل: إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة، وقيل: كالياقوتة، وقيل: إن البيت كان ربوة حمراء، وقيل بيضاء، ومن تحته دحيت الأرض، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده.
والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، وجائز قدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر، وقال عبيد بن عمير: رفعها إبراهيم وإسماعيل معا، وقال ابن عباس: رفعها إبراهيم، وإسماعيل يناوله الحجارة، وقال علي بن أبي طالب: رفعها إبراهيم، وإسماعيل طفل صغير.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه، لأن الآية والآثار ترده، وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد، قال الماوردي:
إِسْماعِيلُ أصله اسمع يا إيل.
210
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وتقدير الكلام: يقولان ربنا تقبل، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان»، وقالت فرقة: التقدير وإسماعيل يقول ربنا، وحذف لدلالة الظاهر عليه، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلا في ذلك الوقت، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما، أي السَّمِيعُ لدعائنا والْعَلِيمُ بنياتنا.
وقولهما اجْعَلْنا بمعنى صيرنا تتعدى إلى مفعولين، ومُسْلِمَيْنِ هو المفعول الثاني، وكذلك كانا، فإنما أرادا التثبيت والدوام، والإسلام في هذا الموضع الإيمان والأعمال جميعا، وقرأ ابن عباس وعوف: «مسلمين» على الجمع، ومِنْ في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا للتبعيض، وخص من الذرية بعضا لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين، والأمة الجماعة، وحكى الطبري أنه أراد بذلك العرب خاصة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهو ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي، «أرنا» بكسر الراء، وقرأ ابن كثير «أرنا» بإسكان الراء، وقرأ أبو عمرو بين الإسكان والكسر اختلاسا، والأصل أرئينا حذفت الياء للجزم ونقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت تخفيفا، واستثقل بعد من سكن الراء الكسرة كما استثقلت في فخذ، وهنا من الإجحاف ما ليس في فخذ، وقالت طائفة: أَرِنا من رؤية البصر، وقالت طائفة: من رؤية القلب، وهو الأصح، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى.
قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر: [الطويل]
أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقال قتادة: المناسك معالم الحج، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة بعث الله إليه جبريل فحج به، وقال ابن جريج: المناسك المذابح أي مواضع الذبح، وقال فريق من العلماء: المناسك العبادات كلها، ومنه الناسك أي العابد، وفي قراءة ابن مسعود «وأرهم مناسكهم» كأنه يريد الذرية، والتوبة الرجوع، وعرفه شرعا من الشر إلى الخير وتوبة الله على العبد رجوعه به وهدايته له.
واختلف في معنى طلبهم التوبة وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، وقيل:
أرادا من بعدهما من الذرية كما تقول برني فلان وأكرمني وأنت تريد في ولدك وذريتك، وقيل وهو الأحسن عندي: إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري: إنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن تكون أحسن مما هي.
وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي ﷺ «إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة» إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد
211
علومه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية.
وقوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية، هذا هو الذي أراد النبي ﷺ بقوله «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى»، ومعنى مِنْهُمْ أن يعرفوه ويتحققوا فضله ويشفق عليهم ويحرص، ويَتْلُوا في موضع نصب نعت لرسول أي تاليا عليهم، ويصح أن يكون في موضع الحال، والآيات آيات القرآن، والْكِتابَ القرآن، ونسب التعليم إلى النبي ﷺ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طرق النظر بما يلقيه الله إليه ويوحيه، وقال قتادة: الْحِكْمَةَ السنة وبيان النبي ﷺ الشرائع، وروى ابن وهب عن مالك: أن الحكمة الفقه في الدين والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، ويُزَكِّيهِمْ معناه يطهرهم وينميهم بالخير، ومعنى الزكاة لا يخرج عن التطهير أو التنمية، والْعَزِيزُ الذي يغلب ويتم مراده ولا يرد، والْحَكِيمُ المصيب مواقع الفعل المحكم لها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
مَنْ استفهام في موضع رفع بالابتداء، ويَرْغَبُ خبره، والمعنى يزهد فيها ويربأ بنفسه عنها، والملة الشريعة والطريقة، وسَفِهَ من السفه الذي معناه الرقة والخفة، واختلف في نصب نَفْسَهُ، فقال الزجاج: سَفِهَ بمعنى جهل وعداه بالمعنى، وقال غيره: سَفِهَ بمعنى أهلك، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة، وقال الفراء نصبها على التمييز.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في مَنْ، فكأن الكلام:
إلا من سفه نفسا، وقال البصريون: لا يجوز التمييز مع هذا التعريف، وإنما النصب على تقدير حذف «في»، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن، وحكى مكي أن التقدير إِلَّا مَنْ سَفِهَ قوله نَفْسَهُ على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياسا على النعت والمنعوت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول متحامل، و «اصطفى» «افتعل» من الصفوة معناه تخير الأصفى، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلا، وفِي الْآخِرَةِ متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح، ولا يصلح تعلقه ب الصَّالِحِينَ لأن الصلة لا تتقدم الموصول، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي، وقال بعضهم: الألف واللام هنا للتعريف
ويستقيم الكلام، وقيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ، فالكلام على حذف مضاف.
وقوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، العامل في إِذْ اصْطَفَيْناهُ، وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. والإسلام هنا على أتم وجوهه، وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى»، وقرأ الباقون وَوَصَّى، والمعنى واحد، إلا أن وصى يقتضي التكثير، والضمير في بِها عائد على كلمته التي هي أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيل: على الملة المتقدمة، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوب» بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى، واختلف في إعراب رفعه، فقال قوم من النحاة: التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضا، فهو عطف على إِبْراهِيمُ، وقال بعضهم: هو مقطوع منفرد بقوله يا بَنِيَّ، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني، واصْطَفى هنا معناه تخير صفوة الأديان، والألف واللام في الدِّينَ للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه، وكسرت إِنَّ بعد وَصَّى لأنها بمعنى القول، ولذلك سقطت «إن» التي تقتضيها «وصى» في قوله «أن يا بني»، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني» بثبوت أن.
وقوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى؟ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائبا لازما، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قولهم: لا أرينك هاهنا، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه، فإنما المقصود: اذهب وزل عن هاهنا، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية، وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ابتداء وخبر في موضع الحال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية والإسلام، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم؟، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون، وأَمْ تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وحكى الطبري أن أَمْ يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، ومنه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [يونس: ٣٨، هود: ١٣، ٣٥، السجدة: ٣، الأحقاف: ٨]، وقال قوم: أَمْ بمعنى بل، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به، ولكنكم كفرتم جحدا ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عنادا، والأظهر أنها التي
213
بمعنى بل وألف الاستفهام معا، و «شهداء» جمع شاهد أي حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم، والعامل في إِذْ: شُهَداءَ، وإِذْ قالَ بدل من إِذْ الأولى، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم، وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه، ومِنْ بَعْدِي أي من بعد موتي، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيّ وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ الآية، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمّ.
وقد قال النبي ﷺ في العباس: «ردوا علي أبي، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود».
وقال عنه في موطن آخر: «هذا بقية آبائي»، ومنه قوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» على القول الشهير في أن إسحاق هو الذبيح.
وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك»، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده، وقال بعضهم: هو جمع سلامة، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين. قال الشاعر: [زياد بن واصل السلمي] :[المتقارب] :
فلمّا تبيّنّ أصواتنا بكين وفدّيننا بالأبينا
وقال ابن زيد: يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق، وإِلهاً بدل من إِلهَكَ، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية، وقيل إِلهاً حال، وهذا قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية، نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ابتداء وخبر، أي كذلك كنا نحن ونكون، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل نَعْبُدُ، والتأويل الأول أمدح.
وقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ في موضع رفع نعت لأمة، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض، ويعني بالأمة الأنبياء المذكورون، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية، ذلك لا ينفعكم، لأن كل نفس لَها ما كَسَبَتْ من خير وشر، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شرا، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فتنحلوهم دينا.
وقولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا نظير قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١]، ونصب مِلَّةَ بإضمار فعل، أي بل نتبع ملة، وقيل نصبت على الإغراء، وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة «بل ملة» بالرفع والتقدير بل الهدى ملة، وحَنِيفاً حال، وقيل نصب بإضمار فعل، لأن الحال تعلق من المضاف إليه، والحنف الميل، ومنه الأحنف لمن مالت إحدى قدميه إلى الأخرى، والحنيف في الدين الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق، وقال قوم: الحنف الاستقامة، وسمي المعوج القدمين أحنف تفاؤلا كما قيل سليم ومفازة، ويجيء الحنيف في الدين المستقيم على جميع طاعات الله عز وجل، وقد
214
خصص بعض المفسرين، فقال قوم: الحنيف الحاج، وقال آخرون: المختتن، وهذه أجزاء الحنف.
ونفى عنه الإشراك فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم عزير ابن الله، والنصرانية لقولهم المسيح ابن الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٨]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، علمهم الله الإيمان، وما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني به القرآن، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه، وإِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ يجمعان براهيم وسماعيل، هذا هو اختيار سيبويه والخليل، وقال قوم «براهم»، وقال الكوفيون: «براهمة وسماعلة»، وقال المبرد: «أباره وأسامع»، وأجاز ثعلب «براه» كما يقال في التصغير «بريه»، وَالْأَسْباطِ هم ولد يعقوب، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط، وما أُوتِيَ مُوسى هو التوراة وآياته، و «ما أوتي عيسى» هو الإنجيل وآياته، فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالايمان بالله، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع، ولا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون، وفي الكلام حذف تقديره: بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر لفهم السامع، والضمير في لَهُ عائد على اسم الله عز وجل.
وقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ الآية، خطاب لمحمد ﷺ وأمته.
والمعنى إن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، هذا قول بعض المتأولين، وقيل الباء زائدة مؤكدة، والتقدير آمنوا مثل، والضمير في بِهِ عائد كالضمير في لَهُ، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به، ويظهر عود الضمير على ما، وقيل «مثل» زائدة كما هي في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، وقالت فرقة: هذا من مجاز الكلام، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به، هذا قول ابن عباس، وقد حكاه عنه الطبري قراءة، ثم أسند إليه أنه قال: «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فإنه لا مثل لله تعالى، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول،
وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس فالله أعلم.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا، يعني به اليهود والنصارى، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق، وقيل: شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير.
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والسَّمِيعُ لقول كل قائل، الْعَلِيمُ بما يجب أن ينفذ في عباده.
وصِبْغَةَ اللَّهِ شريعته وسنته وفطرته، قال كثير من المفسرين: وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك: وقيل: سمي الدين صِبْغَةَ استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره، ونصب الصبغة على الإغراء، وقيل بدل من ملة، وقيل نصب على المصدر المؤكد لأن ما قبله من قوله فَقَدِ اهْتَدَوْا هو في معنى يلبسون أو يتجللون صبغة الله، وقيل: التقدير ونحن له مسلمون صبغة الله، فهي متصلة بالآية المتقدمة، وقال الطبري من قرأ برفع «ملة» قرأ برفع «صبغة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد ذكرتها عن الأعرج وابن أبي عبلة. ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ابتداء وخبر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٩ الى ١٤١]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
معنى الآية: قُلْ يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم أديانهم وكتبهم: أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ؟ أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم، والرب تعالى واحد وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين؟، ثم وبخوا بقوله وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم؟.
وقرأ ابن محيصن «أتحاجونا» بإدغام النون في النون، وخف الجمع بين ساكنين لأن الأول حرف مد ولين، فالمد كالحركة، ومن هذا الباب دابة وشابة، وفِي اللَّهِ معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه.
وقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عطف على ألف الاستفهام المتقدمة، وهذه القراءة بالتاء من فوق قرأها
ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم «أم يقولون» بالياء من أسفل، وأَمْ على هذه القراءة مقطوعة، ذكره الطبري، وحكي عن بعض النحاة أنها ليست بمقطوعة لأنك إذا قلت أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى أيكون هذا أم هذا؟.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا المثال غير جيد، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران، وإنما تتجه معادلة أَمْ للألف على الحكم المعنوي كأن معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي أيحاجون يا محمد أم يقولون، وقيل إن أَمْ في هذا الموضع غير معادلة على القراءتين، وحجة ذلك اختلاف معنى الآيتين وإنهما ليسا قسمين، بل المحاجة موجودة في دعواهم الأنبياء عليهم السلام، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة، لأنهم إن قالوا إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية كذبوا، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم، وإن قالوا لم يكونوا على اليهودية والنصرانية قيل لهم فهلموا إلى دينهم إذ تقرون بالحق.
وقوله تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ تقرير على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم، ومَنْ أَظْلَمُ لفظه الاستفهام والمعنى لا أحد أظلم منهم، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة.
واختلف في الشهادة هنا ما هي؟ فقال مجاهد والحسن والربيع: هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم، وقال قتادة وابن زيد: هي ما عندهم من الأمر بتصديق محمد ﷺ واتباعه، والأول أشبه بسياق معنى الآية، واستودعهم الله تعالى هذه الشهادة ولذلك قال: مِنَ اللَّهِ، ف مَنْ على هذا متعلقة ب عِنْدَهُ، كأن المعنى شهادة تحصلت له من الله، ويحتمل أن تتعلق مَنْ ب كَتَمَ، أي كتمها من الله.
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وعيد وإعلام أنه لا يترك أمرهم سدى، وأن أعمالهم تحصل ويجازون عليها، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي التي لا معلم بها.
وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ الآية، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
217
أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة: ما وَلَّاهُمْ؟ والسُّفَهاءُ هم الخفاف الأحكام والعقول، والسفه الخفة والهلهلة، ثوب سفيه أي غير متقن النسج، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مرّ الرياح النواسم
أي استخفتها، وخص بقوله مِنَ النَّاسِ، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات، والمراد ب السُّفَهاءُ هنا جميع من قال ما وَلَّاهُمْ، وقالها فرق.
واختلف في تعيينهم، فقال ابن عباس: «قالها الأحبار منهم»، وذلك أنهم جاؤوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها ونؤمن بك، يريدون فتنته، وقال السدي: قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء، وذلك أنهم قالوا: اشتاق الرجل إلى وطنه، وقالت طائفة: قالها كفار قريش، لأنهم قالوا: ما ولاه عن قبلته؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله، ووَلَّاهُمْ معناه صرفهم، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء، فهي كالقعدة والإزرة، وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله سَيَقُولُ دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم.
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إقامة حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، ويهدي من يشاء، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والصراط: الطريق.
واختلف العلماء هل كانت صلاة رسول الله ﷺ إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو؟، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة، وقال الجمهور: بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو، وقال الربيع: خيّر رسول الله ﷺ في النواحي فاختار بيت المقدس، ليستألف بها أهل الكتاب، ومن قال كان بوحي غير متلو قال: كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره.
واختلف كم صلى إلى بيت المقدس، ففي البخاري: ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وروي عن أنس بن مالك: تسعة أو عشرة أشهر، وروي عن غيره: ثلاثة عشر شهرا، وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال: أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ففرضت الخمس، وأمّ فيها جبريل عليه السلام، وكانت أول صلاة الظهر، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس، ثم هاجر النبي ﷺ إلى المدينة في ربيع الأول، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين، وقيل إلى جمادى، وقيل إلى نصف شعبان.
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله يَهْدِي مَنْ
218
يَشاءُ
، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة وسطا، وأُمَّةً مفعول ثان، ووَسَطاً نعت، والأمة القرون من الناس، ووَسَطاً معناه عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عبارة المفسرين، والوسط الخيار والأعلى من الشيء، كما تقول وسط القوم، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها، والأمير وسط الجيش، وكقوله تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: ٢٨]، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح، وقد جاء متمكنا في بعض الروايات في بيت الفرزدق:
فجاءت بملجوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطها قد تفلقا
برفع الطاء والضمير عائد على الصلاءة، وروي بفتح الطاء والضمير عائد على الجائية، فإذا قلت حفرت وسط الدار أو وسط الدار فالمعنى مختلف.
قال بعض العلماء: أمة محمد ﷺ لم تغل في الدين كما فعلت اليهود، ولا افترت كالنصارى، فهي متوسطة، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها» أي خيارها، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه، وأما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة وشُهَداءَ جمع شاهد في هذا الموضع.
واختلف المفسرون في المراد ب النَّاسِ في هذا الموضع، فقالت فرقة: هم جميع الجنس، وأمة محمد ﷺ تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وذلك أن نوحا تناكره أمته في التبليغ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك، فيشهدون، فيقول الله لهم: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟، فيقولون: أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به، فيقول الله تعالى: صدقتم، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه، وقال مجاهد: معنى الآية تشهدون لمحمد ﷺ أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس.
وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله ﷺ حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير، فقال: وجبت، ثم مر بأخرى، فأثني عليها بشرّ، فقال:
وجبت، يعني الجنة والنار، فسئل عن ذلك، فقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»، وروي في بعض الطرق أنه قرأ لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان، وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها الآية، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم: القبلة هنا بيت المقدس. والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء، فإن صليت إليه اتبعناك، فأمره الله بالصلاة إليه امتحانا لهم فلم يؤمنوا، وقال
219
بعض من ذكر: القبلة بيت المقدس، والمعنى: وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقال ابن عباس: القبلة في الآية الكعبة، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: ١١٠] بمعنى أنتم، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة، وروي في ذلك أن رسول الله ﷺ لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية، وقال ابن جريج: بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام، ومعنى قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أي ليعلم رسولي والمؤمنون به، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول: فتح عمر العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل، ووجه آخر:
وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، فأراد بقوله لِنَعْلَمَ ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب، فليس معنى لِنَعْلَمَ لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا، وحكى ابن فورك أن معنى لِنَعْلَمَ لنثيب، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه، وحكى ابن فورك أيضا أن معنى لِنَعْلَمَ لنميز، وذكره الطبري عن ابن عباس، وحكى الطبري أيضا أن معنى لِنَعْلَمَ لنرى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله متقارب، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن، وقرأ الزهري ليعلم على ما لم يسم فاعله.
ويَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك، والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته، فلذلك شبه المرتد في الدين به، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً الآية، الضمير في كانَتْ راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة، وقال ابن زيد: «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس»، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية، و «كبيرة» هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور، وإِنْ هي المخففة من الثقيلة، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية، وإذا ظهر التثقيل في إِنْ فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم، وقال الفراء: إِنْ بمعنى ما واللام بمنزلة إلا.
ولما حولت القبلة كان من قول اليهود: يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة، فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، وخاطب الحاضرين والمراد من
220
حضر ومن مات، لأن الحاضر يغلب، كما تقول العرب: ألم نقتلكم في موطن كذا؟، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره، وقرأ الضحاك لِيُضِيعَ بفتح الضاد وشد الياء، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم: الإيمان هنا الصلاة. وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال وكان ثابتا في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي، ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر، وأيضا فسميت إيمانا إذ هي من شعب الإيمان، والرأفة أعلى منازل الرحمة، وقرأ قوم لَرَؤُفٌ على وزن فعل، ومنه قول الوليد بن عقبة: [الطالبان] :[الوافر]
وشرّ الطالبين فلا تكنه بقاتل عمّه الرّؤوف الرحيم
تقول العرب: رؤف ورؤوف ورئف كحذر ورأف وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع لرووف بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ساكنة كانت أو متحركة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
المقصد تقلب البصر، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب، تقول:
بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان، ومنه قول الشاعر: [الطويل] رجعت بما أبغي ووجهي بمائه وأيضا فالوجه يتقلب بتقلب البصر، وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله ﷺ يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة، وقيل كان يقلب ليؤذن له في الدعاء، ومعنى التقلب نحو السماء أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة كالمطر والأنوار والوحي فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم، وتَرْضاها معناه تحبها وتقر بها عينك.
وكان رسول الله ﷺ يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس لوجوه ثلاثة رويت، فقال مجاهد: لقول اليهود ما علم محمد دينه حتى اتبعنا، وقال ابن عباس: وليصيب قبلة إبراهيم عليه السلام، وقال الربيع والسدي: وليستألف العرب لمحبتها في الكعبة، وقال عبد الله بن عمر: إنما وجه
221
رسول الله ﷺ وأمته حيال ميزاب الكعبة، وقال ابن عباس وغيره: بل وجه إلى البيت كله.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهنالك قبلة أهل الأندلس بلا ريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الآية، أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام، وقيل: نزل ذلك على النبي ﷺ وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع رسول الله ﷺ في هذه الصلاة، وقيل: إنما نزلت هذه الآية في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر، وشَطْرَ نصب على الظرف ويشبه المفعول به لوقوع الفعل عليه ومعناه نحو وتلقاء، قال ابن أحمر: [البسيط]
تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
وقال غيره: [الوافر]
أقول لأمّ زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط: [البسيط]
وقد أظلّكم من شطر ثغركم هول له ظلم تغشاكم قطعا
وقال غيره [خفاف بن عمير] :[الوافر]
ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرّسالة شطر عمرو
وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا أمر للأمة ناسخ، وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود: فول وجهك تلقاء المسجد الحرام، وقال محمد بن طلحة: إن فيه: فولوا وجوهكم قبله، وقرأ ابن أبي عبلة:
«فولوا وجوهكم تلقاءه»، والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: اليهود والنصارى، وقال السدي: المراد اليهود.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر، والمعنى أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم إمام الأمم، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعا لمحمد ﷺ الذي يجدونه في كتبهم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون» بتاء على المخاطبة، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد، وقرأ الباقون بالياء من تحت.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الآية، أعلم الله تعالى نبيه حين قالت له اليهود: راجع بيت المقدس ونؤمن بك مخادعة منهم أنهم لا يتبعون له قبلة، يعني جملتهم لأن البعض قد اتبع كعبد الله بن سلام وغيره وأنهم لا يدينون بدينه، أي فلا تصغ إليهم، والآية هنا: العلامة، وجاء جواب لَئِنْ كجواب «لو» وهي ضدها في أن «لو» تطلب المضي والوقوع و «إن» تطلب الاستقبال لأنهما جميعا يترتب قبلهما معنى القسم، فالجواب إنما هو للقسم، لا أن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه.
222
وقوله تعالى جلت قدرته وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لفظ خبر يتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك، وقوله تعالى: وَما بَعْضُهُمْ الآية، قال السدي وابن زيد: المعنى ليست اليهود متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم، وقال غيرهما: معنى الآية: وما من أسلم معك منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم بمتبع قبلة من أسلم.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر في الأبعاض، وقبلة النصارى مشرق الشمس وقبلة اليهود بيت المقدس.
وقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ الآية، خطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي ﷺ ظلما متوقعا فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي ﷺ وقطعنا أن ذلك لا يكون منه فإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي ﷺ تعظيما للأمر.
والأهواء جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، على أنهم قد قالوا: ندى وأندية. قال الشاعر: [مرة بن محكان] :[البسيط]
في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا
وهوى النفس إنما يستعمل في الأكثر: فيما لا خير فيه، وقد يستعمل في الخير مقيدا به، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسرى بدر: فهوي رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، و «إذا» حرف معناه أن تقرر ما ذكر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٩]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء، والخبر يَعْرِفُونَهُ، ويصح أن يكون في موضع خفض نعتا للظالمين ويَعْرِفُونَهُ في موضع الحال.
وخص الأبناء دون الأنفس وهي ألصق، لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه، والمراد هنا معرفة الوجه وميزه لا معرفة حقيقة النسب، ولعبد الله بن سلام رضي الله عنه في هذا الموضع كلام معترض يأتي موضعه إن شاء الله، والضمير في يَعْرِفُونَهُ عائد على الحق في القبلة والتحول بأمر الله إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والربيع، وقال قتادة أيضا
223
ومجاهد وغيرهما: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون صدقه ونبوته، والفريق الجماعة، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير يَعْرِفُونَهُ، فعم الحق مبالغة في ذمهم، وهُمْ يَعْلَمُونَ ظاهر في صحة الكفر عنادا.
وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، الْحَقُّ رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه الْحَقُّ بالنصب، على أن العامل فيه يَعْلَمُونَ، ويصح نصبه على تقدير: الزم الحق.
وقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، الخطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، وامترى في الشيء إذا شك فيه، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا، وأنشد الطبري- شاهدا على أن الممترين الشاكون- قول الأعشى: [المتقارب]
تدر على اسؤق الممترين ركضا إذا ما السراب ارجحن
ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
الآية، الوجهة: فعلة من المواجهة كالقبلة، وقوله:
وَعائد على اللفظ المفرد في «كل»، والمراد به الجماعات.
المعنى: لكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه، قاله الربيع وعطاء وابن عباس، وقرأ ابن عباس وابن عامر وحده من السبعة هو مولاها، وقالت طائفة: الضمير في وَ/ ١٤٨
عائد على الله تعالى، والمعنى: الله موليها إياهم، وقالت فرقة: المعنى في الآية أن للكل دينا وشرعا وهو دين الله وملة محمد وهو موليها إياهم اتبعها من اتبعها وتركها من تركها، وقال قتادة: المراد بالآية أن الصلاة إلى الشام ثم الصلاة إلى الكعبة لكل واحدة منهما وجهة الله موليها إياهم، وحكى الطبري أن قوما قرؤوا لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
بإضافة كل إلى وجهة، وخطأها الطبري.
قال القاضي أبو محمد: وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع، وقدم قوله: كُلٍّ وِجْهَةٌ
على الأمر في قوله:
سْتَبِقُوا
للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه وسلمت الواو في وجهة ولم تجر كعدة وزنة لأن جْهَةٌ
ظرف وتلك مصادر فسلمت للفرق، وأيضا فليكمل بناء الهيئة كالجلسة، قال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم، ومال قوم إلى أنه اسم ليس بمصدر.
قال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة.
قال القاضي أبو محمد: وقد يقال الجهة في الظرف، وحكى الطبري عن منصور أنه قال: نحن نقرؤها «ولكلّ جعلنا قبلة يرضونها».
224
ثم أمر تعالى عباده باستباق الخيرات والبدار إلى سبيل النجاة، ثم وعظهم بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيدا وتحذيرا.
وقوله: أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
يعني به البعث من القبور، ثم اتصف الله تعالى بالقدرة على كل شيء مقدور عليه لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإتيان بهم.
وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، معناه حيث كنت وأنّى توجهت من مشارق الأرض ومغاربها، ثم تكررت هذه الآية تأكيدا من الله تعالى، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا فأكد الأمر ليرى الناس التهمم به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ هو فرض استقبال القبلة على المصلين، وفرض المصلي ما دام يرى الكعبة أن يصادفها باستقباله، فإذا غابت عنه ففرضه الاجتهاد في مصادفتها، فإن اجتهد ثم كشف الغيب أنه أخطأ فلا شيء عليه عند كثير من العلماء، ورأى مالك رحمه الله أن يعيد في الوقت إحرازا لفضيلة القبلة.
وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الآية، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة، وقرأ الباقون لِئَلَّا بالهمز، والمعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك لِئَلَّا، وقوله: لِلنَّاسِ عموم في اليهود والعرب وغيرهم، وقيل: المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب.
قال القاضي أبو محمد: وقوله مِنْهُمْ يرد هذا التأويل، وقالت فرقة إِلَّا الَّذِينَ استثناء متصل، وهذا مع عموم لفظة الناس، والمعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم ما وَلَّاهُمْ استهزاء، وفي قولهم: تحير محمد في دينه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة، وقالت طائفة إِلَّا الَّذِينَ استثناء منقطع وهذا مع كون الناس اليهود فقط، وقد ذكرنا ضعف هذا القول، والمعنى: لكن الذين ظلموا يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد: «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح لكلام، فيكون الَّذِينَ ابتداء، أو على معنى الإغراء بهم فيكون الَّذِينَ نصبا بفعل مقدر.
وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الآية، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره، وقوله وَلِأُتِمَّ عطف على قوله لِئَلَّا، وقيل: هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه. ولَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترجّ في حق البشر.
والكاف في قوله كَما رد على قوله لِأُتِمَّ أي إتماما كما، وهذا أحسن الأقوال، أي لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ إجابة لدعوته في قوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية، وقيل: الكاف من كَما رد على تَهْتَدُونَ، أي اهتداء كما، وقيل، هو في موضع نصب على الحال، وقيل: هو في معنى التأخير متعلق بقوله فَاذْكُرُونِي، وهذه الآية خطاب لأمة محمد ﷺ وهو المعنيّ بقوله رَسُولًا مِنْكُمْ، ويَتْلُوا في موضع نصب على الصفة، والآيات: القرآن، ويُزَكِّيكُمْ يطهركم من الكفر وينميكم بالطاعة، والْكِتابَ القرآن، والْحِكْمَةَ ما يتلقى عنه عليه السلام من سنة وفقه في دين، وما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ قصص من سلف وقصص ما يأتي من الغيوب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٧]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
قال سعيد بن جبير: معنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة.
قال القاضي أبو محمد: أي اذكروني عند كل أموركم فيحملكم خوفي على الطاعة فأذكركم حينئذ بالثواب، وقال الربيع والسدي: المعنى اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه.
وفي الحديث: إن الله تعالى يقول: «ابن آدم اذكرني في الرخاء أذكرك في الشدة»، وفي حديث آخر: إن الله تعالى يقول: «وإذ ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» وروي أن الكافر إذا ذكر الله ذكره الله باللعنة والخلود في النار، وكذلك العصاة يأخذون بحظ من هذا المعنى، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «قل للعاصين لا يذكروني».
واشْكُرُوا لِي واشكروني بمعنى واحد، ولِي أشهر وأفصح مع الشكر، ومعناه نعمي وأياديّ، وكذلك إذا قلت شكرتك فالمعنى شكرت صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر ذكر اليد وذكر مسديها معا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، وتَكْفُرُونِ أي نعمي
226
وأياديّ، وانحذفت نون الجماعة للجزم، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياء التي بعدها تخفيفا لأنها رأس آية، ولو كان نهيا عن الكفر ضد الإيمان لكان: ولا تكفروا، بغير النون.
ويا حرف نداء و «أيّ» منادى و «ها» تنبيه، وتجلب «أي» فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا ما، فلو لم تجلب «أي» لاجتمع تعريفان، وقال قوم: «الصبر» : الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، وتقدم معنى الاستعانة بالصبر والصلاة، واختصاره أنهما رادعان عن المعاصي.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معناه بمعونته وإنجاده، فهو على حذف مضاف، كما قال رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت: «اهجهم وروح القدس معك»، وكما قال: «ارموا وأنا مع بني فلان»، الحديث.
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ الآية، سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد مات فلان ومات فلان، فكره الله أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم، فنزلت هذه الآية، وأيضا:
فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، وتخبر عن حقيقة حالهم، فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم، ويبين ذلك من حديث أم حارثة في السير، والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم.
وروي عن النبي ﷺ في ذلك أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة، وروي أنهم في قبة خضراء، وروي أنهم في قناديل من ذهب، إلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوال لطوائف أو للجميع في أوقات متغايرة، وجمهور العلماء على أنهم في الجنة، ويؤيده قول النبي ﷺ لأم حارثة: إنه في الفردوس، وقال مجاهد: هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها، وأَمْواتٌ رفع بإضمار الابتداء والتقدير هم أموات، ولا يجوز إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب كما يصح في قولك قلت كلاما وحجة.
وقوله وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي قبل أن نشعركم.
وقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ الآية، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة، ثم وعد الصابرين أجرا، وقال عطاء والجمهور: إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والأول أظهر، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ معناه لنمتحننكم، وحركت الواو لالتقاء الساكنين، وقيل: الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر، والْخَوْفِ يعني من الأعداء في الحروب، والْجُوعِ الجدب والسنة، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعا، ونقص الأموال: بالجوائح والمصائب،
227
وَالْأَنْفُسِ: بالموت والقتل، وَالثَّمَراتِ: بالعاهات ونزع البركة، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول إيجازا ولذلك وحد، وقرأ الضحاك بأشياء على الجمع، والمعنى قريب بعضه من بعض، وقال بعض العلماء: إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد.
ثم وصف تعالى الصابرين الذين بشرهم بقوله الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الآية، وجعل هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة، وذلك توحيد الله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له، وقال سعيد بن جبير: لم يعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفا على يوسف.
وروي أن مصباح رسول الله ﷺ انطفأ ذات ليلة فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟، فقال: «نعم كل ما آذى المؤمن فهي مصيبة».
وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الآية، نعم من الله على الصابرين المسترجعين، وصلوات الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا، وهي من أعظم أجزاء الصلاة منه تعالى، وشهد لهم بالاهتداء.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية: «نعم العدلان ونعم العلاوة» أراد بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الاهتداء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: جبيلان بمكة، والصَّفا جمع صفاة، وقيل: هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة، قال الراجز: [الرجز] مواقع الطّير على الصّفى وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، والْمَرْوَةَ واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة «فذكيتها بمروة»، ومنه قيل الأمين: «اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة»، وقد قيل في المرو: إنها الصلاب.
قال الشاعر: [الوافر]
228
وتولّى الأرض خفّا ذابلا فإذا ما صادف المرو رضخ
والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال المرو أكثر، وقد يقال في الصليب، وتأمل قول أبي ذؤيب: [الكامل]
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع
وجبيل الصَّفا بمكة صليب، وجبيل الْمَرْوَةَ إلى اللين ماهق، فبذلك سميا، قال قوم: ذكر الصَّفا لأن آدم وقف عليه، ووقفت حواء على المروة فانثت لذلك.
وقال الشعبي: «كان على الصفا صنم يدعى إسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة»، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ معناه من معالمه ومواضع عبادته، وهي جمع شعيرة أو شعارة، وقال مجاهد: ذلك راجع إلى القول، أي مما أشعركم الله بفضله، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب، والشعار مأخوذ من الشعر، ومن هذه اللفظة هو الشاعر، وحَجَّ معناه قصد وتكرر، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا
ومنه قول الآخر: [البسيط] يحج مأمومة في قعرها لجف واعْتَمَرَ زار وتكرر مأخوذ من عمرت الموضع، وال جُناحَ الإثم والميل عن الحق والطاعة، ومن اللفظة الجناح لأنه في شق، ومنه قيل للخبا جناح لتمايله وكونه كذي أجنحة، ومنه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: ٦١]، ويَطَّوَّفَ أصله يتطوف سكنت التاء وأدغمت في الطاء.
وقرأ أبو السمال «أن يطاف» وأصله يطتوف تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فجاء يطتاف أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول، كما جاء في مدكر، ومن لم يجز ذلك قال قلبت التاء طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف.
وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب أنهم قرؤوا «أن لا يتطوف»، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب «أن لا يطوف»، وقيل: «أن لا يطوف» بضم الطاء وسكون الواو.
وقوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما.
وقوله فَلا جُناحَ ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء، لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب، واختلف في كيفية ذلك فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية
229
فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالا لتلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية، وروي عن الشعبي أن العرب التي كانت تطوف هنالك كانت تعتقد ذلك السعي إجلالا لإساف ونائلة، وكان الساعي يتمسح بإساف فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين.
واختلف العلماء في السعى بين الصفا والمروة فمذهب مالك والشافعي أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة، ومذهب الثوري وأصحاب الرأي أن الدم يجزىء تاركه وإن عاد فحسن، فهو عندهم ندب، وروي عن أبي حنيفة: إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، وقال عطاء ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره، واحتج عطاء بما في مصحف ابن مسعود «أن لا يطوف بهما» وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها في قولها لعروة حين قال لها «أرأيت قول الله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ فما نرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما» قالت: «يا عروة كلا لو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وأيضا فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف وتكون «لا» زائدة صلة في الكلام، كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢]، وكقول الشاعر: [البسيط]
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطّيبان أبو بكر ولا عمر
أي وعمر وكقول الآخر: [الرجز] وما ألوم البيض أن لا تسخرا ومذهب مالك وأصحابه في العمرة أنها سنة إلا ابن حبيب فإنه قال بوجوبها، وقرأ قوم من السبعة وغيرهم «ومن يطوع» بالياء من تحت على الاستقبال والشرط، والجواب في قوله فَإِنَّ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «تطوع» على بابه في المضي، ف مِنْ على هذه القراءة بمعنى الذي، ودخلت الفاء في قوله فَإِنَّ للإبهام الذي في مِنْ، حكاه مكي، وقال أبو علي: يحتمل «تطوع» أن يكون في موضع جزم ومِنْ شرطية، ويحتمل أن تكون مِنْ بمعنى الذي والفعل صلة لا موضع له من الإعراب، والفاء مؤذنة أن الثاني وجب لوجوب الأول، ومن قال بوجوب السعي قال: معنى تَطَوَّعَ أي زاد برا بعد الواجب، فجعله عاما في الأعمال، وقال بعضهم: معناه من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة، ومن لم يوجب السعي قال: المعنى من تطوع بالسعي بينهما، وفي قراءة ابن مسعود «فمن تطوع بخير»، ومعنى شاكِرٌ أي يبذل الثواب والجزاء، عَلِيمٌ بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل بر ولا غيره عمل.
230
وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الآية، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري: «وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي ﷺ عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت، وتتناول الآية بعد كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه.
وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله «لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا»، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال «حفظت عن رسول الله ﷺ وعاءين: أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم».
وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله: «لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه»، ومن روى في كلام عثمان «لولا أنه في كتاب الله» فالمعنى غير هذا.
والْبَيِّناتِ وَالْهُدى: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير، وقرأ طلحة بن صرف «من بعد ما بينه» على الإفراد، وفِي الْكِتابِ يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد ﷺ ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية، وقد تقدم معنى اللعنة.
واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع: الملائكة والمؤمنون، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام، وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.
قال القاضي أبو محمد: وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤]، وقال البراء بن عازب اللَّاعِنُونَ كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس، وذلك أن النبي ﷺ قال: «إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع»، وقال ابن مسعود: المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود».
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال الثلاثة لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر، ثم استثنى الله تعالى التائبين وقد تقدم معنى التوبة، وأَصْلَحُوا أي في أعمالهم وأقوالهم، وبَيَّنُوا قال من فسر الآية على العموم: معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال: المعنى بينوا أمر محمد ﷺ فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى، وقد تقدم معنى توبة الله على عبده وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة.
قوله جلت قدرته:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٤]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
231
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، محكمة في الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهم لا يلعنون أنفسهم، فقال قتادة والربيع: المراد ب النَّاسِ المؤمنون خاصة، وقال أبو العالية: معنى ذلك في الآخرة، وذلك أن الكفرة يلعنون أنفسهم يوم القيامة، وقالت فرقة: معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والملائكة والناس أجمعون» بالرفع على تقدير أولئك يلعنهم الله، واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب، فلذلك قال خالِدِينَ فِيها، والضمير عائد على اللعنة، وقيل على النار وإن كان لم يجر لها ذكر، لثبوتها في المعنى.
ثم اعلم تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية، ويُنْظَرُونَ معناه يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر، نحو قوله تعالى وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: ٧٧]، والأول أظهر، لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذا في الشعر.
وقوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية، إعلام بالوحدانية، وواحِدٌ في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند، وقال أبو المعالي: هو نفي التبعيض والانقسام، وقال عطاء: لما نزلت هذه الآية بالمدينة قال كفار قريش بمكة: ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟ وقال سعيد بن المسيب: قالوا: إن كان هذا يا محمد فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، فقيل لهم: ذلك لكم، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم، فأشفق رسول الله ﷺ وقال: دعني أدعهم يوما بيوم، فنزل عند ذلك قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، الآية، ومعنى فِي خَلْقِ السَّماواتِ في اختراعها وإنشائها، وقيل: المعنى أن في خلقه أي هيئة السموات والأرض، واخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ معناه أن هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما خلفة، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: ٦٢]، وكما قال زهير: [الطويل]
بها العين والأرآم يمسين خلفة... وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم
وقال الآخر: [المديد]
ولها بالماطرون إذا... أكل النّمل الذي جمعا
خلفة حتّى إذا ارتبعت... سكنت من جلّق بيعا
ويحتمل أيضا الاختلاف في هذه الآية أن يراد به اختلاف الأوصاف، واللَّيْلِ جمع ليلة وتجمع
232
ليالي، وزيدت فيها الياء كما زيدت في كراهية وفراهية، والنَّهارِ يجمع نهرا وأنهرة، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم «إنما هو بياض النهار وسواد الليل»، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال: [الطويل]
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس قال: وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقول النبي ﷺ هو الحكم، والْفُلْكِ السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وليست الحركات تلك بأعيانها، بل كأنه بني الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم فلكان، والفلك المفرد مذكر، قال الله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: ١١٩].
و «ما ينفع الناس» هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج، والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها، فلذلك خص ذكر الانتفاع إذ قد تجري بما يضر، وما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وبَثَّ معناه فرق وبسط، ودَابَّةٍ تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب، وهذا مردود، وقال الأعشى: [الطويل] دبيب قطا البطحاء في كلّ منهل وقال علقمة بن عبدة: [الطويل] صواعقها لطيرهنّ دبيب وتَصْرِيفِ الرِّياحِ إرسالها عقيما ومقحة وصرا ونصرا وهلاكا، ومنه إرسالها جنوبا وشمالا وغير ذلك، والرِّياحِ جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: ٢٢]، وهذا أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث:
«كان رسول الله ﷺ إذا هبت الريح يقول: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح وهو معنى «نشرا»، وأفردت مع الفلك لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواو، يقال ريح وأرواح، ولا يقال أرياح، وإنما قيل رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها، وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره ولحن في ذلك، وقال له أبو حاتم: إن الأرياح لا تجوز، فقال: أما تسمع قولهم رياح؟، فقال أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت ورجع، وأما القراء السبعة فاختلفوا فقرأ نافع الرِّياحِ في اثني عشر موضعا: هنا
233
وفي الأعراف يُرْسِلُ الرِّياحَ [الآية: ٥٧]، وفي إبراهيم اشتدت به الرياح [الآية: ٨]، وفي الحجر الرِّياحَ لَواقِحَ [الآية: ٢٢]، وفي الكهف تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وفي الفرقان أَرْسَلَ الرِّياحَ [الآية: ٢٢]، وفي النمل وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ [الآية: ٦٣]، وفي الروم [الآيتان: ٤٦، ٤٨] في موضعين، وفي فاطر [الآية: ٩] وفي الجاثية [الآية: ٥] وفي حم عسق يسكن الرياح [الآية: ٣٣]، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد: في إبراهيم وفي حم عسق، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع، وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع: هنا وفي الحجر وفي الكهف وفي الروم الحرف الأول وفي الجاثية وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وباقي ما في القرآن بالإفراد، وقرأ حمزة بالجمع في موضعين: في الفرقان وفي الروم الحرف الأول وأفرد سائر ما في القرآن، وقرأ الكسائي كحمزة وزاد عليه في الحجر الرِّياحَ لَواقِحَ [الآية: ٢٢]، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام، والسَّحابِ جمع سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما قالوا حبا لأنه يحبو، قاله أبو علي الفارسي، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر، فهذه آيات أن الصانع موجود. والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحدا لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
ذكر الله تعالى الوحدانية ثم الآيات الدالة على الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا، ثم ذكر في هذه الآية الجاحدين الضالين معجبا من سوء ضلالهم مع الآيات، لأن المعنى أن في هذه الأمور لآيات بينة، ومن الناس مع ذلك البيان من يتخذ، وخرج يَتَّخِذُ موحدا على لفظ مِنَ والمعنى جمعه، ومِنْ دُونِ لفظ يعطي غيبة ما تضاف إليه دُونِ عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دُونِ بسوى أو بغير لا يطرد، والند النظير والمقاوم والموازي كان ضدا أو خلافا أو مثلا، إذا قاوم من جهة فهو منها ند، وقال مجاهد وقتادة: المراد بالأنداد الأوثان، وجاء ضميرها في يُحِبُّونَهُمْ ضمير من يعقل لما أنزلت بالعبادة منزلة من يعقل، وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون يطيعونهم في معاصي الله تعالى، ويُحِبُّونَهُمْ في موضع نصب نعت للأنداد، أو على الحال من المضمر في يَتَّخِذُ، أو يكون في موضع رفع نعت ل مِنَ وهذا على أن تكون مِنَ نكرة والكاف من كَحُبِّ في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، و «حب» مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ وهو على التقدير مضاف إلى
234
الفاعل المضمر، تقديره كحبكم الله أو كحبهم الله حسبما قدر كل وجه منها فرقة، ومعنى كحبهم أي يسوون بين محبة الله ومحبة الأوثان.
ثم أخبر أن المؤمنين أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لإخلاصهم وتيقنهم الحق.
وقوله تعالى: ولو ترى الذين ظلموا قرأ نافع وابن عامر «ترى» بالتاء من فوق، و «أن» بفتح الألف، و «أن» الأخرى كذلك عطف على الأولى، وتقدير ذلك: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى، وهو العامل في «أن»، وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا، وقد كان النبي ﷺ علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا، وتقدير ثالث: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم، فاللام مضمرة قبل «أن»، فهي مفعول من أجله، والجواب محذوف مقدر بعد ذلك، وقد حذف جواب لَوْ مبالغة، لأنك تدع السامع يسمو به تخيله، ولو شرحت له لوطنت نفسه إلى ما شرحت، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة وأبو جعفر ترى بالتاء من فوق وكسر الهمزة من «إن»، وتأويل ذلك: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لاستعظمت ما حل بهم، ثم ابتدأ الخبر بقوله «إن القوة لله»، وتأويل آخر: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله جميعا لاستعظمت حالهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن كثير «يرى» بالياء من أسفل، وفتح الألف من «أن»، تأويله: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة إذ يرون العذاب لعلموا أن القوة لله جميعا، وتأويل آخر روي عن المبرد والأخفش: ولو يرى بمعنى يعلم الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا لاستعظموا ما حل بهم، ف «يرى» عامل في «أن» وسدت مسد المفعولين.
وقال أبو علي: «الرؤية في هذه الآية رؤية البصر»، والتقدير في قراءة الياء: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا، وحذف جواب لَوْ للمبالغة، ويعمل في «أن» الفعل الظاهر وهو أرجح من أن يكون العامل فيها مقدرا، ودخلت إِذْ وهي لما مضى في أثناء هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه، كما يقع الماضي موقع المستقبل في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الأعراف: ٥٠]، وأَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١]، ومنه قول الأشتر النخعي: [الكامل]
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس
وقرأت طائفة «يرى» بالياء من أسفل وكسر الألف من «إن»، وذلك إما على حذف الجواب وابتداء الخبر، وإما على تقدير لقالوا إن القوة لله جميعا، وقرأ ابن عامر وحده «يرون» بضم الياء والباقون بفتحها.
وثبتت بنص هذه الآية القوة لله بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، وقالت
235
طائفة: الَّذِينَ اتُّبِعُوا: كل من عبد من دون الله، وقال قتادة: هم الشياطين المضلون، وقال الربيع وعطاء: هم رؤساؤهم.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يعم هذا كله، وإِذْ يحتمل أن تكون متعلقة ب شَدِيدُ الْعَذابِ، ويحتمل أن يكون العامل فيها: اذكر، والَّذِينَ اتُّبِعُوا بفتح الباء هم العبدة لغير الله، والضالون المقلدون لرؤسائهم أو للشياطين، وتبريرهم هو بأن قالوا إنّا لم نضل هؤلاء بل كفروا بإرادتهم، وتعلق العقاب على المتبعين بكفرهم ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على المضلين، وقرأ مجاهد بتقديم الفعل المسند إلى المتبعين للرؤساء وتأخير المسند إلى المتبعين.
والسبب في اللغة: الحبل الرابط الموصل، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين شيئين، وقال ابن عباس: الْأَسْبابُ هنا الأرحام، وقال مجاهد: هي العهود، وقيل: المودات، وقيل: المنازل التي كانت لهم في الدنيا، وقال ابن زيد والسدي: هي الأعمال، إذ أعمال المؤمنين كالسبب في تنعيمهم فتقطعت بالظالمين أعمالهم.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الآية، المعنى وقال الأتباع الذين تبرئ منهم: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم، والكرة: العودة إلى حال قد كانت، ومنه قول جرير: [الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مجالا
والمنيح هنا: أحد الأغفال من سهام الميسر، وذلك أنه إذا خرج من الربابة رد لفوره لأنه لا فرض فيه ولا حكم عنه، والكاف من قوله كَما في موضع نصب على النعت إما لمصدر أو لحال تقديرها متبرئين كما، والكاف من قوله كَذلِكَ يُرِيهِمُ قيل: هي في موضع رفع على خبر ابتداء تقديره الأمر كذلك، وقيل: هي كاف تشبيه مجردة، والإشارة بذلك إلى حالهم وقت تمنيهم الكرة.
والرؤية في الآية هي من رؤية البصر، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب، وأَعْمالَهُمْ قال الربيع وابن زيد المعنى: الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار، وقال ابن مسعود والسدي المعنى:
الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها، وحَسَراتٍ حال على أن تكون الرؤية بصرية، ومفعول على أن تكون قلبية، والحسرة أعلى درجات الندامة والهم بما فات، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر، وقيل هي من حسر إذا كشف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
236
الخطاب عام و «ما» بمعنى الذي، وحَلالًا حال من الضمير العائد على «ما»، وقال مكي:
نعت لمفعول محذوف تقديره شيئا حلالا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يبعد، وكذلك مقصد الكلام لا يعطي أن يكون حَلالًا مفعولا ب كُلُوا وتأمل، وطَيِّباً نعت، ويصح أن يكون طَيِّباً حالا من الضمير في كُلُوا تقديره مستطيبين، والطيب عند مالك: الحلال، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المستلذ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث، وخُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي، فالمعنى النهي عن اتباع الشيطان وسلوك سبله وطرائقه، قال ابن عباس: خطواته أعماله، قال غيره: آثاره، قال مجاهد: خطاياه، قال أبو مجلز: هي النذور والمعاصي، قال الحسن: نزلت فيما سنوه من البحيرة والسائبة ونحوه، قال النقاش: نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب.
وقرأ ابن عامر والكسائي «خطوات» بضم الخاء والطاء، ورويت عن عاصم وابن كثير بخلاف، وقرأ الباقون بسكون الطاء، فإما أرادوا ضم الخاء والطاء وخففوها إذ هو الباب في جمع فعلة كغرفة وغرفات، وإما أنهم تركوها في الجمع على سكونها في المفرد، وقرأ أبو السمال «خطوات» بفتح الخاء والطاء وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعمش وسلام «خطؤات» بضم الخاء والطاء وهمزة على الواو، وذهب بهذه القراءة إلى أنها جمع خطأة من الخطأ لا من الخطو. وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان، وعَدُوٌّ يقع للمفرد والتثنية والجمع.
وقوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ الآية، إِنَّما تصلح للحصر، وقد تجيء غير حاصرة بل للمبالغة كقولك «إنما الشجاع عنترة»، كأنك تحاول الحصر أو توهمه، فإنما يعرف معنى إِنَّما بقرينة الكلام الذي هي فيه، فهي في هذه الآية حاصرة، وأمر الشيطان إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور، وإما بوسوسته، فإذا أطيع نفذ أمره.
و «السوء» مصدر من ساء يسوء فهي المعاصي وما تسوء عاقبته، والْفَحْشاءِ قال السدي: هي الزنا، وقيل: كل ما بلغ حدا من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ، وقيل: ما تفاحش ذكره، وأصل الفحش قبح المنظر كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش إذا هي نصّته ولا بمعطّل
ثم استعملت اللفظة فيما يستقبح من المعاني، والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء، وما لا تَعْلَمُونَ: قال الطبري: يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها وجعلوه شرعا.
237
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني كفار العرب، وقال ابن عباس: نزلت في اليهود، وقال الطبري: الضمير في لَهُمُ عائد على الناس من قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا، وقيل: هو عائد على مِنَ في قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [البقرة: ١٦٥]، واتَّبِعُوا معناه بالعمل والقبول، وما أَنْزَلَ اللَّهُ هو القرآن والشرع، وأَلْفَيْنا معناه وجدنا، قال الشاعر: [المتقارب]
فألفيته غير مستعتب... ولا ذاكر الله إلّا قليلا
والألف في قوله أَوَلَوْ للاستفهام، والواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم.
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد.
وقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه.
قال القاضي أبو محمد: فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز.
والنعيق زجر الغنم والصياح بها، قال الأخطل: [الكامل]
انعق بضأنك يا جرير فإنّما... منّتك نفسك في الخلاء ضلالا
وقال قوم: إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان، فهي تحمق راعيها، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله»، وقال الشاعر: [البسيط]
أصبحت هزءا لراعي الضّأن يهزأ بي... ماذا يريبك منّي راعي الضّأن
فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحا يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه، وقال ابن زيد: المعنى في الآية: ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئا إلا دويا غير مفيد، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال، ووجه الطبري في الآية معنى آخر، وهو أن المراد: ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه، فإنما شبه في هذين التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي، ومنه قول الشاعر: [الرجز] أصم عمّا ساءه، سميع ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم لا يَعْقِلُونَ إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره: علوم
238
ضرورية تعطيها هذه الحواس، أو لا بد في كسبها من الحواس، وتأمل.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض مِنْ إلى الحرام رزق، وحض تعالى على الشكر والمعنى في كل حالة، وإِنْ شرط، والمراد بهذا الشرط التثبيت وهز النفس، كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا.
وقوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ إِنَّما هنا حاصرة، والْمَيْتَةَ نصب بحرم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة» بالتشديد، وقال الطبري وجماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف من «ميّت» و «ميت» لغتان، وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميت» بالتخفيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر:
[الخفيف]
ليس من مات فاستراح بميت إنّما الميت ميّت الأحياء
استراح: من الراحة، وقيل: من الرائحة، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: ١٧]، والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر: [الوافر]
إذا ما مات ميت من تميم فسرّك أن يعيش فجىء بزاد
فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر، وقرأ قوم «الميتة» بالرفع على أن تكون ما بمعنى الذي وإِنَّ عاملة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حرّم» على ما لم يسمّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه، فإن كانت ما كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر.
ولفظ الْمَيْتَةَ عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم، والْمَيْتَةَ: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم، وقال ابن وهب:
إن ضم في غرائر فضمه ذكاته، وقال ابن القاسم: لا، حتى يصنع به شيء يموت منه كقطع الرؤوس
239
والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء، وقال سحنون: لا يطرح في ماء بارد، وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل.
والدَّمَ يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف، روي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم من طهارته أنه غير محرم، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه، وفي خنزير الماء كراهية، أبي مالك أن يجيب فيه، وقال أنتم تقولون خنزيرا. وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية، وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر، فاللفظة على هذا ثلاثية.
وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، قال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، وأُهِلَّ معناه صيح، ومنه استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق، فقال إنها مما أهلّ به لغير الله فتركها الناس، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فذبحت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة.
واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم، وقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ الآية، ضمت النون للالتقاء اتباعا للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر الطاء، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء إلى الطاء، وقرأ ابن محيصن «فمن اطّر» بإدغام الضاد في الطاء، وكذلك حيث ما وقع في القرآن، ومعنى اضْطُرَّ: ضمه عدم وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات، وغَيْرَ باغٍ في موضع نصب على الحال، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله، ولغير هؤلاء هي الرخصة، وقال السدي غَيْرَ باغٍ أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته، فيجيء أكله شهوة، وَلا عادٍ أي متزود، وقال مالك رحمه الله: «يأكل المضطر شبعه»، وفي الموطأ- وهو لكثير من العلماء: أنه يترود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وقيل: في عادٍ أن معناه عايد، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ، استثقلت الكسرة على
240
الياء فسكنت، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم، ويطلق التحريم على العين تجوزا، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل.
ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، والْكِتابِ: التوراة والإنجيل، والضمير في بِهِ عائد على الْكِتابِ، ويحتمل أن يعود على ما وهو جزء من الكتاب، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب، ويحتمل أن يعود على الكتمان، والثمن القليل: الدنيا والمكاسب، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك لسبب دنيا يصيبها.
وذكرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالة على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه، وفي ذكر البطن أيضا تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم، وقال الربيع وغيره: سمي مأكولهم نارا لأنه يؤول بهم إلى النار، وقيل: معنى الآية: أن الله تعالى يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، وقوله تعالى:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ قيل: هي عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضى عنهم، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين، كقوله اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: ١٠٨]، ونحوه، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك: «فلان لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه» وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه، وقال الطبري وغيره: المعنى ولا يكلمهم بما يحبون، وقيل: المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية، وَلا يُزَكِّيهِمْ معناه: لا يطهرهم من موجبات العذاب، وقيل: المعنى لا يسميهم أزكياء، وأَلِيمٌ اسم فاعل بمعنى مؤلم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٧]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
241
لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ولازموا الضلالة وتكسبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر كان ذلك كبيع وشراء، وقد تقدم إيعاب هذا المعنى، ولما كان العذاب تابعا للضلالة التي اشتروها وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه أدخلا في تجوز الشراء.
وقوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قال جمهور المفسرين: «ما» تعجب، وهو في حيز المخاطبين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم، ومما يطول مكثهم في النار، وفي التنزيل: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧]، وأَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: ٣٨]، وبهذا المعنى صدر أبو علي، وقال قتادة والحسن وابن جبير والربيع: أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها، وتقديره: ما أجرأهم على النار إذ يعملون عملا يودي إليها، وقيل: «ما» استفهام معناه أي شيء أصبرهم على النار، ذهب إلى ذلك معمر بن المثنى، والأول أظهر، ومعنى أَصْبَرَهُمْ في اللغة أمرهم بالصبر، ومعناه أيضا جعلهم ذوي صبر، وكلا المعنيين متجه في الآية على القول بالاستفهام، وذهب المبرد في باب التعجب من المقتضب إلى أن هذه الآية تقرير واستفهام لا تعجب، وأن لفظة «أصبر» بمعنى اضطر وحبس، كما تقول أصبرت زيدا على القتل، ومنه نهي النبي عليه السلام أن يصبر الروح، قال: ومثله قول الشاعر: [السريع]
قلت لها أصبرها دائبا أمثال بسطام بن قيس قليل
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: الضبط عند المبرد بضم الهمزة وكسر الباء، ورد عليه في ذلك كله بأنه لا يعرف في اللغة أصبر بمعنى صبر وإنما البيت أصبرها بفتح الهمزة وضم الباء ماضيه صبر، ومنه المصبورة، وإنما يرد قول أبي العباس على معنى اجعلها ذات صبر.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآية، المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك، ويكون الْكِتابَ جملة القرآن على هذه التقديرات: وقيل: إن الإشارة ب الْكِتابَ إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: ٦]، أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر به، والإشارة بذلك على هذا إلى اشترائهم الضلالة بالهدى، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به، و «الحق» معناه بالواجب، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق: أي الصادقة.
والَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، قال السدي: «هم اليهود والنصارى لأن هؤلاء في شق وهؤلاء في شق».
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن الشقاق سميت به المشارّة والمقاتلة ونحوه، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقّه، وقيل: إن المراد ب الَّذِينَ اخْتَلَفُوا كفار العرب لقول بعضهم هو سحر، وبعضهم هو أساطير، وبعضهم هو مفترى، إلى غير ذلك، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله، وبَعِيدٍ هنا معناه من الحق والاستقامة.
242
وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ الآية: قرأ أكثر السبعة برفع الراء، و «البرّ» اسم ليس، قال أبو علي:
«ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: مذهب أبي علي أن لَيْسَ حرف، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرّ» بنصب الراء، جعل أَنْ تُوَلُّوا بمنزلة المضمر، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر، والمضمر أولى أن يكون اسما يخبر عنه، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ليس البرّ بأن تولوا، وقال الأعمش: إن في مصحف عبد الله: لا تحسبن البر، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة والربيع: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها، فقيل لهم ليس البر ما أنتم فيه ولكن البر من آمن بالله. قرأ قوم «ولكنّ البرّ» بشد النون ونصب البر، وقرأ الجمهور «ولكن البر» والتقدير ولكن البر بر من، وقيل: التقدير ولكن ذو البر من، وقيل: الْبِرَّ بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف، كقولك رجل عدل ورضى.
والإيمان التصديق، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.
وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل هي الزكاة، وآتَى معناه أعطى، والضمير في حُبِّهِ عائد على الْمالَ فالمصدر مضاف إلى المفعول، ويجيء قوله عَلى حُبِّهِ اعتراضا بليغا أثناء القول، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة، وفإيتاء المال حبيب إليهم، ويحتمل أن يعود الضمير على اسم الله تعالى من قوله:
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في آتَى أي على حبه المال، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى المقصود: أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء: ١٢٨]، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل، وذَوِي الْقُرْبى يراد به قرابة النسب.
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ، وقال مجاهد وغيره: ابْنَ السَّبِيلِ المسافر لملازمته السبيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي الملازم له، وقيل: لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها، وقال قتادة: ابْنَ السَّبِيلِ الضيف، والأول أعم، وفِي الرِّقابِ: يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات، وأَقامَ الصَّلاةَ أتمها بشروطها، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس
243
بالزكاة المفروضة، والْمُوفُونَ عطف على مَنْ في قوله: مَنْ آمَنَ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون، والصَّابِرِينَ نصب على المدح أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين» على المدح أو على قطع النعوت، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن وَالْمُوفُونَ «والصابرون»، وقرأ الجحدري بعهودهم، والْبَأْساءِ الفقر والفاقة، والضَّرَّاءِ المرض ومصائب البدن، وحِينَ الْبَأْسِ وقت شدة القتال.
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، وتقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع.
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول: صدقني المال وصدقني الربح، ومنه عود صدق، وتحتمل اللفظة أيضا صدق الإخبار، ووصفهم الله تعالى بالتقى، والمعنى هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٨٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
كُتِبَ معناه فرض وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرا، وقيل إن كُتِبَ في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، والْقِصاصُ مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، والْقَتْلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرها فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى.
واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي: إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا، وإذا قتلت امرأة قتلوا بها ذكرا، فنزلت الآية في ذلك ليعلم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية، وحكي أن قوما من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم: نقتل بعبيدنا أحرارا، فنزلت الآية،
244
وقيل: نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل: من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالا وعبيدا ونساء، فأمر رسول الله ﷺ أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس.
قال القاضي أبو محمد: هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله ﷺ من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
وقال مالك رحمه الله: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الْأُنْثى تأكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد أنكر ذلك عنهما أيضا، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس، وقال أبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: يقتل الحر بالعبد، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: لا يقتل الحر بالعبد، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس مقيسة على ذلك، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولا واحدا في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية.
وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فيه أربع تأويلات:
أحدها أن مِنْ يراد بها القاتل وعُفِيَ يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، وشَيْءٌ هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على مِنْ في كل تأويل.
245
والتأويل الثاني وهو قول مالك: ان مِنْ يراد بها الولي، وعُفِيَ بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، وشَيْءٌ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله: إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عُفِيَ بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعُفِيَ في هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، وشَيْءٌ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك وعُفِيَ لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر شَيْءٌ تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، وشَيْءٌ اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر عُفِيَ بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى:
وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [هود: ٥٧]، قال الأخفش: التقدير لا تضرونه ضرا، ومن ذلك قول أبي خراش:
[الطويل]
فعاديت شيئا والدّريس كأنّما يزعزعه ورد من الموم مردم
وقوله تعالى: فَاتِّباعٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٢٩]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: ٤]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.
وقوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى:
246
أبقى، بباء وقاف، ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا، وهذا الترتيب مما سبق لهما في الأزل، وأيضا فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص أُولِي الْأَلْبابِ بالذكر تنبيها عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، وتَتَّقُونَ معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص» أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصا فقتل كما قتل.
وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الآية، كأن الآية متصلة بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فلذلك سقطت واو العطف، وكُتِبَ معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم: الوصية فرض، وقال قوم: كانت فرضا ونسخت، وقال فريق: هي مندوب إليها، وكُتِبَ عامل في رفع الْوَصِيَّةُ على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من كُتِبَ لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبوية: قام امرأة، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل الْوَصِيَّةُ في إِذا لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الْوَصِيَّةُ، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كُتِبَ هو العامل في إِذا والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب كُتِبَ لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والْوَصِيَّةُ مفعول لم يسم فاعله ب كُتِبَ وجواب الشرطين إِذا وإِنْ مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله كُتِبَ عَلَيْكُمْ، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير: كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إِذا، وترتفع الْوَصِيَّةُ بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه: [البسيط] من يفعل الصّالحات الله يحفظها أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل: فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون الْوَصِيَّةُ مرتفعة ب كُتِبَ على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون الْوَصِيَّةُ هي العامل في إِذا، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو الْوَصِيَّةُ، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفا فإن في الظرف يسهل الاتساع، وإِذا ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر:
[الطويل]
247
فإنه يرى أن «بالرحا» متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال: أبعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى إِذا حَضَرَ مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال.
واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره: تجب فيما قل وفيما كثر، وقال النخعي: تجب في خمسمائة درهم فصاعدا، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة: في ألف فصاعدا.
واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق: محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
وقال ابن عمر وابن عباس أيضا وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره: لا وصية لوارث، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم:
أوص لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: ٦]، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦].
وقال قوم من العلماء: الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي: «لم يكن ذلك له ولا كرامة».
وقال طاوس: «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله» وقاله جابر بن زيد.
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضا وعبد الملك بن يعلى: يبقى ثلث الوصية حيث جعلها ويرد ثلثاها إلى قرابته.
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: الوصية ماضية حيث جعلها الميت، والأقربون: جمع أقرب، وبِالْمَعْرُوفِ معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، وحَقًّا مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبادر الناس إليها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨١ الى ١٨٤]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
248
الضمير في بَدَّلَهُ عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في سَمِعَهُ، ويحتمل أن يعود الذي في سَمِعَهُ على أمر الله تعالى في هذه الآية، والقول الأول أسبق للناظر، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالما بالنهي عامدا لخلافه، والضمير في إِثْمُهُ عائد على التبديل، وسَمِيعٌ عَلِيمٌ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «من موصّ» بفتح الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بسكون الواو، والجنف الميل، وقال الأعشى: [الطويل]
تقول وصكّت وجهها بيمينها أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]
هم المولى وقد جنفوا علينا وإنّا من عدواتهم لزور
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية رَحِيمٌ به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع: معنى الآية: من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه:
«فلإثم عليه» بحذف الألف، وكُتِبَ: معناه فرض.
والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ومنه قول النابغة: [البسيط]
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما
أي خيل ثابتة ممسكة، ومنه قول الله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: ٢٦] أي إمساكا عن الكلام، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها أي في موضع ثبوتها وامتساكها، ومنه قوله: [الطويل]
249
فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة ذمول إذا صام النّهار وهجّرا
أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق، والكاف من قوله كَما في موضع نصب على النعت، تقديره كتبا كما، أو صوما كما، أو على الحال كأن الكلام: كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته ب كَما إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول.
واختلف المتأولون في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره: المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى، قال: «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي».
قال النقاش: «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي»، وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقال السدي والربيع: التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولا، وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك.
وقال عطاء: «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر- قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي بعض الطرق: ويوم عاشوراء- كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان».
وقالت فرقة: التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق، أي قد تقدم في شرع غيركم، ف الَّذِينَ عام في النصارى وغيرهم، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حقهم، وتَتَّقُونَ قال السدي: معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك، وقيل: تتقون على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام:
«جنة» ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.
وأَيَّاماً مفعول ثان ب كُتِبَ، قاله الفراء، وقيل: هي نصب على الظرف، وقيل: نصبها ب الصِّيامُ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من كَما على قول من قدر: صوما كما، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره، وذلك إذا كان العامل في الكاف كُتِبَ، وجوز بعضهم أن يكون أَيَّاماً ظرفا يعمل فيه الصِّيامُ، ومَعْدُوداتٍ، قيل:
رمضان، وقيل: الثلاثة الأيام.
250
وقوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ، التقدير: فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب.
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر: فقال قوم: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياسا على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة، وقاله ابن سيرين.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو: المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.
وقال الحسن: «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر».
وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعي رحمه الله.
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه: الصوم أفضل لمن قوي، وجل مذهب مالك التخيير.
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: الفطر أفضل.
وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أيسرهما أفضلهما، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.
وقال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر، وهو مذهب عمر رضي الله عنه، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه. وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب المبادرة بالأعمال. وقال ابن عباس رضي الله عنه: «الفطر في السفر عزمة»، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، ونغدو إلى جوع، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، وروي عنه:
يومان، وروي عنه في العتبية: خمسة وأربعون ميلا، وفي المبسوط: أربعون ميلا، وفي المذهب: ستة وثلاثون ميلا، وفيه: ثلاثون.
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، وفي غير المذهب: يقصر في ثلاثة أميال فصاعدا.
وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح أن يرتفع
251
على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له، ويصح فعليه عدة، واختلف في وجوب تتابعها على قولين، وأُخَرَ لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة، وجاء في الآية أُخَرَ ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠]، إلى غير ذلك.
وقرأ جمهور الناس «يطيقونه» بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه» نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد «يطوقونه» وذلك على الأصل، والقياس الإعلال.
وقرأ ابن عباس «يطوقونه» بمعنى يكلفونه.
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يطوقونه» بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة.
وقرأت فرقة «يطيّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وشد الياء المفتوحة.
وقرأ ابن عباس «يطيّقونه» بفتح الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه، وحكاها النقاش عن عكرمة، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف.
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فدية طعام مساكين» بإضافة الفدية.
وقرأ هاشم عن ابن عامر «فدية طعام مساكين» بتنوين الفدية.
وقرأ الباقون «فدية» بالتنوين «طعام مسكين» بالإفراد، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية.
قال أبو علي: «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون؟، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكينا، ونظير هذا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون.
واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب: كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥].
وقالت فرقة: وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي على الشيوخ والعجّز، الذين يطيقون، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر، وهي محكمة عند قائلي هذا القول. وعلى هذا التأويل تجيء قراءة يطوقونه و «يطوقونه».
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥]، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم».
252
وقال السدي: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشّيخ فلا يستطيعون الصوم»، وهي عنده محكمة، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا، ونحوه عن ابن عباس.
وقال مالك: «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، وتستحب لمن قدر عليها»، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: على الشيخ العاجز الإطعام.
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يطّيّقونه» فأفطر، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين.
وقال قوم: قوت يوم، وقال قوم: عشاء وسحور.
وقال سفيان الثوري: نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب، والضمير في يُطِيقُونَهُ عائد على الصِّيامُ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف.
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس: تفدي وتفطر ولا قضاء عليها.
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك: تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها.
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد: تقضي وتفدي إذا أفطرت، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي، هذا هو المشهور عنه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا إطعام على المرضع.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ الآية، قال ابن عباس وطاوس وعطاء والسدي: المراد من أطعم مسكينين فصاعدا.
وقال ابن شهاب: «من زاد الإطعام على الصوم» وقال مجاهد: «من زاد في الإطعام على المد»، وخَيْرٌ الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث، وخَيْرٌ الأول قد نزل منزلة مالا أو نفعا، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم» بدل وَأَنْ تَصُومُوا.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا.
قوله عز وجل:
253

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثرا، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال شَهْرُ رَمَضانَ كما قال الله تعالى، وقال: لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل.
وقرأ جمهور الناس «شهر» بالرفع، ووجهه خبر ابتداء أي ذلكم شهر، وقيل: بدل من الصيام، [البقرة: ١٨٣] وقيل: على الابتداء وخبره الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وقيل: ابتداء وخبره فَمَنْ شَهِدَ، والَّذِي أُنْزِلَ نعت له، فمن قال إن الصِّيامُ في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء، ومن قال: إن الصِّيامُ هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب «شهر» بالنصب، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو، وهي على الإغراء، وقيل: نصب ب تَصُومُوا [البقرة: ١٨٤] وقيل:
نصب على الظرف، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.
واختلف في إنزال القرآن فيه: فقال الضحاك: أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه، وقيل: بدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر: أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر والنواهي والأسباب، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين».
وترك ابن كثير همزة الْقُرْآنُ مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل: إن اشتقاقه على هذه القراءة من قرن، وذلك ضعيف، وهُدىً في موضع نصب على الحال من الْقُرْآنُ، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله، فالألف واللام في الْهُدى للعهد والمراد الأول، والْفُرْقانِ المفرق بين الحق والباطل، وشَهِدَ بمعنى حضر، والشَّهْرَ نصب على الظرف، والتقدير: من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة «فليصمه» بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وقال جمهور الأمة: من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما، وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم
254
يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه، ونصب الشَّهْرَ على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب شَهِدَ، وقوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ بمنزلة أو مسافرا فلذلك عطف على اسم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر «اليسر» و «العسر» بضم السين، والجمهور: بسكونه، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم: اليسر الفطر في السفر والْعُسْرَ الصوم في السفر، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي ﷺ «دين الله يسر».
وقوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو في بعض ما روي عنه «ولتكمّلوا» بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة إما ب يُرِيدُ فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول قيس كثير بن صخر: [الطويل] أريد لأنسى ذكرها وإما بفعل مضمر بعد، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.
وقوله: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في حده، فقال ابن عباس: «يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره»، وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة، وقال سفيان: «هو التكبير يوم الفطر»، وقال مالك: «هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام»، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء:
«الله أكبر، الله أكبر الله أكبر»، ثلاثا، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول:
«الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا». وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.
وهَداكُمْ، وقيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد، ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ترجّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى.
وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي الآية، قال الحسن بن أبي الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت، وقال عطاء: لما نزلت وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] قال قوم في أي ساعة ندعو؟ فنزلت وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، وقال مجاهد: بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية، وقال قتادة بل قالوا: كيف ندعو؟ فنزلت وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي، روي أن المشركين قالوا لما نزل فَإِنِّي قَرِيبٌ: كيف يكون قريبا وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أي فإني قريب بالإجابة والقدرة، وقال قوم: المعنى أجيب إن شئت، وقال قوم:
255
إن الله تعالى يجيب كل الدعاء: فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث الموطأ: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث»، الحديث، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع، قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: ٥٥] قال المفسرون: أي في الدعاء.
والوصف بمجاب الدعوة: وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور. وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمدا ﷺ قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم، الحديث، فمنعها، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك.
وقوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي قال أبو رجاء الخراساني: «معناه فليدعوا لي».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل، أي طلب الشيء، إلا ما شذ، مثل. استغنى الله، وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي بالطاعة والعمل، ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله تعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي، قال أبو رجاء: في أني أجيب دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته. وقرأ الجمهور يَرْشُدُونَ بفتح الياء وضم الشين. وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين. وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القراءة والتي قبلها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
لفظة أُحِلَّ تقتضي أنه كان محرما قبل ذلك، ولَيْلَةَ نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]
هم المولى وقد جنفوا علينا وإنّا من عداوتهم لزور
والرَّفَثُ كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقرأ ابن
256
مسعود «الرفوث»، والرَّفَثُ في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر: [الرجز] عن اللّغا ورفث التّكلّم.
وقال أبو إسحاق: «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه».
وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، على الخلاف، منهم عمر بن الخطاب، جاء إلى امرأته فأرادها، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا، وقال السدي: جرى له هذا في جارية له، قالوا: فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه، وروي أن صرمة بن قيس، ويقال صرمة بن مالك، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك، كما قال النابغة الجعدي: [المتقارب]
إذا ما الضّجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وقال النابغة أيضا: [المتقارب]
لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
فشبه خلطته لهم باللباس، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره، وقال مجاهد والسدي:
لِباسٌ: سكن، أي يسكن بعضهم إلى بعض، وإنما سميت هذه الأفعال اختيانا لعاقبة المعصية وجزائها، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها، وفَتابَ عَلَيْكُمْ معناه من المعصية التي واقعتموها، وعَفا عَنْكُمْ يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيدا، وتأنيسا بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف، بمعنى تركه لكم، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك.
قال ابن عباس وغيره: بَاشِرُوهُنَّ كناية عن الجماع، مأخوذ من البشرة، وقد ذكرنا لفظة «الآن» في ماضي قصة البقرة. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه ابتغوا الولد.
وروي أيضا عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر، وقيل: المعنى ابتغوا الرخصة
257
والتوسعة، قاله قتادة، وهو قول حسن، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا» من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح ابْتَغُوا من الابتغاء.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ نزلت بسبب صرمة بن قيس، وحَتَّى غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر، والْخَيْطُ استعارة وتشبيه لرقة البياض أولا ورقة السواد الحاف به، ومن ذلك قول أبي داود:
فلمّا بصرن به غدوة... ولاح من الفجر خيط أنارا
ويروى فنارا، وقال بعض المفسرين: الْخَيْطُ اللون، وهذا لا يطرد لغة، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل، وهو نص قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم في حديثه المشهور، ومِنَ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والْفَجْرِ مأخوذ من تفجر الماء، لأنه يتفجر شيئا بعد شيء، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله مِنَ الْفَجْرِ فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام.
قال القاضي أبو محمد: من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «إن وسادك لعريض»، وروي أنه قال له: «إنك لعريض القفا»، ولهذه الألفاظ تأويلان، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك: فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح: ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال، وذكر عن حذيفة أنه قال: «تسحرت مع رسول الله ﷺ وهو النهار، إلا أنّ الشمس لم تطلع»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود».
قال الطبري: «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها».
وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤]، قال القاضي أبو محمد: والقول في نفسه صحيح، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى:
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: ١٦٤، آل عمران: ١٩٠، الجاثية: ٥]، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء.
258
وقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر يقتضي الوجوب، وإِلى غاية، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد إِلى، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله إِلَى اللَّيْلِ يقتضي النهي عن الوصال، وقد واصل النبي ﷺ ونهى الناس عن الوصال، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ١٨٣] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة.
وفي ثمانية أبي زيد: عليه القضاء فقط قياسا على الشك في الفجر، وهو قول جماعة من العلماء.
وقال إسحاق والحسن: لا قضاء عليه كالناسي.
وقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، قالت فرقة: المعنى لا تجامعوهن.
وقال الجمهور: ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء، وعاكِفُونَ ملازمون، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه، قال الراجز: [الرجز] عكف النبيط يلعبون الفنزجا وقال الشاعر: [الطويل]
وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا عكوف البواكي بينهنّ صريع
وقال أبو عمرو وأبو حاتم: قرأ قتادة «عكفون» بغير ألف، والاعتكاف سنة، وقرأ الأعمش «في المسجد» بالإفراد، وقال: «وهو المسجد الحرام».
قال مالك رحمه الله وجماعة معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، وروي عن مالك أيضا أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله.
وقال قوم: لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك.
وقالت فرقة لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
وقال مالك: «لا يعتكف أقل من يوم وليلة، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر».
وقال سحنون: «من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء».
وقالت طائفة: أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر.
وقال مالك: «لا اعتكاف إلا بصوم».
وقال غيره: يعتكف بغير صوم، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد.
وتِلْكَ إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي، والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل
259
للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه الجاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق، ولَعَلَّهُمْ ترّج في حقهم، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٨ الى ١٩٠]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهيا عنه، وكما قال تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٨٥]، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبه.
وقال قوم: المراد بالآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.
وقوله تعالى: وَتُدْلُوا بِها الآية، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء.
قال قوم: معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في بِها باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضا فإن اللفظتين متناسبتان، تُدْلُوا من أرسل الدلو والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة، وتُدْلُوا في موضع جزم عطفا على تَأْكُلُوا، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا» بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم تُدْلُوا في قراءة الجماعة، وقيل: تُدْلُوا في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن» مضمرة، والفريق: القطعة والجزء، وبِالْإِثْمِ معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله، وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة.
260
وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي ﷺ عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟، وجمع الْأَهِلَّةِ وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا في شهر غير كونه هلالا في الآخر، فإنما جمع أحواله من الهلالية، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر، وقيل ثلاث.
وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع.
وقوله: مَواقِيتُ معناه لمحل الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد، ومواقيت الحج أيضا يعرف بها وقته وأشهره، ومَواقِيتُ لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحج» بكسر الحاء في جميع القرآن، وفي قوله «حج البيت» في آل عمران.
قال سيبوية: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل: الفتح مصدر والكسر الاسم.
وقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحا يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك، فنزلت الآية فيه.
وقال إبراهيم: «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز».
وقال السدي: ناس من العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال: فدخل النبي ﷺ بابا ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس، فقال له النبي ﷺ وأنا أحمس، ونزلت الآية.
وروى الربيع أن النبي ﷺ دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت وأنت قد أحرمت؟، قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس، أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية.
وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى: ليس البر أن تسألوا الجهّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه.
وقال غير أبي عبيدة: «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب».
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتمل والأول أسدّ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري
261
من أن الآية مثل في جماع النساء فبعيد مغير نمط الكلام، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البيوت» بكسر الباء، وقرأ بعض القراء «ولكنّ البرّ» بتشديد نون «لكنّ» ونصب «البرّ»، وقد تقدم القول على مَنْ في قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: ١٧٧]، وَاتَّقُوا معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، والفلاح درك البغية.
وقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.
قال ابن زيد والربيع: معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم، ولا تعتدوا في قتال من لم يقاتلوكم، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة، وبقوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ٣٦].
وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، فهي محكمة على هذا القول، وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩١ الى ١٩٤]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
قال ابن إسحاق وغيره: نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش، وثَقِفْتُمُوهُمْ معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم، يقال رجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور، وَأَخْرِجُوهُمْ.
قال الطبري: «الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: بل الخطاب لجميع المؤمنين، ويقال أَخْرَجُوكُمْ إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدرا وهم النبي ﷺ والمهاجرون، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل.
قال مجاهد: «أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة».
قال غيره: بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
262
وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآية، قال الجمهور: كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع.
قال الربيع: نسخه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
وقال قتادة: نسخه قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥].
وقال مجاهد: «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل».
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم» بالقتل في الأربعة، ولا خلاف في الأخيرة أنها فَاقْتُلُوهُمْ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي: فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون، وذلك كقوله تعالى: قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا [آل عمران: ١٤٦] أي فما وهن الباقون، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك.
وقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم فَإِنْ قاتَلُوكُمْ، والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار، دليل ذلك قوله وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، والفتنة هنا:
الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي، والدِّينُ هنا الطاعة والشرع. وقال الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
هو دان الرباب إذ كرهوا الذي ن دراكا بغزوة وصيال
والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن يكون أداء الجزية، وسمى ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع، والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.
وقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم: نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية، وذلك أن رسول الله ﷺ خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية سنة ست، فصده كفار قريش عن البيت، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم، فدخله سنة سبع، فنزلت الآية في ذلك، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، ومعنى الْحُرُماتُ قِصاصٌ على هذا التأويل: أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد والشهر والقطان حين دخلتم.
وقال الحسن بن أبي الحسن: نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي ﷺ هل يقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع
263
فيه، فنزلت: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين، فأية سلكوا فاسلكوا، والْحُرُماتُ على هذا جمع حرمة عموما: النفس والمال والعرض وغير ذلك، فأباح الله بالآية مدافعتهم. والقول الأول أكثر.
وقالت فرقة: قوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ مقطوع مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة: ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي ذلك له، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك.
وقالت طائفة منهم مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قول النبي ﷺ «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرمات» بسكون الراء.
وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ الآية، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم، وسمي الجزاء على العدوان عدوانا كما قال اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] إلى غير ذلك، وَاتَّقُوا اللَّهَ، قيل:
معناه في أن لا تعتدوا، وقيل: في أن لا تزيدوا على المثل.
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزّ، فلما هاجر رسول الله ﷺ وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار».
وقال مجاهد: «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهي من التدريج في الأمر بالقتال».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٥ الى ١٩٦]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
سَبِيلِ اللَّهِ هنا الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله.
وقال أبو عبيدة وقوم: الباء في قوله بِأَيْدِيكُمْ زائدة، التقدير تلقوا أيديكم.
وقال الجمهور: ذلك ضرب مثل، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: «والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز».
264
وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول لا تفسد حالك برأيك، و «التهلكة» بضم اللام مصدر من هلك، وقرأ الخليل التَّهْلُكَةِ بكسر اللام، وهي تفعلة من «هلّك» بشد اللام.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم، وأما هذا فهو الذي قال الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: ٢٠٧].
وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفق.
وقال قوم: المعنى لا تقنطوا من التوبة.
وقال البراء بن عازب وعبيدة السلماني: الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة فينهمك بعد ذلك، وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون عالة على الناس، وقوله وَأَحْسِنُوا، قيل: معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات، وروي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى وأحسنوا في الإنفاق في سبيل الله وفي الصدقات، قاله زيد بن أسلم.
وقال عكرمة: المعنى وأحسنوا الظن بالله.
وقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما: إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين.
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله:
لِلَّهِ.
وقال قتادة والقاسم بن محمد: إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص، وهو قول مالك وجماعة من العلماء. وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الحج؟ فقال: العج والثج، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع.
وقالت فرقة: إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن، وهذا على أن الإفراد أفضل.
وقالت فرقة: القرآن أفضل، وذلك هو الإتمام عندهم.
265
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم: إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء.
وفروض الحج: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافا لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام، وطواف، وسعي.
واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله: هي سنة واجبة لا ينبغي أن تترك كالوتر، وهي عندنا مرة واحدة في العام، وهذا قول جمهور أصحابه، وحكى ابن المنذر في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج، وبأنها سنة.
قال ابن مسعود وجمهور من العلماء، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين: أنها واجبة كالفرض، وقاله ابن الجهم من المالكيين.
وقال مسروق: «الحج والعمرة فرض، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة»، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرة لله» برفع العمرة على القطع والابتداء، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحج» بكسر الحاء، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله»، وروي عنه: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت»، وروي غير هذا مما هو كالتفسير.
وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو.
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو.
وقال الفراء: «هما بمعنى واحد في المرض والعدو».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر كأقبر وأحمى وغير ذلك، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصرا لا حاصرا، ألا ترى أن العدو كان محصرا في عام الحديبية، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه.
وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالا ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام.
وقال ابن الماجشون: «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا وجه له.
266
وقال أشهب: «يهدي المحصر بعدو هديا من أجل الحصر».
وقال ابن القاسم: «لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي فأراد نحره»، ذكره ابن أبي زيد.
وقال عطاء وغيره: المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو.
وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن أقام سنين، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي، وقيل: إن الهدي يجب في وقت الحصر أولا، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلا في هذه الآية، وقال: إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه، قال: وإنما قال الله: فَإِذا أَمِنْتُمْ والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية.
و «ما» في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا، وفَمَا اسْتَيْسَرَ عند جمهور أهل العلم: شاة.
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير «ما استيسر» جمل دون جمل وبقرة دون بقرة.
وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأخسّه شاة، والْهَدْيِ جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى، ويحتمل أن يكون الْهَدْيِ مصدرا سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «لا أعرف لهذه اللفظة نظيرا».
وقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ الآية، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، ومحل الهدي حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعدو حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله.
والترتيب أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم.
وقال قوم: لا حرج في الحج ولكن يهرق دما.
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا: «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولا واحدا في المذهب».
قال ابن المواز عن مالك: ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه.
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهديّ» بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية، ورويت هذه القراءة عن عاصم.
267
وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية، المعنى فحلق لإزالة الأذى فَفِدْيَةٌ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله ﷺ ورأسه يتناثر قملا، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة، و «فدية» رفع على خبر الابتداء، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك: ثلاثة أيام، والصدقة: ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك: شاة بإجماع، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل.
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة: الصيام عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين.
وقرأ الزهري «أو نسك» بسكون السين.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: النسك شاة، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوما.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ذلك كله حيث شاء، وفاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم، فإنه قال: لا يكون النسك إلا بمكة.
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي: النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء.
وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضا ومجاهد والشافعي: النسك والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير.
وقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، قال علقمة وعروة: المعنى إذا برأتم من مرضكم. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الآية، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه.
وقال ابن عباس وجماعة من العلماء: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط: أن يكون معتمرا في أشهر الحج، وهو من غير حاضري المسجد الحرام، ويحل وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعدا. هذا قول مالك وأصحابه، واختلف لم سمي متمتعا، فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، وقال غيره: سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن
268
حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفرا، والمكي لا يقتضي حاله سفرا في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئا لأنه لم يسقط شيئا، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ المكي وغيره على السواء في القياس، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هديا، ولا يفعل ذلك بالمكي، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له: إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرما وقرن الرخصة بالهدي.
قال القاضي أبو محمد: فهذه شدة على أهل مكة، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم، لكنه قول شاذ لا يعول عليه، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال: إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا ثم يحرم بعمرة.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج، وقال السدي: المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة، وذلك لا يجوز عند مالك، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال:
قلت يا رسول الله: فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد؟ فقال: «بل لأبد أبد، بل لأبد أبد».
قال القاضي أبو محمد: وإنما شرط في التمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرما فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال طاوس: «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع».
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فهو متمتع»، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي.
269
قوله: لَمْ يَجِدْ إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان، وفِي الْحَجِّ قال عكرمة وعطاء: له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج.
وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج.
وقال عطاء أيضا ومجاهد: لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة.
وقال ابن عمر والحسن والحكم: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وكلهم يقول:
لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم: من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج.
وقال قوم: له ابتداء تأخيرها إلى أيام التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر.
وقوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قال مجاهد وعطاء وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق.
وقال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحدكما يفعل من يصوم في السفر في رمضان، وقرأ زيد بن علي «وسبعة» بالنصب، أي وصوموا سبعة، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال الحسن بن أبي الحسن:
المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر فيه الدماء أخلص وأفضل خلافا لأبي حنيفة، وقيل: كامِلَةٌ توكيد كما تقول كتبت بيدي، وكقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: ٦]، وقيل: لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها.
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد: المعنى تلك كاملة، وكرر الموصوف تأكيدا كما تقول زيد رجل عاقل.
وقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ الآية، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج، فكان الكلام ذلك الترخيص، ويتأيد هذا بقوله لِمَنْ، لأن اللام أبدا إنما تجيء مع الرخص، تقول لك إن تفعل كذا، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفرا فالإشارة بذلك- على قوله- هي إلى الهدي، أي ذلك الاشتداد والإلزام.
270
واختلف الناس في حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها، وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال: فقال بعض العلماء: من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي.
قال القاضي أبو محمد: فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة، وقال بعضهم: من كان بحيث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب، وقال عطاء بن أبي رباح: مكة وضجنان وذو طوى وما أشبهها حاضر والمسجد الحرام.
وقال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم كله حاضر والمسجد الحرام، وقال مكحول وعطاء: من كان دون المواقيت من كل جهة حاضر والمسجد الحرام.
وقال الزهري: من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٧ الى ١٩٨]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، في الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو: وقت الحج أشهر، أو: وقت عمل الحج أشهر، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات، ومن قدر الكلام: الحج في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد.
وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو لحجة كله.
وقال ابن عباس والشعبي والسدي وإبراهيم: هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، والقولان لمالك رحمه الله، حكى الأخير ابن حبيب، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان وبعض الثالث كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث، وكما قال امرؤ القيس: [الطويل] ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال فمن قال إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك.
وقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي من ألزمه نفسه، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، فكأن من التزم شيئا وأثبته على نفسه قد فرضه، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام، والتلبية تبع لذلك، ومِنْ رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والخبر قوله فَرَضَ لأن مِنْ ليست بموصولة فكأنه قال فرجل فرض، وقوله فَلا رَفَثَ يحتمل أن يكون الخبر، وتكون فَرَضَ صفة.
وقوله تعالى: فِيهِنَّ ولم يجىء الكلام فرض فيها: فقال قوم: هما سواء في الاستعمال.
وقال أبو عثمان المازني: «الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك،
271
تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت»، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة: ٣٦]، ثم قال: مِنْها، وقرأ نافع «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» بنصب الجميع، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال» بالرفع في الاثنين ونصب الجدال، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، ولا بمعنى ليس في قراءة الرفع وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وفِي الْحَجِّ خبر لا جِدالَ، وحذف الخبر هنا هو مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك، بل فِي الْحَجِّ هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن لا إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، وفِي الْحَجِّ هو الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب، والتحرير أن فِي الْحَجِّ في موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج، ولا فرق بين الآية وبين قولك زيد في الدار.
وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم: الرفث الجماع.
وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإعراب والتعريب، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند النساء خاصة، وهذا قول ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:
وهنّ يمشين بنا هميسا إن تصدق الطّير ننك لميسا
فقيل له: ترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا، وقد قال ابن عمر للحادي: «لا تذكر النساء».
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج.
وقال أبو عبيدة: «الرفث اللغا من الكلام»، وأنشد:
وربّ أسراب حجيج كظم عن اللّغا ورفث التّكلّم
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في البيت، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث».
وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم: الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء.
وقال ابن عمر وجماعة معه: الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره.
وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قول الله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: ١٤٥].
وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قول الله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ [الحجرات: ١١].
272
وقال ابن عمر أيضا ومجاهد وعطاء وإبراهيم: الفسوق السباب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
قال القاضي أبو محمد: وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال.
وقال قتادة وغيره: الجدال هنا السباب.
وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه.
وقال مالك وابن زيد: الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك.
وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك.
وقالت فرقة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم وتقول طائفة بل الحج غدا، وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء.
وقال مجاهد وجماعة معه: الجدال أن تنسىء العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه، فقرر الشرع وقت الحج وبينه، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه، وهذا أصح الأقوال وأظهرها، والجدال مأخوذ من الجدل وهو الفتل، كأن كل مجادل يفاتل صاحبه في الكلام. وأما ما كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسئ كان يحل المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها، ويحرم صفر، وربما سموه المحرم، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على الحقيقة، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال: كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر، قال: فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة ثم حج رسول الله ﷺ سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة، وحينئذ قال: «إن الزمان قد استدار» الحديث، ونزلت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبدا.
وقوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ المعنى فيثيب عليه، وفي هذا تخصيص على فعل الخير.
وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا الآية، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم: نحن المتوكلون، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود.
وقال بعض الناس: المعنى تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة، وفي قوله تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حض على التقوى، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم
273
قابلو أوامره والناهضون بها، وهذا على أن اللب لب التجارب وجودة النظر، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب أُولِي الْأَلْبابِ عام لجميع المكلفين، واللب العقل، تقول العرب لببت بضم الباء الأولى ألب بضم اللام، حكاه سيبويه، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين فيهما غير هذه الكلمة.
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر، وتَبْتَغُوا معناه تطلبون بمحاولتكم.
وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء: إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة، فأباح الله تعالى ذلك، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح.
وقال مجاهد: «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون، فنزلت الآية في إباحة ذلك».
وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج: «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء»، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج».
وقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس، فإنه قال: «لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه» وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة، ومنه أفاض الرجل في الكلام، ومنه فاض الإناء، وأفضته، ومنه المفيض في القداح، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل للنون، فإذا سميت به شخصا ترك، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به، فإن كان عَرَفاتٍ اسما لتلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفات» دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيها بتاء فاطمة وطلحة، وسميت تلك البقعة عَرَفاتٍ لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له، قاله السدي.
وقال ابن عباس: «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام: هذا موضع كذا، فيقول قد عرفت»، وقيل: سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:
تزودت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هندا؟
والْمَشْعَرِ الْحَرامِ جمع كله، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، بفتح الراء وضمها، روي عن النبي ﷺ أنه قال: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها مشعر، إلا وارتفعوا عن بطن محسر» وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته، وفي
274
المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم.
وقال مالك: «من مر به ولم ينزل فعليه دم»، وقال الشافعي: «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه» ؟
وقال الشعبي والنخعي: من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج.
وقوله: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ تعديد للنعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام، والكاف في كَما نعت لمصدر محذوف، وأَنْ مخففة من الثقيلة، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر، هذا قول سيبويه.
وقال الفراء: «هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلّا»، والضمير في قَبْلِهِ عائد على الهدي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٣]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
قال ابن عباس وعائشة وعطاء وغيرهم: المخاطب بهذه الآية قريش ومن ولدت وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن قطين الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئا من الحل، فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه، ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم أن يفيضوا مع الجملة، وثُمَّ ليست في هذه الآية للترتيب، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة، وكان رسول الله ﷺ من الحمس، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة، هداية من الله.
وقال الضحاك: «المخاطب بالآية جملة الأمة»، والمراد ب النَّاسُ إبراهيم عليه السلام كما قال:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: ١٧٣] وهو يريد واحدا، ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة فتجيء ثُمَّ على هذا الاحتمال على
275
بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري، وقرأ سعيد بن جبير «الناسي» وتأوله آدم عليه السلام، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ومظان القبول ومساقط الرحمة، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ خطب عشية عرفة فقال: «أيها الناس، إن الله عز وجل قد تطاول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله»، فلما كان غداة جمع، خطب فقال: «أيها الناس إن الله تطاول عليكم فعوض التبعات من عنده».
وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة.
وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ الآية، قال مجاهد: «المناسك الذبائح وهراقة الدماء»، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق: هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين.
وقال ابن عباس وعطاء: معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم.
وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم» أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول، وأَشَدَّ في موضع خفض عطفا على «ذكركم» ويجوز أن يكون في موضع نصب، التقدير أو اذكروه أشد ذكرا.
وقوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الآية، قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم، والخلاق: النصيب والحظ، ومَنْ زائدة لأنها بعد النفي، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ.
وقال قتادة: «حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال».
وقال الحسن بن أبي الحسن: «حسنة الدنيا العلم والعبادة».
276
وقال السدي: «حسنة الدنيا المال»، وقيل: حسنة الدنيا المرأة الحسناء، واللفظة تقتضي هذا كله وجميع محابّ الدنيا، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع، وقِنا عَذابَ النَّارِ دعاء في أن لا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة، ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنا إنما أقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حولها ندندن».
وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا الآية، وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد، والرب تعالى سريع الحساب لأنه لا يحتاج إلى عقد ولا إلى إعمال فكر، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الخلائق في يوم؟ فقال «كما يرزقهم في يوم»، وقيل: الحساب هنا المجازاة، كأن المجازي يعد أجزاء العمل ثم يجازي بمثلها، وقيل معنى الآية سريع مجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة، وأمر الله تعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وليس يوم النحر من المعدودات، ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر وهو ثاني يوم النحر، فإن يوم النحر من المعلومات، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم القر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات، وحكى مكي والمهدوي عن ابن عباس أنه قال: «المعدودات هي أيام العشر»، وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر، وفي ذلك بعد، والأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده لإجماعهم على أنه لا ينحر أحد في اليوم الثالث، والذكر في المعلومات إنما هو على ما رزق الله من بهيمة الأنعام.
وقال ابن زيد: «المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق»، وفي هذا القول بعد، وجعل الله الأيام المعدودات أيام ذكر الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي أيام أكل وشرب وذكر لله».
ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات، واختلف في طرفي مدة التكبير: فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس: يكبر من صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر.
وقال يحيى بن سعيد: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر يوم التشريق.
وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي.
وقال ابن شهاب: «يكبر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق».
وقال سعيد بن جبير: «يكبر من الظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق».
وقال الحسن بن أبي الحسن: «يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول».
277
وقال أبو وائل: «يكبر من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر».
ومشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، وفي المذهب رواية أنه يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد:
المعنى من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك، ومن العلماء من رأى أن التعجل إنما أبيح لمن بعد قطره لا للمكي والقريب، إلا أن يكون له عذر، قاله مالك وغيره، ومنهم من رأى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك، قاله عطاء وغيره.
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم: معنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له، واحتجوا بقوله عليه السلام: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه»، فقوله تعالى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ نفي عام وتبرئة مطلقة، وقال مجاهد أيضا: معنى الآية من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل، وأسند في هذا القول أثر.
وقال أبو العالية: المعنى في الآية لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة.
وقال أبو صالح وغيره: معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد وما يجب عليه تجنبه في الحج، وقال أيضا: لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا، واللام في قوله لِمَنِ اتَّقى متعلقة إما بالغفران على بعض التأويلات، أو بارتفاع الإثم في الحج على بعضها، وقيل: بالذكر الذي دل عليه قوله وَاذْكُرُوا، أي الذكر لمن اتقى، ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل.
وقال ابن أبي زمنين: «يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل».
قال ابن المواز: «يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر.
قال ابن المواز: «ويسقط رمي اليوم الثالث».
وقرأ سالم بن عبد الله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بوصل الألف، ثم أمر تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف بين يديه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
278
قال السدي: «نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبيّ، والأخنس لقب، وذلك أنه جاء إلى النبي ﷺ فأظهر الإسلام، وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعا، وقتل حمرا، فنزلت فيه هذه الآيات».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.
وقال ابن عباس: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا: ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين. ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ الآية، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: «أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران». ومعنى وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله يعلم أني أقول حقا، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهد الله» بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه، وما فِي قَلْبِهِ مختلف بحسب القراءتين، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر، أي هو في قلبه بزعمه، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه»، وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قلبه»، والألد: الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي، ومنه لديد الفم، واللدود، ويقال منه: لددت بكسر العين ألد، وهو ذم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، ويقال: لددته بفتح العين ألده بضمها إذا غلبته في الخصام، ومن اللفظة قول الشاعر: [الخفيف]
إنّ تحت الأحجار حزما وعزما وخصيما ألدّ ذا معلاق
والْخِصامِ في الآية مصدر خاصم، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم.
279
وتَوَلَّى وسَعى تحتمل جميعا معنيين: أحدهما أن تكون فعل قلب فيجيء تَوَلَّى بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيله وإرادته الدوائر على الإسلام، ومن هذا السعي قول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩]، ومنه وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: ١٩]. ومنه قول الشاعر:
[الرجز]
أسعى على حيّ بني مالك كل امرئ في شأنه ساع
ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء تَوَلَّى بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد، وسَعى يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره، وكلا السعيين فساد.
وقوله تعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
قال الطبري: «المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر».
وقال مجاهد: «المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل»، وقيل: المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون».
وقال الزجّاج: «يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن».
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد، إذ كل فساد في أمور الدنيا، فعلى هذين الفصلين يدور، وأكثر القراء على يُهْلِكَ بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفا على لِيُفْسِدَ، وفي مصحف أبي بن كعب «وليهلك»، وقرأ قوم «ويهلك» بضم الكاف، إما عطفا على يُعْجِبُكَ وإما على سَعى، لأنها بمعنى الاستقبال، وإما على القطع والاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن «ويهلك» بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع «الحرث» و «النسل»، وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو «ويهلك» بضم الياء والكاف «الحرث» بالنصب، وقرأ قوم «ويهلك» بفتح الياء واللام ورفع «الحرث» وهي لغة هلك يهلك، تلحق بالشواذ كركن يركن، والْحَرْثَ في اللغة شق الأرض للزراعة، ويسمى الزرع حرثا للمجاورة والتناسب، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملا على الزرع، ومنه قول عز وجل إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: ٧٨]، وهو كرم على ما ورد في التفاسير، وسمي النساء حرثا على التشبيه، والنَّسْلَ مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعا، ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، ومنه قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: ٩٦]، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل ولا يُحِبُّ معناه لا يحبه من أهل الصلاح، أي لا يحبه دينا، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه، والفساد واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة.
280
قال القاضي أبو محمد: والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد: إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ الآية، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا.
وقال بعض العلماء: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له: عليك نفسك، مثلك يوصيني؟. والعزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتخى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته أباه، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين، و «حسبه» أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به، والْمِهادُ ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش، ومن هذا الباب قول الشاعر: [الوافر] تحيّة بينهم ضرب وجيع وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذا على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع، ومن قال تلك في الأخنس قال: هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان.
وقال عكرمة وغيره: هذه في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي ﷺ فاتبعته قريش لترده، فنثر كنانته، وقال لهم: تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلا، والله لأرمينّكم ما بقي لي سهم، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك ونتركك، فدلهم على ماله وتركوه، فهاجر إلى النبي ﷺ فلما رآه قال له: «ربح البيع أبا يحيى»، فنزلت فيه هذه الآية، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم، ويَشْرِي معناه يبيع، ومنه وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: ٢٠]، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]
وشريت بردا ليتني... من بعد برد كنت هامه
وقال الآخر: [الكامل]
يعطى بها ثمنا فيمنعها... ويقول صاحبه ألا تشري
ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع.
وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري
281
المنكر، ولذلك قال علي وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا.
وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شبابا من القراءة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغير هما فيقرؤون بين يديه ومعه، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول: اقتتل الرجلان، حين قرأ هذه الآية، فسأله عما قال، ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر: «لله تلادك يا ابن عباس».
وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، ليس كما قالوا، بل هذا قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
الآية.
وابْتِغاءَ مفعول من أجله، ووقف حمزة على مَرْضاتِ بالتاء والباقون بالهاء. قال أبو علي:
«وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: [الرجز] بل جوز تيهاء كظهر الحجفت وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم»
بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع، فقيل: هما بمعنى واحد، يقعان للإسلام وللمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «السّلم بكسر السين الإسلام، وبالفتح المسالمة»، وأنكر المبرد هذه التفرقة، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة، وإنما قيل للنبي ﷺ أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدىء بها فلا.
واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق كَافَّةً حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز، نحو قوله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم: ٢٧]، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقال عكرمة: «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره». وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوراة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم، ف كَافَّةً على هذا لإجزاء الشرع فقط.
وقال ابن عباس: «نزلت الآية في أهل الكتاب»، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، ف كَافَّةً على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن
282
يراها المسالمة يقول: أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية، وكَافَّةً معناه جميعا، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفها، وقيل: إن كَافَّةً نعت لمصدر محذوف، كأن الكلام: دخله كافة، فلما حذف المنعوت بقي النعت حالا، وتقدم القول في خُطُواتِ، والألف واللام في الشَّيْطانِ للجنس، وعَدُوٌّ يقع على الواحد والاثنين والجميع، ومُبِينٌ يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو، لأن العرب تقول: بان الأمر وأبان بمعنى واحد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٩ الى ٢١٢]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
قرأ جمهور الناس «زللتم» بفتح اللام، وقرأ أبو السمال «زللتم» بكسرها، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق، والْبَيِّناتُ محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولا لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد ﷺ والتعريف به، وعَزِيزٌ صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه، وحَكِيمٌ أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم.
وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل، فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟، فقرأ الرجل: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فقال كعب: هكذا ينبغي.
وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ الآية، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهَلْ من حروف الابتداء كأما، ويَنْظُرُونَ معناه ينتظرون. والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق، وقرأ قتادة والضحاك «في ظلال»، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا، وفي الحرفين في الزمر. وقال عكرمة: ظُلَلٍ طاقات، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة «والملائكة» بالخفض عطفا على الْغَمامِ، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفا على اللَّهُ، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا.
وقال قوم: بل هو توعد بيوم القيامة، وقال قوم: قوله إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وعيد بيوم القيامة، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت، والْغَمامِ أرق السحاب وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو
283
وقال النقاش: «هو ضباب أبيض»، وفي قراءة ابن مسعود «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام»، وقُضِيَ الْأَمْرُ معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جبل «وقضاء الأمر»، وقرأ يحيى بن يعمر «وقضى الأمور» بالجمع، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون «ترجع» على بنائه للمفعول، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
وقوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه «اسأل» على الأصل، وقرأ قوم «أسل» على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر، ومن قرأ «سل» فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها. وكَمْ في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها لأن لها صدر الكلام، تقديره كم آتينا آتيناهم، وإما ب آتَيْناهُمْ.
وقوله: مِنْ آيَةٍ هو على التقدير الأول مفعول ثان ل آتَيْناهُمْ، وعلى الثاني في موضع التمييز. ويصح أن تكون كَمْ في موضع رفع بالابتداء والخبر في آتَيْناهُمْ. ويصير فيه عائد على كَمْ تقديره كم آتيناهموه، والمراد بالآية: كم جاءهم في أمر محمد ﷺ من آية معرفة به دالة عليه، ونِعْمَةَ اللَّهِ لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحبا على كل مبدل نعمة لله تعالى.
وقال الطبري: «النعمة هنا الإسلام»، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا، والتوراة أيضا نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خبر يقتضي ويتضمن الوعيد، والْعِقابِ مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر.
وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زين» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الحياة»، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت» بإظهار العلامة، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي، وخص الذين كفروا الذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها، والتزيين من الله تعالى واقع للكل، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها، وقد قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا».
وقوله تعالى: وَيَسْخَرُونَ إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي ﷺ كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة
284
والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب، كما قال تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: ٢٤]، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخرة في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم، وكذلك خير مستقرا من هؤلاء في نعمة الدنيا، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم كانوا يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يحتمل أن يكون المعنى: والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك، بل الرزق بغير حساب الأعمال، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب، حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينفد، ويحتمل أن يكون بِغَيْرِ حِسابٍ صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب هذا الذي يشاؤه الله، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين، كما قال تعالى: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٣]، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى: عَطاءً حِساباً [النبأ: ٣٦]، فالمعنى في ذلك محسبا، وأيضا فلو كان عدا لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادة وغير الحساب في التفضل والإنعام.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٣ الى ٢١٤]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
قال أبي بن كعب وابن زيد: المراد ب النَّاسُ بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم، أي كانوا على الفطرة.
285
وقال مجاهد: «الناس آدم وحده».
وقال قوم: «آدم وحواء».
وقال ابن عباس وقتادة: النَّاسُ القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحا فمن بعده.
وقال قوم: الناس نوح ومن في سفينته، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا.
وقال ابن عباس أيضا: كان الناس أمة واحدة كفارا، يريد في مدة نوح حين بعثه الله، وكانَ على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي، وتحتمل الآية معنى سابعا وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق. لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم، ف كانَ على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط، وذلك كقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: ٩٦- ٩٩- ١٠٠- ١٥٢، الفرقان: ٧٠، الأحزاب: ٥- ٥٩، الفتح: ١٤]، والأمة الجماعة على المقصد الواحد، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفردا بمقصد، ومنه قول النبي ﷺ في قس بن ساعدة: «يحشر يوم القيامة أمة وحده»، وقرأ أبي بن كعب «كان البشر أمة واحدة»، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث»، وكل من قدر النَّاسُ في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا، وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النَّبِيِّينَ إليهم، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح، لأن الناس يقولون له: أنت أول الرسل، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان، ومُبَشِّرِينَ معناه بالثواب على الطاعة، ومُنْذِرِينَ معناه من العقاب على المعاصي، ونصب اللفظتين على الحال، والْكِتابَ اسم الجنس، والمعنى جميع الكتب.
وقال الطبري: «الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة»، ولِيَحْكُمَ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور.
وقال قوم: المعنى ليحكم الله، وقرأ الجحدري «ليحكم» على بناء الفعل للمفعول، وحكى عنه مكي «لنحكم».
قال القاضي أبو محمد: وأظنه تصحيفا لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس، والضمير في فِيهِ عائد على مَا من قوله: فِيمَا، والضمير في فِيهِ الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيها منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه. والْبَيِّناتُ الدلالات والحجج، وبَغْياً منصوب على المفعول له، والبغي التعدي بالباطل، و «هدى» معناه أرشد، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد، والمراد ب الَّذِينَ آمَنُوا. من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقالت طائفة: معنى الآية: أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها.
286
وقالت طائفة: إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا.
وقال ابن زيد: من قبلتهم، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي ﷺ قال: «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فلليهود غد، وللنصارى بعد غد»، ومن صيامهم وجميع ما اختلفوا فيه.
وقال الفراء: في الكلام قلب، واختاره الطبري، قال: وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه. ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء.
قال القاضي أبو محمد: وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه، لأن قوله فَهَدَى يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله فِيهِ، وتبين بقوله مِنَ الْحَقِّ جنس ما وقع الخلاف فيه.
قال المهدوي: «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وليس هذا عندي بقوي، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق» أي عن الإسلام.
وبِإِذْنِهِ قال الزجّاج: معناه بعلمه، وقيل: بأمره، والإذن هو العلم والتمكين، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه.
وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ الآية، أَمْ قد تجيء لابتداء كلام بعد كلام وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ألف استفهام، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام يبتدأ بها، وحَسِبْتُمْ تطلب مفعولين، فقال النحاة أَنْ تَدْخُلُوا تسد مسد المفعولين لأن الجملة التي بعد أَنْ مستوفاة المعنى، ويصح أن يكون المفعول الثاني محذوفا، تقديره أحسبتم دخولكم الجنة واقعا، ولَمَّا، ولا يظهر أن يتقدر المفعول الثاني في قوله وَلَمَّا يَأْتِكُمْ بتقدير أحسبتم دخولكم الجنة خلوا من أن يصيبكم ما أصاب من قبلكم، لأن خَلَوْا حال، والحال هنا إنما تأتي بعد توفية المفعولين، والمفعولان هما الابتداء والخبر قبل دخول حسب، والْبَأْساءُ: في المال، والضَّرَّاءُ: في البدن، وخَلَوْا معناه انقرضوا، أي صاروا في خلاء من الأرض. وهذه الآية نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا رسول الله ﷺ وأصحابه في المدينة، هذا قول قتادة والسدي وأكثر المفسرين.
وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم وفتنوا هم قبل ذلك، ومَثَلُ معناه شبه، فالتقدير شبه آتى الذين خَلَوْا، والزلزلة شدة التحريك، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، ومذهب سيبوية أن «زلزل» رباعي ك «دحرج».
287
وقال الزجّاج: «هو تضعيف في زل» فيجيء التضعيف على هذا في الفاء، وقرأ الأعمش «وزلزلوا ويقول الرسول» بالواو بدل حتى، وفي مصحف ابن مسعود «وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول»، وقرأ نافع «يقول» بالرفع، وقرأ الباقون «يقول» بالنصب، ف حَتَّى غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير إلى أن، وعلى قراءة نافع كأنها اقترن بها تسبيب فهي حرف ابتداء ترفع الفعل، وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك ولا ارتياب، والرَّسُولُ اسم الجنس، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول، وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر، ويحتمل أن يكون أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٥ الى ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
السائلون هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها وأين يضعون ما لزم إنفاقه، و «ما» يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء، و «ذا» خبرها، فهي بمعنى الذي، ويُنْفِقُونَ صلة، وفيه عائد على «ذا» تقديره ينفقونه، ويصح أن تكون ماذا اسما واحدا مركبا في موضع نصب ب يُنْفِقُونَ، فيعرى من الضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب لا ما جاء من قول الشاعر: [الطويل].
وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا سوى أن يقولوا إنّني لك عاشق
فإن عسى لا تعمل، فماذا في موضع رفع وهو مركب إذ لا صلة لذا.
قال قوم: هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين.
وقال السدي: «نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة، ثم نسختها الزكاة المفروضة»، ووهم المهدوي على السدي في هذا فنسب إليه أنه قال إن الآية في الزكاة المفروضة، ثم نسخ منها الوالدان، وقال ابن
288
جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، واليتم فقد الأب قبل البلوغ، وتقدم القول في المسكين وابْنِ السَّبِيلِ، وما تَفْعَلُوا جزم بالشرط، والجواب في الفاء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يفعلوا» بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة، وكُتِبَ معناه فرض، وقد تقدم مثله، وهذا هو فرض الجهاد، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل».
وقال عطاء بن أبي رباح: «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية»، وقال جمهور الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام، فهو حينئذ فرض عين، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع. وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد. فقيل له: ذلك تطوع وال كُرْهٌ بضم الكاف الاسم، وفتحها المصدر.
وقال قوم «الكره» بفتح الكاف ما أكره المرء عليه، و «الكره» ما كرهه هو.
وقال قوم: هما بمعنى واحد.
وقوله تعالى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً الآية، قال قوم عَسى من الله واجبة، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا الدعة وترك القتال وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الآية قوة أمر.
وقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ الآية، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي، وذلك أن رسول الله ﷺ بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره. والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم، وفر نوفل فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش: محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي ﷺ وقال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم، فنزلت هذه الآية.
وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت، وهذا تخليط من المهدوي. وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن
289
جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت، لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين، وقِتالٍ بدل عند سيبويه، وهو بدل الاشتمال.
وقال الفراء: هو خفض بتقدير عن.
وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار»، وقوله هذا خطأ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن، وكذلك قرأها الربيع والأعمش، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما، والشَّهْرِ في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشَّهْرِ الْحَرامِ قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وروى جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وصَدٌّ مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر أَكْبَرُ، والْمَسْجِدِ معطوف على سَبِيلِ اللَّهِ، وهذا هو الصحيح.
وقال الفراء: صَدٌّ عطف على كَبِيرٌ، وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله وَكُفْرٌ بِهِ عطف أيضا على كَبِيرٌ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله ﷺ وأصحابه أكبر جرما عند الله.
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخ بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ٣٦]، وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥].
وقال عطاء: «لم تنسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم»، وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ المعنى عند جمهور المفسرين، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقيل: المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا.
وقال مجاهد وغيره: الْفِتْنَةُ هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك.
290
قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ ابتداء خبر من الله- عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، ويَرُدُّوكُمْ نصب ب حَتَّى لأنها غاية مجردة، وقوله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ [أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، قالت طائفة من العلماء: يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن- على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه: يقتل دون أن يستتاب، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد: ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين: راجع، فإن أبى ذلك قتل، وقال عطاء ابن أبي رباح: «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب»، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين، واختلف القائلون بالاستتابة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.
وقال الزهري: «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».
وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري:
يستتاب محبوسا أبدا، قال ابن المنذر: واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب.
قال القاضي أبو محمد: كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة، وحبط العمل إذا انفسد في آخر فبطل، وقرأ أبو السمال «حبطت» بفتح الباء في جميع القرآن.
وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٨ الى ٢٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآية، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله ﷺ عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل، وهاجر الرجل إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، وهي مفاعلة من هجر، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، وَيَرْجُونَ
291
معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، وقد يتجوز أحيانا ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف، كما قال الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال الأصمعي: «إذا اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف»، كهذا البيت، وكقوله عز وجل: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا [سورة يونس: الآيات: ٧- ١١- ١٥، سورة الفرقان: الآية ٢١]، المعنى لا يخافون، وقد قيل: إن الرجاء في الآية على بابه، أي لا يرجون الثواب في لقائنا، وبإزاء ذلك خوف العقاب، وقال قوم: اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين، وليس هذا بجيد، وقال الجاحظ في كتاب البلدان: «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله، فهو يصبر عليه»، وباقي الآية وعد.
وقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية، السائلون هم المؤمنون، والْخَمْرِ مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمروا الإناء»، ومنه خمار المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، ومنه قول الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره، ومنه قول العجاج:
في لامع العقبان لا يمشي الخمر يصف جيشا جاء برايات غير مستخف، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم، أي هو بمكان خاف، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك، والخمر ماء العنب الذي غلي ولم يطبخ أو طبخ طبخا لم يكف غليانه، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في حكمه. قال أبو حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب، قال ابن سيده: وأظنه تسفحا منه، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء، وروي أن النبي ﷺ قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: العنب والنخلة»، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح، ولم تكن عندهم خمر عنب، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره.
والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، فما لا يسكر منه حلال، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف يرده النظر، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه، وروي أن النبي عليه السلام قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام»، قال ابن المنذر في الإشراف: «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج»، وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣]، ثم قوله
292
تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، [المائدة: ٩١]، ثم قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: ٩٠]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر»، ولم يحفظ عن النبي ﷺ في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم وأبو داود، وروي عنه ﷺ أنه ضرب فيها ضربا مشاعا، وحزره أبوبكر أربعين سوطا، وعمل بذلك هو ثم عمر، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين، وبه قال مالك، وقال الشافعي بالأربعين، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة من العلماء لا يبدو إبط الضارب، وقال مالك: «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح»، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع، وقالت طائفة: هذه الآية منسوخة بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٩٠]، يريد ما في قوله وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من الإباحة والإشارة إلى الترخيص.
والْمَيْسِرِ مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر، ومنه قول الشاعر:
فلم يزل بك واشيهم ومكرهم حتّى أشاطوا بغيب لحم من يسروا
ومنه قول الآخر:
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا إنّي ابن فارس زهدم؟
والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسرا لأنه موضع اليسر، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة. وقال الطبري: «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى»، ونسب القول إلى مجاهد، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله، بل أراد مجاهد الجزر، واليسر: الذي يدخل في الضرب بالقداح، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر، كحارس وحرس وأحراس، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ، وثلاثة لا حظوظ لها، ولا فروض فيها، وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بها، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسما، وليس كذلك. ثم يضرب على العشرة الأقسام، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى: [السريع]
المطعمو الضيف إذا ما شتا والجاعلو القوت على الياسر
ومنه قول الآخر: [الطويل]
بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العفاة منيحها
والمنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فذلك
293
المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال، فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد جرير بقوله: [الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة كرّ المنيح وجلن ثمّ مجالا
ومن الميسر قول لبيد:
[الطويل]
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم فواحش ينعى ذكرها بالمصائف
فهذا كله هو نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل، ففيه إثم كبير، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز.
وقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ الآية، قال ابن عباس والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبله، وقالت طائفة: الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
إلى غير ذلك من أفراحها، وقال مجاهد: «المنفعة بها كسب أثمانها»، ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم، وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء المثلثة، وحجتها أن النبي ﷺ لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فهذه آثام كثيرة، وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير» بالباء بواحدة، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق، وأيضا فاتفاقهم على أَكْبَرُ حجة لكبير بالباء بواحدة، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة، إلا ما في مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر» بالثاء مثلثة في الحرفين، وقوله تعالى: فِيهِما إِثْمٌ يحتمل مقصدين، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما، وقال سعيد بن جبير: لما نزلت قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع، فلما نزلت لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس، فلما نزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٩٠] قال عمر بن الخطاب: ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمر.
ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١] قال: «انتهينا، انتهينا»، قال الفارسي: وقال بعض أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: ٣٣]، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثما، فهي حرام.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ليس هذا النظر بجيد لأن الإثم الذي فيها هو
294
الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. وقال قتادة: ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها.
وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال قيس بن سعد: «هذه الزكاة المفروضة». وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقال بعضهم: نسخت بالزكاة. وقال آخرون: هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة. والْعَفْوَ: هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله. ونحو هذا هي عبارة المفسرين، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من كان له فضل فلينفقه على نفسه، ثم على من يعول، فإن فضل شيء فليتصدق به»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وفي حديث آخر: «ما كان عن ظهر غنى».
وقرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وحده «العفو» بالرفع، واختلف عن ابن كثير، وهذا متركب على ماذا، فمن جعل «ما» ابتداء و «ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في يُنْفِقُونَ هـ عائدا قرأ «العفو» بالرفع، لتصح مناسبة الجمل، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم، أو الذي تنفقون العفو، ومن جعل ماذا اسما واحدا مفعولا ب يُنْفِقُونَ، قرأ «قل العفو» بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع «العفو» مع نصب «ما» جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته، وقال مكي: «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات، فقوله فِي الدُّنْيا متعلق على هذا التأويل ب الْآياتِ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق فِي الدُّنْيا ب تَتَفَكَّرُونَ.
قوله قبل فِي الدُّنْيا ابتداء آية، وقد تقدم تعلقه، وكون تَتَفَكَّرُونَ موقفا يقوي تعلق فِي الدُّنْيا ب الْآياتِ، وقرأ طاوس «قل أصلح لهم خير»
، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: سببها أن المسلمين لما
295
نزلت وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام: ١٥٢] الآية ونزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ الآية، وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم، مثال ذلك أن يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح، وقوله تعالى: فَإِخْوانُكُمْ خبر ابتداء محذوف، وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ تحذير، والعنت المشقة، منه عنت العزبة، وعقبة عنوت أي شاقة، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر، فالمعنى: لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى، ولكنه خفف عنكم، وقال ابن عباس: المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى، وعَزِيزٌ مقتضاه لا يرد أمره، وحَكِيمٌ أي محكم ما ينفذه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
وقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية، قرأ جمهور الناس «تنكحوا» بفتح التاء، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسه، ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وقالت طائفة: الْمُشْرِكاتِ هنا من يشرك مع الله إلها آخر، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية، ولا في معناها، وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة، وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول قط الكتابيات، وقال ابن عباس والحسن: تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب وقال:
«ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم»، وكره مالك رحمه الله تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري والشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة، ومنه مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق نكاح المجوسية، وقال ابن حنبل: لا يعجبني، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وقال ابن الفصار:
«قال بعض أصحابنا: يجب- على أحد القولين أن لهم كتابا- أن تجوز مناكحتهم». وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من كان على غير الإسلام حرام».
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة، وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى»، وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة:
أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا
المومسات منهن، وروي عن ابن عباس نحو هذا، وقوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره، وقال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم فأتى النبي ﷺ فأخبره، وقال: هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه مؤمنة. فقال ابن رواحة: لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل، فطعن عليه ناس فنزلت الآية فيه، ومالك رحمه الله لا يجوز عنده نكاح الأمة الكتابية، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات.
وقوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا الآية، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام، والقراء على ضم التاء من تَنْكِحُوا، وقال بعض العلماء: إن الولاية في النكاح نص في لفظ هذه الآية.
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مملوك خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ حسيب ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم، وليس التفضيل هنا بلفظة خَيْرٌ من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة «أفعل» التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك. كقولك «الثلج أبرد من النار»، والنور أضوأ من الظلمة»، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: تصح لفظة «أفعل» حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك، وحكى مكي عن نفطويه أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ونفيا عن الثاني.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله، وكما قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ٣٠]، فكأن الكلام في هذه الآية: ولامرأة ولرجل.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أنّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة من أن يدعو إلى دينه نصا من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والمغفرة» بالرفع على الابتداء، والإذن العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت «أذنت كذا» فليس يلزمك أنك أمرت، ولَعَلَّهُمْ ترجّ في حق البشر، ومن تذكر عمل حسب التذكر فنجا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٤]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
297
ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح، وقال قتادة وغيره: إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد: «كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك»، والمحيض مصدر كالحيض، ومثله المقيل من قال يقيل. قال الراعي: [الكامل].
بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة لا يستطيع بها القراد مقيلا
وقال الطبري: الْمَحِيضِ اسم الحيض، ومنه قول رؤبة في المعيش: [الرجز].
إليك أشكو شدّة المعيش ومرّ أعوام نتفن ريشي
وأَذىً لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن ومن سبيل البول، وهذه عبارة المفسرين للفظة، وقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا يريد جماعهن بما فسر من ذلك رسول الله ﷺ من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء، وروي عن مجاهد أنه قال: «الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده»، وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة، وروي أيضا عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا قول شاذ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما، وقالت له: أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه: «يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطهّرن» بتشديد الطاء والهاء وفتحهما، وفي مصحف أبيّ وعبد الله حتى يتطهرن، وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن، واعتزلوهن حتى يتطهرن»، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال: هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الاختلاف في الطهر ما هو؟ فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم:
هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة.
ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي.
قال القاضي أبو محمد: وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم: أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه الإجماع، أما إنه لا خلاف في كراهية الوطء قبل
298
الاغتسال بالماء، وقال ابن عباس والأوزاعي: من فعله تصدق بنصف دينار، ومن وطئ في الدم تصدق بدينار، وأسند أبو داود عن ابن عباس عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: «يتصدق بدينار أو بنصف دينار»، وقال ابن عباس: «الدينار في الدم، والنصف عند انقضائه»، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال، وذهب مالك رحمه الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ. وحَتَّى غاية لا غير، وتَقْرَبُوهُنَّ يريد بجماع، وهذا من سد الذرائع، وقوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ الآية، القراءة تَطَهَّرْنَ بتاء مفتوحة وهاء مشددة، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم. ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا: إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحا، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل، وفَأْتُوهُنَ
إباحة، والمعنى مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين. أو جميع الجسد، حسبما تقدم. هذا كله قول واحد، وقال ابن عباس وأبو رزين:
المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك. وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا، وقيل: المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك.
والتوابون: الراجعون، وعرفه من الشر إلى الخير، والمتطهرون: قال عطاء وغيره: المعنى بالماء، وقال مجاهد وغيره: المعنى من الذنوب، وقال أيضا مجاهد: المعنى من إتيان النساء في أدبارهن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: ٨٢]، وقرأ طلحة بن مصرف «المطّهّرين» بشد الطاء والهاء.
وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية، قال جابر بن عبد الله والربيع: سببها أن اليهود قالت: إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وعابت على العرب ذلك، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم، وقالت أم سلمة وغيرها: سببها أن قريشا كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام الناس في ذلك، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، وحَرْثٌ تشبيه، لأنهنّ مزدرع الذرية، فلفظة «الحرث» تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة، إذ هو المزدرع، وقوله أَنَّى شِئْتُمْ معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب، وأَنَّى إنما تجيء سؤالا أو إخبارا عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد فسر الناس أَنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبويه ب «كيف» ومن أين باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين» إلى أن الوطء في الدبر جائز، روي ذلك عن عبد الله بن عمر، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به، ورويت الإباحة أيضا
299
عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر، وروي عن مالك شيء في نحوه، وهو الذي وقع في العتبية، وقد كذب ذلك على مالك، وروى بعضهم أن رجلا فعل ذلك في عهد النبي ﷺ فتكلم الناس فيه، فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقد ورد عن رسول الله ﷺ في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال: «إتيان النساء في أدبارهن حرام»، وورد عنه فيه أنه قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها»، وورد عنه أنه قال: «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم»، وهذا هو الحق المتبع، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره.
وقال السدي: معنى قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به، وقال ابن عباس: «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع»، كما قال النبي ﷺ «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره»، وقيل: معنى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ طلب الولد، وَاتَّقُوا اللَّهَ تحذير، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.
وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ الآية، عُرْضَةً فعلة بناء للمفعول، أي كثيرا ما يتعرض بما ذكر، تقول «جمل عرضة للركوب» و «فرس عرضة للجري»، ومنه قول كعب بن زهير:
[البسيط].
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومقصد الآية: ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به، ولا تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى، ثم اختلف المتأولون: فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم: المعنى فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح. قال الطبري:
«التقدير لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا»، وقدره المهدوي: كراهة أن تبروا، وقال بعض المتأولين:
المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير «لا» بعد «أن»، ويحتمل أن يكون هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس، فيحلف حانثا ليكمل غرضه، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا»، فالمعنى: إذا أردتم لأنفسكم البر وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى، فقال عليّ يمين، وهو لم يحلف، وأَنْ تَبَرُّوا مفعول من أجله، والبر جميع وجوه الخير. «بر الرجل» إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك. وهو مضاد للإثم، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي. وسَمِيعٌ أي لأقوال العباد عَلِيمٌ بنياتهم، وهو مجاز على الجميع.
300
وأما سبب الآية فقال ابن جريج: «نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك»، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٥ الى ٢٢٧]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
«اللغو» سقط الكلام الذي لا حكم له، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الأيمان، تشبيها بالسقط من القول، يقال منه لغا يلغو لغوا ولغى يلغي لغيا، ولغة القرآن بالواو، والمؤاخذة هي التناول بالعقوبة، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد: لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، وروي أن قوما تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف أحدهم: لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلافه، فقال رجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيمان الرماة لغو لا إثم فيها ولا كفارة»، وقال أبو هريرة وابن عباس أيضا والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء: لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزا، قال مالك:
«مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك، فيحلف، ثم يجيء غير المحلوف عليه»، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير: لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم، فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال: يكفر، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغوا، وقال ابن عباس أيضا وطاوس: لغو اليمين الحلف في حال الغضب، وروى ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «لا يمين في غضب»، وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء: لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا، أو الحلال عليّ حرام، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه، وقال زيد بن أسلم وابنه: لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغيّة إن فعل كذا، وقال ابن عباس أيضا والضحاك: لغو اليمين هو المكفرة، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير، وقال إبراهيم النخعي: «لغو اليمين ما حنث فيه الرجل ناسيا»، وحكى ابن عبد البر قولا إن اللغو أيمان المكره.
301
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ قال ابن عباس والنخعي وغيرهما: ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، والكفارة إنما هي فيما يكون لغوا إذا كفر، وقال مالك وجماعة من العلماء: الغموس لا تكفر، هي أعظم ذنبا من ذلك، وقال الشافعي وقتادة وعطاء والربيع: اليمين الغموس تكفر، والكفارة مؤاخذة، والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وكذلك اليمين المصبورة: المعنى فيهما واحد، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم، والمصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي، وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هو في الرجل يقول هو مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويسكبه، وغَفُورٌ حَلِيمٌ صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذا هو باب رفق وتوسعة.
وقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الآية، قرأ أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون»، ويُؤْلُونَ معناه يحلفون، يقال آلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضا ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها، والتربّص التأنّي والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة الأشهر، واختلف من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء فقال مالك رحمه الله: «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم، أن لا يطأها، ضررا منه، أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه»، وقال به عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي الحسن: هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أولم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.
وقال ابن عباس: «لا إيلاء إلا بغضب»، وقال ابن سيرين: «سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء». وقاله ابن مسعود والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد.
وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب: كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء، وقال ابن المسيب منهم: إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء.
قال القاضي أبو محمد: وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري، وقال ابن عباس أيضا: لا يسمى موليا إلا الذي
302
يحلف أن لا يطأ أبدا، حكاه ابن المنذر، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وقال قتادة والنخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى: من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقوله تعالى مِنْ نِسائِهِمْ يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: أجله أربعة أشهر، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران، وقال الحسن:
أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران، وقاله النخعي، وقال الشعبي: «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة»، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما، وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول، قال مالك: «ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها»، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف: فإما فاء، وإما طلق، وإلا طلق عليه، وقال ابن مسعود وابن عباس وعثمان وعلي أيضا وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن ومسروق بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت، واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي، فقال عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري ومالك: هي رجعية، وفاؤُ معناه رجعوا، ومنه حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: ٩]، والفيء الظل الراجع عشيا، وقال الحسن وإبراهيم: إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه، لقوله تعالى فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية، وقال الجمهور: إذا فاء كفر، والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع، وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له ولا فيء بقول، وقال مالك رحمه الله:
«لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب والمسجون»، قال ابن القاسم في المدونة:
«إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا»، واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التفكير وإلا فلا فيء، وقال الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم: الفيء من غير المعذور الجماع ولا بد، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه، وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء. أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها».
وقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الآية، قال القائلون إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق:
عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر، وقال القائلون لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر:
303
العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله سَمِيعٌ، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا السراح».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول، اللام همزة، وروي عن نافع شد الواو دون همز، وقرأ الحسن «ثلاثة قرو» بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها. بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة، والْمُطَلَّقاتُ لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد، وقال قوم: تناولهن العموم ثم نسخن، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض، وهو عرف النساء وعليه معظمهن، فأغنى ذلك عن النص عليه، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها، ومنه قول الراجز: [الرجز]
يا رب ذي ضغن على فارض له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه، فالحيض على هذا يسمى قرءا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتركي الصلاة أيام أقرائك»، أي أيام حيضك، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءا، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض، ومنه قول الأعشى:
أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة بما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي من أطهارهن، وقال قوم: القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم: المراد الحيض، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل، هذا قول سعيد بن جبير وغيره، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك: المراد الاطهار، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من
304
العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقول ابن القاسم ومالك: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة. وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره، وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض، واختلف المتأولون في المراد بقوله ما خَلَقَ فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك هو الحيض والحبل جميعا، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع، وقال قتادة: «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية»، وقال السدي: «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل؟
مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في ذلك»
. وقال إبراهيم النخعي وعكرمة:
المراد ب ما خَلَقَ الحيض، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهن» بضم الهاء، وقوله إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق، وهذا كما تقول: إن كنت حرا فانتصر، وأنت تخاطب حرا، وقوله وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، البعل: الزوج، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس. لكن هو المسموع. وقال قوم: الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة، وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على بعول. وبعول لا شذوذ فيه. وقرأ ابن مسعود «بردتهن» بزيادة تاء، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهن» بضم الهاء، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة، والإشارة ب ذلِكَ هي إلى المدة، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح، فإن قصد أحد بعد هذا إفسادا أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل.
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي: إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن.
وقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قال ابن عباس: «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة»، وقال الضحاك وابن زيد: ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه، والآية تعم جميع حقوق الزوجية، وقوله وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال مجاهد وقتادة: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها، وقال عامر الشعبي: «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل، وأنه يلاعن إن قذف وتحد
305
إن قذفت»، فقال ابن عباس: «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق»، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهذا قول حسن بارع، وقال ابن إسحاق:
«الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها»، وقال ابن زيد: «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده»، وقال حميد:
«الدرجة اللحية».
وقال القاضي أبو محمد: وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل، وعَزِيزٌ لا يعجزه أحد، وحَكِيمٌ فيما ينفذه من الأحكام والأمور.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم: نزلت هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم:
المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها وإما أمسكها محسنا عشرتها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والآية تتضمن هذين المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه: أولها أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرىء وإن عزموا السراح [البقرة: ٢٢٧]، والوجه الثالث أن فعّل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و «إمساك» مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك، وقوله بِإِحْسانٍ معناه أن لا يظلمها شيئا من حقها ولا يتعدى في قول. وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب فلذلك خص
306
بالذكر. وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا» بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب خاف في التعدي إلى مفعول واحد وهو أَنْ، وقرأ حمزة وحده «يخافا» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر أَنْ بتقدير حرف جر محذوف، فموضع أَنْ: خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي، ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا» بالياء وواو الجمع، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس. وحرم الله- تعالى- على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر: «روينا معنى ذلك عن ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور»، وقال مالك- رحمه الله- والشعبي وجماعة معهما: فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى ذلك أن يكون الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ»، قال ابن المنذر: «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ، ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه»، وحُدُودَ اللَّهِ في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.
ونازلة حبيبة بنت سهل- وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي ﷺ أخذ الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه، وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت له: لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما، حل الخلع، وقال الشعبي: أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: معناه أن لا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة»، وقال عطاء بن أبي رباح: «يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبّك ونحو هذا».
وقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق، وقال ابن عمر والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى
307
بذلك عمر بن الخطاب، وقال طاوس والزهري وعطاء وعمر بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق: لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها. وبه قال الربيع، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة «منه»، يعني مما آتيتموهن وهو المهر. وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب: «لا أرى أن يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئا». وقال بكر بن عبد الله المزني: «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا» قال: «وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: ٢٠].
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.
وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد- تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة»
.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٠ الى ٢٣١]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: هذا ابتداء الطلقة الثالثة.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه: «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق»، واحتج من هذه الآية بذكر الله- تعالى- الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن عكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم، وقال مجاهد: «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح، والتسريح هو الطلقة الثالثة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ يحتمل الوجهين: إما تركها تتم العدة، وإما إرداف الثالثة. ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة. وتَنْكِحَ في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت سموأل امرأة رفاعة حين تزوجها
308
عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها ثلاثا، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن، ما معه إلا مثل الهدبة»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته»، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال: «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة»، وقال بعض الفقهاء: التقاء الختانين يحل.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى واحد، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح، ويتأول على سعيد- رحمه الله- أن الحديث لم يبلغه، ولما رأى العقد عاملا في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة.
قال القاضي أبو محمد: وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث. والذي يحل عند مالك- رحمه الله- النكاح الصحيح والوطء المباح، والمحلل إذا وافق المرأة: فلم تنكح زوجا، ولا يحل ذلك، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافا، وقال عثمان بن عفان: «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها».
ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج. وقال الحسن بن أبي الحسن:
«إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول»، وهذا شاذ، وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان.
وقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الآية، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين، وقال أبو عبيدة: «المعنى أيقنا»، وقوله في ذلك ضعيف، وحُدُودَ اللَّهِ الأمور التي أمر أن لا تتعدى، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا لهم، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين. أي نصب للعبرة من قول أو صنعة، وأما إن أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء، وقرأ السبعة «يبينها» بالياء، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون.
وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للرجال لا يختص بحكمه إلا الأزواج، وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على المرأة مضارّة منه لها، بأن يرتجع قرب انقضائها ثم يطلق بعد ذلك، قاله الضحاك وغيره، ولا خلاف فيه، ومعنى «بلغن أجلهن» قاربن، لأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، ومعنى «أمسكوهن» راجعوهن، وبِمَعْرُوفٍ قيل هو الإشهاد، ولا تُمْسِكُوهُنَّ أي لا تراجعوهن ضرارا، وباقي الآية بيّن.
309
المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وقال الحسن: «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازلا أو راجع كذلك»، وقالته عائشة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد:
النكاح والطلاق والرجعة»
. ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام ابن المسيب، النكاح والطلاق والعتق، ثم ذكر الله عباده بإنعامه عليهم بالقرآن والسنة، والْحِكْمَةِ هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب، والوصف ب عَلِيمٌ يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي ظاهرها خلاف النية فيها، كالمحلل والمرتجع مضارة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في تَعْضُلُوهُنَّ، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه، لأن المعنى يقتضي ذلك، وقد قال بعض الناس في هذا الموضع: إن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ، الأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير، فقوله أَزْواجَهُنَّ على هذا يعني به الرجال، إذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ الأولياء فالأزواج هم الذين كنّ في عصمتهم، والعضل المنع من الزواج، وهو من معنى التضييق والتعسير، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها، والداء العضال العسير البرء، وقيل: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته، وقيل: في جابر بن عبد الله، وذلك أن رجلا طلق أخته، وقيل بنته، وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر، وقال: «تركتها وأنت أملك بها، لا زوجتكها أبدا»، فنزلت الآية، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وأن النكاح يفتقر إلى ولي، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط النكاح، وقوله بِالْمَعْرُوفِ معناه المهر والإشهاد.
وقوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: ثم رجوع إلى خطاب الجماعة، والإشارة في ذلِكُمْ أَزْكى إلى ترك العضل، وأَزْكى وأَطْهَرُ معناه أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي، والله- تعالى- يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر.
قوله عز وجل:
والوالدات يرضعن أولدهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر، معناه: الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن، فأما المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في
310
المدونة أن الرضاع لازم للأم، بخلاف النفقة، وفي كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال، وقال عبد الوهاب: هو من فقراء المسلمين، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق به بأجرة المثل. هذا مع يسر الزوج، فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع، ولها أجر مثلها في يسر الزوج، وكل ما يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم، فإن كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. وهذه الآية هي في المطلقات، قاله السدي والضحاك وغيرهما، جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له، وقال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل واحد، وروي عن ابن عباس أنه قال: «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا».
قال القاضي أبو محمد: كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:
١٥]، لأن ذلك حكم على الإنسان عموما، وسمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب، ووصفهما ب كامِلَيْنِ إذ مما قد اعتيد تجوزا أن يقال في حول وبعض آخر حولين، وفي يوم وبعض آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين. وقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ مبني على أن الحولين ليسا بفرض لا يتجاوز، وقرأ السبعة «أن يتم الرضاعة» بضم الياء ونصب الرضاعة، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء «تتم الرضاعة» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة كالحضارة والحضارة، وغير ذلك. وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة» على وزن الفعلة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة» بالياء المضمومة، وانتزع مالك رحمه الله وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة، وروي عن قتادة أنه قال: «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات، ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله: لِمَنْ أَرادَ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول متداع.
قول عز وجل:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ الْمَوْلُودِ لَهُ اسم جنس وصنف من الرجال، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وقوله بِالْمَعْرُوفِ يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن الاقتضاء من المرأة، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، وقرأ جمهور الناس:
311
«تكلف» بضم التاء «نفس» على ما لم يسمّ فاعله، وقرأ أبو رجاء «تكلّف» بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفس» فاعله، وروى عنه أبو الأشهب «لا نكلّف» بالنون «نفسا» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضار والدة» بالرفع في الراء، وهو خبر معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارر» بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل، ويحتمل أن يكون «تضارر» بفتح الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله، ويعطف مولود له على هذا الحد في الاحتمالين، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم لا تُضَارَّ بفتح الراء المشددة، وهذا على النهي، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كل قراءة: النهي عن أن تضار الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها، وأن يضارها هو بسبب الولد، أو يضار الظئر، لأن لفظة نهيه تعم الظئر، وقد قال عكرمة في قوله: لا تُضَارَّ والِدَةٌ: معناه الظئر، ووجوه الضرر لا تنحصر، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارر» براءين الأولى مفتوحة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضار» بإسكان الراء وتخفيفها، وروي عنه الإسكان والتشديد، وروي عن ابن عباس «لا تضارر» بكسر الراء الأولى.
واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ. فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهم: هو وارث الصبي إن لو مات، قال بعضهم: وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، وقاله مجاهد وعطاء، وقال قتادة أيضا وغيره: هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه. وحكى الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا: الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تحكم، وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز: الوارث هو الصبي نفسه، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه، وقال سفيان رحمه الله: «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما» ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. ونص هؤلاء الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى: مِثْلُ ذلِكَ الرزق والكسوة، وذكر ذلك أيضا من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس وغيرهم. وقال مالك رحمه الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله مِثْلُ ذلِكَ أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ثم نسخ ذلك.
قال القاضي أبو محمد: فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا؟، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى الورثة مثل ذلك» بالجمع.
قوله عز وجل:
312

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٣ الى ٢٣٤]

وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
الضمير في أَرادا للوالدين، وفِصالًا معناه «فطاما» عن الرضاع، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولود، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله، هذا معنى الآية، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد وسفيان وغيرهم، وقال ابن عباس: «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما».
قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر، وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ فمخاطبة للرجال خاصة، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم»، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم» بالمد، المعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير «أتيتم» بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير: [الطويل].
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
قال أبو علي: «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة».
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال: فيدخل في الخطاب ب سَلَّمْتُمْ الرجال والنساء، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره: فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع، قال أبو علي: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف، ثم حذف الضمير، قال مجاهد: «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع»، وقال سفيان: «المعنى إذا سلمتم إلى المسترضعة وهي الظئر أجرها بالمعروف». وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا وعيد وتحذير، أي فهو مجاز بحسب عملكم.
قوله عز وجل:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً قال بعض نحاة الكوفيين: الخبر عن الَّذِينَ متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن، ومذهب نحاة البصرة أن خبر الَّذِينَ مترتب بالمعنى، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم، وإن شئت قدرته. وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز، وإعرابها مترتب على
313
هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد. مثل قوله:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨]، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظرة، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ [الطلاق: ٤]، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال، وقد بين تعالى ذلك بقوله: بِأَنْفُسِهِنَّ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، والتزام المبيت في مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج. وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه. وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روي عنه وغيرهما: ليس المبيت بمراعى، تبيت حيث شاءت. وقال الحسن بن أبي الحسن: «ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزواج، ولها أن تتزين وتتطيب».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقرأ جمهور الناس «يتوفون» بضم الياء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يتوفون» بفتح الياء، وكذلك روى المفضل عن عاصم، ومعناه يستوفون آجالهم، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل، إذا فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره ثم ينفخ الروح، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما، وقال تعالى: عَشْراً، ولم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ. قال جمهور أهل العلم: ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي، وحكى منذر بن سعيد- وروي أيضا عن الأوزاعي-: أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليال، قال المهدوي: «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة»، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال».
قوله عز وجل:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا..........
أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن، والمخاطبة بقوله فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عامة لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين والنساء المعتدات، وقوله عز وجل فِيما فَعَلْنَ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما: أراد
314
بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفا غير منكر.
قال القاضي أبو محمد: ووجوه المنكر في هذا كثيرة، وقال بعض المفسرين: بِالْمَعْرُوفِ معناه بالإشهاد، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وعيد يتضمن التحذير. وخَبِيرٌ اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس، والمباشر لحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزويج معتدة، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك». ومن المجوز قول الرجل:
إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن يقدر أمر يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، واحتج بأن النبي ﷺ فعله مع أم سلمة، والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء.
قال القاضي أبو محمد: وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سرا، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله صلى الله عليه وسلم، والخطبة بكسر الخاء فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول، يقال خطبها يخطبها خطبا وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
برح بالعينين خطّاب الكثب يقول إني خاطب وقد كذب
وإنما يخطب عسا من حلب والخطبة «فعلة» كجلسة «وقعدة»، والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره، أَوْ أَكْنَنْتُمْ معناه سترتم وأخفيتم، تقول العرب: كننت الشيء من الأجرام، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر في نفسي، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها، وقوله تعالى سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال الحسن: معناه ستخطبونهن.
315
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال إن لم تنهوا، وقال غير الحسن: معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة، وقوله تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية، ف سِرًّا على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين. وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي: السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى.
قال القاضي أبو محمد: هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين، فمن الشواهد قول الحطيئة: [الوافر]
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع
فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراما، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار، ومن الشواهد قول الآخر: [الطويل]
أخالتنا سرّ النّساء محرّم عليّ، وتشهاد النّدامى مع الخمر
لئن لم أصبّح داهنا ولفيفها وناعبها يوما براغية البكر
فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموما في حرام وحلال حتى ينال ثأره، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال: «سرا: نكاحا»، وهذه عبارة مخلصة، وقال ابن زيد: «معنى قوله وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهر تموه ودخلتم بهن».
قال القاضي أبو محمد: فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة، وحكى مكي عنه أنه قال: «الآية منسوخة بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز: «فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه، وإن نزل لم أفسخه»، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: «فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب»، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناء منقطع، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليّ نفسك فإن لي بك رغبة، فتقول هي وأنا مثل ذلك.
316
قال القاضي أبو محمد: وهذه عندي مواعدة، وإنما التعريض قول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة، ونحو هذا.
عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى عُقْدَةَ، وقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يريد تمام العدة، والْكِتابُ هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤]، وكما قال: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: ١٠٣]، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر أبو إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل.
قال القاضي أبو محمد: وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى، أما إن عقد في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول: فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريما، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود، وقال الجميع:
يكون خاطبا من الخطّاب، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك مرة: يتأبد التحريم، وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم: إن التحريم يتأبد، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة: إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطبا من الخطاب، قال أبو حنيفة والشافعي: تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب.
حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة، قال نا أبو عمر بن عبد البر، نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، عن محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما، وقال: «لا تنكحها أبدا». وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فبلغ عليا فقال: «يرحم الله أمير المؤمنين، ما
317
بال الصداق وبيت المال؟ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة»، قيل: فما تقول أنت فيها؟.
قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا حد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء»، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال: «يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة»، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم مجترما، فمرة قال: العالم والجاهل فيه سواء لا حد عليه، والصداق له لازم، والولد لاحق، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا، ومرة قال: العالم بالتحريم كالزاني يحد، ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله.
وقوله تعالى وَاعْلَمُوا إلى آخر الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيّن ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله ﷺ عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلبا للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن، وقال قوم: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها، وقال قوم: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها، وقال مكي: «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصدا للذوق، وذلك مأمون قبل المسيس»، والخطاب بالآية لجميع الناس، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن» بغير ألف، وقرأ الكسائي وحمزة «تماسوهن» بألف وضم التاء، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين، والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو علي لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن: نكح وسفد وقرع وذقط وضرب الفحل، والقراءتان حسنتان، وتَفْرِضُوا عطف على «تمسوا»، وفرض المهر إثباته وتحديده، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق فيه، قاله مالك في المدونة، والفريضة الصداق، وقوله تعالى وَمَتِّعُوهُنَّ معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن
318
مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا» من المراد به من النساء؟، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في غيرها، وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها، فحسبها ما فرض لها، ولا متعة لها، وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة، فقال الزهري: يقضي لها بها القاضي، وقال جمهور الناس: لا يقضي بها، قاله شريح، ويقال للزوج: إن كنت من المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة، وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة، قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ، قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار، فهذه لا متعة لها، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب الفراق، وعليها هي غضاضة في أن لا تختار نفسها.
واختلف الناس في مقدار المتعة، فقال ابن عمر: «أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها»، وروي أن ابن حجيرة كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير، وقال ابن عباس: «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة»، وقال عطاء: «من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة»، وقال الحسن: «يمتع كل على قدره: هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب وهذا بنفقة»، وكذلك يقول مالك بن أنس، ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل، ومتع شريح بخمسمائة درهم، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف: «كأني أنظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة»، وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير، وقوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ دليل على رفض التحديد، وقرأ الجمهور «على الموسع» بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي أوسع أي اتسعت حاله، وقرأ أو حيوة: «الموسّع» بفتح الواو وشد السين وفتحها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدره» بسكون الدال في الموضعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدره» بفتح الدال فيهما، قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، تقول: خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى، ويقرأ في كتاب الله فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: ١٧] وقدرها، وقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١]، ولو حركت الدال لكان جائزا، والْمُقْتِرِ: المقل القليل المال، ومَتاعاً نصب على المصدر وقوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لمعنى قوله عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، ثم أكد تعالى الندب بقوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي في هذه
319
النازلة من التمتيع هم محسنون، ومن قال بأن المتعة واجبة قال: هذا تأكيد الوجوب، أي على المحسنين بالإيمان والإسلام، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل، وحَقًّا صفة لقوله مَتاعاً، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد للأمر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
اختلف الناس في هذه الآية، فقالت فرقة فيها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع، إذ يتناولها قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ، وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية الآية التي في الأحزاب، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:
٢٤١] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب، الآية: ٤٩ فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية، حكى ذلك في المدونة عن زيد بن أسلم زعما، وقال ابن القاسم: إنه استثناء، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد، لأن ابن القاسم قال: إن قوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ [البقرة: ٢٤١] عم الجميع، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس، وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم تعن الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض، وقرأ الجمهور «فنصف» بالرفع، والمعنى فالواجب نصف ما فرضتم، وقرأت فرقة «فنصف» بنصب الفاء، المعنى فادفعوا نصف، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنصف» بضم النون في جميع القرآن، وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، ويَعْفُونَ معناه يتركن ويصفحن، وزنه يفعلن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها. وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين:
ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها، وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا فيما أحفظ.
واختلف الناس في المراد بقوله تعالى أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فقال ابن عباس وعلقمة وطاوس ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة والزهري ومالك وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته، وأما شريح فإنه
320
جوز عفو الأخ عن نصف المهر، وقال وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أخا أو أبا وإن كرهت، وقالت فرقة من العلماء: الذي بيده عقدة النكاح الزوج، قاله علي بن أبي طالب وقاله ابن عباس أيضا، وشريح أيضا رجع إليه، وقاله سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء الأمصار، فعلى القول الأول: الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما أن تعفو هي وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني: فالندب في الجهتين إما أن تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئا، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط فيؤدي جميع المهر، وهذا هو الفضل منهما، وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل، ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق، فقيل له: لم تزوجتها؟، فقال: عرضها علي فكرهت رده، قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟
قال القاضي أبو محمد: ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق. وأيضا فإنه لا يجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف الصداق؟ وأيضا فإنه إذا قيل إنه الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلا أو وصيا أو الحاكم أو الرجل من العشيرة؟، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة الآية، لأن قوله الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ عبارة متمكنة في الولي، وهي في الزوج قلقة بعض القلق، وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل، وأيضا فإن قوله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ لا تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لا عفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك أمرها، وأيضا فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال الزوج، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وإعطاء الزوج المهر كاملا لا يقال فيه عفو، إنما هو انتداب إلى فضل، اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته، وهذا طار لا يعتد به، قال مكي: وأيضا فقد ذكر الله الأزواج في قوله فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ثم ذكر الزوجات بقوله يَعْفُونَ، فكيف يعبر عن الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق لها إلا الولي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي هذا نظر، وقرأ الجمهور «أو يعفو» بفتح الواو لأن الفعل منصوب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو يعفو الذي» بواو ساكنة، قال المهدوي: ذلك على التشبيه بالألف، ومنه قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
فما سوّدتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل رحمه الله: لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم عفوة وهو جمع عفو وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة، ثم خاطب تعالى الجميع نادبا بقوله وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي يا جميع الناس، وهذه قراءة الجمهور بالتاء باثنتين من فوق، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو» بالياء، وذلك راجع إلى
321
الذي بيده عقدة النكاح، وقرأ الجمهور «ولا تنسوا الفضل»، وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل»، وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه، وقوله تعالى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ ندب إلى المجاملة، قال مجاهد: الفضل إتمام الزوج الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها، وقوله إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
الخطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها، وذكر تعالى الصَّلاةِ الْوُسْطى ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله الصَّلَواتِ لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي «والصلاة الوسطى» بالنصب على الإغراء، وقرأ كذلك الحلواني.
واختلف الناس في أي صلاة هو هذا الوصف، فذهبت فرقة إلى أنها الصبح وأن لفظ «وسطى» يراد به الترتيب، لأنها قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما، قال هذا القول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وصلى بالناس يوما الصبح فقنت قبل الركوع فلما فرغ قال: «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين»، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من الصحابة، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد والربيع ومالك بن أنس. وقوى مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها، وصلاتا جمع قبلها وصلاتا جمع بعدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا»، وقال: «إنهما أشدّ الصلوات على المنافقين»، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة لمن شهدها والعتمة نصف ليلة، وقال الله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: ٧٨]، فيقوي هذا كله أمر الصبح.
وقالت فرقة: هي صلاة الظهر. قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر. واحتج قائلو هذه المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام، فهي وسطى بذلك، أي فضلى، فليس هذا التوسط في الترتيب، وأيضا فروي أنها كانت أشق الصلوات على أصحاب النبي ﷺ لأنها كانت تجيء في الهاجرة، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم، وأيضا فيدل على ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، فهذا اقتران الظهر والعصر.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا نهار وبعدها صلاتا ليل، وروي هذا القول أيضا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، وفي مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، وهو قولها المروي عنها. وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي، وفي إملاء حفصة أيضا «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، ومن روى
322
«وصلاة العصر» فيتناول أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد. كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» على البدل، وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي ﷺ وتواتر الحديث عن النبي ﷺ أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. فعرفنا أنها العصر»، وقال البراء ابن عازب: «كنا نقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. ثم نسخها الله، فقرأنا: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. فقال له رجل: فهي العصر؟، قال: «قد أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت»، والله أعلم. وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: «الصلاة الوسطى صلاة العصر».
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال والله أعلم.
وقال قبيصة بن ذؤيب: «الصلاة الوسطى صلاة المغرب»، لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية، وأيضا فقبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن الصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العشاء الآخرة، وذلك أنها تجيء في وقت نوم وهي أشد الصلوات على المنافقين، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها، وأيضا فقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى لم يعينها الله تعالى لنا، فهي في جملة الخمس غير معينة، كليلة القدر في ليالي العشر، فعل الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيدا، ذكره ابن حبيب ومكي.
وقال بعض العلماء: الصَّلاةِ الْوُسْطى المكتوبة الخمس، وقوله أولا عَلَى الصَّلَواتِ يعم النفل والفرض، ثم خص الفرض بالذكر، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى».
وقوله تعالى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ معناه في صلاتكم، واختلف الناس في معنى قانِتِينَ، فقال الشعبي: «معناه مطيعين»، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: «كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة»، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون لله عاصمين، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين، وقال نحو هذا الحسن بن أبي الحسن وطاوس، وقال السدي: «قانتين معناه ساكتين»، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود: «كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته» قال: «ودخلت يوما والنبي ﷺ يصلي بالناس فسلمت فلم يرد عليّ أحد، فاشتد
323
ذلك عليّ، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة»، والقنوت السكوت، وقاله زيد بن أرقم، وقال: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، فأمرنا بالسكوت»، وقال مجاهد: «معنى قانتين خاشعين، القنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح».
قال القاضي أبو محمد: وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى، وقال الربيع:
«القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له»، وقال قوم: القنوت الدعاء، وقانِتِينَ معناه داعين، روي معنى هذا عن ابن عباس، وفي الحديث: قنت رسول الله ﷺ شهرا يدعو على رعل وذكوان، فقال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طوّل قيامه، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت، وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص لعبيده في الصلاة رجالا متصرفين على الأقدام، ورُكْباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه، هذا قول جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية، وفرق مالك رحمه الله بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء، وقوله تعالى فَرِجالًا هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ورجل» بضم الجيم وهي لغة أهل الحجاز، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل، ورجل وأنشد ابن الأعرابي في «رجلان» :[الطويل]
عليّ إذا لاقيت ليلى بخلوة أن ازدار بيت الله رجلان حافيا
ويجمع على رجال ورجيلى ورجالى ورجّالى ورجّالة ورجّال ورجالي ورجلان ورجلة ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال، فهذه الآية وقوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج: ٢٧] هما من لفظ الرجلة أي عدم المركوب، وقوله تعالى شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [البقرة: ٢٨٢] فهو جمع اسم الجنس المعروف، وحكى المهدوي عن عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ «فرجّالا» بضم الراء وشد الجيم المفتوحة، وعن عكرمة أيضا أنه قرأ «فرجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ «فرجّلا» دون ألف على وزن فعل بضم الفاء وشد العين، وقرأ جمهور القراء «أو ركبانا» وقرأ بديل بن ميسرة «فرجالا فركبانا» بالفاء، والركبان جمع
راكب، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموات، ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه. واختلف الناس كم يصلي من الركعات. فمالك رحمه الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات شيئا، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة». وقال الضحاك بن مزاحم:
«يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين»، وقال إسحاق بن راهويه: «فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه»، ذكره ابن المنذر.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية، فقالت فرقة: المعنى فإذا زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه، وقالت فرقة: المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد، كأنه قال: فمتى كنتم على أمن فاذكروا الله، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي فصلوا كما علمكم صلاة تامة، حكاه النقاش وغيره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقوله على هذا التأويل ما لَمْ تَكُونُوا بدل من «ما» التي في قوله كَما، وإلا لم يتسق لفظ الآية، وعلى التأويل الأول ما مفعولة ب عَلَّمَكُمْ، وقال مجاهد: «معنى قوله فَإِذا أَمِنْتُمْ، فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة»، ورد الطبري على هذا القول، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير، والكاف في قوله كَما للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا، وكان الذكر شبيها بالنعمة في القدر وكفاء لها، ومن تأول «اذكروا» بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة العبد والهيئة التي علمه الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
الَّذِينَ رفع بالابتداء، والخبر في الجملة التي هي «وصية لأزواجهم»، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «وصية» بالرفع، وذلك على وجهين: أحدهما الابتداء والخبر في الظرف الذي هو قوله لِأَزْواجِهِمْ، ويحسن الابتداء بنكرة من حيث هو موضع تخصيص كما حسن أن يرتفع «سلام عليكم»، وخير بين يديك، وأمت في حجر لا فيك، لأنها مواضع دعاء، والوجه الآخر أن تضمر له خبرا تقدره، فعليهم وصية لأزواجهم، ويكون قوله لِأَزْواجِهِمْ صفة. قال الطبري: «قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية»، قال: «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود»، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصية» بالنصب، وذلك حمل على الفعل كأنه قال: ليوصوا وصية، ولِأَزْواجِهِمْ
على هذه القراءة صفة أيضا، قال هارون: «وفي حرف أبي بن كعب «وصية لأزواجهم متاع» بالرفع، وفي حرف ابن مسعود «الوصية لأزواجهم متاعا»، وحكى الخفاف أن في حرف أبيّ «فمتاع لأزواجهم» بدل وصية.
ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها، واختلف العلماء ممن هي هذه الوصية، فقالت فرقة: كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج، قال قتادة: «كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ما لم تخرج برأيها، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر». وقال الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد، وقالت فرقة: بل هذه الوصية هي من الزوج، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف يُتَوَفَّوْنَ على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون، لأن الميت لا يوصي، قال هذا القول قتادة أيضا والسدي. وعليه حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة، قال السدي: «إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشرا، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج. فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر سقطت الوصية. ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض. فأخذت ربعها أو ثمنها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن لا يرث، وقال الطبري عن مجاهد: «إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ مجاهد رحمه الله التي حكى عنها الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة، ولا نص مجاهد ذلك، بل يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث.
ومَتاعاً نصب على المصدر، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول، وقوله تعالى: غَيْرَ إِخْراجٍ معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها، وغَيْرَ نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال: لا إخراجا، وقيل: نصب على الحال من الموصين. وقيل: هي صفة لقوله مَتاعاً، وقوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ الآية، معناه أن الخروج إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. حَكِيمٌ أي محكم لما يأمر به عباده، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوّله الطبري مجاهدا رحمه الله، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤١ الى ٢٤٢]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
اختلف الناس في هذه الآية، فقال أبو ثور: «هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة دخل بها أو لم
يدخل، فرض لها أو لم يفرض، بهذه الآية»، وقال الزهري: «لكل مطلقة متعة، وللأمة يطلقها زوجها».
وقال سعيد بن جبير: «لكل مطلقة متعة». وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة: «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها».
قال القاضي أبو محمد: ففر ابن القاسم رحمه الله من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم. وإذا التزم ابن القاسم أن قوله وَلِلْمُطَلَّقاتِ عمّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيب اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في هذا العموم.
فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا تخصيص، وقال ابن زيد: «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة، لأنه نزل قبل حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ٢٣٦] فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فوجب ذلك عليهم».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد.
وقوله تعالى: حَقًّا نصب على المصدر، والْمُتَّقِينَ هنا ظاهره أن المراد من تلبس بتقوى الله تعالى، والكاف في قوله كَذلِكَ للتشبيه، وذلك إشارة إلى هذا الشرع والتنويع الذي وقع في النساء وإلى إلزام المتعة لهن، أي كبيانه هذه القصة يبين سائر آياته، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي من رأى هذا المبين له رجا أن يعقل ما يبين له.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
هذه رؤية القلب بمعنى: ألم تعلم، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: ١٩٠- ٢٤٤] الآية، وحكى قوم من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، فخرجوا من ديارهم فرارا منه، فأماتهم الله، فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي عليه السلام، فدعا الله فأحياهم له، وقال السدي: «هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها
داوردان، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم بضعة وثلاثون ألفا». في حديث طويل، ففيهم نزلت الآية.
وقال إنهم فروا من الطاعون: الحسن وعمرو بن دينار. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون. لكن سحنة الموت على وجوههم. ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم، وروى ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل، وأنهم كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم، فأمرهم الله بالجهاد ثانية فذلك قوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:
١٩٠- ٢٤٤].
قال القاضي أبو محمد: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا ﷺ أخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليرواهم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد. هذا قول الطبري، وهو ظاهر رصف الآية، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها. واختلف الناس في لفظ أُلُوفٌ. فقال الجمهور: هي جمع ألف. وقال بعضهم: كانوا ثمانين ألفا. وقال ابن عباس: «كانوا أربعين ألفا». وقيل: كانوا ثلاثين ألفا. وهذا كله يجري مع أُلُوفٌ إذا هو جمع الكثير، وقال ابن عباس أيضا: «كانوا ثمانية آلاف»، وقال أيضا: أربعة آلاف، وهذا يضعفه لفظ أُلُوفٌ لأنه جمع الكثير. وقال ابن زيد في لفظ أُلُوفٌ: «إنما معناها وهم مؤتلفون» أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم. إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم.
وقوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا الآية، إنما هي مبالغة في العبارة عن فعله بهم. كأن ذلك الذي نزل بهم فعل من قيل له: مت، فمات، وحكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا، فماتوا. فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين. وهذا الموت ظاهر الآية، وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيه الأرواح الأجساد، وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم، بل جعله الله في هؤلاء كمرض حادث مما يحدث على البشر. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ الآية، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلّا له، حسبما أمر جميع العالم بذلك، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم. وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٤ الى ٢٤٦]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
328
الواو في هذه الآية عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، هذا قول الجمهور إن هذه الآية هي مخاطبة لأمة محمد ﷺ بالقتال في سبيل الله، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا حسب الحديث، وقال ابن عباس والضحاك: الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل، فالواو على هذا عاطفة على الأمر المتقدم، المعنى وقال لهم قاتلوا، قال الطبري رحمه الله: «ولا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال هو للذين أحيوا»، وسَمِيعٌ معناه للأقوال، عَلِيمٌ بالنيات.
ثم قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ الآية، فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب، كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، ويروى أن هذه الآية لما نزلت قال أبو الدحداح: «يا رسول الله أوإن الله يريد منا القرض؟» قال: «نعم، يا أبا الدحداح»، قال: «فإني قد أقرضت الله حائطي» : لحائط فيه ستمائة نخلة، ثم جاء الحائط وفيه أم الدحداح، فقال: اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا، قال: فكان رسول الله ﷺ يقول: «كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال فيه ابن الدحداحة، واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب، والله هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء، وقد ذهبت اليهود في مدة النبي ﷺ إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم محتاج يستقرض، وهذا بين الفساد، وقوله حَسَناً معناه تطيب فيه النية، ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته، واختلف القراء في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ فقرأ ابن كثير «فيضعّفه» برفع الفاء من غير ألف وتشديد العين في جميع القرآن، وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه نصب الفاء في جميع القرآن، ووافقه عاصم على نصب الفاء إلا أنه أثبت الألف في «فيضاعفه» في جميع القرآن، وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كله إلا من سورة الأحزاب. قوله تعالى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ [الأحزاب: ٣٠]، فإنه بغير ألف كان يقرأه، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله بالألف ورفع الفاء، فالرفع في الفاء يتخرج على وجهين: أحدهما العطف على ما في الصلة. وهو يقرض، والآخر أن يستأنف الفعل ويقطعه، قال أبو علي: «والرفع في هذا الفعل أحسن».
قال القاضي أبو محمد: لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب الاستفهام، وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل الأول ثم يجيء الثاني مخالفا له. تقول: أتقرضني فأشكرك، وهاهنا إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض، ولكن تحمل قراءة ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى، لأنه لم يستفهم عن فاعل الإقراض إلا من أجل الإقراض، فكأن الكلام أيقرض أحد الله فيضاعفه له، ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف: ١٨٦]
329
بجزم نذرهم، لما كان معنى قوله فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: ١٨٦] فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة، وقرأ ابن كثير «يبسط» بالسين، ونافع بالصاد في المشهور عنه، وقال الحلواني عن قالون عن نافع: إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو بالصاد، وروى أبو قرة عن نافع يبسط بالسين، وروي أن النبي ﷺ طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة، فقال: «إن الله هو الباسط القابض، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يتبعني أحد بمظلمة في نفس ولا مال».
قوله عز وجل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا هذه الآية خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو، فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل، فنصرهم الله، وفي هذا كله مثال للمؤمنين يحذر المكروه منه ويقتدى بالحسن، والْمَلَإِ في هذه الآية جميع القوم، لأن المعنى يقتضيه، وهذا هو أصل اللفظة.
ويسمى الأشراف الملأ تشبيها، وقوله مِنْ بَعْدِ مُوسى معناه من بعد موته وانقضاء مدته، واختلف المتأولون في النبي الذي قيل له ابْعَثْ، فقال ابن إسحاق وغيره عن وهب بن منبه: هو سمويل بن بالي.
وقال السدي: هو شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف، لأن مدة داود هي بعد مدة موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى، وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها، وروي أنها كانت تضع التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب، فلا تزال تغلب حتى عصوا وظهرت فيهم الأحداث. وخالف ملوكهم الأنبياء، واتبعوا الشهوات، وقد كان الله تعالى أقام أمورهم بأن يكون أنبياؤهم يسددون ملوكهم، فلما فعلوا ما ذكرناه سلط الله عليهم أمما من الكفرة فغلبوهم وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب فذل أمرهم. وقال السدي: «كان الغالب لهم جالوت وهو من العمالقة، فلما رأوا أنه الاصطلام وذهاب الذكر أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم. حتى اجتمع ملأهم على أن قالوا لنبي الوقت:
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الآية، وإنما طلبوا ملكا يقوم بأمر القتال، وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم: «بنو يهوذا»
، فعلم النبي بالوحي أنه ليس في بيت المملكة من يقوم بأمر الحرب، ويسر الله لذلك طالوت.
وقرأ جمهور الناس «نقاتل» بالنون وجزم اللام على جواب الأمر، وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يقاتل» بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك. وأراد النبي المذكور عليه السلام أن يتوثق منهم فوقفهم على جهة التقرير وسبر ما عندهم بقوله هَلْ عَسَيْتُمْ وقرأ نافع «عسيتم» بكسر العين في الموضعين، وفتح الباقون السين، قال أبو علي: «الأكثر فتح السين وهو المشهور»، ووجه الكسر قول
330
العرب هو عس بذلك مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عسي زيد مثل رضي، فإن قيل فهو القياس، وإن لم يقل فسائغ أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع الأخرى كما فعل ذلك في غيره، ومعنى هذه المقالة:
هل أنتم قريب من التولي والفرار. إن كتب عليكم القتال؟.
قوله عز وجل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ.......
المعنى وأي شيء يجعلنا ألا نقاتل وقد وترنا وأخرجنا من ديارنا؟ وقالوا هذه المقالة وإن كان القائل لم يخرج من حيث قد أخرج من هو مثله وفي حكمه، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب تولوا، أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبي ﷺ بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا»، ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله، ثم توعد الظالمين في لفظ الخبر الذي هو قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وقرأ أبي بن كعب «تولوا إلا أن يكون قليل منهم».
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
قال وهب بن منبه: «إنه لما قال الملأ من بني إسرائيل لسمويل بن بالي ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا ويدله عليه، فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، قال: وكان طالوت رجلا دباغا، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكان سبطا لا نبوة فيه ولا ملك، فخرج طالوت في بغاء دابة له أضلها، فقصد سمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهو دهن القدس فيما يزعمون، قال: فقام إليه سمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا»، وطالُوتَ اسم أعجمي معرب ولذلك لم ينصرف،
وقال السدي: «إن الله أرسل إلى شمعون عصا وقال له: من دخل عليك من بني إسرائيل فكان على طول هذه العصا فهو ملكهم، فقيس بها بنو إسرائيل فكانت تطولهم حتى مربهم طالوت في بغاء حماره الذي كان يسقي عليه، وكان رجلا سقاء، فدعوه فقاسوه بالعصا فكان مثلها، فقال لهم نبيهم ما قال، ثم إن بني إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله تعالى، وجروا على سننهم فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، أي لأنه ليس في بيت ملك ولا سبقت له فيه سابقة. وَلَمْ يُؤْتَ مالا واسعا يجمع به نفوس الرجال حتى يغلب أهل الأنفة بماله.
قال القاضي أبو محمد: وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله وقضاؤه السابق، وأنه مالك الملك، فاحتج عليهم نبيهم عليه السلام بالحجة القاطعة، وبيّن لهم مع ذلك تعليل اصطفائه طالوت، وأنه زاده بسطة في العلم وهو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، قال ابن عباس:
«كان في بني إسرائيل سبطان أحدهما للنبوة والآخر للملك، فلا يبعث نبي إلا من الواحد ولا ملك إلا من الآخر، فلما بعث طالوت من غير ذلك قالوا مقالتهم»
، قال مجاهد: معنى الملك في هذه الآية الإمرة على الجيش.
قال القاضي أبو محمد: ولكنهم قلقوا لأن من عادة من تولى الحرب وغلب أن يستمر ملكا، و «اصطفى» افتعل، مأخوذ من الصفوة، وقرأ نافع «بصطة» بالصاد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بسطة» بالسين، والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في المعارف، وقال بعض المتأولين: المراد علم الحرب، وأما جسمه فقال وهب بن منبه: إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت.
وَاللَّهُ يُؤْتِي.....
لما علم نبيهم عليه السلام تعنتهم وجدالهم في الحجج تمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه، وهو قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ، وظاهر اللفظ أنه من قول النبي لهم، وقد ذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، وأضيف ملك الدنيا إلى الله تعالى، إضافة مملوك إلى مالك، وواسِعٌ معناه وسعت قدرته وعلمه كل شيء، وأما قول النبي لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج، وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وابن زيد والسدي.
332
واختلف المفسرون في كيفية إتيان التَّابُوتُ وكيف كان بدء أمره، فقال وهب بن منبه: كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح منكسة، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم، وقيل: جعل في مخراة قوم فكانوا يصيبهم الناسور، فلما عظم بلاؤهم كيف كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت، فأيقنوا بالنصر. وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وقال قتادة والربيع: بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون، فجعله يوشع في البرية، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت. وكان أمر التابوت مشهورا عندهم في تركة موسى، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت، فاستوسقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت، وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه»، وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجها للين إسناده.
قوله عز وجل:
فِيهِ سَكِينَةٌ...
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج ولها رأسان، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب، وقال:
أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام. وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل:
السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر. وقال ابن عباس: السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقاله السدي. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح: السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال الربيع بن أنس: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي رحمة من ربكم، وقال قتادة:
سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي وقار لكم من ربكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.
333
واختلف المفسرون في البقية ما هي؟: فقال ابن عباس: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقال الربيع: هي عصا موسى وأمور من التوراة. وقال عكرمة: هي التوراة والعصا ورضاض الألواح.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا ما روي من أن موسى عليه السلام لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل ألقى الألواح غضبا فتكسرت. فنزع منها ما بقي صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعل في التابوت. وقال أبو صالح: البقية عصا موسى وعصا هارون ولوحان من التوراة والمن. وقال عطية بن سعد: هي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقال الثوري: من الناس من يقول البقية قفيز منّ ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. وقال الضحّاك: البقية الجهاد وقتال الأعداء.
قال القاضي أبو محمد: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وهارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم، وكلهم آل لموسى وهارون، وآل الرجل قرابته وأتباعه، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد: حمل الملائكة هو سوقها التابوت دون شيء يحمله سواها حتى وضعته بين يدي بني إسرائيل وهم ينظرون إليه بين السماء والأرض، وقال وهب بن منبه والثوري عن بعض أشياخهم: حملها إياه هو سوقها الثورين أو البقرتين اللتين جرتا العجلة به، ثم قرر تعالى أن مجيء التابوت آية لهم إن كانوا ممن يؤمن ويبصر بعين حقيقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكا وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل، وفَصَلَ معناه خرج بهم من القطر، وفصل حال السفر من حال الإقامة، قال السدي وغيره: كانوا ثمانين ألفا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وقال وهب بن منبه: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض.
واختلف المفسرون في النهر، فقال وهب بن منبه: لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا فادع الله يجر لنا نهرا، فقال لهم طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ الآية، وقال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقاله ابن عباس، وقال أيضا هو والسدي: النهر نهر فلسطين، وقرأ جمهور القراء «بنهر» بفتح الهاء، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهر» بإسكان الهاء في جميع القرآن، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته وسهولته، وقد قال
334
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية. ومنه قول الحسن رحمه الله: [البسيط].
لا يدلفون إلى ماء بآنية إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح
وظاهر قول طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب، فليس يحارب إلّا بالجند المطيع، ومنه قول معاوية: «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه»، ومنه قول علي رضي الله عنه: «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان»، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية، كما قال عروة: [الطويل] وأحسو قراح الماء والماء بارد فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم، وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله ﷺ إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم.
وقوله: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا، ومن رمانا بالنبل فليس منا، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود»، وفي قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم. ولهذه المبالغات لم يأت الكلام، ومن لم يشرب منه. وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غرفة» بفتح الغين. وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر. والمفعول محذوف، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة، وقرأ الباقون «غرفة» بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به، لأن الغرفة هي العين المغترفة. فهذا بمنزلة إلّا من اغترف ماء، وكان أبو علي يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا من جهة أن «غرفة» بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم. فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برّح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.
قوله عز وجل:
فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ...
«جاوز» فاعل من جاز يجوز. وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع. لأن النهر وما أشبهه كأنه
335
يجاوز. واختلف الناس في الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كم كانوا؟ فقال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا، وما جاوز معه إلا مؤمن، وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوم بدر: «أنتم كعدة أصحاب طالوت»، وقال السدي وابن عباس: بل جاوز معه أربعة آلاف رجل، قال ابن عباس: فيهم من شرب، قالا: فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا: لا طاقة لنا اليوم، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس، فعلى القول الأول قالت الجملة: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ، على جهة استكثار العدو. فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ الآية، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظنا على بابه، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد، ولغيره، وعلى القول الثاني قال كثير من الأربعة الآلاف: لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت، وانصرفوا عن طالوت، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ والظن على هذا بمعنى اليقين، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس.
قال القاضي أبو محمد: وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى: هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة، فبعض كع وقليل صمم، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة»، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد، من قولهم: فاء يفيء إذا رجع، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيها، والملك فئة الناس، والجبل فئة، والحصن، كل ذلك تشبيه، وفي قولهم رضي الله عنهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ الآية، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربه، و «إذن الله» هنا تمكينه وعلمه، فمجموع ذلك هو الإذن، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بنصره وتأييده.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٠ الى ٢٥١]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
بَرَزُوا معناه: صاروا في البراز وهو الأفيح من الأرض المتسع، و «جالوت» اسم أعجمي معرب، والإفراغ أعظم الصب، كأنه يتضمن عموم المفرغ عليه، والهزم أصله أن يضرب الشيء فيدخل بعضه في بعض، وكذلك الجيش الذي يرد يركب ردعه، ثم قيل في معنى الغلبة: هزم، وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس.
وروي في قصة داود وقتله جالوت، أن أصحاب طالوت كان فيهم إخوة داود وهم بنو إيشى، وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه، فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فلما نهض
336
مر في طريقه بحجر فناداه: يا داود، خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر، ثم آخر، ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر الناس، خرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت:
من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي، فجاء داود، فقال: أنا أبرز له وأقتله، فقال له طالوت:
فاركب فرسي، وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكة فلما مشى قليلا رجع. فقال الناس: جبن الفتى، فقال داود: إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي.
قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه، وخرج إلى جالوت وهو شاك في سلاحه، فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إليّ، قال: نعم. قال: هكذا كما يخرج إلى الكلب. قال: نعم وأنت أهون. قال: لأطعمن اليوم لحمك الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود مقلاعه، وأدخل يده إلى الحجارة فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت وكانت الهزيمة، ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال له: إن بنات الملوك لهن غرائب من المهر، ولا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس، وتجيئني بغلفهم وطمع طالوت أن يعرض داود للقتل بهذه النزعة فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت، وعظم أمر داود، فيروى أن طالوت تخلى له عن الملك وصار هو الملك، ويروى أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب أن داود قتل جالوت، وكان سبب الفتح، وروي أن طالوت أخاف داود حتى هرب منه فكان في جبل إلى أن مات طالوت فذهبت بنو إسرائيل إلى داود فملكته أمرها، وروي أن نبي الله سمويل أوحى الله إليه أن يذهب إلى إيشى ويسأله أن يعرض عليه بنيه فيدهن الذي يشار إليه بدهن القدس ويجعله ملك بني إسرائيل. والله أعلم أي ذلك كان، غير أنه يقطع من ألفاظ الآية على أن داود صار ملك بني إسرائيل. وقد روي في صدر هذه القصة: أن داود كان يسير في مطبخة طالوت ثم كلمه حجر فأخذه فكان ذلك سبب قتله جالوت ومملكته، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كله لين الأسانيد، فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل النازلة واختصرت سائر ذلك، وأما الحكمة التي آتاه الله فهي النبوة والزبور وقال السدي: آتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون والذي علمه هي صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع علمه صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ...
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر لَفَسَدَتِ
337
الْأَرْضُ
، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق، وداع إلى الله ومقاتل عليه، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد ﷺ إلى قيام الساعة، له الحمد كثيرا. قال مكي: وأكثر المفسرين على أن المعنى لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وليس هذا معنى الآية ولا هي منه في ورد ولا صدر، والحديث الذي رواه ابن عمر صحيح، وما ذكر مكي من احتجاج ابن عمر عليه بالآية لا يصح عندي لأن ابن عمر من الفصحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ، وفي الحج إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ [الآية: ٣٨]، وقرأ نافع «ولولا دفاع الله»، «وإن الله يدافع»، وقرأ الباقون وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ «وإن الله يدافع» ففرقوا بينهما، والدفاع يحتمل أن يكون مصدر دفع ككتب كتابا ولقي لقاء، ويحتمل أن يكون مصدر دافع كقاتل قتالا، قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
والإشارة بتلك إلى ما سلف من القصص والأنباء، وفي هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر، وقد كان أصحاب محمد ﷺ معدين لحرب الكفار، فلهم في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله وغير ذلك من وجوه العبرة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ تِلْكَ رفع بالابتداء، والرُّسُلُ خبره، ويجوز أن يكون الرُّسُلُ عطف بيان وفَضَّلْنا الخبر، وتِلْكَ إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض وذلك في الجملة دون تعيين مفضول. وهكذا هي الأحاديث عن النبي عليه السلام. فإنه قال: «أنا سيد ولد آدم»، وقال: «لا تفضلوني على موسى»، وقال: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول، لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوءة، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول، وقد قال أبو هريرة: خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل رسول الله ﷺ عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال نعم نبي مكلم، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصة موسى، وقوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قال مجاهد وغيره: هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله، وهو أعظم الناس أمة، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله، ومن معجزاته وباهر آياته، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيدا للأول، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ ومراتب الأنبياء في السماء فتكون
الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكورا في صدر الآية فقط، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير من الطين، و «روح القدس» جبريل عليه السلام، وقد تقدم ما قال العلماء فيه.
قوله عز وجل:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ...
ظاهر اللفظ في قولهم: من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفا يفهمه السامع، وهذا كما تقول:
اشتريت خيلا، ثم بعتها، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرسا ثم بعته، ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا، وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان. ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك. الفعال لما يريد، فاقتتلوا بأن قاتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر. وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
قال ابن جريج: هذه الآية تجمع الزكاة والتطوع، وهذا كلام صحيح فالزكاة واجبة والتطوع مندوب إليه، وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال، وندب الله تعالى بهذه الآية، إلى إنفاق شيء مما أنعم به وهذه غاية التفضل فعلا وقولا، وحذر تعالى من الإمساك، إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك بنفقة في ذات الله، إذ هي مبايعة على ما قد فسرناه في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: ٢٤٥]، أو إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه ومراده بماله، وكأن معنى الآية معنى سائر الآي التي تتضمن إلا فدية يوم القيامة.
وأخبر الله تعالى بعدم الخلة يوم القيامة، والمعنى: خلة نافعة تقتضي المساهمة، كما كانت في الدنيا، وأهل التقوى بينهم في ذلك اليوم خلة ولكنها غير محتاج إليها. وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئا.
وأخبر تعالى أن الشفاعة أيضا معدومة في ذلك اليوم، فحمل الطبري ذلك على عموم اللفظ وخصوص المعنى، وأن المراد وَلا شَفاعَةٌ للكفار. وهذا لا يحتاج إليه. بل الشفاعة المعروفة في الدنيا وهي
انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده مرتفعة يوم القيامة البتة. وإنما توجد شفاعة بإذن الله تعالى. فحقيقتها رحمة من الله تعالى. لكنه شرف الذي أذن له في أن يشفع، وإنما المعدوم مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة» بالنصب في كل ذلك بلا تنوين، وكذلك في سورة إبراهيم لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [الآية: ٣١]، وفي الطور: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الآية: ٢٣]، وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، والظَّالِمُونَ واضعو الشيء في غير موضعه. وقال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: الظالمون هم الكافرون.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
هذه سيدة آي القرآن، ورد ذلك في الحديث ورود أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان، وكذلك من قرأها أول نهاره. وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى، واللَّهُ مبتدأ، ولا إِلهَ مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود، وإِلَّا هو بدل من موضع لا إِلهَ، والْحَيُّ صفة من صفات الله تعالى ذاتية، وذكر الطبري، عن قوم أنهم قالوا: الله تعالى حي لا بحياة. وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، والْقَيُّومُ فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، وقيوم بناء مبالغة أي: هو القائم على كل أمر بما يجب له، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش: «الحي القيام» بالألف ثم نفى عز وجل أن تأخذه سِنَةٌ أو نَوْمٌ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي، والسنة بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعلت هذه مثالا لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: ٢٣]، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع: [الكامل]
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت في عينه سنة وليس بنائم
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي، وقال ابن عباس وغيره: السنة النعاس، وقال ابن زيد: الوسنان، الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب، وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يحكي عن موسى على
340
المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان» قال: ضرب الله مثلا أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي بالملك. فهو مالك الجميع وربه، وجاءت العبارة ب ما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن يَشْفَعُ عِنْدَهُ أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو وقال الطبري: هذه الآية نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه، كمحمد ﷺ إذا قيل له: واشفع تشفع وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة.
وفي البخاري، في باب بقية من باب الرؤية، أن المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة الحديث، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء.
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له، وهي الخامسة التي في قوله: «وأعطيت الشفاعة» وهي عامة للناس، والقصد منها إراحة المؤمنين، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون، والضميران في قوله: أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وقال مجاهد ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الدنيا وَما خَلْفَهُمْ الآخرة، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره.
قوله عز وجل:
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ....
قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ معناه: من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، ومعنى الآية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله
341
تعالى بأنه وسع السموات والأرض، فقال ابن عباس: كُرْسِيُّهُ علمه، ورجحه الطبري: وقال: منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم، قال الطبري: ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها، وقال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل، وقال السدي: هو موضع قدميه.
قال القاضي أبو محمد: وعبارة أبي موسى مخلصة لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك، والكرسي هو موضع القدمين، وأما عبارة السدي فقلقة، وقد مال إليها منذر البلوطي وتأولها بمعنى: ما قدم من المخلوقات على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام وفي كتاب الله، وأما في عبارة مفسر فلا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال أبوذر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ لا يَؤُدُهُ حفظ هذا الأمر العظيم، ويَؤُدُهُ: معناه يثقله، يقال آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى، جعلوها بين بين لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة، كما قيل في لؤم لوم، والْعَلِيُّ: يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا الْعَظِيمُ هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر، لا على معنى عظم الأجرام، وحكى الطبري عن قوم: أن الْعَظِيمُ معناه المعظم، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى:
وكأن الخمر العتيق من الاس فنط ممزوجة بماء زلال
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ.
قوله عز وجل:
342

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
الدِّينِ في هذه الآية المعتقد والملة، بقرينة قوله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية، فقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فقال: كان رسول الله ﷺ بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قالتهم فأذن له، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويلزم على هذا، أن الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قالا أمر رسول الله ﷺ أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية، ونزلت فيهم لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
قال القاضي أبو محمد: وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله ﷺ بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه، فنزلت لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ الآية، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد، إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع، وقال السدي نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله ﷺ مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله ﷺ من يردهما، فنزلت لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله هما أول من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله ﷺ حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله جل ثناؤه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: ٦٥]، ثم إنه نسخ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح في سبب قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي، وقوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة، والرُّشْدُ مصدر من قولك رشد بكسر الشين وضمها يرشد رشدا
ورشدا ورشادا، والْغَيِّ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد» بالألف، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرّشد» بفتح الراء والشين. وروي عن الحسن «الرّشد» بضم الراء والشين، و «الطاغوت» بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى الطبري «يطغو» إذا جاوز الحد بزيادة عليه، وزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه موضع اللام فقيل: طاغوت، وقال المبرد: هو جمع، وذلك مردود.
واختلف المفسرون في معنى «الطاغوت»، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي: «الطاغوت» : الشيطان. وقال ابن سيرين وأبو العالية: «الطاغوت» : الساحر، وقال سعيد بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج: «الطاغوت» : الكاهن. قال أبو محمد: وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان، والشيطان أصل ذلك كله، وقال قوم: «الطاغوت» :
الأصنام، وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
قال القاضي أبو محمد: وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة، وذلك مجاز. إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. و «العروة» في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي. واسْتَمْسَكَ معناه قبض وشد يديه، والْوُثْقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه بِالْعُرْوَةِ، فقال مجاهد: العروة الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضحّاك: العروة لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد، والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه، والفصم كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة، ومن ذلك قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سَمِيعٌ من أجل النطق وعَلِيمٌ من أجل المعتقد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
ال وَلِيُّ فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه، فإذا لازم أحد أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه،
هذا عرفه في اللغة. قال قتادة: الظُّلُماتِ الضلالة. والنُّورِ الهدى. وبمعناه قال الضحاك والربيع.
وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة إن قوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأن هذا القول أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات. ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب.
ومترتب في الناس جميعا. وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ومن كفر بعد وجود الداعي النبي المرسل فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد وأهل للدخول فيه. وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت لم تدخل فيه البتة.
ولفظة الطَّاغُوتُ في هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس، ولذلك قال أَوْلِياؤُهُمُ بالجمع، إذ هي أنواع، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، أولياؤهم الطواغيت، يعني الشياطين، وحكم عليهم بالخلود في النار لكفرهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
أَلَمْ تَرَ تنبيه، وهي رؤية القلب، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم تر» بجزم الراء، والَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جريج: هو أول ملك في الأرض وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين. والآخر بخت نصر. وقيل: إن الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما: ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال: من ربكم وإلهكم؟
فيقولون: أنت، فيقول: ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار، فقال له من ربك وإلهك؟ قال قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فلما سمعها نمرود قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على كثيب من رمل كالدقيق، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته، فلما
345
قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك، وقال الربيع وغيره في هذه القصص: ان النمرود لما قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال: قد أحييت هذا وأمتّ هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت، والرواية الأخرى ذكر السدي: أنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت اثنين فماتا، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة، ففزع نمرود إلى المجاز وموه به على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه بأمر لا مجاز فيه، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه. وقوله حَاجَّ وزنه «فاعل» من الحجة أي جاذبه إياها والضمير في رَبِّهِ يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يعود على الَّذِي حَاجَّ، وأَنْ مفعول من أجله والضمير في آتاهُ للنمرود، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل من التأويل، وقرأ جمهور القراء أن أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أَنَا إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع، فإن ورشا وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن، مثل أنا أحيي أنا أخوك إلا في قوله تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: ١٨٨] [الشعراء: ١١٥] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، قال أبو علي: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحيانا في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف، وهي مثل ألف حيهلا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي، فتأمل. قال أبو علي: فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وقرأ الجمهور: «فبهت» الذي بضم الباء وكسر الهاء، يقال بهت الرجل: إذا انقطع وقامت عليه الحجة. قال ابن سيده: ويقال في هذا المعنى: «بهت» بفتح الباء وكسر الهاء، «وبهت» بفتح الباء وضم الهاء. قال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى، «بهت» بفتح الباء والهاء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء، قال ابن جني: قرأ أبو حيوة: «فبهت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع: «فبهت» بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع
346
نصب، قال: وقد يجوز أن يكون «بهت» بفتحهما لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهت» بكسر الهاء كخرق ودهش، قال: والأكثر بالضم في الهاء، قال ابن جني: يعني أن الضم يكون للمبالغة، قال الفقيه أبو محمد: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فَبُهِتَ بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته.
والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالما.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
عطفت أَوْ في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ [الآية: ٢٥٨] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج، ثم جاء قوله أَوْ كَالَّذِي، عطفا على ذلك المعنى، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أو كالذي مر» بفتح الواو، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية هو عزير، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر: هو أرمياء، وقال ابن إسحاق:
أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه، قال الفقيه أبو محمد: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى، قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. قال أبو محمد: واختلف في القرية أيما هي؟ فحكى النقاش أن قوما قالوا هي المؤتفكة. وقال ابن زيد: إن القوم الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فقال لهم الله:
مُوتُوا [البقرة: ٢٤٣] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد. وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها. والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة والربيع: القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل. حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله
347
كالجبل، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، [النحل: ٦٨] قال السدي: يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها، وقال غير السدي:
معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة، قال أبو محمد: وانظر استعمال العريش مع على، في الحديث في قوله، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر، وخاوِيَةٌ معناه خالية، يقال خوت الدار تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري: والأول أفصح وقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها معناه من أي طريق وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله، إنما كان عن إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال، أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟ قال: فَأَماتَهُ اللَّهُ تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه، وقيل تبن وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل من عصير وقيل، قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتا مائة عام، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا أكل شيئا ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي عزير، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه بقي سبعين ميتا كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية. وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثَهُ، معناه: أحياه وجعل له الحركة والانتقال، فسأله الله تعالى بواسطة الملك كَمْ لَبِثْتَ؟ على جهة التقرير، وكَمْ في موضع نصب على الظرف، فقال: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال ابن جريج وقتادة والربيع:
أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب، فظن هذا اليوم واحدا فقال لَبِثْتُ يَوْماً ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقيل له بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش: العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح، وقال تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا معنى كلام النقاش. والعام على هذا كالقول والقال. وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد، وروي في قصص هذه الآية: أن الله بعث لها
348
ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع: لَبِثْتَ في كل القرآن بإظهار الثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، بالإدغام في كل القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان، قال أبو علي: ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة».
قوله عز وجل:
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ...
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّا على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني، وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
وقرأ ابن مسعود: «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه»، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة»، قال أبو علي: واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل: لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠]، وما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: ٢٨] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: ٢٩] وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ [القارعة: ١٠] وإسقاطها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في يَتَسَنَّهْ، واقْتَدِهْ، ويثبتها في الباقي. ولم يختلفوا في حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠- ٢٦] وكِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩- ٢٥] أنهما بالهاء في الوقف والوصل، ويَتَسَنَّهْ يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم. وقال الزجّاج: ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن. قلبت النون ياء كما فعل في تظننت، حتى قلت لم أتظنن، فيجيء تسنن تسنى. ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن. ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت. وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل. ويحتمل يَتَسَنَّهْ أن يكون من السنة وهو الجدب. والقحط، وما أشبهه، يسمونه بذلك. وقد اشتق منه فعل فقيل: استنّوا، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام. وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات، وقال أسنهت عند بني فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر الجزم ب لَمْ،
349
وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقد ذكر. وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام.
وقال النقاش: لَمْ يَتَسَنَّهْ معناه: لم يتغير من قوله تعالى: ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: ١٥]، قال أبو محمد: ورد النحاة على هذا القول، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، وأما قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، فقال وهب بن منبه وغيره: المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة، قالا: وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه، قالا:
وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته، وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا، وقال عكرمة: جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة، وقال غير الأعمش: بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن قال: هي عظام الحمار، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. «ننشزها» بالزاي، وروى أبان عن عاصم «ننشرها» بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
فمن قرأها «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها. يقال أنشر الله الموتى فنشروا، قال الله تعالى:
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢].
وقال الأعشى: [السريع] يا عجبا للميّت النّاشر وقراءة عاصم: «ننشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ: «ننشزها» بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول الشاعر:
350
قال أبو علي وغيره: فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى:
[الطويل] قضاعيّة تأتي الكواهن ناشزا يقال نشز وأنشزته.
قال القاضي أبو محمد: ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قلبلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع، وقال النقاش: ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: ١١] أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز الناب. فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة:
نشز. وقرأ النخعي «ننشزها» بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة وقرأ أبي بن كعب: «كيف ننشيها» بالياء. والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه إذا ما علا نشزا حصان مجلّل
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري: المعنى في قوله:
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه، قالَ أَعْلَمُ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «أعلم أن» مقطوعة الألف مضمومة الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة الميم. وقرأها أبو رجاء، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش، «قيل أعلم».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له. والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري. بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: الله لا إله إلا هو ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يعني علم المعاينة، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما، قال الملك له «اعلم»، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: «اعلم» وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى: [البسيط] ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل وألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ [الطويل]
351
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر: [الطويل]
تذكّر من أنّى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره واذكر. واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟ فقال الجمهور: إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة. وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم.
الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث. وقال: إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟ وأما من قال: بأن إبراهيم لم يكن شاكا، فاختلفوا في سبب سؤاله، فقال قتادة: إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال. وقال الضحاك: نحوه، قال: وقد علم عليه السلام أن الله قادر على إحياء الموتى، وقال ابن زيد: رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر، وقال ابن إسحاق، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له: أنا أحيي وأميت، فكر في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال. وقال السدي وسعيد بن جبير: بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره، وقال سعيد بن جبير: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يريد بالخلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله، أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث، وأما قول عطاء بن أبي رباح: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة»، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال: ذلك محض
352
الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون كَيْفَ خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، كَيْفَ نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، وكَيْفَ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير، ولِيَطْمَئِنَّ معناه ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا»، الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود: أنا أحيي وأميت، وقال الطبري: معنى لِيَطْمَئِنَّ ليوقن. وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد، وقال ابن عباس: مكان الغراب الكركي.
وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء
353
وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش، حتى التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى، وقرأ حمزة وحده: «فصرهن إليك» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول ذي الرمة:
[الرجز] صرنا به الحكم وعنّا الحكما ومنه قول الخنساء: [السريع]
فلو يلاقي الذي لاقيته حضن لظلّت الشّمّ منه وهي تنصار
أي تنقطع ويقال أيضا صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر: [الوافر]
يصور عنوقها أحوى زنيم له صخب كما صخب الغريم
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور، وعن الخنا زور، فهذا كله في ضم الصاد.
ويقال أيضا في هذين المعنيين: القطع والإمالة. صرت الشيء بكسر الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
وفرع يصير الجيد وجف كأنّه على اللّيت قنوان الكروم الدّوالح
ففي اللفظة لغتان قرىء بهما، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية «صرهن» معناه: قطعهن، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن، وقاله الضحاك، وقال أبو الأسواد الدؤلي: هي بالسريانية، وقال قتادة: «صرهن» فصلهن، وقال ابن إسحاق: معناه قطعهن، وهو الصور في كلام العرب، وقال عطاء بن أبي رباح: فَصُرْهُنَّ معناه اضممهن إليك. وقال ابن زيد معناه اجمعهن، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن.
قال القاضي أبو محمد: فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة. فقوله إِلَيْكَ على تأويل التقطيع متعلق بخذ. وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بصرهن، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن. وقرأ قوم «فصرّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت، ذكره النقاش. قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين كشد يشد ونحوه. لكن قد جاء منه نمّ الحديث ينمّه وينمّه وهر الحرب يهرها ويهرها ومنه قول الأعشى:
ليعتورنك القول حتّى تهرّه إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة.
قال القاضي أبو محمد: وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة
354
المصراة، واختلف المتأولون في معنى قوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة. وفي هذا القول بعد، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها. وقرأ الجمهور: «جزءا» بالهمز، وقرأ أبو جعفر «جزّا» بشد الزاي في جميع القرآن. وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه. وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها. قالا: وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء. وقال مجاهد: بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا. قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة.
قال القاضي أبو محمد: وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله أعلم أي ذلك كان. ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه سَعْياً، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه. ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٢]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس: [البسيط].
آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس
وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد
355
حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح، واختلف العلماء في معنى قوله: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة. وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. وليس هذا بثابت الإسناد عنه، وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه السلام «رب زد أمتي». فنزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الحديد: ١١]، فقال رب زد أمتي، فنزلت إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠] وسُنْبُلَةٍ فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب، والجمع سنابل، وفي قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ، حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، أو تقدره كمثل ذي حبة، وقال الطبري في هذه الآية، إن قوله فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن نفرضه ثم أدخل عن الضحاك أنه قال: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال هو، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك، قال أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة، وقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى، وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى.
فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مكي في عثمان وابن عوف رضي الله عنهما: والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم. قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد، وقال زيد بن أسلم: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه، وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. وضمن الله
356
الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٣ الى ٢٦٤]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها.
وقال المهدوي وغيره التقدير في إعرابه قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أولى وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج. ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال النقاش: يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى الآية، العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي يُنْفِقُ رِئاءَ لا لوجه الله، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية. كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس. قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء، وقوله تعالى: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك. ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان. ثم مثل هذا المنفق رئاء ب صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فيظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى. فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية. فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن
أرضا. وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير همز. ورويت عن عاصم. والصفوان الحجر الكبير الأملس. قيل هو جمع واحدته صفواته. وقال قوم واحدته صفواة، وقيل هو إفراد وجمعه صفى، وأنكره المبرد وقال: إنما هو جمع صفا، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا. قال امرؤ القيس: [الطويل]
كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل
وقال أبو ذؤيب: [الكامل]
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
وقرأ الزهري وابن المسيب «صفوان» بفتح الفاء، وهي لغة، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه، ومنه قول رؤبة: [الرجز] برّاق أصلاد الجبين الأجله قال النقاش: الصلد الأجرد بلغة هذيل، وقوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ يريد به الذين ينفقون رئاء، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم، وجاءت العبارة ب يَقْدِرُونَ على معنى الذي. وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولا على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسير إبطال المن والأذى للصدقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله، كأنه قال: كمثل غارس جنة، وابْتِغاءَ معناه طلب، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو وَتَثْبِيتاً عليه. ولا يصح في تَثْبِيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول
358
من أجله وهو مردود بما بيناه، ومَرْضاتِ مصدر من رضي يرضى، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح: وَتَثْبِيتاً معناه وتيقنا، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا، وقال مجاهد والحسن: معنى قوله: وَتَثْبِيتاً أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؟ وقال الحسن كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك، والقول الأول أصوب.
لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتا، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: ٨]، وكقوله: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت، وقال قتادة: وَتَثْبِيتاً معناه وإحسانا من أنفسهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو القول الأول، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، وقل ما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية:
زوجي كليل تهامة، وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله، لأن قوله تعالى: أَصابَها وابِلٌ إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر، وقال الحسن: الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء، وهذا أيضا أراد أنها ليست كالجبل والضرب ونحوه، وقال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيرا، وقال السدي بِرَبْوَةٍ أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض، قال أبو محمد: وهذه عبارة قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، يقال «ربوة» بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو.
ويقال «ربوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين، ويقال ربوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه. ويقال رباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي، وَآتَتْ معناه أعطت، و «الأكل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أكلها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال أكل
359
وأكل بمعنى، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل، وضِعْفَيْنِ معناه:
اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنهاإن لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض، والطل المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، وقال قوم الطل الندى، وهذا تجوز وتشبيه، وقد روي ذلك عن ابن عباس. قال المبرد: تقديره فَطَلٌّ يكفيها. وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعد ووعيد، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع. أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: ٢٦٤]، قال ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي ﷺ عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك عمر، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ، وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء.
قال القاضي أبو محمد: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن «جنات» بالجمع، وقوله مِنْ تَحْتِهَا هو تحت بالنسبة إلى الشجر، والواو في قوله وَأَصابَهُ واو الحال، وكذلك في قوله: وَلَهُ وضُعَفاءُ جمع ضعيف وكذلك ضعاف، وال إِعْصارٌ الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة
فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها»، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي: الإعصار الريح، والنار السموم، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار.
قال القاضي أبو محمد: يريد من نار الآخرة، وقال الحسن بن أبي الحسن إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ ريح فيها صر، برد، وقاله الضحاك، وفي المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج: الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة، قال المهدوي: قيل لها إِعْصارٌ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن عباس تَتَفَكَّرُونَ في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين: هي في الزكاة المفروضة. نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفا فرآه رسول الله ﷺ فقال: بئسما علق هذا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: والأمر على هذا القول على الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى مِنْ طَيِّباتِ من جيد ومختار ما كَسَبْتُمْ، وجعلوا الْخَبِيثَ بمعنى الرديء والرذالة، وقال ابن زيد معناه: من حلال ما كسبتم، قال: وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي الحرام.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه، وقوله:
361
مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث، وكَسَبْتُمْ معناه كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كَسَبْتُمْ إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك، وتَيَمَّمُوا معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام
ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
تيمّمت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
ومنه التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت، ومنه إمام البناء، والمعنى في القراءتين واحد، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب «ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال: يممت الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم، وقد مضى القول في معنى الْخَبِيثَ وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن: قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله: الْخَبِيثَ ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: تُنْفِقُونَ منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، والضمير في مِنْهُ عائد على الْخَبِيثَ. قال الجرجاني وقال فريق آخر: بل الكلام متصل إلى قوله فِيهِ.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في مِنْهُ عائد على ما كَسَبْتُمْ، ويجيء تُنْفِقُونَ كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: إنما أخرج أجاهد في سبيل الله، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم: معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية: لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن
362
عازب أيضا: معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا أي تستحيي من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يشبه كون الآية في التطوع، وقال ابن زيد معنى الآية: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وروي عنه أيضا «تغمّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء. وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا قال أبو عمرو معناه: إلا أن يغمض لكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم: [الخفيف]
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ لّ أناس يرضون بالإغماض
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر كما تقول: أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان.
قال القاضي أبو محمد: وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها. ويحتمل أن تكون من تغميض العين. وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها. وقال ابن جني: معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، وحَمِيدٌ معناه محمود في كل حال، وهي صفة ذات.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٨ الى ٢٦٩]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
363
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمرا بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى. والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو الْفَقْرَ و «الفحشاء» كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفقر» بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن عباس: في الآية اثنتان من الشيطان، واثنتان من الله تعالى، وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله، ثم قرأ عليه السلام الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ الآية، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقه:
وهو وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: ٣٩] وواسِعٌ لأنه وسع كل شيء رحمة وعلما، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أي يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في الْحِكْمَةَ في هذا الموضع فقال السدي: الْحِكْمَةَ النبوءة، وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته. وقال قتادة: الْحِكْمَةَ الفقه في القرآن، وقاله مجاهد:
وقال مجاهد أيضا: الْحِكْمَةَ الإصابة في القول والفعل، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم: الْحِكْمَةَ العقل في الدين، وقال مالك: الْحِكْمَةَ المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الْحِكْمَةَ التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضا الْحِكْمَةَ طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع: الْحِكْمَةَ الخشية، ومنه قول النبي عليه السلام: «رأس كل شيء خشية الله تعالى»، وقال إبراهيم: الْحِكْمَةَ الفهم وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: الْحِكْمَةَ الورع، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس.
وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة ف مَنْ مفعول أول مقدم والْحِكْمَةَ مفعول ثان، وقرأ الأخفش: «ومن
364
يؤته الحكمة»، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من تشاء» بالتاء في «تؤتي» و «تشاء» منقوطة من فوق، «ومن يؤت الحكمة» بالياء، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة، والألباب العقول واحدها لب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعا وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذر» بضم الذال «وينذر» بكسرها، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ قال مجاهد: معناه يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا يجد ناصرا فيه، ووحد الضمير في يَعْلَمُهُ وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص، وقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا، قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقوي ذلك قول النبي ﷺ «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع، وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل، قال المهدوي: وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع، قال أبو محمد: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء، وقال النقاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة: ٢٧٤]، وقوله: فَنِعِمَّا هِيَ ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء، واختلف القراء في قوله فَنِعِمَّا هِيَ، فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل «فنعمّا» بكسر النون وسكون «فنعمّا» بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعمّا» بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف
365
مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف، ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ «نعمّا» بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة «نعم» بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون ممن يقول «نعم» ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد، قال سيبويه «نعما» بكسر النون والعين ليس على لغة من قال «نعم» فأسكن العين، ولكن على لغة من قال «نعم» فحرك العين، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال «نعما» ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين، قال أبو علي وأما من قرأ «نعمّا» بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر:
ما أقلّت قدماي أنهم نعم الساعون في الأمر المبر
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعم» بسكون العين، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل، وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين، قال أبو علي: وما من قوله «نعما» في موضع نصب، وقوله هِيَ تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير: نعم شيئا إبداؤها. والإبداء هو المخصوص بالمدح.
إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء، وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه، واختلف القراء في قوله تعالى: ونُكَفِّرْ عَنْكُمْ فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: «ونكفر» بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «ونكفر» بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم، وقرأ ابن عامر: «ويكفر» بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عباس وتكفر بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة: وتكفر بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء، وقرأ الحسن: «ويكفر» بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أنه قرأ: وَيُكَفِّرُ بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش: «يكفر» بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ: «وتكفر» بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو المكفر، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، تقدير ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني: القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ إذ هو في موضع
366
جزم جوابا للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ: من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف: ١٨٦] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، ومِنْ في قوله: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: مِنْ زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ، وقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وعد ووعيد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء»، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فدعاه رسول الله ﷺ فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية إِنَّمَا الصَّدَقاتُ [التوبة: ٦٠] وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا، فنزلت الآية في ذلك، وذكر الطبري أن مقصد النبي ﷺ بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قال أبو محمد: وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك، ولم يذكر خلافا، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود عندي، والهدى الذي ليس على محمد ﷺ هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية، ثم أخبر تعالى أنه هو: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يرشده، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة، ثم أخبر أن نفقة المرء
تأجرا إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله ابْتِغاءَ هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئا، فيكون ذلك أبخس ظلما لهم، وهذا هو بيان قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: ٢٤] وقوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله فهو المال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
هذه اللام في قوله لِلْفُقَراءِ متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء، وقال مجاهد والسدي وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، قال الفقيه أبو محمد: ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم، بقوله: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو. وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار. وحصر بالعدو. وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري. وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا أحصروا به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار المانعة «تحصر» بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام، واللفظ يتناولهما، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد. وإنكار الكفار عليهم إسلامهم
368
يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بباطن أحوالهم أَغْنِياءَ والتَّعَفُّفِ تفعل، وهو بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسبهم» بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في كل القرآن، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في كل القرآن، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس، ومِنَ في قوله: مِنَ التَّعَفُّفِ لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً:
المعنى لا يسألون البتة. وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول: السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر: [الطويل].
له سيمياء لا تشقّ على البصر واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي والربيع: هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة، وقال ابن زيد: هي رثة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكي: هي أثر السجود.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا، و «الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم: هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية، ومنه اللحاف، ومنه قول ابن الأحمر: [الوافر]
يظلّ يحفّهنّ بقفقفيه ويلحفهنّ هفهافا ثخينا
يصف ذكر نعام يحضن بيضا، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون مِنَ لابتداء الغاية ويكون قوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين.
فقولك: «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه.
369
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف مِنَ لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج رحمه الله: المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف. وهذا كما قال امرؤ القيس: [الطويل] على لاحب لا يهتدى بمناره.
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر: [البسيط].
قف بالطّلول التي لم يعفها القدم وقول الشاعر: [المتقارب]
ومن خفت من جوره في القضا ء فما خفت جورك يا عافيه
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان المنار موجودا، فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذا لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذا لا يكون خوف، وقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله: إِلْحافاً جزءا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت تكسبا أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان وقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب.
قوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٤ الى ٢٧٥]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
370
قال عبد الله بن عباس: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، وقال ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم عليا ولا غيره، وقال ابن عباس أيضا نزلت هذه الآية في علف الخيل، وقاله عبد الله بن بشر الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا: هي في علف الخيل والمرتبطة في السبيل، وقال قتادة هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولا محكما، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [البقرة:
٢٧١] إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٢٧٤] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها، وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن، والفاء في قوله: فَلَهُمْ دخلت لما في الَّذِينَ من الإبهام، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط. فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط، وإنما يوجد الشبه إذا كان الذي موصولا بفعل وإذا لم يدخل على «الذي» عامل يغير معناه، فإن قلت: الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو، بل تلبس المعنى، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء مدخل في المعنى، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد: لا يَقُومُونَ وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا الآية، الرِّبا هو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان، وغالبة ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل ربا فبتجوز وتشبيه، والربا من ذوات الواو، وتثنيته ربوان عند سيبويه، ويكتب بالألف. قال الكوفيون: يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله. وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم، نحو ضحى، فإن كان مفتوحا نحو صفا فكما قال البصري.
ومعنى هذه الآية: الذين يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ، وقال ابن عباس رضي الله
371
عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد: معنى قوله: لا يَقُومُونَ من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنفة، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن في قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».
قال القاضي أبو محمد: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله: [الطويل]
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ألم بها من طائف الجنّ أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل ويَتَخَبَّطُهُ «يتفعله» من خبط يخبط كما تقول: تملكه وتعبده وتحمله. والْمَسِّ الجنون، وكذلك الأولق والألس والرود، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه عند جميع المتأولين في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها.
والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل فَلَهُ ما سَلَفَ ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية، ثم جزم تعالى الخير في قوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وقال بعض العلماء في قوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ هذا من عموم القرآن، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه، وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم، والقول الأول عندي أصح، قال جعفر بن محمد الصادق: حرم الله الربا ليتقارض الناس. وقال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وسقطت علامة التأنيث في قوله: فَمَنْ جاءَهُ لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة، وقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ أي من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، وسَلَفَ معناه تقدم في الزمن وانقضى.
وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والثاني أن يكون الضمير عائدا على ما سَلَفَ. أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته، ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره. وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ يعني إلى فعل الربا والقول إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد
372
حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٦ الى ٢٧٧]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
يَمْحَقُ معناه: ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا، تقول: ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد».
قال القاضي أبو محمد: وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن الزبير:
«يمحّق الله» بضم الياء وكسر الحاء مشددة، «ويربّي» بفتح الراء وشد الباء، ورويت عن النبي ﷺ كذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ووصف الكفار ب أَثِيمٍ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض. قاله ابن فورك قال ومعنى قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ أي لا يحب الكفار الأثيم.
قال القاضي أبو محمد: محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.
وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه، وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن، ولما انقضى ذكرهم عقب بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين.
فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وقد تقدم تفسير مثل ألفاظ هذه الآية، وخص الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذكر وقد تضمنهما عمل الصَّالِحاتِ تشريفا لهما، وتنبيها على قدرهما، إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٨ الى ٢٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله ﷺ مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح:
«ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»، فبدأ ﷺ بعمه وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله ﷺ قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.
وذكر النقاش رواية أن رسول الله ﷺ أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله ﷺ فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله ﷺ إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم.
فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إِنْ في هذه الآية بمعنى إذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مردود لا يعرف في اللغة، وقال ابن فورك:
يحتمل أنه يريد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من الأنبياء، ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية، ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته، والحرب داعية القتل، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لأكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: لا تَظْلِمُونَ في أخذ الربا وَلا تُظْلَمُونَ
374
في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي ﷺ لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب:
نعم يا رسول الله قال رسول الله ﷺ للآخر: قم فاقضه، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات، وقرأ الحسن «ما بقي» بكسر القاف وإسكان الياء، وهذا كما قال جرير: [البسيط]
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر، وقرأ أبو السمال من «الرّبو» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين:
أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: «فأذنوا» مقصورة مفتوحة الذال، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «فآذنوا» ممدودة مكسورة الذال.
قال سيبويه: آذنت أعلمت، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت، قال أبو علي: من قال: «فأذنوا» فقصر، معناه فاعلموا الحرب من الله، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها، إذ هم الآذنون بها وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك، قال أبو علي: ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الأنبياء: ١٠٩] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري: قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم:
«فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء
375
والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب، وقرأ جميع القراء «لا تظلمون» بفتح التاء و «لا تظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره.
وروى المفضل عن عاصم: لا «تظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال أبو علي:
وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله فَإِنْ تُبْتُمْ في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٠ الى ٢٨١]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال المهدوي: وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وحكى مكي: أن النبي ﷺ أمر به في صدر الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: فإن ثبت فعل النبي ﷺ فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ، و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذُو عُسْرَةٍ ب كانَ التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين، حكاه الطبري: بل هي كانَ الناقصة والخبر محذوف، تقديره وَإِنْ كانَ من غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ وارتفع قوله: فَنَظِرَةٌ على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو فالحكم نظرة.
قال الطبري: وفي مصحف أبي بن كعب: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ على معنى وإن كان المطلوب، وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة».
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير لازم، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء ذُو عُسْرَةٍ بالواو، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية، وهم الذين يقولون: كرم زيد بمعنى كرم، ويقولون: كبد في كبد، وكتف في كتف، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: ٢] وكقوله تعالى: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: ٢٥]، وكخائنة الأعين وغيره، وقرأ نافع
376
وحده «ميسرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل.
قال أبو علي: قد قالوا: مسربة ومشربة، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضا ومجاهد: «فناظره إلى ميسره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم، وضما السين من «ميسره» وكسرا الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم، فأما ناظره ففاعله من التأخير، كما تقول: سامحه، وأما ميسر فشاذ، قال سيبويه: ليس في الكلام مفعل، قال أبو علي يريد في الآحاد، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد: [الرمل]
أبلغ النّعمان عنّي مألكا أنّه قد طال حبسي وانتظار
وقول جميل: [الطويل]
بثين الزمي- لا- إنّ- لا- إن لزمته على كثرة الواشين أيّ معون
فالأول جمع مالكة، والآخر جمع معونة، وقال ابن جني: إن عديا أراد مالكة فحذف، وكذلك جميل أراد أي معونة، وكذلك قول الآخر: [الرجز] «ليوم روع أو فعال مكرم» «أراد مكرمة»، فحذف قال: ويحتمل أن تكون جموعا كما قال أبو علي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ، وقد خطأه بعض الناس، وكلام سيبويه يرده، واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟
فقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة، فسره الضحاك.
وقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا ابتداء وخبره خَيْرٌ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول جمهور الناس، وليس في الآية مدخل للغني، وقرأ جمهور القراء: «تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم «وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا» بفك الإدغام.
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض
377
رسول الله ﷺ ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة. وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وروي أن قوله عز وجل: وَاتَّقُوا نزلت قبل موت النبي ﷺ بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وحكى مكي أن النبي ﷺ قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة.
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ إلى آخر الآية، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان، ويَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ باقي السبعة «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم، فمثل قراءة أبي عمرو إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الغاشية: ٢٥] ومثل قراءة الجماعة ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ [الأنعام: ٦٢] وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الكهف: ٣٦] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير، وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تنفطر له القلوب. فقال لهم: وَاتَّقُوا يَوْماً، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم، وقرأ أبي بن كعب «يوما تردون» بضم التاء، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم هو يوم الموت، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية، وفي قوله: إِلَى اللَّهِ مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه، وقوله وَهُمْ رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون»، فقوله: وَهُمْ رد على ضمير الجماعة في «يرجعون»، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية.
قوله عز وجل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
قال القاضي أبو محمد: معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا، وبين تعالى بقوله: بِدَيْنٍ ما في قوله: تَدايَنْتُمْ من الاشتراك، إذ قد يقال في كلام العرب: تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضا. ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب
378
على أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: ٢٨٣]. وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: فَإِنْ أَمِنَ ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال جمهور العلماء:
الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك فَلْيُؤَدِّ [البقرة: ٢٨٣] الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك.
واختلف الناس في قوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ فقال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي وعطاء أيضا: إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ، وقوله تعالى: بِالْعَدْلِ معناه بالحق والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ، وليست متعلقة ب كاتِبٌ لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى وأبا يأبى، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله وَلا يَأْبَ منسوخ بقوله لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: ٢٨٢] والكاف في قوله كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ متعلقة بقوله: أَنْ يَكْتُبَ المعنى كتبا كما علمه الله، هذا قول بعضهم، ويحتمل أن تكون كَما متعلقة بما في قوله وَلا يَأْبَ من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله: أَنْ يَكْتُبَ، ثم يكون قوله: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله فَلْيَكْتُبْ.
قال القاضي أبو محمد: وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وهو من باب عون الضائع.
قوله عز وجل:
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فإن كان الّذى عليه الحقّ
379
سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن يَبْخَسْ شيئا من الحق، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن.
فقال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة: [الطويل].
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه، ثم قال: أَوْ ضَعِيفاً والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووَلِيُّهُ وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووَلِيُّهُ وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق، وقال بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق، وهذا قول حسن، وجاء الفعل مضاعفا في قوله: أَنْ يُمِلَّ لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل لغة قريش. وبِالْعَدْلِ معناه بالحق وقصد الصواب، وذهب الطبري إلى أن الضمير في وَلِيُّهُ عائد على الْحَقُّ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع أَنْ يُمِلَّ بمرضه إذا كان عاجزا عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض.
قوله عز وجل:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في شَهِيدَيْنِ دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه،
380
فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان الضمير الذي في قوله يَكُونا.
والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور، وقوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مرتفع بأحد ثلاثة أشياء، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون يَكُونا هذه التامة والناقصة، ولكن التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار، وإما فرجل وامرأتان يشهدون، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأتان» بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة فقربت من الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفا ساكنة كما قال الشاعر: [الطويل].
يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
يريد «وأنا»، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي. وهي ساكنة وفي هذا نظر، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها» وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح: فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يقنع بمثله، وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ.
قال أبو علي: ولا يدخل في هذه الصفة قوله: شَهِيدَيْنِ اختلاف الإعراب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين.
قال ابن بكير وغيره: قوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مخاطبة للحكام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض، وفي قوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة وحده: «إن تضل» بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذكر» بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش. وقرأها الباقون «أن تضل» بفتح الألف «فتذكر» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف، وشددها الباقون، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ، وأَنْ مفعول من أجله والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر
381
إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه: وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال أبو عبيد: معنى تَضِلَّ تنسى.
قال القاضي أبو محمد: والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها، فأما قراءة حمزة فجعل أَنْ الجزاء، والفاء في قوله فَتُذَكِّرَ جواب الجزاء، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور، وهما المرأتان، وارتفع «تذكر» كما ارتفع قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: ٩٥] هذا قول سيبويه.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وأما نصب قوله «فتذكر» على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب أَنْ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر، يقال: ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة أنهما قالا: معنى قوله: «فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة امرأة تصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، وهذا تأويل بعيد، غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، وأحدهما في الآية محذوف، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة»، التي ضلت عنها، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: «أن تضل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكر» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل، واختلف قول مالك في شهادتهما، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال، ففيها قولان في المذهب.
قوله عز وجل:
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا قال قتادة والربيع وغيرهما: معنى الآية، إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم، وفي هذا المعنى
382
نزلت، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد، فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: معنى الآية، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي ﷺ أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب، وقاله لا حق بن حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء، وَلا تَسْئَمُوا معناه تملوا، وصَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير في تَكْتُبُوهُ، وقدم الصغير اهتماما به، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب وأَقْسَطُ معناه أعدل. وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ، فانظر هل هو من قسط بضم السين؟ كما تقول: «أكرم» من «كرم» يقال: أَقْسَطُ بمعنى عدل وقسط بمعنى جار، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] ومن قدر قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضا أفعل من الرباعي، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ، وَأَدْنى معناه أقرب، وتَرْتابُوا معناه، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي. «يسأموا» و «يكتبوا» و «يرتابوا» كلها بالياء على الحكاية عن الغائب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك:
هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وقوله تعالى:
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارة» نصبا، وقرأ الباقون «تجارة» رفعا، قال أبو علي وأشك في ابن عامر، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت
383
عن خبر، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع، وأما من نصب فعلى خبر كان، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها، وإما إِلَّا أَنْ تَكُونَ التجارة تِجارَةً، ويكون ذلك مثل قول الشاعر: [الطويل].
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوما.
قال القاضي أبو محمد: هكذا أنشد أبو علي البيت، وكذلك أبو العباس المبرد، وأنشده الطبري:
[الطويل]
ولله قومي أيّ قوم لحرّة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب.
وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما: ذلك على الندب، وقال ابن عمرو والضحاك: ذلك على الوجوب، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري.
قال القاضي أبو محمد: والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا.
وحكى المهدوي عن قوم أنهم قالوا: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ منسوخ بقوله فَإِنْ أَمِنَ [البقرة: ٢٨٣]، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم: المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا: لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارر» بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم: معنى الآية وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكاتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول، ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم
384
فاعله، وأصل يُضَارَّ على القول الثاني «يضارر» بفتح الراء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارر» بالفك وفتح الراء الأولى، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضار» بجزم الراء، قال أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى «كاتبا ولا شهيدا» بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه المضارة لا تنحصر، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضار» بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ ابن محيصن «ولا يضار» برفع الراء مشددة، قال ابن مجاهد: ولا أدري ما هذه القراءة؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف، وذلك على أن تجعل لا نفيا أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر: [الطويل]
على الحكم المأتيّ يوما إذا انقضى قضيّته أن لا يجوز ويقصد
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارّ» على معنى وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من النظر الأول.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه إبطال الحق، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع، وقوله بِكُمْ تقديره فسوق حال بكم، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال
385
الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.
وقد رهن النبي ﷺ درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي ﷺ «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي».
وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام.
قال القاضي أبو محمد: ومثله صاحب وصحاب، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا».
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر: [السريع]
اللحم والخبز لهم راهن... وقهوة راووقها ساكب
أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة: [البسيط]
386
يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا... عيدية أرهنت فيها الدّنانير
العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق:
أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر، تقول: رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا، لا كما تقول: رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا، قال أبو علي: وقد يقال في هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
يراهنني ويرهنني بنيه... وأرهنه بنيّ بما أقول
وقال الأعشى: [الكامل]
حتّى يقيدك من بنيه رهينة... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة: [المتقارب]
ولمّا خشيت أظافرهم... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.
قال القاضي أبو محمد: فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن، ك «كبش» و «كباش»، و «كعب» وكعاب، ونعل ونعال، وبغل وبغال، ومن قرأ «فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن، ك «سقف وسقف، وأسد وأسد، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك، قال أبو علي: وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى: [الكامل]
آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
قال الطبري: تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة: [الطويل]
وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
387
ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.
وقوله عز وجل: مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: ليس قبض العدل بقبض، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، وقوله فَلْيُؤَدِّ أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله أَمانَتَهُ مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال:
فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضا لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله.
وقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق، وآثِمٌ معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن»، وقَلْبُهُ فاعل ب آثِمٌ، ويجوز أن يكون ابتداء وقَلْبُهُ فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون قَلْبُهُ بدلا على بدل البعض من الكل.
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء، قال مكي هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة.
وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد.
388
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب ما وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: فِي أَنْفُسِكُمْ تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز.
واختلف الناس في معنى هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد ﷺ وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي ﷺ لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦]، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك، هذا معنى الحديث المروي، لأنه تطرق من جهات، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية، إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ثم قال: والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه، وسمع نشيجه، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية فنسخت الوسوسة، وثبت القول والفعل، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة، قال الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
389
تُخْفُوهُ
معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه لا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦]، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي ﷺ لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: ٦٥] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفر»، «ويعذب» جزما، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفر» و «يعذب» رفعا، فوجه الجزم أنه أتبعه ما قبله ولم يقطعه، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول، وقطعه على أحد وجهين، إما أن تجعل الفعل خبرا لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفر» و «يعذب» بالنصب على إضمار «أن»، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: فَيُضاعِفَهُ [الحديد ١١] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتدان
فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول.
وقوله تعالى: وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد، قال النقاش يغفر لمن يشاء، أي لمن ينزع عنه، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي من أقام عليه، وقال سفيان الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير.
قال القاضي أبو محمد: وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله
390
عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي ﷺ إياهم على ذلك.
ومسألة تكليف ما لا يطاق، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
سبب هذه الآية أنه لما نزلت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية التي قبلها. وأشفق منها النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر الأمر على أن قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه، وآمَنَ معناه صدق، والرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ هو القرآن وسائر ما أوحي إليه، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم، ويروى أن رسول الله ﷺ لما نزلت عليه قال: ويحق له أن يؤمن، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون»، وكُلٌّ لفظة تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام، ولما وردت هنا بعد قوله وَالْمُؤْمِنُونَ دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر.
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه.
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم.
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما أخبر هو به، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه» على الجمع، وقرؤوا في التحريم و «كتابه» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه» على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه» على التوحيد فيهما، وروى حفص عن عاصم هاهنا وفي التحريم «وكتبه» مثل أبي عمرو، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا: نسج اليمن، وقال أبو علي في صدر كلامه: أما الإفراد في
قول من قرأ «وكتابه» فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير، كقوله تعالى: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان: ١٤] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة، كقولهم: كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف، ومنه قول ابن الرقاع:
يدع الحيّ بالعشيّ رعاها وهم عن رغيفهم أغنياء
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، وقرأت الجماعة «ورسله» بضم السين، وكذلك «رسلنا» و «رسلكم» و «رسلك» إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا» و «رسلكم»، وروي عنه في «رسلك» التثقيل والتخفيف، قال أبو علي من قرأ «على رسلك» بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتبه ورسله» بسكون التاء والسين، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله»، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق» بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق» بالياء، وهذا على لفظ كُلٌّ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون»، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وقوله تعالى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة قبول الأوامر، وغُفْرانَكَ مصدر كالكفران والخسران، ونصبه على جهة نصب المصادر، والعامل فيه فعل مقدر، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.
وروي أن النبي ﷺ لما نزلت هذه الآية قال له جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل إلى آخر السورة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضا يدفعه اللفظ، ولذلك ساغ الخلاف.
392
وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥] وقوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨] وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦].
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به.
قال القاضي أبو محمد: وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث.
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد ﷺ أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١]، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى: سَيَصْلى ناراً [المسد: ٣] إنما معناه إن وافى على كفره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما لا يطاق ينقسم أقساما: فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير، ويُكَلِّفُ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئا، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وسعها» بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: ٢٥٥] وكما قال وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: ٩٨] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر.
وقوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ يريد من الحسنات، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب لَها من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب عَلَيْها، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول لي مال وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليّ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام. كما قال فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطلاق: ١٧] هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى، وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه الآية.
393
وقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا معناه قولوا في دعائكم.
واختلف الناس في معنى قوله نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك، أي إن تركنا شيئا من طاعتك وأنه الخطأ المقصود. قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضوع عن المرء، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي ﷺ قال: إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها، وقال السدي لما نزلت هذه الآية فقالوها قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد فعل الله ذلك يا محمد.
قال القاضي أبو محمد: فظاهر قوليهما ما صححته، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: ٢٨٤] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ، «والإصر» الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره. وأما لفظة «أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد، قال قتادة: الإصر العهد والميثاق الغليظ. وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير. وقال ابن زيد أيضا: الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه. وقال مالك رحمه الله:
الإصر: الأمر الغليظ الصعب.
قال القاضي أبو محمد: والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام أو قرابة أو عهد ونحوه، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، والقد يضم عضدي الرجل يقال أصر يأصر أصرا والإصر بكسر الهمزة من ذلك، وفي هذا نظر. وروي عن عاصم أنه قرأ أصرا بضم الهمزة، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود. قال الضحاك: والنصارى، وأما عبارات المفسرين في قوله: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا. وقال الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقال نحوه ابن زيد، وقال ابن جريج: لا تمسخنا قردة وخنازير، وقال سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به الغلمة، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة، وقال السدي: هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: وَاعْفُ عَنَّا
394
أي فيما واقعناه وانكشف وَاغْفِرْ لَنا أي استر علينا ما علمت منا وَارْحَمْنا أي تفضل مبتدئا برحمة منك لنا.
قال القاضي أبو محمد: فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحدا وهو دخول الجنة وأَنْتَ مَوْلانا مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات.
وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمدا ﷺ فقال: قل رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، فقالها فقال جبريل قد فعل، فقال: قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل: قد فعل إلى آخر السورة، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه، يعني من قيام الليل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. وروي أن النبي ﷺ قال: «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي».
كملت سورة البقرة والحمد لله كثيرا
395
Icon