تفسير سورة الحج

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الحج من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ إنْ كُنْتُم في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فإنّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ ﴾، الآية :[ ٥ ] :
قوله :﴿ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلّقَةٍ ﴾ : يقتضي أن لا تكون المضغة إنساناً كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب، وإنما نبهنا الله تعالى على كمال قدرته، بأن خلق الإنسان من غير إنسان، وهي المضغة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب، وإذا لم يكن إنساناً يجوز أن يقال إنه ليس يحمل مثل النطفة١.
ويحتمل أن يقال : إنه أصل الإنسان الذي ينعقد ويشتمل عليه الرحم وصار حملاً، وليس كالنطفة المجردة التي لا ندري ما يكون منها.
وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوماً ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة، ولا تصير به أم ولد، وزعم أن هذا غلط، لأن الله تعالى أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخل فيما ذكر من خلق الناس كما ذكرت المخلقة، ودل على أن كل ما يكون من ذلك إلى خروج الولد من بطن أم فهو حمل، وقد قال تعالى :﴿ وأُولاتُ الأَحْمالِ أجَلُهُن أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ٢.
وهذا لا حجة فيه، فإن الله تعالى لم يذكر أنه حمل، وإنما نبه على قدرته بأن خلقنا من المضغة والعلقة والتراب والنطفة، وليس الولد نطفة ولا مضغة، بل خلق منه الولد، وما دخلت العلقة في اسم الإنسان، ولا النطفة ولا المضغة التي ليست مخلقة.
وقوله تعالى :﴿ وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهُن أنْ يَضعنَ حَمْلَهُن ﴾ : فالمراد به ما يسمى ولداً. واستدل إسماعيل بن إسحاق أنه يرث بهذا وهو غلط٣، فإنه يرث عند الولادة حياً مستنداً إلى حالة كونه نطفة، ولا كلام فيه حتى لو طلقها من أربع سنين وأتت بولد، يعلم أنه في تلك الحالة كان نطفة يرث أيضاً، ولو انفصل ميتاً وقد تكامل خلقه لم يرث، وانقضت به العدة، فهما بابان متباينان.
١ - انظر أحكام القرآن للجصاص..
٢ - سورة الطلاق، آية ٤..
٣ - انظر أحكام القرآن للجصاص..
قوله تعالى :﴿ والمَسْجِدِ الحَرامِ الّذي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَواءً العَاكِفُ فيهِ والبَادِ ﴾، الآية :[ ٢٥ ] :
احتج به قوم على منع بيع دور مكة، فإنها مخلاة للساكنين، لا يتخصص سكانها بها، وهذا في غاية البعد، ولا شك أن أبنيتها لملاكها لا يزاحمون فيها دون إذنهم، إلا ما كان وقفاً على الصادر والوارد، وأكثر دور مكة كذلك١.
وقوله تعالى :﴿ سواءً العاكفُ فيهِ والبَادِ ﴾، الآية :[ ٢٥ ] : يظهر حمله على المسجد الذي لا يتخصص به قوم عن قوم، وأنه يشترك في الانتفاع به قعوداً وصلاة كافة الناس.
وذكر إسماعيل به اسحاق عن علقمة بن فضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن لم يحتج لم يسكن٢.
وروي أن عمر كان يمنع أن تغلق دور مكة في زمن الحج، وكانوا ينزلون حيث وجدوا، حتى كانوا يضربون الفسطاط في جوف الدور٣.
ونهى عمر أهل مكة أن يجعلوا لبيوتهم أبواباً٤، وروي عن عمر أنه اشترى داراً بأربعة آلاف.
وبينا بعد قول من يقول لا اختصاص لأهل مكة بدورهم المعروفة بهم، الموروثة عن آبائهم وأسلافهم، وأن من شاء أزعجهم، وما زالوا يتصرفون فيها هدماً وبناء وبيعاً وإجارة وإعارة من غير نكير، ولعل عمر إنما فعل ذلك عند ازدحام الناس وضيق المنازل، فأباح ذلك لا أنه أزال ملك الرباع، وإلا فقد روي عنه أنه اشترى بها داراً بأربعة آلاف، ولا يمكن الجمع بينهما إلا على هذا الوجه.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بِإلحَادٍ بظُلْمٍ ﴾، الآية : معنى الإلحاد من المتعارف : الميل إلى الكفر، والظلم لفظ عام.
أبان الله تعالى أن الظلم فيه أعظم من الظلم فيما سواه.
١ - انظر توضيح المسألة في أحكام القرآن للجصاص ـ ٥ ص ٥٧-٥٨-٥٩..
٢ - رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة..
٣ - أخرجه عبد بن حميد..
٤ - رواه عبد الرزاق وفيه: لينزل البادي حيث شاء..
قوله تعالى :﴿ وأَذِّنَ في النّاسِ بالحَجِّ ﴾، الآية :[ ٢٧ ] :
ظاهره أنه خطاب لإبراهيم، لأنه مسوق على مخاطبته، بقوله تعالى :﴿ وإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ ﴾، الآية :[ ٢٦ ].
وروي عن ابن عباس في ذلك، أن إبراهيم عند هذا الأمر نادى :
يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً، وقد أمركم أن تحجوه، فلم يبق إنس ولا جن إلا قالوا : لبيك اللهم لبيك١، وعن علي نضر الله وجهه مثل ذلك.
وعلى هذا يقولون إن رسول الله كان قد حج قبل الهجرة مرتين، فسقط الفرض عنه بذلك، وهذا بعيد، فإنه إذا ورد في شرعه :﴿ وللهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ٢، فلا بد من وجوب عليه، بحكم الخطاب في شرعه.
ولئن قيل : إنما خاطب من لم يحج، كان تحكماً وتخصيصاً بلا دليل، ويلزم عليه أن لا يجب بهذا الخطاب على من يحج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد.
وقد أبان الله تعالى أنهم يأتون ركباناً ومشاة لا لنفس السفر، بل ليشهدوا منافع الدين والدنيا أيضاً من التجارة وغيرها. والمقصود أن الأتعاب لغرض جائز.
١ - انظر تفسير الدرالمنثور في التفسير بالمأثور..
٢ - سورة آل عمران، آية ٩٧..
قوله تعالى :﴿ ويَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾، الآية :[ ٢٨ ] :
ذكرنا من قبل معنى المعلومات والمعدودات والاختلاف فيه.
قوله تعالى :﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ ﴾، الآية :[ ٢٨ ] :
وذلك في دماء النسك، وليس الأكل واجباً بالاتفاق، وإنما يؤكل من دماء النسك، وأما دماء الجنايات، فلا خلاف أن الناسك لا يأكل منها، ودم المتعة والقرآن دم جبر عند الشافعي، فلا يأكل منه، ويأكل منها عند أبي حنيفة، لأنه رأى الدين دم نسك، فليقع الكلام في ذلك الأصل.
قوله تعالى :﴿ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ ﴾، الآية :[ ٢٩ ] :
معناه : أنهم عند النحر ينتفون ويحلقون ويقلمون الأظافر، لأن الإحرام إذا منع من ذلك فعل عند التحلل، ويزيل ما به من التفث.
قوله تعالى :﴿ فكُلُوا مِنْها وأَطْعِمُوا ﴾ : يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه.
قوله :﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم ﴾ : يدل على وجوب إخراج النذر، وإن كان دماً أو هدياً أو عمرة، ويدل على ذلك أن النذر لا يجوز أن يؤكل منه وفاء بالنذر.
وقد رتبه الله تعالى هذا الترتيب، فبين حكم النحر، ثم عطف عليه بأمور ثلاثة منها : قضاء التفث، والوفاء بالنذر، والطواف، فيجب حمل الطواف على ما يفعل بعد النحر، وهو طواف الزيارة، فإذا أتى به مع ما تقدم حل له النساء والطيب.
ثم عظم الأمر في قول الزور، ومنه أن قرنه بقوله تعالى :
﴿ فاجتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾، الآية :[ ٣٠ ] :
قوله تعالى :﴿ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ ﴾، الآية :[ ٣٢ ] :
فيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإن عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له محمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب.
قوله تعالى :﴿ لَكُم فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أجَلٍ مُسَمّى ﴾، الآية :[ ٣٣ ] :
قال ابن عباس وابن عمر : لكم فيها منافع من ألبانها وأصوافها وظهورها، إلى أن تسمى بدناً، ثم محلها إلى البيت العتيق.
قوله تعالى :﴿ وأَطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرّ ﴾، الآية :[ ٣٦ ] :
القانع : هو الراضي بما رزق، والمعتر : هو الذي يسأل.
ويمكن أن يفهم منه تجزئة المذبوح ثلاثة أجزاء : للأكل، وإطعام القانع، والمعتر.
قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُم ظُلِمُوا ﴾، الآية :[ ٣٩ ] :
أبان الله تعالى أن الغرض من قتالهم دفع ظلمهم، وأنهم إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
والخلفاء الراشدون كانوا بهذه المثابة، ففيه دلالة على صحة إمامتهم.
قوله :﴿ وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نبيٍّ إلاّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشّيطانُ في أُمْنِيَتِهِ ﴾، الآية :[ ٥٢ ].
ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق لفظه، إلى تلك الغرانيق العلا، وبينا فساد ذلك، وبينا وجه الرواية الصحيحة في الأصول.
Icon