تفسير سورة العنكبوت

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة العنكبوت
آياتها تسع وستون وقال الشعبي عشر آيات من أولها وهي مكية

أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أن ناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم ﴿ الم ١أ َحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ٢ ﴾ فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا فقالوا نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلنا فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ الآية وأخرج أيضا عن قتادة قال نزلت في ناس من أهل مكة خرجوا يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فعرض لهم المشركون فرجعوا فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم فخرجوا فقتل من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم ﴿ والذين هاجروا فينا لنهديهم سبلنا ﴾ الآية. وذكر البغوي عن ابن عباس قال أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم واخرج ابن سعيد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن عمير قال نزلت في عمار بن ياسر إذا كان يعذب في الله ﴿ أحسب الناس ﴾ الآية وكذا ذكر البغوي قول ابن جريج وقال قال مقاتل نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة قلت : وهو أول من خرج من المسلمين مبارزا يوم بدر فقتله عامر بن الحضرمي بسهم وكان أول من قتل كذا في سبيل الرشاد ولما جزع عليه أبواه وامرأته انزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وقوع الاستفهام ﴿ آلم١ ﴾ دليل على استقلاله والمراد بالحسبان الظن وهو متعلق بمضمون جملة للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك يقتضي مفعولين أو ما يسد مسدهما كقوله أن يتركوا والاستفهام للإنكار والتوبيخ وأن يقولوا تقديره لأن يقولوا ﴿ وهم لا يفتنون ﴾ حال من فاعل يقولوا والمعنى أظنوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم هو الثاني كقولك حسبت ضربه للتأديب أو المعنى أحسبوا أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا يعني لا يحسبوا ذلك بل يمتحنهم الله بالمشاق كالمهاجرة والمجاهدة وأنواع المصائب في الأنفس والأموال والأولاد ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطر فيه ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات وذكر البغوي أن الله تعالى أمرهم في الابتداء مجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعضهم فأنزل الله هذه الآية فالمعنى أحسبوا أن يتركوا على مجرد الإيمان وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي فإن مجرد الإيمان وإن كان مانعا عن الخلود في العذاب لكن نيل الدرجات يترتب على وظائف الطاعات ورفض الشهوات
﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾ من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمناشير ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون يسومهم سوء العذاب الجملة متصل بقوله أحسب أو بقوله لا يفتنون يعني ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه أو معترضة لتسلية المؤمنين ﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا ﴾ في قولهم أمنا معطوف على قوله } ﴿ ولقد فتنا ﴾ وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة ﴿ وليعلمن الكاذبين ﴾ الله عالم أزلا ومعنى الآية ليتعلقن علمه حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان من الذين كذبوا فيه وينوط به ثوابهم وعقابهم وقيل معناه ليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه وقال مقاتل ليرين الله وقيل ليميز الله الخبيث من الطيب.
﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ أي الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح ﴿ أن يسبقونا ﴾ أن يفوتنا فلا نقدر على الانتقام منهم وأن مع صلتها ساد مساد مفعولي حسب معطوف على أحسب وأم منقطة بمعنى بل والهمزة والإضراب لان هذا الحسبان إبطال من الحسبان الأول لأن في الحسبان الأول يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وفي هذا أن لا يجازي بمساويه وقالوا الأول في المؤمنين وهذا في الكافرين قلت : وجاز أن يكون أم متصلة والإنكار ورد على أحد الحسبانين المتردد فيهما بالهمزة وأم والنكرة في حيز النفي المستفاد من الإنكار يعم فالمعنى كلا الحسبانين باطلان فلا تحسبوا أيها المؤمنون أن لا تمتحنوا بل تمتحنون بالمصائب لتنالوا الدرجات الرفيعة ولا يحسب أعداؤكم أن لا يعذبهم الله في الدنيا والآخرة بل يعذبهم الله في الدنيا بأيدي المؤمنين وفي الآخرة بعذاب من عنده والحاصل أن المؤمنين يمتحنون بالمصائب ثم يكون الغلبة لهم في آخر الأمر ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ ما موصولة مرفوعة على الفاعلية أو موصوفة منصوبة على التميز من الضمير المبهم المرفوع والمخصوص محذوف أي بئس الذي يحكمونه حكمهم هذه أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.
﴿ من كان يرجو لقاء الله ﴾ قال ابن عباس الرجاء بمعنى الخوف أي من يخشى البعث والحساب وعذاب الله وقال سعيد بن جبير من كان يطمع في ثواب الله قلت : وجاز أن يكون المعنى من كان يرجوا رؤية الله فيستدل بهذه الآية أن رؤية الله في الدنيا غير واقع إلا ما قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج وكان ذلك خارجا من الدنيا فمن ادعى رؤية الله في الدنيا برأى العين فقد كذب ﴿ فإن أجل الله ﴾ يعني أجل لقائه يحذف المضاف ووقته الموعود له ﴿ لأت ﴾ لا محالة قال مقاتل يعني يوم القيامة لكائن فليبادر إلى ما يحقق رجاءه وينجوه عما يخاف عنه وهذا كقوله تعالى :﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ ١ ﴿ وهو السميع ﴾ لأقوال العباد ﴿ العليم ﴾ بعقائدهم وأفعالهم
١ سورة الكهف الآية: ١١٠.
﴿ ومن جاهد ﴾ أعداء الله يعني الكفار في الحرب أو نفسه في الكف عن الشهوات المنهية والترفع والصبر على الطاعات والشيطان في دفع وساوسه عطف على الشرطية السابقة ﴿ فإنما يجاهد لنفسه ﴾ لأن منفعته راجعة إليها ﴿ إن الله لغني عن العالمين ﴾ لا حاجة له إلى طاعتهم وإنما كلف عبادة رحمة عليهم ومراعاة لمصالحهم الجملة تعليل لما سبق
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ يعني نذهب سيئاتهم بحسناتهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر " ١ رواه مسلم وقد مر في تفسير قوله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ٢ ﴿ ولنجزينهم ﴾ منصوب بنزع الخافض ﴿ الذي كانوا يعملون ﴾ أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة يعني لا نضيعها وقيل معناه نعطهم أكثر مما عملوا عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى ما شاء الله وقيل أحسن بمعنى حسن.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (٢٣٣)..
٢ سورة النساء الآية: ٣١..
﴿ ووصينا الإنسان ﴾ الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ ﴿ بوالديه حسنا ﴾ أمرناه بإتيان فعل ذا حسن أو كان في ذاته حسن تفرط حسنه متلبسا ذلك الفعل بوالديه أي يبرهما ويعطف عليهما وقيل معناه ووصينا الإنسان ذا حسن بأن يبرهما أخرج مسلم والترمذي والبغوي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن أبي وقاص وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري أحد العشرة المبشرة رضي الله عنه كان من السابقين الأولين وكان بارا بأمه أنه لما أسلم قالت أمه وهي حمنة أبي سفيان بن أمية بن عبد الشمس ( قد أمر الله بالبر وفي رواية ) قالت ما هذا الذي أحدثت والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر وفي رواية حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر قاتل أمه فنزلت ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾ ١ ﴿ وإن جاهداك لتشرك بي ﴾ بإضمار القول أي وقلنا له وإن جاهداك لتشرك بي ﴿ ما ليس لك به علم ﴾ بألوهيته عبر عن نفيها بنفي علم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لايجوز إ تباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بالأدلة لقطعية بطلانه ﴿ فلا تطعهما ﴾ في ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " رواه أحمد والحاكم صححه عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وفي الصحيحين وسنن أبي داود النسائي عن علي رضي الله عنه " لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " ٢ قال البغوي ثم إنها أي أم سعد مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب وقيل لبثت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني إن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت ﴿ إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بالجزاء عليه ونزلت أيضا في قصة أم سعد التي في لقمان والتي في الأحقاف
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة العنكبوت (٣١٨٩) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (١٧٤٨)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أخبار الأحاد باب: ما جاء في إجازة الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام (٧٢٥٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب؟: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (١٨٤٠) وأخرجه النسائي في كتاب: البيعة باب: جزاء من أمر بمعصية فأطاع (٤٢٠٣) وأخرجه أبو داود في كتب: الجهاد باب: في الطاعة (٢٦٢٣).
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ﴾ من الأنبياء والشهداء والأولياء أي نجعلهم في جملتهم ونحشر معهم أو في مدخلهم وهي الجنة والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين فإن كمال الصلاح عبادة عن عدم شيء الفساد في الاعتقاد والأعمال والأخلاق والأشغال عطف على ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم ﴾ وما بينهما اعتراض.
أخرج ابن جرير وابن منذر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفر لهم فنزلت ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ الآية من سورة النساء فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت ﴿ ومن الناس ﴾ عطف على ما سبق ذكر المؤمنين أولا ثم ذكر المنافقين ﴿ من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله ﴾ بأن عذبهم الكفار على الإسلام ﴿ جعل فتنة الناس ﴾ الأذى الذي لحقهم من الكفار ﴿ كعذاب الله ﴾ في الآخرة أي جزع من عذاب الناس ولم يصبر فأطاع الناس وترك الإسلام كما يترك المسلمون الكفر والمعاصي بخوف عذاب الله في الآخرة والجملة الشرطية عطف على صلة من قال ابن عباس فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزبوا فقالوا نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فنزلت ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ الآية فكتبوا بذلك فخرجوا فلحقهم فنجا من نجا وقتل من قتل وأخرج عن قتادة أنها نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة ﴿ ولئن جاء نصر من ربك ﴾ أي فتح وغنيمة للمؤمنين ﴿ ليقولن إنا كنا معكم ﴾ في الدين جواب قسم محذوف في اللفظ وفي المعنى جزاء للشرط وهذه الشرطية معطوفة على شرطية سابقة أعني فإذا أوذي وقيل الآية نزلت في المنافقين ويؤيده قوله تعالى :﴿ أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ﴾ الهمزة للإنكار والواو للحال والإنكار راجع إلى الحال والمعنى ليس الحال أنهم يقولون ذلك وليس الله بعالم بما في صدورهم بل الحال أن الله عالم بما ﴿ في صدور العالمين ﴾ من الإخلاص والنفاق فيجازى المنافقين عل نفاقهم أو للعطف على مضمون ما سبق يعني نافقوا ولا يخفى ذلك على الله
﴿ وليعلمن الله ﴾ جواب قسم محذوف والجملة معترضة وعدا للمؤمنين ووعيدا للمنافقين أو معطوف على مضمون إنكار نفي علمه تعالى تأكيد له ﴿ الذين آمنوا ﴾ مخلصين ﴿ وليعلمن المنافقين ﴾ فيجازي كلا على حسب ما أضمر قال الشعبي هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هنا مدنية وما بعدها مكية
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ يعني كفار مكة كذا قال مجاهد ﴿ للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ﴾ قال الكلبي ومقاتل قاله أبو سفيان لمن آمن من قريش إتبعوا ديننا وملة آبائنا عطف على ما سبق من ذكر المنافقين﴿ ولنحمل خطاياكم ﴾ أي إن كان ذاك خطيئة أو إن كان ذاك خطيئة إن كان بعث ومؤاخذة أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالإتباع مبالغة في تعليق الحمل بالإتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم تشجيعا لهم وقال الفراء لفظه أمر ومعناه جزاء مجا زه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله تعالى :﴿ فليلقه اليم بالساحل ﴾١ ولما كان في كلامهم تشجيعا على الكفر والمعاصي رد الله عليهم قولهم وكذبهم بقوله تعالى :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ﴾ الجملة حال من فاعل قال ﴿ إنهم لكاذبون ﴾ في الإخبار بالحمل عنهم المستفاد من قولهم ولنحمل خطاياكم من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم
١ سورة طه الآية: ٣٩..
﴿ وليحملن أثقالهم ﴾ أي أوزار أعمالهم التي عملوا بأنفسهم جواب القسم المقدر وهو حكاية قسم لا إنشائية فهو خبرية معطوفة على ما هم بحاملين ﴿ وأثقالا مع أثقالهم ﴾ لما تسببوا له بالإضلال وهو الحمل على المعاصي من غير أن ينقص أوزار أتباعهم ﴿ وليسئلن يوم القيامة ﴾ سؤال تقريع وتبكيت ﴿ عما كانوا يفترون ﴾ من الأباطيل التي أضلوا بها.
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ عطف على قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾ وفيه إلتفات من الغيبة على التكلم ﴿ فلبث ﴾ عطف على أرسلنا فدل على أنه بعد الإرسال لبث ﴿ فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان ﴾ طوفان الماء يقال لما طاف بكثرة من سيل ظلام أو نحوها طوفان يعني فغرقوا ﴿ وهم ظالمون ﴾بالكفر حال لما طاف بكثرة من سيل ظلام أو نحوها طوفان يعني فغرقوا ﴿ وهم ظالمون ﴾ بالكفر حال من مفعول أخذهم قال ابن عباس بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وكان عمره ألفا وخمسين سنة أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وذكره البغوي وعن وهب أنه عاش ألفا وأربع مائة سنة فقال له ملك الموت يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت وخرجت ولم يقل تسع مائة وخمسين عاما لأن اللفظ أخصر ولأن المقصود بيان طول مصابرته على مكائد أمته فكان ذ كر الألف أفخم
﴿ فأنجيناه ﴾ يعني نوحا ﴿ وأصحاب السفينة ﴾ الذين ركبوها معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وقد مر في سورة هود وسورة الأعراف تمام القصة ﴿ وجعلناها ﴾ أي السفينة أو الحادثة ﴿ آية للعالمين ﴾ يتعظون ويستدلون بها
﴿ وإبراهيم ﴾ عطف على نوح يعني وأرسلنا إبراهيم أو منصوب بإضمار اذكر ﴿ إذ قال لقومه اعبدوا الله ﴾ ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وأمر الناس به أو بدل اشتمال منه إن قدر اذكر ﴿ واتقوه ﴾ أي خافوا واحذروا عذابه ﴿ ذلكم خير لكم ﴾ مما انتم عليه تعليل للأمر بالعبادة والتقوى ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ جزاؤه محذوف والتقدير إن كنتم تعلمون الخير والشر وتتميزون بينهما أو كنتم تنظرون بنظر العلم دون نظر التعصب والجدال أو كنتم من أولي العلم والتميز لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم مما أنتم عليه
﴿ إنما تعبدون من دون الله أوثانا ﴾ حجارة لا تضر ولا تنفع ﴿ وتخلقون إفكا ﴾ منصوب على المصدر أي تكذبون كذبا أو تقولون قولا ذا إفك في تسميتها آلهة وإدعاء شفاعتها عند الله أو على العلية أي تخلقونها وتنحتونها للإفك أو على المفعولية على أن المعنى تخلقون شيئا ذا إفك والجملة معترضة لبيان شناعة حالهم وكذا ما بعده أو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث أنه زور وباطل ﴿ إن الذين تعبدون من دون الله ﴾ الأوثان وغيرهما ﴿ لا يملكون لكم رزقا ﴾ دليل آخر على شرارة ذلك من حيث أنه لا يجدي نفعا ورزقا يحتمل المصدر أي لا يستطيعون أن يرزقوكم ويحتمل أن يراد به المرزوق وتنكيره للتعميم والتحقير أي لا يملكون شيئا من الرزق ﴿ فابتغوا عند الله الرزق ﴾ كله فإنه المالك لا غير ﴿ واعبدوه واشكروا له ﴾ متوسلين إلى مطالبكم مقيدين لما أعطاكم من النعم بشكره مستعدين للقائه بهما فإنه ﴿ إليه ترجعون ﴾ حال مقدرة من فاعل أشكروا.
﴿ وإن تكذبوا ﴾ أي تكذبوني ﴿ فقد كذب أمم من قبلكم ﴾ رسلا من قبلي فلم يضرهم تكذيبهم إياهم وإنما أضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم ﴿ وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾ الذي يزيل الشك يعني لا يضره تكذيب من كذبه وليس الواجب عليه هداية الخلق إذ ليس ذلك في وسعه هذه الآية وما بعدها إلى قوله :﴿ فما كان جواب قومه ﴾ جاز أن يكون من كلام إبراهيم من جملة قصته وجاز أن يكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث أن ساقها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباه خليل الله كان في مثل حالك من مخالفة القوم وتكذيبهم إياه.
﴿ أو لم يروا ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي با لتاء الفوقانية خطابا والباقون بالياء التحتا نية غيبة الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ألم ينظروا ولم يروا الواو للحال والإنكار إنكار لحال عدم الرؤية عند التكذيب تقديره فقد كذب أمم من قبلكم والحال أنهم قد رأوا ﴿ كيف يبدئ الله الخلق ﴾ أي كيفية بدء خلقهم قلم يعتبروا به خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرج طفلا ثم يتحول أحوالا حتى يموت ﴿ ثم يعيده ﴾ إلى الحياة بعد الموت معطوف على أولم يروا لا على يبدئ فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن يأول الإعادة بان ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوها فحينئذ يعطف على يبدئ ويجوز أن يعطف على يبدئ ويجعل وقوع الرؤية على ما يدل على إمكان الإعادة رؤية عليها مجازا ﴿ إن ذلك ﴾ الإعادة أو ما ذكر من الأمرين ﴿ على الله يسير ﴾ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء ولا يتعب فيه
﴿ قل سيروا ﴾ حكاية خطاب من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بتقدير القول يعني قلنا لإبراهيم قل سيروا أو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ﴾ على اختلاف الأجناس والأحوال ﴿ ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ﴾ كان القياس أن يقول ﴿ فانظروا كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة ﴾ فغيره على هذا النمط لأن المقصود إثبات جواز الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج بأن الإعادة مثل الإبداء فمن كان قادرا على الإبداء لا يعجزه الإعادة فكأنه قال ثم الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز الله اسمه وأوقعه مبتدأ قال بعض المحققين ثم ينشي النشأة الآخرة معطوف على محذوف مفهوم مما سبق تقديره قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق فقد أنشأ الله النشأة الأولى ثم الله الذي أنشأ النشأة الآخرة. قرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين ممدودا هاهنا وفي النجم والواقعة والباقون بإسكان الشين من غير ألف ووقف حمزة على وجهين في ذلك أحدهما أن يلقى الحركة على الشين ثم يسقطها طردا للقياس والثاني أن يفتح الشين ويبدل الهمزة ألفا إتباعا للخط قال الداني ومثله قد يسمع من العرب ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ لأن قدرته مقتضى ونسبة ذاته إلى الممكنات بأسرها سواء فيقدر على النشأة الأخرى كقدرته على الأولى.
﴿ يعذب من يشاء ﴾ تعذيبه في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالخذلان وبالحرص أو بسوء الخلق في الآخرة وفي الدنيا بالتائيد والقناعة وحسن الخلق والإقبال على الله وإتباع السنة ﴿ وإليه تقلبون ﴾ تردون
﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ ربكم عن إدراككم ﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاربها أو بالتحصن في السماء أو القلاع الذاهبة فيها وجاز أن يكون ولا في السماء تقديره ولا من في السماء عطفا على اسم ما كقول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم*** ويمدحه وينصره سواء
﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ يحرسكم عن بلاء يظهر في الأرض أن ينزل من السماء ويدفعه عنكم.
﴿ والذين كفروا بآيات الله ﴾ بدلائل وحدانيته أو بآياته المنزلة في كتبه ﴿ ولقائه ﴾ أي بالبعث ﴿ أولئك يئسوا من رحمتي ﴾ أي ييئسون منها يوم القيامة أو المراد بالرحمة الجنة وهم آيسون في الدنيا منها لإنكارهم البعث ﴿ وأولئك لهم عذاب أليم ﴾ هذه إن كان من كلام إبراهيم فالتقدير قال الله :﴿ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي ﴾ وإن كان معترضا من الله تعالى فمعطوف على قوله قل سيروا لا على مقولة قل
ثم رجع إلى قصة إبراهيم فقال ﴿ فما كان جواب قومه ﴾ عطف على أرسلنا إبراهيم ﴿ إلا أن قالوا أقتلوه أو حرقوه ﴾ قال ذلك بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وأسند الفعل إلى كلهم لرضائهم به ﴿ فأنجاه الله من النار ﴾ معطوف على محذوف تقديره فاتفقوا على تحريقه فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعله بردا وسلاما ﴿ إن في ذلك ﴾ الإنجاء ﴿ لآيات ﴾ هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ فإنهم هم المنتفعون بها.
﴿ وقال ﴾ إبراهيم لقومه عطف على ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ ﴿ إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة ﴾ مصدر بمعنى المفعول يعني مودودا أو على تقدير المضاف أي سبب مودة قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بالرفع مضافا إلى ﴿ بينكم ﴾ بالجر على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم يعني يود بعضكم بعضا ويتواصلون بسبب اجتماعكم على عبادتها والجملة صفة أوثانا أو خبر أن على أن ما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول أي إنما اتخذتوه من دون الله أوثانا سبب للمودة منكم وقرأ حفص وحمزة مودة مضافا إلى بينكم منصوبا على العلمية أي لتتودوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادة الأوثان وأوثانا المفعول الأول لا تخدتم ومفعوله الثاني بتقدير مضاف أو بتأويلها بالمودودة أي اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو مودودة وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر مودة منونة ناصبة بينكم منصوبا على ما ذكرنا في قراءة حفص ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ متعلق بمودة يعني مودة بينكم تنحصر في الدنيا وتنقطع بعده ﴿ ثم يوم القيامة ﴾ حين يكون الأخلاء بعضهم لبعض عدوا ﴿ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ أي يقع التناكر والتلاعن بين الكفار أو بينهم وبين الأوثان والجملة معطوفة على مقوله قال :﴿ ومأواكم ﴾ جميعا أيها العابدون والمعبودون ﴿ النار وما لكم من ناصرين ﴾ يخلصونكم منها.
﴿ فآمن ﴾ عطف على قال ﴿ له ﴾ أي لإبراهيم ﴿ لوط ﴾ لكونه معصوما عن تكذيب الأنبياء وهو أول من صدق إبراهيم وكان ابن أخيه هارون ﴿ وقال ﴾ إبراهيم ﴿ إني مهاجر ﴾ من قومي ﴿ إلى ربي ﴾ أي على حيث أمرني ربي أو إلى حيث يتيسر لي هناك عبادة ربي أو المعنى إني مهاجر من قومي معرض عنهم متوجها إلى ربي وهي السفر في الوطن على اصطلاح الصوفية قال المفسرون هاجر إبراهيم من كوثى ( وهو من سواد كوفة ) إلى حران ثم أتى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر فنزل إبراهيم فلسطين ولوط السدوم قالوا كان إبراهيم حين هاجر ابن خمس وسبعين سنة ﴿ إنه هو العزيز ﴾ الذي يمنعني من أعدائي ﴿ الحكيم ﴾ الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.
﴿ ووهبنا له ﴾ بعد إسماعيل ﴿ إسحق ﴾ بعدما أيس من الولادة لكبر سنة وكبر امرأته وكونها عاقرا ﴿ ويعقوب ﴾ ولد الولد نافلة ﴿ وجعلنا في ذريته ﴾ أي إبراهيم ﴿ النبوة والكتاب ﴾ من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ﴿ وآتيناه أجره ﴾ على هجرته إلينا ﴿ في الدنيا ﴾ بإعطاء الولد في غير أوانه والذرية الطيبة كذا قال السدي واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر كذا قالوا قلت لعل أجره في الدنيا اللذة في الذكر والفكر والعبادة لله فوق ما يستلذون بها أهل الدنيا من المستلذات الحسنة نظيره قوله تعالى :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾١ ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ أي في عداد الكاملين في الصلاح عطف على ﴿ آتيناه أجره في الدنيا ﴾ وغير الأسلوب من الفعلية إلى الاسمية للدلالة على استمرار الآخرة دون الدنيا.
١ سورة يونس الآية: ٦٤..
﴿ ولوطا ﴾ عطف على إبراهيم ﴿ إذ قال لقومه إنكم ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالهمزتين على الاستفهام للإنكار والتوبيخ والباقون بهمزة واحدة على الخير ﴿ لتأتون ﴾ جواب قسم محذوف ﴿ الفاحشة ﴾ الفعلة البالغة في القبح ﴿ ما سبقكم بها من احد من العالمين ﴾ هذه الجملة صفة للفاحشة على طريقة ولقد أمر على اللئيم يسبني أو حال أو مستأنفة لكونه فاحشة
﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾ بيان الفاحشة ﴿ وتقطعون السبيل ﴾ وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم وقيل معناه تقطعون سبيل النساء بإيثار الرجال على النساء ﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ أي في مجالسكم ولا يقال النادي إلا لما فيه أهله روى البغوي عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ قلت ما المنكر الذي كانوا يأتون ؟ قال كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم " ١ رواه أحمد والترمذي وغيرهما قوله يحذفون أهل الطريق أي يرمونهم بالبنادق قال البغوي ويروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم عند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل قيل خذوهم فأيهم أصابه فهو أولى به وقيل كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرنه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك وقال القاسم بن محمد كانوا يتضارطون في مجالسهم وقال مجاهد كان يجاهد بعضهم بعضا في مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض وعن مكحول قال كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف واللوطية ﴿ فما كان جواب قومه ﴾ عطف على قال ﴿ إلا أن قالوا ﴾ استهزاء ﴿ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ فيما أوعدتنا به من نزول العذاب أو في استقباح تلك الأفعال أو في دعوى النبوة المفهوم من التوبيخ
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة العنكبوت (٣١٩٠)..
﴿ قال ﴾ لوط ﴿ رب انصرني ﴾ بإنزال العذاب ﴿ على القوم المفسدين ﴾ بابتداع الفاحشة واستبانها لمل بعدهم وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾ بالبشارة بالولد والنافلة أعني إسحاق ويعقوب ﴿ قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية ﴾ قرية سدوم والإضافة لفظية لان معناه الاستقبال ﴿ إن أهلها كانوا ظالمين ﴾ تعليل لإهلاكهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الذي هو الكفر والمعاصي
﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ إن فيها لوطا ﴾ إعتراض علمهم بأن فيها من لم يظلم أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم ﴿ قالوا ﴾ أي الرسل وهم الملائكة ﴿ نحن أعلم ﴾ منك ﴿ بمن فيها لننجينه ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعيل ﴿ وأهله ﴾ تسليم لقوله مع إدعاء مزيد العلم وجواب عنه بتخصيص أهل القرية بمن عداه وعدى أهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم عنها وفيه تأخير البيان عن الخطاب وذلك جائز وإنما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ﴿ إلا امرأته كانت ﴾ في علم الله تعالى ﴿ من الغابرين ﴾ الباقين في العذاب أو في القرية تعليل للاستثناء.
﴿ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء ﴾ أي ألحقه المساءة والغم ﴿ بهم ﴾ أي بسبب الرسل مخافة أن يقصدهم قومه بسوء وأن صلة لتأكيد الفعلين واتصالهم ﴿ وضاق ﴾ لوط ﴿ بهم ﴾ بسبب الرسل ﴿ ذرعا ﴾ تميز من النسبة والذرع الطاقة يقال فلان طويل الذراع أي شديد القوة لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيرها والمعنى ضاق طاقته بشأنهم وتدبير أمرهم في الحفظ عن قومه ﴿ وقالوا ﴾ أي الرسل لما رأوا فيه أثر الغم والمساءة ﴿ ولا تخف ولا تحزن ﴾ على تمكنهم منا أو لا تخف تمكنهم منا ولا تحزن بإهلاكنا إياهم ﴿ إنا منجوك ﴾ تعليل للنهي قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر با لتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعيل وموضع الكاف نصب عند الكوفيين ويؤيده عطف ﴿ وأهلك ﴾ بالنصب وعند البصريين محل الكاف جر ونصب أهلك بإضمار فعل أي وننجي أهلك أو بالعطف على المحل البعيد للكاف فإن الإضافة اللفظية في حكم الانفصال وهو في الأصل منصوب ﴿ إلا امرأتك كانت من الغابرين ﴾.
﴿ إنا منزلون ﴾ قرأ ابن عامر بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الأفعال ﴿ على أهل هذه القرية رجزا ﴾ أي عذابا سمى بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا إرتجس أي إضطرب ﴿ من السماء ﴾ قال مقاتل الخسف والحصب ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾
﴿ ولقد تركنا منها ﴾ أي من قريات لوط ﴿ آية بينة ﴾ قال ابن عباس : هي آثار منازلهم الخربة وقال قتادة هي الحجارة الممطورة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة وقال مجاهد هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض وقيل هي حكايتها الشائعة ﴿ لقوم يعقلون ﴾ يتدبرون في الآيات تدبر ذوي العقول.
﴿ وإلى مدين ﴾ متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى مدين معطوفا على ﴿ ولقد أرسلنا نوحا ﴾ ﴿ أخاهم شعيبا فقال يا قوم أعبدوا الله وأرجوا اليوم الآخر ﴾ قيل الرجاء هاهنا بمعنى الخوف يعني خافوا عذاب اليوم الآخر والمعنى افعلوا فعلا ترجون به ثواب الآخرة فأقيم المسبب مقام السبب ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ حال مؤكدة لعاملها وجاز أن يكون الحال منتقلة والمعنى لا تفسدوا في الأرض على قصد الإفساد احتراز عما إذا أفسدوا على قصد الإصلاح كالقتل والجرح وتخريب الديار وقطع الأشجار في حرب الكفار من أهل الحرب
﴿ فكذبوه ﴾ في دعوى النبوة ﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبرئيل لأن القلوب ترجف ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ باركين على الركب ميتين والمراد من دارهم بلدهم أو دورهم ولم يجمع للأمن من اللبس
﴿ وعادا وثمودا ﴾ منصوبان بإضمار اذكروا فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا معطوف على قوله :﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ قرأ حمزة وحفص ويعقوب ثمود غير منصرف على تأويل القبيلة ﴿ وقد تبين ﴾ مع ما عطف عليه جملة معترضة ﴿ لكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ من مساكنهم ﴾ أي بعض مساكنهم أو المعنى قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم من الكفر والمعاصي { فصدهم ﴾ الشيطان ﴿ عن السبيل ﴾ أي سبيل الذي بين لهم الرسل الموصل إلى الجنة ﴿ وكانوا مستبصرين ﴾ قال مقاتل وقتادة والكلبي كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على الهدى والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وقال الفراء كانوا عقلاء ذوي البصائر متمكنين من النظر والاستبصار لكنهم لم يفعلوا وقيل معناه كانوا مبينين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسل لكنهم ألحوا حتى هلكوا
﴿ وقارون وفرعون وهامان ﴾ معطوفون على عاد قيل قدم قارون لشرف نسبه وفيه إشعار بان الكفر والعصيان من شريف النسب أقبح ﴿ ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ﴾ أي فائتين بل أدركهم أمر الله بالتعذيب من سبق طالبه إذا فاته.
﴿ فكلا ﴾ أي كل واحد منهم منصوب بقوله ﴿ أخذنا ﴾ أي عاقبناه ﴿ بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ﴾ أي الريح التي تحمل الحصباء وهي الحصى الضعيف وهم قوم لوط ﴿ ومنهم من أخذته الصيحة ﴾ ويعني ثمود ومدين ﴿ ومنهم من خسفنا به الأرض ﴾ يعني قارون ﴿ ومنهم من أغرقنا ﴾ يعني قوم نوح وفرعون وقومه ﴿ وما كان الله ليظلمهم ﴾ أي يعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس من عادته ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بالتعريض للعذاب.
﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ﴾ يعني مثل الكفار فيما إتخذوه معتمدا أو متكلا من الأصنام ﴿ كمثل العنكبوت ﴾ فيما ﴿ اتخذت بيتا ﴾ في الوهن والخوار بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعا ما يعني مثل دينهم كمثل بيت العنكبوت أو المعنى مثل الكفار الذين إتخذوا من دون الله أولياء بالنسبة إلى الموحد كمثل العنكبوت بالنسبة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والتاء فيه كتاء الطاغوت ويجمع على عناكيب وعكاب وأعكب ﴿ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ﴾ لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه هذه الجملة حال أو مستأنفة ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهن من ذلك
﴿ إن الله يعلم ﴾ على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم ﴿ ما يدعون من دونه من شيء ﴾ قرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء على الغيبة حملا على ما قبله من ذكر الأمم والباقون بالتاء للخطاب على كفار مكة وما استفهامية منصوبة بيدعون فيعلم معلقة منها ومن للتبيين أو نافية ومن مزيدة وشيء مفعول يدعون والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل أو مصدرية وشيء مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يعلم عائده المحذوف والكلام وعيد لهم ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ تعليل لما سبق فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدل شيئا مبمن هذا شأنه وأن الجما بالإضافة إلى القادر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم
﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها ﴾ أي ما يعقل حسن تلك الأمثال وفائدتها ﴿ إلا العالمون ﴾ الذين يتدبرون في الأشياء على ما ينبغي فيعقلون عن الله سبحانه روى البغوي عن عطاء وأبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه تلى هذه الآية ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون٤٣ ﴾ قال العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب معصيته كذا روى الثعلبي والواحدي وروى أبو داود بن الحر في كتاب العقل من طريق الحارث بن أسامة وأورده ابن الجوزي في الموضوعات
﴿ خلق الله السموات والأرض بالحق ﴾ فإن المقصود با لذات من خلقها إفاضة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله ﴿ إن في ذلك ﴾ الخلق ﴿ لآية ﴾ دالة على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وتنزهه عن المناقص ﴿ للمؤمنين ﴾ فإنهم هم المنتفعون بها.
﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب ﴾ أي بالقرآن تقربا إلى الله بتلاوته وتحفظا لاتعاظه وأحكامه واعتبارا بأمثاله واستكشافا لمعانيه فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لا ينكشف له أول مرة حتى يتمثل لأوامره وينتهي عن مناهيه ﴿ وأقم الصلاة ﴾ المفروضة ﴿ إن الصلاة تنهى ﴾ هذه الجملة تعليل للأمر بإقامة الصلاة ﴿ عن الفحشاء ﴾ أي ما ظهر قبحه شرعا وعقلا ﴿ والمنكر ﴾ للانتهاء عن المعاصي من حيث أنها تذكر وتورث للنفس خشية قال البغوي روي عن أنس رضي الله عنه قال كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش إلى ركبه فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن صلاته تنهاه يوما فلم يلبث أن تاب وحسن حاله " وفي مسند إسحاق والبزار وأبي يعلى عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال " إن صلاته تنهاه " قال البغوي قال ابن عباس وابن مسعود في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد صلاته من الله إلا بعدا وقال الحسن وقتادة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل المراد بالصلاة القرآن كما في قوله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ ١ يعني بالقرآن في الصلاة ولا شك أن القرآن ينهي عن الفحشاء والمنكر روى البغوي عن جابر قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن رجلا يقرأ القرآن بالليل كله فإذا أصبح سرق قال :" ستنهى قراءته " وفي رواية قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل قال :" إن صلاته ستردعه " ولذكر الله أكبر قال ابن عطاء ﴿ ولذكر الله أكبر ﴾ من أن يبقى معصية والمراد بذكر الله الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر وإنما عبر عنها بالذكر للتعليل بأن اشتمالها للذكر هو السبب لكونها مفضية إلى الحسنات ناهية عن السيئات.
وقد ورد في فضل الذكر أحاديث منها حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى قال ذكر الله " ٢ رواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجه إلا أن مالكا وقفه على أبي الدرداء وعن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله ؟ قال " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات قيل يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار حتى تنكسر وتخضب دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة " ٣ رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي حديث غريب وعن عبد الله بن يسر قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أي الناس خير ؟ قال " طوبي لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " ٤ رواه أحمد والترمذي وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له حمدان فقال " سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " ٥ رواه مسلم وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " ٦ متفق عليه وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء قال فيسألهم ربهم ( وهو أعلم بهم ) ما يقولون عبادي قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال فيقول هل رأوني ؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك قال فيقول كيف لو رأوني ؟ قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسألون ؟ قالوا يسألونك الجنة قال يقول هل رأوها ؟ فيقولون لا والله ما رأوها قال يقول كيف لو رأوها ؟ قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد طلبا وأعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون ؟ قال يقولون من النار قال يقول فهل رأوها ؟ قل يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد لها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم " ٧ رواه البخاري وروى مسلم نحوه وفيه " قال يقولون رب فيهم عبد خطأ إنما مر فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " ٨ عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر " ٩ رواه الترمذي وروى مسلم من حديث معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقه من أصحابه فقال وما أجلسكم هاهنا ؟ قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة " وعن مالك قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلفه الفارين وذاكر في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم وذاكر الله في الغافلين يريه مقعده من الجنة وهو حي وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم من بني آدم والبهائم " رواه رزين وعن معاذ بن جبل قال :" ما عمل آدمي عملا أنجاله من عذاب الله من ذكر الله " ١٠ رواه مالك والترمذي وابن ماجه وعن أبي سعيد شهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال :" لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " ١١ رواه مسلم وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " ١٢ متفق عليه وقال قوم معنى قوله تعالى :﴿ ولذكر الله أكبر ﴾ لذ كر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير قال البغوي ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه لا تقصروا في ذكر الله فإن ذكركم إياه يفضي إلى ذكره إياكم ولذكره إياكم أفضل من ذكركم إياه ﴿ والله يعلم ما تصنعون ﴾ لا يخفى عليه شيء كذا قال عطاء.
١ سورة الإسراء الآية: ١١٠..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٧) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الأدب باب: فضل الذكر (٣٧٩٠)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٦)..
٤ رواه الطبراني بأسانيد ورواه البزار من غير طريقه وإسناده حسن.
أنظر مجمع الزوائد في كتاب: الأذكار باب: فضل ذكر الله فقال والإكثار منه (١٦٧٤٧)..

٥ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: الحث على ذكر الله تعالى (٢٦٧٦)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات باب: فضل ذكر الله عز وجل (٦٤٠٧) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها باب: استحباب النازلة في بيته وجوازها في المسجد (٧٧٩)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات باب: فضل ذكر الله عز وجل (٦٤٠٨)..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: فضل مجالس الذكر (٢٦٨٩)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٥١٠)..
١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٧)..
١١ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (٢٦٩٩)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد باب: قول الله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ (٧٤٠٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: الحث على ذكر الله تعالى (٢٦٧٥)..
﴿ ولا تجادلوا ﴾ يعني لا تخاصموا عطف على ﴿ أقم الصلاة ﴾ أي ولا تجادل أنت والمؤمنون ﴿ أهل الكتاب إلا بالتي ﴾ أي بالخصلة التي ﴿ هي أحسن ﴾ الخصال يعني بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه فالمستثنى مفرغ أو المعنى إلا بالتي هي أحسن مما يفعله الكافرون يعني معارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح فالمستثنى منقطع لان النصح ليس بمجادلة﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ بنبذ العهد أو عدم قبول الجزية فقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كذا قال سعيد بن جبير أن المستثنى أهل الحرب والباقي بعد الثنيا أهل الذمة والظاهر انه كان الحكم بحسن المجادلة قبل الأمر بالقتال لأن الآية مكية فالمراد حينئذ بالذين ظلموا المفرطون في الاعتداء والعناد والقائلون بإثبات الولد ويد الله مغلولة وبأن الله فقير ونحن أغنياء فحينئذ جاز مجادلتهم بالعنف وعلى هذا قال قتادة ومقاتل هذه الآية منسوخة بآية السيف وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم بيان لحسن المجادلة ويحتمل أن يكون المعنى ولا تجادلوا أهل الكتاب إذا أخبروا مما ذكر في كتبهم يعني لا تكذبوهم إلا الذين ظلموا منهم يعني إلا من أخبر بشيء معلوم قطعا انه كاذب فيه كقولهم بتأييد دين موسى أو قتل عيسى أو كون عيسى ابن الله ونحو ذلك فحينئذ يجب تكذيبه والمباهلة عليه ﴿ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ﴾ ١ ﴿ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾ أي مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " ٢ الآية رواه البخاري وعن أبي نملة الأنصاري انه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة فقال يا محمد هل يتكلم هذا الميت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم فقال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما حدثكم أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه وسله فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم "
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها (٧٥٤٢)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: رواية حديث أهل الكتاب (٣٦٤٠)..
﴿ وكذلك ﴾ أي كما أنزلنا على من قبلك ﴿ أنزلنا إليك الكتاب ﴾ وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله ﴿ فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأمثاله أو المعنى الذين آتيناهم الكتاب كانوا يؤمنون به قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن هؤلاء ﴾ أي من أهل مكة أو من العرب أو ممن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الكتابي ﴿ من يؤمن به ﴾ أي بالقرآن ﴿ وما يجحد بآياتنا ﴾ الإضافة للعهد يعني بآيات القرآن ﴿ إلا الكافرون ﴾ يعني الكافرون بالله وبالكتب كلها يعني من كذب بالقرآن فقد كذب بالتوراة والإنجيل أيضا لأنهما مصدقان للقرآن فتكذيبه تكذيب بهما فمن أنكر القرآن وأدعى الإيمان بالتوراة فدعواه باطل قال قتادة الجحود إنما يكون بعد المعرفة عرفوا أن محمد حق والقرآن حق فجحدوا.
﴿ وما كنت تتلوا ﴾ يا محمد عطف على ﴿ كذلك أنزلنا إليك الكتاب ﴾ ﴿ من قبله ﴾ أي من قبل ما أنزل إليك الكتاب ﴿ من كتاب ولا تخطه ﴾ ولا تكتبه ﴿ بيمينك ﴾ ذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد ﴿ إذا ﴾ يعني إذا كنت قارئا للكتب المتقدمة كاتبا لها ﴿ لارتاب المبطلون ﴾ أي الكافرون يعني أهل مكة وقالوا لعله التقطه من كتب الأقدمين كذا قال قتادة وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتقاء وجه واحد مع وجود المعجزات المتكاثرة وقيل معناه لا إرتياب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك في كتبهم بالأمي كذا قال مقاتل فيكون على هذا إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.
﴿ بل هو ﴾ أي القرآن ﴿ آيات بينات ﴾ واضحة الدلالة على صدقها إضراب عما فهم فيما سبق يعني ما هذا القرآن مختلفا من عندك ولا مخطوطا بيمينك بل هو آيات بينات ﴿ في صدور الذين أوتوا العلم ﴾ يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه وهي من خصائص القرآن كونه آيات بينات الإعجاز وكونه محفوظا عن التحريف والإسقاط لقوله تعالى :﴿ وإنا له لحافظون ﴾١ وكونه محفوظا في الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزة فكانوا يحرفون الكلم منها عن مواضعها وما كانت تقرأ إلا من مصحف وقال ابن عباس بل هو يعني محمد صلى الله عليه وسلم ذو آيات ﴿ بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ﴾ لأنهم يجدون نعته ووصفه في كتبهم ﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ﴾ الظلم وضع الشيء في غير موضعه يعني آياتنا معجزة واضحة الدلالة على صدقها نظما ومعنى فمن جحد بها بعد وضوح إعجازها فهو الظالم المكابر للحق.
١ سورة الحجر الآية: ٩..
﴿ وقالوا ﴾ عطف على ﴿ قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ﴾ وما بينهما معترضات ﴿ لولا ﴾ هلا ﴿ أنزل عليه آيات ﴾ من ربه كما أنزل على الأنبياء من قبل مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى قرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص آيات على الجمع والباقون آية على التوحيد ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما الآيات عند الله ﴾ أي في قدرته مربوطا بإرادته لست أملكها فآتيكم بما تقترحون ﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾ ليس من شأني إلا الإنذار وإبانة بما أعطيت من الآيات.
﴿ أو لم يكفهم ﴾ الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للحال من فاعل فعل مقدر تقديره أتطلبون منك آية والحال انه لم يكفهم آية قوية مغنية عما اقترحوه ﴿ أنا أنزلنا عليك ﴾ وانت أمي ﴿ الكتاب ﴾ المعجز الجامع لأنواع العلوم الشريفة مطابقا لما قبله من الكتب ﴿ يتلى عليهم ﴾ يدوم تلاوته عليهم متحدين به :
لم يقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن إرم
دامت لدنيا ففاقت كل معجزة من النبيين إذ جاءت ولم تدم
﴿ إن في ذلك ﴾ الكتاب الذي هواية مستمرة مبينة ﴿ لرحمة ﴾ لنعمة عظيمة ﴿ وذكرى لقوم يؤمنون ﴾ أي تذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت هذه الآية تعليل للتوبيخ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود في المراسيل من طريق عمرو بن دينار عن يحيي بن جعدة مرسلا قال جاء ناس من المسلمين بكتف كتب فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بقوم ضلالة ان يرغبوا عما جاء به نبيهم على ما جاء به غيره إلى غيرهم " فنزلت ﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾ روي أن كعب بن الأشرف قال يا محمد من يشهد بأنك رسول الله فنزلت ﴿ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض ﴾
﴿ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض ﴾ لا يخفى عليه شيء الجملة صفة لشهيدا أو تعليل لكفى ﴿ والذين آمنوا بالباطل قال ابن عباس يعني بغير الله وقال مقاتل يعني الذين عبدوا الشيطان { وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ﴾ في تجارتهم حيث اختاروا الباطل على الحق واشتروا النار بالحنة هذه الجملة معطوفة على كفى.
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ عطف على ﴿ قالوا لولا أنزل عليه ﴾ نزلت الآية حين قال النضر بن الحارث أمطر علينا حجارة من السماء ﴿ ولولا أجل مسمى ﴾ قال ابن عباس يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال ﴿ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ﴾ ١ وقال الضحاك مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر ﴿ لجاءهم العذاب ﴾ عاجلا ( وليأتينهم ) العذاب وقيل الأجل ﴿ بغتة ﴾ فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة عند نزول الموت بهم ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بإتيانه
١ سورة القمر الآية: ٤٦..
﴿ يستعجلونك بالعذاب ﴾ إعادة تأكيدا ﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ عطف على ﴿ ليأتينهم بغتة ﴾ يعني سيحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي الآن كالمحيطة لإحاطة الكفر والمعاصي التي يوجبها لهم واللام للعهد على وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على موجب الإحاطة أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم
﴿ يوم يغشاهم العذاب ﴾ ظرف لمحيطة أو لقدر مثل كان كيت وكيت ﴿ من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ أي من جميع جوانبهم ﴿ ويقول ﴾ قرأ نافع والكوفيون بالياء يعني ويقول الله أو بعض ملائكته بأمره والباقون بالنون على التكلم ﴿ ذوقوا ما كنتم ﴾ أي جزاء ما كنتم ﴿ تعملون ﴾
﴿ يا عبادي ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بحذف الياء في الوصل وفتحها الباقون في الوصل أو أثبتوها ساكنه في الوقف ﴿ الذين آمنوا إن أرضي ﴾ قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ واسعة فإياي فاعبدون ﴾ أياي منصوب بفعل مضمر يفسره الشرطية الواقعة بعدها والفاء جزاء شرط محذوف تقديره إن لم تستطيعوا أن تعبدوني في الأرض التي كنتم فيها فاعبدوني في أرض غيرها فحذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول حتى صار الضمير المتصل منفصلا وأفاد تقديمه معنى الإختصاص وصار فإياي اعبدوا ثم أضمر الفعل الناصب وفسره بقوله فاعبروني ليفيد التأكيد كأنه قال فاعبدوني فأعبدوني قال مقاتل والكلبي نزلت في ضعفاء والمسلمين بمكة يقول إن كنتم بمكة في ضيق من إظهار الإيمان فاخرجوا إلى أرض غيرها يمكن لكم فيها إظهار الإيمان كالمدينة فإن ارضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها وقال سعيد بن جبير إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة وقال عطاء إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن ارضي واسعة وكذلك يحب على من كان في بلدة يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى من الجوع إن هاجرنا فأنزل الله هذه الآية لم يعذرهم بترك الخروج قال مطرف بن عبد الله إن ارضي واسعة أي رزقي لكم واسع فأخرجوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من فر بدينه من أرض الى أرض ولو شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم " رواه الثعلبي من حديث الحسن مرسلا
﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ أي واجد حرارته وكربه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا تقيموا دار الشر بأمن خوفا من الموت بل لا بد لكم من الاستعداد لها بعبادة الله ﴿ ثم إلينا ترجعون ﴾ فنجازيكم بأعمالكم فهاجروا في سبيل الله نجازيكم عليه قرأ أبو بكر بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ففيه الإلتفات من الغليبة إلى الخطاب
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم ﴾ قرأ حمزة والكسائي لنثوبينهم بالتاء المثلثة ساكنة وتخفيف الواو وبالياء من غير همزة يقال ثوى الرجل وأثويته إذا أنزلته منزلا والباقون بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها أي لننزلهم ﴿ من الجنة غرفا ﴾ أعالي قال صاحب البحر المواج لنبوئنهم بالباء الموحدة فعل متعد إلى مفعول واحد ومجرده لازم وغرفا منصوب بنزع الخافض ليس مفعولا ثانيا له إلا على تضمين معنى لننزلن﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ﴾ المخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله تقديره غرف الجنة أو أجرهم
﴿ الذين صبروا ﴾ على أذية المشركين والهجرة للدين على غير ذلك من المحن والشاق لأجل مرضاة الله ﴿ على ربهم يتوكلون ﴾ يعتمدون على أن يرزقهم من حيث لم يحتسبوا.
قال البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة أذاهم المشركون :" هاجروا إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت ﴿ وكأين من دابة ﴾ محتاجة إلى الغداء من البهائم والطيور ﴿ لا يحمل رزقها ﴾ معها ولا تدخر لغد قال سفيان بن علي بن أرقم ليس شيء من خلق الله يدخر إلا الإنسان والفأرة والنمل ﴿ والله يرزقها وإياكم ﴾ حيثما كنتم يعني إنها مع ضعفها وعدم ادخار أرزاقها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في انه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعيشون كما تعيشون وتموتون كما تموتون فاجتهادكم عبث فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة ﴿ وهو السميع ﴾ لأقوالكم سمع قولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة ﴿ العليم ﴾ بما في قلوبكم من ضعف اليقين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيقهي وابن عساكر بسند ضعيف وكذا ذكر البغوي عن ابن عمر قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا من حوائط الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكني أشتهيها وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده فقلت إنا الله المستعان قال يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عسرت وبقيت في قوم يجيئون رزق سنة ويضعف اليقين قال فوالله ما برحنا ولازمنا حتى نزلت ﴿ وكأين من دابة ﴾ الآية عن أنس قال " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد " ١ رواه الترمذي وصححه وعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول :" لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " ٢ رواه الترمذي وابن ماجه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به وليس من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه وإن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ألا فآتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم إستبطاء الرزق أن تطلبوا بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته " ٣ رواه البغوي في شرح السنة وذكره في المعالم.
١ أخرجه الترمذي في كتابك الزهد باب: ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله (٢٤٠٢)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد باب: في التوكل على الله (٢٣٨٢) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد باب: التوكل في اليقين (٤١٦٤)..
٣ رواه البزار وفيه قدامة بن زائدة ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله ثقات انظر مجمع الزوائد في كتاب: البيوع باب: الاقتصاد في طلب الرزق والإجمال فيه (٦٢٨٧)..
﴿ ولئن سألتهم ﴾ يعني أهل مكة شرط في جواب قسم محذوف ﴿ من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ﴾ جملة استفهامية واقعة بتأويل المفرد في محل النصب على المصدرية لقول سألتهم تقديره سألتهم هذا السؤال ﴿ ليقولن الله ﴾ فاعل لفعل محذوف تقديره ليقولن خلقهن الله وقوله ليقولن جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط بمعنى يعني والله لا يقولن إلا هذا الجواب لما تقدر في العقول من انتهاء الممكنات إلى واحد واجب لذاته ﴿ فأني يؤفكون ﴾ يعني فكيف يصرفون عن توحيدهم بعد إقرارهم بذلك
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ﴾ يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على التعاقب في الزمان وأن يكون على وضع الضمير موضع من يشاء أي ويقدر لمن يشاء منهم لأن من يشاء منهم غير معين وكان الضمير مبهما مثله ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ يعلم مصالح كل شيء ومفاسده قال الله تعالى :" إن من عبادي المؤمنين لمن يسأ لني الباب من العبادة فأكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه وإلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته ولأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي لعلمي في قلوبهم إني عليم خبير " رواه البغوي في حديث طويل عن أنس وسنذكره في سورة الشورى إن شاء الله تعالى.
﴿ ولئن سألتهم ﴾ يعني أهل مكة عطف على ﴿ ولئن سألتهم ﴾ والكلام فيه مثل ما مر ﴿ من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ﴾ يعني أهل مكة معترفون بأن موجد الأشياء كلها بسائطها ومركباتها أصولها وفروعها هو الله لا غير ومع ذلك يشركون به في العبادة بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء ﴿ قل الحمد لله ﴾ على ما عصمك عن مثل هذه الضلالة أو على تصديقك وإظهار حجتك ﴿ بل أكثرهم لا يعقلون ﴾ قبح صنيعهم وتناقض أقوالهم حيث يقرون بأنه المبدأ لكل ما عداه ومع ذلك يشركون به أخس الموجودات وأعجزها.
﴿ وما هذه الحياة الدنيا ﴾ إشارة إلى تحقير ﴿ إلا لهو ﴾ وهو ما يشغله عما يغنيه فإن إشتغال المرء بالدنيا يشغله عما يفيده في الحياة المؤبدة ﴿ ولعب ﴾ أي عبث سميت بها لأنها فانية وما يفعل المرء في الحياة الدنيا من الطاعات فهي ليست من الدنيا بل هي أمور الآخرة لظهور ثمرتها فيها ﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحياة أي دار الحيوان يعني ليس فيها إلا الحياة لامتناع طريان الموت عليها أو جعلت ذلتها حياة للمبالغة والحيوان مصدر بمعنى الحياة أصله حييان فلبت الياء الثانية واوا وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الدلالة من الحركة والاضطراب اللازم لحياة ولذلك اختير عنها هاهنا { لو كانوا يعلمون ﴾ فناء الدنيا وبقاء الآخرة لم يؤثروا الدنيا على الآخرة.
﴿ فإذا ركبوا في الفلك ﴾ وخافوا الغرق متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وضعوا من الشرك والعناد إذا ركبوا في الفلك ﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ أي يدعون كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الضر إلا الله ﴿ فلما نجاهم ﴾ الله ﴿ إلى البر إذا هم يشركون ﴾ أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك على الشرطية السابقة قال عكرمة كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب وعلى قوله مخلصين له الدين على الحقيقة يعني كانوا عند الشدائد يخلصون الدين لله ويتركون الشرك وعند النجاة يعودون إلى الشرك ﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ هذا لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد كقوله تعالى :﴿ اعلموا ما شئتم إني بما تعملون بصير ﴾ ١ أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم وقيل هي لا كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة الأنحاء أو المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة ﴿ وليتمتعوا ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع بسكون اللام فهو لام الأمر على قراءتهم والباقون بكسر اللام نسقا على قوله ليكفروا وحينئذ يحتمل لام الأمر ولام كي ﴿ فسوف يعلمون ﴾ عاقبة ذلك حين يعاقبون
١ سورة فصلت الآية: ٤٠..
﴿ أو لم يروا ﴾ الاستفهام للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديرا لم ينظروا ولم يروا أهل مكة ﴿ إنا جعلنا ﴾ مكة ﴿ حرما ﴾ مصونا عن النهيب والتعدي ﴿ آمنا ﴾ أهله عن القتل والسبي ﴿ ويتخطف الناس من حولهم ﴾ عطف على جملة محذوفة مفهومه عما سبق تقديره أنا جعلنا مكة حرما آمنا لا يغار ولا يتعرض أهلها ويتخطف الناس من حولهم وقد كان العرب يختلسون الناس قتلا وسبيا ولا يتعرضون أهل مكة ﴿ أفبالباطل ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للتفريع على مضمون ما سبق يعني أنعم الله على أهل مكة هذه النعمة وهم بعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه بالباطل يعني بالأصنام أو بالشيطان وجاز أن يكون المراد بالباطل كل شيء سوى الله لقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا إن أحسن القول قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا باطل " ﴿ يؤمنون ﴾ ﴿ وبنعمة الله يكفرون ﴾ حيث أشركوا به غيره وتقديمه للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة وقيل المراد بنعمة الله محمد صلى عليه وسلم والقرآن
﴿ ومن أظلم ﴾ يعني لا أحد أظلم ﴿ ممن أفترى على الله كذبا ﴾ بأن زعم أن له شريكا ﴿ أو كذب بالحق ﴾ أي الرسول والقرآن ﴿ لما جاءه ﴾ في لما تشبيه لهم بأنهم لم يتوقفوا ولم يتأملوا حين مجيء الرسول بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوا ﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾ استفهام تقرير للثواء يعني ألا يستوجبون الثواء أي القرار في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو تقرير لاجترائهم ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤوا هذه الجراءة
﴿ والذين جاهدوا ﴾ الجهاد بذل الوسع والطاقة والمراد الذين بذلوا وسعهم بطاقتهم في محاربة الكفار ومخالفة النفس والهوى ﴿ فينا ﴾ أي في ابتغاء مرضاتنا ونصرة ديننا وامتثال أوامرنا والانتهاء عن مناهينا ﴿ ولنهدينهم سبلنا ﴾ أي سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا وصولا بلا كيف أو لنرينهم سبل الخير ونوفقهم سلوكها قال الله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدر ﴾١ وعن أبي الدرداء أنه قال معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهديهم إلى ما لم يعلموا وعن عطاء والذين جاهدوا في رضائنا لنهدينهم سبل ثوابنا وعن الجنيد الذين جاهدوا في التوبة لنهديهم سبل الإخلاص وقال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا إلى ما عليه أهل الثغور فإن الله قال :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ وقال الحسن أفضل الجهاد مخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به وقال سهيل بن عبد الله والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة وقال ابن عباس والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وفي الحديث " من عمل بما علم به ورثه الله علم ما لم يعلم " ٢ قوله لنهدينهم سبلنا جواب قسم محذوف والجملة القسمية خبر للموصول والموصول المبتدأ مع خبره عطف على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿ وإن الله لمع المحسنين ﴾ بالنصر والإعانة في الدنيا والثواب والمغفرة في العقبى وقالت الصوفية إن الله لمع المحسنين معية غير متكيفة يدركها بصائر أهل البصائر هذه الجملة عطف على والذين جاهدوا وجاز أن يكون حالا من فاعل لنهدينهم والعائد وضع الظاهر موضع الضمير تقديره وإنا لمع المحسنين والتصريح باسمه تعالى لمزيد التأكيد والله أعلم.
١ سورة محمد الآية: ١٧..
٢ أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وضعفه انظر: تخريج أحاديث الإحياء المجلد الأول/ كتاب العلم/ الباب السادس..
Icon