تفسير سورة آل عمران

اللباب
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة آل عمران
حكى النقاش : أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالاتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.

قوله: ﴿الم﴾ قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن «الم» إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ ؟ [الزمر: ٢٢] وترك الجواب لدلالة قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: ٢٢] عليه؛ تقديره: كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
١٣١٥ -... - فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ... أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى».
قال ابنُ عطيةَ: يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون «نَزَّلَ» خبر، قوله: «اللهُ» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.
قال أبو حيَّان: وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [نظم] الآية أن يكون «الم» لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله {الله لا إله إِلاَّ
3
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.
قال شهاب الدينِ: وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نَظْم الْقُرْآنِ».
قوله: ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و «نَزَّلَ عَلَيْكَ» خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان:
أحدهما: أن يكون لَفْظَ الجلالة.
والثاني: أن يكون الضمير في «نَزَّلَ» تقديره: نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.
وةقرأ الجمهور ﴿الم الله﴾ بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه، وجمهورِ الناس.
فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟
فالجوابُ: أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً: فقبل هذه ياء [وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة]، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو: مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني: أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضاً ولكن الساكنين] هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله: أيْنَ وكَيْف [وكيت، وذيت]، وما أشبهها.
4
وهذا على قولنا: إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.
الثالث: أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي: نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ [طه: ٦٤] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك: ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك: وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت: مَنْ أبوك؟ قلتَ: من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.
قال شهاب الدينِ: «وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره»، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم: ثَلاثَهَ رْبَعَة، والأصل: ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.
ورد بعضهم هذا الدليل وقال: الهمزة في «أربعة» همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.
5
قال شهاب الدين: «وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع».
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال: «ميم» حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول: واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.
فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلتُ: هذا ليس بدرْج، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره: وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.
قال أبو حيّان: «وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية، أم بنائية، أن نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال» قَدْ «أن تقف على دال» قد «بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.
وأما قوله: ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر»
واحد «لتمكنه، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان دال» واحد «وثاء» اثنين «، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل».
قال شهاب الدينِ: «ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على» مِيمْ «من» الم «- وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له».
6
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟
قلت: لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر»
.
قال أبو حيَّان: «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال: إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من» الم «- في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم» ميم «الأخري’، ولام التعريف كالتقاء نون» من «ولام» الرجل «إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ».
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره.
ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في» ميم «لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا: وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا: اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين «.
[قال أبو حيّان:»
وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين]- ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم -؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط
7
في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله: فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة «.
قال شهاب الدينِ:»
وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر «.
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان: [البسيط]
١٣١٦ -... - لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ
اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا... ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد: أنه يجيز: اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال: لأه في نية الوقف على»
أكبر «والابتداء مبا يعده، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [الأخير] من باب أولى.
الرابع: أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر، أي اقرءوا ﴿الم﴾ وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة، نحو قرأت هودَ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١] بفتح الدال من صاد، فهذا يجوز أن يكون مثله.
الخامس: أن الفتحة علامة الجر، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة، وأنها مُقْسَمٌ بها، فحُذِفَ حرفُ القسم، وبقي عمله، وامتنع من الصرف لما تقدم، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال -، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ، وهنا متواترةٌ.
والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه -.
8
السادس: قال ابن كَيْسَانَ: «ألف» اله «وكل ألف مع لام التعريف [ألف] قطع بمنزلة» قَدْ «وحكمها حكم ألف القطع؛ [لأنهما حرفان جاء لمعنى]، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من» قَدْ «ففتحها بفتح الهمزة»، نقله عنه مَكِّي.
فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل»، كالاستفهام يحصل بمجموع «هَلْ»، وأن الهمزة ليست مزيدة، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل، لكثرة الاستعمال، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها.
ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه، قال: «وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف» أل «- يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة».
وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدئ ب ﴿الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه.
وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية «المِ اللهُ» - بكسر الميم -.
قال الزمخشريُّ: «وما هي بمقبولة عنه»، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة، وكأنه يريد: وما هي بمقبولة عنه، أي: لم تصحَّ عنه.
وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال: «لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل:» المِ اللهُ «- لجاز».
قال الزّجّاج: وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال -
9
إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال: «كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم: جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم: حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ».

فصل في بيان سبب النزول


في سبب نزول هذه الآية قولان:
الأول: أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ١، ٢].
الثاني: أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران.
قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ -: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا
10
أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له: العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له: أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز: تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال: لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ -، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر] في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم
11
تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون: عيسى هو الله، وتارةً يقولون: هو ابنُ الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم: هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم: ثالث ثلاثة بقوله تعالى: ﴿فَعَلْنَا﴾، قلنا، ولو كان واحداص لقال: فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أسلموا»، قالوا: قد أسلمنا، قال عليه السلام: «كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلُكُم الخنزيرَ»، قالوا: إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية، منها أخذ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بناظرهم، فقال: «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماءِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال: فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، قال: ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ فسكتوا، وأبَوْا إلا جُحُوداً، ثم قالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: «بلَى»، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧]، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل، فانصرفوا، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم: ما ترى؟ فقال: والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم، ولقد علمتم مَا لاَعَنَ [قط] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ، وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا [ابا القاسم] قد رأينا أن لا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينك، وأن نرجعَ نحن على ديننا، فابعثْ رجلاً من أصحابك [معنا] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى، فقال عليه السلامُ: [ائتوني] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ، فكان عمرُ يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ
12
إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها، قال: صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فدعاه، فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه، قال عُمرُ: فذهبَ بها أبو عبيدة.
وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء - عليهم السلام - وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً.

فصل في بيان الرد على النصارى


«في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية» :
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.
قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ العامة على التشديد في «نَزَّل» وَنَصْب «الْكِتَاب»، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.
وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره: نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.
قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي: نزله بسبب الحق.
ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي: نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي: نزله ملتبساً بالحق - نحو: جاء بكر بثيابه، أي: ملتبساً بها.
13
وقال مَكيّ: «ولا تتعلق الباء ب» نَزَّل «؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث».
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟
قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصبَ على الحال من «الْكِتَاب». فإن قيل بأن قوله: «بِالْحَقِّ» حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.
الثاني: أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بِالْحَقِّ»، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.
الثالث: أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بِالْحَقِّ» - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر: [البسيط]
١٣١٧ - أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ
قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مفعول ل «مصَدِّقاً» وزِيدَت اللامُ في المفعول: [تقويةٌ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦]، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.

فصل في تفسير «الحي» و «القيوم»


الحيُّ: هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ: هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحي القيَّام، والمراد ب «الكتاب» - هنا - هو القرآن.
قال الزمخشري: «وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال».
فإن قيل: يُشْكِل هذا بقوله: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب﴾ [الكهف: ١]، وبقوله: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ﴾ [الإسراء: ١٠٥].
فالجواب: أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.
[وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول: «إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ»
14
قال أبو حيَّان: وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ].
قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ قال أبو مسلم: يحتمل وجوهاً.
أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.
ثالثها: أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.
رابعها: قال الأصَمُّ: أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.
خامسها: أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال: ﴿أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١]، وقال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
وقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ معناه: مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين:
أحدهما: أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [والمفتري]- إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.
الثاني: قال أبو مسلم: إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل: كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟
فالجوابُ: أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.
فإن قيل: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟
فالجوابُ: إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن
15
فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.
قوله: ﴿وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل﴾ اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما؛ [لكونهما أعجميَّيْن؟].
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا: لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ: «وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين] ».
قال أبو حيّان: «وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله» تَفْعِلَة «ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على» تفعلة «هل هي بكسر العين أو فتحها» ؟
قال شهاب الدينِ: «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب»، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا:
فقال بعضهم: التوراة مشتقة من قولهم: وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال: وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ﴾ [الواقعة: ٧١] ؟، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ [العاديات: ٢]، ويقال أيضاً: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً﴾ [الأنبياء: ٤٨] وهذا قولُ الفراء و [مذهب] جمهور الناسِ.
وقال آخرون: بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث: «كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ»، وسميت التوراة بذلك: لأن أكثرها
16
تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال:
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة، والأصل: وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ «توراة» - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض -: التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.
الثاني: وهو قول الفراء: أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية: نَاصَاة، وفي جارية: جَارَاة، وفي نَاجِيَة: نَاجَاة، قال الشاعِرُ: [الطويل]
١٣١٨ -.......................
17
فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ
وقال آخر: [المنسرح]
١٣١٩ -...................... نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ
وأنشد الفرَّاءُ: [الوافر]
١٣٢٠ - فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن:
أحدهما: أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.
الثاني: أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في: وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو: تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.
الثالث: أن وزنها «تَفْعَلة» [بفتح العين]- وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأَمَالَ «التوراة» - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع]، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا: إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها
18
لألف] التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.
والإنجيل؛ قيل: إفعيل كإجفيل، وفي وزنه أقوال:
أحدها: أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.
وقيل: من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى: [المنسرح]
١٣٢١ - أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ
وقيل: من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.
وقيل: هو مشتق من التناجل وهو: التنازع، يقال: تناجل الناسُ أي: تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل»، وقرأ الحسن بفتحها.
قال الزمخشري: وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت: بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو: إجفيل وإخريط وإصليت.
19
قال ابن الخطيبِ: «وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل: التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية»
إنكليون «، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث» ].
قوله: «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أنْزَلَ» والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى، تقديره: من قبلك، أو من قبل الكتاب، و «الْكِتَاب» غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب.
وذكر المنزل عليه في قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾، ولم يذكره في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل﴾ تشريفاً لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: «هُدًى» فيه وجهان:
20
أحدهما: أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه «أنْزَلَ» أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل: لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل: إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال: إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب «نَزَّلَ» و «أنْزَلَ» معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره: نزل عليك الكتاب له أي: للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول: أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني: أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل: إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل: حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم: تَمَّ الكلام عند قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان﴾ أي: وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت: قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله: «لِلناسِ» يحتمل أن يتعلق بنفس «هُدًى» لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى: ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «هُدًى».
21
قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ: «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله».
قال شهاب الدينِ: «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال: إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم، و» أنْزَلَ «يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب» أنْزَلَ «، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل: إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول: إن» نَزَّل «- بالتشديد - يقتضي التفريق، و» أنْزِلَ «يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي».

فصل في المراد ب «الفرقان»


قيل: المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [الإسراء: ٥٥].
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون: إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ: «وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.
وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه
22
الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي «.
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا: المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ [عبس: ٢٧ - ٣١].
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ﴾ يحتمل أن يرتفعَ»
عَذَابٌ «بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن» إنَّ «ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر» إنَّ «والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و» انتقام «افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال: نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال: انتقم من انتم، أي: عاقبه وقال الليث: ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل


اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون: الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله ﴿والله عَزِيزٌ﴾، أي: غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و ﴿ذُو انتقام﴾ إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
23
قوله :﴿ الم ﴾ قد تقدم الكلامُ على هذا مُشْبَعاً، ونقل الجرجانيُّ - هنا- أن " الم " إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول : هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل ﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروفِ، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ ؟ [ الزمر : ٢٢ ] وترك الجواب لدلالة قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] عليه ؛ تقديره : كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر :[ الطويل ]
فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ١
أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر " انتهى ".
قال ابنُ عطيةَ٢ : يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون " نَزَّلَ " خبر، قوله :" اللهُ " حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.
قال أبو حيَّان٣ : وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر ؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [ نظم ] ٤ الآية أن يكون " الم " لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله٥ ﴿ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.
قال شهاب الدينِ٦ : وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه " نَظْم الْقُرْآن ".
قوله :﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و " نَزَّلَ عَلَيْكَ " خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ ﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان :
أحدهما : أن يكون لَفْظَ الجلالة.
والثاني : أن يكون الضمير في " نَزَّلَ " تقديره : نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية٧. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.
وقرأ الجمهور ﴿ الم اللَّهُ ﴾ بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه٨، وجمهورِ الناس.
فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ ؟
فالجوابُ : أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً : فقبل هذه٩ ياء [ وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة ] ١٠، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات١١، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو : مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني : أن الفتحة لالتقاء الساكنين [ أيضاً ولكن الساكنين ] ١٢ هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله : أيْنَ وكَيْف [ وكيت، وذيت ] ١٣، وما أشبهها.
وهذا على قولنا : إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول : فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.
الثالث : أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي : نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ [ طه : ٦٤ ] وهي قراءة١٤ ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع ؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّابِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها ورد بعضهم قول الفراء بأن وضع هذه الحروف على الوقف لا يوجب قطع الوصل وإثباتها في المواضع التي تسقط فيها، وأنت إذا ألقيت حركتها على الساكن فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك : ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك : وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت : مَنْ أبوك ؟ قلتَ : من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.
قال شهاب الدينِ :" وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره "، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه١٥ من قولهم : ثَلاثَهَرْبَعَة، والأصل : ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة١٦، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.
ورد بعضهم هذا الدليل وقال : الهمزة في " أربعة " همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجاً فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.
قال شهاب الدين١٧ :" وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع ".
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال :" ميم " حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول : واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم١٨، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.
فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها ؛ لأن ثبات حركتها كثباتها ؟
قلتُ : هذا ليس بدرْج، لأن " ميم " في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها ؛ ليدل عليها، ونظيره : وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.
قال أبو حيّان :" وجوابه ليس بشيء ؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء كانت حركته إعرابية، أم بنائية، أم نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال " قَدْ " أن تقف على دال " قد " بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.
وأما قوله : ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر " واحد " لتمكنه١٩، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم : اثنان، فالتقى ساكنان دال " واحد " وثاء " اثنين "، فكسرت الدال ؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل ؛ لأنها لا تثبت في الوصل ".
قال شهاب الدينِ :" ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على " مِيمْ " من " الم " - وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة ؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له ".
ثم قال الزمخشريُّ :" فإن قلْتَ : هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين ؟
قلت : لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك : هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم ؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر ".
قال أبو حيَّان :" وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من " الم " - في الوقف - وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما ميم " ميم " الأخيرة، ولام التعريف كالتقاء نون " من " ولام " الرجل " إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ ".
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي٢٠ وغيره.
ثم قال الزمخشريُّ :" فإن قلْتَ : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في " ميم " لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا : وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين ؛ كما قالوا : اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ٢١، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين ".
[ قال أبو حيّان٢٢ :" وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين٢٣ ] - ويعني بالساكنين الياء والميم في " ميم " - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث - يعني لام التعريف - لم يمكن إلا التحريك - يعني في الميم - فحركوا - يعني الميم- ؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف ؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق ؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة في المحسوس ؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع ؛ لما قلناه، وأما قوله : كما قالوا : أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك " واحد " " اثنان " ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله : فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ ويعني بالساكنين الياء والميم ] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في " واحد " " اثنان " ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة ".
قال شهاب الدينِ٢٤ :" وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة ؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر ".
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان :[ البسيط ]
لَتَسْمَعُنَّ وَش

فصل في بيان الرد على النصارى


" في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية ".
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد ؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّوماً، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.
قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ العامة على التشديد في " نَزَّل " وَنَصْب " الْكِتَاب "، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة٤٧ ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.
وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره : نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.
قوله :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي : نزله بسبب الحق.
ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف ؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي : نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي : نزله ملتبساً بالحق - نحو : جاء بكر بثيابه، أي : ملتبساً بها.
وقال مَكيّ٤٨ :" ولا تتعلق الباء ب " نَزَّل " ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث ".
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر ؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك ؟
قوله :﴿ مُصَدِّقًا ﴾ فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصبَ على الحال من " الْكِتَاب ". فإن قيل بأن قوله :" بِالْحَقِّ " حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.
الثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل " بِالْحَقِّ "، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.
الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في " بِالْحَقِّ " - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً ؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة ؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر :[ البسيط ]
أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ٤٩
قوله :﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ مفعول ل " مصَدِّقاً " وزِيدَت اللامُ في المفعول :[ تقويةٌ ] للعامل ؛ لأنه فرع له ؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ]، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك ؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.

فصل في تفسير " الحي " و " القيوم "


الحيُّ : هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ : هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رضي الله عنه - الحي القيَّام٥٠.
والمراد ب " الكتاب " - هنا - هو القرآن.
قال الزمخشري :" وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال ؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال ".
فإن قيل : يُشْكِل هذا بقوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ]، وبقوله :﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٥ ].
فالجواب : أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.
[ وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول :" إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ ".
قال أبو حيَّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ونزلنا عليك الكتاب ﴾ [ النحل : ٤٤ ] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ ].
قوله :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ قال أبو مسلم : يحتمل وجوهاً.
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.
ثالثها : أنه حَقٌّ ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.
رابعها : قال الأصَمُّ : أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.
خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال :﴿ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ [ الكهف : ١ ]، وقال :﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ].
وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ معناه : مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :
أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [ والمفتري ] - إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.
الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل : كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه ؟
فالجوابُ : أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.
فإن قيل : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟
فالجوابُ : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.
قوله :﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما ؛ [ لكونهما أعجميَّيْن٥١ ؟ ].
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ :" وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [ عربيين٥٢ ].
قال أبو حيّان٥٣ :" وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله " تَفْعِلَة " ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على " تفعلة " هل هي بكسر العين أو فتحها " ؟
قال شهاب الدينِ٥٤ :" لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب "، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها٥٥، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :
فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال : وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
[ الواقعة : ٧١ ] ؟، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى :﴿ فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ﴾ [ العاديات : ٢ ]، ويقال أيضاً : وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي٥٦، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال : وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ] وهذا قولُ الفراء و[ مذهب ] ٥٧ جمهور الناسِ.
وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث :" كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ٥٨ "، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال :
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة٥٩، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة٦٠ والقَوْصرة٦١ والدَّوْسَرة٦٢ والصَّوْمَعة، والأصل : وَوْرَيَة - بواوين ؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ " توراة " - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة٦٣ وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض - : التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء ؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.
الثاني، وهو قول الفراء : أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية : نَاصَاة، وفي جارية : جَارَاة، وفي نَاجِيَة : نَاجَاة، قال الشاعِرُ :[ الطويل ]
. . . *** فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ٦٤
وقال آخر :[ المنسرح ]
. . . *** نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ٦٥
وأنشد الفرَّاءُ :[ الوافر ]
فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ *** وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ٦٦
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن :
أحدهما : أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.
الثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في : وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو : تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.
الثالث : أن وزنها " تَفْعَلة " [ بفتح العين ] ٦٧ - وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأَمَالَ " التوراة " - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو٦٨ والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [ عن نافع ] ٦٩، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [ منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا : إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها لألف ] ٧٠ التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.
والإنجيل ؛ قيل : إفعيل كإجفيل٧١، وفي وزنه أقوال :
أحدها : أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل ؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.
وقيل : من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد ؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى :[ المنسرح ]
أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ *** إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ٧٢
وقيل : من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة ؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.
وقيل : هو مشتق من التناجل وهو : التنازع، يقال : تناجل الناسُ أي : تنازعوا، وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامة على كسر الهمزة من " إنجيل "، وقرأ الحسن بفتحها٧٣.
قال الزمخشري : وهذا يدل على أنه أعجمي ؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت : بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط٧٤ وإصليت٧٥.
قال ابن الخطيبِ :" وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجم
قوله :" هُدًى " فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه " أنْزَلَ " أي : أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.
فإن قيل : لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة – بأنه ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾
[ البقرة : ٢ ]، ولم يصفه هنا بذلك ؟ قيل : إنما وصفه - هناك - بذلك ؛ [ لأن ] ٧٩ المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال٨٠ : إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب " نَزَّلَ " و " أنْزَلَ " معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره : نزل عليك الكتاب له أي : للهدى، فحذفه.
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول : أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.
والثاني : أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.
وقيل : إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.
وقيل : حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله ؛ لدلالة هذا عليه.
وقال بعضهم : تَمَّ الكلام عند قوله تعالى :﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ أي : وأنزل الفرقان هدًى للناس.
وهذا التقدير غير صحيح ؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع ؛ إذ لو قلت : قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.
قوله :" لِلناسِ " يحتمل أن يتعلق بنفس " هُدًى " لأن هذه المادة تتعدى٨١ باللام، كقوله تعالى :﴿ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل " هُدًى ".
قوله :﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.
قال الزمخشريُّ :" وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله ".
قال شهاب الدينِ :" قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول ؛ حيث قال : إن " نَزَّل " يقتضي التنجيم، و " أنْزَلَ " يقتضي الإنزال الدفعي ؛ لأنه جوز٨٢ أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب " أنْزَلَ "، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك ؛ لأنه لم يَقُل : إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول : إن " نَزَّل " - بالتشديد - يقتضي التفريق، و " أنْزِلَ " يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي ".

فصل في المراد ب " الفرقان ".


قيل : المراد بالفرقان هو الزبور ؛ لقوله :﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ [ الإسراء : ٥٥ ].
وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.
أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.
وقال الأكثرون : إن المراد أنه تعالى - كما جعل٨٣ هذه الكتب الثلاثة هدًى٨٤ ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.
قال ابن الخطيبِ :" وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.
فأما حمله على الزبور فبعيد ؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصْف الزبور بذلك.
وأما حمله على [ القرآن ] ٨٥ فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [ الكتب ] ٨٦ فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [ إلا أنه ] ٨٧ ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه الكتب ؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى٨٨ يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي ".
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا : المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى :﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾ [ عبس : ٢٧-٣١ ].
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ ﴾ يحتمل أن يرتفعَ " عَذَابٌ " بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن " إنَّ " ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر " إنَّ " والأول أولى ؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و " انتقام " افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال : نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر٨٩ - وقد قُرِئ بهما٩٠ ويقال : انتقم من انتقم، أي : عاقبه وقال الليث : ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل


اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد ؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى ؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.
وقال المحقِّقون : الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾، أي : غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و﴿ ذُو انْتِقَام ﴾ إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ:
الأول: أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور:
23
أحدها: العلم، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب، ويقول لهذا: إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذلك: إنك صنعت في دارك كذا.
الثاني: القدرة، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً.
الثالث: من جهة الإلزام المعنويّ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر.
الرابع: من جهة الإلزام اللفظي، وهو قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله، وكلمته.
فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس، والتثليث بقوله: ﴿الحي القيوم﴾، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات، وكيف والنصارى يقولون: إنه قُتِل، فلو كان يعلم الغيب، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ وتقديره: أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء، والإماتة، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً.
وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ فإن شاء صوره من نطفة [الأب]، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ.
وأما قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله وكلمته، فهذا الإلزام لفظي، وهو محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب ردُّه إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله:
{هُوَ
الذي
أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكتاب
24
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧]، فظهر بما ذكرنا أن قوله: ﴿الحي القيوم﴾ يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن الإله.
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ جواب عن تعلُّقهم بالعلم، وقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر، وقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته.
الحتمال الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق]، وذلك لا يتم إلا بأمرين:
الأول: أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية.
الثاني: أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ وذلك يدل على كمال علمه، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي، وذلك بأن نقول: إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ [أتبعه] بالدليل العقلي، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها أعصاب، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف، وذلك يدل على كمال قدرته، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته.
قوله: ﴿فِي الأرض﴾ يجوز أن يتعلق ب «يخفى»، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء».

فصل


المراد بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي: لا يخفى عليه شيء.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء» مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟
25
فالجواب: أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم، والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم.
قوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ.
قوله: ﴿فِي الأرحام﴾ يجوز أن يتعلق ب «يُصَوِّرُكُمْ» وهو الظاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يُصَرِّرُكُمْ» أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ.
وقرأ طاوسُ: تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه: صوركم لنفسه، ولتعبدوه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل، كقولهم: تأثلث مالاً، وأثَّلته، أي: جعلته أثلة أي: أصلاً، والتصوير: تفعيل من صاره، يصوره، أي: أماله وثناه، ومعنى صوره: جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه.
والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص، وتركيب منضبط، قاله الواحدي وغيره.
والأرحام: جمع رحم، وأصلها الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة، والعطف، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً.
قوله: ﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في أوجه:
أظهرُها: أنَّ «كَيْفَ» للجزاء، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم: كيف تَصْنَعُ أصنع، وكيف تكونُ أكونُ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير: كيف يشاء تصويركم يصوركم، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول «يَشَاءُ» ويصوركم؛ لدلالة «يُصَوِّرُكُمْ» الأول عليه، ونظيره قولهم: أنت ظكالم إن فعلتَ، تقديره: أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ.
وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يُصَوِّرُكُمْ» المتقدم هو الجزاء، و «كَيْفَ» منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم، وتقدم الكلام على ذلك في قوله «كيف تكفرون» ولا جائز أن
26
يكون «كَيْفَ» معمولة «يُصَوِّرُكُمْ» ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين: إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟
الثاني: أن يكون «كَيْفَ» ظرفاً ل «يَشَاءُ» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره: يصوركم على مشيئته، أي: مُريداً.
الثالث: كذلك إلا أنه حال من مفعول «يُصَوِّرُكُمْ» تقديره: يصوركم متقلبين على مشيئته.
ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله: يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك.
الرابع: أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله: الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن «كَيْفَ» دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.

فصل في معنى الآية


معنى: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله وكان يقول: كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ و «الْعَزِيزُ» إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و «الْحَكِيمُ» إشارة إلى كمالِ العلم، يعني: أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الصادقُ المصدوقُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ
27
فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا».
وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول: أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ».
28
وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، والتمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان: جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ [آل عمران: ٦] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ﴾ يجوز أن تكون «آيَاتٌ» رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ:
أحدهما: أنها مستأنفة.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «الْكِتَابِ» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي: منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ.
ويجوز أن يكون «منه» هو الحال - وحده - وآيات: رفع [به]- على الفاعلية.
28
و ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.
وأخْبَرَ بلفظ الواحد «أمُّ» عن جمع «هُنَّ» إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧].
وقوله: [الوافر]
١٣٢٢ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا..................................
وقوله: [الطويل]
١٣٢٣ - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقال الأخفش: وَحَّد «أمُّ الْكِتَابِ» بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب، كما يقال: مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم: نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم: دعني من تمرتان، أي: مما يُقَال له: تمرتان.
قال ابنُ الأنباري: «وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ».
وقيل: لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد.
قوله: «وأُخَر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر»، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره: وآيات أخر متشابهات.
قال أبو البقاء: فإن قيل: واحدة [متشابهات: متشابهة، وواحدة أخر: أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال: أخرى متشابهة]، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟
قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله:
﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ﴾ [القصص: ١٥] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا
29
يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله: ﴿حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ [الزمر: ٧٥]، وقيل: ليس لِ «حَافينَ» مفرد؛ لأنه ولو قيل: حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى].

فصل


اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١]، وقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [يونس: ١] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه: مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى: ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣].
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه.
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣].
وعنه أنه قال: المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور.
وقال مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ [البقرة: ٢٦]، وقوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٠٠].
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ: المحكم: الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه: المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال:
30
محكمات القرآن: ناسخه، وحلالُه، وحرامُه، وحدودُه، وفرائضُه، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به.
وقيل المحكمات: ما أوقف الله الخلقَ على معناها، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة، وفناء الدنيا.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه، والمتشابه ما احتمل أوجهاً.
وقيل: المحكم: ما يعرف معناه، وتكون حُجَجُه واضحةً، ولا تشتبه دلائله، والمتشابه: هو الذي يُدرك علمه بالنظر، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل، وقيل المحكم: ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره.

فصل


«في تفسير المحكم في أصل اللغةِ» :
العرب تقول: أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ، ومنعت، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ، وفي حديث النَّخَعِيِّ: أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك، أي: امنعه من الفساد.
وقال جَرير: [الطويل]
١٣٢٤ - أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم...........................
أي: امنعوهم.
وبناءٌ مُحْكَم: أي: وثيق، يمنع مَنْ تعرَّض له، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي.
والمتشابه: هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [
31
بينهما]، قال تعالى: ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٧٠]، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها﴾ [البقرة: ٢٥] أي: مُتَّفِق المنظر، وقال تعالى: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم﴾ [البقرة: ١١٨]، ويقال: أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ» وفي رواية مشتبهات، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب، ونظيره المشكل، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي: دخل في شكل غيره، فأشبهه وشَاكَله، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [له]، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه.
قال ابن الخطيبِ: «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وإن كان احتماله لهما على السوية، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ، إما أن يكون نصاً، أو ظاهراً، أو مؤولاً، أو مشتركاً، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم، أما المجمل والمؤول، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحاً، أو غير مرجوح، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح، لا بحسب الدليل المنفرد]، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم، فيطلق لفظ» المتشابه «على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه.
32

فصل


روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وقال: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠]، وقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] مع قولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال: ﴿أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] إلى قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧ - ٣٠] فذكر خلق السماء قبل الأرض، وقال ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩ - ١١] إلى: «طَآئِعِينَ» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٠٠] ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٥٨] ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء: ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: معنى قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم﴾ النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
أما قولهم: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أي: أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً، وعنده ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ [الحجر: ٢]، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دَحا الأرض، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الأشجار والجبال [والآكام] وما بينهما في يومين آخرين، وذلك قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين.
وقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ يعني نفسه، أي: لم يزل، ولا يزال كذلك، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك، فلا يختلف عليك القرآنُ، فإن كُلاًّ من عند الله.

فصل


في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً، وبعضهُ متشابهاً.
قال ابن الخطيبِ: «طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، وقالوا: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم
33
القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله:
﴿وَجَعَلْنَا
على
قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا﴾
[الأنعام: ٢٥]، والقدَريُّ يقول: بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف﴾ [البقرة: ٨٨]، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣٢ - ٢٣]، والنافي يتمسك بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]، ومثبت الجهة يتمسك بقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم﴾ [النحل: ٥٠] وقوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] والنافي يتمسك بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾ [الشورى: ١١] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً:
الأول: أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثاني: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد.
الثالث: أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة، والنحو، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.
الرابع: أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص، والعوامّ بالكلية، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي، فوقع في العطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه، وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.
34
الخامس: [لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق، والله أعلم].
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله.
قوله «الزيغ» قيل: المَيْل [مطلقاً]، وقال بعضهم: هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل.
قال الراغب: «الزيغُ: الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغ يَزيغُ زَيْغاً، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً، وزُيوغاً.
قال الفراء: والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل: سِرْتُ، وصِرْتُ، وطِرْتُ: سَيْرورة، وصَيْرورة، وطَيْرُورة، وحِدت حَيْدودة، ومِلت ميلولة.. لا أحصي ذلك، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت، ورُضْت، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ: الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع، والسَّيْدودَة - من سُدت -، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر: [الرجز]
١٣٢٥ - يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ
قوله: «ما تشابه» مفعول الاتباع، وهي موصولة، أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من «تشابه» عليها، إلا على رأيٍ ضعيفٍ، و «مِنه» حال من فاعل «تَشَابه» أي تشابه حال كونه بعضه.
قوله: «ابْتِغَاءَ» منصوب على المفعول له، أي: لأجل الابتغاء، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل: مصدر أوَّل يُؤوِّلُ، وفي اشتقاقه قولان:
35
أحدهما: أنه من آل يَئُولُ أوْلاً، ومآلاً، أي: عَادَ، ورجع، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون: أولتُ الشيء: أَي: صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف، قال الشاعر: [السريع]
١٣٢٦ - أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ
وقال بعضهم: أوَّلت الشيء، فتأول، فجعل مطاوعه تفعل، وعلى الأول مطاوعه فعل، وأنشد الأعشى: [الطويل]
١٣٢٧ - عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا
أي: يعني أن حبها كان صغيراً، قليلاً، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر، ثم قد يُطْلَق على العاقبة، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما.
الثاني: أنه مشتق من الإيَالَةِ، وهي السياسةُ، تقول العر: قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا، أي: سُسْنَا وساسَنا غيرُنا، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ، والقادر عليه، وواضِعه موضعَه، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل.
وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول، ومدلولات الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَل، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.

فصل


روى ابنُ عباسٍ: أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له حُيَيّ: بلغنا أنه نزلَ عليك الم، فننشدك الله، أنزل عليك؟ قال: نَعَمْ، قال: فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال: نعم، المص، قال: هذه أكثر، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم، المر، قال: هذه أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، وقد خَلَّطتَ علينا، فلا ندري ابكثيره نأخذ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن
36
بهذا؟ فأنزلَ الله ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾.
وقال الربيع: هم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عيسى، وقالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩].
قال ابن جريج: هم المنافقون.
وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ، وقال المحققون: إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين، قالت عائشة: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله: أولي الألباب ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ فقال رسول الله: «فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم» وعن أبي غالب قال: «كنت أمشي مع أبي أمامة، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق، فإذا رؤوسٌ منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق، فقال أبو أمامة: كلابُ النار، كلابُ النار، [كلابُ النار] أو قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى، فقلت: ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام، فخرجوا منه، ثم قرأ: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ الآية، ثم قرأ: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات﴾ [آل عمران: ١٠٥]، فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال: نعم، قلت: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: إني إذَنْ لَجرِيء، إني إذاً لَجَريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس، ولا ست، ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فَصُمَّتَا، قالها ثلاثاً - ثم قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول
«تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً،
37
واحدةٌ في الجَنَّةِ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار».

فصل


لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ:
الأول: ابتغاء الفتنة.
والثاني: ابتغاء التأويل.
أما الفتنة فقا لالربيع والسدي: الفتنة: طلب الشرك.
وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللَّبْس، ليضلوا بها جُهَّالهم.
وقال الأصم: متى وقعوا في المتشابهات، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضِي إلى التقاتل، والهَرْج والمَرْج.
وقيل: المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ، عاكفاً عليه، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة: التوغُّل في محبة الشيء، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: مُوغِل في طلبها.
وقيل: الفتنة في الدين هي الضلال عنه، [ومعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه].
وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة، والفرق بينه وبين التفسيرز
قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: ٧٨]، وقال: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥]، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، والمراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟
38
وقيل: ابتغاء التأويل: طلب عاقبته، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥] أي: عاقبةً.
وقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ اختلف الناسُ في هذا الموضع: فقال قوم: الواو في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عاطفة على الجلالة، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان:
أحدهما: أنها حال: أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك.
والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى﴾ [الحشر: ٧] ثم قال ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] إلى أن قال: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] ثم قال: ﴿والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ ولهذا عطف على ما سبق ثم قال: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا﴾ [الحشر: ١٠] يعني هم مع استحقاقهم الفيء
39
يقولون: ﴿رَبَّنَا اغفر لَنَ﴾ أي: قائلين على حال. وروي عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله: «والرَّاسِخُونَ» واو الاستئناف، فيكون مستدأ، وتم الكلام عند قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ والجملة من قوله: «يَقُولُونَ» خبر المبتدأ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعائشةَ، وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ، وأكثر التابعين، واختاره الكسائي، والفرّاء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه، كما استأثر بعلم السَّاعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها، والخلق متعبدون بالمتشابه، والإيمان به، وفي المحكم في الإيمان به والعمل، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله: «إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ..»، وفي حرف أبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية -: انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به، كل من عند ربنا.
وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية، ويدل لهذا القول وجوه:
أحدها: أنه ذم طالب المتشابه بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾.
الثاني: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾، وقال [في أول البقرة] :﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم﴾ [البقرة: ٢٦] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ، فلا بد وأن يُؤمن به.
الثالث: لو كان قوله: «وَالرَّاسِخًونَ» معطوفاً لصار قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ ابتداء، وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يُقَالَ: وهم يقولون، أو يقال: ويقولون.
فإن قيل: في تصحيحه وجهان:
الأول: أن «يَقُولُونَ» خبر مبتدأ، والتقديرُ: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا.
الثاني: أن يكون «يَقُولُونَ» حالاً من الراسخين.
فالجواب: أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله: «آمنا به» حالاً من الراسخينَ لا من «الله» وذلك ترك للظاهر.
40
رابعاً: قوله: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله، وبما لا يعرفون تفصيله، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة.
وخامسها: نُقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: تفسير القرآن على اربعة أوجه: «تفسير لا يسمع أحداً جهلُه، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ تعرفه العلماء، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى».
وسئل مالك بن أنس عن قوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
والرسوخ: الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ.
قال الشاعر: [الطويل]
١٣٢٨ - لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا
«آمَنَّا بِهِ» في محل نصب بالقول، و «كُلٌّ» مبتدأ، أي: كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً.
فإن قيل: ما الفائدة في لفظ «عِنْدِ» ولو قال: كل من ربنا لحصل المقصود؟
فالجوابُ: أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.
فإن قيل: لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من «كُلٌّ» ؟
فالجوابُ: لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ.
قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ مَدْحٌ للذين قالوا: آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ: بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -.
وقيل: الراسخونَ: علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى: ﴿لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم﴾ [النساء: ١٦٢] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال: العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له.
وقيل: الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
«وَمَا يذكَّرُ» يتَّعظ بما في القرآن ﴿إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ ذوو العقول.
41
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون: «آمنا به»، حكى أنهم
41
يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا﴾ [آل عمران: ١٩١].
قال القرطبيُّ: ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمدُ.
قوله: «لا تُزغْ» العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و «قُلُوبَنَا» مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح: «لا تَزغْ قُلُوبُنَا» - بفتح التاء، ورفع «قُلُوبُنَا»، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي: لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب «لا أرَينَّكَ ههُنَا».
وقول النابغة: [البسيط]
١٣٢٩ - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا.............................
قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، «بَعْدَ» منصوب ب «لا تُزِغْ»، و «إذْ» هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩] و ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ﴾ [الانفطار: ١٩]- قراءة من رفع «يومُ» في الموضعين -.
وقول الآخر: [الطويل]
١٣٣٠ -................................ عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ
وقوله: [الطويل]
١٣٣١ - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ........................
42
وقوله: [الطويل]
١٣٣٢ - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا.....................
وقوله: [الطويل]
١٣٣٣ - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ..........................
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «لَيْت»، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها.

فصل


هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة: ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.
فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ»، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
«اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب
43
والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك» ومعناه ما ذكرنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ».
وقالت المعتزلةُ: الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم.
والجوابُ: أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار محتاجاً، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟
فإن قيل: فما الجواب عن قوله: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ ؟
قلنا: لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء، فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى، ولا منافاةَ فيه.
وقوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، أي: جعلتنا مهتدين، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى.
قوله: ﴿وَهَبْ لَنَا﴾ الهِبَة: العَطِيَّة، حذفت فاؤها، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ، فالكسرة مقدَّرة، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو: «يضع» و «يسع»، لكون اللام حرف حلقٍ، ويكون «هَبْ» فعل أمر بمعنى اعتقد، فيتعدى لمفعولين.
كقوله: [المتقارب]
١٣٣٤ -........................... وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا
وحينئذ لا يتصرف.
ويقال أيضاً: وَهَبني الله فِداك، أي: جعلني، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى.
44
قوله: «مِنْ لَدُنْكَ» متعلق ب «هَبْ»، و «لَدُنْ» ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان، أو غيرها من الذوات نحو: من لدن زيد، فليست مرادفة لِ «عِنْد»، بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ، وتضاف لصريح الزمانِ.
قال: [الراجز]
١٣٣٥ - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ
ولا يُقْطع عن الإضافة بحال، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تُضاف إلى «أنْ» وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ.
قال: [الطويل]
١٣٣٦ - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ
أي: لدن ولايتك إيانا، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية.
كقوله: [الطويل]
١٣٣٧ - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ
وقد تُضَافُ للفعلية.
كقوله: [الطويل]
١٣٣٨ - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ
وقال آخرُ: [الطويل]
١٣٣٩ - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
وفيها لغتان: الإعراب، وهي لغة قَيْس، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ [النساء: ٤٠]- بجر النون -، وقوله: [الرجز]
١٣٤٠ -..........................
45
مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ
ولا تخلو من «من» غالباً، قاله ابنُ جني، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله:
١٣٤١ -............. لَدُنْ أنت يافع..............................
وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة - جاز نصبها، ورفعها، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كَانَ» التامة، ولولا هذا التقدير لزم إفراد «لَدُن» عن الإضافة، وقد تقدم أنه لا يجوز، فمن نَصْب «غدوة» قوله: [الطويل]
١٣٤٢ - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف «عند»، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف «لَدُن».
وقال بعضهم: «علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف» عند «فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب» لَدُنْ «المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ: أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون.
قوله: ﴿أَنْتَ الوهاب﴾ »
أنت «يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم» إنَّ «.

فصل


اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.
46
وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.
وقوله: ﴿أَنْتَ الوهاب﴾ كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب.
47
قرأ أبو حاتم ﴿جَامِعُ الناس﴾ بالتنوين والنصب - و «لِيَوْمٍ» اللام للعلة، أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى «في»، ولم يذكر المجموع لأجله، و «لا رَيْبَ» صفة ل «يَوْم»، أي: لا شك فيه، فالضمير في «فِيهِ» عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب «جَامِعُ»، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ.
و «الميعاد» مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات.
فإن قيل: لم قالوا - في هذه الآية -: إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟
فالجوابُ: أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال: ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ [آل عمران: ١٩٤].

فصل


اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل


اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل


احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال: لأن الوعيدَ داخل
47
تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ [الأعراف: ٤٤]، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد.
والجواب: لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله: ﴿فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ كقوله:
﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] وقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩]، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال: [الطويل]
١٣٤٣ - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد: قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: أقول: إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد: [الطويل]
١٣٤٤ - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال له عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك.
قال ابن الخطبيبِ: «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق.
48
وأما قولك: لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه.
فالجوابُ: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى».
49
لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان:
أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله.
الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ.
قوله: ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في «مِن» هذه أربعة أوجه:
أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه.
الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤]، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين.
الثالث: أنها بمعنى بدل.
قال الزمخشري: قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ مثل قوله: ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [يونس: ٣٦]، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] :«ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، أي: لا
49
ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ [سبأ: ٣٧]، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ.
ومنه قوله: [الرجز]
١٣٤٥ - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
وقول الآخر: [الكامل]
١٣٤٦ - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا
وقوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠]، وقوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨] ؟
الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض.
قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته».
و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء.
قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ هذه الجملة تحتمل وجهَيْن:
50
أحدهما: أن تكون مستأنفةً.
والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل.
وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته.

فصل


اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة.
الأول هو المراد بقوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾ ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨ - ٨٩].
وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.
51
في كاف «كَدَأب» وجهانِ:
أحدهما: أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره: دأبهم - في ذلك «كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن» وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية.
الثاني: أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ:
أحدها: أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه «كَفَرُوا»، تقديره: إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي: كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ.
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز.
51
الثاني: أنه مصوب ب «كَفَرُوا» لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.
الثالث: أن الناصبَ مقدَّر، مدلول عليه بقوله: «لَنْ تُغْنِيَ» أي: بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد.
الرابع: أنه منصوب بلفظ «وَقُودُ»، أي: تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له، فإن قيل: إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ، ويكون معنى الدأب: الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية: «وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ».
[أي: دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون].
الخامس: أنه منصوب بنفس «لَنْ تُغْنِي» أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك، ذكره الزمخشري، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ قال: «على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر» إنَّ «أو على الجملة المؤكَّدة ب» إنَّ «قال: فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ».
السادس: أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً، مدلولاً عليه بلفظ «الوَقُود»، تقديره: توقَد بهم كعادة آل فرعون، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابنُ عطية.
السابع: أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ، يدل عليه سياق الكلام.
الثامن: أنه منصوب ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾، والضمير في «كَذَّبُوا» - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب.
التاسع: أن العامل فيه قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله﴾، أي: فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى: كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ [البقرة: ١٦٥] أي: كَحُبِّهم لله، وقال: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ﴾ [الإسراء: ٧٧] والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
52
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال: ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» أو ب «خَالِدُونَ»، [أي: لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون].
وليس في لفظ الآية الكريمة ﴿خَالِدُونَ﴾، إنما نظم الآية ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾، ويبعد أن يقال: أراد «خَالِدُون» مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.
وقال القفَّالُ: «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم».
الدأب: العادة، يقال: دأب، يَدْأبُ، اي: واظب، ولازم، ومنه ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ [يوسف: ٤٧]، أي: مداومة.
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
١٣٤٧ -... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ... وقال زُهير: [الطويل]
١٣٤٨ - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ: «الدأب: الاجتهاد والتعب، يقال: صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي: اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [يصير] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله».
وكذا قال الزمخشريُّ، قال: «مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله».
53
ويقال: دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص: ﴿سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ بالفتح.
قال الفرَّاء: «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم.
وأنشد: [البسيط]
١٣٤٩ - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال:»
فعلى هذا - أي: على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ مبتدأ، و «كَذَّبُوا» خبره «.
قوله: ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن «الَّذِينَ»
إن قيل: إنه مبتدأ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا، وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتِنا، فهو جوابُ سؤال مقدر، وأن يكون حالاً، وفي قوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التفات؛ لأن قبله ﴿مِّنَ الله﴾ وهو اسم ظاهر.
والمراد بالآيات: المعجزات، والباء في «بِذُنُوبِهِمْ» يَجوز أن تكون سببيةً، أي: أخذهم بسبب ما اجترحوا، وأن تكون للحالِ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو، أي: يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب: الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي: يتلوه، يقال: ذنبه يذنبه ذنباً، أي: تبعه، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله ﴿شَدِيدُ العقاب﴾ كقوله: ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ [البقرة: ٢٠٢]، أي: شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه.
54
قرأ الأخوان: «سَيُغلبُونَ» و «يُحْشَرُونَ» - بالغيبة - والباقون بالخطاب، وهما واضحان كقولك: قل لزيد: قم؛ على الحكاية، وقل لزيد: يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ [البقرة: ٨٣].
وقال أبو حيّان: - في قراءة الغيبة -: «الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب» قل «بل محكية بقول آخَرَ، التقدير: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ، كما قال:» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف «فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون».
وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ، فأخذه منه، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟
قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ، فهو إخبار بمعنى: ستُغْلَبُون وتُحْشَرون، فهو كائن من نفس المتوعَّد به، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك: «سيُغْلَبون ويُحْشَرون».
وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في «سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ» لكفار قريش، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود، والمعنى: قل لليهود: ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.
قال مَكيٌّ: «ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك».
قال شهابُ الدينِ: ومِثْل إجماعهم على قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾ [الأنفال: ٣٨] إجماعُهم على قوله ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ﴾ [النور: ٣٠]، وقوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ﴾ [الجاثية: ١٤]، وقال الفرّاء: «مَن قرأ بالتاءِ جعل
55
اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء، كما تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، وإنك قائم».
وفي حرف عبد الله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون، ويُحْشَرُونَ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب.

فصل في سبب النزول


في سبب نزول الآية أوجه:
الأول: قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر، وعكرمةُ عن ابن عباس -: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل، تجدون ذلك في كتابكم، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ {قُل لِلَّذِينَ كفروا﴾، يعني اليهود «سَتُغْلَبُونَ» تُهْزَمُونَ، «وَتُحْشَرُونَ» فِي الآخرة «إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ» أي: الفراش.
الثاني: قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً -: إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا: والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى، وفي التوراة نعته، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَكُّوا، وقالوا: ليس هو ذلك، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله هذه الآية.
الثالث: أن هذه الآية واردة في جميع الكفار.

فصل في تكليف ما لا يطاق


استدلوا على [جواز] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية، قالوا: لأن الله تعالى أخبر
56
عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً، وذلك محال، فكأنَّ الإيمان منهم محال، وقد أمِروا به، فيكون تكليفاً بالمحال.
﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب، فهو مُعْجز، ونظيره - في حق عيسى - ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩].
قوله: ﴿بِئْسَ المهاد﴾ المخصوص بالذم محذوفٌ، أي بئس المهاد جهنمُ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ.
والجملة قبله خبره، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس، ملا حف ثانياً؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة.
و «بئس» مأخوذ من البأساء، وهو الشر والشدة، قال تعالى: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥] أي: شديد.
57
«قَدْ كَانَ» جواب قسم محذوفٍ، و «آيَةٌ» اسم «كان» ولم يُؤنث الفعلُ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان.
فهذا كقول امرئِ القيسِ: [المتقارب]
١٣٥٠ - بَرَهْرَهَةٌ، رُؤدَةٌ، رَخْصَةٌ كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ
قال الأصمعي: «البَرَهْرَهَةُ: الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة، والرُّؤدَة، والرادة: الناعمة».
قال أبو عمرو: وإنما قال: الْمُنْفَطِر، ولم يقل: المنفطرة؛ لأنه رَدٌّ على القضيب، فكأنه قال: البان المنفطر، والخرعوبة: القضيب، والمنفطر: الذي ينفطر بالورق، وهو ألين ما يكون.
قال أبو حيّان: أوَّل البانةَ بمعنى القضيب، فلذلك ذكر المنفطر، ولوجود الفصل ب «لَكُم» فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا، كقوله: [البسيط]
57
وقال بعضهم: محمول على المعنى، والمعنى: قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ.
وفي خبر «كان» وَجهَانِ:
أحدهما: أنه «لَكُم» و «فِي فِئَتَيْنِ» في محل رفع نَعْتاً لِ «آيَةٌ».
والثاني: أنه «فِي فِئَتَيْنِ» وفي «لَكُمْ» وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً.
الثاني: أنه متعلق ب «كان» ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل «فِي فِئَتَيْنِ» الخَبَرَ إشْكالٌ، وهو أن حكم اسم «كان» حكم المبتدأ، فلا يجوز، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به، وهنا لو جعلت «آية» مبتدأ، وما بعدها خبراً لم يجز؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ «لَكُم» الخبرَ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ.
قوله: ﴿التقتا﴾ في محل جر، صفة ل «فِئَتَيْنِ»، أي: فئتين ملتقيتين، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر.
قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ العامة على رفع «فِئَةٌ» وفيها أوجُه:
أحدها: أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل «الْتَقَتَا»، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على «فِئَتَيْنِ» المتقدمتين في الذكر؛ ليسوغ الوصف بالجملة؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير، والتقدير: في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة، وفئة أخرى كافرة.
الثاني: أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ، تقديره: إحداهما فئةٌ تقاتل، فقطع الكلام عن أوله، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك: [الطويل]
١٣٥١ - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ
١٣٥٢ - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ
أي أحدهما شامت، وآخر مُثنٍ، ومثله في القطع قول الآخر: [البسيط]
58
١٣٥٣ - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
أي: بعضه مَلْويٌّ، وبَعْضُه مَحْصُود.
قال أبو البقاء: فإن قلتَ: إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة.
قيل: لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم: شامت، وآخر مُثْنٍ، فجاء به نكرة دون ال.
الثالث: أن يرتفع على الابتداء، وخبره مُضْمَر، تقديره: منهما فئةٌ تقاتل، وكذا في البيت، أي: منهم شامت، ومنهم مثنٍ.
ومثله قول النابغةِ: [الطويل]
١٣٥٤ - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا لِستَّةِ أعْوَامٍ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
تقديره: منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ، ورماد خبره، كما تقدم في نظيره.
وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ بالجر على البدل من فِئَتَيْنِ «، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ: [الطويل]
١٣٥٥ - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
هو بدل بعض من كل، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه، تقديره: فئةٍ منهما.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع، وابن أبي عَبْلَة»
فِئَةٌ «بالنصب، وفيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: النصب بإضمار أعني.
59
والثاني: النصب على المَدْح، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني، كأنه قيل: أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً.
والثالث: أن ينتصب على الاختصاص، جوَّزَه الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان:» وليس بجيد؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً «.
قال شهابُ الدينِ: لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو:»
نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ «، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً.
الرابع: أن ينتصب»
فِئَةٌ «على الحال من فاعل» الْتَقَتَا «، كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون» فئة «و» أخرى «توطئةً للحال؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما، وهذا كقولهم: زيد رجلاً صالحاً، ومثله في باب الإخبار - ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: ٨١]، ونحوه. قوله: ﴿وأخرى كَافِرَةٌ﴾ » أخْرَى «صفة لموصوف محذوف، تقديره: وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت» كافرة «بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في» فِئَةٌ تُقَاتِلُ «، وهذه منسوقة عليها.
وكان من حق من قرأ»
فِئَةٌ «- بالنصب - أن يقرأ» وأخْرَى كَافِرَةٌ «بالنصب عطفاً على الأولى، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به؛ فإنه قال:» وقرئ «فِئَةٍ تقاتلُ» «وأخرى كافرةٍ» بالجر على البدل من «فئتين»، والنصب على الاختصاص أو الحال «فظاهر قوله: و» بالنصب «أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء، وهو لو لم يقل: والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما، والجواب عنه.
والعامة على «تُقَاتِلُ»
- بالتأنيث «؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً، نحو الشمس طلعت، وعليه جمهور الناس.
وخالف ابنُ كَيْسان، فأجاز: الشمسُ طلع.
مستشهداً بقول الشاعر: [المتقارب]
60
١٣٥٦ - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا
حيث قال: أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل: أبقلت، وغيره يخصه بالضرورة.
وقالوا: إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ، فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها.
وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ.
وقرأ مجاهدٌ ومقاتل:» يُقَاتِلُ «- بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ، ومُقوِّيَةٌ له، قالوا: والذي حسن ذلك كونُ» فِئَةٌ «في معنى القوم والناس، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً.
قوله:»
يَرَوْنَهُمْ «، قرأ نافع - وحده - من السبعة، ويعقوب، وسهل:» تَرَوْنَهُمْ «بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة.
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أن الضميرَ في»
لَكُمْ «والمرفوع في» تَرَوْنَهُمْ «للمؤمنين، والضمير المنصوب في» تَرَوْنَهُمْ «والمجرور في» مِثْلَيْهِمْ «للكافرين، والمعنى: قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد، وهو أبلغ في القدرة؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ، ونحوه قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩].
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [الآية: ٤٤]-: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾، فالقصة واحدة، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [إياهم] مثلي عددهم؛ ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قلَّلهم في أعينهم؛ ليقدموا عليهم، فالآيتان باعتبارين، ومثله قوله تعالى:
﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [
61
الرحمن: ٣٩]، وقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢] وقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] مع قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥].
قال الفرّاء: المراد بالتقليل: التهوين، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً، أي: قد هوّن عليّ، [لا أني أرى الثلاثة اثنين].
الثاني: أن يكون الخطاب في «تَرَوْنَهُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في «تَرَوْنَهُمْ» للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في «مِثْلَيْهِمْ» للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً، والمسلمون على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ﴾ [الأنفال: ٦٥].
قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «وقراءة نافع لا تُساعِد عليه»، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ: ترونهم مثليكم - بالخطاب في «مِثْلَيهم» لا بالغيبة.
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ -: «قلت: بل يُساعد عليه، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» اه، فلم يأت أبو عبد الله بجواب؛ إذ الإشكالُ باقٍ. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، وأنَّ حقَّ الكلام: مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة، ونظَّره بقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
والثاني: أن الضمير في «مِثْلَيْهِمْ» وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله﴾، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين.
والمعنى: تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله، [فكأنه] قيل: ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم، وهو جواب حسن.
فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم؟
فالجواب: أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي
62
علم المسلمون أنهم يغلبونهم؛ وذلك لأنه - تعالى - قال: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ فأظهر ذلك العدد [من المشركين] للمؤمنين؛ تقوية لقلوبهم، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم.
الثالث: أن يكون الخطاب في «لَكُمْ» وفي «تَرَونَهُم» للكفار وهم قريش، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي: قد كان لكم - أيها المشركون - آية؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ، ليجبنُوا عنهم، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية، وآية الأنفال، وهي قوله تعالى:
﴿وَيُقَلِّلُكُمْ
في
أَعْيُنِهِمْ
[الأنفال: ٤٤]، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين، وهو أنه قللهم أولاً، ليجترئ عليهم الكفارُ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلا أن الضمير في «مثليهم» يعود على المشركين، فيعودُ ذلك السؤالُ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال: مثليكم، ليطابق الكلام، فيعود الجوابان.
وهما: إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وإما عوده على الفئة الكافرة؛ لأنها عبارة عن المشركين، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة، ويكون التقدير: ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين، حتى فشلوا، وجبنوا، فطمع المسلمون فيهم، فانتصروا عليهم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ١٣] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما، ويعود السؤال، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال -: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤] ؟ ويعود الجواب.
الخامس: أن الخطاب في «لَكُم» و «تَرَوْنَهُمْ» لليهود، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين، على معنى: ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه.
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ - ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ - لليهود، فجعله في «تَرَوْنَهُم» لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار، أي: أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين، ومع ذلك غلبهم المؤمنون، وانتصروا
63
عليهم، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين، والمجرور على المشركين، أي: ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين؛ مهابةً لهم، وتهويلاً لأمر المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال -، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين، والمجرور على المسلمين، والمعنى: ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين، حَسَداً وبَغْياً.
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه:
أحدها: أنها كقراءة الخطاب، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ.
الثاني: في أن الخطاب في «لَكُمْ» للمؤمنين، والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب والمجرور للمسلمين، والمعنى: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عنهم.
الثالث: أن الخطاب في «لَكُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب للمسلمين، والمجرور للمشركين، أي: يرى المشركون [المؤمنين] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله.
الرابع: أن يعود الضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهُم» على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين، أو [على] المسلمين، أو أحدهما لأحدهم.
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، ويؤيده قوله بعد ذلك: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: ٢٥].
64
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته -: فالهاء في «يَرَوْنَهُمْ» للكفار، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب، والهاء في «مِثلَيْهم» للمسلمين.
فإن قلت: إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل: يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم، فكان أبلغ في الآية، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟
قلت: أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى.
قال شهاب الدين: «وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال: مثليهم: ثلاثة أمثالهم، كقول القائل: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها».
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال: مِثْل الشيء: ما ساواه، ومثلاه [ما ساواه] مرتين.
قال ابن كَيْسان: الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين:
إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك.
والأخرى: أنه آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون لها محل، وفيه - حينئذ - وجهانِ:
أحدهما: النصب على الحال من الكاف في «لَكُم» أي: قد كان لكم حال كونكم ترونهم.
والثاني: الجر؛ نعتاً ل «فِئَتَيْنِ» ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين، ويحتمل الجر؛ صفة ل «فِئَتَيْنِ» أيضاً، على أن تكون الواو في «يَرَوْنَهُمْ» ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهُمْ» - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان:
65
أحدهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله: «رَأيَ الْعينِ».
قال الزمخشريُّ: «رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها» ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه] :
أحدها: أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل
وثانيها: أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.
وثالثها: يجوز أن يقال: إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [فعلى هذا]، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ.
الثاني: أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون «مِثْلَيهِم» مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين: أحدهما: قوله: «رأي العين».
الثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين.
وأجيب عن [الوجه] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي: رأياً مثل رأي العين، أي: يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى.
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى، فالمعنى: فإن اعتقدتموهن، والاعتقاد قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ «تُرَوْنَهُمْ» - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول -؛ لأن قولهم: أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ، لا يقين وعلم، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه، فكان المراد التخمين والظن، لا اليقين والعلم، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم
66
أن البصر لا يخالف المُبْصَر؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر، وسوء في النظر، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر، وبالعكس.
احتج من قال: إن الرائي هو المشركون بوجوه: الأول: أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله: ﴿كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ﴾.
الثاني: مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله ﴿قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ﴾ خطاب مع الكفار، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار، والمعنى: تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً.
الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر.
واحتج من قال: الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود، وهذا ليس بمحال فكان أولى، قال ابن مسعودٍ: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم، قال ابن مسعود: «حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعينَ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً».

فصل


وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود، وهي قوله: ﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإسلام، أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ، وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا، فقال تعالى: إنكم - وإن كنتم [أغنياء]، أقوياء، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك، فقال: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا﴾ يعني واقعة بدر؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ، ونصر المسلمين، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه.
67
الفئة: الجماعة، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي: في طاعته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه يوم بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً، بين كل أربعة منهم بعير، وفرسان: فرس للمقدادِ بن عمرو، وفرس لمرثد بن ابي مريد، وأكثرهم رجَّالةٌ، وكان معهم من الدروع ستة، وثمانية سيوف، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائةُ فرس، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك.

فصل


ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً:
أحدها: أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور، منها: قِلَّةٌ العَدَد.
ومنها: أهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا.
ومنها: قِلَّةُ السلاح والخيل.
ومنها: أن ذلك أول غزواتهم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة، فيكون مُعْجزاً.
وثانيها: أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش، بقوله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧]، يعني جمع قريش، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب؛ فكان مُعْجِزاً.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾، والصحيح أن الرائين هم المشركون، والمرئيين هم المؤمنون، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً.
ورابعها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة، لقوله تعالى: ﴿فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩]، وقال: ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥] قيل: إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض، وهو المراد من قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
68
قوله: ﴿رَأْيَ العين﴾ في انتصابه ثلاثة أوجهٍ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي، أو النصب على المصدر التشبيهيّ.
الثالث: أنه منصوب على ظرف المكانِ، قال الواحديُّ: «.. كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب، وَمَناطَ [الْعُنق]، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً.
و»
رأى «مشترك بين» رأى «معنى أبصر، ومصدره: الرَّأي، والرؤية، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم، وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرق بالمصدر، فالرؤية للبصر خاصةً، والرؤيا للحلم فقط، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية، يقال: هذا رأي فلان، أي: اعتقاده.
قال: [الطويل]
١٣٥٧ - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ
قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ التأييد: تفعيل، من الأَيْد، وهو القوَّة، والباء سببية أي: سبب تأييده، ومفعول»
يَشَاءُ «محذوف، أي: من يشاء تأييده.
وقرأ ورش»
يُويِّدُ «، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً، وهو تسهيل قياسيٌّ؛ قال أبو البقاء وغيره:» ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ؛ لقربها من الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف «.
وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة.
و»
عبرة «: فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة، والعبور: التجاوز، ومنه عبرتُ النهر، والمعبر السفينة؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر، وعَبْرَةُ العين: دَمْعُهَا؛ لأنها تجاوزها، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل غلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة، والاعتبار: افتعال منه، والعبارة: الكلام الموصل إلى الغرض، لأن فيه مجاوزةً، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها.
و»
لأولي أبصار «صفة ل» عبرة «، أي: عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال: لفلان بصر بهذا الأمر.
69
وقيل: لمن أبصر الجمعين.
70
والعامة على بناء «زُيِّنَ» للمفعول، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطان، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا: لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك، ويؤيده قوله تعالى: ﴿هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: ٦٣] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا﴾ [الكهف: ٧] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أن الشيطان زَيَّن لهم، حكي عن الحسن أنه [كان]- يحلف بالله على ذلك - ويقول: من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها.
احتج لهم القاضي بوجوه:
الأول: أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ.
الثاني: أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ.
الثالث: قوله تعالى: ﴿ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ.
الرابع: قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ [آل عمران: ١٥] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه.
القول الثاني: أن المزين هو الله تعالى، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال: إنه زيَّنَها له.
70
وثانيها: أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر.
قال صاحب بن عبَّادٍ: «شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ» وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [البقرة: ٢٩]، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ [الأعراف: ٣٢]، وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا﴾
[الكهف: ٧] وقال: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]، وقال: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢]، وقال: ﴿كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [البقرة: ١٦٨]، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى.
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي -: وهو التفصيل، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان، وإن كان واجباً، أو مندوباً، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقابٌ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره. ويُبَيِّنَ التزيين فيه، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟
وقرأ مجاهد: «زَيَّنَ» مبنيًّا للفاعل، و «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعل إما ضمير الله تعالى؛ المتقدم ذكره في قوله: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ١٣]، وإما ضمير الشيطان، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه، وأضافَ المصدر لمفعوله في ﴿حُبُّ الشهوات﴾.
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة، كقوله: [الطويل]
١٣٥٨ - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ
بتسكين الفاء. والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول، أي: المشتهيات، فهو من
71
باب: رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً. والشهوة: مَيْل النفس، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ -.
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية: [الطويل]
١٣٥٩ - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ
قال النحويون: لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ: قرية وقُرًى، ونَزْوَة ونُزًى، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى.
واستدرك أبو حيّان: «واستدركت - أنا - شُهًى، وأنشد البيت».
وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المشتهى، شهوةً، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء: شهوة، وقوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ يحتمل الشهوتين».
قال الزمخشريُّ: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ، محروصاً على الاستمتاع بها.
الثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها.

فصل


وَجهُ النظم: أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه: إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ، والاستظهارَ والسلاحَ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة، باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.

فصل


قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ؛ لأنه أضافهُ إليها، والمضاف غيرُ المضافِ إليه، والشهوة فعل الله تعالى، والمحبة فعل العبد.
قالت الحكماءُ: الإنسان قد يحب شيئاً، ولكنه يحب ألا يحبه، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات، لكنه يحب ألا يحبه، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه،
72
فذلك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير، فهو كمال السعادة، كقول سليمان: ﴿إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير﴾ [ص: ٣٢]، ومعناه: أحب الخير، وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية؛ فإن قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة:
أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات.
ثانيها: أنه يحب شهوته لها.
ثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة.
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس، ولفظ «النَّاس» عام، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل - أيضاً - يدل عليه؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب، ومطلوب لذاته، والمنافع قسمان: جسماني، وروحاني، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل.
قوله تعالى: ﴿مِنَ النساء﴾ في محل نَصْب على الحال من الشهوات، والتقدير: حال كون الشهوات من كذا وكذا، فهي مفسرة لها في المعنى.
ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، لقول الزمخشريِّ: «ثم يفسره بهذه الأجناس».
كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، والمعنى: فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ.
وقدم النساءَ على الكل، قال القرطبيُّ: لكثرة تشوُّق النفوس إليهن؛ لأنهن حبائلُ الشيطان، وفتنة الرجالِ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ» أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ، ولذلك قال
73
تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١]، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان، والبنين: جمع ابن، قال نوح:
﴿رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: ٤٥] ويًصَغَّر «ابن» على بُنَيّ، قال لقمان: ﴿يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣]، وقال نوح: ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ [هود: ٤٢].
قوله تعالى: ﴿والقناطير﴾ هي جمع قِنْطار، وفي نونه قولان:
أحدهما: أنها أصلية، وأن وَزْنَه فِعْلاَل، كحِمْلاق، وقِرْطاس.
والثاني: أنها زائدة، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس، وهو الجمل الشديد، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ، وكثرة التقلُّب.
وقال الزَّجَّاج: هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة؛ لإحْكام عقدها.
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: القنطار وزن لا يُحَدُّ.
قال ابن الخطيب: «وهذا هو الصحيح».
وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير بعضه على بعض.
وقال القرطبي: «والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار».
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية».
وقال ابن عباس والضحاك: ألف ومائتا مثقالٍ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم، وبه قال الحسن.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ».
74
وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار.
وروى سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفاً.
وقال مجاهدٌ: سبعون ألفاً.
وقال السُّدِّيُّ: أربعة آلاف مثقالٍ.
وقال الكلبيُّ أبو نضرة: القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب، أو فضة.
وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة: مائة ألفٍ، ومائة مَنّ، ومائة رَطل، ومائة مثقال، ومائة درهم، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا.
قوله: «الْمُقَنطَرَة» مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلَّفة، وبدرة مبدرة، وإبل مُؤبَّلة، ودراهم مُدَرْهمة.
وقال الكلبي: القناطير الثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة.
وقال الضحاك: معنى «الْمُقَنْطَرَة» : المحَصَّنة المُحْكمة.
وقال قتادة: هي الكثير بعضها فوق بعض.
وقال السُّدِّي: المضروبة، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
وقال الفراء: المضعّفة، والقناطير الثلاثة، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض.
وقال ابو عبيدة: القناطير أحدها قنطار، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه.
75
وقال ثعلب: المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قَنَاطير مقنطرةٌ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل: غن القنطار ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير.
قوله: ﴿مِنَ الذَّهَبِ﴾ كقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾، [والذَّهَب] مؤنث، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب، واشتقاقه من الذهاب، ويقال: رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و [ «الفضة» تجمع على فضض، واشتقاقها من انفض إذا تفرق].
قال القرطبيُّ: والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن، قال: واشتقاق الذهب والفضة، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد ف ي الوجود، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم: [البسيط]
١٣٦٠ - النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي
وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ
والذهب والفضة: إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء.
قوله: «وَالْخَيْلِ» عطف على النساء، قال أبو البقاء: [معطوف على النساء]، لا على الذهب والفضة، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً، والخيل فيه قولان:
أحدهما: قال الواحديُّ: «إنه جمع لا واحد له من لفظه، كالقَوْم، والنساء والرهط».
الثاني: أن واحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وتاجر وتجر، وطائر وطير.
وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع، والخفش يجعله جمع تكسير.
وفي اشتقاقها وجهان:
أحدهما: من الاختيال - وهو العجب - سُمِّيت بذلك؛ لاختيالها في مِشيتها
بطول أذنابها قال امرؤ القيس: [المتقارب]
76
الثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها.
وقيل: أصل الاختيال من التخيل، وهو التشبيه بالشيء؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً. والأخيل: الشَّقِرَّاق؛ لأنه يتغير لونهُ، فمرة أحمر، ومرة أصفر وعليه قوله: [مجزوء الكامل]
١٣٦١ - لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ
١٣٦٢ - كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ
وجوز بعضهم: أن يكون مخفَّفاً من «خَيَّل» - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن، وفيه نظر؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً؛ وهذا تقدم.
وقال الراغب: «الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً، قال تعالى: ﴿وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ [الأنفال: ٦٠] في الأصل للأفراس، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً، نحو ما رُوِي» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «، فهذا للفرسان، وقوله - عليه السلام -:» عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ «، يعني الأفراس، وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام -» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم.
قوله: «الْمُسَوَّمَة»
أصل التسويم: التعليم، ومعنى مسومة: مُعَلَّمة.
قال أبو مسلم: مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ [الفتح: ٢٩] واختلفوا في تلك العلامة.
فقال أبو مسلم: هي الأوضاح والغُرز التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة.
وقال الأصم: البلق.
وقال قتادة: الشِّية. وقال المؤرج: الكَيّ، والأول أحسن؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال: بل هي من سوم الماشية، أي: مرعية، يقال: أسَمْتُ ماشيتس، فسامت، قال تعالى: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠]، وسومتها فاستامت، أي: مرعية، فيتعدى - تارة - بالهمزة، وتارة بالتضعيف.
77
وقيل: بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة: أي: ذات حُسن، قاله عكرمة، واختاره النحاس؛ قال لأنه من الوَسْم، ورد عليه بعضهم: باختلاف المادتين، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في «يسومونكم» وقوله «بسيماهم».

فصل


قال القرطبيُّ: جاء في الخبر عن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الفرس من الريح، ولذلك جعلها تطير بلا جناح.
قال وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. وفي الخبر: أن الله تعالى عرض على ىدم جميع الدواب، فقال له: اختر منها واحدة، فاختار الفرس، فقيل له: اخترتَ عِزَّك، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه، ويُمِّي خَيْلاً؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله، وسُمِّي فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً، وسمي عَربيًّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل؛ جزاء على رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصارت له نحلةً من الله، وسمي عربياً، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ»، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه تخلص من الهجانة، وقال - عليه السلام -: «خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ، الأقرعُ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ».
قوله: ﴿والأنعام﴾ جمع نَعَمٍ، والنعم مختصة بالإبل، والبقر، والغنم.
وقال الهروي: النعم يذكر ويؤنث، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة، بل يختص بواحد منها، وقد صرَّح الفراء بهذا، فقا لالنعم: الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر. وقال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت: أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى؛ قال حسان: [الوافر]
78
وهو مذكر ولا يؤنث، تقول: هذا نعم وارد، وهو جمعٌ، لا واحد له من لفظه.
وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإبل والبقر والغنم، واحده: نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه»، سميت بذلك؛ لنعومة مشيها ولينها، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا.
قوله: «وَالْحَرْثِ»، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به، فلذلك وُحِّد، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته، ويجوز إدغام الثاء في الذال، وإن كان بعض الناس ضعفه: بأنه يلزم الجمع بين ساكنين، والأول ليس حرف لين، قال: بخلاف «يَلْهَثْ ذلك» حيث أدغم الثاء في الذال؛ لانتفاء التقاء الساكنين، إذ الهاء قبل الثاء متحركة.

فصل


الحرث هنا اسم لكل ما يحرث. تقول: حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة، ويقال: حرث وفي الحديث: «احرثوا هذا القرآن أي: فتشوه» قال ابن الأعرابي الحرث: التفتيش، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحترس المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع: أحْرِثَة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة، منها: الإتيان بها مجملة، ومنها جعله لها نفس الشهوات؛ مبالغة في التنفير عنها، ومنها: البداءة بالأهم، فالأهم، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً، ومخالطة بالإنسان، وهن حبائل الشيطان، قال - عليه السلام -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ»، وقال: «مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ»، ويُرْوَى: الحازم منكن.
وقيل: فيهن فتنتان، وفي البنين فتنة واحدة؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً -، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً -، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ»، ولأنهم لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ»، ولأنهم
79
فروع منهن، وثمراتٌ نشأت عنهن، وفي كلامهم: «المرء مفتون بولده»، وقُدِّمت على الأموال؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله.
وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان، وإنعام أو نُصْرة، ومعاونة؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم، وحياة بنيتهم، وهو الزروع والثمار.
ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء، بقوله: «زين» والزينة محبوبة في الطباع.
ومنها: بناء الفعل للمفعول؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك.
ومنها: إضافة الحبِّ للشهوات، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء.
ومنها التجنيس: القناطير المقنطرة.
ومنها: الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله: ﴿الذهب والفضة﴾ ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف.
ومنها: وصف «الْقَنَاطِيرِ» ب «الْمُقَنْطَرَةِ» الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها.
ومنها: ذكر هذا الجنس بمادة «الْخَيْلِ» لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله «الأنْعَامِ»، ولم يَقُل: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه أخصر.

فصل


قال القرطبيُّ: قال العلماء: ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع.
قوله: ﴿ذلك مَتَاعُ﴾ الإشارة بذلك للمذكور المتقدم، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد، كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وقد تقدم.

فصل


قال القاضي: وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى؛ لأن متاعَ الدنيا
80
إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه:
منها: أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم، فيكون مذموماً.
ومنها: أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً.
ومنها: أن ينتفع به في وجه مباحٍ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم.
ومنها: أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك هو الممدوحُ.
قوله: ﴿والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب﴾، أي: الْمَرْجع، فالمآب: مَفْعَل، من آب، يئوب، إياباً، وأوْبَةً وأيبةً، ومآباً، أي: رجع، والأصل: مَأوَب، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها، فقلبت الواوُ ألفاً، وهو - هنا - اسم مصدر، أي: حسن الرجوع، وقد يقع اسم مكانٍ، أو زمان، تقول: آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥] وقوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً﴾ [النبأ: ٢١ - ٢٢]. فإن قيل: المآب قسمان: الجنة، وهي في غاية الحُسْن، والنار، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟
فالجواب: أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة، وأما النار فمقصودة بالعرض، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة؛ لأن قوله: ﴿ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ أي: ما يتَمتع به فيها، ثم يذهب ولا يَبقَى، قال - عليه السلام -: «ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ» أي: في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم.
81
قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق فيهما، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.
81
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام «قُلْ».
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط، فنقول: الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين، أولاهُمَا مفتوحةُ، والثانية مضمومة - الأول: هذا الموضع.
والثاني: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨]، والثالث: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ [القمر: ٢٥]، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب:
أحدها: مرتبة قالون، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع.
الثانية: مرتبة وَرْش وابن كثير، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.
الثالثة: مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر، وهي تحقيق الثانيةِ، من غير إدخال ألف بلا خلاف -، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.
الرابعة: مرتبة هشام، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه:
الأول: التحقيق، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ.
الثاني: التحقيق، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.
الثالث: التفرقة بين السور، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن.
الخامسة: مرتبة أبي عمرو، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ: أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه.
وفي قوله: ﴿أَؤُنَبِّئُكُم﴾ التفاتٌ من الغيبة - في قوله: «للنَّاسِ» - إلى الخطاب، تشريفاً لهم.
«بِخَيْرٍ» متعلق بالفعل، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى «أعلم» تعدى لاثنين، الأول تعدى إليه بنفسه، وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و «مِنْ ذَلِكُمْ» متعلق ب «خَيْر» ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل، والإشارة ب «ذَلِكُمْ» إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع، ولا
82
يجوز أن تكون «خير» ليست للتفضيل، ويكون المراد به خيراً من الخيور، ويكون «مِنْ» صفة لقوله: «خَيْرٍ».
قال أبو البقاء: «من» في موضع نَصْب بخير، تقديره [بما يفضل من ذلك، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان.

فصل


كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى: ﴿والآخرة خَيْرٌ وأبقى﴾ [الأعلى: ١٧] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ.
قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾ يجوز فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع «جَنَّاتٌ» على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم﴾ [الحج: ٧٢]، ثم قال:
﴿النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ [الحج: ٧٢] ويؤيد ذلك قراءة «جَنَّاتٍ» - بكسر التاء - على أنها بدل من «بِخَيْرٍ» فهي بيان للخير.
والثاني: أن الجارَّ خبر مقدم، و «جَنَّاتٌ» مبتدأ مؤخر، أو يكون «جَنَّاتٌ» فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله: ﴿مِّن ذلكم﴾، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية.
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ «جَنَّات» - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت «جنات» بدلاً من «خَيْر».
الوجه الأول: أنه متعلق ب «أؤثنَبِّئُكُمْ».
الوجه الثاني: أنه صفة ل «خَيْر».
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر أن «لِلَّذِينَ» خبر مقدَّم، و «جنات» مبتدأ -: «ويجوز الخفض في» جناتٍ «على البدل من» خَيْر «على أن تجعل اللام في» لِلَّذِينَ «متعلقةً ب» أؤُنَبِّئُكُمْ «، أو تجعلها صفة ل» خَيْر «، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض» جنات «؛ لأن حروف الجر، والظروف
83
إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك: لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع» جَنَّات «، إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت» جَنَّات «بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً».
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» أو بمحذوف على أنها صفة لخير، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ «جنات» على البدل من «خَيْر» وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع «جَنَّات» وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف، يحمل الضمير، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو «جَنَّات» وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول: أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع «جَنَّات» على أنها خبر مبتدأ محذوف، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» ؛ إذ لا معنى له، وقوله - في الظروف وحروف الجر -: إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات.. وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع:
منها: الموضعان اللذان ذكرهما.
وثالثها: أن يقعا صلة.
ورابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ.
وخامسها: أن تعتمد على نقي.
وسادسها: أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا.

فصل


قد بيَّنا في قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] معنى التقوى، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات، المتحرز عن المحظورات.
وقيل: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان. قال تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ [الفتح: ٢٦]، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفر:
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيه أربعة أوجهٍ:
84
أحدها: أنه في محل نصب على الحال من «جَنَّات» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالاً.
الثاني: أنه متعلق بما تعلق به «لِلَّذِينَ» من الاستقرار، إذَا جعلناه خبراً، أو رافعاً «جَنَّاتٌ» بالفاعلية، أما إذا علقته ب «خَيْر» أو «أؤنَبَّئُكُمْ» فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار.
الثالث: أن يكون معمولاً ل «تَجْرِي»، وهذا لا يساعد عليه المعنى.
الرابع: أنه متعلق ب «خَيْر»، كما تعلق به «لِلَّذِينَ»، كما تقدم.
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾ ثم يُبْتَدَأ بقوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب «جَنَّاتٍ» بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها بدل من لفظ «بِخَيْر» فتكون مجرورة، وهي بيان له - كما تقدم.
الثاني: أنها بدل من محل «بِخَيْر» - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول.
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني»، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر.
قوله: «تَجْرِي» صفة لِ «جَنَّات»، فهو في محل رفع، أو نصب، أو جر - على حسب القراءتين، والتخاريج فيهما - و «مِنْ تَحْتِهَا» متعلق ب «تَجْرِي» وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الأنهار» قال: أي: تجري الأنهار كائنةً تحتها، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه.
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ حال، وصاحبها الضمير المستكن في «لِلَّذِينَ» والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر.
وقال أبو البقاء: «إن شئت من الهاء في: تَحْتِهَا»، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ﴾ «من رفع» جَنَّاتٌ «- كما هو المشهور - كان عطف» أزْواجٌ «و» رِضْوانٌ «سَهْلاً، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم أزواجٌ، ولهم رضوان، وتقدم الكلام على» أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ «في البقرة.
85

فصل


اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب، فقال:» مُطَهَّرَةٌ «فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة، والقُبْح، وتشويه الخِلْقة، وسوء العِشرة، وسائر ما ينفر عنه الطبع.
قوله:»
وَرِضْوَان «فيه لغتان:
ضم الراء، وهي لغة تميم وقيس، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي ﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَه﴾ [المائدة: ١٦]، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
والكسر، وهو لغة الحجاز، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد، أو بَينهما فرقٌ؟
قولان:
أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان.
قال الفرّاء:»
رَضِيتُ رِضاً، ورِضْوَاناً ورُضْواناً، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان، وبالضم الطُّغْيَان، والرُّجحان، والكُفْران، والشُّكْران «.
الثاني: أن المكسور اسم، ومنه رِضوان: خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته.
والمضموم هو المصدر، و «مِنَ اللهِ»
صفة لِ «رِضْوَان».

فصل


روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً».
86
ثم قال: «وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»، أي: عالم بمصالحهم، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم.
قوله تعالى: ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ:
أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين:
أحدهما: النعت.
والثاني: البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان:
أحدهما: جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني: جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال: [ويضعف أن يكون صفةً للعباد] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم﴾ [النساء: ٢٥].
والجملة من قوله: ﴿والله بَصِيرٌ﴾ يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ «الَّذِينَ يَقُولُونَ» تابعاً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوا» - نعتاً أو بدلاً -، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.

فصل


اعلم أن قولَهم ﴿رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى: ﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ [آل عمران: ١٩٣].
87
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله: ﴿الصابرين والصادقين﴾ ؟
فالجواب: أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى: ﴿الصابرين﴾ إن قدرت ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان «الصَّابِرِينَ» نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب «الصَّابِرِينَ» بإضمار «أعني».

فصل


المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة: «هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية».
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
«القانِتِينَ» المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت: عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، «والمنفقين» أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
﴿والمستغفرين بالأسحار﴾.
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ: يعني المصلين بالأسحار.
وعن زيد بن أسلم: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ.
88
وقال الحسنُ: مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا.
وقال نافع: كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول: يا نافِعُ، أسْحَرْنَا؟ فيقول: لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ: نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ.
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» رواه مسلم.
قال القرطبيُّ: وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالا: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ: هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟»، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ «يُنْزَلُ» - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه: «لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ».
واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و «الأسْحَار» جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟
89
فقال الزّجّاج وجماعة: إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي: أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ - إذا سافر فيه -.
قال زُهَيْر: [الطويل]
١٣٦٣ - وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
١٣٦٤ - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ
وقال الرَّاغب: «السَّحَر: اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر: الخارج سَحَراً، والسّحور: اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر: أكلُه».
والمُسْتَحِر: الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر: [المتقارب]
١٣٦٥ - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ
وقال بعضهم: أسْحَر الطائرُ، أي: صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال: أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي: دخل في وقت الظهر.
قال: [المتقارب]
١٣٦٦ - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ
ومثله: استحر أيضاً.
وقال بعضهم: السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً -: السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل: وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
90
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري» سُمِّي بذلك لخفائه.
و «سَحَر» فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل: كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني: أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ: «الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها».
قال ابو حيّان: «ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال».
قال شهاب الدين: «قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب».
والباء في قوله: «بِالأسْحَارِ» بمعنى «في».
91
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ :
أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل : مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون ؟ فقيل : الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان : الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين :
أحدهما : النعت.
والثاني : البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان :
أحدهما : جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني : جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف أبو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال :[ ويضعف أن يكون صفةً للعباد ] ١١ ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ﴾ [ النساء : ٢٥ ].
والجملة من قوله :﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ ﴾ يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ " تابعاً لِ " الَّذِينَ اتَّقَوا " - نعتاً أو بدلاً-، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.

فصل


اعلم أن قولَهم ﴿ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى :﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة ؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله :﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ﴾ ؟
فالجواب : أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا ؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى :﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ إن قدرت ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان " الصَّابِرِينَ " نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب " الصَّابِرِينَ " بإضمار " أعني ".

فصل


المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة :" هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية ".
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال : صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
" القانِتِينَ " المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، " والمنفقين " أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار ﴾.
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار. ١٢
وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ. ١٣
وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا. ١٤
وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول : يا نافِعُ، أسْحَرْنَا ؟ فيقول : لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ : نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ. ١٥
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ١٦ ؟ " رواه مسلم.
قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :" إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى١٧ ؟ "، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ " يُنْزَلُ " - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه :" لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ ". واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و " الأسْحَار " جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو ؟
فقال الزّجّاج١٨ وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه.
قال زُهَيْر :[ الطويل ]
بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ١٩
وقال الرَّاغب٢٠ :" السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر : أكلُه ".
والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر :[ المتقارب ]
يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ٢١
وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ، أي : صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر.
قال :[ المتقارب ]
وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا٢٢
ومثله : استحر أيضاً.
وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً ؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - :" مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري٢٣ " سُمِّي بذلك لخفائه.
و " سَحَر " فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم ؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ :" الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ".
قال أبو حيّان :" ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال ".
قال شهاب الدين٢٤ :" قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب ".
والباء في قوله :" بِالأسْحَارِ " بمعنى " في ".
العامة على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً، مبنيًّا للفاعل، ولفظ الجلالة رَفْع به.
وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبنيًّا للمفعول، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل، وعلى هذه القراءة يكون «أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ» في محل رفع؛ بدلاً من اسم «اللهُ» - بدل اشتمال، تقديره: شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ.
ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة، وأولي العلم على لفظ الجلالة، فخُرِّج ذلك على عدم العطف، بل إما على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: والملائكة، وأولو العلم يشهدون بذلك، يدل عليه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله﴾، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف، تقديره: وشَهِدَ الملائكةُ،
91
وأولو العلم بذلك، وهو قريب من قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾ [النور: ٣٦]، في قراءة مَنْ بناه للمفعول.
وقوله: [الطويل]
١٣٦٧ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وقرأ أبو المهلَّب: «شُهَدَاءَ اللهِ» جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة، فأما النصب فعلى الحال، وصاحبها هو الضمير المستتر في «الْمُسْتَغْفِرِينَ».
قال ابنُ جني، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء: وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله.
وشهداء: يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء. وقرأ أبو المهلب - أيضاً -: «شُهُداً الله» - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم «الله» منصوب على التعظيم أي يشهدون الله، أي: وحدانيته.
وروى النقاش أنه قرأ كذلك، إلاّ أنه قال: برَفْع الدال ونصبها، والإضافة للَفْظ الجلالة، فالرفع والنصب على ما تقدم في «شُهَدَاءَ»، وأما الإضافة، فيحتمل أن تكون محضة، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل، كقولك: عباد الله، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة.
92
ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ «شُهَدَاء لله» جمعاً على فُعَلاَء، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله، وفي الهمزة النصب والرفع، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع «الْمَلاَئِكَةِ» وما بعدها ثلاثة أوجه:
أحدها: الابتداء، والخبر محذوف.
والثاني: أنه فاعل بفعل مقدر.
الثالث: - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في «شَهِدَ اللهُ»، قال: «وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما».
قوله: «أنَّهُ» العامة على فَتح الهمزة، وإنما فُتِحَت؛ لأنها على حذف حرف الجر، أي: شهد الله بأنه لا إله إلا هو، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً، وأن يكون محلها جَرًّا.
وقرأ ابن عباس «إنَّهُ» - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان:
أحدهما: إجراء «شَهِدَ» مُجْرَى القولن لأنه بمعناه، وكذا وقع في التفسير: شهد الله اي: قال الله، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغة قيس بن عيلان.
الثاني: أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ «، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح» أنَّ «من» أنَّ الدِّينَ «، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز، فتعيَّنَ الوجهُ الأول.
والضمير في»
أنَّهُ «يحتمل العود على الباري؛ لتقدم ذكره، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ف» أنْ «مخفَّفة في هذه القراءة، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله:» هُوَ وَالَّذِينَ ىمَنُوا مَعَه «].

فصل


قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً.
93
وقيل: نزلت هذه الآية في نصارى نجران.
وقال الكلبيُّ: قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: أنا محمد وأحمد، قال: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك، وصدقناك، فقال: سَلاَ، فقالا: أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، فأنزل الله هذه الآيةَ، فأسلم الرجلان.

فصل


قال بعض المفسرين: شهد الله، أي: قال.
وقيل: بَيَّن الله؛ لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حَكَم الله.
وقيل: أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو.
فإن قيل: المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً؟
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: ما تقدم من أن» شَهِدَ «بمعنى» قال «أو» بَيَّن «أو» حَكَم «.
الثاني: أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى -؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ، وجعلها دلائلَ على توحيده، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ، فهو - تعالى وفقهم، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى، ولهذا قال:
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيد﴾ [الأنعام: ١٩].
الثالث: أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً، والعدم غائب، والموجود حاضر، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً، فكان الحق شاهداً على الكل، فلهذا قال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾.

فصل


تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم، قيل: الأنبياء - عليهم السلام -.
قال ابنُ كَيْسَان: يعني المهاجرين والأنصار.
وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه.
94
قال السُّديُّ والكلبيُّ: يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم، ولذلك قال - عليه السلام -: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ».
فإن قيل: إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل، وشهادة الملائكة، وأولي العلم عبارة عن الإقرار، فكيف جمعهما في اللفظ؟
فالجواب: أن هذا ليس ببعيد، ونظيره قوله - تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء، ومن المؤمنين الاستغفار، وقد جمعهما في اللفظ.

فصل


دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن الله اسم العلماء، وقال تعالى - لنبيه -: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: ١١٤]، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه، كما أمره أن يستزيد من العلم.
وقال عليه السلام: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ»، وقال: «العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» [وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير].
قوله تعالى: ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ في نَصْبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال، واختلفوا في ذلك؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم «اللهُ»، فالعامل فيها «شَهِدَ».
قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقا﴾ [البقرة: ٩١].
قال أبو حيّان: وليس من باب الحال المؤكدة؛ لأنه ليس من باب ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ [مريم: ١٥] ولا من باب: أنا عبد الله شجاعاً فليس «قَائِماً بِالْقِسْطِ» بمعنى «شَهِدَ» وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب؛ يصير كقولك: أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً، ففصل بين المعطوف عليه، والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وصاحبه بالمفعول، والمعطوف، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ.
قال شهاب الدينِ: مؤاخذته له في قوله «مؤكِّدة» غير ظاهرةٍ، وذلك أن الحالَ على قسمين:
95
إما مؤكدة، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّن ةلا جائز أن تكون ههنا؛ لأن المبيّنة منتقلة، والانتقال - هنا - محال؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير.
وقيل: لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله: «مؤكِّدة» وعن قوله «لازمة».
فالجواب: أن كل مؤكِّدة لازمة، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله: لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله: ليس معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» معنى «شَهِدَ» ممنوع، بل معنى: «شَهِدَ» مع متعلَّقِهِ هو ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ - مساوٍ لقوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه، ولو قلتَ: جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ؟
قلتُ: إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢]- إن انتصب»
نَافِلَةً «حالاً عن يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز؛ لتميزه بالذكورة».
قال أبو حيّان: «وما ذَكَرَ من قوله: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، فهذا جائز؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور؛ ويكون» راكباً «حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل، لكان» الطويل «صفة لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة؛ لأنه يلبس، بل لا لبس في هذا، وهو جائز، فكذلك الحال، وأما قوله: إن» نَافِلَة «انتصب حالاً عن» يعقوب «فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب؛ إذ يحتمل أن يكون» نَافِلَةً «مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره».
قال شهاب الدينِ: «مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور».
وبعضهم جعله حالاً من «هُوَ».
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: قد جعلته حالاً من فاعل «شَهِدَ» فهل يصح أن ينتصب حالاً عن «هو» في «لا إلَهَ إلاَّ هُوَ» ؟
96
قلتُ: نعم؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها، كقولك: «أنا عبد الله جاعاً»، يعني: أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها، إنما تنتصب بعامل مضمر، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته: أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي: أحقه، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة.
وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم «راكباً» والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال.
الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً: نصبه على النعت للمنفي ب «لا» كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو؟
قلتُ: لا يَبْعد؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف»
ثم قال: «وهو أوجه من انتصابه عن فاعل» شَهِدَ «، وكذلك انتصابه على المدح».
قال أبو حيّان «:» وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً،... وهذا الذي ذكره لا يجوز؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، بل هما معمولان ل «شَهِدَ»، وهو نظير: عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ، فيفصل بين «هند» و «التميمية» بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها، وذلك الأجنبي هو «عمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان ب «عرف» - على زيد، وأما المثال الذي مَثَّل به، وهو: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية؛ لأن قولك: إلا عبد الله، بدل على الموضع من «لا رجل»، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً؛ لأنه بدل، و «شجاعاً» وصف، والقاعدة: أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب «.
97
الوجه الثالث: نصبه على المدح.
قال الزمخشري: فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدَ، «إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ»، وقوله: [البسيط]
١٣٦٨ - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ...............................
قلتُ: قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ: [المتقارب]
١٣٦٩ - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
قال أبو حيان: «انتهى هذا السؤال وجوابه، وفي ذلك تخليط؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح، أو الذم، أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمَها واحداً، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح، وهو الحمد لله الحميدَ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص، وهما:» إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ «، وقوله:» إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب «والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم، قد يكون معرفة، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها.
نحو قول النابغة:
١٣٧٠ - أقَارعُ عَوْفٍ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
فنصب»
وُجُوهَ قُرُودٍ «على الذم، وقبله معرفة، وهي» أقارعُ عَوْفٍ «، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً، ولا مُبْهَماً، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلميَّة، أو لفظ» أي «، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص
98
به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب».
الوجه الرابع: نَصْبه على القطع، أي إنه كان من حقه أن يرتفع؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه ب «أل» والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعه، فقُطِع إلى النصب، وهذا مذهبُ الكوفيين، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده -، ومنه عندهم قول امرئ القيس:
١٣٧١ -.................................. وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا
وقد تقدم ذلك محققاً.
الأصل: «من البُسْر الأحمر» ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله «القائمُ بالقسط» - برفع القائم؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من «هو» أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم.
قال أبو حيّان: ولا يجوز ذلك؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي، وهو المعطوفان؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل ف يالمعطوف لم يجز ذلك - أيضاً -؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف. لو قلت: جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك، لم يجز، إنما الكلام: «جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ».
فيحصل في رفع «القائم» - على هذه القراءة - ثلاثة اوجهٍ: النصب، والبدل، وخبر مبتدأ محذوف.
ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ «قَائِمٌ بِالْقِسطِ» - بالتنكير، ورفعه من وجْهَي البدل، وخبر المبتدأ.
وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» - بالنصب على ما تقدم -.
فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم.
والظاهر أن رفع ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ عطفٌ على لفظِ الجلالةِ.
وقال بعضهم: الكلام تم عند قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، وارتفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل مُضْمَر، تقديره: وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه، فاحتاج من
99
أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً، ويخالفه معنى، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦] كما قدمناه.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة، وأولي العلم، كما دخلت الوحدانية؟
قلتُ: نعم، إذا جعلته حالاً من»
هُوَ «أوْنَصْباً على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد الله والملائكة، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط».

فصل


معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» أي: قائماً بتدبير الخلْقِ، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي مدبِّر له، رزَّاق، مجازٍ بالأعمال، والمراد بالقِسْط: العدل.
قال ابن الخطيب: وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح، والغِنَى والفقر، والصحةِ والسقم، وطول العمر وقصره، واللذة والآلام، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله، وحكمة وصواب، ثم انظر في كيفية خلق العناصر، وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين، وخاصيَّةٍ معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب.
وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط.
قوله تعالى: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ في هذه الجملة وجهان:
الأول: أنها مكرَّرة للتوكيد، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ كرَّر قولَه: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؟ قلت: ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله تعالى: ﴿العزيز الحكيم﴾ ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ».
وقال بعضهم: ليس بتكرير؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده. والثاني: شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا عند من يرفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهب مرجوح.
وقال الراغبُ: «إنما كرَّر ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد، فيصح وصفُهم بها، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ».
وقال بعضهم: «فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في
100
تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان، هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات».
قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه بدل من «هُوَ».
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر.
الثالث: أنه نعت لِ «هُوَ»، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي؛ فإن يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ.

فصل


ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، وكان قادراً على تحصيل المهمات، وقد قدَّم «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ».
101
قرأ الكسائي بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ توحيد، وقوله:» قائِماً بِالقِسْط «تعديلٌ، فإذا أردفه بقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده».
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه:
أحدها: أنها بدل من ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ - على قراءة الجمهورِ - في أن ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أنه من بدل الشيء من الشيء، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ، والتوحيد، وهو هو في المعنى.
101
والثاني: أنه بدل اشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ.
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» بدلاً من قوله «بِالْقِسْطِ» ثم لك اعتباران:
أحدهما: أن تجعله بدلاً من لفظه، فيكون محل «إنَّ الدِّينَ» الجر.
والثاني: أن تجعلَه بدلاً من موضعه، فيكون محلها نصباً، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه.
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة -.
ويجوز أن يكون بدل اشتمال؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها.
قال أبو حيّان: «وهو _ أبو علي - معتزليّ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره، وليس بجيد؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو: عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ، وتقريب هذا المثال: ضرب زيدٌ عائشة، والعُمرانِ حَنِقاً أختك، فحَنقاً، حال من» زيد «و» أختك «بدل من» عائشة «ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز -؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه».
قوله عرف زيد هو نظير «شَهِدَ اللهُ»، وقوله: أنه لا شجاع إلا هو نظير ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ وقوله: وبنو دارم نظير قوله: «وَالْمَلاَئِكَةُ» وقوله: ملاقياً للحروب نظير قوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» وقوله: لا شجاع إلا هو نظير قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله: البطل الحامي نظير قوله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وقوله: إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾.
قال شهابُ الدين: «ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ، حتى يقول: ليس بجيِّد، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني -: إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده».
ثم قال أبو حيّان: «قال الزمخشريُّ: وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والمبدَل هو المبدَل منه في
102
المعنى، فكان بياناً صريحاً؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل» فقال: فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس.
الثالث - من الأوجل -: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» معطوفاً على ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ حذف منه حرف العطف، قاله ابن جرير، وضعفه ابن عطية، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه.
قال أبو حيان: «ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً، وعَمْرو سَمَكاً، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب» خبزاً وسمكاً «.
الرابع: أن يكون معمولاً لقوله: ﴿شَهِدَ الله﴾، أي: شهد الله بأن الدين، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب، أو الجر.
فإن قلت: إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس، وهي كسر»
أنّ «الأولى، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ» وبين معموله كما تقدم، وأما على قراءة فتح «أن» الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج؛ لأن الأولى معمولة له، استغنى بها.
فالجوابُ: أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ لأنه لا إله إلا هو، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ، وقال: «هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي -: إن شئت جعلت» أنه «على الشرط، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، ويكون» إنَّ «الأولى يصلح فيها الخفض، كثولك: شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام».
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه، ومعنى قوله على الشرط، أي: العلة، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع، فهو علة، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين.
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم «الله»، ولكان التركيب: إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق، فالوجه الكناية.
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية، وأنشد: [الخفيف]
103
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم.
الخامس: أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ «الْحَكِيم»، كأنه قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن ف «حَكِيم» مثال مبالغة، مُحَوَّل من فاعل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالغ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَل عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» - مع زيادة المبالغة -؛ لموافقة «الْعَزِيز»، ومعنى المبالغة: تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك، قاله أبو حيّان، ثم قال: فإن قلتَ: لم حَمَلْتَ «الْحَكِيم» على أنه مُحوَّل من «فاعل» إلى فعيل؛ للمبالغة، وهَلاَّ جعلته «فَعِيلا»، بمعنى «مُفْعِل» فيكون معناه «الْمُحكِم» كما قالوا في «أليم» : إنه بمعنى «مُؤْلِم» وفي «سميع» من قول الشاعر: [الوافر]
١٣٧٣ - أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع...............................
أي: المُسْمِع؟
فالجوابُ: أنا لا نسلم أن «فَعِيلا» يأتي بمعنى «مفعل»، وقد يؤول «أليم» و «سميع» على غير «مفعل»، ولئن سلمنا ذلك، فهو من الندور والشذوذ، بحيث لا يَنْقاس، [وأما] «فعيل» محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً، خارج عن الحصر، كعليم، وسميع، وقدير، وخبير، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ، الباقي على سجيته لم يفهم من «حكيم» إلا أنه محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله﴾ [المائدة: ٣٨] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، فقيل له: التلاوة: ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فقال: هكذا يكون، عَزَّ فَحَكَم فقط، ففَهِم من «حكيم» أنه محوَّل - للمبالغة - من «حاكم»، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريج سَهْل، سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾ معمولاً لِ «شَهِدَ» - كما فهموا - وأن ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها، وبين معموله - بل نقول: معمول «شَهِدَ» هو «إنَّهُ» - بالكسر - على تخريج من خرج أن «شَهِدَ» - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول.
أو نقول: إنه معموله، وعلقت، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول: شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ، فتعلق ب «إنَّ» مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت «إنَّ»، فقلت: شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ، فمن قرأ بفتح «أنَّه»، فإنه لم يَنْو
104
التعليقَ، ومن كسر فإنه نوى التعليق، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا.
قال شهاب الدينِ: وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه: «وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ هو معمول» شَهِدَ «ويكون في الكلام اعتراضان:
أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وإذا أعربنا ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات، انظر هذه التعوجيهات البعيدة، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ، وحِفْظِ أشعارِها»
.
قال شهاب الدينِ: «ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة، وعدم معرفتهم بكلام العرب، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح، غير مقبول ولا مُسَلَّم، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم».
قوله: ﴿عِنْدَ الله﴾ ظرف، العامل فيه لفظ «الدِّين» ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: «ولا يكون حالاً؛ لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال».
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال «.
قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال.
قالوا: لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه، ف «إن» للتأكيد، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن «الهاء» التي للتنبيه.
قيل: هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «هاء» ليست بعاملة، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء.

فصل


الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ [النساء: ٩٤]، أي: لمن صار منقاداً
105
لكم، ومتابعاً، والإسلام هو الدخول في السلم، يقال: أسلم، أي: دخل في السلم، كقولهم: أشتى، وأقحط، وأصل السِّلم: السلامة، وقال ابن الأنباري: «المُسْلِم» معناه المخلص لله عبادته، من قولهم: سَلِم الشيء لفلان، أي: خَلصَ، فالإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى «.
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين:
أحدهما: هذه الآية؛ لأن قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل -.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى.
قال القرطبيُّ: الإسلام هو الإيمان، بمعنى التداخل، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال، ومنه قوله - عليه السلام -:»
الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ، وقَوْلٌ باللِّسَان، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ «أخرجه ابن ماجه.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] صريح في أن الإسلام غير الإيمان.
فالجواب: أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن، وتارة في الباطن والظاهر، فالأول هو النفاق، وهو المراد بقوله:»
قَالَتِ الأعْرَابُ «؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمْنا في الظاهر.

فصل


قال قتادة - في قوله تعالى -: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، شهادة ألا إله إلا الله،
106
والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه، لا يقبلُ غيرَه، ولا يَجْزِي إلا به.
روى غالب القطان، قال: أتيتُ الكوفةَ في تجارة، فنزلتُ قريباً من الأعمش، فكنت أختلف إليه، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ، أردت أن أنحدر إلى البصرة، قام من الليل يتهجد، فمرَّ بهذه الآيةِ: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: ١٨] قال الأعمش: وأنا أشهدُ بما شَهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي - عند الله - وديعة، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ - قالها مراراً.
قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فصليْت معه، وودعته، ثم قلت: إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا، فما بلغك؟ قال: واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ، وأقمتُ سنةً، فلمَّا مضت السنةُ، قلتُ: يا أبا محمد، قد مضت السنةُ، فقال: حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ».
قوله تعالى: ﴿وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾.
قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام، أي: وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم.
وقال الربيع: إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل، فاستَوْدَعَهم التوراة، واستخلف يُوشَعَ بن نون، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ، وذلك ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ يعني بيان ما في التوراة، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: طلباً للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرةَ.
قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، معناها: {وَمَا اختلف
107
الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني الإنجيل في أمر عيسى، وفرَّقوا القول فيه: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ بأن الله واحد، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، أي: المعاداة والمخالفة.
وقيل: المراد اليهود والنصارى، واختلافهم هو قولُ اليهودِ: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقول النصارى: المسيح ابنُ الله، وأنكروا نبوة محمد، قالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميُّونَ، ونحن أهل الكتاب.
وقوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ أي: الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين، والعناد على الجمع العظيم لا يصح. [وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب، وهو جمع عظيم.
وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وقال ابن عمر وغيره: أخبر - تعالى - عن] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا.
وفي الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
قوله: «بَغْياً» فيه أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، العامل فيه «اخْتَلَفَ» والاستثناء مُفَرَّغ، والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره، قاله الأخفش، ورجحه أبو علي.
الثاني: أنه مصدر في محل نصب على الحال من «الذين» كأنه قيل: ما اختلفوا إلا في هذه الحال، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً.
الثالث: أنه منصوب على المصدر، والعامل فيه مقدَّر، كأنه لما قيل: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾ دل على معنى: وما بغى، فهو مصدر، قاله الزّجّاجُ، ووقع بعد «إلا» مستثنيان، وهما: «مِنْ بَعْدِ» و «بَغْياً» وقد تقدم تخريج ذلك.
قال الأخفش: قوله: «بَغْياً» من صلة قوله: «اخْتَلَفُوا»، والمعنى: وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي.
قال القفّالُ: وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي.
قوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله﴾ «مَنْ» مبتدأ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني: فعل
108
الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر، أي: سريع الحساب له.

فصل


وهذا تهديد، وفيه وجهان:
الأول: المعنى: فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً، فيحاسبه، أي: يُجازيه على كُفْره.
الثاني: أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره، بإحصاء سريع، مع كَثْرَةِ الأعمال.
109
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ أي: خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، المغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي: انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.
وقال الفرّاءُ: معناه: أخلصت عملي لله.
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه:
أحدها: أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله ﴿الحي القيوم﴾، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله: ﴿شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر -: أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد.
ثانيها: أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم: هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات،
109
ونظيره قوله: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [أل عمران: ٦٤].
وثالثها: قال أبو مسلم: هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام -، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع، فأمر الله تعالى - محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يتبع ملته، بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [النحل: ١٢٣]، ثم أمخر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٩] فقل يا محمد: «أسْلَمْتُ وَجْهِيَ» كقول إبراهيم: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ»، أي: أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له، كأنه قال: فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات.

فصل


فَتَحَ الياءَ من «وَجْهِيَ» - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون.
قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ في محل «مَنْ» وجوه:
أحدها: الرفع؛ عطفاً على التاء في «أسْلَمْتُ»، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية.
قال أبو حيان: «ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو:» أكلت رغيفاً وزيدٌ «لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه، بل المعنى على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه لله، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول» أسْلَمْتُ «والتقدير: ومن اتبعني وجهه، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله]، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: عمرو كذلك، أي: قضى نحبه».
قال شهابُ الدينِ: «إنما صحت المشاركة في نحو: أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة».
110
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف - كما تقدم.
الثالث: أنه منصوب على المعية، والواو بمعنى «مع» أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ.
وقال أبو حيّان: «ومن الجهة التي امتنع عطف» مَنْ «على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون» مَنْ «منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ: أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ» مع «ألبتة».
قال شهابُ الدينِ: «فهم المعنى، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ، وأي مانع من أن المعنى: فقل: أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية».
الرابع: أن محل «مَنْ» الخفض، نسقاً على اسم «الله»، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له.
وقد أثبت الياءَ في «مَنِ اتَّبَعَنِي» نافع، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية، نحو ﴿أَكْرَمَنِ﴾ [الفجر: ١٥] و ﴿أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٦] وعليه قول الأعشى: [المتقارب]
١٣٧٢ - لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا
١٣٧٤ - وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً -: [المتقارب]
١٣٧٥ - وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
قال بعضهم: حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها.
قوله: قال ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب﴾ يعني اليهود والنصارى، والمراد بالأميِّيِّين: مشركو
111
العرب، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.
قوله: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي: أسلموا، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١].
قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته -: هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق».
وقال الزّجّاج: «أأسْلَمْتُم» تهديد.
قال القرطبيُّ: «وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى: أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟».
قوله: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا﴾ دخلت «قد» على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع.
رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسْلَمْنَا، فقال لليهود: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا: معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾، أي: تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية.
والبلاغ: مصدر «بَلَغَ» - بتخفيف عين الفعل -.
قيل: إنها نُسِخَت بالجهاد. ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد.
112
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ:
الأولى قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ﴾ لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله: ﴿فَبَشِّرْهُم﴾، وهذا هو الصحيح، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب «إنَّ» فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير، بل ازداد تأكيداً، وخالف الأخفش،
112
فمنع دخولها من نسخه ب «إنَّ» والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية، وكقوله: ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق﴾ الآية [البروج: ١٠]، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لَكِنَّ» كقوله: [الطويل]
١٣٧٦ - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
وكذلك إذا نُسِخ ب «أنَّ» - المفتوحة - كقوله: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١] أما إذا نُسِخ ب «لَيْتَ»، و «لَعَلَّ» و «كَأنَّ» امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى.

فصل


المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى.
فإن قيل: ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى -، واليهود والنصارى، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ.
الجواب: أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم، ونقول: إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى.
الصفة الثانية: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه: التكثير، وجاء - هنا - ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ منكَّراً، وفي البقرة [بِغَيْرِ الحَقِّ} معرَّفاً قيل: لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ.
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين، مختصين بأعيانهم، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه.

فصل


روى أبو عبيدة بنُ الجراح، قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال: رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا، من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ
113
بالمعروفِ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى.
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم.
فإن قيل: قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقع منهم قتل الأنبياء، ولا الآمرين بالقسط، فكيف يَصِحُّ ذلكظ
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم، راضين بطريقتهم، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن، إذا كان راضياً به.
الثاني: أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقتلَ المؤمنين، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال: النار مُحْرِقةٌ، السَّمُّ قاتل.
فإن قيل: قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق، فما فائدة قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ؟
فالجوابُ تقدم في البقرة، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم.
فإن قيل: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين﴾ ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل، ولا الأكثر، ولا النصف.
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد، لا للاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين﴾ قرأ حمزة «وَيُقَاتِلُونَ» - من المقاتلة - والباقون «وَيَقْتُلُونَ» - كالأول.
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين، وهي موافقة لقراءة عبد الله «وَقَاتَلُوا» - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال، ومعناه: المُضِيّ.
114
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم -: إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً، وقيل: المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح، وبالآخر الإهانة، وإماتة الذكر، فلذلك ذكر كل واحد على حدته، ولولا ذلك لكان التركيبُ: ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ.
قوله: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ إما بيان، وإما للتبعيض، وكلاهما معلوم أنهم من الناس، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد.

فصل


قال القرطبيُّ: «دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة».
قال الحسنُ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ».
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب، قالت: جاء رجل إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو على المنبر - فقال: مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال: «آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأتْقَاهُمْ لله، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ».
قد ورد في النزيل: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف﴾ [التوبة: ٦٧]، ثم قال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [التوبة: ٧١].
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه، ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا، عالماً، اميناً، ويأمره بذلك، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ، كما قال تعالى:
﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ [الحج: ٤١].

فصل


قال الحسنُ: هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
115
بمِنًى - فقال: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام: «أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ».
قال ابن جريج: كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم، فيذكرون قومَهم، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
قوله: ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ﴾ قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن «حَبَطَتْ» بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي: بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يَدْفَعُونَ عَنْهُم.
116
قوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ ﴾ قرأ ابنُ عباس٨ وأبو عبد الرحمن " حَبَطَتْ " بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ يَدْفَعُونَ عَنْهُم.
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ [آل عمران: ٢٠] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك، لقوله تعالى: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى.

فصل


في سبب النزول وجوهٍ:
أحدها: رَوَى ابنُ عباس: أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال - عليه السلام - «بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ، فمَنْ أعْلَمُكم» ؟ قالوا: رجل أعور يسكن فَدك، يقال له: ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت ابن صُوريا» ؟ قال: نَعَمْ، قال: «
116
أنت أعلمُ اليهودِ» ؟ قال: كذلك يَزْعُمُونَ، قال: «فأحْضِروا التوراةَ»، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابنُ سَلاَم: قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهما فرُجِمَا، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثانيها: روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا: إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه»، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثالثها: أن علامة بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مذكورةٌ في التوراةِ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم، فأبَوْا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ، ولذلك قال: ﴿فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه، ولَمَا ستروا ذلك.
رابعها: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت موجودة في التوراة والإنجيل.
وقوله: ﴿نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ أي: من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره، فهم قد أوتوا كل الكتاب، والمراد بذلك العلماء منهم، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه.
قوله: «يُدْعَوْنَ» في محل نَصْب على الحال من ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾.
قوله: «إلَى كِتَابِ اللهِ» قال أكثرُ المفسرين: هو التوراة؛ لوجوهٍ:
أحدها: ما ذكرنا في سبب النزول.
ثانيها: أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.
ثالثها: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق.
117
قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ: هو القرآن.
روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى، فأعرضوا عنه، وقال تعالى: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨].
فإن قيل: كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟
فالجواب: أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله.
قوله: «ليحكم» متعلق ب «يدعون». وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور.
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري «لِيُحْكَمَ» - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف، أي: ليقع الحكمُ بينهم.
قال الزمخشريُّ: قوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿ثُمَّ يتولى﴾ عطف على «يُدْعَوْنَ» و «مِنْهُمُ» صفة ل «فَرِيقٌ»، وقوله: ﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من «فَرِيقٌ»، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ] والإعراض عما دعا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ: «فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج».
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، لا محل لها، أخبر عنهم بذلك، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم.
118
قوله: «ذَلِكَ» فيها وجهان:
أصحهما: أنها مبتدأ، والجار بعده خبره، اي: ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ، التي لا حقيقةَ لها.
118
والثاني: ان «ذَلِكَ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، اي: الأمر ذلك، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله: «بأنَّهُمْ» متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -.
وقال أبو البقاء: فعلى هذا يكون قوله «بأنَّهُمْ» في موضع نَصْب على الحال بما في «ذَا» من معنى الإشارة، أي: ذلك الأمر مستحقاً بقولهم، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ».
قلت: بل لا يجوز ألبتة.
وجاء - هنا - «مَعْدُودَاتٍ»، بصيغة الجمع - وفي البقرة «مَعْدُودَةً»، تفنُّناً في البلاغة، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى، فيقال: هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت: راسياتٌ -، وجمال ماشية، وإن شئت: ماشيات.
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا: فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم، وزجر من يعمل بعملهم.

فصل


قال الجبائيُّ: «هذه الآية فيها [دلالة] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول: إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً، ولما استحق الذمَّ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [قول] باطل».
قال ابن الخطيبِ: «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ، جائز من الله، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك، لكن لِمَ قلتم: إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر:
الأول: لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون: إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام، ومنهم من قال: لا، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل -.
الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، ويقولون: بتقدير وقوع الخطأ منا، فإنَّ عذابنا قليل، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر، والكافر عذابه دائم.
الثالث: أنهم لما قالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ استحقروا تكذيبَ محمد -
119
عليه السلام -، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف».
قوله: ﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ﴾ الغُرور: الخِدَاع، يقال منه: غَرًَّهُ، يَغُرُّهُ، غُرُوراً، فهو غَارٌّ، ومغرور.
والغَرُور: - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب.
والغِرُّ: الصغير، والغِرِّيرَة: الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان، والغِرَّة: مأخوذة من هذا، قال: أخذه على غِرَّة، أي: تغفُّل وخداعِ، والغُرَّة: بياض في الوجه، يقال منه: وَجْهٌ أغَرُّ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء.
والجمع القياسي: غُرٌّ، وغير القياسي غُرَّانُ.
قال: [الطويل]
١٣٧٧ - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه، وفي الحديث: «وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، عَبْداً أوُ أمَةً».
قيل: الغُرًَّة: الخِيار، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق، كأنه أخَذَه من الغُرَّة، وهو البياض في الوَجْه.
قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ «ما» يجوز أن تكون مصدريةً، أو بمعنى «الذي»، والعائد محذوف أي: الذي كانوا يفترونه.
قيل هو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
وقيل: هو قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
قوله: «فَكَيْفَ إذا» «كَيْفَ» منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره: كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها.
120
وقدّر بعضهم الفعل، فقال: كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان» ]، فكيف على ما تقدم من الوجهين.
ويجوز أن تكون «كيف» خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالُهم؟
قوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في «إذَا» الاستقرار العامل في «كَيْفَ» ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي: كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع «كيف»، لدلالته عليها، تقول: كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي: كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية -.
قوله: «لِيَوْمٍ» متعلق ب «جَمَعْنَاهُمْ» أي: لقضاء يوم، أو لجزاء يوم.
فإن قيل: لِمَ قال: «لِيَوْمٍ» ولم يقل: في «يَوْمٍ».
فالجوابُ: ما ذكرناه من أنّ المرادَ: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ: اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ: جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى: جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً.
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة.
وقال الكسائيُّ: اللام بمعنى «في».
«لا ريب فيه» صفة للظرف.
قوله: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ إن حَمَلْتَ «مَا كَسَبَتْ» على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير: ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت «مَا كَسَبَتْ» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم.

فصل


استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في
121
النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يُعاقَبَ في النار، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟
فالجوابُ: أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [سبعين] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر.
وكان يحيى بن معاذ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟
122
قوله :" فَكَيْفَ إذا " " كَيْفَ " منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره : كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في " كيف " الوجهان المتقدمان في قوله :" كَيْفَ تَكْفُرُونَ٥ " من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون " كيف " خبرها.
وقدّر بعضهم الفعل، فقال : كيف يصنعون ؟ [ فإن أراد " كان " التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر " كان٦ " ]، فكيف على ما تقدم من الوجهين.
ويجوز أن تكون " كيف " خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره : فكيف حالُهم ؟
قوله :﴿ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ ﴾ " إذا " ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل في " كَيْفَ " ؛ إن قلنا : إنها منصوبة بفعل مقدَّر كما تقدم تقريره - وإن قُلْنَا : إنها خبر لمبتدأ مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في " إذَا " الاستقرار العامل في " كَيْفَ " ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا : إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي : كيف حالهم في وقت جمعهم ؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع " كيف "، لدلالته عليها، تقول : كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني ؟ أي : كيف حاله إذا زارني ؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية-.
قوله :" لِيَوْمٍ " متعلق ب " جَمَعْنَاهُمْ " أي : لقضاء يوم، أو لجزاء يوم.
فإن قيل : لِمَ قال :" لِيَوْمٍ " ولم يقل : في " يَوْمٍ ".
فالجوابُ : ما ذكرناه من أنّ المرادَ : لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ : اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ : جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى : جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت : جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً.
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة.
وقال الكسائيُّ : اللام بمعنى " في ".
" لا ريب فيه " صفة للظرف.
قوله :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ إن حَمَلْتَ " مَا كَسَبَتْ " على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير : ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت " مَا كَسَبَتْ " على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم.

فصل


استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في النار ؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ ؛ لقوله تعالى :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يُعاقَبَ في النار، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات.
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يُقال : إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم ؟
فالجوابُ : أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال ؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [ سبعين ] ٧ سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر.
وكان يحيى بن معاذ - رحمه الله - يقول : ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة ؟
لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ، وصحة دينِ الإسلام، وذكر صفاتِ المخالفين، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين.
قوله: «اللَّهُمَّ» اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ.
قال البصريون: الأصل: يا الله، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من «يا» بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر، كقوله: [الرجز]
122
وقَوْلِ الآخر: [الرجز]
١٣٧٩ - إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا... أقُولُ: يَا اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون: الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ، تقديره: أمَّنَا بخير، أي: اقْصِدنا به، من قولك: أمَمْتُ زيداً، أي: قصدته، ومنه: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ [المائدة: ٢] أي: قاصديه، وعلى هذا فالجمع بين «يا» والميم ليس بضرورةٍ عندهم، وليست عوضاً منها.
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ: اللهمَّ أمَّنا بخير، وقال تعالى: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفالِ: ٣٢] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به، فلو كانت الميمُ بقيةَ «أمَّنَا» لفسد المعنى، فبان بُطْلانهُ.
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ، فلا يجوز أن يقع في غيره، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً، أنشد الفرّاء: [مخلّع البسيط]
١٣٧٨ - وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
١٣٨٠ - كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله: يسمعها.
ولا يجوز تخفيفُ الميم، وجوَّزه الفراء، وأنشد البيت: بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك.
قال بعضهم: هذا خطأ فاحشٌ، وذلك لأن الميم بقية «أمَّنَا» - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك، بل الرواية: [مخلّع البسيط]
١٣٨١ -..................................... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ: «وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك».
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل: يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل، كما قالوا - في وَيلمِّهِ -: وَيْلٌ لأمِّهِ.
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول: يا اللهم، ولما لم يَجُزْ
123
ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ، بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال: يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك -؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن «ما أكرمه» معناه: شيء أكرمه، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب، فكذا هنا.
وأجاب عن الرد الثاني بقوله: مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال: يا اللهمَّ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللهمّ، وقول البصريين: هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن.
وقولهم: كان يلزم ذكر حرف النداء، فقد يُحْذَف حرف النداءِ، كقوله: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ [يوسف: ٤٦] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف.
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه:
أحدها: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال: الله يا، وهذا لا يجوز ألبتة.
ثانيها: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ، فيقال: زيدُمَّ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد، يا بَكر.
ثالثها: لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه.
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم: لا هُمَّ - أي: اللهم.
قال الشاعرُ: [الراجز]
١٣٨٢ - لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
وقال آخرُ: [الرجز]
١٣٨٣ - لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا
قوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من «اللَّهُمَّ».
124
الثاني: أنه عطف بيان.
الثالث: أنه منادًى ثانٍ، حُذِف منه حرف النداء، أي: يا مالكَ الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ.
الرابع: أنه نعت ل «اللَّهُمَّ» على الموضع، فلذلك نُصِبَ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء، وأجاز المبرّدُ ذلك، واختارَه الزّجّاج، قالا: لأن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع «يا».
وانتصر الفارسيّ لسيبويه، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد «اللَّهُمَّ»، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات، وجب أن لا يُوصف. والأسماء المناداة، المفردة، المعرفة، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف، فأما قوله: [الرجز]
١٣٨٤ - يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ... [وقوله] :[الرجز]
١٣٨٥ - يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وقوله: [الوافر]
١٣٨٦ - فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا
فإن الأول على أنت.
والثاني على نداء ثانٍ
والثالث: على إضمار أعني.
125
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا، كان «اللهم» أولى أن لا يوصَف، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ، فحقه أن لا يوصَف، كما لا يوصَف حيَّهَلْ.
قال شهابُ الدينِ: «هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه، وإن كان لا ينتهض مانعاً».
قوله: تُؤتِي «هذه الجملة، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً، مبينة لقوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ ويجوز أن تكون حالاً من المنادى.
وي انتصاب الحال من المنادى خلاف، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة: [البسيط]
١٣٨ - يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ
»
بالعلياء «حالاً من» دار مية «، وكذلك» أقوت «.
والثالث من وجوه»
تُؤتِي «: أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر، أي: أنت تؤتي، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالية.
قوله:»
تشاء «أي: تشاء إيتاءَه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به، والنزع: الجذب، يقال: نَزَعَه، ينزعه، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل، ومنه: نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها، ويعبر به عن الإزالة، يقال نزع الله عنك الشر - أي: أزاله - ومنه قوله تعالى: ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٧] ومثله هذه الآية، فإن المعنى وتُزيل الملك.

فصل في بيان سبب النزول


في سبب النزول وجوهٍ:
أحدها: قال ابن عباس وأنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهاتَ، هيهاتَ، من أين لمحمد ملك فارس والروم -
126
وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك -! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وثانيها: روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ.
فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر، وكبر المسلمون، وقال عليه السلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، ثم ضرب الثالثة فقال: أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا»، فقال المنافقون: ألا تعجبوا من نبيكم، يَعِدُكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا، فنزلت هذه الآية.
وثالثها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم، ويردَّ ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم.
وقيل: نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ، في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها.
قال ابن إسحاق: أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم، وأن عيسى -
127
عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ إلى قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

فصل


قوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ أي: مالك العباد وما ملكوا.
وقيل: مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه -: «أَنَا اللهُ، مالك الملك وملك الملوك، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم».

فصل


قال الزمخشريُّ: «مالك الملك، أي: يملك جنس الملك، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون».
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي: «تُؤتِي الْمُلْكَ» يعني النبوَّة والرسالة، كما قال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: ٥٤]، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ.
فإن قيل: قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا، وذلك لا يجوزُ.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال: إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَحّ أن يُقَالَ: إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب.
الثاني: أن يكون المراد من قوله: ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾، أي: تحرمهم، ولا
128
تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [البقرة: ٢٥٧] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ.
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام -: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: ٨٨] وقول الأنبياء: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا﴾ [الأعراف: ٨٩] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط -.
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ:
إحداها: الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً.
الثانية: الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا: إن محمداً فقير ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١].
الثالثة: اليهود الذين قالوا: إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة.
الرابعة: المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤].
وقيل: المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء:
أحدها: كثرة المال والجاه.
الثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه.
الثالث: أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع.
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.
وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى.

فصل


قال الكعبيُّ: قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾، أي: بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى:
﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤] وقوله - في العبد الصالح -: ﴿إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾ [البقرة: ٢٤٧] فجعله سبباً للملك.
129
وقال الجبائيُّ: هذا الملك مختص بملوك العَدْل، فأما ملوك الظلم، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه، ومنعهم من ذلك، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ: وأما الظالمون فلا، قالوا: ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه، وأمره بأن يرده على مالكه، فكذا ههنا.
قالوا: وأما النزعُ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين، ونزع الملك يكون بوجوه:
منها: بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدرة، والحواسّ.
ومنها: بورود الهلاكِ، والتلف على الأموال.
ومنها: أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل، ويؤتيه القُوة، والنُّصرة عليه، فيقهره، ويسلب ملكه، فيجوز أن يُضاف هذا السلب، والنزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ، على يد الرسول - عليه السلام.
فالجوابُ: أن تقول: حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل، وذلك يقتضي نفي الصانع، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة، فلم يبق إلا أن يقال: بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً، والقلوب تميل إليه، والنصر قريب له، والظفر جليس معه، وأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله.
ولذلك قال بعض الشعراءِ: [الكامل]
١٣٨٨ - لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وقيل: قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ محمول على جميع أنواع الملكِ، فيدخل فيه ملك النبوةِ، وملكُ العلمِ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ، وملكُ البقاءِ
130
والقدرةِ، وملك محبة القلوبِ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام، فلا يجوز التخصيص من غير دليل.
وقال الكلبيُّ: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ العرب، ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ أبا جهل وصناديد قريش.
وقيل: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ آدم وولده، ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ من إبليس وجنده.
قوله: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾.
قال عطاء: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ المهاجرين والأنصار، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ فارس والروم.
وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ محمداً وأصحابه، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ أبا جهل وأصحابه، حين حُزَّت رؤوسُهم، وألْقُوا في القليب.
وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالإيمان والهداية، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالكفر والضلالة.
وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالطاعة، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالمعصيةِ.
وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالنصر، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالقهرِ.
﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالغنى، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالفقرِ.
﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالقناعة والرِّضا، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالحرص والطمع.
قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ في الكلام حذف معطوف، تقديرُهُ: والشَّرُّ، كقَوْلِهِ تَعَالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، أي: وَالبَرْدَ.
وكَقَوْلِهِ: [الطويل]
١٣٨٩ - كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
أي ويدها.
قال الزمَخْشَريُّ: «فَإن قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ:» بِيَدِكَ الْخَيْرُ «دُونَ الشَّرِّ؟
قلت: لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ.
فقال: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ»
.
131
وقيل: خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ.
وقيل: هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه، وَمِثْلُه: «والشر ليس إليك»، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠].

فصل


الألف وَاللامُ فِي «الْخَيْرِ» يُوجِبَانِ العُمُوم، وَالْمَعْنَى: [أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ] بقدرتك، فَقولُهُ: «بِيَدِكَ» لاَ بِيَدِ غَيْركَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦]، أي: لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ.
وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى.
فإن قيل: هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ كان معناه: ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده.
فالجوابُ: أن قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير، وبيده ما سوى الخيرِ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى.
قال القاضي: «كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه، وهداهم إليه، لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى».
قال ابن الخطيبِ: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وهذا خلافُ النص».
وقوله: ﴿إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه، والإعزار، والإذلال.
قوله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار﴾ يقال: وَلَجَ، يَلِجُ، وُلُوجاً، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك «وَعْدًا»، واتَّلَجَ، يتَّلِجُ، اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلج، يَوْتَلِجُ، اوتِلاَجاً، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال، نحو: اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً.
132
قال الشاعر: [الطويل]
١٣٩٠ - فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ
الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك.
وقول من قال: معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيءٍ.
وقيل: المعنى: أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار -، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر.
قال ابن الخطيب: «والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل، كان ما نقص منه زيادة في الآخر».
قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ اختلف القراء في لفظة «الْمَيِّتِ» فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ «الْمَيْتِ» من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً، في جميع القرآن، سواء وصف به الحيوان نحو: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [آل عمران: ٢٧] أو الجماد نحو: ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ [فاطر: ٩]- مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، وقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧]- في إبراهيم - مما لم يمت بعد، فإن الكل ثقلوه، وكذلك لفظ «الميتة» في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة﴾ [يس: ٣٣] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله: ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾
[الأنعام: ١٣٩]، وقوله: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ [الزخرف: ١١]، وقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة﴾ [الأنعام: ١٤٥] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وفي الحجرات: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا﴾ [الحجرات: ١٢]، وفي يس: ﴿الأرض الميتة﴾ [يس: ٣٣]، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح، وهما بمعنًى؛ لأن «فَيْعِل» يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه، فيقال: هَيْن وهيِّن، لَيْن وليِّن، ميْت وميِّت، وقد جمع
133
الشاعر بين اللغتين في قوله: [الخفيف]
١٣٩١ - لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ
وزعم بعضهم أن «ميتاً» بالتخفيف - لمن وقع به الموت، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ، كقولهً - تعالى -: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله: ﴿الميتة والدم﴾ ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ [الأنعام: ١٣٩] ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة﴾، وقوله: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ [الزخرف: ١١].
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل «ميِّت» مَيْوِت، فأدغم، وفي وزنه خلاف، هل وزنه «فَيْعِل» - وهو مذهب البصريين - أو «فَعْيِل» - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ، قالوا: لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه، وأجاب البصريون عن قولهم: لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح، ويدل على عَدم التلازم «قُضاة» جمع قاضٍ وفي «قضاة» خلاف طويل ليس هذا موضعه.
واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه «فَعْيِلاً» لوجب أن يصح، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو: طويل، وعويل، وقويم، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله «فَعْيِل» لمخالفة نظائره، وهو ردٌّ حسنٌ.

فصل


قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة -
134
وهي ميتة - والطير من البيضة، وبالعكس.
وقال الحسنُ وعطاء: يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح.
وقال الزَّجَّاج: يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات، قال القفّال: «والكلمة محتملة للكل.
أما الحيوان والنطفة فقال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨].
والكافر والمؤمن فقال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، أي: كافراً فهديناه»
.
قال القرطبيُّ: روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، قال: مَنْ هذه؟ قلن: إحدى خالاتك، قال: ومَنْ هِي؟ قلن: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«سبحان الذي يخرج الحي من الميت».
وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً.
وأما النبات والحب فقال تعالى: ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: ٩].
قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل، أي: ترزقه وأنت لم تحاسبه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول، أي: غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع:
منها: التجنيس المماثل في قوله تعالى: ﴿مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك﴾.
135
ومنها: الطباق، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله: «تُؤتي» وتَنْزعُ «وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ أي: والشَّرُّ - عند بعضهم -، وفي قوله:» اللَّيْل «و» النَّهَار «و» الحيّ «و» الميّت «.
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ، والصدورِ على الأعجاز في قوله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾، وفي قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ.
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه، والحذف لفهم المعنى.

فصل


قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: بمعنى التعبِ، قال تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
الثاني: بمعنى العدد، كقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠] أي: بغير عَددٍ.
الثالث: بمعنى المطالبة، قال تعالى: ﴿فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: ٣٩] [أي: بغير مطالبة.

فصل


عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
إنَّ فاتحةَ الكتابِ، وآية الكرسي، وآيتين من آل عمرانَ - وهما ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ [آل عمران: ١٨ - ١٩]، ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ مُعلَّقاتٌ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ، قُلْنَ: يا ربِّ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ، ونصرتُه منهم «.
136
قوله :﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ ﴾ يقال : وَلَجَ، يَلِجُ، وُلُوجاً، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك " وَعْدًا "، واتَّلَجَ، يتَّلِجُ، اتِّلاجاً، والأصل : اوْتَلج، يَوْتَلِجُ، اوتِلاَجاً، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال، نحو : اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً.
قال الشاعر :[ الطويل ]
فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ٢١
الولوج : الدخول، والإيلاج : الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك.
وقول من قال : معناه النقص فإنما أراد اللازم ؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع، وأن " في " بمعنى " على " وليس بشيءٍ.
وقيل : المعنى : أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار -، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر.
قال ابن الخطيب :" والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل، كان ما نقص منه زيادة في الآخر ".
قوله :﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ اختلف القراء في لفظة " الْمَيِّتِ " فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم٢٢ لفظ " الْمَيْتِ " من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً، في جميع القرآن، سواء وصف به الحيوان نحو :﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ [ آل عمران : ٢٧ ] أو الجماد نحو :﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ [ فاطر : ٩ ] - مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ]، وقوله :﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّت ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ] - في إبراهيم - مما لم يمت بعد، فإن الكل ثقلوه، وكذلك لفظ " الميتة " في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ ﴾
[ يس : ٣٣ ] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله :﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ]، وقوله :﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ [ الزخرف : ١١ ]، وقوله :﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، وفي الحجرات :
﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا ﴾ [ الحجرات : ١٢ ]، وفي يس :﴿ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ ﴾ [ يس : ٣٣ ]، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجمعوا بين اللغتين ؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح، وهما بمعنًى ؛ لأن " فَيْعِل " يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه، فيقال : هَيْن وهيِّن، لَيْن وليِّن، ميْت وميِّت، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله :[ الخفيف ]
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ٢٣
وزعم بعضهم أن " ميتاً " بالتخفيف - لمن وقع به الموت، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ، كقولهً – تعالى- :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ]، وهذا مردودٌ بما تقدم من قراءة الأخوين، وحفص ؛ حيث خففوا في موضع لا يمكن أن يُراد به الموت، وهو قوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] ؛ إذ المراد الكفر - مجازاً - هذا بالنسبة إلى القراء، وإن شئت ضَبَطته باعتبار لفظ " الميت " فقلت : هذا اللفظ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثة أقسام :
اسم لا خلاف في تثقيله - وهو ما لم يَمُتْ - نحو :﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ]، و﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ].
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله :﴿ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ﴾. ﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ] ﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة ﴾، وقوله :﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ [ الزخرف : ١١ ].
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل " ميِّت " مَيْوِت، فأدغم، وفي وزنه خلاف، هل وزنه " فَيْعِل " - وهو مذهب البصريين - أو " فَعْيِل " - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ، قالوا : لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح ؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه، وأجاب البصريون عن قولهم : لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح، ويدل على عَدم التلازم " قُضاة " جمع قاضٍ وفي " قضاة " خلاف طويل ليس هذا موضعه.
واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه " فَعْيِلاً " لوجب أن يصح، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو : طويل، وعويل، وقويم، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله " فَعْيِل " لمخالفة نظائره، وهو ردٌّ حسنٌ.

فصل


قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - وهي ميتة - والطير من البيضة، وبالعكس ٢٤.
وقال الحسنُ وعطاء : يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح ٢٥.
وقال الزَّجَّاج : يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات، قال القفّال :" والكلمة٢٦ محتملة للكل.
أما الحيوان والنطفة فقال تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ].
وأما الكافر والمؤمن فقال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، أي : كافراً فهديناه ".
قال القرطبيُّ : روى معمر عن الزهريِّ " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، قال : مَنْ هذه ؟ قلن : إحدى خالاتك، قال : ومَنْ هِي ؟ قلن : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبحان الذي يخرج الحي من الميت " ٢٧.
وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً.
وأما النبات والحب فقال تعالى :﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ فاطر : ٩ ].
قوله :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل، أي : ترزقه وأنت لم تحاسبه، أي : لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول، أي : غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة :﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع :
منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى :﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ ﴾.
ومنها : الطباق، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله :" تُؤتي " و " تَنْزعُ " وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله :﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ أي : والشَّرُّ - عند بعضهم -، وفي قوله :" اللَّيْل " و " النَّهَار " و " الحيّ " و " الميّت ".
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ، والصدورِ على الأعجاز في قوله :﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ ﴾، وفي قوله :﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ.
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله :﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه، والحذف لفهم المعنى.

فصل


قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى التعبِ، قال تعالى :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب ﴾
الثاني : بمعنى العدد، كقوله :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ] أي : بغير عَددٍ.
الثالث : بمعنى المطالبة، قال تعالى :﴿ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ ص : ٣٩ ] [ أي : بغير مطالبة ٢٨.

فصل


عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ فاتحةَ الكتابِ، وآية الكرسي، وآيتين من آل عمرانَ - وهما ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾، ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ مُعلَّقاتٌ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ، قُلْنَ : يا ربِّ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك، وإلى مَنْ يَعْصِيك ؟ قال الله - عز وجل - : إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ، ونصرتُه منهم " ٢٩.
العامة على قراءة «لا يَتَّخِذْ» نَهْياً، وقرأ الضَّبِّيُّ «لا يَتَّخِذُ» برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ [البقرة: ٢٣٣] و ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢]- فيمن رفع الراء.
قال أبو البقاء وغيره: «وأجاز الكسائيُّ فيه [رفع الراء] على الخبر، والمعنى: لا ينبغي».
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء، فإنه قال: «ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ جاز».
قال أبو إسحاق: ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره، فهو كافر].
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي، أو لم تثبت عندهما.
و «يتخذ» يجوز أن يكون متعدياً لواحد، فيكون «أوْلِيَاءَ» حالاً، وأن يكون متعدياً لاثنين، وأولياء هو الثاني.
قوله: ﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أن «مِن» لابتداء الغايةِ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ.
قال علي بن عيسى: «أي: لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين».
وقد تقدم تحقيقُ هذا، عند قوله تعالى: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله﴾ في البقرة [الآية ٢٣].
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب، صفة لِ «أوْلِيَاءَ» فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة.
قوله: ﴿مِنَ الله﴾ الظاهر أنه في محل نصب على الحال من «شَيءٍ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
137
«فِي شَيءٍ» هو خبر «لَيْسَ» ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ، والتقدير: فليس في شيء كائن من الله، ولا بد من حذف مضافٍ، أي: فليس من ولاية الله.
وقيل: من دين الله، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ: [الوافر]
١٣٩٢ - إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني
قال ابو حيّان: «والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن» منك «و» مني «خبر» لَيْسَ «وتستقل به الفائدةُ، وفي الآية الخبر قوله:» فِي شَيءٍ «فليس البيتُ كالآيةِ».
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم، فقال: فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ، تقديره: فليس من التقرب إلى الله والثواب، وقوله: «فِي شَيءٍ» هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله: ﴿فَلَيْسَ مِنَ الله﴾.
قال أبو حيّان: «وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره:» فليس من التقرُّب إلى الله «يقتضي أن لا يكون» مِنَ اللهِ «خبراً لِ» لَيْسَ «؛ إذْ لا يستقل، وقوله:» فِي شَيءٍ «هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى» ليس «- على قوله - ليس لها خبر، وذلك لا يجوز، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من غشنا فليس منا «ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة، وبين الآية الكريمةِ».
قال شهاب الدين: «وقد يجاب عن قوله: إن» مِنَ اللهِ «لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ» لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى -، وكذا قول ابن عطية: فليس من التقرُّب، أي: من أهل التقرب، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية، والحديث، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما
138
ذكر، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: ٣٦]، أي: من أشياعي وأتباعي، وكذا قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩] أي: من أشياعي وقول العرب: أنت مني فرسخين، أي: من أشياعي ما سرنا فرسخين، ويجوز أن يكون «مِنَ اللهِ» هو خبر «ليس» و «فِي شيءٍ» يكون حالاً منالضمير في «لَيْسَ» - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيره إيماءً، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب «.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ﴾ هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله، والعامل فيه»
لا يَتَّخِذْ «أي: لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً، أي: يكون مواليه في الظاهر، ومعاديه في الباطن، وعلى هذا فقوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ﴾ التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك.
قوله: ﴿تُقَاةً﴾ في نصبها ثلاثة أوجهٍ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير»
تُقَاةً «ما هي؟
أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والتقدير: تتقوا منهم اتِّقَاءً، ف»
تُقَاة «واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ، كقوله:
﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] والأصل إنباتاً.
ومثله قول الشاعر: [الوافر]
١٣٩٣ -................................. وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا
أي: اعطائك، ومن ذلك - أيضاً - قوله: [الوافر]
١٣٩٤ -................................. وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا
139
وقول الآخر: [الوافر]
١٣٩٥ - وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا
وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: ٨].
وقول الآخر: [الرجز أو السريع]
١٣٩٦ - وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ... والأصل: تَطَوِّيَّا، والأصل في «تُقَاةً» وقية مصدر على فُعَل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فصار اللفظ «تقاة» كما ترى بوزن «فعلة» ومجيء المصدر على «فُعَل» و «فُعَلَة» قليل، نحو: التخمة، والتؤدة، والتهمة والتكأة، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها.
قيل: وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم، نحو: تقى يتقى.
ومنه قوله: [الطويل]
١٣٩٧ -................................. تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة.
الثاني: أنها منصوبة على المفعول به، وذلك على أن «تَتَّقُوا» بمعنى تخافوا، وتكون «تُقَاةً» مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ، فإنه قال: «إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه».
وقُرِئَ «تَقِيَّةً» وقيل - للمتقى -: تُقَاة، وتقية، كقولهم: ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ: إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى.
140
الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحب الحال فاعل «تَتَّقُوا» وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها، كقوله: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣]، وقوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] وهو - على هذا - جمع فاعل، - وإن لم يُلْفَظْ ب «فاعل» من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة، نحو: رَامٍ ورُمَاة، وغَازٍ وغُزَاة، لأن «فُعَلَة» يطَّرد جمعاً لِ «فاعل» الوصف، المعتل اللام.
وقيل: بل لعله جمع ل «فَعِيل» أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي.
قال شهاب الدينِ: «جمع فعيل على» فُعَلَة «لا يجوز، فإن» فَعِيلاً «الوصف المعتل اللام يجمع على» أفعلاء «نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتَقِيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأصفياء.
فإن قيل: قد جاء»
فعيل «الوصف مجموعاً على» فَُلَة «قالوا: كَمِيّ وكُمَاة.
فالجواب: أنه من النادر، بحيثُ لا يُقاس عليه «.
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة، يقال: اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى، فيجيء مصدر»
افْتَعَل «من هذه المادة على الافتعال، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ، ويقال - أيضاً -: تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
وأمال الأخوانِ»
تُقَاةً «هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب، وطالب، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر، وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يؤثر مع السبب الظاهر، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى.
والجوابُ: أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي - وحده - ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] فخرج حمزة عن
141
أصله، وكأن الفرق أن» تُقَاةً «- هذه - رُسِمَتْ بالياء، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قال بعضهم:» تَقِيَّة «- بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم، بخلاف» تُقَاتِهِ «.
قال شهاب الدين: [وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُه، نحو: رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ.
وقوله:»
مِنْهُمْ «متعلق ب» تَتَّقُوا «أو بمحذوف على أنه حال من» تُقَاةً «؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً، هذا إذا لم نجعل» تُقَاةً «حالاً، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق» مِنْهُمْ «بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من» تُقَاةً «لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين.

فصل في كيفية النظم


في كيفية النظمِ وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، فقال: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾.
والثاني: أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه -.

فصل


في سبب النزول وجوه:
أحدها: قال ابن عبّاسٍ: كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [قد بطنوا] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ، فنزلت هذه الآية.
وثانيها: قال مقاتلٌ: نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها.
142
ثالثها: قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس -: نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - ك انوا يتولَّون اليهودَ والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية.
ورابعها: أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال: يا رسول الله، معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين.
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى، منها قوله تعالى: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨]، وقوله: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] وقوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ [المائدة: ٥١] وقوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ [الممتحنة: ١]، وقوله: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١].

فصل


موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ.
الأول: أن يَرْضَى بكفره، ويُصَوِّبَه، ويواليَه لأجْلِه، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له.
الثاني: المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
الثالث: الموالاة، بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والنُّصْرة، إما بسبب القرابة، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه، والرِّضَى بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ﴾.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم، وتولَّوُا المؤمنين معهم، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه، وأيضاً فقوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ﴾ فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره، ولا يتخذه موالياً له، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟
فالجوابُ: أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ.

فصل


معنى قوله: ﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ أي: من غير المؤمنين، كقوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن
143
دُونِ الله} [البقرة: ٢٣]، أي: من غير الله؛ لأن لفظة «دون» تختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو، أي: في مكان أسفلَ منه، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان، فهو مغاير له، فجعل لفظ «دون» مستعملاً في معنى «غير»، ثم قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ﴾ يقع عليه اسم الولاية أي: فليس من ولاية الله في شيءٍ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان.
قال الشاعر: [الطويل]
١٣٩٨ - تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً، من جملته: وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ. وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون اله في شيء.
ثم قال: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة، قال الحسنُ: أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لأحدهما: تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه، ودعا الآخر قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، ثلاثاً - فقدمه، فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله، فقال: أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ [النحل: ١٠٦].

فصل


التَّقِيَّة لها أحكامٌ:
منها: أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافَه، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر، لا في أحوال القلوبِ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ.
ومنها: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه، أما ما يرجع ضرره إلى
144
الغير كالقتلِ، والزنا، وغصب الأموالِ، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين، فلا تجوز البتة.
ومنها: أنها تحل مع الكفار الغالبين، وقال بعض العلماء: إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ»، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فهاهنا أوْلَى.

فصل


قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ: كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وروي عن الحسنِ أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ.
قال ابن الخطيبِ: «وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان».
وقال يحيى البِكَالِيّ: قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ -: إن الحسنَ كان يقول: لكم التقية باللسان، والقلب مطمئن، فقال سعيد بن جبيرٍ: ليس في الإسلام تَقِيَّة، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب.
قوله: ﴿وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ﴾، «نَفْسَهُ» مفعول ثان ل «يُحَذِّرُ» ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد، فازداد بالتضعيف آخر، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي: عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه، كذا نقله أبو البقاء عنهم.
قال الزّجّاج: «أي: ويحذركم الله إياه، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا، وصار المستعملَ، قال تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك».
قال شهابُ الدينِ: «وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ، ألا ترى إلى
145
غير ما نحن فيه - في نحو قولك: حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها».
قال أبو مسلم: «والمعنى ﴿وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ أن تعصوه، فتستحقوا عقابه».
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب، كما قال الأعشى: [الكامل]
١٣٩٩ - يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا
قال بعضهم: «الهاء في» نَفْسَهُ «تعود على المصدر المفهوم من قوله:» لاَ يَتَّخِذ «، أي: ويحذركم الله نفس الاتخاذ، والنفس: عبارة عن وجود الشيء وذاته».
قال أبو العباس المُقْرِئُ: ورد لفظ «النفس» في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى العلم بالشيء، والشهادة، كقوله: ﴿وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ﴾، يعني علمه فيكم، وشهادته عليكم.
الثاني: بمعنى البدن، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ [آل عمران: ١٨٥].
الثالث: بمعنى الهَوَى، كقوله: ﴿إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾ [يوسف: ٥٣] يعني الهَوَى.
الرابع: بمعنى الروحِ، قال تعالى: ﴿أخرجوا أَنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: ٩٣]، أي: أرواحكم.

فصل


المعنى: يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور.
والفائدة في ذكر النفس: أنه لو قال: ويحذركم الله، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد، ثم قال: ﴿وإلى الله المصير﴾، أي: يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه.
146
لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه
146
بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية -؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن.
فإن قيل: قوله: ﴿إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ شرط، وقوله: ﴿يَعْلَمْهُ الله﴾ جزاء، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط، متأخِّرٌ عنه، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى.
فالجوابُ: أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب، والإضافات، والتعلُّقات، لا في حقيقة العلم.
فإن قيل: إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب، فلم قال: ﴿إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ ولم يَقُلْ: ﴿مَا فِي قلُوبِكُمْ﴾ ؟
فالجوابُ: لأن القلبَ في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب، كما قال: ﴿يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: ٥].

فصل


قوله: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ قلوبكم، من مودة الكفار وموالاتهم ﴿أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله﴾.
وقال الكلبيُّ: إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التكذيب، أو تُظْهِرُوه، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله، ويجازكم عليه.
قوله: «وَيَعْلَمُ» مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط، فلذلك جِيء مستأنفاً، وقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ من باب ذكر العام بعد الخاص. ﴿مَا فِى صُدُورِكُمْ﴾، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء، وجعل محلهما النفس، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّناً في البلاغة، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟
قوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون هذا تمام الوعدِ، والوعيد، والترغيب، والترهيب.
147
أحدها: أنه منصوب ب «قَدِيرٌ»، أي: قدير في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يلزم
147
من ذلك تقييد قدرته بزمان؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى. وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري.
الثاني: أنه منصوب ب «يُحَذِّرُكُمْ»، أي: يخوفكم عقابه في ذلك اليوم، وإلى هذا نحا أبو إسحاق، ورجحه.
ولا يجوز أن ينتصب ب «يُحَذِّرُكُمْ» المتأخرة.
قال ابن الأنباري: لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب «يُحَذِّرُكُمْ» المذكور في هذه الآية؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها «.
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً، وهو كلامٌ طويلٌ، والفصل بمثله مستبعد، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى، فلا يصح؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم؛ لأنه ليس زمانَ تكليف؛ لأن التخويف موجود، واليوم موعود، فكيف يتلاقيان؟
قال: أن يكون منصوباً بالمصير، والتقدير: وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ، وغيرُهم، وهذا ضعيف على قواعد البصريين؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ.
وقد يقال: إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل، وهذا من ذاك.
الرابع: أن يكون منصوباً ب»
اذكر «مقدراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، وقدر الطبريُّ الناصب له» اتَّقُوا «، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ، مع الاستغناء عنه.
الخامس: أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل»
نفسه «، أي: يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد، فالعامل فيه» عقاب «لا» يحذركم «قاله أبو البقاء، وفي قوله:» لا يُحَذِّرُكُمْ «فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم.
السادس: أنه منصوب ب»
تَوَدُّ «.
قال الزمخشريُّ:»
يَوْمَ تَجِدُ «منصوب ب» تَوَدُّ «والضمير في» بينه «لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها، وبين ذلك اليوم، وهَوْله أمداً بعيداً».
وهذا ظاهر حسنٌ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا.
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو: ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان، فالفاعل هو الألف، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول «يلبسان» ومثله: غلام هندٍ ضربَتْ، ففاعل «ضربت» ضمير عائد على «هند» المتصلة ب «غلام» المنصوب ب «ضربت» والآية من هذا القبيل؛ فإن فاعل «تَوَدُّ»
148
ضميرٌ عائدٌ على «نَفْس» المتصلة ب «يَوْمَ» لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ، والظرف منصوب ب طتَوَدُّ «، والتقدير: يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا.
احتج الجمهور على الجواز بالسماع.
وهو قول الشاعر: [الخفيف]
١٤٠٠ - أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي
ففاعل «يستحثَ»
ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجل» المنصوب ب «يستحث».
واحتج المانعون بأن المعمول فضلة، يجوز الاستغناء عنه، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره، فيتنافى هذان السببان، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب، وزيداً ظن قائماً، أي: ضرب نفسه، وظنها، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين: غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ، وبين: زيداً ضَرَبَ، حيث جاز الأول، وامتنع الثاني، بمقتضى العلة المذكورة.
قوله: «تجد» يجوز أن تكون [المتعدية لواحد بمعنى «تصيب»، ويكون «محضراً» على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون علمية]، فتتعدى لاثنين، أولهما «مَا عَمِلَتْ»، والثاني «مُحْضَراً» وليس بالقويّ في المعنى، و «ما» يجوز فيها وجهان:
أظهرهما: أنها بمعنى «الذي» فالعائد - على هذا - مقدَّر، أي: ما عملته، وقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ حال، إما من الموصول، وإما من عائده، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنسِ.
ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول، تقديره: يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي: معمولها - فلا عائد حينئذ [عند الجمهور].
قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ﴾ يجوز في «ما» هذه أن تكون منسوقة على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي: وتجد الذي عملته، أو وتجد عملها - أي: معمولها - من سوء. فإن جعلنا «تَجِدُ» متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو وتجد عملها مُحْضَراً، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي: وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول. وإن جعلناها متعدية لواحد، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة، أي: تجده محضراً - اي: في هذه الحال - وهذا كقولك: أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي: وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني؛
149
لدلالة حال الأول عليه -، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله: «تَوَدُّ» وجهان:
أحدهما: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل «عَمِلَتْ»، أي: وما عملته حال كونها وَادَّةً، اي: متمنِّيًَ البعد من السوءِ.
والثاني: أن تكون مستأنفةً، أخبر الله تعالى عنها بذلك، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين.
ووضع الكرم، واللطف هذا؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ.
ويجوز أن تكون «ما» مرفوعة بالابتداء، والخبر الجملة في قوله: «تَوَدُّ»، أي: والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
والضمير في «بَيْنَهُ» فيه وجهان:
أحدهما - وهو الظاهر - عوده على «مَا عَمِلَتْ»، وأعاده الزمخشري على «الْيَوْم».
قال أبو حيّان: «وأبعد الزمخشري في عوده على» اليوم «؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر، فتود تباعده؛ لتسلم من الشرِّ، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى عوده على ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء﴾ ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه».
فإن قيل: هل يجوز أن تكون «ما» هذه شرطية؟
فالجواب: أن الزمخشريَّ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً، وهو «تَوَدُّ».
قال شهاب الدينِ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب، ومنه بيت زُهَيْر: [البسيط]
١٤٠١ - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ
150
ومن الجزم قوله تعالى ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ﴾ [هود: ١٥]، وقوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ﴾ [الشورى: ٢٠]، وقوله: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ».
وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى، قال: كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ: فذكره ثم قال: ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضياً، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع، الجَزْمُ، وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك: إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً، وأنه فصيح، إلا ما ذكره صاحب كتاب «الإعراب» عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع «كان» كقوله تعالى:
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ﴾ [هود: ١٥]، لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه، وكلام الجماعة، أنه لا يختص ذلك ب «كان» بل سائر الأفعال في ذلك مثل «كان».
وأنشد سيبويه للفرزدق: [البسيط]
١٤٠٢ - دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ
وقال أيضاً: [الطويل]
١٤٠٣ - تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً.
قال بعض أصحابنا: هو أحسن من الجزم، ومنه بيت زهير السابق. ومثله - أيضاً - قوله: [الطويل]
١٤٠٤ - وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وقال أبو صخر: [الطويل]
151
١٤٠٥ - وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ
وقال الآخر: [الطويل]
١٤٠٦ - وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ
وقال الآخر: [الطويل]
١٤٠٧ - فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
وقال الآخر: [البسيط]
١٤٠٨ - إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ
قال شهاب الدين: «هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها -: فهذا الرفع - كما رأيت - كثير».
وهذا البيتُ ليس من ذلك؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد: دَسَّتْ رَسُولاً، وقوله: «تعال فإن عاهدتني».
وقال: فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسه الجزم؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء، وجملة مثل قول الشاعر: [الرجز]
١٤٠٩ -.............................. إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
152
على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة.
وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ.
فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ، والفاء يُرْفَع ما بعدها، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار.
وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا: لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط، فلم يُعْمِلُوها في الجواب؛ لضَعْفِها، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم، ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً، لكن امتنع أن يكون «وما عملت» شرطاً لعلة أخرى - لا لكون «تَوَدُّ» مرفوعاً، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: لما كان «تَوَدُّ» مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله: «وَبَيْنَه» عائد على اسم الشرط - الذي هو «ما» - فيصير التقدير: تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه، وذلك نظير: ضرب زيداً غلامُه، فالفاعل رُتْبته التقديمُ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟
فالجواب: أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه؛ لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم
153
الشرط اقتضاها، فتدافَعَا، وهذا بخلاف: ضرب زيد أخاه؛ فإنها جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده؛ لعدم الاشتراك في العامل، ففرق ما بين المسألتين، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ: أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره «انتهى.
وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك، فقال:»
والثاني - أنها شرط وارتفع «تَوَدُّ» على إرادة الفاء، أي: فهو تود «.
ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزم والرفع.
[وقد تقدم تحقيق القول في ذلك، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ... ] عبد الله وابن أبي عبلة: «ودت»
- بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطية، وفي محلها - حينئذ - احتمالان.
الأول: النصب بالفعل بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عملت من سوء ودت، ف «وَدَّتْ» جواب الشرط.
الثاني: الرفع على الابتداء، والعائد على المبتدأ محذوف، تقديره: وما عملته، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو: «أيُّهُمْ ضرب أكرمه» - برفع «أيُّهم» وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو: زيدٌ ضربت، [وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ: «أفحكمُ الجاهلية يبغون»، وفي قوله: «وكل وعد الله الحسنى» في الحديد].
الوجه الثاني من وجهي «ما» : أن تكون موصولة، بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ، و «وَدَّتْ» الخبر، وهو اختيار الزمخشريِّ؛ لأنه قال: «لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى: لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت؛ لموافقة قراءة العامة» انتهى.
154
فإن قيل: لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون «ما» شرطية على هذه القراءة، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟
فالجواب: أن العلة إن كانت رفعَ الفعل، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك.
قوله - هنا - على بابها، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره، وعلى هذا ففي الكلام حذفان:
أحدهما: حذف مفعول «تَوَدُّ».
والثاني: حذف جواب «لَوْ»، والتقدير فيها: تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك، أو لفرحت ونحوه. والخلاف في «لو» بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة، يبعد مجيئه هنا؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو «أن».
قال أبو حيان: ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣]، قال شهاب الدين: إلا قليلاً يشعر بجوازه، وهو لا يجوز ألبتة، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.
وقد تقدم الكلام في «أنَّ» الواقعة بعد «لَوْ» هذه، هل محلها الرفع على الابتداء، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر، أي: لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن «لو» - هنا - مصدرية، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ «تَوَدُّ»، أي تود تباعد ما بينها وبينه، وفي ذلك إشكال، وهو دخول حرف مصدري على مثله، لكن المعنى على تسلط الوداد على «لو» وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي. والأمد: غاية الشيء ومنتهاه، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ «أفعال».
قال الراغب: «الأمَد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود، وَلا يتقيد فلا يقال: أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر إذا قيل: أمَد كذا، كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الأمد والزمان، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان».

فصل


المعنى: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ﴾ يعني: لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً.
155
قال السُّدِّيُّ: مكاناً بعيداً.
وقال مقاتلٌ: كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى: ﴿ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين﴾ [الزخرف: ٣٨].
قال الحسنُ: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً.
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان، أو على المكان.
ثم قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ وهو تأكيد للوعيد، ثم قال: ﴿والله رَؤُوفُ بالعباد﴾ وفيه وجوه:
الأول: أنه رؤوفٌ بهم، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذَّرهم من استحقاق غضبه.
قال الحسنُ: «ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه».
الثاني: أنه رؤوف بالعباد، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي.
الثالث: أنه لما قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد، وهو قوله: ﴿والله رَؤُوفُ بالعباد﴾، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده.
الرابع: أن لفظ «العباد» في القرآن مختص بالمؤمنين، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣]، وقال: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ [الإنسان: ٦]، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة، فقال: ﴿والله رَؤُوفُ بالعباد﴾، أي: كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين.
156
قرأ العامة «تُحِبُّونَ» - بضم حرف المضارعة، من «أحَبَّ» وكذلك ﴿يُحْبِبْكُمُ الله﴾.
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ «تَحِبُّون، يَحْبِبْكم» بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ.
وحكى أبو زيد: حَبَبْتُهُ، أحِبُّه.
وأنشد:
156
ونقل الزمخشريُّ: قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً، أو وقْفاً جاز فيه لغتان: الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة.
والحُبّ: الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع: حِباب وحِبَبَة، حكاه الجوهريُّ.
وقرأ الجمهور «فَاتَّبِعُونِي» بتخفيف النون، وهي للوقاية.
وقرأ الزُّهري بتشديدها، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله: ﴿أتحاجواني﴾ وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من «يغفر» في لام «لكم».
وقال: هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه، وأنه لا خطأ ولا غلط، بل هو لغة للعرب، نقلها الناس، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج.

فصل


اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ، وهو أن اليهود كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فنزلت هذه الآية.
وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف.
- فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبدها حباً لله: ﴿لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣]، فقال الله - تعالى -: «قل» يا محمد ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله﴾ فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه ﴿فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ فأنا رسولُه إليكم، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله.
وقال القرطبي: «نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ».
وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب رَبَّنا، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني﴾ [آل عمران: ٣١].
157
قال ابن عرفة: المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له.
وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما، واتباعه أمرهما، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني﴾ [آل عمران: ٣١] [ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ [آل عمران: ٣٢]، أي: لا يغفر لهم].
قال سهل بن عبد الله: علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي، وعلامة حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حب السنة، وعلامة حب السنة، حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة، أن لا يحب نفسه، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة.
قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول﴾ الآية قيل: إنه لما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أبي لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرَضوا عنها ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم.
والمعنى: إنما أوجب الله عليكم طاعتي، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى، [بل لكوني رسولاً من عند الله].
قوله: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مضارعاً، والأصل «تَتَوَلُّوْا» فحذف إحدى التاءين كما تقدم، وعلى هذا، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ، وهو الخطاب.
والثاني: أن يكون فعلاً ماضياص مسنداً لضمير غيب، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى، ونظيره قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].

فصل


روي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى»
158
قالوا: ومن يَأبَى؟ قال: «مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى».
قال جابر بن عبد الله: «جاء الملائكة إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو نائم - فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مَثَلاً، فاضربوا له مَثَلاً، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ، وأكل من المأدبةِ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ، فقالوا: أوِّلُوها له بفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ، قالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَرَقَ بين الناس».
روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره» وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحِبُّ فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريلُ، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يُحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهلُ السّماءِ، قال: ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول: إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه، قال فيبغضونه، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض».
وقال: ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ ولم يَقُلْ: فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ، أنشد سيبويه [قول الشاعر] :[الخفيف]
١٤١٠ - فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ
١٤١١ - لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا
ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ.
159
قوله :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ الآية قيل : إنه لما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أعرَضوا عنها ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم.
والمعنى : إنما أوجب الله عليكم طاعتي، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى، [ بل لكوني رسولاً من عند الله ] ٨.
قوله :﴿ فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً، والأصل " تَتَوَلُّوْا " فحذف إحدى التاءين كما تقدم، وعلى هذا، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ، وهو الخطاب.
والثاني : أن يكون فعلاً ماضياً مسنداً لضمير غيب، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى، ونظيره قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ [ يونس : ٢٢ ].

فصل


روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى " قالوا : ومن يَأبَى ؟ قال :" مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى " ٩.
قال جابر بن عبد الله :" جاء الملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - وهو نائم - فقال بعضهم : إنه نائم، وقال بعضهم : إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مَثَلاً، فاضربوا له مَثَلاً، فقالوا : مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ، وأكل من المأدبةِ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ، فقالوا : أوِّلُوها له بفقهها، فقال بعضهم : إنه نائم، وقال بعضهم : إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ، قالوا : فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم من أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فَرَق بين الناس١٠.
روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره " ١١
وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال : إنِّي أحِبُّ فلاناً، فأحبه، قال : فيحبه جبريلُ، ثم ينادي في السماء، فيقول : إن الله يُحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهلُ السّماءِ، قال : ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول : إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ، قال : فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه، قال فيبغضونه، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض " ١٢.
وقال :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ ولم يَقُلْ : فإنه لا يحب ؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ، أنشد سيبويه [ قول الشاعر ] ١٣ :[ الخفيف ]
لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا١٤
ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول، فذكره للتمييز ؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ.
لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل
159
فقال: «إنَّ اللهَ اصطفى آدم ونوحاً» «نوح» اسم أعجمي، لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح. وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان: العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على «هند» وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف، تقديره: إن الله اصطَفى دينَ آدمَ.
قال التبريزي: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل: ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح».
وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف، بقي المضاف إليه [على جره]- حتى يرد على الفراء بذلك، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى.
وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ: أن يكون قوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] بجر «القرية» ؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون: هذا على حَذْف مضاف، تقديره: أهل القرية.
قال القرطبيُّ: «وهو - نوح - شيخُ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر القرابات المحرمة، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم» على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى.
وعمران اسم أعجميٌّ.
وقيل: عربيّ، مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية، والعُجْمة الشخصية، وإما للعلمية، وزيادة الألِف والنون.
قوله: ﴿عَلَى العالمين﴾ متعلق ب «اصْطَفَى».
قوله: «اصْطَفَى» يتعدى ب «مِنْ» نحو اصطفيتك مِن الناس.
فالجواب: أنه ضُمِّنَ معنى «فَضَّل»، أي: فضَّلَهُم بالاصطفاء.

فصل


اعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلَّف، وغير مكلَّف، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل. وأصناف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين.
160
أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح، ولهذا قدروا على الطيران، وعلى حمل العرش، وسُمُّوا روحانيين
وروي أنهم خُلِقوا من النور، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول: أبدانهم من الريح، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات.
أما الشياطين فهم كفرة، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ [البقرة: ٣٤]. وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١].
ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر، قال تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف: ٥٠] وقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن﴾ [الأنعام: ١١٢].
وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس -: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ [الأعراف: ١٢].
وأما الجن فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، قال تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون﴾ [الجن: ١٤].
وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] وقوله: ﴿الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١].
واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة، وعُلُوِّ الدرجة، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين.
فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل - ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ [البقرة: ٤٧] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل قلنا: المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، فكذا هنا.
161
فالجواب أن ظاهر قوله: اصْطَفَى آدم على العالمين، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ «العالم» عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل.

فصل


الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم: أي: جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة، ويقال: صفَّاهم صَفْوَةً، وصِفْوَةً، وصُفْوَةً.
ونظير هذه الآية قوله - لموسى -: ﴿إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس﴾ [الأعراف: ١٤٤].
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾ [ص: ٤٧] وفي الآية قولان:
أحدهما: المعنى أ، الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم.
الثاني: أن الله اصطفاهم؛ أي: صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة، وزينهم بالصفات الحميدة، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار، ولموافقة قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].

فصل


قيل: اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته.
الثاني: أنه علَّمه الأسماء كلَّها.
الثالث: أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له.
الرابع: أنه أسكنه الجنة.
الخامس: أنه جعله أبا البشر.
واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه جعله أبا البشر - بعد آدم -؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا، وصار ذريته هم الباقين.
الثاني: أنه أطال عمره، ويقال: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله».
الثالث: أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين.
الرابع: أنه حمله على السفينة.
الخامس: أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات.
162
واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه.
الثاني: أنه اتخذه خليلاً.
الثالث: أنه أنجاه من النار.
الرابع: أنه جعله للناس إماماً.
الخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم.

فصل


ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال: لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدْرِكة، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة:
أحدها: القوة الباصرة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخصوصاً بكمال هذه الصفة، لقوله: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها» وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري» ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٥] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.
قال الحليمي: وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أقْوَى من بصرها.
163
وثانيها: القوة السامعة، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله: «أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى».
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم، فلم تبلغ مقرها إلى الآن.
قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك. ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت: ﴿ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾
[النمل: ١٨] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ.
وثالثها: تقوية قوة الشَّمِّ، كما في حق يعقوب - حين قال: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: ٩٤] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
ورابعها: تقوية قوة الذوقِ، كما في حق نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم».
خامسها: تقوية قوة اللمس، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل، والنعامة.
وأما الحواس الباطنة فمنها: قوة الحفظ، قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦]، ومنها: قوة الذكاء: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألف باب من العلم، واستنبط من كلّ باب ألف باب. فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
أما القوى المحرِّكة، فمثل عروج الرسول إلى المعراج، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى: ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠].
وأما القوة الروحانية العقلية، فلا بد أن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء، إذا
164
عرفت هذا فقوله: ﴿إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً﴾ معناه أن الله اصطفى آدم، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول: الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول: البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة، من أولاد آدم، وهم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة، ونور الملك إليه، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة.

فصل


من الناس من قال: المرادُ بآل إبراهيم: المؤمنون، لقوله تعالى: ﴿أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ [غافر: ٤٦] والصحيح أن المراد بهم الأولاد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آل إبراهيم.
وقيل: المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٨]، وقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد».
وقال الشاعر: [الطويل]
١٤١٢ - وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
وقال الآخر: [الوافر]
١٤١٣ - يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ
وقيل: المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران.
وأما عمران فقيل: والد موسى، وهارون، وأتباعهما من الأنبياء.
وقال الحسن ووهب: المراد عمران بن ماثان، أبو مريم، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا: وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه.
165
قوله: ﴿ذُرِّيَّةَ﴾ في نَصْبها وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «آدَمَ» وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق «الذُّرِّيَّة» على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني: «الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب».
قال الراغبُ: «الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس: ٤٠] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذراريّ». فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل «ذُرِّيَّةٌ» بدَلاً من «آدم» بما عطف عليه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» آدم «؛ لأنه ليس بذريته»، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد «آدم» ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من «نُوح» ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث: أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب «ذُرِّيَّةً» - النصب على الحال، تقديره: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله: ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِ «ذُرِّيَّةً».

فصل


قيل: ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ أي: بعضها من وَلَد بعض.
وقال الحسن وقتادة: ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ في الضلالة.
وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل: بعضها من بعض في التناصُر.
وقيل: بعضها على دين بعض - أي: في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله
166
﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧]، أي: بسبب اشتراكهم في النفاق.
قوله: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قال القفَّال: والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم، وأفعالهم، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً، ونظيره قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
وقيل: إن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم، وآل عمران، فنحن أبناء الله، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل، إلا أنه بقي مصراً عليه، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ، فكأنه - تعالى - يقول: والله ﴿سَمِيعٌ﴾ لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم، «عليم» بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقولال، فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.
167
قوله :﴿ ذُرِّيَّةً ﴾ في نَصْبها وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من " آدَمَ " وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق " الذُّرِّيَّة " على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني :" الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك ؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب ".
قال الراغبُ١١ :" الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى :﴿ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [ يس : ٤٠ ] أي : آباءهم، ويقال للنساء : الذراريّ ". فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل " ذُرِّيَّةً " بدَلاً من " آدم " بما عطف عليه.
قال أبو البقاء :" ولا يجوز أن يكون بدلاً من " آدم " ؛ لأنه ليس بذريته "، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد " آدم " ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من " نُوح " ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث : أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب " ذُرِّيَّةً " - النصب على الحال، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله :﴿ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾ هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِ " ذُرِّيَّةً ".

فصل


قيل :﴿ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾ أي : بعضها من وَلَد بعض.
وقال الحسن وقتادة :﴿ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾ في الضلالة.
وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل : بعضها من بعض في التناصُر.
وقيل : بعضها على دين بعض - أي : في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله :﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ]، أي : بسبب اشتراكهم في النفاق.
قوله :﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ قال القفَّال : والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم، وأفعالهم، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً، ونظيره قوله :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم، وآل عمران، فنحن أبناء الله، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل، إلا أنه بقي مصراً عليه، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ، فكأنه - تعالى - يقول : والله ﴿ سَمِيعٌ ﴾ لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم، " عليم " بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقوال، فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.
في الناصب لِ «إذْ» أوجه:
أحدها: أنه «اذكر» مقدَّراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، أي: اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس.
الثاني: أن الناصب له معنى الاصطفاء، أي: «اصْطَفَى» مقدَّراً مدلولاً عليه ب «اصْطَفَى» الأوَّل والتقدير: واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله: ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: ٣٣] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره.
الثالث: أنه منصوب ب «سميع» وبه صرح ابن جرير الطبري، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال: سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها، و «إذْ» منصوب به.
قال أبو حيّان: ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ إمّا أن يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: «سميع» فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل ﴿سَمِيعٌ﴾ في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ،
167
واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى ب ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا يتقيد بذلك الوقت.
قال شهابُ الدين: «وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره، ولذلك تقدم على ما في خبر» أل «الموصولة وما في خبر» أن «المصدرية».
وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك، والتغيُّر في السمع والعلم، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات.
الرابع: أن تكون «إذْ» زائدةً، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ، والتقدير: قالت امرأة عمرانَ، وهذا غلط من النحويين، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو.
الخامس: قال الأخفش والمُبَرِّد: التقدير: «ألم تر إذْ قالت امرأة عمران، ومثله في كتاب الله كثير».

فصل


امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي.
قال القرطبيُّ: «ولا يُعْرَف في العربية» حنة «: اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك.
قال أبو نواس:
١٤١٤ - يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي
وفي العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية، ولا يعرف»
خَنَّة «- بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم، وهي أم محمد بن نصر، ولا يُعْرَف» جَنَّة «- بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر، نقل هذا كله ابنُ ماكولا».
وعمران بن ماثان، وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقيل: عمران بن أشهم، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ، وهي أخت حنة
168
أم مريم، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة، وفي كيفية هذا النذر روايات.
قال عكرمةُ: إنها كانت عاقراً لا تلد، وتغبط النساء بالأولاد، فقالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس، فيكونَ من سَدَنَتِهِ.
الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت ظائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي: خادماً للمسجد.
قال الحسن البصري: إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو، قال لها زوجها: ويحكِ: ما صنعتِ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك، فهلك عمران وحنة حامل بمريم ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾.
قوله: «مُحَرَّراً» في نَصبه أوجه:
أحدها: أنها حال من الموصول - وهو ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ - فالعامل فيها «نذرت».
الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة «ما» وهو قريب من الأول، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور.
الثالث: أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف، وعلى هذا، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف، تقديره: نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويجوز أن يكون «ما» انتصب على المعنى؛ لأن معنى ﴿نَذَرْتُ لَكَ﴾ : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله:
﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] وقوله: ﴿وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ [الحج: ١٨]- في قراءة من فتح الراء - أي: كلَّ تمزيق، فما له من إكرام.
ومثله قول: [الوافر]
169
١٤١٥ - ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أي تسريحي القوافي.
الرابع: أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: غلاماً مُحَرَّراً، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية، في هذا القول نظراً.
قال شهاب الدين: «وجه النظر فيه أن» نذر «قد أخذ مفعوله - وهو قوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ فلم يتعد إلى مفعول آخرَ، وهو نظر صحيح».
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير، ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا «امرأة» بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف «امرأة العزيز» موضعين - وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعاً لرسم المصحف، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة: حمزت.
وأنشدوا:
١٤١٦ - وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ

فصل


والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل، ولم يوجَد في شرعنا.
قال ابن العربي: «لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ؛ لكونها حُرَّةٌ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده. وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك، وإن كان حُرًّا، فلا يصح أن يكون، مملوكاً له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي، والاستنصارِ، فطلبت هذه المرأة أنساً به، وسُكوناً إليه، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار،
170
وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها.
قوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ أتى ب» ما «التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه ب» ما «.
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره: ما هذا؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى، قلت: ما هو أيضاً؟ والآية من هذا القبيل، هذا عند مَنْ يرى أن»
ما «مخصوصة بغير العاقل، وأما من يرى وقوعها على العقلاء، فلا يتأوَّل شيئاً.
وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب «ما»
التي لغير العُقَلاء.
المحرر: الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً، يقال: حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب، أي: أصلحته وخلصته من وجوه الغلط، ورجل حُرّ: إذا كان خالصاً لنفسه، وليس لأحد عليه تعلُّق.
والطين الحر: الخالص من الرمل والحمأة والعيوب، فمعنى «مُحَرَّراً»، أي: مُخْلصاً للعبادة، قاله الشعبيُّ.
وقيل: خادماً للبيعة.
وقيل: عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله.
وقيل: خادماً لمن يدرس الكتاب، ويُعَلِّم في البيع.
والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى.
قيل: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا؛ وذلك؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى.
وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام، وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس.
وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض، والأذى، وحنَّةُ نذرت مطلقاً، إما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى: نذرت لك أي لعبادتك، وتقدم الكلام على النذر، ثم قال تعالى - حاكياً عنها -: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾، والتقبُّل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحديُّ: «وأصله من المقابلة؛
171
لأنه يقابَل بالجزاءِ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى ﴿السميع﴾ أي: لتضرعي ودعائي وندائي ﴿العليم﴾ بما في ضميري ونيَّتي.
قوله: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ الضمير في» وضعتها «يعود على» ما «- من حيث المعنى -؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها.
وقيل: إنما أنث؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس، قاله الزمخشريُّ.
وقال ابنُ عطية: حملاً على الموجودة، ورفعاً للفظ»
ما «في قوله ﴿مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾.
قوله: ﴿أنثى﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على الحال، وهي حال مؤكِّدَة؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت»
أنثى «مؤكدة.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف جاز انتصاب»
أنثى «حالاً من الضمير في» وَضَعْتُهَا «وهو كذلك كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك؛ لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ [النساء: ١٧٦].
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى»
.
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول، فقال: وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن «أنثى» تكون حالاً مؤكِّدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة، وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى «ما» - فليس ذلك نظير ﴿وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى «ما» إذ المعنى: اية امرأة كانت أمك، أي كانت هي أي أمُّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى «ما» ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير ﴿وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم، بخلاف «أنْثَى» فإنه لمجرَّد التأكيد، وأما تنظيره بقوله: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾. فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في ﴿وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ - عائداً على النسمة أو النفس، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة.
قال شهاب الدين: قوله: «ليس نظيرها؛ لأن من كانت أمك» حُمل فيه على معنى
172
من، وهذا أنث لتأنيث الخبر «ليس كما قال، بل هو نظيره، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى» ما «كما حمل هناك على معنى» من «، وقول الزمخشري:» لتأنيث الخبر «أي لأن المرادَ ب» من «: التأنيث، بدليل تأنيث الخبر، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب» من «المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى، بيّن لنا أن المراد ب» ما «في قوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ أنه شيءٌ مؤنث، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر، وأما قوله:» فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف ﴿وَضَعْتُهَآ أنثى﴾، فإنه لمجرد التوكيد «ليس بظاهر أيضاً؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض، فلا يضر ذلك في التنظير، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان:
أحدهما: أنها مؤكِّدة إن قلنا: إن الضمير في ﴿وَضَعَتْهَا﴾ عائد على معنى»
ما «.
الثاني: أنها مبيِّنة إن قلنا: إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي «أنثى»
: أنها بدل من «ها» في ﴿وَضَعَتْهَا﴾ بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء: ٣]- على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر: [الطويل]
١٤١٧ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في «جُودِهِ».

فصل


والفائدةُ في قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر، فلم تشترط ذلك في كلامِها، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى، فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [أن يحتاج إلى إعلامها].
173
قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر «وَضَعْتُ» بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة -: «تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها».
وقيل: قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها: «رَبِّ» لقالت: وأنت أعلم.
وقرأ الباقون: «وَضَعَتْ» بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ، وآيات واضحةٍ.
قال الزمخشريُّ: «ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى -: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت».
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله: ﴿والله أَعْلَمُ﴾ قال: «ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب: وأنت أعلم». وقد تقدم جوابُه بأنه التفات.
وقرأ ابن عباس «والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ» - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك، بمعنى: أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ.
قوله: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً، وأن يكون لها محل، وذلك بحسب القراءات المذكورة في «وَضَعَتْ» - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في «الذكَر» يحتمل أن تكون للعهدِ، والمعنى: ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: فما معنى قولها: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ ؟
174
قلت: هو بيان لما في قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ من التعظيم للموضوع، والرفع منه، ومعناه: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس، على أن المراد: أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب، بخلاف الأنثى؛ لِما يعتريها من الحيض، وعوارض النسوان.
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر، وحصل عندَها، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيبُ: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده، وهو المُتَلَجلِج في صدرها، والحائل في نفسها، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى.
وقوله: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ هذه الجملة معطوفة على قوله ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول، والتقدير: قالت: إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، وقالت: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم.
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ أيضاً معطوفاً على ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان: «ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان؛ لأنه يحتمل أن يكون: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ من كلامها في هذه القراءة» ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ «وَضَعْتُ» بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه، بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم - الذي هو ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ [الواقعة: ٧٥]- وبين جوابه - الذي هو ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧]- بجملة واحدة - وهي قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ - لكنه جاء في جملة
175
الاعتراض - بين بعض أجزائها، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله: ﴿لَّوْ تَعْلَمُونَ﴾ اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو «لَقَسَمٌ» - وبين نعته - الذي هو «عَظِيمٌ» - فهذا اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾.
قال شهابُ الدين: والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقوله: «ليس فصلاً بجملتي اعتراض» ممنوع، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله: فصل بجملتين «ف» سمى «يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه، تقول: سميت زيداً، والأصل: بزيدٍ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله: [المتقارب]
١٤١٨ - وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل
أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها.

فصل


ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة، ويؤكد ذلك قوله: بعد ذلك: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾. وقولها: ﴿سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع.
قوله: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ عطف على ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ وأتى - هنا - بخبر»
إنَّ «فعلاً مضارعاً؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف قوله: ﴿وَضَعْتُها﴾ و ﴿سَمَّيْتُهَا﴾ حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن؛ لانقطاعهما، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف؛ اهتماماً به.
وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما -: ﴿بعهدي أُوف﴾ [البقرة: ٤٠] و ﴿آتوني أُفْرِغ﴾ [الكهف: ٩٦] والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.

فصل


لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد، تضرعت إلى الله تعالى
176
أن يحفظها من الشيطان، وأن يجعلها من الصالحات القانتات.
قال القرطبي: «معنى قوله: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ يعني خادم الرب - بلغتهم - ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ مريمَ. ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة».
قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ الجمهور على ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ فعلاً ماضياً على «تَفَعَّل» بتشديد العينِ - و ﴿رَبُّهَا﴾ فاعل به، وتفعل يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير، و «تَفَعَّل» يأتي بمعنى «فَعَل» مُجَرَّداً، نحو تعجب وعَجب من كذا، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه.
والثاني: أن «تفعل» بمعنى: استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها، يقال: استقبلت الشيءَ أي: أخذته أول مرة.
والمعنى: أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
١٤١٩ - وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
ومنه المثل: خذ الأمر بقوابله. و «تَفَعَّل» بمعنى «استفعل» كثير، نحو: تعظم، واستعظم، وتكبر، واستكبر، وتعجَّل واستعجل.
قال بعضُ العلماء: «إن ما كان من باب التفعُّل، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل، كالتصبُّر والتجلُّد، ونحوهما، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ».
فإن قيل: فلِمَ لَمْ يَقُلْ: فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، حتى تكمُلَ المبالغةُ؟
فالجوابُ: أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ، فذكر التقبلَ، ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبولَ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ، بل على وفق الطبعِ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها، وهو وجه مناسبٌ.
والباء - في قوله: «بِقَبُولٍ» - فيها وجهانِ:
أحدهما: أنها زائدة، أي: قبولاً، وعلى هذا فينتصب «قبولاً» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذْ لو جاء على «تَقَبُّل» لقيل: تَقَبُّلاً، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً.
وَقَبُول: من المصادر التي جاءت على «فَعُول» - بفتح الفاء - قال سيبويه: خمسة
177
مصادر جاءت على «فَعُول» قَبُول، وطَهُور، ووَقُود، ووَضُوء، وولُوع، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ، يقال: قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس، كالدخولِ والخروجِ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب: قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم، وأنشدوا: [السريع]
١٤٢٠ - قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم.
قال الزَّجَّاجُ: إن «قَبُولاً» هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له، - أي: مجرداً - قال: والتقدير: فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً، أي: رضيها، وفيه بُعَدٌ.
والوجه الثاني: أن الياء ليست بزائدة، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ، نحو اللدود، لما يُلَدُّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر.

فصل


في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ:
أحدها: أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ، وعصمها، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان.
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها»، ثم قال أبو هريرة: اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾، طعن القاضي في هذا الخبر، وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ؛ وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ:
الأول: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر، والطفل المولود ليس كذلك.
178
الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوَالهم.
الثالث: لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء؟
الرابع: أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ.
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن -: ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت: خذوا هذه النذيرةَ، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريَّا: أنا أحق بها؛ عندي خالتها، فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ.
قال السُّدِّيُّ: هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها، على أن كل من يرتفع قلمه، فهو الراجحُ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريَّا.
قاله محمد بن إسحاق وجماعة، وقيل: جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ، وجرت أقلامهم بجري الماء.
وقال السُّدِّيُّ وجماعة: ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامُهم، فذهب بها الماء، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها.
الوجه الثالث: رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال: إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ.
الوجه الرابع: أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا، وعدم قدرتها على خدمة المسجد.
وقيل: معنى التَّقَبُّل: التكفُّل في التربية، والقيام بشأنها.
وقال الحسنُ: معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار.
179
وقوله: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ نبات: مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات، وقيل: بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً، تقديره: فتنبت نباتاً حسناً، قاله ابنُ الأنباريّ.
وقيل: كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام.
وقيل: تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ.
وقال القرطبي: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ أي: سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ.
قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ قرأ الكوفيون ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ - بتشديد الْعَيْنِ - «زَكَرِيَّا» - بالقصر - إلا أبا بكر، فإنه قرأه بالمد كالباقين، ولكنه ينصبه، والباقون يرفعونه.
وقرأ مجاهدٌ «فَتَقَبَّلَهَا» بسكون اللام «رَبَّهَا» منصوباً، «وأنْبَتَهَا» - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [وسكون اللام] والتخفيف وقرأ أبي: «وأكْفَلَهَا» - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً.
وقرأ عبد الله المزني «وَكَفِلَهَا» - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ -.
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما زكريا، فمن قصره، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به، وأما قراءة بقية السبعة ف «كَفِلَ» مخفف عندهم، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا.
قال أبو عبيدة: ضمن القيام بها، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها، وهو في قراءتهم ممدود، مرفوع بالفاعلية.
وأما قراءة: «أكْفَلهَا» فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى، والمفعول الأول هو: ضمير مَرْيَمَ والثاني: هو زكريا.
أما قراءة «وَكفِلها» - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في «كَفَل» يقال: كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون «زكريا» فاعلاً.
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها «كَفِّلْهَا» على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء، أي: فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا،
180
وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين. وقرأ حفص والأخوانِ «زكريا» - بالقصر - حيث ورد في القرآن، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز. وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه: مُنِع من الصرف للعلمية، والعُجْمَة - كنظاشره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه: إما الممدودة كَحَمْرَاءَ، وإما المقصورة كحُبْلَى، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا: فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع، لكن العرب منعته نكرةً، فعلمنا أن المانع غير ذلك، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث.
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال: «لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث، أو للإلحاق أو منقلبة، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي، أو من حرف الإلحاق؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة».
قال شِهَابُ الدِّينِ: «وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه».
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ:
إحداهما: زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: «القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها، وألحق بياء النَّسَب، ويدل على ذلك صرفُ الاسم، ولو كانت اياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ؛ للعجمة والتعريف، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم».
الثانية: زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ.
والكفالة أي: الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ، يقال منه: كَفَل يَكْفُل، وكَفِلَ يَكْفَلُ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً، فهو كافِل وكفيل، والكافل: هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله، وفي الحديث: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقال تعالى: ﴿أَكْفِلْنِيهَا﴾ [ص: ٢٣].
181
واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إياها، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفولتها، وبه جاءت الروايات.
وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن طمثت، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ ثم قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ.
الثاني: أنه - تعالى - قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة.
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً. وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ.
قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب﴾ «المحراب» فيه وجهان:
أحدهما: وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف، وشذ عن سائر أخواته بعد «دَخَلَ» خاصَّةً، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة «في» نحو صليت في المحراب - ولا تقول: صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول:
السوقَ - إلا مع دخل خاصة، نحو دخلت السوق والبيت الخ. وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو.
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد «دَخَلَ» على المفعول به لا على الظرف فقولك: دخلت البيت، كقولك: هدمت البيت، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح؛ بدليل أن «دَخَلَ» لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة «في» تقول: دخلتُ في الأمر - ولا تقول: دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه.
182
والجواب: قال ابو عبيدة: هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها، وكذلك هو من المسجد.
وقال أبو عمرو بن العلاء: هو القصر؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ.
وقال الأصمعيُّ: هو الغُرْفَة.
وأنشد لامرئِ القيس: [الطويل]
١٤٢١ - وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
قالوا معناه: في غرف أقيال. وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة: [السريع]
١٤٢٢ - رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل: هو المحراب من المسجد المعهود، وهو الأليق بالآية.
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به: المحراب من حيث هو، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه. واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ [ص: ٢١] فوجه الإمالة تقدم الكسرة، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل.
قوله: ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ «وجد» هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو «رِزْقاً» و «عندها» الظاهر أنه ظرف للوجدان.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من «رِزْقاً» ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف، ف «وجد» هو الناصب لِ «كُلَّمَا» لأنها ظرفية، وأبو البقاء سمَّاه جوابها؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي.
183
قوله: ﴿قَالَ يا مريم﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف، قال ابو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» وَجَدَ «؛ لأنه ليس بمعناه».
الثاني: أنه معطوف بالفاء، فحذف العاطف، قال أبو البقاء: «كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وكذلك قول الشاعر: [البسيط]
١٤٢٣ - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا.................................
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط، لأن»
كُلَّمَا «تشبه الشرط في اقتضائها الجواب.
قال شهاب الدين: وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أن جوابَ الشرط هو نفس ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ حُذِفَتْ منه الفاء، وليس كذلك، بل جواب الشرط محذوف، و ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة، وكيف يَدَّعِي ذلك، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله:»
وَجَدَ «في محل نصب على الحال من فاعل» دَخَلَ «ويكون جواب» كُلَّمَا «هو نفس» قَالَ «والتقدير: كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق.
قال: وهذا بَيِّن.
ونكر»
رِزْقاً «تعظيماً، أو ليدل به على نوع» ما «.
قوله: ﴿أنى لَكِ هذا﴾ »
أنى «خبر مقدم، و» هَذَا «مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا: من أين؟ كذا فسَّره أبو عبيدة.
قيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي: كيف تَهَيأ لكِ هذا؟
قال الكميت: [المنسرح]
١٤٢٥ - أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ
وجوَّز أبو البقاء في»
أنَّى «أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في» ذلك «. و» لك «رافع ل» هذا «يعني بالفاعلية.
ولا حاجة إلى ذلك، وتقدم الكلام على «أنى»
في «البقرة».
184

فصل


قال الرَّبيع بن أنس: إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي: فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول يا مريمُ، أنى لك هذا؟
قال ابو عبيدة: معناه من أين لك هذا، وأنكر بعضهم عليه وقال: معناه من أي جهة لك هذا؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة، وأين للسؤال عن المكان.

فصل


احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ:
الأول: أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ، وهو المعنى المراد من الآية.
الثاني: قوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ [آل عمران: ٣٨] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساص من الولد؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد، فيستقيم قوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾. ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباص لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر.
الثالث: تنكير الرزق في قوله: «رِزْقاً» فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل: رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية.
الرابع: أنه - تعالى - قال: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك.
الخامس: تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة، وإذا ثبت ذلك فنقول: إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه، ولم يَقُلْ ل «مريم» أنَّى لَكِ هَذَا؟ وأيضاً فقوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة
185
العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم، وإذا كان كذلك، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كرامة لمريم، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.
قال أبو علي الجبائي: لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين:
الأول: أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها: أنَّى لكِ هذا؟ فقالت هو من عند الله، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ.
الثاني: يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً، إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت: هو من عند الله لا من عند غيره.
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ، فكأن زكريا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال.
والجواب عن الأول والثاني: أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يكن لقول: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ فائدة.
والجواب عن الثالث: أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه.
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة.
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ.
والجواب من وجوه:
الأول: أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا، وإن ادَّعَى الولايةَ، فذلك يدل على كونه وليًّا.
186
والثاني: قال بعضهم: «الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها».
والثالث: أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به، والولي لا يمكنه القطع به.
الرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة.
قوله: ﴿إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً.
ويحتمل أن يكون مستأنفاً، من كلام الله تعالى، وتقدم الكلامُ على نظيره.
187
قوله :﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾ الضمير في " وضعتها " يعود على " ما " - من حيث المعنى - ؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها.
وقيل : إنما أنث ؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس، قاله الزمخشريُّ.
وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة، ورفعاً للفظ " ما " في قوله ﴿ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾.
قوله :﴿ أُنْثَى ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على الحال، وهي حال مؤكِّدَة ؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت " أُنْثَى " مؤكدة.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : كيف جاز انتصاب " أُنْثَى " حالاً من الضمير في " وَضَعْتُهَا " وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أُنْثَى ؟
قلت : الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك ؛ لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْن ﴾[ النساء : ١٧٦ ].
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى ".
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة ؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن " أنثى " تكون حالاً مؤكِّدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى " ما " - فليس ذلك نظير ﴿ وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى " ما " إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك، أي كانت هي أي أمُّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى " ما " ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير ﴿ وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة إلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم، بخلاف " أنْثَى " فإنه لمجرَّد التأكيد، وأما تنظيره بقوله :﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْن ﴾. فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في ﴿ وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ - عائداً على النسمة أو النفس، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة.
قال شهاب الدين : قوله :" ليس نظيرها ؛ لأن من كانت أمك " حُمل فيه على معنى من، وهذا أنث لتأنيث الخبر " ليس كما قال، بل هو نظيره، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى " ما " كما حمل هناك على معنى " من "، وقول الزمخشري :" لتأنيث الخبر " أي لأن المرادَ ب " من " : التأنيث، بدليل تأنيث الخبر، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب " من " المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى، بيّن لنا أن المراد ب " ما " في قوله :
﴿ مَا فِي بَطْنِي ﴾ أنه شيءٌ مؤنث، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر، وأما قوله :" فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف ﴿ وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾، فإنه لمجرد التوكيد " ليس بظاهر أيضاً ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المذكور ؛ أما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض، فلا يضر ذلك في التنظير، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان :
أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في ﴿ وَضَعَتْهَا ﴾ عائد على معنى " ما ".
الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي " أُنْثَى " : أنها بدل من " ها " في ﴿ وَضَعَتْهَا ﴾ بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو :
﴿ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [ الأنبياء : ٣ ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر :[ الطويل ]
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ٨
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في " جُودِهِ ".

فصل


والفائدةُ في قولها :﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر، فلم تشترط ذلك في كلامِها، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأُنْثَى، فقالت :﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار، لا على سبيل الإعلام ؛ تعالى الله عن [ أن يحتاج إلى إعلامها ]٩.
قوله :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر١٠ " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها ؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى ؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة - :" تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر ؛ تَسلِيَةً لنفسها ".
وقيل : قالت ذلك ؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة ؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها :" رَبِّ " لقالت : وأنت أعلم.
وقرأ الباقون :" وَضَعَتْ " بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه، ولم تعرفي إلا كونه أُنْثَى لا غير، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ، وآيات واضحةٍ.
قال الزمخشريُّ :" ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى - :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت ".
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ﴾ قال :" ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب : وأنت أعلم ". وقد تقدم جوابُه بأنه التفات.
وقرأ ابن عباس ﴿ والله أعلم بِمَا وَضَعْتِ ﴾١١ - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك، بمعنى : أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ.
قوله :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾ ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً، وأن يكون لها محل، وذلك بحسب القراءات المذكورة في " وَضَعَتْ " - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في " الذكَر " يحتمل أن تكون للعهدِ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتَ : فما معنى قولها :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾ ؟
قلت : هو بيان لما في قوله :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ من التعظيم للموضوع، والرفع منه، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب، بخلاف الأنثى ؛ لِما يعتريها من الحيض، وعوارض النسوان.
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر، وحصل عندَها، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك ؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده، وهو المُتَلَجلِج في صدرها، والحائل في نفسها، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى ؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى.
وقوله :﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ هذه الجملة معطوفة على قوله ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَآ ﴾ على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول، والتقدير : قالت : إني وضعتُها، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم.
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا ﴾ أيضاً معطوفاً على ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَآ ﴾ ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض، كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [ الواقعة : ٧٦ ] قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان١٢ :" ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ؛ لأنه يحتمل أن يكون :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾ من كلامها في هذه القراءة " ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ " وَضَعْتُ " بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن ؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه، بقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
[ الواقعة : ٧٦ ] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم - الذي هو ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ [ الواقعة : ٧٥ ] - وبين جوابه - الذي هو ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ [ الواقعة : ٧٧ ] - بجملة واحدة - وهي قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ - لكنه جاء في جملة الاعتراض - بين بعض أجزائها، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله :﴿ لَّوْ تَعْلَمُونَ ﴾ اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو " لَقَسَمٌ " - وبين نعته - الذي هو " عَظِيمٌ " - فهذا اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
قال شهابُ الدين١٣ : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقوله :" ليس فصلاً بجملتي اعتراض " ممنوع، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين " ف " سمى " يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه، تقول : سميت زيداً، والأصل : بزيدٍ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله :[ المتقارب ]
وَ
قوله :﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا ﴾ الجمهور على ﴿ فَتَقَبَّلَهَا ﴾ فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و﴿ رَبُّهَا ﴾ فاعل به، وتفعل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير،
و " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً، نحو تعجب وعَجب من كذا، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه.
والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل، أي : فاستقبلها ربُّها، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة.
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها.
ومنه قول الشاعر :[ الوافر ]
وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا١٥
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله. و " تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير، نحو : تعظم، واستعظم، وتكبر، واستكبر، وتعجَّل واستعجل.
قال بعضُ العلماء :" إن ما كان من باب التفعُّل، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل، كالتصبُّر والتجلُّد، ونحوهما، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في إظهار الصَبْرِ والجَلَدِ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ ".
فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، حتى تكمُلَ المبالغةُ ؟
فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ، فذكر التقبلَ، ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبولَ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ، بل على وفق الطبعِ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها، وهو وجه مناسبٌ.
والباء - في قوله :" بِقَبُول " - فيها وجهانِ :
أحدهما : أنها زائدة، أي : قبولاً، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً.
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول، وطَهُور، ووَقُود، ووَضُوء، وولُوع، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس، كالدخولِ والخروجِ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً وقُبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم، وأنشدوا :[ السريع ]
قَدْ يُحْمَدُ الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ١٦
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم.
قال الزَّجَّاجُ : إن " قَبُولاً " هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً، أي : رضيها، وفيه بُعَدٌ.
والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ، نحو اللدود، لما يُلَدُّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر.

فصل


في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ، وعصمها، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان.
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها "، ثم قال أبو هريرة : اقرَؤوا - إنْ شِئْتُمْ - ﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾١٧، طعن القاضي في هذا الخبر، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ :
الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر، والطفل المولود ليس كذلك.
الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوَالهم.
الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء ؟
الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ.
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن - : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها ؛ عندي خالتها، فقالوا : لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ.
قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها، على أن كل من يرتفع قلمه، فهو الراجحُ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريَّا ١٨.
قاله محمد بن إسحاق وجماعة، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ، وجرت أقلامهم بجري الماء ١٩.
وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامُهم، فذهب بها الماء، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها.
الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ. ٢٠
الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا، وعدم قدرتها على خدمة المسجد.
وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية، والقيام بشأنها.
وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار ٢١.
وقوله :﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ نبات : مصدر على غير المصدر ؛ إذ القايس إنبات، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً، قاله ابنُ الأنباريّ.
وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام.
وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ.
وقال القرطبي :﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ.
قوله :﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ قرأ الكوفيون٢٢ ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ - بتشديد الْعَيْنِ - " زَكَرِيَّا " - بالقصر - إلا أبا بكر، فإنه قرأه بالمد كالباقين، ولكنه ينصبه، والباقون يرفعونه.
وقرأ مجاهدٌ٢٣ " فَتَقَبَّلَهَا " بسكون اللام " رَبَّهَا " منصوباً، " وأنْبَتَهَا " - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] ٢٤ والتخفيف وقرأ أبي :" وأكْفَلَهَا " - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً.
وقرأ عبد الله المزني " وَكَفِلَهَا " - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ-.
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما زكريا، فمن قصره، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به، وأما قراءة بقية السبعة ف " كَفِلَ " مخفف عندهم، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا.
قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها، وهو في قراءتهم ممدود، مرفوع بالفاعلية.
وأما قراءة :" أكْفَلهَا " فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا.
أما قراءة " وَكفِلها " - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في " كَفَل " يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون " زكريا " فاعلاً.
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها " كَفِّلْهَا " على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين. وقرأ حفص والأخوانِ " زكريا " - بالقصر - حيث ورد في القرآن، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز. وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية، والعُجْمَة - كنظائره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ، وإما المقصورة كحُبْلَى، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع، لكن العرب منعته نكرةً، فعلمنا أن المانع غير ذلك، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث.
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال :" لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث، أو للإلحاق أو منقلبة، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي، أو من حرف الإلحاق ؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة ".
قال شِهَابُ الدِّينِ :" وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه ".
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ :
إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال :" القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها، وألحق بياء النَّسَب، ويدل على ذلك صرفُ الاسم، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ ؛ للعجمة والتعريف، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم ".
الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ.
والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل، وكَفِلَ يَكْفَلُ، كعلم يعلم - كفالةً و
«هنا» هو الاسم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وهو منصوب على الظرف المكاني ب «دَعَا» وزان «ذلك»، وهو منصوب على الظرف المكاني، ب «دعا» أي: في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب «مِنْ» وَ «إلَى».
قال الشاعر: [الرجز]
١٤٢٦ - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ
وحكمه حكم «ذَا» من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه، ومن الكاف واللام، نحو «هُنَا» وقد يَصْحَبه «ها» التنبيه، نحو هاهنا، ومع الكاف قليلاً، نحو ها هناك، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام. وأخوات «هنا» بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و «ثَمَّ» بفتح الثاء - وقد يقال: «هَنَّت». ولا يشار ب «هُنَالِكَ» وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة، كقوله: ﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١١٩] وقوله: ﴿هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق﴾ [الكهف: ٤٤] وقوله: ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان: ١٣].
187
وقد زعم بعضهم أن «هُنا» و «هناك» و «هنالك» للزمان، فمن ورود «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي: في ذلك الزمان دعا زكريا ربه، ومثله: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١]، وقوله: ﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ﴾ ومنه قول زهير: [الطويل]
١٤٢٧ - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا................................
ومن «هنَّا» قوله: [الكامل]
١٤٢٨ - حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان.
وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان، و «هنالك» في الزمان، وهو سهو؛ لأنها للمكان سواء تجردت، أو اتصلت بالكاف واللام معاً، أم بالكاف من دون اللام.

فصل


ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر.
فإن قيل: لِمَ قلتم: إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية؟
فالجواب: أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالماً به، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك.
قوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتعلق ب «هَبْ» وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، أي: يا رب هَبْ
188
لي من عندك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ «ذُرِّيَّة» فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً.
وتقدم الكلام على «لَدُنْ» وأحكامها.
قال ابن الخطيب: «وقول زكريا: ﴿هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً﴾ لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة، قال: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ أي بمحض قدرتك، من غير شيء من هذه الأسباب».

فصل


الذرية: النسل، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى، والمراد - هنا - ولد واحد، وهو مثل قوله: «فهب لي من لدنك وليًّا».
قوله: ﴿طَيِّبَةً﴾ إن أريد ب «ذُرِّيَّة» الجنس، فيكون التأنيث في «طيِّبة» باعتبار تأنيث الجماعة، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ.
قال الفراء: وأنّث «طَيِّبَةً» لتأنيث لفظ «الذرية» كما قال القائل في ذلك البيت: [الوافر]
١٤٢٩ - أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
الشخص، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله: [الطويل]
١٤٣٠ - فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا
قوله ﴿سَمِيعٌ الدعآء﴾ مثال مبالغة، مُحَوَّل من سامع، وليس بمعنى مُسْمِع؛ لفساد المعنى؛ لأن معناه إنك سامعه، وقيل: مُجِيبه، كقوله: ﴿إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون﴾ [يس: ٢٥] أي: فأجيبوني، وكقول المصلي: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين.

فصل


قال القرطبيُّ: دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ.
189
قال تعالى - حكاية عن إبراهيم -: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤].
وقال تعالى: ﴿والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: ٧٤] ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنس فقال: «اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ» فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ» فذكر «أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ».

فصل


ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق، والهداية، والصَّلاح، والعَفَاف، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا:
﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾ [مريم: ٦]، وقال: ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ وقال تعالى: ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: ٧٤].
قوله: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة﴾ قرأ الأخوان «فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ» - من غير تأنيث - والباقون «
190
فَنَادَتْهُ» بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع، والتأنيث باعتبار الجماعة، ولتأنيث لفظ «الملائكة» مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن؛ كقوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب﴾ [الحجرات: ١٤]. ومثل هذا ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة﴾ [الأنفال: ٥٠] تُقْرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: ﴿تَعْرُجُ الملائكة﴾ [المعارج: ٤].
قال الزجاج: يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة، وهكذا قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ [يوسف: ٣٠].
وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله.
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة، فقال: «أكره التأنيثَ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث».
روى إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ.
قال أبو عُبَيْد: «نراه اختار ذلك؛ خلافاً على المشركين؛ لأنهم قالوا: الملائكة بناتُ اللهِ».
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال: «إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً».
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين، فقال: وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، ولذلك قرأ «فناداه» بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة؛ لأن الملائكة جمع، وما اعتلوا ليس بشيءٍ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم﴾ [آل عمران: ٤٢].
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن؛ لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة.
والأخوان على أصلهما من غمالة «فَنَادَاهُ». والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني: التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل.
قال الزَّجَّاج: أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة، كقولك: فلان يركب السُّفُنَ - أي: هذا الجنس كقوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة﴾ [النحل: ٢] يعني جبريل «بِالرُّوحِ» يعني الوحي. ومثله قوله: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] وهو نعيم بن مسعود، وقوله: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة؛ تعظيماً له.
قيل: الرئيس لا بدَّ له من أتباع، فلذلك أخبر عنه وعنهم، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل.
191
والعطف بالفاء - في قوله «فَنَادَتْهُ» - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير.
والنداء: رفع الصوت، يقال: نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم، نحو البُكَاء، والصُّراخ، والدُّعاء، والرُّغاء.
وقيل: المكسور مصدر، والمصموم اسم. ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ؛ لموافقته نظائره من المصادر.
قال يعقوب بن السكيت: إن ضمّيت نونه قصرته، وإن كسرتها مددته.
وأصل المادة يدل على الرفع، ومنه المنْتَدَى والنادي؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي: أرفع - هذا أصله في اللغة، وفي العرف: صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً، والنَّدَى: المَطَر، ومنه: نَدِيَ، يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً.
قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ جملة حالية من مفعول النداء، و «يُصَلِّي» يحتمل أوجهاً:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو: زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ.
الثاني: أنه حال من مفعول النداء، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال.
الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في «قَائِمٌ» فيكون حالاً من حال.
الرابع: أن يكون صفة لِ «قَائِمٌ».
قوله: ﴿فِي المحراب﴾ متعلق ب «يُصَلِّي، ويجوز أن يتعلق ب» قَائِمٌ «إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في» قَائِمٌ «؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد، فلا يلزم فيه فَصْل، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ» قَائِمٌ «أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ. هذا معنى كلام أبي حيّان.
قال شِهَابُ الدِّيْنِ: والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ فإن كُلاًّ من»
قَائِمٌ «و» يصلِّي «يصح أن يتسلَّط على» فِي الْمِحْرَابِ «وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب.
والمحراب - هنا -: المسجد.
قوله: ﴿إِنَّ الله﴾ قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر»
إنَّ «والباقون بفتحها، فالكسر عند الكوفيين؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ، فيُكْسر معه، وند البصريين، على إضْمار القول - أي: فنادته، فقالت. والفتح والحذف - على حذف حرف الجر، تقديره: فنادته
192
بأن الله، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها.
وفي قراءة عبد الله:» فنادته الملائكة يا زكريا «فقوله:» يا زكريا «هو مفعول النداء، وعلى هذه القراءة يتعين كسر» إن «ولا يجوز فتحُها؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه، وهما الضمير وما نُودي به زكريا.
قوله: ﴿يُبَشِّرُكَ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ - في موضعين - وفي سورة الإسراء:
﴿وَيُبَشِّرُ المؤمنين﴾ [الإسراء: ٩] وفي سورة الكهف: ﴿وَيُبَشِّرُ المؤمنين﴾ - بضم الياء، وفتح الباء، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه، يُبَشِّرُه.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى، وهو قوله: ﴿ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ﴾ [الشورى: ٢٣].
وقرأ الجميع - دون حمزة - كذلك في سورة براءة: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ [التوبة: ٢١] وفي الحجر - في قوله: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: ٥٣]- ولا خلاف في الثاني - وهو قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤]- أنه بالتثقيل.
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ [مريم: ٧] وقوله: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين﴾ [مريم: ٩٧]. وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة، وسكون الياء وضم الشين.
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ:
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ.
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤].
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة. والكسائي خفَّف خمساً منها، وثقَّل أربعاً، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ: بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف -.
193
وعليه ما أنشده الفراء قوله: [الطويل]
١٤٣١ - بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
الثالثة: أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم «يُبَشِّرُكَ» - بضم الياء.
ومن التبشير قول الآخر: [الكامل]
١٤٣٢ - يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ؟
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو «فَبَشِّرْهُمْ». ﴿وَأَبْشِرُوا﴾ [فصلت: ٣٠]، ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ [هود: ٧١]. قالوا: ﴿بَشَّرْنَاكَ بالحق﴾ [الحجر: ٥٥]. فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي.
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة.
قوله: ﴿بيحيى﴾ متعلق ب ﴿يُبَشِّرُكَ﴾ ولا بد من حذف مضاف، أي: بولادة يحيى؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ، تقديره: بولادة يحيى منك ومن امرأتك، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ.
و «يحيى» فيه قولان:
أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين -: أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً، نحو يعيش ويعمر ويموت.
قال قتادة: «سُمِّي ﴿بيحيى﴾ لأن الله أحياه بالإيمان».
وقال الزَّجَّاج: «حيي بالعلم» وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.
والثاني: أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية.
وعلى كلا القولين يُجْمَع على «يَحْيَوْنَ» بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها.
وقال الكوفيون: إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص، نحو جاء القاضُون، ورأيت القاضِين، نقل هذا أبو حيّان نهم. ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ، نحو: جاء حبلون ورأيت حُبلِين، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين.
194
قالوا: فإن كان أعجمياً جاز الوجهان؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق. ويصغر يحيى على «يُحَيَّى» وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك: [مجزوء الرمل]
١٤٣٣ - أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ: إنَّ يَحْيَى... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا؟
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة، وذلك يختلف بالتصريف والعمل، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات، وأصل المسألة تصغير «أحْوَى» ويُنْسَب إلى «يَحْيَى» «يَحْيَى» - بحذف الألف، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و «يَحْيَوِيّ» - بالقلب؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و «يَحْيَاوِيّ» - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً.
وقرأ حمزة والكسائي «يَحْيَى» بالإمالة؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم.
قال ابن عباس: «سُمِّيَ» يَحْيَى؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه.
وقال قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان.
وقيل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ.
قال القرطبي: «كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة، وتفسيره بالعربية: لا تلد، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها: سارة، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت: يا إبراهيم، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال: إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء، اسمه حيا، فسُمِّي بيَحْيَى».
قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من «يَحْيَى» وهذه حال مقدرة.
195
وقال ابن عطية: «هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام». و «بِكلِمةٍ» متعلق ب «مُصَدِّقاً».
وقرأ أبو السّمال «بِكِلْمَةٍ» - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها، فالتقى بذلك كسرتان، فحذف الثانيةَ؛ لأجل الاستثقال.

فصل


قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه، ومثل هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ» حيثُ قال: [الطويل]
١٤٣٤ - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل....................................
وذكر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحُوَيْدِرَة فقال: لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته.
وقال الجمهور: الكلمة: هي عيسى عليه السلام.
قال السديُّ: لقيت أمُّ عيسى، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى: أشعَرْتِ أني حُبْلَى؟ : فقالت: مريم: وأنا - أيضاً - حُبْلَى، قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله: ﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾.
قال القرطبيُّ: «رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم».
وقال ابن عبّاسٍ: إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر.
وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه.
وسمي عيسى عليه السلام كلمة. قيل: لأنه خُلِقَ بكلمة من الله ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً، والمقدور قُدْرة، والمرجُوُّ رجاءً، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة.
وقيل: هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام.
196
وقيل: لأنه تكلم ف يالطفوليَّة، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً، فسُمِّيَ كلمة كما يقال: فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما.
وقيل: لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر، فإذا حَدَث ذلك الأمر، قال: قد جاء قولي، وجاء كلامي - أي: ما كنت أقول، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار﴾ [غافر: ٦] وقوله: ﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ [الزمر: ٧١].
وقيل: لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب «فضل الله» و «لطف الله» وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله.
واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة: صفة يخلقها الله في جسم مخصوص، دالة بالوضع على معاني مخصوصة.
وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: إنها ذات عيسى، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول، لم يَبْقَ إلا التأويل.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بكلمة كائنة من الله ﴿وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً﴾ أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً. والسيد: فَيْعِل، والأصل سَيْود، ففُعِلَ به ما فعل ب «ميت»، كما تقدم، واشتقاقه من سَادَ، يَسُودُ، سِيَادَةً، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد.
ومنه قوله: [الرجز]
١٤٣٥ - نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا
وجمعه على «فَعَلَة» شاذ قياساً، فصيح استعمالاً؛ قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا﴾ [الأحزاب: ٦٧].
وقال بعضهم: سُمي سيِّداً؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي: مُعْظَمهم وجُلَّهم. والأصل سَوَدَة، و «فَعَلَة» لِ «فاعِل» نحو كافِر وكفرة، وفاجِر وفَجَرَة، وبارّ وبررة.
وقال ابن عباس: السَّيِّد: الحليم.
197
قال الجبائي: إنه كان سيداً للمؤمنين، ورئيساً لهم في الدين - أعني: في العلم والحلم والعبادة والورع.
قال مجاهدٌ: السَّيِّد: الكريم على الله تعالى.
وقال ابن المُسَيِّبِ: السيِّد: الفقيه العالم.
وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه الغضبُ.
وقيل: هو الرئيس الذي يتبع، ويُنتَهَى إلى قولهِ.
وقال المفضل: السيد في الدين.
وقال الضحاك: الحسن الخلق.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي يُطيع ربَّه.
ويقول عن الضَّحَّاكِ: السيد: التقِيّ.
وقال سفيان: الذي لا يحسد.
وقيل: هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ.
وقيل: هو القانع بما قسم الله له.
وقيل: هو السَّخِيّ.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ» ؟ قالوا: جَد بن قَيْس على بُخْلِه، فقال: «وأي دواء أدوى من البخل، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح» وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبني قريظة: «قوموا إلى سيِّدكم».
198
وقال - في الحسن -: «إن ابني هذا سَيِّدٌ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين».
قال الكسائي: السيّد من المَعْز: [الْمُسِّن]. وفي الحديث: «الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ».
وقال الشاعر: [الطويل]
١٤٣٦ - سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد
والحصور: فعول للمبالغة، مُحَوَّل من حاصر، كضروب.
وفي قوله: [الطويل]
١٤٣٧ - ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل: بل هو فَعُول بمعنى: مفعول، أي: محصور، ومثله ركوب بمعنى: مركوب، وحلوب بمعنى: محلوب.
والحصور: الذي يكتم سره.
قال جرير: [الكامل]
199
وهو البخيل - أيضاً - قال: [البسيط]
١٤٣٩ -................................ لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن: الحصور: الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له، فيكون بمعنى «مفعول» كأنه ممنوع من النساء.
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ، لا يجوز، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.

فصل


احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
200
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، والنسخ على خلاف الأصل.
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» وقوله: «لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ». وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وقولهم: النسخ على خلاف الأصل.
قلنا: مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ، وقد علمناه.
قوله: ﴿وَنَبِيًّا﴾ اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين:
أحدهما: القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين.
والثاني: ضبط مصالحهم في تأديبهم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والحصور إشارة إلى الزهد التام، فلما اجتمعا حصلت النبوة؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
قوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ صفة لقوله: ﴿وَنَبِيّاً﴾ فهو في محل نصب، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ:
الأول: معناه من أولاد الصالحين.
الثاني: أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر: إنه من الصالحين.
الثالث: أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء؛ لقوله - عليه السلام -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ».
فإن قيل: إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟
فالجواب: أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾ [النمل: ١٩].
201
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً.
والله أعلم.
قوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان:
أحدهما: « ﴿أنى» لأنها بمعنى «كيف» أو بمعنى «مِنْ أيْنَ» ؟، و «لِي» - على هذا - تبيين.
والثاني: أن الخبر هو الجار والمجرور، و «كيف» منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب «يَكُونُ»، أي: كيف يحدث لي غلام؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «غُلاَمٌ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
قوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ جملة حالية.
قال أهل المعاني: «كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ».
فلهذا جاز أن نقول: بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول: بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ: تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.
وقيل: لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل: هو من المقلوب، كقوله: [البسيط]
١٤٣٨ - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا
١٤٤٠ - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
فإن قيل: أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟
فالجواب: أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ.

فصل


قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس.
فقيل: لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال: «وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً» فلما أعاد ذِكْرَهما
202
في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير.

فصل


الغلام: الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه، وأما الكهل، فباعتبار ما كان عليه.
قالت ليلى الأخيليّة: [الطويل]
١٤٤١ - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم: ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين.
قال الشاعر: [الطويل]
١٤٤٢ - وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل: إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله: ﴿فِي المهد وَكَهْلاً﴾ [آل عمران: ٤٦] ثم هو راغم بعد ذلك.
واشتقاق «الغلام» من الغِلْمَة والاغتلام، وهو طلب النكاح، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه.
ويقال: اغتلم الفَحْلُ: أي: اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح، واغتلم البحر، أي: هاج وتلاطمت أمواجه، مستعار منه.
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟
قال الفراء: «يقال: غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية، قال: والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون: عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل -».
قال القرطبي: والغَيْلم: ذكر السلحفاة، والغَيْلم: موضع.
203
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي: طعن في السِّنِّ، قال: [الطويل]
١٤٤٣ - صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ

فصل


قال الكلبيُّ: كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة.
وقيل: ابن ثنتين وسبعين سنة.
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً.
فإن قيل: قوله: ﴿رَبِّ أنى يَكُونُ﴾ خطاب مع الله، أو مع الملائكة، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ، وهذا الكلام، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك: يا رب، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ:
أحدهما: أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى -.
الثاني: أنه خطاب مع الملائكة، والربُّ إشارة غلى المربِّي، ويجوز وَصْف المخلوقِ به، فإنه يقال: فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ.
فإن قيل: لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد -: «أنى يكون لي غلام» أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته؟
فالجواب: من وجوهٍ:
أحدها: إن قلنا: معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق، ولا خَلْقَ إلا من نطفة، لزم التسلسل، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان.
[ثانيها] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى -.
وإذا كان معنى «أنَّى» : كيف، فحدوث الولد يحتمل وجهين:
أحدهما: أي منع شيخوخته، وشيخوخة امرأته، أو يجعله وامرأته شابين، أو يرزقه الله
204
ولداً من امرأة أخْرَى، فقوله: ﴿رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ معناه: كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً. قاله الحسنُ والأصمّ.
وثانيهما: أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ، ويقول: كيف حصل هذا؟ ومن أين وقع؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة، يقول: كيف وَهَبَ هذه الأموالَ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا. كذا هنا.
الثالث: أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى، أو من صُلْبه، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.
الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك، فربما أعاد السؤال؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.
الخامس: نقل عن سفيان بن عيينة قال: كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى -.
السادس: قال عكرمة والسُّدِّيُّ: إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال زكريا ذلك؛ دَفْعاً للوسوسة، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ.
قال القرطبي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة، ولا مَدْخَل للشيطان فيه، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان]، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
205
قوله: ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ جملة حالية، إما من الياء في «لِي» فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في «بَلَغَنِي»، والعاقر: مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة، مشتقاً من العَقْر، وهو القتل، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده، والفعل - بهذا المعنى - لازم، وأما عَقَرْتُ - بمعنى «نَحَرْت» فمُتَعَدٍّ.
قال تعالى: ﴿فَعَقَرُواْ الناقة﴾ [الأعراف: ٧٧].
وقال الشاعر: [الطويل]
١٤٤٤ -......................... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
وقيل: عاقر - على النسب - أي: ذات عقر، وهي بمعنى مفعول، أي: معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء، ومنه عقر الدار، وعقر الحوض، وفي الحديث: «ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا» وعقرته، أي: أصبت عقره، أي: أصله - نحو رأسته، أي أصبت رأسه، والعقر - أيضاً - آخر الولد، وكذلك بيضة العَقر، والعقار: الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته، أي: صوته، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال: وأنشد الفراء: [الرجز]
١٤٤٥ - أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم: يقال: عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال: عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.
قال الزّجّاج: عاقر بمعنى ذات عُقر قال: لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة، وكريمة، وإنما عاقر على ذات عُقْر، قلت: وهذا نص في أن الفعل
206
المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
١٤٤٦ - لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
قال القرطبيُّ: «والعاقر: العظيم من الرمل، لا يُنْبِت شيئاً، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر: زعموا أنها بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض: مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت».
قوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ هذا القائل هو الرب المذكور في قوله: ﴿رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل - عليه السلام.
قوله: ﴿كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ في الكاف وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب، وفيه التخريجان المشهوران:
الأول - وعليه أكثر المعربين -: أنها نعت لمصدر محذوف، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة، مثل ذاك الفعل، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ.
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ، أي: يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه، وقد تقدم إيضاحه.
الثاني - من وجهي الكاف -: أنها في محل رفع خبر مقدَّم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله، ويفعل ما يشاء بيان له، وقدره ابن عطية: «كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله».
وقدّره أبو حيّان، فقال: «وذلك على حذف مضاف، أي: صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، فيكون ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة».
فالكلام - على الأول - جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان.
وقال ابن عطية: «ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته، كأنه قال: رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام، على هذا التأويل - في قوله» كذلك «، وقوله: ﴿الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب».
207
وعلى هذا الذي ذكره يكون «كَذَلِكَ» متعلقاً بمحذوف، و «اللهُ يَفْعَلُ» جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر.
قوله: ﴿اجعل لي آيَةً﴾ يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير، فيتعدى لاثنين: أولهما «آية»، الثاني: الجار قبله، والتقديم - هنا - واجب؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي: لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله، والتقدير: صير آية من الآيات لي، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي: أوجد لي آية - فيتعدى لواحد، وفي «لِي» - على هذا - وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالجَعْل.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آيةً» ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان.
وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون.

فصل


المراد بالآية: العلامة، أي: علامة أعلم بها وقتَ حضمْل امرأتي، فأزيد في العبادة شكراً لذلك، وذكروا في الآية وجوهاً:
أحدها: أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً؛ وهو قول أكثر المفسّرين، وفيه فائدتان:
إحداهما: أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد.
والثانية: أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقْدَره على الذكر، والتسبيح، والتهليل، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة.
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ:
أحدها: أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.
وثانيها: أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة.
ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة، فقد حصل الولد، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر.
208
الثاني: قال أبو مسلم: إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد، قال تعالى: آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق، وأن تكون مشتغلاً بالذكر، والتسبيح، والتهليل، معرضاً عن الخلق والدنيا؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب.
الثالث: قال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
وقوله: ﴿أَلاَّ تُكَلِّمَ﴾ «أن» وما في حَيِّزها في محل رفع؛ خبراً لقوله: ﴿آيَتُكَ﴾ أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب «تُكَلِّمَ» بأن المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع، خبراً لِ «أن» ومثله: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ [طه: ٨٩] وقوله: ﴿وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١] ووقع الفاصل بين «أن» والفعل الواقع خبرها حرف نفي، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين.
والثاني: أن تكون «أن» الناصبة حُمِلَتْ على «ما» أختها، ومثله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ [البقرة: ٢٣٣] و «أن» وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع، خبراً ل «آيتك».
قوله: ﴿ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف، خلافاً للكوفيين، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.
وقيل: وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها، فحذف، كقوله تعالى: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] ونظائره؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٠] وقد يقال: إنه يؤخذ المجموع من الآيتين، فلا حاجة إلى ادعاء حذف؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرىك ثلاث ليال وأيامها.
قوله: ﴿إلاَّ رَمْزًا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام، إذ الرمز الإشارة بعَيْن، أو حاجب أو نحوهما، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له، فإنه قال: «والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق
209
باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً».
والوجه الثاني: أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ: الرمز والإشارة من جملتها.
أنشدوا: [الطويل]
١٤٤٧ - إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ
وقال آخر: [الطويل]
١٤٤٨ - أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ
وهو مستعمل، قال حبيب: [البسيط]
١٤٤٩ - كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له، قال: «لما أدى مؤدَّى الكلام، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً».
والرمز: الإشارة والإيماء بعين، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة: الرَّمَّازة، والرمَّازة، وفي الحديث: «نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ»، يقال منه: رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع.
وأصل الرمز: التحرك، يقال: رمز وارْتَمز أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز، لتحركه واضطرابه.
وقال الراغب: «الرمز: الإشارة بالشفة والصوت الخفي، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ: أي ما تكلم رمزاً، وكتيبه رمَّازة: أي: لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً؛ لكثرتها».
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت.
قال الفراء: «قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن، وهو الصوت الخفي، شبه الهَمْس».
210
وقال عطاء: أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً.
وقرأ العامة: «رمزاً» - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس «رُمُزاً» بضمها - وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على «فُعْل» - بتسكين العين - في الصل، ثم ضُمَّتِ العين؛ إتباعاً، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه.
والثاني: أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
وقال أبو البقاء: «وقرئ بضمها - أي: الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع. ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ.
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع، وضُمَّ، إتباعاً، كاليُسُر واليُسْر»
.
قال شهاب الدين: قوله: «جمع رُمُزة» إلى قوله: في الصل؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح.
وقرأ الأعمش: «رَمَزاً» بفتحهما.
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال: إلا مترامزين، كقوله: [الوافر]
١٤٥٠ - مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وكقوله: [الكامل]
١٤٥١ - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ؟
قوله: «كَثِيراً» نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير ذلك المصدر، أو نعت لزمان محذوف تقديره: ذِكْراً كثيراً، أو زماناً كثيراً، والباء في قوله: «بِالْعَشِيِّ» بمعنى «فِي» أي: في العشي والإبكار.
والعشي: يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها، كذا قال الزمخشريُّ.
211
وقال الراغب: «العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ». والأول هو المعروف.
قال الشاعر: [الطويل]
١٤٥٢ - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ: «العَشِيّ: جمع عشية، وهي آخر النهارِ».
والعامة قرءوا: «والإبْكَارِ» بكسر الهمزة، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي: خرج بُكْرَةً، ومثله: بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر.
قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
١٤٥٣ - أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر.........................
وقال: [الخفيف]
١٤٥٤ - أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً........................
وقال أيضاً: [الطويل]
١٤٥٥ - بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وقرئ شاذاً «والأبْكَار» - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف، تقول: أتيتك يوم الجمعة بَكَر. وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن «أل». فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم.
وهذه القراءة تناسب قوله: ﴿بالعشي﴾ عند من يجعلها جمع عَشِيَّة؛ ليتقابل الجَمْعَان.
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
212
وقال الراغب: أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل، فقيل: بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً. والبَكور: المبالغ في البكور، وبَكَّر في حاجته، وابتكر وبَاكَر. [وتصور فيها] معنى التعجيل؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل: بَكَّر.
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ.
وقد صرح الواحديُّ بذلك، فقال: «هذا معنى الإبكارِ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً».

فصل


قيل: المراد بالذكر الكثير: الذكر بالقلب، وقوله: ﴿وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار﴾ محمول على الذكر باللسان.
وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة؛ لأنها تسمى تسبيحاً، قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧]. ومنه سمي صلاة الظهر والعصر: صلاتي العشيّ.
213
قوله :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ﴾ قرأ الأخوان٩ " فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ " - من غير تأنيث - والباقون " فَنَادَتْهُ " بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع، والتأنيث باعتبار الجماعة، ولتأنيث لفظ " الملائكة " مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن ؛ كقوله تعالى :﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ]. ومثل هذا ﴿ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ ﴾
[ الأنفال : ٥٠ ] تُقْرأ بالتاء والياء، وكذا قوله :﴿ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ [ المعارج : ٤ ]. قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير ؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة، وهكذا قوله :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾[ يوسف : ٣٠ ]وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله.
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة، فقال :" أكره التأنيثَ ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث ".
روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ.
قال أبو عُبَيْد :" نراه اختار ذلك ؛ خلافاً على المشركين ؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ الله ".
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال :" إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً ".
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، ولذلك قرأ " فناداه " بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة ؛ لأن الملائكة جمع، وما اعتلوا ليس بشيءٍ ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله :﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ ﴾ [ آل عمران : ٤٢ ].
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن ؛ لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة.
والأخوان على أصلهما من إمالة " فَنَادَاهُ ". والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل.
قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى :﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ ﴾
[ النحل : ٢ ] يعني جبريل " بِالرُّوحِ " يعني الوحي. ومثله قوله :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] وهو نعيم بن مسعود، وقوله :﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة ؛ تعظيماً له.
قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع، فلذلك أخبر عنه وعنهم، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل.
والعطف بالفاء - في قوله " فَنَادَتْهُ " - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير.
والنداء : رفع الصوت، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم، نحو البُكَاء، والصُّراخ، والدُّعاء، والرُّغاء.
وقيل : المكسور مصدر، والمضموم اسم. ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ ؛ لموافقته نظائره من المصادر.
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته، وإن كسرتها مددته.
وأصل المادة يدل على الرفع، ومنه المنْتَدَى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش : دار الندوة، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً، والنَّدَى : المَطَر، ومنه : نَدِيَ، يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً.
قوله :﴿ وَهُوَ قَائِمٌ ﴾ جملة حالية من مفعول النداء، و " يُصَلِّي " يحتمل أوجهاً :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ.
الثاني : أنه حال من مفعول النداء، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال.
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قَائِمٌ " فيكون حالاً من حال.
الرابع : أن يكون صفة لِ " قَائِمٌ ".
قوله :﴿ فِي الْمِحْرَابِ ﴾ متعلق ب " يُصَلِّي "، ويجوز أن يتعلق ب " قَائِمٌ " إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في " قَائِمٌ " ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد، فلا يلزم فيه فَصْل، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ " قَائِمٌ " أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ. هذا معنى كلام أبي حيّان.
قال شِهَابُ الدِّيْنِ١٠ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كُلاًّ من " قَائِمٌ " و " يصلِّي " يصح أن يتسلَّط على " فِي الْمِحْرَابِ " وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب.
والمحراب - هنا - : المسجد.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ ﴾ قرأ نافع وحمزة وابن عامر١١ بكسر " إنَّ " والباقون بفتحها، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ، فيُكْسر معه، وعند البصريين، على إضْمار القول - أي : فنادته، فقالت. والفتح والحذف - على حذف حرف الجر، تقديره : فنادته بأن الله، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها.
وفي قراءة عبد الله١٢ :" فنادته الملائكة يا زكريا " فقوله :" يا زكريا " هو مفعول النداء، وعلى هذه القراءة يتعين كسر " إن " ولا يجوز فتحُها ؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه، وهما الضمير وما نُودي به زكريا.
قوله :﴿ يُبَشِّرُكَ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم١٣ الخمسة في هذه السورة ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾ - في موضعين - وفي سورة الإسراء :﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وفي سورة الكهف :﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ - بضم الياء، وفتح الباء، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه، يُبَشِّرُه.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى، وهو قوله :﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ الشورى : ٢٣ ].
وقرأ الجميع - دون حمزة١٤ - كذلك في سورة براءة :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾ [ التوبة : ٢١ ] وفي الحجر - في قوله :﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٥٣ ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله :﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [ الحجر : ٥٤ ] - أنه بالتثقيل.
وكذلك قرأ الجميع١٥ - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين - ﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ ﴾ [ مريم : ٧ ] وقوله :﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ﴾
[ مريم : ٩٧ ]. وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة، وسكون الياء وضم الشين.
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ :
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ.
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله :﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [ الحجر : ٥٤ ].
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة. والكسائي خفَّف خمساً منها، وثقَّل أربعاً، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ – بالتخفيف-.
وعليه ما أنشده الفراء قوله :[ الطويل ]
بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً *** أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا١٦
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم " يُبَشِّرُكَ " - بضم الياء.
ومن التبشير قول الآخر :[ الكامل ]
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ *** هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ ؟١٧
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو " فَبَشِّرْهُمْ ".
﴿ وَأَبْشِرُوا ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾ [ هود : ٧١ ]. قالوا :﴿ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الحجر : ٥٥ ]. فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي.
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة.
قوله :﴿ بِيَحْيَى ﴾ متعلق ب ﴿ يُبَشِّرُكَ ﴾ ولا بد من حذف مضاف، أي : بولادة يحيى ؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ.
و " يحيى " فيه قولان :
أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين - : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً، نحو يعيش ويعمر ويموت.
قال قتادة :" سُمِّي ﴿ يَحْيَى ﴾ لأن الله أحياه بالإيمان ".
وقال الزَّجَّاج :" حيي بالعلم " وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.
والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية.
وعلى كلا القولين يُجْمَع على " يَحْيَوْنَ " بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها.
وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء ؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص، نحو جاء القاضُون، ورأيت القاضِين، نقل هذا أبو حيّان عنهم. ونقل ابنُ مالك عنهم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين.
قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان ؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة ؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق. ويصغر يحيى على " يُحَيَّى " وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك :[ مجزوء الرمل ]
أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ *** يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى *** إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا *** لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً *** لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا *** وَالَّذِي اخْتَارُوا يُحَيَّا ؟
أتُرَاهُمْ فِي ضَلالٍ *** أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا ؟١٨
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة، وذلك يختلف بالتصريف والعمل، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات، وأصل المسألة تصغير " أحْوَى " ويُنْسَب إلى " يَحْيَى " " يَحْيَى " - بحذف الألف، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و " يَحْيَوِيّ " - بالقلب ؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و " يَحْيَاوِيّ " - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً.
وقرأ حمزة والكسائي " يَحْيَى " بالإمالة ؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم.
قال ابن عباس :" سُمِّيَ " يَحْيَى ؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه ١٩.
وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان ٢٠.
وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ.
قال القرطبي :" ك
قوله :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان :
أحدهما :" أَنَّى " لأنها بمعنى " كيف " أو بمعنى " مِنْ أيْنَ " ؟، و " لِي " - على هذا - تبيين.
والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور، و " كيف " منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب " يَكُونُ "، أي : كيف يحدث لي غلام ؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " غُلاَمٌ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
قوله :﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ ﴾ جملة حالية.
قال أهل المعاني :" كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ ".
فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.
وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل : هو من المقلوب، كقوله :[ البسيط ]
مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ *** نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ٤٥
فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ؟
فالجواب : أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ.

فصل


قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس.
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال :" وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً " فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير.

فصل


الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه، وأما الكهل، فباعتبار ما كان عليه.
قالت ليلى الأخيليّة :[ الطويل ]
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا *** غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا٤٦
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً، قال تعالى :
﴿ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ [ النجم : ٣٢ ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين.
قال الشاعر :[ الطويل ]
وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً *** إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ٤٧
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله :
﴿ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ [ آل عمران : ٤٦ ] ثم هو راغم بعد ذلك.
واشتقاق " الغلام " من الغِلْمَة والاغتلام، وهو طلب النكاح، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه.
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح، واغتلم البحر، أي : هاج وتلاطمت أمواجه، مستعار منه.
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ، وفي الكثرة : غِلْمان، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع ؟
قال الفراء :" يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل – ".
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة، والغَيْلم : موضع.
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ، قال :[ الطويل ]
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا *** إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ٤٨

فصل


قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة.
وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة.
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً ٤٩.
فإن قيل : قوله :﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ ﴾ خطاب مع الله، أو مع الملائكة، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى ؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ، وهذا الكلام، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ :
أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى -.
الثاني : أنه خطاب مع الملائكة، والربُّ إشارة إلى المربِّي، ويجوز وَصْف المخلوقِ به، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ.
فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - :" أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ " أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته ؟
فالجواب : من وجوهٍ :
أحدها : إن قلنا : معناه من أين ؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق، ولا خَلْقَ إلا من نطفة، لزم التسلسل، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان.
[ ثانيها ] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله – تعالى-.
وإذا كان معنى " أنَّى " : كيف، فحدوث الولد يحتمل وجهين :
أحدهما : أي منع شيخوخته، وشيخوخة امرأته، أو يجعله وامرأته شابين، أو يرزقه الله ولداً من امرأة أخْرَى، فقوله :﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ معناه : كيف تعطيني الولد ؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً. قاله الحسنُ والأصمّ.
وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ، ويقول : كيف حصل هذا ؟ ومن أين وقع ؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا. كذا هنا.
الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى، أو من صُلْبه، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك، فربما أعاد السؤال ؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله – تعالى-.
السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال يا زكريا إن هذا الصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور٥٠، فقال زكريا ذلك ؛ دَفْعاً للوسوسة، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على أن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ.
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام ؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة، ولا مَدْخَل للشيطان فيه، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [ بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ] ٥١، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
قوله :﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ جملة حالية، إما من الياء في " لِي " فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في " بَلَغَنِي "، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة، مشتقاً من العَقْر، وهو القتل، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده، والفعل - بهذا المعنى - لازم، وأما عَقَرْتُ - بمعنى " نَحَرْت " فمُتَعَدٍّ.
قال تعالى :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ].
وقال الشاعر :[ الطويل ]
. . . *** عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ٥٢
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر، وهي بمعنى مفعول، أي : معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء، ومنه عقر الدار، وعقر الحوض، وفي الحديث :" ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا٥٣ " وعقرته، أي : أصبت عقره، أي : أصله - نحو رأسته، أي أصبت رأسه، والعقر - أيضاً - آخر الولد، وكذلك بيضة العَقر، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته، أي : صوته، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال : وأنشد الفراء :[ الرجز ]
أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا *** فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا٥٤
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.
قال الزّجّاج٥٥ : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة، وكريمة، وإنما عاقر على ذات عُقْر، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف ؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل :[ الطويل ]
لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً *** جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ٥٦
قال القرطبيُّ :" والعاقر : العظيم من الرمل، لا يُنْبِت شيئاً، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت ".
قوله :﴿ قَالَ كَذَلِكَ ﴾ هذا القائل هو الرب المذكور في قوله :﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى، وأن يكون هو جبريل - عليه السلام.
قوله :﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ في الكاف وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب، وفيه التخريجان المشهوران :
الأول - وعليه أكثر المعربين - : أنها نعت لمصدر
قوله :﴿ اجْعَلْ لِّي آيَةً ﴾ يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير، فيتعدى لاثنين : أولهما " آية "، الثاني : الجار قبله، والتقديم - هنا - واجب ؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله، والتقدير : صير آية من الآيات لي، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد، وفي " لِي " - على هذا - وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجَعْل.
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " آيةً " ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان.
وحرك الياء - بالفتح٥٨ - نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون.

فصل


المراد بالآية : العلامة، أي : علامة أعلم بها وقتَ حَمْل امرأتي، فأزيد في العبادة شكراً لذلك، وذكروا في الآية وجوهاً :
أحدها : أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً ؛ وهو قول أكثر المفسّرين، وفيه فائدتان :
إحداهما : أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد.
والثانية : أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقْدَره على الذكر، والتسبيح، والتهليل، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة.
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ :
أحدها : أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.
وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة.
ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة، فقد حصل الولد، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر.
الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد، قال تعالى : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق، وأن تكون مشتغلاً بالذكر، والتسبيح، والتهليل، معرضاً عن الخلق والدنيا ؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب.
الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام ؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
وقوله :﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ ﴾ " أن " وما في حَيِّزها في محل رفع ؛ خبراً لقوله :﴿ آيَتُكَ ﴾ أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب " تُكَلِّمَ " بأن المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه٥٩، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون " أن " مخففة من الثقيلة، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع، خبراً لِ " أن " ومثله :
﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ ﴾ [ طه : ٨٩ ] وقوله :﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ المائدة : ٧١ ] ووقع الفاصل بين " أن " والفعل الواقع خبرها حرف نفي، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين.
والثاني : أن تكون " أن " الناصبة حُمِلَتْ على " ما " أختها، ومثله :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] و " أن " وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع، خبراً ل " آيتك ".
قوله :﴿ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ﴾ الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف، خلافاً للكوفيين، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها، فحذف، كقوله تعالى :﴿ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ [ النحل : ٨١ ] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - ﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ [ مريم : ١٠ ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى ثلاث ليال وأيامها.
قوله :﴿ إلاَّ رَمْزًا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام، إذ الرمز الإشارة بعَيْن، أو حاجب أو نحوهما، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له، فإنه قال :" والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، منقطع، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها ؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ".
والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها.
أنشدوا :[ الطويل ]
إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ *** رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ٦٠
وقال آخر :[ الطويل ]
أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا *** فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ٦١
وهو مستعمل، قال حبيب :[ البسيط ]
كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ *** فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ٦٢
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له، قال :" لما أدى مؤدَّى الكلام، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً ".
والرمز : الإشارة والإيماء بعين، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة، والرمَّازة، وفي الحديث :" نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ٦٣ "، يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع.
وأصل الرمز : التحرك، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك، ومنه قيل للبحر : الراموز، لتحركه واضطرابه.
وقال الراغب٦٤ :" الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً ؛ لكثرتها ".
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت.
قال الفراء :" قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن، وهو الصوت الخفي، شبه الهَمْس ".
وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً.
وقرأ العامة :" رمزاً " - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن٦٥ قيس " رُمُزاً " بضمها - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على " فُعْل " - بتسكين العين - في الأصل، ثم ضُمَّتِ العين ؛ إتباعاً، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه.
والثاني : أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
وقال أبو البقاء :" وقرئ بضمها - أي : الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع. ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ.
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع، وضُمَّ، إتباعاً، كاليُسُر واليُسْر ".
قال شهاب الدين : قوله :" جمع رُمُزة " إلى قوله : في الأصل ؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح.
وقرأ الأعمش :" رَمَزاً " بفتحهما.
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال : إلا مترامزين، كقوله :[ الوافر ]
مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ *** رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا٦٦
وكقوله :[ الكامل ]
فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ *** أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ ؟٦٧
قوله :" كَثِيراً " نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير ذلك المصدر، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً، أو زماناً كثيراً، والباء في قوله :" بِالْعَشِيِّ " بمعنى " فِي " أي : في العشي والإبكار.
والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها، كذا قال الزمخشريُّ.
وقال الراغب :" العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ ". والأول هو المعروف.
قال الشاعر :[ الطويل ]
فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ *** وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ٦٨ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ :" العَشِيّ : جمع عشية، وهي آخر النهارِ ".
والعامة قرءوا :" والإبْكَارِ " بكسر الهمزة، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر.
قال عمر بن أبي ربيعة :[ الطويل ]
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر- *** -٦٩. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال :[ الخفيف ]
أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً- *** -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٧٠
وقال أيضاً :[ الطويل ]
بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ- *** -فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ٧١
وقرئ شاذاً " والأبْكَار " - بفتح الهمزة٧٢ - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر. وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن " اَل ". فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم.
وهذه القراءة تناسب قوله :﴿ بِالْعَشِيِّ ﴾ عند من يجعلها جمع عَشِيَّة ؛ ليتقابل الجَمْعَان.
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
وقال الراغب٧٣ : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً. والبَكور : المبالغ في البكور، وبَكَّر في حاجته، وابتكر وبَاكَر. [ وتصور فيها٧٤ ] معنى التعجيل ؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر.
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ.
وقد صرح الواحديُّ بذلك، فقال :" هذا معنى الإبكارِ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً ".

فصل


قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب، وقوله :﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾ محمول على الذكر باللسان.
وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة ؛ لأنها تسمى تسبيحاً، قال تعالى :
﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ]. ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ.
إن شئت جعلتَ «إذ» نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: ٣٥]،
213
وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر، قاله أبو البقاء.
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾، - دون تاء تأنيث، وتقدم توجيهه في «فناداه الملائكة» - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب «إنَّ» - من قوله: ﴿إِنَّ الله اصطفاك﴾ - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها.
قال الزمخشريُّ: «اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ، وربَّاكِ، واختصك بالكرامة السنية، واصطفاك آخراً على نساء العالمين، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء».
واصطفى: «افتعل» من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة، وتقدم سبب تعديه ب «على» وإن كان أصل تعديته بمن.
وقال أبو البقاء: «وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم».
وقال الواحديُّ: «وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ، والثاني: اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها».

فصل


المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله: ﴿يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ١٧٦٤; اْ﴾ [النحل: ٢] يعني: جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ [مريم: ١٧].

فصل


اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء، لقوله تعالى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧]، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى، وإنما المدَّعَى هو النبوة، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى، والإرهاص: هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة.
وقال بعضهم: إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع، والإلهام، والإلقاء في القلب، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧].

فصل


قيل: المرادُ بالاصطفاء الأول أمور:
214
أحدها: أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها.
وثانيها: قال الحسنُ: إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ.
وثالثها: أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته، وكفاها أمر رِزقها.
ورابعها: أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها.

فصل


وفي التطهير أيضاً وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية، كقوله تعالى في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٣].
وثانيها: طهرها عن مسيس الرجال.
وثالثها: طهرها عن الحيض والنفاس.
ورابعها: طهرها عن الأفعال الخسيسة.
وخامسها: طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم. وأما الاصطفاء الثاني، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة، وجعلها وابنها ىية للعالمين. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
وعن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ».
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ: مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ».
215
وقيل: دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ. وقَول مَنْ قال: «المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها، فهذا تَركٌ للظاهر. وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة، ثُمَّ خَدِيْجَةُ، ثُمَّ آسيَةُ «حديث حسن.
قال القرطبي: خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها، وظهر لها ونفخ في دِرْعها، ودنا منها للنفخة، وليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربِّها، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله: صِدِّيقةً، قال»
وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ «وقال: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه، وعقم رحم امرأته فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠]، فسأل آية. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر، ولم يَمْسَسْها بَشَر، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك، وصدَّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟
قوله: ﴿يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى:
﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨]. وأنه طول القيام.
فإن قيل: لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ.
الثاني: أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ.
الثالث: قال ابنُ الأنباري: «قوله تعالى: ﴿اقنتي لِرَبِّكِ﴾ أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك: ﴿واسجدي واركعي﴾ يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ»
.
الرابع: أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله: ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾ [ق: ٤٠] وفي الحديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين».
وأيضاً قال: فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.
216
وإذا ثبت ذلك فقوله: ﴿يامريم اقنتي﴾ معناه: قومي، وقوله: ﴿واسجدي﴾ أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب.
الخامس: لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واركعي مع الراكعات؟
فالجواب: لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل: لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً.
وقوله: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ قيل: معناه: افعلي كفعلهم.
وقيل: المراد به الصلاة الجامعة.
قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ﴾ يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يكون «ذَلِكَ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: الأمر ذلك. و ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من «نُوحِيهِ» - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً.
الثاني: أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ خبره، والجملة من «نُوحِيهِ» مستأنفة، والضميرُ من «نوحِيهِ» عائد على الغيب، أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحِيهِ». وهذا أحسن من عَوْده على «ذَلِكَ» ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على «ذَلِكَ» اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث: أن يكون «نُوحِيهِ» هو الخبر و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً ب «نُوحِيه».
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول «نُوحِيهِ» أي: نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ.

فصل


الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
217
كما في قوله: [الطويل]
١٤٥٦ -...................... فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ١١]. ويكون بالكتابة، قال زهير: [الطويل]
١٤٥٧ - أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال: [الكامل]
١٤٥٨ - فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل: الوُحِيّ: جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ: «وأصل الوحي في اللغة: إعلام في خفاءٍ».
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨] وقال - في الشياطين -: ﴿لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] وقال: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ١١]، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً.
قوله تعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً.
والثاني - وإليه ذهب الفارسي -: أنه منصوب ب «كُنْتَ». وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون «كان» تامة بمعنى: وما وُجدتَ في ذلك الوقت.
والضمير في «لَدَيْهِمْ» عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم.
فإن قيل: لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز؟
218
فالجواب: أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور﴾ [القصص: ٤٦] وقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: ١٠٢] وقوله: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا﴾ [هود: ٤٩]- وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية: ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي: وما كنت يا محمد بحضرتهم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾.
أقلام: جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي: مَقْلُوم.
والقَلْمُ: القَطْع، ومثله: القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي: قطعته وسويته.
قال زهير: [الطويل]
١٤٥٩ - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل: سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.

فصل


في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ:
أحدها: التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني: قال الربيع: ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث: قال ابو مسلم: هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ [الصافات: ١٤١]. وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.
219
واختلفوا فيهم، فقيل: هم سَدَنَةُ البيت، وقيل: هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف، ذلك الفعل في محل نصب على الحال، تقديره: يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم.
وجوز الزمخشريُّ: أن يقدَّر ب «يقولون» فيكون مَحْكيًّا به، ودل [على ذلك] قوله، يُلْقُون.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ كقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون﴾.

فصل


اختلفوا في السبب، الذي لأجله رغبوا في كفالتها، حتى تنازعوا فيها:
قيل: لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم، ومتقدِّماً فيهم، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها.
وقيل: لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها. وقيل: لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها.

فصل


دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة.
قال القرطبيُّ: وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛: لا معنى لها، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها.
قال أبو عبيد: «وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم».
قال ابنُ المُنْذِرِ: «واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء».

فصل


قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما
220
عدا الجَدَّة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال:
«الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ».
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ في هذا الظرف أوجهٌ:
أحدها: أن يكون منتصباً ب «يَخْتَصِمُونَ».
الثاني: أنه بدل من «إذْ يَخْتَصِمُونَ» وهو قول الزجاج.
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام، وزمانِ قَوْل الكلام، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ.
قال الحسنُ: إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ، كما تقول: لقيته سنةَ كذا، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.
الثالث: أن يكون بدلاً من ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه.
الرابع: نصبه بإضمار فعل.
الخامس: قال أبو عبيدة: «إذْ - هنا - صلة زائدة». والمراد بالملائكة هنا: جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة.

فصل


قال القرطبيُّ: «قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾ دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ، فهي إذاً نَبِيّة، والنبيُّ أفضل من الوليّ». وقال ابنُ الخطيب: ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام -.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى، أو كرامة لمريم.
قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» و «مِنْ» ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله: كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب.
فإن قيل: أليس كل مخلوق، فهو يخلق بهذه الكلمة؟
221
فالجوابُ: نَعَمْ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة -: إنه نفس الجود ومَحْض الكرم، فكذا ها هنا.
وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل، ونور الإحسانِ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل.

فصل


حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن، أما على اصول المسلمين، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية، وعند حصول الكيفية المزاجية، يجب تعلُّق النفس، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر، والحيَّات عن الشعر، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً. وأيضاً، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي، يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما يمشي سقط، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب، فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [كفى ذلك في علوق] الولد في رحمها، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع.
قوله: ﴿اسمه المسيح عِيسَى﴾ اسمه مبتدأ، والمسيح خبره، وعيسى بدل منه، أو عطف بيان.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله: اسمه - ولو كان» عِيسَى «خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة» وأما من يجيز ذلك فقد أعرب «عِيسَى» خبراً ثانياً، وأعربه
222
بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي: هو عيسى.
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان:
أحدهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعل، فحُوِّلَ منه مبالغةً.
قيل: لأنه يمسح الأرض بالسياحة، أي: يقطعها ومنه: مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى: مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة، كما يقال: رجل شريب.
وقيل: لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس.
وقيل: كان يمسح رأسَ اليتيم.
وقيل: يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه.
وقيل: إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة.
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له.
قال الشاعر: [الرجز]
١٤٦٠ - بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة، قال: [الطويل]
١٤٦١ - عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ........................
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ، تُمْسَح به الأنبياء، ولا يُمْسَح به غيرُهم، قالوا: وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه
223
وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن.
والثاني: أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة، وعلى هذا كلِّه، فهو منقول من الصفة.
وق لأبو عمرو بن العلاء: المَسِيح: الملك.
وقال النَّخَعِيُّ: المسيح: الصديق. ويكون المسيح بمعنى: الكذَّاب، وبه سُمِّي الدجال، والحرف من الأضداد.
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن.
أحدهما: أنه ممسوح إحدى العينَيْن.
الثاني: أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ، قالوا: ولهذا قيل له: دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال: قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك.
وقيل: سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس.
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث: أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا، فغُيِّر.
قال أبو حيان: «فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً، ليس مُشْتَقاً من المَسْح، ولا من السياحة».
قال شهاب الدينِ: «قوله: ليس مشتقاً صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم».
وعيسى أصله: يسوع، كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا - بالعبرانية.
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً.
وعيسى اسم أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه، إذا سَاسَه وقام عليه.
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله: «اسْمُهُ» وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر.
وقيل - في الدَّجّال -: مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي: يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.
224
قال الشاعر: [الرجز]
١٤٦٢ -......................... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا

فصل


«ابنُ مريم» يجوز أن يكون صفة ل «عيسَى» قال ابن عطية: وعيسى خبر لمبتدأ محذوف، ويدعو إلى هذا كون قوله: «ابن مريم» صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ. وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون «ابْنُ مَريمَ» صفة ل «عِيسَى» لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظرٌ. انتهى.
قال شهابُ الدِّينِ: «فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف، وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يكون» ابْنُ مَرْيَمَ «صفة ل» عِيسَى «يعني: بدل عيسى من المسيح، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره، وهو كتبه بغير ألف».
وقد منع أبو البقاء أن يكون «ابْنُ مَرْيَمَ» بدلاً أو صفة ل «عِيسَى» قال: «لأن» ابْن مَرْيَمَ «ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه».
قال شهاب الدينِ: «وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً، وأما كونه صفة، فلا يمنع ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ، وهي لا يُوصف بها، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب» ابن عمرو «امتنع أن يقع» ابن عمرو «صفة والحالة هذه».
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ قِيلَ: ﴿اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ وهذه ثلاثة أشياء، الاسم عِيسَى، وأما المسيح والابن فلَقَب، وصفة؟
قلت: الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها، ويتميَّزُ من غيره، فكأنه قِيلَ: الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ»
.
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ، بل هو من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [وهذا أعسر يسرا].
ونظيره قول الشاعر: [الخفيف]
225
أي مجموع كيف أصبحت، وكيف أمسيت.
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ، فكذلك في الْخَبَرِ.
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله: [الرجز}
١٤٦٣ - كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ
١٤٦٤ - مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي مُقَيِّظٌ، مُصَيِّفٌ، مَشَتِّي
وقد زعم بعضهم أن «المَسِيح» ليس باسم لَقَب له، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف، قال: وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ «الْمَسِيحُ» صفةٌ ل «عِيسَى» والتقدير: اسمه عيسى المسيح «. وهذا لا يجوز أعني: تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني: أنه صفة له في الأصل، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل، نحو قوله: [الرجز]
١٤٦٥ - وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا....................
الأصل: وبالعمر الطويل، هذا في المعارفِ، وأما في النِّكِرَاتِ، فينصبون الصفةَ حالاً.
وقال أبو حيَّان: «ولا يصح أن يكون»
الْمَسِيحُ «- في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ» عِيسَى «والمسيح من صفة المدلول، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ» عِيسَى «ليس المسيح».
ومن قال: إنهما اسمانِ، قال: تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته.
قال ابن الأنباريّ: وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ، فيشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ، فقدَّمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ، لا اسمٌ.
قال أبو إسحاق: «عيسى معرب من أيسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه: إذا ساسه وقام عليه».
قال الزمخشريُّ: «ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء»، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة.
وقوله: ﴿وَجِيهًا﴾ حال، وكذلك قوله: ﴿وَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ وقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ وقوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله: «بِكَلِمَةٍ». وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً
226
على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها: الولد والمُكَوِّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسْمُهُ».
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله. والثانيةُ: جار ومجرور، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليَّة، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به، وهو كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩]، أي: وقَابضات، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله، قولُ النابغة: [الطويل]
١٤٦٦ - فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر: [الرجز]
١٤٦٧ - بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى: مُبِيراً عدوه، وقاصداً.
وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ. فكذا فعل هنا، فقدم الاسم - وهو ﴿وَجِيهًا﴾ - ثم الجار والمجرور، ثم الفعل، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً، بخلاف الوجاهةِ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك، والجار قريبٌ من المفرد، فلذلك ثَنَّى به، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ.
والتضعيف في «الْمُقَرَّبِينَ» للتعدية، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف: قَطَّعْتُ الأثوابَ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك.
وجيء بالرابعة - بقوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ مراعاةً للفاصلةِ، كما تقدم في «الْمُقَرَّبِينَ».
والمعنى: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من «الْمَسِيحِ» أو من «عِيسَى» أو من «ابْن مرْيَمَ» قال: «لأنها أخبارٌ، والعاملُ فيها الابتداءُ، أو المبتدأ، أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ».
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في «اسْمُهُ» قال: «للفصل الواقعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال».
227
قال شهابُ الدينِ: «ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ، وهو مرادُهُ بقولِهِ: ولعدم العامل. وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها. وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من» عِيسَى «فإنَّه قال: والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً، كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيه، قطعَ منه التعريف. فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ ﴿وَجِيهًا﴾ من صفةِ» عِيسَى «في الأصلِ، فقطع عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى».
والوجيه: ذو الجاه، وهو القوةُ، والمنعةُ، والشرفُ.
وجمع «وَجيه» وُجَهاءُ، ووِجَاهٌ، يقال: وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ.
وقال بعضهم: الوجيهُ: الكريمُ.
و «كَهْلاً» من قولهم: اكتهلت الدوحة، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة.
وقال الراغب: «والكهل: مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ، واكتهل النباتُ: إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ».
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها -: [البسيط]
١٤٦٨ - يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته، عند ذِكْر «غلام».
وقال بعضهم: «ما دامَ في بطن أمِّه، فهو جنين، فإذا وُلِدَ فوليد، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش، فإذا دبَّ ونما: فدراج، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور، [فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء]، فإذا جاوز العشر: فمترعرع، وناشئ. فإذا رَاهَق الحُلم: فيافع، ومُراهق. فإذا احتلم فحَزَوَّر. والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة، فإذا اخضر شارُبه، وسال عذاره: فباقِل، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ: ففتًى وشارخ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ، ومن الأربعين إلى ستين كهل»، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك، وهذا أشهرها.
فإن قيل: المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب.
228
فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المهد، وعاش، أو لم يتكلمْ أصلاً، بل يبقى أخرس أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها.
وثانيها: قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم: «يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة».
وثالثها: يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة.
ورابعها: قال الأصَمُّ: المراد منه: بيان أنه يبلغ من [الصِّبَا، إلى] الكهولة.
وخامسها: أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم: إن عيسى كان إلهاً، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة، والتغيُّر على الإلهِ محال.
فإن قيل: قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً، وعلى هذا التقدير، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ.
فالجوابُ: قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً.
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ: «ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناسَ، ويقتل الدَّجَّالَ، قال: وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض».
و «وَجِيهاً» اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه، فوزنه «عَفل».
قوله: ﴿فِي الدنيا﴾ متعلق ب «وَجِيهاً» ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ، ومعنى كونه ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا﴾ بسبب النبوة، و «في الآخرة» بسبب عُلُوِّ المنزلة.
وقوله: ﴿فِي الدنيا﴾ بأنه مُسْتَجَاب الدعاء، ويُحْيي الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته.
وقيل: في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته.
فإن قيل: كيف كان وجيهاً في الدنيا، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ: أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه، مع أن اليهودَ طعنوا
229
فيه، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا، ولم يقدح ذلك في وجاهته، فكذا هنا.
قوله: ﴿وَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ قيل «كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل.
وقيل: معناه: سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ.
وقيل: ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم.
وقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ الواو للعطف على قوله: «وَجِيهًا»
، والتقدير: وجيهاً ومُكَلَّماً.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [أو لفائدة]، والأوْلَى أن يُقال: تقدير الآيةِ: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المعدود من المقرَّبِينَ، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾. فقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ عطف على قوله: ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾.
وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ﴾ فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على «يُبَشِّرُكِ» فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و «يُبَشِّرُكِ» خبر - فيصير التقدير: إن الله يكلم الناسَ في المهدِ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم، فجاز العطف.
قوله: ﴿فِي المهد﴾ يجوز فيه وَجْهَان:
أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ أي: يكلمهم صَغِيراً، و «كَهْلاً» على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.
والثاني: أنه ظرف ل «يُكَلِّمُ» كسائر المنفصلات، و «كَهلاً» على هذا نَسَق على «وَجِيهاً» فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ.
والكهل: هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة، وأولها ثلاثون.
وقيل: اثنان وثلاثون.
وقيل: ثلاث وثلاثون.
وقيل: أربعون. وآخرها: خمسون.
وقيل: ستون. ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ. واشتقاقه من: اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل.
230
وقال صاحبُ المُجْمَلِ: «أكهل الرجل: وَخَطَهُ الشَّيْبُ».

فصل


كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٠ - ٣٣].
وحكي عن مجاهدٍ قال: قالت مريم: كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ.

فصل


ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده، قال: «لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جُرَيْج». [وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وصاحب الجبار» ].
وقال الضَّحَّاكُ: «تكلم في المهد ستة شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج» ولم يذكر صاحب الأخدود، فأسقط صاحب الأخدود، وبه يكون المتكلمون سبعةً.
قال القرطبيُّ: «ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام -:» لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ «بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك، فأخْبَرَ به.
والمهدُ: ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه، من مَهَّدت له المكان - أي: وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ: أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر، فسُمِّي به المكانُ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر. وقد قرئ: مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب [قوله: وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان.
قال الحسين بن الفضل: في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها
231
في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ، يمتنع إخفاؤه. وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح، حتى ادَّعَوْا ألوهيته، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً.
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء، فنسبهم الناس إلى الكذب، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يدل على معجزته، وصدقه.
قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ » يكون «يحتمل التمام والنقصان، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك: ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ وقال هنا ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ قيل: لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز، فإنه يستبعد، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب» يَخْلُقُ «المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة.
قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ هذه الجملة حَالٌ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث، والمفرد، والمثنى، والجمع، تقول: هذه بَشَرٌ، وهذا بَشَرٌ، وهؤلاء بَشَرَ. كقولك: هؤلاء خَلْق.
قيل: واشتقاقه من البشرة، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته، وتقدم اختلاف القرَّاء في ﴿فَيَكُونُ﴾ وما ذُكِر في توجيهه.

فصل


قال المفسّرون: إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ.

فصل


قال القرطبيُّ: «معنى قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ أي: يا سيدي، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها، قال لها: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾ [مريم: ١٩] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد، فقالت: ﴿أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ؟ أي: بنكاح، وذلك: لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح، [أو سفاح].
232
وقيل: إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت: كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً.
قوله: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. تقدم الكلام فيه.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها، فحملت من ساعتها بعيسى.
وقيل: وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا، فعلقت بذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ جبريلُ، ليهيجَ شهوتَها، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا، فاختلط الماءان، فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ قرأ نافع وعاصم ويعقوب ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ:
أحدها: أنها معطوفة على» يُبَشِّرُكِ «أي: أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة.
الثاني: أنها معطوفة على»
يَخْلُقُ «أي: كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء، وأما قراءة النون، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، إيذاناً بالفخامة والتعظيم.
فأما عطفه على»
يُبَشِّرُكِ «فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا، قال:» لطول الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه «، وأما عطفه على» يَخْلُقُ «فقال:» هو معطوف عليه سواء كانت - يعني «يَخْلُقُ» خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها، إذا أعربت لفظ «اللهُ» مبتدأ، وما قبله خبر «.
يعني أنه تقدم في إعراب ﴿كَذَلِكَ الله﴾ في قصة زكريا أوجهٍ:
أحدها ما ذكره - ف «يُعَلِّمُهُ»
معطوف على «يخلُقُ» بالاعتبارين [المذكورين] ؛ إذْ
233
لا مَانِعَ من ذلك، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجملة من «نُعَلِّمُهُ» - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه.
الثالث: أن يعطف على «يُكَلِّمُ» فيكون منصوباً على الحال، والتقدير: يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره.
الرابع: أن يكون معطوفاً على «وَجِيهاً» ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ.
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال: «الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثلُه في لسان العرب».
الخامس: أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول: - وهي ﴿كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾.
قال أبو حيّان: «وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في (قال كذلك) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ (الله) مبتدأ خبره ما قبله، أم مبتدأ، وخبره» يَخْلُقُ «- على ما مر إعرابه في ﴿قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط، والتبشير بهذا الولد، الذي أوجده اللهُ منها».
السادس: أن يكون مستأنفاً، لا محلَّ له من الإعراب.
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على «يُبَشِّرُكِ» أو يخلق أو «وَجِيهاً» -: «أو هو كلام مبتدأ» يعني مستأنفاً.
قال أبو حيّان: «فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام، حتى يكون المعطوف كذلك».
قال شهاب الدين: «وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعار مشحونة بذلك، ويُسمونها واوَ
234
الاستئناف، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه، ولكن الأول أشهر القولين».
وقال الطبريُّ: قراءة الياء عطف على قوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، وقراءة النون، عطف على قوله: ﴿نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾.
قال ابن عطيةَ: «وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى». ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.
قال أبو حيّان: «أما قراءةُ النون، فظاهر فساد عطفه عفى» نُوحِيهِ «من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى، فيصير المعنى بقوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾، أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم، وَكَفَالَةِ زكريا، وقصته في ولادة يحيى، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم [معناه] مع معنى ما قبله.
أما قراءة الياء وعطف»
وَيُعَلِّمُهُ «على» يَخْلُقُ «فليست مُفْسِدَةً للمعنى، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف» وَيُعَلِّمُهُ «لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ» اه.
قال أبو البقاء: «يُقْرَأ - نعلمه - بالنون، حملاً على قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ويقرأ بالياء؛ حملاً على» يُبَشِّرُكِ «وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «.
قال أبو حيّان: وقال بعضهم:»
وَنُعَلِّمُهُ «- بالنون - حملاً على» نُوحِيهِ «- إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح».
قال شهاب الدين: «يتعين أن يعني بقوله: حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله: وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «وكيف يستقيم أن يُرِيدَ
235
عطفه على» يُبَشِّرُكِ «أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على» وَجِيهاً «؟ هذا ما لا يستقيم أبداً».

فصل في المراد ب «الكتاب»


المرادُ من «الكِتَاب» : تعليم الخط والكتابة، ومن «الْحِكْمَة» تعليم العلوم، وتهذيب الأخلاق: ﴿والتوراة والإنجيل﴾ كتابان إلهيان، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ.
قوله: ﴿وَرَسُولاً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على «فَعُول» كالصَّبور والشَّكُور.
والثاني: أنه - في الأصل - مصدر، ومن مَجِيء «رسول» مصدراً قوله: [الطويل]
١٤٦٩ - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر: [الوافر]
١٤٧٠ - ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة.
ومنه قوله تعالى: «إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين» - على أحد التأويلين - أي: إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب «رَسُولاً»، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «يُعَلِّمُهُ» - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وَجِيهاً» - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً.
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ.
وقال أبو حيّان: «وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول: إن» وَيُعَلِّمُهُ «معطوف على» وَجِيهاً «؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [وهو مبني على إعراب» ويعلمه «] ».
الثاني: أن يكون نَسَقاً على «كَهْلاً» الذي هو حال من الضمير المستتر في «وَيُكَلِّمُ»، أي: يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
236
قال شهاب الدين: «ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير: يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ».
فإن قيل: هي حَالٌ مُقَدَّرة، كقولهم: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، وقوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣].
وقيل: الأصل في الحال أن تكون مقارنة، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديره: ويجعله رسولاً، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] وقوله: [مجزوء الكامل]
١٤٧١ - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر: [الكامل]
١٤٧٢ - فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً...........................
وقول الآخر: [الوافر]
١٤٧٣ -............................ وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي: واعتقدوا الإيمانَ، وحاملاً رُمْحاً، وسيقتها ماءً بارداً، وكحَّلْنَ العيون.
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.
الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ «رسول» ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى.
الخامس: أن الرسول - فيه بمعنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين، ما قاله الزمخشريُّ: «فإن قلت: عَلاَم تَحْمِل»
237
وَرَسُولاً «و» مُصَدِّقاً «من المنصوبات المتقدمة، وقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ و ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يأبى حَمله عليها؟
قلت: هو من المضايق، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يُضمر له»
وأرسَلْت «- على إرادة القول - تقديره: ويعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يديَّ.
الثاني: أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي»
. اه.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر.
وقال أبو حيان: «وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذْ يُفْهَم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة».
واختار أبو حيّان الوجه الثالث، قال: «إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ معمولاً ل» رَسُولاً «أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور».
الثالث: أن يكون حالاً من مفعول «وَيًعَلِّمُهُ» وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل: ويعلمه الكتاب، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو، وهو مذهب مَرْجُوحٌ.
وعلى الثاني وهو كون «الرسول» مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ «يُعَلِّمُهُ» - أي: ويعلمه الكتاب والرسالة معاً، أي: يعلمه الرسالة أيضاً.
الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، وفيه التأويلات المشهورة في: رَجُلٌ عَدْل.
وقرأ اليزيديُّ «وَرَسُولٍ» بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله: «بِكَلِمَةٍ» أي: يبشرك بكلمة وبرسول.
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.
238
قوله: ﴿إلى بني إِسْرَائِيلَ﴾ فيه وَجْهَانِ:
أحدهما: أن يتعلق بنفس «رسول» إذْ فعله يتعدى ب «إِلَى».
والثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رَسُولاً» فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور، مجرورة في قراءة اليزيديِّ.

فصل


هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل، وقال بعض اليهودِ: إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين.
قيل: إنما كان رسولاً بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ: وفي حديث أبي ذر الطويل: «... وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى، وآخرهُم عِيسَى».
قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ قرأ العامَّةُ «أنِّي» بفتح الهمزة، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض -، إذ الأصل: بأني، فيكون «بأنَّي» متعلِّقاً ب «رَسُولاً» وهذا مذهب الخليلِ والكسائي.
والثاني: أن موضعها نصب، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين: سيبويه والفرّاء.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: يذكر، فيذكر صفة ل «رَسُولاً» حُذِفَت الصفة، وبقي معمولُها.
الثالث: أنه منصوب على البدل من «رَسُولاً»، أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديره: ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم.
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنها على إضمار القول، أي قائلاً: إني قد جئتكم، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى، وأبقي معموله.
والثاني: أن «رَسُولاً» بمعنى ناطق، فهو مُضَمَّن معنى القول، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين.
قوله: ﴿بِآيَةٍ﴾ يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ، على أنه حال من فاعل
239
«جِئْتُكمُ»، أي: جئتكم [ملتبساً بآية]. والثاني: أن يكون متعلقاً بنفس المجيء، أي: جاءتكم الآية.. والآية: العلامة.
فإن قيل: لم قال «بِآيَةٍ» وقد أتى بآياتٍ؟
فالجوابُ: أن المراد بالآية: الجنس.
وقيل: لأن الكل دل على شيء واحدٍ، وهو صدقه في الرسالة.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ صفة ل «آيَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بآية من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن يتعلق ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ بنفس المجيء - أيضاً.
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله: «بِآيَةٍ» - بقوله: «محتجاً بآيةٍ، إن عنى من جهة المعنى صح، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن، إلا الأكوان المُطْلَقَة».
وقرأ الجمهور «بِآيةٍ» - بالإفراد - في الموضعين، وابن مسعود -: بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين.
قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: على إضمار القول، أي: فقلت: إني أخلق.
الثاني: أنه على الاستئناف.
والثالث: على التفسير، فسر بهذه الجملة قوله: «بِآيَةْ»، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال هذا الكلام.
ونظيره قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩] ثم قال: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] ف «خَلَقَهُ» مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [المائدة: ٩] ثم فسر الوعد ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٩]. وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه، وفي الوجه الثالث نقول: إنه متعلِّق بما تقدمه، مفسِّر له.
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنها بدل من ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ فيجيء، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها.
240
الثاني: أنها بدل من «بِآيَةٍ» فيكون محلُّها الجَرّ، أي: وجئتكم بأني أخلق لكم، وهذا نفسه آية من الآيات.
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هي أني أخلق، أي: الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال ذلك.
الرابع: أن تكون منصوبةً بإضمار فعل، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال، كأنه قال: أعني أني أخلُقُ.
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف.
قوله: ﴿أَخْلُقُ لَكُم﴾ [البقرة: ٢١] أن الخلق هو التقدير، ويدل عليه وُجُوهٌ:
أحدها: قوله: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤] أي: المقدِّرين، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية.
وثانيها: أن لفظ الخلق: يطلق على الكذب، قال تعالى: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾ [الشعراء: ١٣٧] وقال: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] وقال: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾ [ص: ٧]. والكاذب إنما سُمِّي خالقاً، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره.
وثالثها: هذه الآية.
ورابعها: قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض﴾ [البقرة: ٢٩] إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله: «خلق» على الإيجاد والإبداع لكان المعنى: أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك بَاطِلٌ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض.
وخامسها: قول الشاعر: [الكامل]
١٤٧٤ - وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
وقال الآخر: [البسيط]
241
١٤٧٥ - وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ
وسادسها: أنه يقال: خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، والخَلاَق: المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي: له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخَلْقاء: الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية.
وقال أبو عبد الله البصريُّ: لا يجوز إطلاق «الخالق» على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ.
وأجيب بقوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ [فاطر: ٣] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ.
إذا عرفت هذا فقوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ معناه: أقَدِّر وأصَوِّر.
قوله: ﴿لَكُمْ﴾ متعلق ب «أخلُقُ» واللام للعلة، أي: لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً، بل أحداثها. و ﴿مِّنَ الطين﴾ متعلق به - أيضاً - و «مِنْ» لابتداء الغاية، وقول من قال: إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه.
قوله: ﴿كَهَيْئَةِ﴾ في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير. والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً، ثم أطلِقَت على المفعول - أي: المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى: المخلوق، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً، والمصدر: التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة.
ويقال: هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف، قال تعالى: ﴿وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً﴾ [الكهف: ١٦]، والطين معروف، يقال: طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي: جبله عليه، والنفخ مَعْرُوفٌ.
الثاني: أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر، أو إضافة، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك.
الثالث: أنها نعت لمصدر محذوف، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ: «ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد، تقديره: أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ».
242
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق، اللهم إلا أن نقول: المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.
قال الزمخشري: أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله: «أقدر» تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع، فإنه مختص بالباري - تعالى -.
وقرأ الزهريُّ: «كَهَيْئَةِ» - بنقل حركة الهمزة إلى الياء.
وقرأ أبو جعفر: «كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ».
قوله: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ في هذا الضمير ستة أوجُهٍ:
أحدها: أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي: فأنفخ في مثل هيئة الطير.
الثاني: أنه عائد على «هَيْئَةِ»، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة﴾ [النساء: ٨] ثم قال ﴿فارزقوهم مِّنْهُ﴾ [النساء: ٨] فأعاد الضمير في ﴿مِنْهَا﴾ على ﴿القِسْمَةَ﴾ لما كانت بمعنى المقسوم.
الثالث: أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف، أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
الرابع: أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.
الخامس: أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى: أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره: أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير. قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.
السادس: أنه عائد على الطين، قاله أبو البقاء، وأفسده الواحديُّ، قال: «ولا يجوز أن تعود الكناية على» الطِّينِ «لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين».
وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم، بل المراد
243
بعضه. ولذلك أدخل عليه «مِنْ» التي تقتضي التبعيض، فإذا صار المعنى: أني أخلق بعض الطين، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال، ولكنَّ الواحدي جعل «مِنْ» في الطين لابتداء الغاية، وهو الظَّاهِرُ.
قال أبو حيّان: «وقرأ بعض القُرَّاء» فأنْفَخَهَا «. أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة: ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً﴾ [المائدة: ١١٠] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر، كما حذف في قوله: [البسيط]
١٤٧٦ - مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة: [البسيط]
١٤٧٧ -.................... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك، وينفخ في الفَحْمِ. وهي قراءة شائة، نقلها الفرَّاء»
.
قال شهابُ الدين: «وعجبت منه، كيف لم يَعْزُها، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله، قال: وقرأ:» أعبدُ الله «فأنفخها».
قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ في «يكون» وجهان:
أحدهما: أنها تامة، أي: فيوجد، ويكون «طيراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طَيْراً» - على هذا - حالاً.
والثاني: أنها ناقصة، و «طيراً» خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ «طَائِراً» ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق.
وإذا قيل بنقصانها، فيجوز أن تكون على بابها، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» الناقصة، كقوله: [الطويل]
١٤٧٨ - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت.
244
وقال أبو البقاء: «فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون» كان «هنا - التامة؛ لأن معناها» صار «بمعنى: انتقل، ويجوز أن تكون الناقصة، و» طَائِراً «- على الأول - حالٌ، وعلى الثاني - خَبَرٌ».
قال شِهَابُ الدِّينِ: «ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى» صار «التامة التي معناها معنى» انتقل «بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث، ووجد، وحصل، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى» صار «فإنما يعنون» صار «الناقصة».
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون «طَيْراً» في الموضعين.
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد، والتقدير: فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو «طَيْراً» - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد «طائر» - بالألف - فالرسم محمل، لا مُنَافٍ.
قال بعضهم كالشارح لما تقدم -: ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ، وزعم آخرون أن معنى قراءته: يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقوله تعالى: ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم.
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي: جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه، ويحتمل أن يراد به الجمع، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله: ﴿مِّنَ الطير﴾ - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ يجوز أن يتعلق ب «طَيْراً» - على قراءة نَافِعٍ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن «طَيْراً» اسم جِنْسٍ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ «طَيْراً» أي: طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره.
قال أبو البقاء: متعلق ب «يكون». وهذا إنما يظهر إذا جعل «كان» تامة، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور.
245

فصل


روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ، وأظهر المعجزات، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً، فصوَّره، فنفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وَهْبٌ: كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق.
قيل: خلق الخُفَّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً، وهي تحيض وتطهر وتَلِد.
وقيل: إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يُبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس سَاعةً، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ.

فصل


قال بعض المتكلمين: دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ، ثم هاهنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال: إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [الملك: ٢] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ معناه: بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ١٤٥] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ.

فصل


القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح.
246
قوله: «وأبرئ الأكمه» وأبرئ عطف على «أخْلُقُ» فهو داخل في خبر «أنِّي». يقال: أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف. وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ.
وقال الأصمعيُّ: برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ.
قال الراغبُ: «بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ، وَبَرَأت من فلان»، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما، فالفتح ليس إلا.
والبراءة: التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء.

فصل


من وُلِدَ أعْمَى، يقال: كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه.
قال رؤبة: [الرجز]
١٤٧٩ - فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ... يقال: كمهتها، أي: أعميتها.
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما: «الأكمهُ: من وُلِدَ مطموس العينين»، وهو قول ابنِ عباس وقتادة.
قال الزمخشري: «ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير».
قال الراغب: «وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه: أكمه».
قال سُوَيد: [الرمل]
١٤٨٠ - كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا.........................
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ: هو الأعمى.
247
وقال عكرمةُ: هو الأعمش.
وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز
والبرص: داء معروف، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه، ويُقال: برص يبرص بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويقال له: الوَضَح، وفي الحديث: «وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ». والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له: الأبرص. ويقال للقمر: أبْرَص؛ لشدة بياضِه.
وقال الراغب «وللنكتة التي عليه» وليس بِظَاهِرٍ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء، والوزغ سامٌّ أبرص، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص، والبريص: الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص.

فصل


إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
قال وَهَبٌ: رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى.
قال الكلبيُّ: كان عيسى يُحْيي الموتَى ب «يا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أخي عَازَرَ» وكان صديقاً له، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا، ومرَّ على ابن عجوز ميت، فدعا الله عيسى، فنزل عن سريره حَيًّا، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ، وبنت العاشر أحياها، وولدت بعد ذلك. وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر، وعاش، ووُلِدَ له. وأما ابنُ العجوزِ، فإنه مر به محمولاً على سريره، فدعا الله، فقام، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة، فدعا الله، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً، ولعله لم يمت، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح، فقال: دلوني على قبره، فخرجوا وخرج معهم، حتى انتهى إلى قبره، فدعا الله، فخرج من قبره، قد شاب رأسُهُ، فقال له عيسى: كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال: يا رُوحَ اللهِ، إنك دعوتني، فسمعت صوتاً يقول: أجِبْ رُوحَ اللهِ، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هَوْل
248
ذلك شاب رأسي.
فساله عن النزع، فقال: يا روح الله، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم: صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ، فآمن به بعضُهم، وكذَّبه بعضُهم، وقالوا: هذا سحرز

فصل


قَيَّد قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله: ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص﴾ ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُم﴾ من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن.
قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ يجوز في «ما» أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - ونكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك «ما» في قوله: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه.
قوله: ﴿تَدَّخِرُونَ﴾ قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ، وأصله: تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر، وهو التخبية، يقال: ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي: خبَّأه.
قال الشاعر: [البسيط]
١٤٨١ - لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها
الذخر: فُعْل بمعنى المذخور، نحو الأكل بمعنى المأكول، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول: وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله: من الثَّعَالِي، وأرانيها، يريد: الثعالب، وأرانبها، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها.
ولما كان أصله: تَذْتَخِرون، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ: تَدَّخرون.
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح.
249
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني «تَذْخَرُونَ» - بسكون الذَّال المعجمة، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرته - أي: خبَّأته.
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة، فيقول: اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر.
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال أبو البقاء: والأصل في «تَدَّخِرُونَ» تَذتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة، والتاء مهموسة، فلم يجتمعا، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال، ثم أبدِلت الذال دالاً، وأدغمت. و «في بيوتكم» متعلق ب «تَدَّخِرُونَ».

فصل


في الآية قولان:
أحدهما: قال السُّديُّ: كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبيُّ إلى أهله، ويبكي لهم، حتى يعطوه ذلك الشيءَ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى، وطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا. فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير، ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمُّه، حملته على حمارٍ لها، وخرجت هاربةً به إلى مصر.
قال قتادةُ: إنما كان هذا في المائدةِ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد، فخانوا وخبّأوا، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا، فمسخهم اللهُ خنازيرَ.
وقال القرطبيُّ: إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وبما ندخر للغد، فأخبرهم، فقال: يا فلان، أكلتَ كذا وكذا، وادَّخرت كذا وكذا، وأنت يا فلان، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا.

فصل


اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين
250
يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى.
قوله: ﴿إنَّ فِى ذَلِكَ﴾ إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر.
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته «لآياتٍ» - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى، وأن تكون من كلام الله تعالى.
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابه محذوف، أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية، وتدبَّرتموها. وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل «آية» أي: لآية نافعة. قال ابو حيّان: «حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط» وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة.
قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل «بآيَةٍ» في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ: نصب «مُصَدِّقاً» على الحال، المعنى: وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار «جئتكم»، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ - ومثله في الكلام: جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له.
قال الفراء: «ولا يجوز أن يكون» مُصَدِّقاً «معطوفاً على» وَجِيهاً «؛ لأنه لو كان كذلك لقال: أو مصدقاً لما بين يديه، يعني: أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم». وذكر غير الفرّاء، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على «رَسُولاً» قال: لأنه لو كان مردوداً عليه لقال: ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال: بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفاً على «رَسُولاً» لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان: وقد ذكرنا أنه يجوز في «رَسُولاً» أن يكون منصوباً بإضمار فعل - أي: وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون «مُصَدِّقاً» معطوفاً على «رَسُولاً».
قوله: ﴿مِنَ التوراة﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من «ما» الموصولة، أي: الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني: أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل.
251

فصل


اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ، وجب الاعترافُ بنبوته.
قوله: ﴿وَلأُحِلَّ﴾ فيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» إذ المعنى: جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم، ومثله من الكلام: جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي: دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال، وهذا تعليلٌ.
قال أبو حيّان: - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ -: «وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: ١٠] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.
وكذلك قول الشاعر: [الطويل]
١٤٨٢ - تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله: لم يُكَثِّرْ، وفي قوله: ولا بِحَقلَّدٍ، أي: ليس بمكثر ولا بحقلدٍ.
وكذلك ما جاء منه «.
قال شهابُ الدّينِ:»
ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» أي: بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل «.
الثاني: انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي: جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك.
الثالث: أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي: وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع: أنه متعلق بقوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع.
الخامس: أن يكون ﴿ولأُحِلَّ لَكُمْ﴾ رداً على قوله:»
بِآيةٍ «. قال الزمخشريُّ: ﴿وَلأُحِلَّ﴾ رَدٌّ على قوله ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.
252
قال أبو حيان:» ولا يستقيم أن يكون ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم﴾ راَّا على «بآيَةٍ»، لأن «بِآيَةٍ» في موضع حال و «لأحل» تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف «.
قال شهاب الدين: ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على»
بآية «من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله: ﴿بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ المراد ب»
بَعْض «مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة: إنها - هنا - بمعنى»
كل «.
مستدلاًّ بقول لَبِيد: [الكامل]
١٤٨٣ - تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن»
بَعْضاً «بمعنى» كُلّ «بقول الآخر: [الطويل]
١٤٨٤ - أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي: أهون من كل شر.
واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر: [البسيط]
١٤٨٥ - إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
أي: في كلها خللاً، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب»
بَعْضَ النُّفُوسِ «نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ.
253
وقرأ العامة: «حُرِّمَ» بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حَرَّمَ» مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ: «حَرُمَ» - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
فإن قيل: هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله: ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة﴾.
فالجوابُ: أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ.

فصل


قال وَهَبٌ: كان عيسى على شريعة موسى، يقرِّر السبتَ، ويستقبل بيتَ المَقدِس، ثم فَسَّرَ قوله: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بأمرين:
أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً، ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى ورفعها، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام -.
الثاني: أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود، فجاء عيسى، ورفع عنهم تلك التشديداتِ.
وقال آخرون: إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ، فرفع السَّبْتَ، وأقام الأحدَ مُقَامَه.
قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.
254
قال أبو البقاء: «هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها».
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ: قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وتكون هذه الآية هي ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، [وهو صحيح].
وقال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ.
وقوله: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ قراءة العامة بكسر همزة «إنّ» على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا: إن ﴿جِئْتُكُمْ﴾ تأكيد.
أما إذا جعلناه تأسيساً، وجُعِلَت الآية هي قوله: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف، بل يكون الكسر على إضمار القول، وذلك القول بدلٌ من الآية، كأن التقدير: وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾، ف «قَوْلِي» بدلٌ من آية، و «إنّ» وما في حَيِّزها معمول «قولي»، ويكون قوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه.
وقرئ بفتح الهمزة، وفيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من «آية»، كأن التقدير: وجئتكم بأن الله ربي وربكم، أي: جئتكم بالتوحيد.
وقوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضٌ أيضاً.
الثاني: أن ذلك على إضمار لام العلة، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله ﴿فاعبدوه﴾، والتقدير: فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: ١] إلى أن قال: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ﴾ [قريش: ٣] إذ التقدير فليعبدوا، لإيلاف قريش، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون: أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها.
الثالث: أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و «على» يتعلق بآية بنفسها، والتقدير: وجئتكم بآية على أن الله، كأنه قيل: بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى -
255
قاله ابنُ عَطِيَّةَ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ.
قوله: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ «هذا» إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ أو إلى نفس ﴿إِنَّ الله﴾ باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم.
256
قوله :﴿ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى :﴿ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ]. وأنه طول القيام.
فإن قيل : لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع ؟
فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ.
الثاني : أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ.
الثالث : قال ابنُ الأنباري :" قوله تعالى :﴿ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك :﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي ﴾ يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ ".
الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله :﴿ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾
[ ق : ٤٠ ] وفي الحديث :" إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ".
وأيضاً قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.
وإذا ثبت ذلك فقوله :﴿ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي ﴾ معناه : قومي، وقوله :﴿ وَاسْجُدِي ﴾ أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله :﴿ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب.
الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع. فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : واركعي مع الراكعات ؟
فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل : لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً.
وقوله :﴿ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ قيل : معناه : افعلي كفعلهم.
وقيل : المراد به الصلاة الجامعة.
قوله :﴿ ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ ﴾ يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون " ذَلِكَ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره : الأمر ذلك. و﴿ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ ﴾ - على هذا - يجوز أن يكون من تتمة هذا الكلام، حالاً من اسم الإشارة، ويجوز أن يكون الوقف على " ذَلِكَ " ويكون ﴿ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ ﴾ متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من " نُوحِيهِ " - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً.
الثاني : أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ، و﴿ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ ﴾ خبره، والجملة من " نُوحِيهِ " مستأنفة، والضميرُ من " نوحِيهِ " عائد على الغيب، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في " نُوحِيهِ ". وهذا أحسن من عَوْده على " ذَلِكَ " ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على " ذَلِكَ " اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث : أن يكون " نُوحِيهِ " هو الخبر و ﴿ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ ﴾ على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً ب " نُوحِيه ".
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول " نُوحِيهِ " أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ.

فصل


الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
كما في قوله :[ الطويل ]
. . . *** فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا١
وقال تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ١١ ]. ويكون بالكتابة، قال زهير :[ الطويل ]
أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ *** بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ٢
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال :[ الكامل ]
فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا *** خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا٣
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ :" وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ ".
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من إشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾
[ النحل : ٦٨ ] وقال - في الشياطين - :﴿ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ] وقال :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾[ مريم : ١١ ]، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً.
قوله تعالى :﴿ إِذْ يُلْقُونَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً.
والثاني - وإليه ذهب الفارسي - : أنه منصوب ب " كُنْتَ ". وهو منه عجيب ؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث ؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون " كان " تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت.
والضمير في " لَدَيْهِمْ " عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ - ؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم.
فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز ؟
فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ﴾ [ القصص : ٤٦ ] وقوله :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ ﴾
[ يوسف : ١٠٢ ] وقوله :﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ﴾ [ هود : ٤٩ ] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جارٍ مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم ﴿ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾.
أقلام : جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي : مَقْلُوم.
والقَلْمُ : القَطْع، ومثله : القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له : قَلَم ؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته.
قال زهير :[ الطويل ]
لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ٤
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.

فصل


في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ :
أحدها : التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث : قال أبو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤١ ]. وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً ؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.
واختلفوا فيهم، فقيل : هم سَدَنَةُ٥ البيت، وقيل : هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي.
قوله :﴿ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ هذه الجملة منصوبة المحل ؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف، ذلك الفعل في محل نصب على الحال، تقديره : يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم.
وجوز الزمخشريُّ : أن يقدَّر ب " يقولون " فيكون مَحْكيًّا به، ودل [ على ذلك ] ٦ قوله، يُلْقُون.
وقوله :﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون ﴾.

فصل


اختلفوا في السبب، الذي لأجله رغبوا في كفالتها، حتى تنازعوا فيها :
قيل : لأن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم، ومتقدِّماً فيهم، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها.
وقيل : لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها. وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها.

فصل


دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة.
قال القرطبيُّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة ؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه٧، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا معنى لها، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها.
قال أبو عبيد :" وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم ".
قال ابنُ المُنْذِرِ :" واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ".

فصل


قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال :" الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ ".
١ ينظر: اللسان (وحي)، والبحر المحيط ٢/٤٧٤، والدر المصون ٢/٩٣..
٢ البيت لكعب بن زهير وليس كما قال المصنف ينظر ديوانه (٦٤) والبحر المحيط ٢/٤٧٤ وتفسير الطبري ٢/٤٠٦ والمحرر الوجيز ١/٤٣٥ والدر المصون ٢/٩٣..
٣ البيت للبيد بن أبي ربيعة ينظر ديوانه ٣١٠ والخصائص ١/١٩٦ والجمهرة ١/١٧٢ وشرح القصائد العشر ص ٢٠١ واللسان (روى) ١/٣٨٥ والبحر ٢/٤٧٥ والدر المصون ٢/٩٣..
٤ ينظر البيت في ديوانه ص ٢٨ وشرح القصائد السبع ص ٢٧٧ وشرح القصائد العشر ص ١٩٠ والبحر ٢/٤٧٤ والخزانة ٣/١٦..
٥ في أ: خزنة..
٦ في ب: عليه..
٧ في أ: أحد..
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منتصباً ب " يَخْتَصِمُونَ ".
الثاني : أنه بدل من " إذْ يَخْتَصِمُونَ " وهو قول الزجاج.
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام، وزمانِ قَوْل الكلام، ولم يكن ذلك ؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ.
قال الحسنُ : إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ، كما تقول : لقيته سنةَ كذا، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.
الثالث : أن يكون بدلاً من ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه.
الرابع : نصبه بإضمار فعل.
الخامس : قال أبو عبيدة :" إذْ - هنا - صلة زائدة ". والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة.

فصل


قال القرطبيُّ :" قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ﴾ دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عز وجل - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ، فهي إذاً نَبِيّة، والنبيُّ أفضل من الوليّ ". وقال ابنُ الخطيب : ذلك كرامة لها ؛ إذ ليست نبية ؛ لاختصاص النبوةِ بالرجال، وقال جمهورُ المعتزلة ؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام -.
قال ابنُ الْخَطِيبِ : وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى، أو كرامة لمريم.
قوله :﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ في محل جر ؛ صفة ل " كَلِمَةٍ " و " مِنْ " ليست للتبعيض ؛ إذ لو كان كذلك، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية ؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله : كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّبِ.
فإن قيل : أليس كل مخلوق، فهو يخلق بهذه الكلمة ؟
فالجوابُ : نَعَمْ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة - : إنه نفس الجود ومَحْض الكرم، فكذا ها هنا.
وأيضاً فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل، ونور الإحسانِ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل.

فصل


حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن، أما على أصول المسلمين، فظاهر ؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولَى، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد ؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية، وعند حصول الكيفية المزاجية، يجب تعلُّق النفس، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر، والحيَّات عن الشعر، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً. وأيضاً، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي، يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما يمشي سقط، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب، فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [ كفى ذلك في علوق ] ١ الولد في رحمها، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع.
قوله :﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ﴾ اسمه مبتدأ، والمسيح خبره، وعيسى بدل منه، أو عطف بيان.
قال أبو البقاء :" ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله : اسمه - ولو كان " عِيسَى " خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة " وأما من يجيز ذلك فقد أعرب " عِيسَى " خبراً ثانياً، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - أي : هو عيسى.
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ، وهو النَّصْب بإضمار أعني ؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاً جاز قطعه نصباً، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان :
أحدهما : أنه فَعِيل بمعنى فاعل، فحُوِّلَ منه مبالغةً.
قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى : مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة، كما يقال : رجل شريب.
وقيل : لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس.
وقيل : كان يمسح رأسَ اليتيم. ٢
وقيل : يلبس المسح فسمي بما يؤوب إليه.
وقيل : إنه فَعِيل بمعنى مفعول ؛ لأنه مُسِحَ بالبركة٣.
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، ٤ أو لأنه مَسِيح القَدَم لا أخْمَصَ له٥.
قال الشاعر :[ الرجز ]
بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ *** مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ٦
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة، قال :[ الطويل ]
عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ ***. . . ٧
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ، تُمْسَح به الأنبياء، ولا يُمْسَح به غيرُهم، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة ؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن.
والثاني : أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة، وعلى هذا كلِّه، فهو منقول من الصفة.
وقال أبو عمرو بن العلاء : المَسِيح : الملك.
وقال النَّخَعِيُّ : المسيح : الصديق. ويكون المسيح بمعنى : الكذَّاب، وبه سُمِّي الدجال، والحرف من الأضداد.
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن.
أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينَيْن.
الثاني : أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ، قالوا : ولهذا قيل له : دَجَّال ؛ لضَرْبه الأرضَ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال : قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك.
وقيل : سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس.
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث : أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا، فغُيِّر.
قال أبو حيان :" فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً، ليس مُشْتَقاً من المَسْح، ولا من السياحة ".
قال شهاب الدينِ :" قوله : ليس مشتقاً صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم ".
وعيسى أصله : يسوع، كما قالوا في موسى : أصله موشى، أو ميشا - بالعبرانية.
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً.
وعيسى اسم أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه، إذا سَاسَه وقام عليه.
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله :" اسْمُهُ " وإن كان عائداً على الكلمة ؛ مراعاةً للمعنى ؛ إذ المراد بها مذكَّر.
وقيل - في الدَّجّال- : مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور ؛ لأنه يمسح الأرض - أي : يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ، فهو فعيل بمعنى فاعل.
والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً ؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.
قال الشاعر :[ الرجز ]
. . . *** إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا٨

فصل


" ابنُ مريم " يجوز أن يكون صفة ل " عيسَى " قال ابن عطية : وعيسى خبر لمبتدأ محذوف، ويدعو إلى هذا كون قوله :" ابن مريم " صفة لعيسى ؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ. وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون " ابْنُ مَريمَ " صفة ل " عِيسَى " لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظرٌ. انتهى.
قال شهابُ الدِّينِ :" فقد حَتَّم كونه صفة ؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف، وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يكون " ابْنُ مَرْيَمَ " صفة ل " عِيسَى " يعني : بدل عيسى من المسيح، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره، وهو كتبه بغير ألف ".
وقد منع أبو البقاء أن يكون " ابْنُ مَرْيَمَ " بدلاً أو صفة ل " عِيسَى " قال :" لأن " ابْن مَرْيَمَ " ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه ".
قال شهاب الدينِ :" وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً، وأما كونه صفة، فلا يمنع ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة ؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ، وهي لا يُوصف بها، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب " ابن عمرو " امتنع أن يقع " ابن عمرو " صفة والحالة هذه ".
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتَ : لِمَ قِيلَ :﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ وهذه ثلاثة أشياء، الاسم عِيسَى، وأما المسيح والابن فلَقَب، وصفة ؟
قلت : الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها، ويتميَّزُ من غيره، فكأنه قِيلَ : الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ ".
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ، بل هو من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [ وهذا أعسر يسرا ]٩.
ونظيره قول الشاعر :[ الخفيف ]
كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا *** يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ١٠
أي مجموع كيف أصبحت، وكيف أمسيت.
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ، فكذلك في الْخَبَرِ.
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله :[ الرجز ]
مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي *** مُقَيِّظٌ، مُصَيِّفٌ، مَشَتِّي١١
وقد زعم بعضهم أن " المَسِيح " ليس باسم لَقَب له، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف، قال : وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ ؛ إذ " الْمَسِيحُ " صفةٌ ل " عِيسَى " والتقدير : اسمه عيسى المسيح ".
وهذا لا يجوز أعن
١ في أ: إن حصل..
٢ ذكره الرازي في " التفسير الكبير" (٨/٤٤)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤١٤) عن سعيد بن جبير..
٤ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (٨/٤٤)..
٥ انظر المصدر السابق..
٦ البيت لشريح بن شرحبيل ونسب للأغلب العجلي ونسب للأخفش بن شهاب ونسب لرشيد بن رميض ينظر تفسير الطبري ٩/٤٧٣ وزاد المسير ٢/٢٧١ والصحاح ٥/١٩٤٣ والبحر المحيط ٢/٤٦٠ وتاج العروس ٨/٣٢٧ والدر المصون ٢/٩٤..
٧ صدر بيت لذي الرمة وعجزه:
وتحت الثياب الخزي إن كان باديا
ينظر ديوانه ٣/١٩٢١ والخزانة ١/٥٢ والأغاني ٦/١٢٠ وأمالي الزجاجي (٥٧) والشعر والشعراء ١/٥٣٤ والتهذيب ٤/٣٤٩ ومعاهد التنصيص ٣/٢٦١ والدر المصون ٢/٩٤..

٨ ينظر: مجمع البيان ٣/٨٠، واللسان (مسح)، وتهذيب اللغة ٤/٣٤٧، والقرطبي ٤/٨٩..
٩ سقط في ب..
١٠ ينظر: الخصائص ١/٢٩٠، ٢/٢٨٠، والدرر ٦/١٥٥، والأشباه والنظائر ٨/١٣٤، وشرح الأشموني ٢/٤٣١، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤١، وديوان المعاني ٢/٢٢٥، وهمع الهوامع ٢/١٤٠، ورصف المباني ص ٤١٤، والدر المصون ٢/٩٥..
١١ البيت لرؤبة ينظر ديوانه ص ١٨٩ والدرر ١/٨، والأشموني ١/٢٢ والكتاب ٢/٤. وابن يعيش ١/٩٩ والهمع ١/١٠٨ ومجاز القرآن ٢/٢٤٧ والإنصاف ٢/٧٢٥ والجمهرة ١/٢٢ والدر المصون ٢/٩٥..
وقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ ﴾ الواو للعطف على قوله :" وَجِيهًا "، والتقدير : وجيهاً ومُكَلَّماً.
قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيفٌ ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [ أو لفائدة ]١، والأوْلَى أن يُقال : تقدير الآيةِ : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المعدود من المقرَّبِينَ، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال :﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ ﴾. فقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ ﴾ عطف على قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُك ﴾.
وأجيب بأن هذا خطأ ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ﴾ فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على " يُبَشِّرُكِ " فهو خطأ ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و " يُبَشِّرُكِ " خبر - فيصير التقدير : إن الله يكلم الناسَ في المهدِ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم، فجاز العطف.
قوله :﴿ فِي الْمَهْدِ ﴾ يجوز فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير في ﴿ وَيُكَلِّمُ ﴾ أي : يكلمهم صَغِيراً، و " كَهْلاً " على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.
والثاني : أنه ظرف ل " يُكَلِّمُ " كسائر المنفصلات، و " كَهلاً " على هذا نَسَق على " وَجِيهاً " فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ.
والكهل : هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة، وأولها ثلاثون.
وقيل : اثنان وثلاثون.
وقيل : ثلاث وثلاثون.
وقيل : أربعون. وآخرها : خمسون.
وقيل : ستون. ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ. واشتقاقه من : اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل.
وقال صاحبُ المُجْمَلِ :" أكهل الرجل : وَخَطَهُ الشَّيْبُ ".

فصل


كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله :
[ مريم : ٣٠-٣٣ ]
وحكي عن مجاهدٍ قال : قالت مريم : كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ.

فصل


ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده، قال :" لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جُرَيْج ".
[ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وصاحب الجبار ]٢ " ٣
وقال الضَّحَّاكُ :" تكلم في المهد ستة شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج٤ " ولم يذكر صاحب الأخدود، فأسقط صاحب الأخدود، وبه يكون المتكلمون سبعةً.
قال القرطبيُّ :" ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام - :" لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ " بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ، ثم بعد هذا أعلمه الله - تعالى - بما شاء من ذلك، فأخْبَرَ به.
والمهدُ : ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه، من مَهَّدت له المكان - أي : وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ : أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر، فسُمِّي به المكانُ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر. وقد قرئ : مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب [ قوله : وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان.
قال الحسين بن الفضل : في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد ] ٥ أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ، يمتنع إخفاؤه. وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح، حتى ادَّعَوْا ألوهيته، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً.
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء، فنسبهم الناس إلى الكذب، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على معجزته، وصدقه.
١ سقط في ب..
٢ أخرجه البخاري (٤/٣٢٠) كتاب الأنبياء: باب واذكر في الكتاب مريم (٣٤٣٦) ومسلم (٤/١٩٧٦) وأحمد (٢/٣٠١، ٣٠٧، ٣٠٨)..
٣ سقط في ب..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" الجامع لأحكام القرآن" (٤/٥٩) عن الضحاك..
٥ سقط في ب..
قوله :﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ﴾ " يكون " يحتمل التمام والنقصان، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك :﴿ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ وقال هنا ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ قيل : لأن قِصَّتَها أغربُ من قصته ؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ البتة، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز، فإنه يستبعد، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب " يَخْلُقُ " المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة.
قوله :﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ هذه الجملة حَالٌ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر والمؤنَّث، والمفرد، والمثنى، والجمع، تقول : هذه بَشَرٌ، وهذا بَشَرٌ، وهؤلاء بَشَرَ.
كقولك : هؤلاء خَلْق.
قيل : واشتقاقه من البشرة، وهي ظاهر الجلدِ ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته، وتقدم اختلاف القرَّاء في ﴿ فَيَكُونُ ﴾ وما ذُكِر في توجيهه.

فصل


قال المفسّرون : إنما قالت ذلك ؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة ؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ.

فصل


قال القرطبيُّ :" معنى قوله :﴿ قَالَتْ رَبِّ ﴾ أي : يا سيدي، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها، قال لها :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾ [ مريم : ١٩ ] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد، فقالت :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ ؟ أي : بنكاح، وذلك : لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح، [ أو سفاح ]١
وقيل : إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت : كيف يكون هذا الولد ؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل ؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً.
قوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾. تقدم الكلام فيه.
قال ابنُ جُرَيْجٍ : نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها، فحملت من ساعتها بعيسى.
وقيل : وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا، فعلقت بذلك.
وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل ؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس ؛ ولكن سبب ذلك، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ جبريلُ، ليهيجَ شهوتَها، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا، فاختلط الماءان، فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى :﴿ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
١ سقط في أ..
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ﴾ قرأ نافع وعاصم ويعقوب ﴿ وَيُعَلِّمُهُ ﴾ - بياء الغيبة١ - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ :
أحدها : أنها معطوفة على " يُبَشِّرُكِ " أي : أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة.
الثاني : أنها معطوفة على " يَخْلُقُ " أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء، وأما قراءة النون، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، إيذاناً بالفخامة والتعظيم.
فأما عطفه على " يُبَشِّرُكِ " فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا، قال :" لطول الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه "، وأما عطفه على " يَخْلُقُ " فقال :" هو معطوف عليه سواء كانت - يعني " يَخْلُقُ " خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها، إذا أعربت لفظ " اللهُ " مبتدأ، وما قبله خبر ".
يعني أنه تقدم في إعراب ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ ﴾ في قصة زكريا أوجه :
أحدها ما ذكره - ف " يُعَلِّمُهُ " معطوف على " يخلُقُ " بالاعتبارين [ المذكورين ] ٢ ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجملة من " نُعَلِّمُهُ " - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه.
الثالث : أن يعطف على " يُكَلِّمُ " فيكون منصوباً على الحال، والتقدير : يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره.
الرابع : أن يكون معطوفاً على " وَجِيهاً " ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ.
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال :" الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثلُه في لسان العرب ".
الخامس : أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول :- وهي ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾.
قال أبو حيّان٣ :" وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة ؛ وذلك أن الضمير في ( قال كذلك ) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ ( الله ) مبتدأ خبره ما قبله، أم مبتدأ، وخبره " يَخْلُقُ " - على ما مر إعرابه في ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط، والتبشير بهذا الولد، الذي أوجده اللهُ منها ".
السادس : أن يكون مستأنفاً، لا محلَّ له من الإعراب.
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على " يُبَشِّرُكِ " أو يخلق أو " وَجِيهاً " - :" أو هو كلام مبتدأ " يعني مستأنفاً.
قال أبو حيّان٤ :" فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه، فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام، حتى يكون المعطوف كذلك ".
قال شهاب الدين٥ :" وهذا الاعتراض غير لازم ؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه ؛ لأن النحويين، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل أشعارهم، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعار مشحونة بذلك، ويُسمونها واوَ الاستئناف، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه، ولكن الأول أشهر القولين ".
وقال الطبريُّ : قراءة الياء عطف على قوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾، وقراءة النون، عطف على قوله :﴿ نُوحِيهِ إلَيْكَ ﴾.
قال ابن عطيةَ :" وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى ". ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.
قال أبو حيّان٦ :" أما قراءةُ النون، فظاهر فساد عطفه عفى " نُوحِيهِ " من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى، فيصير المعنى بقوله :﴿ ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ ﴾، أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم، وَكَفَالَةِ زكريا، وقصته في ولادة يحيى، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه، أي : نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم [ معناه ] مع معنى ما قبله.
أما قراءة الياء وعطف " وَيُعَلِّمُهُ " على " يَخْلُقُ " فليست مُفْسِدَةً للمعنى، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف " وَيُعَلِّمُهُ " لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ " اه.
قال أبو البقاء٧ :" يُقْرَأ - نعلمه - بالنون، حملاً على قوله :﴿ ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ ويقرأ بالياء ؛ حملاً على " يُبَشِّرُكِ " وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً ".
قال أبو حيّان٨ : وقال بعضهم :" وَنُعَلِّمُهُ " - بالنون - حملاً على " نُوحِيهِ " - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح ".
قال شهاب الدين٩ :" يتعين أن يعني بقوله : حَمْلاً ؛ الالتفات ليس إلا، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً " وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على " يُبَشِّرُكِ " أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على " وَجِيهاً " ؟ هذا ما لا يستقيم أبداً ".

فصل في المراد ب " الكتاب "


المرادُ من " الكِتَاب " : تعليم الخط والكتابة، ومن " الْحِكْمَة " تعليم العلوم، وتهذيب الأخلاق :﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ كتابان إلهيان، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم ؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ.
١ وقرأ بها عاصم، وأبو جعفر.
ينظر: السبعة ٢٠٦، والكشف ١/٣٤٤، والحجة ٣/٤٣، وحجة القراءات ١٦٣، وإتحاف ١/٤٠٨، والعنوان ٧٩، وإعراب القراءات ١/١١٣، وشرح الطيبة ٤/١٥٧، وشرح شعلة ٣١٤..

٢ سقط في أ..
٣ ينظر: البحر المحيط ٢/٤٨٤..
٤ ينظر: البحر المحيط ٢/٤٨٥..
٥ ينظر: الدر المصون ٢/٩٩..
٦ ينظر: البحر المحيط ٢/٤٨٥..
٧ ينظر: الإملاء ١/١٣٥..
٨ ينظر: البحر المحيط ٢/٤٨٥..
٩ ينظر: الدر المصون ٢/١٠٠..
قوله :﴿ وَرَسُولاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على " فَعُول " كالصَّبور والشَّكُور.
والثاني : أنه - في الأصل - مصدر، ومن مَجِيء " رسول " مصدراً قوله :[ الطويل ]
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ *** بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ١
وقال آخر :[ الوافر ]
ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً *** بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ٢
أي أبلغه رسالة.
ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦ ] - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب " رَسُولاً "، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " يُعَلِّمُهُ " - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وَجِيهاً " - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً.
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ.
وقال أبو حيّان :" وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن " وَيُعَلِّمُهُ " معطوف على " وَجِيهاً " ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب " ويعلمه " ٣ ".
الثاني : أن يكون نَسَقاً على " كَهْلاً " الذي هو حال من الضمير المستتر في " وَيُكَلِّمُ "، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ، واستبعده أبو حيّان ؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال شهاب الدين٤ :" ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ ".
فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، وقوله :﴿ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ].
وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديره : ويجعله رسولاً، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ﴾ [ الحشر : ٩ ] وقوله :[ مجزوء الكامل ]
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا٥
وقول الآخر :[ الكامل ]
فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً ***. . . ٦
وقول الآخر :[ الوافر ]
. . . *** وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا٧
أي : واعتقدوا الإيمانَ، وحاملاً رُمْحاً، وسقيتها ماءً بارداً، وكحَّلْنَ العيون. وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ " رسول " ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى.
الخامس : أن الرسول - فيه - بمعنى النطق، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين، ما قاله الزمخشريُّ :" فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل " وَرَسُولاً " و " مُصَدِّقاً " من المنصوبات المتقدمة، وقوله :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾ و﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يأبى حَمله عليها ؟
قلت : هو من المضايق، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُضمر له " وأرسَلْت " - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يديَّ.
الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي ". اه.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات، لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم ؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير ؛ ليناسب الضمائر.
وقال أبو حيان :" وهذا الوجه ضعيف ؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت، أنه رسول، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة ".
واختار أبو حيّان الوجه الثالث، قال :" إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾ معمولاً ل " رَسُولاً " أي : ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور ".
الثالث : أن يكون حالاً من مفعول " وَيُعَلِّمُهُ " وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو، وهو مذهب مَرْجُوحٌ.
وعلى الثاني وهو كون " الرسول " مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ " يُعَلِّمُهُ " - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً، أي : يعلمه الرسالة أيضاً.
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل.
وقرأ اليزيديُّ " وَرَسُولٍ " بالجر٨ - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله :" بِكَلِمَةٍ " أي : يبشرك بكلمة وبرسول.
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.
قوله :﴿ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن يتعلق بنفس " رسول " إذْ فعله يتعدى ب " إِلَى ".
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " رَسُولاً " فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور، مجرورة في قراءة اليزيديِّ.

فصل


هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل، وقال بعض اليهودِ : إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين.
قيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ : وفي حديث أبي ذر الطويل :". . . وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى، وآخرهُم عِيسَى ". ٩
قوله :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾ قرأ العامَّةُ " أنِّي " بفتح الهمزة، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض -، إذ الأصل : بأني، فيكون " بأنَّي " متعلِّقاً ب " رَسُولاً " وهذا مذهب الخليلِ والكسائي.
والثاني : أن موضعها نصب، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين : سيبويه والفرّاء.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي : يذكر، فيذكر صفة ل " رَسُولاً " حُذِفَت الصفة، وبقي معمولُها.
الثالث : أنه منصوب على البدل من " رَسُولاً "، أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم.
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة١٠، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها على إضمار القول، أي قائلاً : إني قد جئتكم، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى، وأبقي معموله.
والثاني : أن " رَسُولاً " بمعنى ناطق، فهو مُضَمَّن معنى القول، وما كان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين.
قوله :﴿ بِآيَةٍ ﴾ يحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ، على أنه حال من فاعل " جِئْتُكمُ "، أي : جئتكم [ ملتبساً بآية ] ١١.
والثاني : أن يكون متعلقاً بنفس المجيء، أي : جاءتكم الآية. . والآية : العلامة.
فإن قيل : لم قال " بِآيَةٍ " وقد أتى بآياتٍ ؟
فالجوابُ : أن المراد بالآية : الجنس.
وقيل : لأن الكل دل على شيء واحدٍ، وهو صدقه في الرسالة.
قوله :﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ صفة ل " آيَةٍ " فيتعلق بمحذوف، أي : بآية من عند ربكم، ف " مِنْ " للابتداء مجازاً، ويجوز أن يتعلق ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ بنفس المجيء - أيضاً.
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله :" بِآيَةٍ " - بقوله :" محتجاً بآيةٍ، إن عنى من جهة المعنى صح، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن، إلا الأكوان المُطْلَقَة ".
وقرأ الجمهور " بِآيةٍ " - بالإفراد - في الموضعين، وابن مسعود١٢- : بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين.
قوله :﴿ أَنِي أَخْلُقُ ﴾ قرأ نافع بكسر١٣ الهمزة، والباقون بفتحها، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : على إضمار القول، أي : فقلت : إني أخلق.
الثاني : أنه على الاستئناف.
والثالث : على التفسير، فسر بهذه الجملة قوله :" بِآيَةٍ "، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام.
ونظيره قوله :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] ثم قال :﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] ف " خَلَقَهُ " مفسرة للمثل ؛ ونظيره - أيضاً قوله :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ المائدة : ٩ ] ثم فسر الوعد ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٩ ]. وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف ؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه، مفسِّر له.
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنها بدل من ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾ فيجيء، فيها ما تقدم في تلك ؛ لأن حكمها حكمها.
الثاني : أنها بدل من " بِآيَةٍ " فيكون محلُّها الجَرّ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم، وهذا نفسه آية من الآيات.
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره : هي أني أخلق، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال ذلك.
الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ.
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف.
قوله :﴿ أَخْلُقُ لَكُم ﴾ أقدِّر لكم وأصَوِّر، وقد تقدم في قوله ﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] أن الخلق هو التقدير، ويدل عليه وُجُوهٌ :
أحدها : قوله :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] أي : المقدِّرين، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية.
وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب، قال تعالى :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٣٧ ] وقال :﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾
[ العنكبوت : ١٧ ] وقال :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ﴾ [ ص : ٧ ]. والكاذب إنما سُمِّي خالقاً، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره.
وثالثها : هذه الآية.
ورابعها : قوله تعالى :﴿ خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله :" خلق " على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك بَاطِلٌ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض.
وخامسها : قول الشاعر :[ الكامل ]
وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ الْقَوْمِ يَ
١ تقدم برقم ٦٥١..
٢ البيت للأشعر الجعفي ونسبه ابن دريد للأعشى وليس في ديوانه ينظر المفردات في غريب القرآن ص ٣٨٤ والجمهرة ٢/٤ واللان (رسل) وزاد المسير ٣/٢٣٢ ومجاز القرآن ٢/٨٧..
٣ سقط في ب..
٤ ينظر: الدر المصون ٢/١٠١..
٥ تقدم برقم ١٦٠..
٦ تقدم برقم ١٦٠..
٧ عجز بيت للراعي النميري وصدره:
وهزة نسوة من حي صدق ***...
وفي رواية أخرى:
إذ ما الغانيات برزن يوما ***...
ينظر الصناعتين (١٣٦) والشذور (٣٠٠) والمغني ٢/٣٥٧ وأساس البلاغة ١/٣٩٤ ومشكل ابن قتيبة ٢١٣ ومعاني الفراء ٣/١٢٣ وأوضح المسالك ١/٢٩٩ والخصائص ٢/٤٣٢ والتصريح ١/٣٤٦ والأشموني (٤٤٣) والإنصاف ٢/٦١٠ وتذكرة النحاة ص ٦١٧ والدرر اللوامع ٢/١٦٩ والارتشاف ٢/٢٨٩ والهمع ١/٢٢٢، ٢/١٣٠ والدر المصون ٢/١٠١..

٨ ينظر: الشواذ ٢٠، والبحر المحيط ٢/٤٨٦، والدر المصون ٢/١٠٢..
٩ ينظر: القرطبي ٤/٦٠..
١٠ ينظر: المحرر الوجيز ١/٤٣٨، والبحر المحيط ٢/٤٨٦، والدر المصون ٢/١٠٣..
١١ في أ: جاءتكم آية..
١٢ ينظر: المحرر الوجيز ١/٤٣٨، والبحر المحيط ٢/٤٨٧، والدر المصون ٢/١٠٣..
١٣ انظر: السبعة ٢٠٦، والكشف ١/٣٤٤، والحجة ٣/٤٣، والعنوان ٧٩، وإعراب القراءات ١/١١٣، وحجة القراءات ١٦٤ وشرح الطيبة ٤/١٥٨، وشرح شعلة ٣١٤، وإتحاف ١/٤٧٩..
قوله :﴿ مُصَدِّقًا ﴾ نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل " بآيَةٍ " في محل نصبٍ على الحالِ ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ : نصب " مُصَدِّقاً " على الحال، المعنى : وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار " جئتكم "، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ - ومثله في الكلام : جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له.
قال الفراء :" ولا يجوز أن يكون " مُصَدِّقاً " معطوفاً على " وَجِيهاً " ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : أو مصدقاً لما بين يديه، يعني : أنه لو كان معطوفاً عليه ؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم ". وذكر غير الفرّاء، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على " رَسُولاً " قال : لأنه لو كان مردوداً عليه لقال : ومصدقاً لما بين يديك ؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال : بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفاً على " رَسُولاً " لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب ؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان : وقد ذكرنا أنه يجوز في " رَسُولاً " أن يكون منصوباً بإضمار فعل - أي : وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون " مُصَدِّقاً " معطوفاً على " رَسُولاً ".
قوله :﴿ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من " ما " الموصولة، أي : الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني : أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف ؛ لقيامه مقامَ الفعل.

فصل


اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء ؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ، وجب الاعترافُ بنبوته.
قوله :﴿ وَلأُحِلَّ ﴾ فيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه معطوف على معنى " مُصَدِّقاً " إذ المعنى : جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم، ومثله من الكلام : جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي : جئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ ؛ لأن المعطوف عليه حال، وهذا تعليلٌ.
قال أبو حيّان١ :- بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ - :" وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه ؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ﴾
[ المنافقون : ١٠ ] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.
وكذلك قول الشاعر :[ الطويل ]
تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ٢
كيف اتخذ معنى النفي في قوله : لم يُكَثِّرْ، وفي قوله : ولا بِحَقلَّدٍ، أي : ليس بمكثر ولا بحقلدٍ. وكذلك ما جاء منه ".
قال شهابُ الدّينِ٣ :" ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى " مُصَدِّقاً " أي : بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل ".
الثاني : انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي : جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك.
الثالث : أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي : وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع : أنه متعلق بقوله :﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع.
الخامس : أن يكون ﴿ ولأُحِلَّ لَكُمْ ﴾ رداً على قوله :" بِآيةٍ ". قال الزمخشريُّ :﴿ وَلأُحِلَّ ﴾ رَدٌّ على قوله ﴿ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي : جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.
قال أبو حيان :" ولا يستقيم أن يكون ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم ﴾ ردّا على " بآيَةٍ "، لأن " بِآيَةٍ " في موضع حال و " لأحل " تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال ؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف ".
قال شهاب الدين : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على " بآية " من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله :﴿ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ المراد ب " بَعْض " مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة : إنها - هنا - بمعنى " كل ".
مستدلاًّ بقول لَبِيد :[ الكامل ]
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا٤
يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى : ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن " بَعْضاً " بمعنى " كُلّ " بقول الآخر :[ الطويل ]
أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ٥
أي : أهون من كل شر.
واستدل آخرون بقول الشَّاعِر :[ البسيط ]
إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ٦
أي : في كلها خللاً، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه ؛ إذ مراد لبيد ب " بَعْضَ النُّفُوسِ " نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح ؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ.
وقرأ العامة :" حُرِّمَ " بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة " حَرَّمَ " مبنيًّا للفاعل٧ وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله :
﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى ؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ :" حَرُمَ٨ " - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
فإن قيل : هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها ؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله :﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾.
فالجوابُ : أنه لا مناقضة بين الكلام ؛ لأن التصديق بالتوراة، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ.

فصل


قال وَهَبٌ : كان عيسى على شريعة موسى، يقرِّر السبتَ، ويستقبل بيتَ المَقدِس٩، ثم فَسَّرَ قوله :﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ بأمرين :
أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً، ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى ورفعها، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام-.
الثاني : أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء ؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود، فجاء عيسى، ورفع عنهم تلك التشديداتِ.
وقال آخرون : إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة ؛ لِمَا بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ، فرفع السَّبْتَ، وأقام الأحدَ مُقَامَه.
قوله :﴿ وَجِئْتُكُمْ ﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى ؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.
قال أبو البقاء :" هذا تكرير للتوكيد ؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها ".
ويحتمل أن تكون للتأسيس ؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ : قوله :﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله :﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وتكون هذه الآية هي ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه ؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً ؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، [ وهو صحيح ]١٠.
وقال :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ.
١ ينظر: البحر المحيط ٢/٤٧٦..
٢ تقدم..
٣ ينظر: الدر المصون ٢/١٠٩..
٤ ينظر البيت في ديوانه ص ٣١٣، والخصائص ١/٧٤، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٥، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٥١، ومجالس ثعلب ص ٦٣، ٣٤٦، ٤٣٧، والمحتسب ١/١١١، وخزانة الأدب ٧/٣٤٩، والخصائص ٢/٣١٧، ٣٤١، والدر المصون ١/١١٠..
٥ البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوانه ص ٦٦، والكتاب ١/٣٤٨، والدرر ٣/٦٧، وهمع الهوامع ١/١٩٠ وجمهرة اللغة ص ١٢٧٣، وشرح المفصل ١/١١٨، والمقتضب ٣/٢٢٤، والدر المصون ١/١١٠ ولسان العرب (حنن)..
٦ ينظر البيت في الإنصاف ٢/٧٦٧. والدر المصون ١/١١٠..
٧ انظر: المحرر الوجيز ١/٤٤١، والبحر المحيط ٢/٤٩٠، والدر المصون ٢/١١٠..
٨ انظر: السابق..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٣٨) عن وهب..
١٠ سقط في أ..
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ قراءة العامة بكسر همزة " إنّ " على الإخبار المستأنف ؛ وهذا ظاهر على قولنا : إن ﴿ جِئْتُكُمْ ﴾ تأكيد.
أما إذا جعلناه تأسيساً، وجُعِلَت الآية هي قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف، بل يكون الكسر على إضمار القول، وذلك القول بدلٌ من الآية، كأن التقدير : وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي :﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾، ف " قَوْلِي " بدلٌ من آية،
و " إنّ " وما في حَيِّزها معمول " قولي "، ويكون قوله :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه.
وقرئ بفتح الهمزة١، وفيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه بدل من " آية "، كأن التقدير : وجئتكم بأن الله ربي وربكم، أي : جئتكم بالتوحيد.
وقوله :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ اعتراضٌ أيضاً.
الثاني : أن ذلك على إضمار لام العلة، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾، والتقدير : فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله :﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ [ قريش : ١ ] إلى أن قال :﴿ فَلْيَعْبُدُواْ ﴾ [ قريش : ٣ ] إذ التقدير فليعبدوا، لإيلاف قريش، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع ؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون : أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها.
الثالث : أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و " على " يتعلق بآية بنفسها، والتقدير : وجئتكم بآية على أن الله، كأنه قيل : بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - قاله ابنُ عَطِيَّةَ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ.
قوله :﴿ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ " هذا " إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾ أو إلى نفس ﴿ إِنَّ اللَّهَ ﴾ باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم.
١ انظر: الكشاف ١/٣٦٥، والمحرر الوجيز ١/٤٤١، والبحر المحيط ٢/٤٩١ والدر المصون ٢/١١١..
الإحساس: الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال: أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه -.
قال الشاعر: [الوافر]
١٤٨٦ - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
قال سيبويه: ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون: أحسست وأحسَسْنَ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة، فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف.
وقيل: الإحساس: الوجود والرؤية، يقال: هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي: وجدته، أو رأيته؟
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الحِسّ» في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى الرؤية، قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر﴾ [آل عمران: ٥٢] وقوله تعالى: ﴿أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ﴾ [الأنبياء: ١٢] أي رأوه. وقوله ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ [مريم: ٩٨] أي: هل تَرَى منهم؟
الثاني: بمعنى القتل، قال تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] أي:
256
تقتلونهم.
الثالث: بمعنى البحث، قال تعالى: ﴿فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ [يوسف: ٨٧].
الرابع: بمعنى الصوت، قال تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ [الأنبياء: ١٠٢] أي: صَوْتَهَا.
قوله: ﴿مِّنْهُمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «أحَسَّ» و «مِنْ» لابتداء الغاية أي: ابتداء الإحساس من جهتهم.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من الكفر، أي: أحس الكفر حال كونه صادراً منهم.

فصل


في هذا الإحساس وجهان:
أحدهما: أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه.
والثاني: أن يُحْمَلَ على التأويل، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ:
أحدها: قال السُّدِّيُّ: إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا، فخافهم واختفى عنهم.
وقيل: نفوه وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض، فَنَزَلا في قرية على رجل، فأضافهم، وأحسن إليهم، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً، مُهْتضمًّا، ومريم عند امرأته، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباص؟ قالت: لا تسأليني. فقالت: أخبريني، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه، قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده، ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل، عاقبه، واليوم نوبتنا، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ، قالت: فقولي له: لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له، فيُكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك، فقال: يا أمَّه، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت: قد احْسَنَ إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ماءاً] ثم أعْلِمْني.
ففعل ذلك، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً، وما في الجوابي خَمْراً، لم يرى الناس مثلَه، فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ، قال: من اين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا، قال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هذه من أرض أخرى، فلما خلط على الملك، واشتد عليه، قال: أنا أُخْبِرُك، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال: إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني، فدعا عيسى
257
فكلمه في ذلك فقا لعيسى: لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال: ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى: فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال: نعم. فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك، قال: أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا: مَنْ أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله، ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق، فقصد اليهودُ قتلَه، وأظهروا الطعن فيه.
وثانيها: أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة، وأنه ينسخ دينَهم، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه، طالبين قَتْلَهُ، فلما أظهر الدعوةَ، اشتد غضبهُم، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله.
وثالثها: أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به، وأن دعوته لا تنجع فيهم، فأحب أن يمتحنهم، ليتحقق ما ظنه بهم، فقال لهم: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ فما أجابه إلا الحواريُّونَ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون، مصرون على إنكار دينه، وطلب قتله.
قوله: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ ؟ «أنْصَار» جمع نصير نحو شريف وأشراف.
وقال قوم: هو جمع نَصْر المراد به المصدر، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و «إلى» على بابها، وتتعلق بمحذوف؛ لنها حال، تقديره: من أنصاري مضافين إلى الله، كذا قدره أبو البقاء.
وقال قوم إن «إلَى» بمعنى مع أي: مع الله، قال الفرَّاء: وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل «إلَى» في موضع «مع» إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه، كقول العرب: الذود إلى الذَّوْدِ إبل، أي: مع الذود.
بخلاف قولك: قدم فلان ومعه مال كثير، فإنه لا يصلح أن يقال: وإليه مال، وكذا قوله: قدم فلان مع أهله، ولو قلت إلى أهله لم يصح، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢].
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى: «مع» فقال: [وقيل: هي بمعنى: «مع» ] وليس بشيء؛ فإن «إلَى» لا تصلح أن تكون بمعنى «مع» ولا قياس يُعَضِّدُهُ.
وقيل: إن «إلَى» بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله: ﴿يهدي إِلَى الحق﴾، كذا
258
قدره الفارسي.
وقيل: ضمَّن أنصاري معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي، فيكون «إلَى الله» متعلقاً بنفس «أنصاري».
وقيل: متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في «أنْصَارِي» أي: مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه، قاله الزمخشريُّ.
وقيل: التقدير: من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله، وإلى أن أظهر دينه، ويكون «إلَى» هاهنا غاية؛ كأنه أراد: من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمرُ الله؟
وقيل: المعنى: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟
وفي الحديث: أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى -: «اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ» أي تقرّبنا إليك.
وقيل: «إلى» بمعنى: «في» تقديره: من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ.

فصل


والحواريون، جمع حواري، وهو النّاصرُ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل «مفاعل» ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف: قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ، فإنهما ممنوعان من الصرف، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ. والحواريّ: الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره: حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم، وفي الحديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الزبير: «ابن عمتي وحواريّ أمتي» وفيه أيضاً - «إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر»، وقال معمر قال قتادة: إن الحواريّين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدةِ بن الجراح، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين. وقيل: الحواريّ: هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب، أي: أخلصت بياضَه بالغَسْل، ومنه سُمِّي القَصَّار
259
حوارياً؛ لتنظيفه الثياب، وفي التفسير: إن أتباع عيسى كانوا قصارين.
قال أبو عبيدة: سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين.
وقال الفرزدق: [البسيط]
١٤٨٧ - فَقُلْتُ: إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ
يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن: الحواريات، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ: وحواري الرَّجُلِ: صفوته وخالصته، ومنه قيل للحضريات: الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن.
[وأنشد لأبي حلزة اليشكري] :[الطويل]
١٤٨٨ - فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ: يبكين غيرَنا... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ
ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن، والاشتقاق من الحور، وهو تبيض الثياب وغيرها:
وقال الضّحّاكُ: هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء -.
قال ابن الأنباري: فمن قال بهذا القول قال: هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون.
وقيل: «هم المجاهدون» كذا نقله ابنُ الأنباريّ.
وأنشد: [الطويل]
١٤٨٩ - وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ
قال الواحديُّ: والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة.
وقال الراغبُ: حوَّرت الشيء: بيَّضت ودوَّرته، ومنه الخبز الحُوَّارَى، والحواريُّون: أنصار عيسى.
260
وقيل: اشتقاقه من حار يَحُور - أي: رَجَع. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ [الانشقاق: ١٤]. أي لن يرجع، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي: رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه: حار الماء في القدر، وحار في أمره، وتحيَّر فيه، وأصله تَحَيْوَرَ، فقُلِبَت الواوُ ياءً، فوزنه تَفَيْعَل، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل: تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة: مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ، ومَحَارة الأذُنِ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة، والقوم في حوارى أي: في تَرَدُّد إلى نقصان، ومنه: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» وفيه تفسيران: أحدهما: نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني: نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها.
ويقال: حَارَ بعدما كان. والمحاورة: المرادَّة في [الكلام]، وكذلك التحاورُ، والحوار، ومنه: ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ [الكهف: ٣٤] و ﴿والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ﴾ [المجادلة: ١] ومنه أيضاً: كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي: بعَقْل يرجع إليه. والحور: ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ، يقال - منه -: أحورت عينه، والمذكر أحور، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء -.
وقيل: سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك.
وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام، وما يشوب الدين.
قاله ابن المبارك: سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها.
وقال رَوْحُ بن قَاسِم: سألت قتادةَ عن الحواريِّين، فقال: هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ، وعنه أنه قال: الحواريون هم الوزراء.
والياء في «حواريّ وحواليّ» ليست للنسب، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ، وقرأ العامة «الْحَوَارِيُّونَ» بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن، قالوا: لأن التشديد ثقيل.
261
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها: الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها، فتَسْكُن الياء، فيلتقي ساكنان، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين، وهذا نحو جا ءالقاضون، الأصل: القاضيون، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر. قالوا: وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة، كما ذهب الأخفشُ في «يَسْتَهْزِيُونَ» إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة.

فصل في المراد ب «الحواريين»


اختلفوا في الحواريين، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ: كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر، فقال لهم عيسى: أنتم تصيدون السمك، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد، قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة، فما اصطاد شيئاً، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الحسنُ: كانوا قصَّارين، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ، أي يبيِّضونها.
وقيل: كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً، اتَّبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روحَ الله جعلنا، فيضرب بيده الأرضَ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا؛ إذا شئنا أُطعِمْنَا، وإذا شئنا استقينا، وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم مَنْ يعمل بيده، ويأكل من كَسْبه، قال: فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء، فسُمُّوا حَوَاريِّين.
وقيل: كانوا ملوكاً، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: أتعرفونه؟ قالوا: نعم فذهبوا، فجاءوا بعيسى، فقال: من أنت؟ قال عيسى ابن مريم، قال: وأنا أترك ملكي وأتبعك، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون.
وقيل: إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه،
262
فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه، فقال له: هاهنا ثياب مختلفة، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب، فطبخ عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جُبًّا واحداً، وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد، فرجع الصباغ، وسأله، فأخبره بما فعل، فقال: أفسدت عليَّ الثيابَ، قال: قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أحمر، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به، وهم الحواريُّونَ.
قال القفَّال: ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السَّمكِ، وبعضهم من القصَّارين، وبعضهم من الصبَّاغين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه، والمخلصين في محبته وطاعته.
قوله: ﴿قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ أي: أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ. ﴿آمَنَّا بالله﴾ هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى: أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله، والذَّبَّ عن أوليائه، والمحاربة لأعدائه، ثم قالوا: ﴿واشهد﴾ يا عيسى ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك.
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله، وقالوا: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول﴾ عيسى ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء: مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام -.
قال ابن عباس: مع محمد وأمته، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقيل: اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ [آل عمران: ١٨]. قوله: ﴿مَعَ الشاهدين﴾ حال من مفعول ﴿فاكتبنا﴾ وفي الكلام حذف، أي: مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ من باب المقابلة، أي: لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم﴾ [الأعراف: ٩٩] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال: مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
263
قال القرطبي: وأصل المكر في اللغة: الاحتيال والخِداع، والمكر: خَدَالةُ الساق، والمكر: ضَرْب من النبات ويقال: بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا: واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي: ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن.
ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمود، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ، وعلى ذلك قوله: ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾. ومذموم، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح، نحو: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] ٍ.

فصل


أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فَهَمُّوا بقتله، فذلك مكرهم به. وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه:
أحدها: أن مكر الله استدرَاج العبد، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: ٤٤].
وقال الزّجّاج: «مكر الله» مجازاتهم على مكرهم، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته، كقوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] وقوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]. ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً، وهو معنى قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ [البقرة: ٨٧] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة، وكان قد ألقي شبهه على غيره، فأخِذ، وصُلِب، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ:
فرقة قالوا: كان الله فينا فذهب. والأخْرَى قالت: ابن الله. والثالثة قالت: كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثاني: أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحدٌ منهم، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه، ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ، حتى قتل بعضهم، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم.
الثالث: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه
264
السلام، ولَقُوا منهم الجهد، فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ، وفَعَل وَفََل، فقال: لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه.
ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسالهم عن عيسى، فأخبروه وبايعوه على دينهم، وأنزل المصلوب، فغيبه، وأخذ الخشبة، فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله.
الرابع: أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس، فقتلهم، وسباهم، وهو قوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار﴾ [الإسراء: ٥] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم.
الخامس: يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه، ومكر الله بهم، حيثُ أعلى دينَهُ، وأظهر شَرِيعَتَهُ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود.
وفي قوله: ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل: ومكروا ومكر اللهُ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ
قوله: ﴿إِذْ قَالَ الله﴾ في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قوله: ﴿وَمَكَرَ الله﴾ أي: مكر الله بهم في هذا الوقت.
الثاني: ﴿خَيْرُ الماكرين﴾.
الثالث: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، فيه وجهان:
أحدهما: وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي.
الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، واواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء.
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا
265
أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ:
أحدها: إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه.
الثاني: إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قال وَهْبٌ: تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ، ثم رُفِع وأحْيِيَ.
الثاني: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه.
الثالث: قال الربيع بن أنس: إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء، قال تعالى ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
وثالثها: أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز
رابعها: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة - في زوال [الشهوات] والغضب والأخلاق الذميمة -.
خامسها: أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده.
وسادسها: إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها: أن التوفِّي هو القبض، يقال: فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان درامي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل: فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ تكراراً، فالجواب: أن قوله ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً.
ثامنها: أن يقدر حذف مضاف، أي: متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك،
266
ورافعك إليَّ، أي: ورافع عملك إليّ، كقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] والمرادُ منه: أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ».
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى: «وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ».
وقيل للحُسَيْن بن الفضل: هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال: نعم، قوله: ﴿وَكَهْلاً﴾ وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه: ﴿وَكَهْلاً﴾ بعد نزوله من السماء.

فصل


قال القرطبيُّ: «والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس».
وقال الضحاك: وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق:
فقالت فرقة: كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.
267
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ﴾ [الصف: ١٤] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إلَيَّ﴾ تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ:
أحدها: أن المراد إلى محل كرامتي، كقول إبراهيم: «إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من «العراق» إلى «الشام»، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله، والمجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، فكذا هاهنا.
وثانيها: أن معناه [رافعك إلى مكان] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ.
وثالثها: أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه.
قوله: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ معناه مُخْرِجك من بينهم، ومُنَجِّيك، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنِه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
قوله: ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك﴾ فيه قولان:
أظهرهما: أنه خطاب لعيسى عليه السلام.
الثاني: أنه خطاب لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون الوقف على قوله: ﴿مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ تاماً، والابتداء بما بعده، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه. و ﴿فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾ ثاني مفعولي ﴿وَجَاعِلُ﴾ لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
و ﴿إلى
يَوْمِ
القيامة﴾
متعلق بالجَعْل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي: جاعلهم قاهرين لهم، إلى يَوْمِ القيامةِ،
268
يعني أنهم ظاهرون على اليهود، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا، فأما يوم القيامة، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم، فيدخل الطائع الجَنَّةَ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا، وانقضائها؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء.
قال أبو حيّان: «والظاهر أن» إلى «تتعلق بمحذوف وهو العامل في» فَوْقَ «وهو المفعول الثاني ل» َجَاعِل «إذْ معنى» جاعل «هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق» إلى «بذلك المحذوف، بل بما تقدم من» مُتَوَفِّيك «أو من» رَافِعُكَ «أو من» مُطَهِّرُكَ «إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها، أما تعلقه ب» رَافِعُكَ «أو ب» مُطَهِّرُكَ «فظاهر، وأما ب» مُتَوَفِّيكَ «فعلى بعض الأقوال».
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به: قابضك من الأرض من غير موت، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [وابن جريج] وابن زيد وغيرهم. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ: وهو مُسْتَوْفٍ أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار، وإن على قول مَنْ يقول: إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة، بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل، والظاهر أنه متعلق ب «جَاعِل». وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم «أحكم» ونحوه قبل الباء.

فصل


قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ: الذي اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة، والمنعة، والحُجَّةِ.
قال الضحاك: يعني الحواريين.
وقيل: هم الروم.
269
وقيل: النصارى، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة، والنصارى بخلاف ذلك.

فصل


قال أهلُ التّاريخِ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين.

فصل


قال ابنُ الْخَطِيبِ: في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧] والخبار واردة أيْضاً بذلك، إلا أن الرواياتِ اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات:
الأول: أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات.
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمرهم، ويَنْهَاهُمْ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ.
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا [جاز] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى، وبالجملة، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ.
270
الإشكال الثاني: أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يكون معه في أكثر الأحوال، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى: ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ [المائدة: ١١٠] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه.
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسْقامهم، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث: أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على الغير، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
الإشكال الخامس: أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً، مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع، ولقال: إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم.
والجواب ن الأول: أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم.
والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء.
والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
271
والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ، لم يكن مُفِيداً للعلم.
والجواب عن السادس: أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ.
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله.
قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ في الآخرة ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من الدّينِ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات، لكان: ثم إليّ مرجعهم، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة، وأزجر في النذارة.
وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني: إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه، ومتولّي أمره، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي: إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم، وبشأنه أعْنَى، كقوله: ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا﴾ [التحريم: ٦] وفي الحديث: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ».
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ﴾ في محل هذا الموصول قولان:
أظهرهما - وهو الأظهر -: أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف؛ لأن «أمَّا» لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ
272
امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال: بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال: لئلا يَلِيَ «أمَّا» فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك: أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر: فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] بنصب «ثمود» واستضعافها الناس.

فصل


عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾.
فإن قيل: وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
فالجوابُ: أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام -، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب: أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه.
قوله: ﴿وَأَمَّا الذين آمَنُوا﴾ الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله.
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن «فَيُوَفِّيهِمْ» - بياء الغيبة - والباقون بالنون. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه.

فصل


دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر.
273
واحتج المعتزلة بقوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ - بمنزلة قوله: لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص، فقد يقال: أحبّ زيداً، ولا يقال: أريده. فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة، فصار قوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ بمنزلة قوله: لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي.
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه.
قوله: ﴿ {ذلك نَتْلُوهُ﴾ يجوز أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، «نَتْلُوهُ» الخبر «مِنَ الآيَاتِ» حال أو خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و «مِنَ الآيَاتِ» حال، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [أي: هو من الآيات، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، وعندهم «زيد ضربته» أحسن من «زيداً ضربته»، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر]، يعني الأمر ذلك، و «نَتْلُوهُ» على هذا حال من اسم الإشارة، و ﴿مِنَ الآيَاتِ﴾ حال من مفعول «نَتْلُوهُ».
ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» موصولاً بمعنى «الذي» و «نَتْلُوهُ» صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي: الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي: المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ، وهذا مذهب الكوفيين.
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا «ذَا» خاصةً، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، و «مِنَ الآيَاتِ» خبره، و «نَتْلُوهُ» جملة في موضع نصب على الحال، والعامل معنى اسم الإشارة.
قوله: «نَتْلُوهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي: الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٢].
والثاني: أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و «من» فيها وجهانِ:
أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض
274
القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني: أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
قال أبو حيّان: وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير «من» البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ: ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [على سبيل المجاز].
والحكيمُ: صيغة مبالغة محول من «فاعل». ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى «مُفْعَل» أي: مُحْكَم، كقوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١] إلا أن «فعيل» بمعنى «مُفْعَل» قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا: عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [في سبيل الله] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله: «نَتْلُوه» التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ.

فصل


التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ [يوسف: ٣] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله: ﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى﴾ [القصص: ٣]، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ.
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.
وقيل: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك.
275
ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا إلى الله، وقالوا :﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾ عيسى ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء : مع النبيين ؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام-.
قال ابن عباس : مع محمد وأمته، قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك :﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ﴾ [ آل عمران : ١٨ ]. قوله :﴿ مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ حال من مفعول ﴿ فَاكْتُبْنَا ﴾ وفي الكلام حذف، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية.
قوله :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ من باب المقابلة، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله :
﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال : مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع، والمكر : خَدَالةُ الساق، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا : واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي : ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن. ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ، وذلك ضربان : محمود، وهو أن يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ، وعلى ذلك قوله :﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. ومذموم، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح، نحو :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾
[ فاطر : ٤٣ ].

فصل


أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فَهَمُّوا بقتله، فذلك مكرهم به. وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه :
أحدها : أن مكر الله استدرَاج العبد، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ القلم : ٤٤ ].
وقال الزّجّاج :" مكر الله " مجازاتهم على مكرهم، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته، كقوله :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥ ] وقوله :﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]. ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً، وهو معنى قوله :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة، وكان قد ألقي شبهه على غيره، فأخِذ، وصُلِب، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ :
فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب. والأخْرَى قالت : ابن الله. والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحدٌ منهم، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه، ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا : وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ، حتى قتل بعضهم، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم.
الثالث : قال محمدُ بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام، ولَقُوا منهم الجهد، فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ، وفَعَل وَفَعَل، فقال : لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه.
ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى، فأخبروه وبايعوه على دينهم، وأنزل المصلوب، فغيبه، وأخذ الخشبة، فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله.
الرابع : أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس، فقتلهم، وسباهم، وهو قوله :﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ ﴾
[ الإسراء : ٥ ] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم.
الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه، ومكر الله بهم، حيثُ أعلى دينَهُ، وأظهر شَرِيعَتَهُ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود.
وفي قوله :﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر ؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر اللهُ، وَهُوَ خَيرُ الْماكِرِينَ.
قوله :﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ ﴾ في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قوله :﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ أي : مكر الله بهم في هذا الوقت.
الثاني :﴿ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.
الثالث : أنه " اذكرْ " - مقدَّراً - فيكون مفعولاً به كما تقدم تقريره.
قوله :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي.
الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ : رافعك إليَّ ومتوفيك ؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، والواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء.
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزوله إلى الأرض، وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ :
أحدها : إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه.
الثاني : إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال وَهْبٌ : تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ، ثم رُفِع وأحْيِيَ ١.
الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه ٢.
الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء٣، قال تعالى ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك.
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [ الشهوات ] ٤ والغضب والأخلاق الذميمة -.
خامسها : أن التَّوفِّيَ أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك ؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده.
وسادسها : إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها : أن التوفِّي هو القبض، يقال : فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله :﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ تكراراً، فالجواب : أن قوله ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال :﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً.
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف، أي : متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك، ورافعك إليَّ، أي : ورافع عملك إليّ، كقوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [ فاطر : ١٠ ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ " ٥.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى :" وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ٦ ".
وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن ؟ قال : نعم، قوله :﴿ وَكَهْلاً ﴾ وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه :﴿ وَكَهْلاً ﴾ بعد نزوله من السماء٧.

فصل


قال القرطبيُّ :" والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاة ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس ".
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة ؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن أصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.
وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية.
وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون٨.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ﴾ [ الصف : ١٤ ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله :﴿ وَرَافِعُكَ إلَيَّ ﴾ تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ :
أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي، كقول إبراهيم :" إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ " وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من " العراق " إلى " الشام "، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله، والمجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، فكذا هاهنا.
وثانيها : أن معناه [ رافعك إلى مكان ] ٩ لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ، أمَّا السماوات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ.
وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه.
قوله :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ معناه مُخْرِجك من بينهم، ومُنَجِّيك، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
قوله :﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ﴾ فيه قولان :
أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه السلام.
الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله :﴿ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ تاماً، والابتداء بما بعده، وجاز هذا ؛ لدلالة الحال عليه. و ﴿ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ثاني مفعولي ﴿ وَجَاعِلُ ﴾ لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
و ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ متعلق بالجَعْل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم.
ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم، إلى يَوْمِ القيامةِ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا، فأما يوم القيامة، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم، فيدخل الطائع الجَنَّةَ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا، وانقضائها ؛ لأن لهم استعلاءً آخر غير هذا الاستعلاء.
قال أبو حيّان :" والظاهر أن " إلى " تتعلق بمحذوف وهو العامل في " فَوْقَ " وهو المفعول الثاني ل " َجَاعِل " إذْ معنى " جاعل " هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق " إلى " بذلك المحذوف، بل بما تقدم من " مُتَوَفِّيك " أو من " رَافِعُكَ " أو من " مُطَهِّرُكَ " إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها، أما تعلقه ب " رَافِعُكَ " أو ب " مُطَهِّرُكَ " فظاهر، وأما ب " مُتَوَفِّيكَ " فعلى بعض الأقوال ".
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] ١٠ وابن زيد وغيرهم١١. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به ؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل، والظاهر أنه متعلق ب " جَاعِل ". وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم " أحكم " ونحوه قبل الباء.

فصل


قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ : الذين اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه١٢ واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة، والمنعة، والحُجَّةِ.
قال الضحاك : يعني الحواريين.
وقيل : هم الروم ١٣.
وقيل : النصارى، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ١٤، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة، والنصارى بخلاف ذلك.

فصل


قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْ
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٧) عن وهب بن منبه وذكره القرطبي في "تفسيره" (٤/٦٤) وزاد نسته لابن أبي حاتم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٨) عن ابن إسحاق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٥) عن الربيع بن أنس..
٤ في أ: الشهوة..
٥ أخرجه البخاري (٦/٥٦٦) كتاب الأنبياء باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (٣٤٤٨) ومسلم (١/١٣٥) كتاب الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم (٢٤٢- ١٥٥) والترمذي (٢٢٣٣) وأحمد (٢/٥٣٨) والبيهقي (١/٢٤٤، ٣/١٨٠) وعبد الرزاق (٢٠٨٤٠) والبغوي في "شرح السنة" (٧/٤٥٤) عن أبي هريرة..
٦ أخرجه مسلم (١/٣٥) كتاب الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم (٢٤٣- ١٥٥) والبغوي في "شرح السنة" (٧/٤٥٥)..
٧ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (٨/٤٦) عن الحسين بن الفضل..
٨ ذكره البغوي في تفسيره ١/٣٠٧، ٣٠٨ عن قتادة..
٩ سقط في ب..
١٠ في أ: ابن جرير..
١١ تقدم..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٦٢- ٤٦٣) عن قتادة والحسن والربيع والسدي وابن جريح.
وذكره السيوطي في الدر المنثور" (٢/٦٥) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد.
وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في "الدر المنثور" (٢/٦٥)..

١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٦٣) عن السدي..
١٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٦٣) عن ابن زيد..
قوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما - وهو الأظهر - : أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف ؛ لأن " أمَّا " لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال : لئلا يَلِيَ " أمَّا " فعل - وهي لا يليها الأفعال البتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم ؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول ؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا ﴿ وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] بنصب " ثمود " واستضعفها الناس.

فصل


عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أي : في وقت الآخرة بالنار ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ ﴾.
فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
فالجوابُ : أن التفاوُتَ في الدنيا موجود ؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم.
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار ؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة ؟
فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه.
قوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله.
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن " فَيُوَفِّيهِمْ " - بياء الغيبة - والباقون بالنون١. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة ؛ تفنُّناً في الفصاحةِ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من اتِّسَاق النظم، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه ؛ اعتناءً بالمؤمنين، ورفْعاً من شأنهم ؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه.

فصل


دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء ؛ لقوله :﴿ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر.
واحتج المعتزلة بقوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ ﴾ - بمنزلة قوله : لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا : لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص، فقد يقال : أحبّ زيداً، ولا يقال : أريده. فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة، فصار قوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي.
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه.
١ ينظر: السبعة ٢٠٦، والكشف ١/٣٤٥، والحجة ٣/٤٤، ٤٥، والعنوان ٧٩، وحجة القراءات ١٦٤، وإعراب القراءات ١/١١٤، وشرح شعلة ٣١٥، وشرح الطيبة ٤/ ١٥٩، وإتحاف ١/٤٨٠..
قوله :﴿ ذلِكَ نَتْلُوهُ ﴾ يجوز أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ، " نَتْلُوهُ " الخبر " مِنَ الآيَاتِ " حال أو خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و " مِنَ الآيَاتِ " حال، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ
[ أي : هو من الآيات، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، وعندهم " زيد ضربته " أحسن من " زيداً ضربته "، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر ] ١، يعني الأمر ذلك، و " نَتْلُوهُ " على هذا حال من اسم الإشارة، و ﴿ مِنَ الآيَاتِ ﴾ حال من مفعول
" نَتْلُوهُ ".
ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " موصولاً بمعنى " الذي " و " نَتْلُوهُ " صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي : المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ، وهذا مذهب الكوفيين.
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا " ذَا " خاصةً، بشروطٍ تقدم ذكرها ؛ ويجوز أن يكون " ذلك " مبتدأ،
و " مِنَ الآيَاتِ " خبره، و " نَتْلُوهُ " جملة في موضع نصب على الحال، والعامل معنى اسم الإشارة.
قوله :" نَتْلُوهُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
والثاني : أنه على بابه ؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و " من " فيها وجهانِ :
أظهرهما : أنها تبعيضية ؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني : أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز ؛ لأن تقدير " من " البيانية بالموصول ليس بظاهر ؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ]٢.
والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من " فاعل ". ووصف الكتاب بذلك مجازاً ؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى " مُفْعَل " أي : مُحْكَم، كقوله :
﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ [ هود : ١ ] إلا أن " فعيل " بمعنى " مُفْعَل " قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] ٣ فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله :" نَتْلُوه " التفات من غيبة إلى تكلُّم ؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ.

فصل


التلاوة والقصص واحد ؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [ يوسف : ٣ ] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله :﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى ﴾ [ القصص : ٣ ]، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه ؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ.
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.
وقيل : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك.
١ سقط في ب..
٢ في أ: وهو مجاز..
٣ سقط في ب..
﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى﴾ جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً، بل معنويًّا. وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم، وذلك القسم هو قوله: ﴿والذكر الحكيم﴾ كأنه قيل:
275
أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله: ﴿مِنَ الآيَاتِ﴾ ثم استأنف قسماً، فالواو حَرْف جَرٍّ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته.
قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ في هذه الجملة وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و «قد» معه مضمرة، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ «عائدة على» آدم «ولا تعود على» عِيْسَى «لِفَسَادِ المعنى.
وقال ابن عطية:»
ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [صفة] لآدم ولا حالاً منه «.
قال الزّجّاج: إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ، كما يقال في الكَلامِ: مثلك مثل زيد، يشبه في امر من الأمور، ثم يخبر بقصة زيد، فيقول: فعل كذا وكذا.
قال أبو حيّان:»
وَفيهِ نَظرٌ «ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر.
قال شهاب الدِّينِ:»
والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله: لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير «قَدْ» تُقَرِّبُه من الحال. وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ: قدره جسداً من طين ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ أي: أنشأه بَشَراً «.
قال أبو حيّان: ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله:»
كُنْ «؛ لأن ما خلق لا يقال له: كُنْ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن﴾ عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وقال الواحديُّ: قوله ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات، والصفة للنَّكِرِاتِ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام.
وعلى قول الزجّاج: ﴿مِن تُرَابٍ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق ب»
خَلَقَهُ «أي: ابتدأ خلقه من هذا الجنس.
الثاني: أنه حال من مفعول»
خلقه «تقديره: خلقه كائناً من تراب، وهذا لا يساعده المعنى.
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن.
276
قال الزَّمَخْشَريُّ:» إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ «. وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة، كقوله: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ [الرعد: ٣٥]، أي: صفة الجنة.
قال ابنُ عَطِيَّة: وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب، من غير فحل، وكذلك قوله: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في «كَمَثَلِ»
اسم على ما ذكرناه من المعنى.
قال أبو حيّان: «ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ».
[قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «ريِّ الظَّمآنِ» عن الفارسيّ الْجَميعِ، وقَالَ: «المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.
قال بعضهم: إن الكافَ زائدة.
وقال آخرون: إنّ»
مَثَلاً «زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ:
قيل: أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ:»
فإن قلتَ: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت: هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ، وهما في ذلك يظهران، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم، وأحسم لمادة شُبْهَتِه، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه «.

فصل


قال القرطبيُّ:»
دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ. والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من ترابٍ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان
277
بينهما فرقٌ [كَبِيرٌ]- بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ «.
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم، فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أبَ لَه.
قال: فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال: فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف، قالوا: فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص.
قال: فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ، وأحرق، وخَرَجَ سَالِماً.
قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ اختلفوا في المقول له: كُنْ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له: كن قبل أن يخلقَه لا بعده، وهاهنا يقول: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن﴾.
والجوابُ: أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ، ولا أنثى، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ: إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له: كُن فكان، فجاء «ثُمَّ»
لمعنى الخبر الذي تقدم، والخبر الذي تأخر في الذكر؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله: «كُنْ». وهذا كما تقولُ: أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً، ف «أمسِ» متقدم على «اليوم» وإنما جاء ب «ثُمَّ» ؛ لأنَّ خبرَ «اليومَ» متقدِّمٌ خبر «أمس» ؛ حيث جاء خبرُ «أمس» بعد مُضِيِّ خَبَر «اليوم» ومثله قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١]- وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها، ولكن هذا على الخبر دون الخلق؛ لأنَّ التأويلَ: أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ -؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها.
ومثل هذا قول الشاعر: [الخفيف]
١٤٩٠ - إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ
ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له، والجدُّ متقدمٌ للأبِ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ، كقولهِ: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ [البلد: ١٧] فكذا قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: صيَّره خلْقاً سَويًّا، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ: كُنْ. فالتراخي في الخبرِ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر.
ويجوز أن يكون المرادُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ، ثم قال له: كُنْ بَشَراً.
278
فإن قيل: الضميرُ في قوله: ﴿خَلَقَهُ﴾ راجع إلى آدم، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً.
فالجواب: أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم؛ تسمية للشيء بما يئول إليه.
قال أبُو مُسْلِم: «قد بَيَّنَّا أن لخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل، وأما قوله: كن، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله: كن».
وقال بعضهم: المقول له: كن هو عيسى، ولا إشكال على هذا.
قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً، والمعنى: فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم.
قال بعضُهُمْ: معناه: اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك: كن فإنه يكون لا محالة.
ويجوز أن يكون ﴿فَيَكُونُ﴾ بمعنى: «فكان» وعلى هذا أكثر المفسِّرين، والنحويين، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.

فصل


أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال: «ومَا أقُولُ» ؟ قالوا: تقول: إنه عَبْدٌ، قَالَ: «أجلْ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ»، فغَضِبُوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال «إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ» كأنهم قالوا: يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله، فَقَالَ: «إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ»، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس.
279

فصل


اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول، وهو مُحَالٌ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم.
لقوله: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً:
أحدها: أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية.
الثاني: أنه مخلوق من الماء، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً﴾ [الفرقان: ٥٤].
الثالث: أنه مخلوق من الطين، [قال تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ﴾ ] [السجدة: ٧].
رابعها: أنه مخلوق من سلالة من طين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢].
خامسها: أنه مخلوق من طين لازبٍ، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ [الصافات: ١١].
سادسها: أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون.
سابعها: أنه [خلق] من عَجَلٍ.
ثامنها: قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤].
قال الحكماء: إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ:
الأول: ليكون متواضعاً.
الثاني: ليكون سَتَّاراً.
الثالث: إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
الرابع: أراد الحق إظهار القدرة، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ، وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام، وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحر، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج.
280
الخامس: خلق الإنسان من تراب، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة، والغضب، والحِرْص؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ، فيصير طيناً، وهو قولُهُ: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ﴾ [ص: ٧١] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال: فعالة بمعنى مفعولة؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ [الصافات: ١١] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ:
أحدها: أنَّه صلصالٌ، والصلصالُ: اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ.
الثاني: الحمأ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ.
الثالث: تغيُر رائحته، وهو المسنونُ، قال تعالى: ﴿فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، أي: لم يتغيَّر.
قوله: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ، فهو حقٌّ ثابتٌ.
ويجوز أن يكونَ «الحقُّ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه، وحُذِفَ لكونه معلوماً. و ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ على هذا - فيهِ وجهانِ:
أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف.
والثاني: أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.
وقال بعضهم: «الحق رفع بإضمار فعل، أي: جاءك الحق».
وقيل: إنه مرفوع بالصفة، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق.
والامتراء: الشك. قال ابنُ الأنباريِّ: هو مأخوذٌ من قول العرب: مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب.
ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: لا أماريك أبَداً. ومنه قيل: الشكر يَمْتَرِي المزيد؛ أي: يجلبه.

فصل


هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واختُلِفَ في تأويلِهِ:
281
فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أنه في المعنى مع الأمة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن شاكاً في أمر عيسى، فهو كقوله: ﴿ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١].
وقيل إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي: دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء.

فصل


ومعنى الآية فيه قولان:
أحدهما: قال أبو مسلم: معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ، لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلَهاً، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق، ثم نهى عن الشك فيه.
الثاني: ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ.
282
قوله :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ، فهو حقٌّ ثابتٌ.
ويجوز أن يكونَ " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه، وحُذِفَ لكونه معلوماً. و ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ على هذا - فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف.
والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.
وقال بعضهم :" الحق رفع بإضمار فعل، أي : جاءك الحق ".
وقيل : إنه مرفوع بالصفة، وفيه تقديم وتأخير، تقديره : من ربك الحق.
والامتراء : الشك. قال ابنُ الأنباريِّ : هو مأخوذٌ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب.
ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رضي الله عنهما : لا أماريك أبَداً.
ومنه قيل : الشكر يَمْتَرِي المزيد ؛ أي : يجلبه.

فصل


هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صلى الله عليه وسلم واختُلِفَ في تأويلِهِ :
فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكاً في أمر عيسى، فهو كقوله :﴿ يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ ﴾ [ الطلاق : ١ ].
وقيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء.

فصل


ومعنى الآية فيه قولان :
أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ، لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلَهاً، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق، ثم نهى عن الشك فيه.
الثاني : ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ.
يجوز في «مَنْ» وجهان:
أحدهما: أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي: إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت.
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى: «الذي» وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين، وكانَ الأمرُ كذلِكَ].
«فِيهِ» متعلق ب «حَاجَّكَ» اي: جادلَكَ في شأنِهِ، والهاء فيها وجهان:
أولهما: وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ.
الثاني: عودها على «الْحَقِّ» ؛ لأنه أقربُمذكورٍ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ، وهو صاحبُ القصة. قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ﴾ متعلق ب «حَاجَّكَ» - أيضاً - و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، ففاعل «جَاءََكَ» ضمير يعود عليها، أي: من بعد الذي جاءك هو. ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ حال من فاعل «جَاءَكَ».
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً، وحينئذٍ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن «جَاءَكَ» لا بد له من فاعل، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا «ما» وهي حرفية.
282
والجوابُ: أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله: ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ و «من» مزيدة - ي: من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في قوله: «مِنَ الْعِلْمِ» يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المرادُ بالعلم، ما ذكره من الدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي.

فصل


ورد لفظ «الْعِلْم» في القرآن على أربعة [أضربٍ].
الأول: العلم القرآن، قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ [آل عمران: ٦١].
الثاني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: ﴿فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ [الجاثية: ١٧] أي: محمد، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب.
الثالث: الكيمياء، قال تعالى - حكاية عن قارون -: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ [القصص: ٧٨].
الرابع: الشرك، قال تعالى: ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ [غافر: ٨٣] أي من الشرك.

فصل


قال ابن الخطيب: لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهَبْتُ إليه، وشرعنا في الحديث، فقال: ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ردَدْنَا التواتُرَ، وقُلْنَا: إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول.
فقال النصرانيُّ: أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول: إنه كان إلهاً. فقلتُ له: الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ، ويدلُ عليهِ وجوه:
الأول: أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا
283
متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.
الثاني: أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، وكان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟
الثالث: أن يقال: إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال: إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني: - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ.
وأما الثالثة: وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً. وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام.
الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه، ثم قلت للنصراني: ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ: تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ
284
الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال: الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ، فقلتُ له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي: إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر، ثم قلت: إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة.
الوجه الخامس: أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً، ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى.
قوله: ﴿تَعَالَوْاْ﴾ العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [الياء] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار «تَعَالَوا» تَعَالَي، فتحرك حرفُ العلَّة، وانفتح ما قبله، فقُلِبت ألفاً فصار «تَعَالَي» - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد، قلتَ: تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت: تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها.
وإن شئت قلتَ: الأصل: تعالَيُوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء، فحُذِفت ضمتُها، فالتقى ساكنان، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها.
وإن شئت قلت: لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه.
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير.
وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها: تعالَي، فهذه الياء، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياء بدل الضمة هناك.
285
وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيَا، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْنَ، قال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٢٨] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد.
وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد: تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل: تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام.
قال الزمخشريُّ في سورة النساء: وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ: [الطويل]
١٤٩١ -............................ تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً.
وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب: [الطويل]
١٤٩٢ - هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ
واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ، ونَبَّه عليه، واعتذر عنه؟
والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا: - في لم أبَلْه -: إن الأصل: أبالي؛ لأنه مضارع «بالَى» فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين.
وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال: الأصل تعاليي، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ.
286
وتعالَ فعل صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به.
قيل: وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة. ثم تُوُسِّعَ فيه، فاستعمل في مجرد طلب المجيء، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو: تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها.
وقيل: هو الدعاءُ لمكان مرتفع، ثم تُوُسِّع فيه، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان، حتى المنخفض.
و «ندع» جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال: فتعالوا ندع.
قوله: «أبْناءنا». قيل: اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] ﴿وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى﴾ [الأنعام: ٨٥] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً. و «نِساءَنَا» فاطمة، «وَأنْفُسَنَا» عني نفسه وعلياً، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١] يريد إخوانكم.
وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين.
قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ قال ابنُ عبّاس: نتضرع في الدعاء.
وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة: نَلتعن. والابتهال: افتعال، من البُهْلَة، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة، قال الزمخشريُّ: ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة، وبَهَلَه الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صِرَارَ عليها، أي: مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية، فمن بهله الله فقد خلاه، ووكله إلى نفسه، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها، فمن شاء حلبها، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً -[يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته، ويبتهل في كشف كربته].
قال شهاب الدّين: ما أحسن ما جعل «الافتعال» - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك، وتفاعل و «افتعل» أخوان في مواضع، نحو اجتوروا وتجاوروا، واشتوروا وتشاوروا، واقتتل القوم وتقاتلوا، واصطحبوا وتصاحبوا، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا.
287
قال الراغبُ: وأصل البهل: كون الشيء غيرَ مراعى، والباهل: البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ، وأنشد لامرأة: أتيتك باهلاً غير ذات صِرار.
وأبهلت فلاناً: خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل، والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل﴾ ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.
قال الشاعر: (وهو لبيد) :[الرمل]
١٤٩٣ - مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن، ثم تُجُوِّز فيه، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب.
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته: [الرجز]
١٤٩٤ - لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى
بهلاً جمع باهلة - أي: مهملة، وفاعلة تجمع على فُعَّل، نحو ضُرَّب. والسُّدَى: المهمل - أيضاً - وأتى ب «ثُمَّ» هنا، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي.
قوله: ﴿فَنَجْعَل﴾ هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و ﴿عَلَى الكاذبين﴾ هو المفعول الثاني.

فصل


روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أورد الدلالة على نصارى نجران، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ»، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع، فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن، ولكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادِعوا الرجل، وانصرِفوا إلى بلادكم،
288
فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحُسَيْن، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو يقول لهم: إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا، فقال أسقفُ نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نباهلَك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا، فقال: فَإنِّي أنَابِذُكُمْ»
، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا، ولا تُرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك، وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا».
وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحَسَن، فأدْخله، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله، ثُمّ فَاطِمَةُ، ثُم عليٌّ، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣].

فصل


قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إن القول، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي: ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي: نَلْتَعِن، فنجعل لعنة الله على الكاذب، هو تكرارٌ. وهنا سؤالان:
السؤالُ الأولُ: الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم، وقد ورد في الخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ، فما الفائدة فيه؟
والجواب: أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً، وفي حق النساء جارياً مجرى
289
إماتتهم، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده، وأهله شديدة جِداً، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون ذلك أبلغ للزجر، وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الحقَّ معه.
السؤال الثاني: أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قالوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣].
الجوابُ: أن الخاص مقدَّم على العام، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك.

فصل


دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ يظهر كذبه، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم.
وثانيهما: أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيلَ: لم لا يجوز أن يُقال: إنهم كانوا شاكِّين، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟
فالجوابُ: أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك.
الثاني: أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى.

فصل


قال ابنُ الْخَطِيبِ: كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أفضل من جميع الأنبياء -
290
سوى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: والذي يدل على ذلك قوله: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾، وليس المراد بقوله: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ، فالمراد: أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبياً، وما كان عَلِيٌّ كذلك، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه، وَمُوسَى في هَيْبَتِه، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ».
فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة.
فالجوابُ: أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية، كما أنه مخصوص في حق محمد، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام -.
291
قال أبو مُسْلِمٍ: هذا الكلام متصل بما قبله، ولا يجوز الوقف على قوله: ﴿الكاذبين﴾، وتقدير الآية: فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ، وعلى هذا التقدير كان حق «إنَّ» أن تكون مفتوحةً، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في
291
قوله: ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾، كما في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾ [العاديات: ١١].
قال الباقون: الكلام تمّ عند قوله: ﴿عَلَى الكاذبين﴾ وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها، فَقَوْلُهُ: ﴿هذا﴾ الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ، وأخبار عيسى.
وقيل: هو إشارة لما بعده - وهو قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ - وضُعفَ هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا ليس بقصصٍ.
الثاني: أن مقترن بحرف العطف.
واعتذر بعضهم عن الأول، فقال: إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ ولكن الاعتراض الثاني باقٍ، لم يُجَبْ عنه.
و «هُوَ» يجوز أن يكون فَصْلاً، و «القصص» خبر «إن»، و «الْحَقُّ» صفته، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «الْقَصَصُ» خبره، والجملة خبر «إنَّ».
والقصص مصدر قولهم: قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يَقُصُّهُ، قَصًّا، وقَصَصاً وأصله: تتبع الأثَر، يقال: فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان، أي: يتبعه، ليعرف أين ذَهَبَ. ومنه قوله: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أي، اتبعي أثره، وكذلك القاصّ في الكلام، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي «لهْو» بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد.
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟
قلت: إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن ﴿مِنْ إله﴾ مبتدأ، و «مِنْ» مزيدة فيه، و «إلاَّ اللهُ» خبره، تقديره: ما إلَهٌ إلا اللهُ، وزيدت «مِنْ» للاستغراق والعموم.
قال الزمخشريُّ: و «مِنْ» - في قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ - بمنزلة البناء على الفتح في: لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق.
قال شهابُ الدينِ: الاستغراق في: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لم نستفده من البناء على الفتح، بل استفدناه من «مِنْ» المقدَّرة، الدالة على الاستغراق، نَصَّ النحويون على ذلك، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر: [الطويل]
١٤٩٥ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ... وَقَالَ: ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ
292
الثاني: أن يكون الخبر مُضْمَراً، تقديره: وما من إله لنا إلا الله، و ﴿إِلاَّ الله﴾ بدل من موضع ﴿مِنْ إله﴾، لأن موضعه رفع بالابتداء، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ، لِئَلاّ يلزم زيادة «مِنْ» في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور.
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد «إِلاَّ» على الاستثناء، ولكن لم يُقرأ به، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير: لا إله استقر لنا إلا الله.
وقال بَعْضُهُم: دخلت «مِنْ» لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ: ما عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلتَ: ما عندي من الناس من أحدٍ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى، فثبت أن قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ.
قوله: ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم﴾ كقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق﴾ وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى، لأن اعتمادَهم على أمرين:
أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً، غالباً، لا يدفع، ولا يمنع، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك، بل قلتم: إنّ اليهودَ قتلوه.
والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً، أي: عالماً بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمورِ.
فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: ٦].
وقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤] و ﴿تَذَكَّرُون﴾ [الأنعام: ١٥٢]- ويؤيد هذا نسق الكلام، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله: ﴿تَعَالَوْا﴾ ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم: فَإن تولّوا.
قال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون مستقبلاً، تقديره: تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف».
قال شهاب الدين: «وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة».
293
وقوله :﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة :﴿ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ [ القدر : ٤ ]
و ﴿ تَذَكَّرُون ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] - ويؤيد هذا نسق الكلام، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله :﴿ تَعَالَوْا ﴾ ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم : فَإن تولّوا.
قال أبو البقاء :" ويجوز أن يكون مستقبلاً، تقديره : تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعةَِ لا يُحْذَف ".
قال شهاب الدين :" وهذا ليس بشيء ؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة ".
وقد أجمعوا على الحذف في قوله :
﴿ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ [ القدر : ٤ ].
ويجوز أن يكون ماضياً، أي : فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات ؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ.
قوله :﴿ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ، وكان الأصل : فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني.

فصل


ومعنى الآية : فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً، قادراً على جميع المقدوراتِ، حكيماً، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ، فاقطع كلامَك عَنْهُم، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادرٌ على مجازاتهم.
وقد أجمعوا على الحذف في قوله:
﴿تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر: ٤].
ويجوز أن يكون ماضياً، أي: فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ.
قوله: ﴿بِالْمُفْسِدِينَ﴾ من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ، وكان الأصل: فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني.

فصل


ومعنى الآية: فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً، قادراً على جميع المقدوراتِ، حكيماً، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ، فاقطع كلامَك عَنْهُم، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادرٌ على مجازاتهم.
قوله
: ﴿إلى
كَلَمَةٍ
مُتَعَلِّق ب «تَعَالَوْا» فذكر مفعول «تَعَالَوْا» قبلها، فإنه لم يذكر مفعوله؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه، تقديره: تعالوا إلى المباهلة.
وقرأ العامة «كَلِمَةٍ» - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل، وقرأ أبو السَّمَّال «كِلْمَةٍ» بوزن سدرة و «كَلْمَةٍ» كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً.
وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله: «ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله» - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال: [الوافر]
١٤٩٦ - أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي
ويقولون كلمة الشهادة - يعنون: لا إله إلا الله، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ».
294
يريد: [الطويل]
١٤٩٧ - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ
وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان، لأنه المقصود منه، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه -: عَيْن، فأطلقوا عليه «عيناً».
وقال بعضهم: وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع، كما قال: [الطويل]
١٤٩٨ - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى، فَأمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقيل: أطلقت الكلمة على الكلمات؛ لارتباط بعضها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في «الله» إلا بمجموعها.
وقرأ العامة «سَوَاءٍ» بالجر؛ نعتاً لِ «كَلِمَةٍ» بمعنى عَدْلٍ، ويدل عليه قراءة عبد الله: إلى كلمة عدل، وهذا تفسير لا قراءة.
وسواء في الأصل - مصدر، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث ب «امرأة عدل» ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى، ولا تُجْمَع، ولا تُؤنَّثُ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت، كقوله: ﴿مكَانًا سُوًى﴾ [طه: ٥٨].
وقرأ الحسن «سَوَاءٌ» بالنصب، وفيها وجهان:
أحدهما: نصبها على المصدر.
قال الزمخشريُّ: «بمعنى: اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً»، وكذا الحوفيّ.
والثاني: أنه منصوب على الحال، وجاءت الحالُ من النكرةِ، وقد نصَّ عليه سيبويه.
قال أبو حيّان: «ولكن المشهور غيره، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى».
وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ والحوفيّ، فقال: «والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ، وإلى تأويل» سواء «بمعنى استواء».
والأشهر استعمال «سَوَاء» بمعنى اسم الفاعل - أي: مُسْتوٍ.
قال شهاب الدين: «وبذلك فسَّرها ابن عباس، فقال: إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ».
295
قوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله﴾ فيه ستة أوجهٍ:
أحدها: أنه بدل من «كَلِمةٍ» - بدل كل من كل.
الثاني: بدل من «سَوَاء» جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى، وعلى الوجهين ف «أنْ» وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ.
الثالث: أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ، والجملة استئناف، جواب لسؤال مقدَّر، كأنه لما قيل: ﴿تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ﴾ قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أن لا نعبد إلا الله، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف «بَيْنَ» منصوب ب «سَوَاءٍ» ظرفاً له، أي: يقع الاستواء في هذه الجهة.
وقد صرَّح بذلك [الشاعر]، حيث قال: [الوافر]
١٤٩٩ - أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
والوقف التام - حينئذ - عند قوله: ﴿مِّن دُونِ الله﴾ ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً.
الرابع: أن يكون «أنْ» وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ: الظرفُ قبله.
الخامس: جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ.
وحينئذ يكون الوقف على «سَوَاءٍ» ثم يبتدأ بقوله: ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله﴾ وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل «كَلِمةٍ»، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف، وتقدير العائد ليس بالسهل.
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء: وقيل: تم الكلامُ على «سَوَاءٍ»، ثم استأنف، فقال: ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ﴾، أي: بيننا وبينكم التوحيد، فعلى هذا يكون ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ مبتدأ، والظرف خبره، والجملة صفة ل «الكلمة»، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول: تم الكلام على «سَوَاءٍ» ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم.
السادس: أن يكون: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ مرفوعاً بالفاعلية ب «سَوَاءٍ»، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى:
قال أبو حيّان: «إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف».

فصل


لما أوْرَد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نصارى نجران أنواعَ الدلائل، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا، وما
296
شرعوا فيها، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على إيمانهم، فكأنه - تعالى - قال: يا محمدُ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام، واعدل [إلى] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم، وطبع مستقيم أنه [متين] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال «قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ» فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه، وهي: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ فهذا وَجْهُ النَّظم.

فصل


وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد: نصىرَى نجرانَ.
الثاني: اليهود من المدينة.
الثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل على هذا وجهان:
الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما.
الثاني: قال المفسّرون - في سبب النزولِ -: قدم وَفْد نجران المدينة، فالتَقَوْا مع اليهود، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا، وأنه على دينهم، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ» فقالت اليهودُ: يا محمدُ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب: «وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً، ثم باهلهم ثانياً، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف، وترك المجادلةِ، وطلبِ الإقْحام والإلزام، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله: ﴿ياأهل الكتاب﴾، وهذا الاسم من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن: حَامِلَ كتاب الله العزيز، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب، وتَطْييب قَلْبِه، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ».
قوله: ﴿تَعَالَوْا﴾ هَلُمُّوا ﴿إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ﴾ فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء: هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف،
297
فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير. ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ:
الأول: أن لا نعبدَ إلا اللهَ. الثاني: أن لا نُشْركَ به به شيْئاً.
الثالث: أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ.
ودون - هذه - بمعنى: «غير».
إنما ذكر هذه الثلاثة؛ لأن النصارَى جمعوا بينها، فعبدوا غيرَ الله - وهو المسيح - وأشركوا بالله غيره؛ لأنهم يقولون: إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم، وكانو يسجدون لهم، ويطيعونهم في المعاصي، قال تعالى: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: ٣١].
قال أبو مُسْلِم: ومذهبهم أن مَن صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثَرُ اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فإنهم - وإن لم يُطْلقوا عليه لفظ «الرَّبِّ» - أثبتوا في حقه معنى الربوبية، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة.
أما الأول: فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يَبْقَى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان.
الثاني: والقول بالشرك باطل باتفاق الكُلِّ.
والثالث: - أيضاً باطل -؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمُنْعِم - بجميع النعم - هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل، والتحريم، والانقياد، والطاعة إلا إليه، - دون الأحْبار والرُّهبان.
وقوله: ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ قال القرطبي: معنى قوله: ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: ٣١] أي: أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ.
قال إلكيا الطبريُّ: «مثل [استحسانات] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [مستندات بينة] ».
قال عكرمةُ: «هو سجودُ بعضهم لبعض»، أي: لا نسجد لغير الله، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه.
298
وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس، قال: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قال:» لاَ «، قُلْنَا: أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟ قَالَ:» لا، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا «.
وقيل: لا نطيع أحداً في معصية الله.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ﴾.
قال أبو البقاء: هو ماضٍ، ولا يجوز أن يكون التقدير:»
فإن تتولوا «لفساد المعنى؛ لأن قوله: ﴿فَقُولُواْ اشهدوا﴾ خطاب للمؤمنين، و» يَتولّوا «للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط، والتقدير: فقولوا لهم وهذا ظاهر.
والمعنى: إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم: اشْهَدُوا بأنا مسلمون [مخلصون بالتوحيد].
299
قوله: ﴿لِمَ تُحَآجُّونَ﴾ هي «ما» الاستفهامية، دخل عليها حرف الجر، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة، واللام متعلقة بما بعدها، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام.
قوله: ﴿في إِبْرَاهِيمَ﴾ لا بد من مضافٍ محذوفٍ، أي: في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها.
قوله: ﴿وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة﴾ الظاهر أن الواو للحال، كهي في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: ٧٠].
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟
وجوزوا أن تكون عاطفة، وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب، وقوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِهِ﴾ متعلق ب «أنزلت»، وهو استثناء مفرَّغ.

فصل


اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، فقيل لهم: كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً؟
299
فإن قيل: فهذا - أيضاً - لازم عليكم؛ لأنكم تقولون: إن إبراهيم على دين الإسلام، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ، فإن قلتم: المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن، فنقول لهم: لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى: إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً.
فالجواب: أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً، فظهر الفرق.
ثم نقول: أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهدود ليسوا على ملة إبراهيم، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فإما أن يقال: إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرها، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله، واليهود لا يرضَوْن بذلك.
وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود.
300
القراء في هذه على أربع مراتِبَ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك:
المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير: ها أنتم - بألف بعد الهاء، وهمزة مخففة بعدها.
300
المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها.
المرتبة الثالثة لورش، وله وجهانِ:
أحدهما: بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما.
الثاني: بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية.
المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف.

فصل


اختلف الناسُ في هذه الهاء: فمنهم من قال: إنها «ها» التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة، نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن، وها هم، وهؤلاء، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ؛ توكيداً، كهذه الآية، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله: [البسيط]
١٥٠٠ - تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقول النابغة: [البسيط]
١٥٠١ - هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ
ومنهم من قال: إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام، والأصل: أأنتم؟ وهو استفهام إنكار، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ، وهَرَحْتُ، وهَنَرتُ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، وأبي الحسن الأخفش، وجماعة، وأستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمَع: هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه؟
هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام، ولا غيرها، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ، وورش؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة «أنتم» ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر: [الكامل]
301
١٥٠٢ - وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا
يريد أذا الذي؟
ويضعف جعلها - على قراءتهما - «ها» التي للتنبيه؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها، لا يقال: هَذَا زيد - بحذف ألف «ها» - كذا قيل.
قال شهاب الدّينِ: «وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل -: ﴿يا أيها الساحر﴾ [الزخرف: ٤٩] و ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون﴾
[النور: ٣١]، و ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان﴾ [الرحمن: ٣١]، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف «ها» التي للتنبيه. وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أنها للتنبيه، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء، وقال بعضهم: الذي يقتضيه النظر أن تكون «ها» - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان -، للتنبيه؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت «ها» للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ ونحوه من تسهيل الهمزة، وترك إدخال الألفِ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ ونحوه.
وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون «ها» للتنبيه، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام.
أما الوجه الأول فلأن «ها» التنبيه دخلت على «أنتم» فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في «هؤلاء» ونحوها، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ.
الوجهُ الثاني: أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام
302
على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك.
وقال آخرون: إنه يجوز أن تكون «ها» - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين.
فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر - فقد تقدم توجيهه، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون «ها» - عندهم - للتنبيه، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال: [الطويل]
١٥٠٣ -.................................. أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ
ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً، وهؤلاء، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين.
وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين.
قال أبو شَامَةَ: الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون «ها» للتنبيه؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ، و ﴿هاأنتم﴾ أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر، لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل، وحَذْفُ مَنْ حذف، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله: ﴿لأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وشبهه، وأما الحذف فنقول: «ها» مثل «أما» - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف «أما» فكذا حذف ألف «ها» وعلى ذلك قولهم: أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ.
وقد حمل البصريون قولهم: «هَلُمَّ» على أن الأصل «هَالُمَّ»، ثم حذف الف «ها» فكذا ﴿هاأنتم﴾. وهو كلام حَسَنٌ، إلا أنَّ قوله: إن ﴿هاأنتم﴾ - حيث جاءت - كانت خبراً، لا استفهاماً ممنوع، بل يجوز ذلك، ويجوز الاستفهام، انتهى.
ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد، فقال: من أثبت الألفَ في «ها»، واعتقدها للتنبيه، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة، أو سهلها، وأمّا من جعلها للتنبيه، ومذهبه المد في المنفصل، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها -.
303
وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان: إبدال الهمزة - من «أنتم» - ألفاً، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ، فإذا أبدل مَدَّ، وإذا سهَّل قَصَر، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ:
أحدها: أنَّ «أنتم» مبتدأ، و «هَؤُلاَءِ» خبره، والجملة من قوله: ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم: ها أنا ذا قائماً، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها.
الثالث: أن يكون ﴿هاأنتم هؤلااء﴾ على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ، وهما الجملة من قوله: ﴿حَاجَجْتُمْ﴾، ذكره الزمخشريُّ.
وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديره: ها أنتم الذين حاججتم.
الرابع: أن يكون «أنْتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، و «هؤلاء» منادًى، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا: [البسيط]
١٥٠٤ - إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا
يريد يا هذا اعتصم، وقول الآخر: [الخفيف]
١٥٠٥ - لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ
يريد: يا أولاء.
الخامس: أن يكون «هَؤلاءِ» منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل. و «أنتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ.
السادس: أن يكون على حذف مضافٍ، تقديره: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه، أو حالاً.
السابع: أن يكون «أنْتُمْ» خبراص مقدماً، و «هَؤلاءِ» مبتدأ مؤخراً.
وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين
304
ببعضها، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] فليلتفت إليه.
قوله: ﴿فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾ «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي» وأن تكونَ نكرةً موصوفةً.
ولا يجوز أن تكون مصدرية؛ لعود الضمير عليها، وهي حرف عند الجمهور، و «لَكُمْ» يجوز أن يكون خبراً مقدماً، و «عِلمٌ» مبتدأ مؤخراً، والجملة صلة لِ «ما» أو صفة، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة، أو صفة، و «عِلْمٌ» فاعلٌ به؛ لأنه قد اعتمد، و «بِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من «عِلْمٌ» إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أن يتعلق ب «عِلمٌ» لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدم معموله عليه، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك، وسُمي بياناً.

فصل


وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم: إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم، وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ، وما عليه مما ليس في كتبهم، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه، فيعلمون دينَه، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة.
قيل: الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام -.
قال الزمخشريُّ: «يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حماقتكم، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل، ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ ولا نطق به كِتَأبُكُمْ من إبراهيمَ».

فصل


اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن، وهو المراد بقوله ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾ ثم قال: ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله: ﴿هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾ فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقَّق ذلك بقوله: ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً، مُبَيَّناً، فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر «لا» - في قوله: ﴿وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ - توكيداً، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته.
قال القرطبيُّ: «دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له، وقد ورد الأمر
305
بالجدال لمن علم وأتقن، قال تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أتاه رجل وولده، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ «؟ قال: نَعَمْ، قَالَ:» فَمَا ألْوَانُهَا «؟ قال: حُمْرٌ، قال:» فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ «؟ قَالَ: نَعَمْ، قَال:» مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ «؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ «.
وهذه حقيقة الجدال، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
.
قوله: ﴿ولكن﴾ استدراك لما كان عليه، ووقعت - هنا - أحسن موقع؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ.
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان، والمجوس عَبَدَةِ النار، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ.
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدةٍ في قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ بعد قوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ ؟ وأتى بخبر «كان» مجموعاً، فقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ بكونه فاصلةً، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله: ﴿يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ فيتناسب النفيان.
وقيل: قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
والحنيفُ: المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ.
وقيل: الحنيفُ: الذي يُوَحِّد، ويَحُد، ويُضَحِّي، ويَخْتَتِنُ، ويَسْتَقِبِل القبلة وتقدم الكلام عليه في البقرة.
فإن قيل: قولكم: إبراهيم على دين الإسلام، أتريدون به الموافقة في الأصول، أو في الفروع؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود -[ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً] أعني تلك
306
النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صاحب شرع ألبتة، بل كان مقرِّراص لدين غيره، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا، وغير مشروعة في صلاتهم.
فالجوابُ: أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا.
ويجوز أن يقالَ: المراد به الموافقة في الفروع، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى، ثم زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لشرع إبراهيم، جاز إطلاق الموافقة عليه، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة.
قوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ﴾، «إبْراهِيم» متعلِّق به «أوْلَى» و «أوْلَى» أفعل تفضيل، من الولي، وهو القُرْب، والمعنى: إنَّ أقْرَبَ الناسِ به، وأخصهم، فألفه منقلبة عن ياء، لكون فائه واواً، قال أبو البقاء: وألفه منقلبة عن ياء، لأن فاءَه واوٌ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه، هل هي واو - أيضاً - أو ياء.
﴿لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ خبر «إن» و ﴿وهذا النبي﴾ نَسَق على الموصول، وكذلك: ﴿والذين آمَنُواْ﴾، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً، وتكريماً، فهو من باب قوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ: ﴿وهذا النبي﴾ - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول ﴿اتَّبَعُوهُ﴾ فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ، ويكون قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ نَسًقاً على قوله: ﴿لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾.
والجر نَسَقاً على «إبْرَاهِيمَ» أي: إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في «اتَّبَعُوهُ» فيُقَال: اتبعوهما، اللهم إلا
307
أن يقال: هو من باب: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، ثم قال: ﴿والله وَلِيُّ المؤمنين﴾ بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ

فصل


روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له: إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.
فدعاهم النجاشيُّ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب: يستأذن عليك حزبُ اللهِ، فقال النجاشيُّ: مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه، ففعل جَعْفَرُ، فقال النجاشيُّ: نعم، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع؟ يرطنون ب «حِزْبِ اللهِ» وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ: ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا: نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ، وهي السلامُ، وتحية أهل الجنَّةِ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: أيكم الهاتف: يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر: أنا، قال: فتكلم، قال: إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ، ولا الظلمُ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي، فمر هذين الرجلين، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما، وليُنْصِت الآخرُ، فيسمع محاورتنا، فقال عَمْرو لجعفر: تَكَلَّمْ، فقال جعفر للنجاشيُّ: سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم، فقال النجاشيُّ: أعبيدٌ هم أم أحرار؟
308
فقال لا، بل أحرارٌ كرام، فقال النجاشيُّ: نَجَوْا من العبوديَّةِ، ثم قال جعفرُ: سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة.
قال جعفر: سَلْهُمَا، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ: إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو: لا، ولا قيراط، فقال النجاشيُّ: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك، واتَّبَعُوا غيره، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا، فقال النجاشيُّ: ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه، الدين الذي اتبعتموه؟
قال: أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم، موافِقاً له.
فقال النجاشيُّ: يا جعفر، تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك، ثم أمر النجاشيُّ، فضُرِب بالنَّاقوس، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشيُّ: أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً؟ فقالوا: اللهم نَعَمْ، قد بشرنا به عيسَى، وقال: مَنْ آمن به فقد آمن بي، ومن كَفَر به فقد كفر بي.
قال النجاشيُّ لجعفَرَ: ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا [كتاب الله]، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصلة الرَّحِم، وبِرِّ اليتيم، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له، فقال: اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع، وقالوا: زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ، فقال: إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه، فقال النجاشِيُّ: ما تقولون في عيسى وأمِّه، فقرأ عليهم جعفر سورة «مريم»، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال: والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، آمنون، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم، ثم قال: أبشروا، ولا تخافوا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ، قال عمرو: يا نجاشيُّ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه، وقال: إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة، فاقبضوها؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة، قال جعفرُ:
309
فانصرفْنَا، فكنا في خير دارٍ، وأكرم جوارٍ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين﴾.
وروى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي، وَخَلِيلُ رَبِّي» ثم قرأ: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين﴾.
310
فقال :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً ﴾ فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود ؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر " لا " - في قوله :﴿ وَلاَ نَصْرَانِيّاً ﴾ - توكيداً، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته.
قال القرطبيُّ :" دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأتقن، قال تعالى :﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتاه رجل وولده، فقال : يا رسولَ الله، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قال : نَعَمْ، قَالَ : فَمَا ألْوَانُهَا ؟ قال : حُمْرٌ، قال : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَال : مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ " ١.
وهذه حقيقة الجدال، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قوله :﴿ وَلَكِن ﴾ استدراك لما كان عليه، ووقعت - هنا - أحسن موقع ؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ.
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى ؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان، والمجوس عَبَدَةِ النار، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ.
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال : أيُّ فائدةٍ في قوله :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ بعد قوله :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً ﴾ ؟ وأتى بخبر " كان " مجموعاً، فقال :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ بكونه فاصلةً، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله :﴿ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً ﴾ فيتناسب النفيان.
وقيل : قوله :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
والحنيفُ : المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ.
وقيل : الحنيفُ : الذي يُوَحِّد، ويَحُد، ويُضَحِّي، ويَخْتَتِنُ، ويَسْتَقِبِل القبلة٢. وتقدم الكلام عليه في البقرة.
فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام، أتريدون به الموافقة في الأصول، أو في الفروع ؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود - [ ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً ] ٣ أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب شرع البتة، بل كان مقرِّراً لدين غيره، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا، وغير مشروعة في صلاتهم.
فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا.
ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى، ثم زمان محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صلى الله عليه وسلم موافقاً لشرع إبراهيم، جاز إطلاق الموافقة عليه، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة.
١ أخرجه البخاري كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد (٥٣٠٥) وكتاب المحاربين باب التعريض رقم (٦٨٤٧) وكتاب الاعتصام باب من شبه له أصلا... رقم (٦٨٤٧) ومسلم (١١٣٧) وأبو داود (٢٢٦٠) والترمذي (٢١٢٨) والنسائي (٦/١٧٨- ١٧٩) وابن ماجه (٢٠٠٢، ٢٠٠٣) وأحمد (٢/٢٣٩، ٤٠٩، ٣/١٤) والبيهقي (٤/١٨٦)، (٧/٤١١) (٨/٢٥٢، ١٠/١٥٩، ٢٦٤) عن أبي هريرة.
وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (٥/٢٤٣، ٩/٤٤٢، ١٢/١٧٥)..

٢ في ب: الكعبة..
٣ سقط في أ..
قوله :﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾، " إبْراهِيم " متعلِّق به " أوْلَى " و " أوْلَى " أفعل تفضيل، من الولي، وهو القُرْب، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به، وأخصهم، فألفه منقلبة عن ياء، لكون فائه واواً، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء، لأن فاءَه واوٌ، فلا تكون لامه واواً ؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه، هل هي واو - أيضاً - أو ياء.
و﴿ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ خبر " إن " و ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾ نَسَق على الموصول، وكذلك :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر ؛ تشريفاً، وتكريماً، فهو من باب قوله تعالى :﴿ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ].
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ :﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾ - بالنصب والجر١ - فالنصب نَسَقاً على مفعول ﴿ اتَّبَعُوهُ ﴾ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ، ويكون قوله :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ نَسَقاً على قوله :﴿ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾.
والجر نَسَقاً على " إبْرَاهِيمَ " أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في " اتَّبَعُوهُ " فيُقَال : اتبعوهما، اللهم إلا أن يقال : هو من باب :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ]، ثم قال :﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ.

فصل


روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النجاشِيِّ ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك ؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.
فدعاهم النجاشيُّ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه، ففعل جَعْفَرُ، فقال النجاشيُّ : نعم، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه، فقال : ألا تسمع ؟ يرطنون ب " حِزْبِ اللهِ " وما أجابهم به النجاشي ! ! ! فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ، وهي السلامُ، وتحية أهل الجنَّةِ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله ؟ قال جَعْفَر : أنا، قال : فتكلم، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ، ولا الظلمُ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي، فمر هذين الرجلين، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما، وليُنْصِت الآخرُ، فيسمع محاورتنا، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار ؟ فقال لا، بل أحرارٌ كرام، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق، فيقتصّ منا ؟ فقال عمرو : لا، ولا قطرة.
قال جعفر : سَلْهُمَا، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا، ولا قيراط، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك، واتَّبَعُوا غيره، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه، الدين الذي اتبعتموه ؟
قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم، موافِقاً له.
فقال النجاشيُّ : يا جعفر، تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك، ثم أمر النجاشيُّ، فضُرِب بالنَّاقوس، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشيُّ : أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً ؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ، قد بشرنا به عيسَى، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي، ومن كَفَر به فقد كفر بي.
قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ ؟ وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] ٢، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصلة الرَّحِم، وبِرِّ اليتيم، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه، فقرأ عليهم جعفر سورة " مريم "، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، آمنون، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم، ثم قال : أبشروا، ولا تخافوا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ، قال عمرو : يا نجاشيُّ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة، فاقبضوها ؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة، قال جعفرُ : فانصرفْنَا، فكنا في خير دارٍ، وأكرم جوارٍ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل :{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ٣.
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي، وَخَلِيلُ رَبِّي " ثم قرأ :﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾٤.
١ ينظر: الكشاف ١/٣٧١، ونسب ابن خالويه في الشواذ ٢١ رواية النصب إلى أبي السمال العدوي..
٢ سقط في أ..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٧٣- ٧٤) وعزاه لعبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم... فذكره..
٤ أخرجه الترمذي (٤/٨٠- ٨١) والطبري في "تفسيره" (٦/٤٩٨) والحاكم (٢/٢٩٢)عن عبد الله بن مسعود.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٧٤) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..

في «مِن» وجهان:
أظهرهما: أنها تبعيضيَّة.
والثاني: أنها لبيان الجني.
قال ابن عطيَّة: ويعني أن المراد ب «طائفة» جميع أهل الكتاب، قال أبو حيّان: وهذا بعيد من دلالة اللفظ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع، صفة لِ «طَائِفَةٌ»، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف.
وقوله: تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره.
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني: «وَدَّ» بمعنى تَمَنَّى، فيستعمل معها «لو» و «أن» وربما جُمِع بينهما، فَيُقَالُ: وددت أن لو فعلت، ومصدره الودادة، والاسم منه وُدّ وبمعنى «أحَبَّ» فيتعدَّى «أحَب» والمصدر المودة، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم.
وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أحب «لا يجوز إدخال» لو «فيه أبداً».
وقال الرمانيُّ: «إذا كان وَدَّ» بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [والماضي، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز «لَوْ»، وإذا كان للماضي لم يجز «أنْ» لأن «أن» للمستقبل].
310
وفيه نظرٌ، لأن «أن» تُوصَل بالماضي.

فصل


لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات، كقولهم: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُقرٌّ بموسَى وعيسَى، وكقولهم: إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه: تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً﴾ [البقرة: ١٠٩]، وقوله: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ [النساء: ٨٩].

فصل


قيل: نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت.
«ودت» تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ يعني اليهود ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾، ولم يَقُلْ: أن يضلوكم؛ لأن «لو» أوفق للتمني؛ فإن قولك: لو كان كذا، يفيد التمني، ونظيره قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦]، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو يحتمل وجوهاً منها:
إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير، كقوله: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: ٥٧]، وقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، وقوله: و ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥].
ومنها: إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ.
[ومنها: أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه].
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي: وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم، ولا يضر المؤمنين.
311
«لم» أصلها «لِمَا» لأنها «ما» التي للاستفهام، دخلت عليها اللامُ، فحُذِفت الألف؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها، ولأنها وقعت طرفاً، ويدل عليها الفتحة؛ وعلى هذا قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [النبأ: ١] وقوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] والوقف على [هذه الحروف] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ، لِمَهْ.
قوله: ﴿بِآيَاتِ الله﴾ فيه وُجُوهٌ:
أحدها: أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل، وعلى هذا يُحْتَمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونَعْتِه، ويحتمل أن يكون المرادُ بما في هذين الكتابين من أن إبراهيمَ كان حنيفاً مسلماً.
ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند اللهِ الإسْلاَمُ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه، يقول: إن الكفرَ بآيات الله يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتَّوْرَاةِ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراةُ، فأطلق اسْمَ الدليل على المدلول، على سبيل الْمَجَازِ.
الثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة؛ لأنهم كانوا يُحَرِّفُونها، وكانوا يُنَكِرون وجودَ تلك الآياتِ الدالةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الوجه الثاني: أن المراد بآيات الله [هو] القرآن وبيان نعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل، وتُنْكِرون عند العوام كَوْنَ القرآنِ معجزةٌ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزاً.
الوجه الثالث: أن المراد بآياتِ الله جملة المعزات التي ظهرت على يد [النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ معناه: وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزاتِ التي ظهرت على] سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الدالة على صدقهم، من حيث إنَّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم السلام، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إصرارُكم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتم بحقيقته من دلالةِ معجزات سائر الأنبياء - عليهم السلام -.
قرأ العامة: ﴿تَلْبِسُونَ﴾ بكسر الباء، من لبس عليه يلبس، أي: خلَطه، وقرأ
312
يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز «تُلبِّسُون» - بضم التاء، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس «بالتشديد»، ومعناه التكثير.
والباء في «الباطل» للحال، أي: متلبساً بالباطل.

فصل في معنى: تلبسون الحق


﴿تَلْبِسُونَ﴾ تخلطون ﴿الحق بالباطل﴾ الإسلام باليهودية والنصرانية.
وقيل: تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -.
وقيل: التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل، الذي حرَّفتموه، وكتبتموه بأيديكم، قاله الحسنُ وابن زيد.
وقال ابنُ عباس وقتادةُ: تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس.
قال القاضي: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من البشارة والنعت والصفة، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.
وقيل إنهم كانوا يقولون: إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.
قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الحق﴾ جملة مُسْتَأنَفةٌ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار «أن» في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون، فينتصب على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار «أن» عند البصريين.
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ، وأنكَرَه، وقال: الاستفهام واقع على اللبس فحسب،
313
وأما ﴿يَكْتُمُونَ﴾ فخبر حتم، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفاً على ﴿تَلْبِسُونَ﴾، بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ.
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال: الصَّرْف - هنا - يَقْبُح، وكذلك إضمار «أن» لأن «تَكتُمُونَ» معطوف على موجب مقرَّر، وليس بمستفهَم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، وليس بمنزلة قولك: أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي: [الوافر]
١٥٠٦ -.................................. وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك: أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا -: لا يجوز إلا النَّصْبُ في «تداخلها» لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب، وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
قال أبو حيّان: وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب، وأما ﴿يَكْتُمُونَ﴾ فخبر حَتْماً، لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ ﴿يَكْتُمُونَ﴾ معطوف على موجَب مقرَّر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس، وسبب الكَتْم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى، وبين أن يكون ﴿يَكْتُمُونَ﴾ إخْباراً محضاً، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل، لا ينتصب الفعل بإضمار «أن» في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك، فقال في تسهيله: «أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ».
فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه، نحو: لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك؟ فالتقدير: ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ، محقَّق الوقوع،
314
مستفهَم عنه، نحو: أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة، فإن التقدير: ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا.
قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث، تنقيحاً للذهن».
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير، وهي: لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [لَغطِ البحث]، كأنه توهم أن «لَمْ» هي الجازمة، فجزم بها، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على «لم» - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة، كيف يقولون في جار ومجرور: إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها، ومن ذلك قراءة بعضهم:
﴿قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ [القصص: ٤٨]- بتشديد الظاء - الأصل: تتظاهران، فأدغم الثاني في الظاء، وحذف النون تخفيفاً، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا..» يريد - عليه السلامُ -: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى.
وقال الشاعرُ: [الرجز]
١٥٠٧ - أبِيتُ أسْرِي، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين.
ومثله قول أبي طالب: [الطويل]
315
يريد: ستحتلبونها.
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط، لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية «ستحتلبوها» جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس.
والمراد بالحق: الآيات الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، ومتعلق العلم محذوف، إما اقتصاراً، وإما اختصاراً - أي: وأنتم تعلمون الحق من الباطل، أو نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً.

فصل في كلام القاضي


قال القاضي: قوله تعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ ؟ و ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل﴾ يدل على أن ذلك فعلهم؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم، ثم يقول: لِمَ فعلتم؟
وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا.
316
حكي عنهم التلبيسُ، فذكر منه هذا النوع.
قوله: ﴿وَجْهَ النهار﴾ منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى: أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه، كما يقال - لأول الثوب -: وجه الثوب.
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهارٍ، وصدر نهار، وشباب نهار، أي: أوله وقال الربيع بن زياد العبسي: [الكامل]
١٥٠٨ - فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ
١٥٠٩ - مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي: بأوله، وفي ناصب هذا الظرف وجهان:
أظهرهما: أنه فعل المر من قوله ﴿آمِنُواْ﴾ أي: أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره.
316
والثاني: أنه ﴿وَأَنْزَلَ﴾ أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهر، بدليل المقابلة في قوله: ﴿واكفروا آخِرَهُ﴾. فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على ﴿بالذي أُنْزِلَ﴾، أي: واكفروا آخر المنزَّل، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي، وبعده: [الكامل]
١٥١٠ - يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك، وهو أنهم ك انوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ، حتى يؤخذَ بثأره، فقال هذا: من سرَّه قَتْلُ مالك، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره، فذكر اللازم للشيء، وهو من باب الكناية.
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي: كيف تنشد قول الربيع:..... حين بدأنَ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ: بَدأنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأتَ، فغضب الأصمعيُّ، وكان الصواب أن يقول: بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب: بدا يَبْدو، أي: ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني، وقال له: كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال: مُخَيتير، فضَحِك منه، وصفَّق بيديه، وشَنَّع عليه في حلقته، وكان الصواب أن يقولَ: مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان -، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون، فأبقاها، وحذف التاء، وأتى بياء التصغير، فقلب - لألها - الألف ياءً، وأدْغمها فيها، فصار: مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر، والقرائنُ تبينه.
ومفعول ﴿يَرْجِعُونَ﴾ محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي: لعلهم يكونون من أهل الرجوع، أو اختصاراً أي: يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه.

فصل


قال القرطبيُّ: والطائفة: الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى: نفس طائفة، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الاول ففيه وجوهٌ:
الأول: أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة
317
الإسلام، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر، فإذا لم يكن حَسَداً، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام، والبحثَ الوافي - أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته.
قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد، ثم اكفروا آخِرَ النهار، وقولوا: إنّا نظرنا في كتابنا، وشاوَرْنا علماءَنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبُه، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم، واتهموه، وقالوا: إنهم أهْلُ الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ.
قال الأصمُّ: قال بعضهم لبعض: إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ، ولكن صَدِّقُوه في بعض، وكَذِّبوه في بعض، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف، لا على العِناد، فيقبلوا قولكم.
وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان
أحدهما: قال ابنُ عباسٍ: «وَجْهَ النَّهارِ» : أوله، وهو صلاة الصبح، ﴿واكفروا آخِرَهُ﴾ يعني: صلاة الظهر، وتقديره: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك، وطمعوا أن يكون منهم، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره: «ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار» يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح، فهي الحق، ﴿واكفروا﴾ بالقبلة إلى الكعبة ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ يقولون: إن هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا.
الثاني: قال بعضُهُمْ لبعض: صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون: إن أهل الكتاب أصحابُ العلم، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة.

فصل في فوائد كشف حيلتهم


إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ:
318
الأول: أن ذلك إخبار عن الغيب، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب.
الثاني: أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [المؤمنين الذين] في إيمانهم ضعف.
الثالث: [أن القومَ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس.
319
اللام في «لِمَنْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة، كهي في قوله تعالى: ﴿قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] أي: ردفكم وقول الآخر: [الوافر]
١٥١١ - فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا
وقول الآخر: [الكامل]
١٥١٢ - مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا
وقول الآخر: [الطويل]
١٥١٣ - يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ
أي: أنخنا الكلاكِلَ، وأخدع الخليل، ويذمون الدنيا، ويُرْوَى: يذمون بالدنيا، بالباء.
قال شهابُ الدينِ: وأظن البيتَ: يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع -
319
وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ، وهذا الوجه ليس بالقوي.
الثاني: أن «آمن» ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف، فعُدِّيَ باللام، أي: ولا تُقِرّوا، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم، ونحوه قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ﴾ [يونس: ٨٣] وقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: ١٧] وقال أبو علي: وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ [يونس: ٨٣]، وقوله: ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ [طه: ٧١]، وقوله: ﴿يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وهنا استثناء مُفَرَّغٌ.
وقال أبو البقاء: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء مما قبلَه، والتقديرُ: ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم.
والثاني: أن النية به التأخير، والتقدير: ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة، و «مَنْ» في موضع نصب على الاستثناء من أحد.
وقال الفارسيُّ: الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله: ﴿أَن يؤتى﴾ فلا يتعلق باللام في قوله: ﴿لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ إلا أن يحمل اللام على معناه، فيتعدى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم، كما تقول: أقررت لزيد بألفٍ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى، ولا تكون زائدة على حد: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: ٧٢] و ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن «آمن» معنى «أقَرَّ».

فصل


اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ، وفيه وجهانِ:
الأول: أن معناه: ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة، فلا تصدقوه، وعلى هذا التفسير تكون اللام في ﴿لِمَنْ تَبِعَ﴾ صلة زائدة.
الثاني: معناه: لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم، أي: ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.
320
ثم قال: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾.
قال ابن عباسٍ: معناه: الدين دين الله، ونظيره: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾ [الأنعام: ٧١] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم:
أما على الوجه الأول - وهو قولهم: لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به، وأرشد إليه، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله: ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢]- قوله: ﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب﴾ [البقرة: ١٤٢] يعني: الجهاتِ كلَّها لله، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء.
وعلى الوجه الثاني: المعنى: ﴿إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ قد جئتكم به، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ.

فصل


قوله تعالى: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة، وليس بسديد، لما نقل من الخلاف، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين، تثبيتاً لقلوبهم، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف، ولا شك أن قولَه: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ من كلام الله مخاطباً لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ].
قوله: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾ اعلم أن هذه الآية من المشكلات، فنقول: اختلف الناس في هذه الآية على وجوه:
الأول: أن قوله: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلاَ تؤمنوا﴾ على حذف حرف الجر، والأًل: ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل «أن»، ويكون قولُه: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ جملةً اعتراضيةً.
قال القفّالُ: يحتمل أن يكون قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر، فيقول - عند بلوغه
321
إلى تلك الكلمة -: آمنت بالله، أو يقول: لاَ إلَه إلا اللهُ، أو يقول: تعالى الله عن ذلك، ثم يعود إلى تمام الحكاية، فيكون قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ من هذا الباب.
قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ -: ﴿وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ وما بينهما اعتراضٌ، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً، ودون المشركين، لئلا يدعوهم إلى الإسلام.
﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾ عطف على ﴿أَن يؤتى﴾ والضمير في ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ لِ ﴿أَحَدٌ﴾ لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ.
فإن قلت: ما معنى الاعتراضِ؟
قلت: معناه: إن الهدَى هُدى الله، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم، أو يزيد ثباتاً، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ يريد الهداية والتوفيق.
قال شهاب الدينِ: «وهذا كلامٌ حسَنٌ، لولا ما يُريد بباطنه»، وعلى هذا يكون قوله: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ﴾ مستثْنَى من شيء محذوفٍ، تقديره: ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم، وتكون هذه الجملة - أعني قوله: ﴿وَلاَ تؤمنوا﴾ من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة، أي وقالت طائفةٌ كذا، وقالت أيضاً: ولا تؤمنوا، وتكون الجملة من قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ من كلام اللهِ لا غير «.
قال ابن الخطيبِ: وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ:
الأول: أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند أتباعهم، وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد.
الثاني: أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير: قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله﴾.
الثالث: أنه كيف وقع قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم.
الوجه الثاني: أن اللام زائدة في ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ وهو مستثنى من»
أحَدٌ «المتأخِّر، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ، ف ﴿لِمَنْ تَبِعَ﴾
322
منصوب على الاستثناء من» أحد «، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل ﴿أَن يؤتى﴾ ثلاثة أوجهٍ:
الأول والثاني: مذهب الخليل وسيبويه، وقد تَقَدَّمَا.
الثالث: النصب على المفعول من أجله، تقديره: مخافةَ أن يُؤتَى.
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه، وعلى عامله، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها، وهو غير جائزٍ.
الوجه الثالث: أن يكون ﴿أَن يؤتى﴾ مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك، ودبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وقوله: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ معناه: ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم، وقوله: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ معناه: لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك، ودبرتموه، لا لشيء آخرَ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ، والتقرير، والتوبيخ - بمعنى: ألأن يؤتى أحَدٌ؟
فإن قلت: ما معنى قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ على هذا؟
قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [لكم] عند ربكم.
الوجه الرابع: أن ينتصب ﴿أَن يؤتى﴾ بفعل مقدَّرٍ، يدل عليه: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا.
قال أبو حيّان: وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم.
قال شهاب الدين: «متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان»
.
الوجه الخامس: أن يكون ﴿هُدَى الله﴾ بدلاً من «الْهُدَى» الذي هو اسم «إنَّ» ويكون
323
خبر ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم، ويكون «أوْ» بمعنى «حتى»، والمعنى: حتى يحاجوكم عند ربكم، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ معطوفاً على ﴿أَن يؤتى﴾ وداخلاً في خبر إن.
الوجه السادس: أن يكون ﴿أَن يؤتى﴾ بدلاً من ﴿هُدَى الله﴾ ويكون المعنى: قُلْ بأن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ بمعنى فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم، قال ابنُ عطية: وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [النهي] وإبقاء عمله.
الوجه السابع: أن تكون «لا» النافية مقدَّرة قبل ﴿أَن يؤتى﴾ فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها، وتكون «أو» بمعنى «إلاَّ أن» والتقدير: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ، وجاء بمثله، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي.
وفيه ضعف من حيث حذف «لا» النافية، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر.
الوجه الثامن: أن يكون ﴿أَن يؤتى﴾ مفعولاً من أجله، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ ليس داخلاً تحت قوله: «قل» بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف: كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم، أي: مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في ﴿أُوتِيتُمْ﴾ و ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
واستضعف بعضُهم هذا، وقال: كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير: كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها، بكراهة الإيتاء المذكور.
الوجه التاسع: أن «أنْ» المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي «لا»، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء، وجعلَ «أو» بمعنى «إلا»، والتقدير: لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ حالٌ لازمةٌ من
324
جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه. وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ.

فصل


«أحد» يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي، وأن تكون بمعنى «واحد» والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم، وعليه قوله: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧]- جمع الخبر لما كان «أحَدٌ» في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ باعتبار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعِه.
وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها «أحد» - المذكور - الملازم للنفي، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي. والأمر واضح مما تقدم.

فصل


قرأ ابنُ كثير: أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ:
أحدها: أن يكون ﴿أَن يؤتى﴾ على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره: ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ، كقوله تعالى: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ [القلم: ١٤ - ١٥]، والمعنى: أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب، للاختصارِ، تقديره: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه، ولا تؤمنون به، قاله قتادةُ والربيعُ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه -: أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى: أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩]، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ. وحينئذ يسوغ في محل «أن» الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ.
325
وثانيها: أن ﴿أَن يؤتى﴾ في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره: أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به، أو تعترفون به، أو تذكرونه لغيركم، أو تُشيعونه في الناس، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره، وهذا على قول مَنْ يقول: أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر، وتكون المسألة من باب الاشتغال، التقدير: أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ ف «تذكرونه» مُفَسِّرٌ ل «تذكرون» الأولى، على حد: أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها، وهذا أرجح من الوجه قبله، لأنه مثل: أزيداً ضربته وهو أرجح، لأجل الطالب للفعل، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى:
﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ [يونس: ٩١] تقديره: آلآن آمنتَ، ورجعتَ وثبت، ونحو ذلك.
قال الواحديُّ: فإن قيل: كيف جاز دخول «أحَدٌ» في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي، والاستفهام، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول «أحَدٌ».
قيل: يجوز أن يكون طأحَدٌ «- في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى» واحد «.
قال أبو العباسِ: إن»
أحَداً «و» وَحَداً «و» وَاحِداً «بمعنًى.
وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾، أو في هذه القراءة - بمعنى»
حتى «، ومعنى الكلام: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم.
قال الفراء:»
ومثله في لكلام: تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك.
ومثله قول امرئ القيس: [الطويل]
١٥١٤ - فَقُلْتُ لَهُ:
لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
أي حتى، ومن هذا قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، ومعنى
326
الآية: ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم «، قال:» فهذا وَجْهٌ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟ «. وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي.
ويجوز أن يكون ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية، تقديره: أتذكرون، أو أتشيعونه. ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجه الرابع.
الخامس: أن يكون ﴿أَن يؤتى﴾ - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ.
قال ابن الخطيبِ:»
أما قراءة من يقصر الألف من «أنْ» فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام، كما قرئ: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم﴾ [البقرة: ٦]- بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [القلم: ١٤] قرئ بالمد والقصر.
وقال امرؤ القيس: [المتقارب]
١٥١٥ - تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟
أراد: أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة «أم» عليه، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ، فقال: [ «وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة».
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة: إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها «إنْ» النافية، فقال: وقُرِئَ: «إن يؤتى أحد» على «إن» النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم» وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم.
قال ابنُ عطيةَ: «وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة،
327
ويكون قولها: أو يحاجوكم بمعنى: أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له»، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في «أوْ» - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير، وأن تكون بمعنى «إلا» إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز، وعلى قول غيره تكون بمعنى «حَتَّى».
وقرأ الحسن: أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض ل «أن» - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء، وابن عطية، وقيَّدَها بعضُهم بكسر «أنْ» وفسَّرها بإن النافية، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطاب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمته، والمفعول المحذوف، تقديره: إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول الأول، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه، وأبقى الثاني، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ وما بعده من قول الله تعالى، يقول: «قل» يا محمدُ إن ﴿الهدى هُدَى الله أَن يؤتى﴾ «إنْ» بمعنى الجحد، أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم، يعني: إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم.
قال الواحدي: «وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير، والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ، من أوَّلِها إلى آخرهَا، مع بيان المعنى في النظم».

فصل


قال بعض المفسّرين: هذا من قول الله - تعالى -، يقول: «قل» لهم يا محمدُ: ﴿إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبيًّا حسدتموه، وكفرتم به، ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون «أوْ» بمعنى «إنْ» لأنهما حرفا شرط وجزاء، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ، إنَّ الهدى هدى الله، ونحن عليه.
ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين، ويكون نظمُ الآيةِ: إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم، فقل: إن الفَضْلَ بِيَدِ الله، وإن حاجُّوكم فقل: إنَّ الْهُدَى هُدَى الله.
ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وقوله:
328
﴿وَلاَ تؤمنوا﴾ من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود، وتزويرهم في دينهم، ومعناه: لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء، والله واسعٌ عليمٌ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين.
و «الفضل» - هنا - الرسالة، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان، والفاضل: الزائد على غيره [في خصال الخير، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير]، وقوله: ﴿بِيَدِ الله﴾ معناه: أن مالك له، يؤتيه من يشاءُ، أي: هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه، وأنْ لا يفعَلَه.
الواسع: الكامل القدرة، والعليم: الكامل العلم، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء، ولكمال علمه لا يكون شيء من افعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب.
قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي: يختص بنبوته من يَشَاء، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
329
قوله :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي : يختص بنبوته من يَشَاء، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - ايضاً - في الأموال.
قوله: «مَنْ» مبتدأ، و ﴿وَمِّنْ أَهْلِ﴾ خَبَرُه، قُدِّمَ عليه، و «مَنْ» إما موصولة، وإما نكرة. و «إن تأمنه بقنطار يؤده» هذه الجملة الشرطية، إما صلة، فلا محل لها، وإما صفة فمحلّها الرفع.
وقرا بعضهم: ﴿تَأْمَنْهُ﴾، و ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ﴾ [يوسف: ١١]. بكسر حرف
329
المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً.
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ، وشرطه في الفاتحة يقال: أمنته بكذا، وعلى كذا، فالباءُ للإلصاق بالأمانة، و «على» بمعنى استيلاء المودع على الأمانة.
وقيل: معنى: أمنته بكذا، وثقت به فيه، وأمنته عليه: جعلته أميناً عليه.
والقنطارُ والدينار: المراد بهما العددُ الكثيرُ، والعدد القليل، يعني: أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه.
واختلف في القنطار، فقيل: ألف ومائتان أوقية؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب، فردَّه، ولم يَخُنْ فيه.
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال.
وقيل: ألف ألف دينار، أو ألف الف درهم - وقد تقدم -.
والدينار: أصله: دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن، فأبدلوا أولهما حرفَ علة، تخفيفاً؛ لكثرة دوره في لسانهم، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم: دَنَانير ودُنَيْنِير.
ومثله قيراط، أصله: قِرَّاط، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط، كما قالوا: تَظَنَّيْتُ، وقصَّصْتُ أظفاري، يريدون: تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم «يُؤَدِّهْ» بسكون الهاء في الحرفين.
وقرأ قالون «يُؤَدِّهِ» بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان:
أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو: ﴿يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] و ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت﴾ [البقرة: ٢٥٨] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى.
330
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك: [البسيط]
١٥١٦ - وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
وأنشد الأخفش: [الطويل]
١٥١٧ - فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان
إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر، وليس كما قال، لما سيأتي.
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ، فقال الزَّجَّاجُ: هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل، وأما ابو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة، فغلط عليه كما غلط عليه في «باريكم». وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً، يعني يكسر في ﴿بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] كسراً خفيًّا، فظنه الراوي سكوناً.
قال شهابُ الدينِ: وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه:
منها: أنه فَرَّ من السكون غلى الاختلاس، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - ايضاً - لا يجوز إلا في ضرورة، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس، قال: ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً، وجعل قوله: [البسيط]
١٥١٨ -............................... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
أحسن من قوله: [البسيط]
١٥١٩ -................................ مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ
حيث سكن الأول، واختلس الثاني.
331
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود﴾ [العاديات: ٦]- بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع -.
ويقولون: لَهُ مال، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس.
قال الفراء: من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم «أنتم» و «قمتم» وأصلها الرفع.
وأنشد: [الرجز]
١٥٢٠ - لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ
قال شهاب الدينِ: وهذا عجي من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف، نَصُّوا على ذلك، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه، وقالوا: قالتها العربُ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج. فليكن هذا منها.
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ.
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر: [الوافر]
١٥٢١ - لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
وقول الآخر: [الطويل]
١٥٢٢ - أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى
وقول الآخر: [البسيط]
332
وقد تقدم أنها لغة عقيل، وكلاب أيضاً، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ «يُؤَدِّهو» بضم الهاء بعدها واو، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس، وهما نظيرتا قراءتي «يؤدهي» و ﴿يُؤَدِّهِ﴾ - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم، أو أمر معتلِّ الآخر، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله: ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَ﴾ [آل عمران: ١٤٥] وقوله: ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] وقوله: ﴿مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم﴾ [النساء: ١١٥]، وقوله: ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم﴾ [النمل: ٢٨] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني: الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله. وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع، نحو «إنَّهُ، لَهُ، بِهِ»، وإن سبقها ساكن، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب.
إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء، أو الواو، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف. وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات.
قوله ﴿بِدِينَارٍ﴾ في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها للإلصاق، وفيه قَلَقٌ.
الثاني: أنها بمعنى «في» ولا بد من حذف مضاف، أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار.
الثالث: أنها بمعنى «على» وقد عُدِّيَ بها كثيراً، كقوله: ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف﴾ [يوسف: ١١] وقوله: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٦٤] وكذلك هي في ﴿بِقِنطَارٍ﴾.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه، متوكِّلاً به و «دُمْتَ» هذه هي الناقصةُ، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ولا ينصرف، فأما قولهم: «يدوم» فمضارع «دام» التامة بمعنى بقي، ولكونها صلة ل «ما» الظرفية] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر، ليعمل في الظرف نحو
333
أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً.
وجوز أبو البقاء في «ما» هذه أن تكون مصدرية فقط، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلا في حال ملازمتك له، وعلى هذا، فيكون «دَامَ» هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها، فإذا كانت تامة انتصب «قَائماً» على الحال، يقال: دام يدُوم - كقام يقوم - و «دُمت قائماً» بضم الفاء وهذه لغة الحجاز، وتميم يقولون: دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم، ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم يعني: أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء.
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري.
وأصل هذه المادة: الدلالة على الثبوت والسكون، يقل: دام الماء، أي سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» وفي بعضه بزيادة: الذي لا يجري، وهو تفسير له، وأدَمْت القِدْرَ، ودومتها سكنت غليانها بالماء، ومنه: دامَ الشيء، إذا امتدَّ عليه الزمان، ودوَّمت الشمس: إذا وقعت في كبد السماء.
قال ذو الرمة: [البسيط]
١٥٢٤ -......................... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء، ومنه الدوام، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه، فيرَى الأشياء دائرة. وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة: [البسيط]
١٥٢٣ - أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ
334
ومنها: دوَّم الطائر، إذا حَلَّق ودار.
قوله: «عَلَيْهِ» متعلق ب «قائِماً» وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان:
الأول: الحقيقة، وهو أن يقوم على رأس غريمه، ويلازمه بالمطالبة، وإن أخَّره أنكر.
قال القرطبيُّ: استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ فإذا كان له ملازمته، ومنعه من التصرف، جاز حبسه.
وقيل معنى: إلا ما دمت عليه قائماً أي: بوجهك، فيهابك، ويستحيي منك، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر غليه بوجهك، حتى يستحيي فيقضيها.
الثاني: المجاز.
قال ابن عباس: المرادَ من هذا القيام، الإلحاح، والخصومة، والتقاضي، والمطالبة، قال ابن قُتَيْبَة: أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه، والتارك له يَبُْد عنه، بدليل قوله تعالى: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] أي: عاملة بأمر الله، غير تاركة.
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر: قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال: أبو علي الفارسي: القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات، كما ذكرناه في قوله تعالى: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ [النمل: ٣] ومنه قوله: ﴿دِينًا قَيِّمًا﴾ [الأنعام: ١٦١]، أي: دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية: دائماً، ثابتاً في مطالبتك.

فصل


دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين: أهل أمانة، وأهل خيانة.
فقيل: اهل الأمانة هم الذين أسلموا، وأهل الخيانة: هم الذين لم يُسْلِموا.
وقيل: أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة: هم اليهود.
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يعني عبد الله بن سلام، [أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب، فأداه. ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يعني: فنحاص بن عازوراء]، استودعه رجل من قريش ديناراً، فخانه.
335

فصل


يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة، وعلى المبايعة، وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار، فيؤديه إليك، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ﴾ ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً:
أحدها: أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم، فلذلك يقولون: يحل لنا قتل المخالف، وأخذ ماله بأي طريق كان، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ، إلاَّ الأمَانَةَ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ».
الثاني: أن اليهود قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا، إذا أكلنا أموال عبيدنا.
الثالث: قال القرطبيُّ: قالت اليهود: إن الأموال كانت كلُّها لنا، فما في أيدي العرب منها، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.
الرابع: قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ: إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً، وليس لكل من خالفهم.
ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال، فقالوا: ليس علينا حَقٌّ؛ لأنكم تركتم دينكم. وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
قال ابن الخطيبِ: «ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ.
قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا﴾ يجوز أن يكون في»
ليس «ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون» سبيل «مبتدأ، و» عَلَيْنَا «الخبر، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون»
336
عَلَيْنَا «وحده هو الخبر، و ﴿سَبِيلِ﴾ مرتفع به على الفاعلية. ويجوز أن يكون ﴿سَبِيلِ﴾ اسم» ليس «والخبر أحد الجارين أعني: ﴿عَلَيْنَا﴾ أو ﴿فِي الأميين﴾.
ويجوز أن يتعلق ﴿فِي الأميين﴾ بالاستقرار الذي تعلق به»
عَلَيْنَا «وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس» ليس «نقله أبو البقاء، وغيرُه، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث، فمن قال: تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه، ومن قال: لا تدل على الحدث منعوا إعمالها. واتفقوا على أن» ليس «لا يدل على حدث ألبتة، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل.
ويجوز أن يتعلق ﴿فِي الأميين﴾ ب»
سَبيلٌ «، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ، والضمانِ، ونحوها. ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف.
قال: فالأمي منسوب إلى الأم، وسُمِّي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمياً؛ قيل: لأنه كان لا يكتب، وذلك لأن الأمَّ: أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب.
وقيل: نسبة إلى مكة، وهي أمُّ القُرَى.
قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب﴾ فيه وجوهٌ:
أحدها: هو قولهم: أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور ف يالتوراة، وكانوا كاذبين في ذلك، وعالمين بكونهم كاذبين. [ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ، وجرمُه أفحش] فيه.
وثانيها: أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ.
وثالثها: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.

فصل في رد شهادة الكافر


قال القرطبيُّ:»
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع، قال ابن العربيّ: ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله «.
قوله: ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب»
يَقُولُونَ «متضمِّناً معنى يفترون، فعُدِّي تعديته. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» الْكَذِب «، وقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً، أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً، أي: وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم، وهو أقبح لهم.
337
قوله: ﴿بلى﴾ جواب لقولهم: «لَيْسَ» وإيجاب لما نفوه. وتقدم القول في نظيره.
قال ابن الخطيبِ: وعندي الوقف التام على «بلى» ثم استأنف.
وقيل: إن كلمة «بلى» كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده؛ لأن قولَهم: ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه، فلا يَحْسُن الوقف على «بلى» اه.
و «مَنْ» شرطية، أو موصولة، والرابط بين الجملة الجزائية، أو الخبرية هو العموم في ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا.
وقيل: الجزاء، أو الخبر محذوف، تقديره: يحبه الله، ودل على هذا المحذوف قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.
قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، وهو شرط، و «أوفى» في موضع جزم «واتَّقَى» معطوف عليه، واتقى الله، ولم يكذب، ولم يستحل ما حرم عليه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي يحب أولئك.
و «بعهده» يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على «مَنْ». أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على «اللهِ» ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على «مَنْ» ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ.
فإن قيل: بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل، وهو «مَنْ» فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ.
فالجواب أن الأمر كذلك، فإنهم إذا وفوا بالعهود، فأول ما يوفون به العهد الأعظم، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ».
مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ:
338
أحدها: أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ.
وثانيها: أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب، وهم يعلمون، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله.
وثالثها: أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين.
وقال بعضهم: إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ؛ لأن اللفظَ عامٌّ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة.

فصل


قال عكرمةُ: نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبوا بأيديهم غيرَها، وحلفوا أنها من عند الله؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم.
وقيل: نزلت في ادِّعائهم أنه ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥] كتبوا ذلك بأيديهم، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ.
وقال ابن جُرَيْجٍ: نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أقم بيِّنتك، فقال: ليس لي بينة، فقال لليهودي: احلِفْ، قال: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ﴾ فنكل الأشعث.
قال مجاهدٌ: نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته، عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ. قَالَ: وقرأها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث مرات، فقال أبو ذر: خابوا، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: المُسْبِلُ إزَارَهُ، والمَنَّانُ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ».
339
وروى أبو هريرة عن النبي: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فاقتطعه، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ: الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».
وقيل: جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال الحضرميُّ: يا رسولَ اللهِ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ: هي أرضي في يدي، أزرعها، ليس له فيها حق فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للحَضْرَمِيّ:
«ألك بيِّنةٌ؟ قال لا، قَالَ: فَلَكَ يمينُهُ قال: يا رسولَ اللهِ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، قال ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أدبر» أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ «.
قال علقمة: أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ، روى أبو أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قَالُوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ قَالَ: وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ «قالها ثلاث مراتٍ.
قوله: ﴿أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة﴾ أي: لا نصيبَ لهم في الآخرةِ وتعيمها، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨]، ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ أي: كلاماً ينفعهم، ويسرهم.
وقيل: لمعنى الغضب، كما يقول الرجل: إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: لا يرحمهم، ولا يُحْسِن إليهم، ولا
340
يُنِيلُهم خيراً، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة.
وقيل: لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة، كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] وقد تكون من غير واسطة، أما في الدنيا فكقوله: ﴿التائبون العابدون﴾ [التوبة: ١١٢]. وأما في الآخرة فكقوله: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]. ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في هذه اللام أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق، أي: يستحقُّون العذاب الأليم. لما بين حرمانهم من الثواب، بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم.

فصل


قال القرطبي: " دلت هذه الآية والأحاديث على أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وروت أم سلمة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما بشرٌ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. قوله: ﴿ولهم عذاب أليم﴾ في هذه اللام قولان: أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق، أي: يستحقُّون العذاب الأليم. الثاني: كما تقول: المال لزيد، فتكون لام التمليك، فذكر ملك العذاب لهم، تهكُّماً بهم.
341
هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود.
وقوله: يَلْوُونَ «صفة ل» فريقاً «فهي في محل نصبٍ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط -.
قال أبو البقاء:»
ولو أفرد على اللفظ لجاز «وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز: القوم جاءني، والعامة على ﴿يَلْوُونَ﴾ بفتح الياء، وسكون اللام، وبعدها واو مضمومة، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي: فتل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع -»
يُلَوُّون «بضم الياء، وفتح
341
اللام، وتشديد الأولى - من لَوَّى» مضعَّفاً، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ، وهو كما قال، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينةز
وقرأ حُمَيْد «يَلُون» - بفتح الياء، وضم اللام، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل ﴿يَلْوُونَ﴾ - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ. ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ، فبقي وزن «يَلُون» يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل «يلويون» كيضربون، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة.
و ﴿أَلْسِنَتَهُمْ﴾ جمع لسانٍ، وهذا على لغة من ذكَّره، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول: هذه لسانٌ - فإنه يجمع على «ألْسُن» - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع.
وقال الفرّاء: لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً. ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث -، والليّ: الفتل، يقال: لَويْت الثوب، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ: المطل، لواه دَيْنَه، يلويه لَيًّا، وليَّاناً: مطله. والمصدر: اللَّيّ واللّيان.
قال الشاعرُ: [الرجز]
١٥٢٥ - تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
١٥٢٦ - قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا
والأصل لوْيٌ، ولَوْيَان، فأعِلَّ بما تقدم في «مَيِّت» وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. وفي الحديث: «لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ».
وقال بعضهم: اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال: لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله
342
عنه - و ﴿بالكتاب﴾ متعلق ب ﴿يَلْوُونَ﴾، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة، قال: وتقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب.
والضمير في ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف، أي: لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ، دل عليه المعنى، والأصل: يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ﴾ [النور: ٤٠] ثم قال: ﴿يَغْشَاهُ﴾ [النور: ٤٠] يعود على «ذِي» المحذوفة. و «من الكتاب» هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ «ليحسبوه» - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة.
قال ابن الخطيبِ: «لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة. والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون - في المدح -: خطيب مِصْقَع، وفي الذم: مِكْثَارٌ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب﴾ أي: بقراءة ذلك الكتاب الباطل».

فصل


قال القفَّالُ: معنى قوله: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ أن يعمدوا إلى اللفظة، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى، وهذا كثيرٌ في لسان العرب، فلا يبعد مثله في العبرانية، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة.
وروي عن ابنِ عباسٍ قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قالوا: هذا من عند الله.

فصل


قال جمهور المفسّرين: هذا النفر هم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ يعطفونها بالتحريف والتغيير، وهو ما غيّروا من صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم، وغير ذلك. ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ أي: لتظنوا ما حرفوا ﴿مِنَ الكتاب﴾ الذي أنزله الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم الكاذبون.
343
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
فإن قيل: كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً.
قال ابن الخطيب: «والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة، والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ، واليهود كانو يقولون: مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ، ويقول: لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت، بل ما ذكرناه، فكذا هنا، والله أعلمُ».
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وبين قوله: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ ؟
فالجوابُ: أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب، وتارةً بالسنَّةِ، وتارة بالإجماع، وثارةً بالقياس، والكل من عند الله تعالى - فقوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هذا نفيٌ خاصٌّ، ثم عطف النفي العام فقال: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ فلا يكون تكراراً.
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ﴾ أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ.
344
قال مقاتل والضَّحّاكُ ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى
344
نجرانَ كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن [يتخذوه] ربًّا، فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عباس وعطاء: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب﴾ أي: القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود، والرئيس - من نصارى نَجْران، قالا: يا محمد، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً؟ قَالَ: «مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ» فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن عباسٍ: لما قالت اليهودُ: عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى: المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية.
والبشر جميع بني آدم، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ، والجمع، قال القرطبي: «لأنه بمنزلة المصدر».
قوله: ﴿أَن يُؤْتِيهُ﴾ اسم «كَانَ» و «الْبَشَر» خبرها. وقوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ عطف على «يُؤتيهُ»، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل -: إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف.
وإنما بينا هذا؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب، نحو: «ما كان لزيد أن يفعل»، كقوله تعالى: ﴿مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا﴾ [النور: ١٦]. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ [النساء: ٩٢] وقوله: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥] أي: ما ينبغي لنا، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره، وهو على قسمين:
قسم يكون النفي فيه من جهة العقل؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء، ونحوه: ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥].
وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء، كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُعْرَف القسمان من السياق.
وقرأ العامة «يَقُولَ» - بالنصب - نسقاً على «يؤتيه» والتقدير: لا يجتمع النبوة وهذا القول. والعامل فيه «أن» وهو معطوف عليه بمعنى: ثم أن يقول.
والمراد بالحكم: الفَهْم والعلم. وقيل: إمضاء الحكم عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
و ﴿الكتاب﴾ القرآن.
345
وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب -: «يقولُ» - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مُشْكِلٌ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله؛ لفساد المعنى، فكيف يقولون: على القطع والاستئناف.
قوله: ﴿عِبَادًا﴾ حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى: ﴿كُونُواْ عِبَاداً لِّي﴾ أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد: عباد.
قال ابنُ عطِية: ومن جموعه: عَبِيد وعِبِدَّى.
قال بعض اللغويين: هذه الجموع كلُّها بمعنًى.
وقال بعضهم: العبادُ للهِ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر.
وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية، والذي استقرأت في لفظ «العباد» أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير، وتصغير الشأن، وانظر قوله: ﴿والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] وقوله: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ [المائدة: ١١٨]، وأما العبيد، فتستعمل في تحقيره.
ومنه قول امرئ القيس:
١٥٢٧ - قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب: «وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي» ؟ ومنه قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك. ولما كانت «العباد» تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أتى بها في قوله تعالى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية.
قال أبو حيّان: «وفيه بعض مناقشة، أما قوله: ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى، فأما عبيد، فالأصح أنه جمع، وقيل اسم جمع. وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع، وألفه للتأنيث».
قال شهابُ الدّينِ: «لا مناقشة، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ».
346
قال: وأما ما استقرأه من أن «عِباداً» يساق في [مضمار] الترفُّع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ «العباد» وأما قوله: وأما العبيد، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس، وقول حمزة: «وهل أنتم إلا عبيد أبي»، وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] فاستقراء ليس بصحيح، إنما كثر استعمال «عباد» دون «عبيد» لأن «فعالاً» في جمع «فَعْل» غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ، وجمع فَعْل على «فعيل» لا يطَّرد.
قال سيبويه: «وربما جاء» فعيلاً «وهو قليل - نحو الكليب والعبيد». فلما كان «فِعَال» مقيساً في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيراً، وأما ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله: ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤] وبعده ﴿قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٧] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا - في سورة ق - ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩] لأن قبله: ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد﴾ [ق: ٢٨]. وبعده: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠] وأما مدلوله فمدلول «عباد» سواء، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ «عبيد» إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزةَ: هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين.
وقال شهابُ الدينِ: «رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ -» عبيد «- ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره، فالإحالة على اللفظ أوْلَى».
قوله: «لي» صفة ل «عباد». و ﴿مِن دُونِ الله﴾ متعلق بلفظ «عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية، وأن يكون حالاً؛ لتخصُّص النكرة بالوصف.
قوله: ﴿ولكن كُونُواْ﴾ أي: ولكن يقول: كونوا، فلا بد من إضمار القول هنا، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أي: يقال لهم ذلك.
والربانيون: جمع رَبَّانِيّ، وفيه قولان:
أحدهما: قال سيبَوَيْهِ: إنه منسوب إلى الرَّبّ، يعني كونه عالماً به، ومواظباً على طاعته، كما يُقال: رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ،
347
والكثيرِ الشعرِ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة: قالوا: رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ.
الثاني: قال المُبَرِّدُ: الربانيون: أرباب العلم، منسوب إلى رَبَّان، والربان: هو المُعَلِّم للخير، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل: لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري، قال: [الرجز]
١٥٢٨ - أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ
وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً ف يالربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم، وهذا كما يقال: شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ.
قال الواحديُّ: فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية.
وفي التفسير: كونوا فقهاء، علماء، عاملين. قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ.
وقال قتادةُ: حكماء، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: فقهاء، معلمين.
وقل عطاءٌ: علماء، حكماء، نصحاء لله في خلقه.
وقيل: الرَّبَّانِيّ: الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره.
وقال سعيد بن جُبَيرٍ: الرباني: العالم الذي يعمل بعلمه.
وقيل: الربانيون فوق الأحبار، والأحبارُ: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ: اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة.
وقال ابنُ زيدٍ: الربانيُّ: هو الذي يربُّ النَّاسَ، والربانيون هم: ولاة الأمة والعلماء، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار﴾ [المائدة: ٦٣] أي: الولاة والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان.
348
ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى، ومواظبتكم على طاعته.
قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ، فنسب إليه.
قال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عبرانية، أو سريانية، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ.
قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ الباء سببية، أي: كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنها متعلقة ب «كُونُوا» ذكره أبو البقاء، والخلاف مشهورٌ.
الثاني: أن تتعلق ب «رَبَّانِيِّينَ» لأن فيه معنى الفعل.
الثالث: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «رَبَّانِيِّينَ» ذكره أبو البقاء، وليس بواضح المعنى، و «ما» مصدرية، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر، أي: بسبب كونكم عالمينَ، نظيره قوله: ﴿اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ﴾ [الجاثية: ٣٤]. وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال: و «ما» الظاهر أنها مصدرية، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب، وقد نقص شرطٌ، وهو اتحاد المتعلَّق، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و «كُنْتُمْ» معناه «أنتم» كقوله: ﴿مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ [مريم: ٢٩] أي مَنْ هو في المهد.
قوله: ﴿تَعْلَمُونَ﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو «تَعْلَمُونَ» مفتوح حرف المضارعة، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم، أي: تعرفون، فيتعدى لواحدٍ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين، أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب.
ويجوزُ أن لا يُراد مفعول، أي: كنتم من أهل التعليم، وهو نظير: أطعم الخبزَ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً، فالوصْف بالتعليم أبلغ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والرباني يقتضي أن يَعْلَم، ويُعَلَّمَ غيرَه، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ، والأصل عدم الحذف -
349
والتخفيف مُسوَّغ لذلك، بخلاف التشديد، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول. وأيضاً فهو أوفق لِ «تَدْرُسُونَ». والقراءتان متواترتان، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى.
وقرأ الحسن ومجاهدٌ «تَعَلَّمُونَ» - بفتح التاء والعين، واللام مشددة - من تعلم، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما.
قوله: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ كالذي قبله، والعامة على «تَدْرُسُونَ بفتح التاء، وضم الراء - من الدرس، وهو مناسب» تَعْلَمُونَ «من علم - ثلاثياً.
قال بعضهم: كان حق من يقرأ»
تُعَلِّمون «- بالتشديد - أن يقرأ» تُدَرِّسُونَ «- بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى: صرتم تُعَلِّمون غيرَكم، ثم تُدَرِّسُونَ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي: تتلونه عليهم، كقوله: ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس﴾ [الإسراء: ٦].
قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه -»
تَدْرِسُونَ «- بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع» درس «وقرأ هو - أيضاً - في رواية» تُدَرِّسُونَ «من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة»
تَعْلَمُونَ «بالتخفيف.
الثاني: أن التضعيف للتعدية، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى، والتقدير: تُدَرِّسُونَ غيركم العلم، أي: تحملونهم على الدرس. وقُرِئَ»
تُدْرِسُونَ «من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم، وأنزل ونزّل.
والدرس: التكرار والإدمان على الشيء. ومنه: درس زيد الكتاب والقرآن، يدرُسه ويدرِسه، أي: كرر عليه، ويقال درست الكتاب، أي: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودَرَس المنزلُ: ذهب أثرُه، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ»
والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس، وهي قراءة واضحة،
350
سهلة التخريج، والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف.
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع، والفاعل فيه احتمالان:
أحدهما: هو ضمير الله - تعالى -.
الثاني: هو ضمير الموصوف المتقدم.
والمعنى: ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وجماعة: ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل: لا يأمركم عيسى.
وقيل: لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير.
والمعنى على عوده على «بَشَر» أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا، فيُعْبَدَ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى.
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ:
أحدها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكون المعنى: دلالة أن يأمركم، فقدروا «أن» مضمرة بعده وتكون «لا» مؤكِّدة لمعنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، ف «لا» للتوكيد لمعنى النفي السابق، وبقي معنى الكلام: ما كان من زيد إتيان، ولا منه قيام.
الثاني: أن يكون نصبه لنَسَقه على ﴿أَن يُؤْتِيهُ﴾ قال سيبويه: والمعنى: وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة.
قال الواحديُّ: ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا؟ فنزلت.
الثالث: أن يكون معطوفاً على «يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ.
قال ابن عطيةَ:»
وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى «، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ» ولا عدم التآم المعنى.
قال أبو حيّان: «وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على» يَقُولَ «وجعل» لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو «أن» - إلا
351
قبل «لا» النافية، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب «لا» مصدر منفي، فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خَطَأ بيِّن.
أما إذا جعل «لا» لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ، ولا عدم التئام المعنى؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما، فينتفي قوله: ﴿كُونُواْ عِبَاداً لِّي﴾ وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ «غير» موضع «لا» فإذا قلتَ: ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ.
كانت «لا» لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوَصْفان، ولو جعلت «لا» لتأسيس النفي كانت بمعنى «غير» فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه، وثبوت النحو له؛ إذ لو قلت: ما لزيد فقه غير نحو، ك ان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلتَ: ما له غير نحو، ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زادٍ، كان المعنى: جئت بغير زاد وإذا قلت: ما جئت بغير زادٍ، معناه أنك جئت بزاد؛ لأن «لا» هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن يكون «لا» لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي ب «لا» على المثبت الداخل عليه النفي نحو: ما أريد أن تجهل وألا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم «.
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف»
يَأمُرَكُم «على» يَقُولَ «وجوَّزَ في طلا» الداخلة عليه وجهين:
أحدهما: أن يكون لتأسيس النفي.
الثاني: أنها مزيدة لتأكيده، فقال: وقُرِئ ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ بالنصب؛ عطفاً على «ثُمَّ يَقُولَ» وفيه وجهان:
أحدهما: أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾. والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه، ثم يهينني ولا يستخف بي.
والثاني: أن يُجْعَل «لا» غير مزيدة، والمعنى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال شهاب الدينِ: «وكلام الزمخشري صحيحٌ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون» لا «لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد
352
التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ».
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ.
قال سيبويه: ولا يأمركم منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله.
قال الواحدي: ومما يدل على انقطاعها من النسق، وأنها مُسْتأنفة، فلما وقعت «لا» موقع «لن» رفعت كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ [البقرة: ١١٩] وفي قراءة، عبد الله: ولن تُسْأل.
قال الزمخشريُّ: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله: «ولَنْ يَأمُرَكم» وقد تقدم أن الضمير في «يَأمُركُمْ» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو أعم من ذلك.
وسواء قرئ برفع ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ وبنصبه إذا جعلناه معطوفاً على «يَقُولَ» فإن الضمير يعود على «بشر» لا غير، [ويؤيد هذا قولُ بعضهم: ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله، فيكون الضمير المرفوع لِ «بشر» لا غير يعني بما قبله «ثُمَّ يَقُولَ».
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على «الله» تعالى ولم يذكر غير ذلك، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه، والأول أوْلَى.
قال بعضهم: وفي الضمير المنصوب في «يَأمُرُكُمْ» - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم؛ جرياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداء خطابٍ، لا التفات فيه.
قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُم بالكفر﴾ الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار، يعني أنه لا يفعل ذلك.
قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ «بَعْدَ» متعلق ب «يَأمُرُكُمْ» وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان، نحو حينئذٍ ويومئذٍ. و ﴿أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ في محل خفض بالإضافة؛ لأن «إذْ» تضاف إلى الجملة مطلقاً.
قال الزمخشريُّ: «بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ» دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَسْجُدُوا له.
353
قوله :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب " يَأمُرَكُمْ " والباقون بالرفع١٨ وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس، وهي قراءة واضحة، سهلة التخريج، والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف.
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع، والفاعل فيه احتمالان :
أحدهما : هو ضمير الله – تعالى.
الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم.
والمعنى : ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً١٩ وقيل : لا يأمركم عيسى.
وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير.
والمعنى على عوده على " بَشَر " أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا، فيُعْبَدَ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى.
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ :
أحدها : قول أبي علي وغيره، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم، فقدروا " أن " مضمرة بعده وتكون " لا " مؤكِّدة لمعنى النفي السابق، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، ف " لا " للتوكيد لمعنى النفي السابق، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان، ولا منه قيام.
الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على ﴿ أَن يُؤْتِيهُ ﴾ قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة.
قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا ؟ فنزلت.
الثالث : أن يكون معطوفاً على " يَقُولُ " في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ.
قال ابن عطيةَ :" وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى "، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ " ولا عدم التآم المعنى.
قال أبو حيّان٢٠ :" وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يَقُولَ " وجعل " لا " للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو " أن " - إلا قبل " لا " النافية، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب " لا " مصدر منفي، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خَطَأ بيِّن.
أما إذا جعل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ، ولا عدم التئام المعنى ؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما، فينتفي قوله :﴿ كُونُواْ عِبَاداً لِّي ﴾ وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ " غير " موضع " لا " فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ. كانت " لا " لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوَصْفان، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى " غير " فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه، وثبوت النحو له ؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلتَ : ما له غير نحو، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ، معناه أنك جئت بزاد ؛ لأن " لا " هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن يكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي ب " لا " على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم، تريد : ما أريد أن لا تتعلم ".
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف " يَأمُرَكُم " على " يَقُولَ " وجوَّزَ في " لا " الداخلة عليه وجهين :
أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي.
الثاني : أنها مزيدة لتأكيده، فقال : وقُرِئ ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ ﴾ بالنصب ؛ عطفاً على " ثُمَّ يَقُولَ٢١ " وفيه وجهان :
أحدهما : أن تجعل " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ ﴾. والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه، ثم يهينني ولا يستخف بي.
والثاني : أن يُجْعَل " لا " غير مزيدة، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال شهاب الدينِ :" وكلام الزمخشري صحيحٌ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون " لا " لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ ".
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ.
قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله.
قال الواحدي : ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله " وَلَنْ يَأمُرَكُم٢٢.
وقال الفرّاءُ : فهذا دليل على انقطاعها من النسق، وأنها مُسْتأنفة، فلما وقعت " لا " موقع " لن " رفعت كما قال تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [ البقرة : ١١٩ ] وفي قراءة، عبد الله : ولن تُسْأل.
قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله :" ولَنْ يَأمُرَكم " وقد تقدم أن الضمير في " يَأمُركُمْ " يجوز أن يعود على " الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك.
وسواء قرئ برفع ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ ﴾ أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على " يَقُولَ " فإن الضمير يعود على " بشر " لا غير، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله، فيكون الضمير المرفوع لِ " بشر " لا غير يعني بما قبله " ثُمَّ يَقُولَ ".
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على " الله " تعالى ولم يذكر غير ذلك، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه، والأول أوْلَى.
قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في " يَأمُرُكُمْ " - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله :﴿ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ ﴾ كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم ؛ جرياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداء خطابٍ، لا التفات فيه.
قوله :﴿ أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ ﴾ الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار، يعني أنه لا يفعل ذلك.
قوله :﴿ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ " بَعْدَ " متعلق ب " يَأمُرُكُمْ " وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان، نحو حينئذٍ ويومئذٍ. و ﴿ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ في محل خفض بالإضافة ؛ لأن " إذْ " تضاف إلى الجملة مطلقاً.
قال الزمخشريُّ :" بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ " دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له.
العامل في «إذْ» وجوه:
أحدها: «اذكر» إن كان الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثاني: «اذكروا» إن كان الخطاب لأهل الكتابِ.
الثالث: اصطفى، فيكون معطوفاً على «إذْ» المتقدمة قبلها، وفيه بُعْدٌ؛ بل امتناع؛ لبُعْده.
الرابع: أن العامل فيه «قَالَ» في قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ وهو واضح.
وميثاق، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أو لمفعوله، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما: ﴿مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [آل عمران: ١٨٧]. وعن مجاهد، وقال: أخطأ الكاتب.
قال شهابُ الدين: «وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك».
والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح، وقد ذكروا فيها أوجهاً:
أحدها: أن الكلام على ظاهرهِ، وأن الله تعالى - أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضهم بعضاً وينصر بعضُهم بعضاً، بمعنى: أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وطاووس.
وقيل هذا الميثاقُ مختص بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عباس وقتادةَ والسدي، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾ [آل عمران: ٨١] وهذا يدل على أن الآخذ [هو الله - تعالى - والمأخوذ منهم هم النبيون، وليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة].
354
وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاقُ مضافاً إلى الموثَقِ عليه. وعلى قولنا إضافته [إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل - وهو الموثق - وإضافة الفعلِ إلى الفاعل أقوى من إضافته] إلى المفعول؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال: ميثاقُ اللهِ وعهجه، فيكون التقدير: وإذ أخذ اللهُ الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أمَمِهم.
ويمكن أن يُراد ميثاق أولاد النبيين - وهم بنو إسرائيلَ - على حذف مضافٍ [وهو كما يقال: «فعل بكر بن وائل كذا»، و «فعل معد بن عدنان كذا»، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا ههنا].
ويحتمل أن يكون المراد من لفظ «النَّبِيِّينَ» أهل الكتاب، فأطلق لفظ «النَّبِيِّينَ» عليهم؛ تهكُّماً بهم على زعمهم؛ لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنا أهل الكتاب، ومنا النبيون، قاله الزمخشريُّ.
ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله: ﴿ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ [الطلاق: ١].
واحتجوا - أيضاً - بما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ، أمَا وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمْرانَ حَيًّا لَمَا وَسعهُ إلاَّ اتِّبَاعِي».
وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «إن الله - تعالى - ما بعث آدم وَمَنْ بعده من الأنبياء عليهم السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بُعِث محمدٌ وهو حَيٌّ ليؤمننَّ به، ولينصرنه».
القول الثاني: أن الميثاق مضاف لفاعله، والموثق عليه غير مذكور؛ لفهم المعنى، والتقدير: ميثاق النبيِّين على أممهم، ويؤيده قراءة أبَيّ وعبد الله، ويؤيده - أيضاً - قوله: ﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك﴾ [آل عمران: ٨٢] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أمهم بأنه إذا بُعِث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُؤمِنوا به وينصروه وهو قول مجاهدٍ والربيع، واحتجوا بقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١] وإنما كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثاً إلى أهل الكتابِ دون النبيين.
وقال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللهُ الميثاق منهم، يجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند مبعثه وكل الأنبياءِ يكونون عند مبعثه عليه السَّلامُ من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل
355
أممهم، ويؤكِّد هذا أنه - تعالى - حكم على مَنْ أخِذ عليهم الميثاقُ أنهم لو تولوا كانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل يكون هذا كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] وقد علم الله تعالى أنه لا يُشرك قط، ولكن خرج هذا على سبيل الفَرْض والتقدير، وكقوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٦] وكقوله في صفة الملائكة: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين﴾ [الأنبياء: ٢٩] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير - فكذا هنا - وقوله: إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق - وقد ذكره - تعالى - على سبيل الفرض في قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥].
واحتجوا - أيضاً - بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجاتِ الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت الآيةُ على أن اللهَ أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كانوا أحياءً - وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجباً على أممهم كان أولى.
واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال: إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم. وبقوله تعالى: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] وبقوله: ﴿وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [آل عمران: ١٨٧].
وقال بعض أصحاب القول الأول: المعنى: أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينصروه، ويصدقوه - إن أدركوه.
قال بعضهم: إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع، وهذا معنى قول ابن عباسٍ.
قرأ العامَّة: «لما آتيتكم» بفتح لام «لما» وتخفيف الميم، وحمزة - وحده - على كسر اللام. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير «لَمَّا» بالفتح والتشديد.
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه:
356
أحدها: أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي، وهي مفعولة بفعل محذوف، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير: واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائلُ: لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف. ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ.
وقال شهاب الدينِ: وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام: «والله لزيداً» تريد: والله لنضربن زيداً.
الوجه الثاني: وهو قول أبي علي وغيره: أن تكون اللام - في «لَمَا» - جواب قوله: ﴿مِيثَاقَ النبيين﴾ لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي بمنزلة قولك: لزيدٌ أفضل من عمرو، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و «ما» مبتدأة موصولة و «آتيتكم» صلتها، والعائد محذوف، تقديره: آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و ﴿مِّن كِتَابٍ﴾ حال - إما من الموصول، وإما من عائده - وقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ عطف على الصلة، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة.
واختلفوا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف، تقديره: جاءكم رسول به، فحذف «به» لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط، وهي مفقودةٌ هنا، [وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفت، ومنهم من] قال: الربط حصل - هنا - بالظاهر، لأن الظاهر - وهو قوله «لما معكم» صادق على قوله: «لما آتيناكم» فهو نظير: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف.
وقال: [الطويل]
١٥٢٩ - فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ
يريد رويت عنه، ورأيته، وفي رحمته. فأقام الظاهر مقام المضمر، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠] ولم يقل: إنا لا نضيع، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ [يوسف: ٩٠] ولم يقل: لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش. وقد تقدم البحث فيه.
ومنهم من قال: إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في «مَعَ» و «لتؤمنن به» جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو «لما آتيناكم» والهاء -
357
في «بِهِ» - تعود على المبتدأ، ولا تعود على «رَسُولٌ» لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ.
الوجه الثالث: كما تقدم، إلا أن اللام في «لَمَا» لام التوطئة؛ لأن اخذ الميثاق في معنى الاستخلاف. وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم، هذا كلام الزمخشريِّ. ثم قال: و «ما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و «لَتُؤمِنُنَّ» سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى الذي. وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط، وتأتي - غالباً - مع «إن» أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء. ثم ذكر في «ما» الوجهين، لحملنا كل واحد على ما يليق به.
الوجه الرابع: أن اللام هي الموطئة، و «ما» بعدها شرطية، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو «آتيْنَاكُمْ»، وهذا الفعل مستقبل معنًى؛ لكونه في جزاء الشرط، ومحله الجزم، والتقدير: واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا، وقوله: ﴿مِّن كِتَابٍ﴾، كقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] وقد تقدم تقريره. وقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ عطف على الفعل قبله، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه، و «لَتُؤمِنُنَّ» جواب لقوله: ﴿أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾ وجواب الشرط محذوف، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ»، كذا قال أبو حيّان.
قال شهاب الدين: «وفيه نظر؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً».
وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول: أحلف بالله لأيهمْ رأيت، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي.
وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية، فأجاب بأن «ما» بمنزلة الذي، ودخلت اللام على «ما» كما دخلت على «إن» حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام التي في «ما» كهذه التي في «إن» واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا. هذا نصُّ الخليلِ.
قال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: إنما بمنزلة الذي كونها موصولة، بل إنها اسم كما أن «الذي» اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ﴾ [هود: ١١١] وقوله: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ [الزخرف: ٣٥].
وقال سيبويه: ومثل ذلك ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨] إنما دخلت اللام على نية اليمين. وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري.
358
قال أبو حيّان: «وفيه خدش لطيف جدًّا» وحاصل ما ذكر: أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح؛ لأن كلاَّ منهما - أعني: الشرط والقسم - بطلب جواباً على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل، فيكون في موضع جزمٍ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ، فلا موضع له من الإعراب، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. [وتقدم هذا الإشكال وجوابه].
الوجه الخامس: أن أصلها «لَمّا» - بالتشديد - فخُفِّفَتْ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه:
أحدها: وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى «بَعْد».
كقول النابغة: [الطويل]
١٥٣٠ - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
يريد: فعرفتها بعد ستة أعوام، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم.
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً؟ إْ يصير تقديره: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم، ومَن المخاطب بذلك؟».
الثاني: أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة ب «لتؤمنن» و «ما» حينئذٍ - مصدرية.
قال الزمخشري: «ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن» ما «مصدرية، والفعلان معها - أعني:» آتيناكم «و» جاءكم «- في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل، والمعنى: أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول، ولينصرنه، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم، غير مخالف لكم».
قال أبو حيّان: وظاهر هذا التعليل الذي ذكره، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر، فهو مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة ب «أخَذَ» وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول: والله لأضربن زيداً، ولا يجوز: والله زيداً لأضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في «لَمَا» بقوله: «لتؤمنن».
359
وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه، وجعل من ذلك قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٠].
وقوله: [الطويل]
١٥٣١ -......................... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ
فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾.
قال شهاب الدين «أما تعلُّق اللام ب ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها ب» أخذ «فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه».
والثالث: أن تتعلق اللام ب «أخَذَ»، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت، أخذت عليكم الميثاقَ، وفي الكلام حذفُ مضاف، تقديره: رعاية ما آتيتكم.
الرابع: أن تتعلق ب «المِيثاق»، لأنه مصدر، أي: توثقنا عليهم لذلك.
هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام، وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ.
والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وعائدها محذوف، و ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ﴾، عطف على الصلة، والرابط بالموصول إما محذوف، تقديره: به، وإما قيام الظاهر مقام المضمر، وهو رأي الأخفشِ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه «مَعَكُمْ».
والثالث: أنها نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، وعائدها محذوف، ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ﴾ عطف على الصفة، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع، لو قلت: مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل، والرابط أبو عبد الله، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ﴾ قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ» ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه، جاز.
وقوله: ﴿مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ إما حالٌ من الموصول، أو من عائده، وإمّا بيانٌ له
360
فامتنع في قراءة حمزة أن تكون «ما» شرطية، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية.
وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ:
أحدها: أن «لَمَّا» هنا - ظرفية، بمعنى «حين» ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم، فقال: «لَمَّا» - بالتشديد - بمعنى «حين» أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول، وجب عليكم الإيمان به، ونُصْرَتُه.
وقال ابن عطية: ويظهر أن «لَمَّا» هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق؛ إذ على القادة يُؤخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور.
وقال الزجَّاجُ: أي: لما ىتاكم الكتاب والحكمة، أي: أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء، كما تقول: لما جئتني أكرمتك.
وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون «لما» ظرفية، ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها، بخلاف تقدير الزمخشريِّ.
الثاني: أن «لَمَّا» حرف وجوب لوجوب، وهو مذهب سيبويه، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري، وفي قول ابن عطيةَ: فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل، وهذه القراءة لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لما كانت «لَمَّا» تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها؛ لأنك إذا قلت: لما جئتني أكرمتك؛ في قوة: أكرمتك لأجل مجيئي إليه، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة.
والثالث: أن الأصل: لمن ما، فأدغمت النون في الميم، لأنها تقاربها، والإدغام - هنا - واجبٌ، ولما اجتمع ثلاث ميمات: ميم «من» وميم «ما» والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ، قال الزمخشريُّ: «فحذفوا إحداها».
قال أبو حيّان: وفيه إبهام، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني، في نحو ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية، قال: «لضعفها بكونها بدلاً، وحصول التكرير بها» و «مِنْ» هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة «من»، فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غير ظاهر.
361
الرابع: أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ، ثم الحذف، إلا أن «من» ليست زائدة، بل هي تعليلية، قال الزمخشريُّ: «ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى».
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة «من» ولوضوح معناه.
وقرأ نافع «آتيناكم» بضمير المعظم نفسه، كقوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [الإسراء: ٥٥] وقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم﴾ [مريم: ١٢]، والباقون: «آتيتكم» - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله﴾ و ﴿جَآءَكُمْ﴾ و ﴿إِصْرِي﴾.
وفي قوله: «آتيتكم» و «آتيناكم» على كلتا القراءتين - التفاتان:
الأول: الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله: «آتينا» أو «آتيت» لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله﴾.
والثاني: الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله: «آتيناكم» لأنه قد تقدمه اسم ظاهر، وهو ﴿النبيين﴾ إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم، وإنما يسمى حكاية الحال، ونظيره قولك: حلف زيد ليفعلن، ولأفعلن، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. وأصل: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشدَّدة بعدها للتوكيد، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى - بحذفها - ساكنان، فحذفت الواو، لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله «مُصَدِّقاً» نصب على الحال من النكرة، وقد قاسَه سيبويه، وإن كان املشهور عنه خلافه، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واللام في «لَمَا» - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو «مصدِّق» - والأصل مصدق ما معكم.

فصل


قال بعضُ العلماءِ: في الآية إضمار آخرَ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة، فقال: تقدير الآية: وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف «لتبلغن» لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً، ثم قال بعده: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، ولا
362
يحتاج إلى تكلُّف، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى.

فصل


والمراد من الكتاب هو المنزَّل، المقروء، والحكمة هي الوحيُ الوارد بالتكليف المفصَّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها.
وكلمة «مِنْ» - في قوله: ﴿مِّن كِتَابٍ﴾ تبيين ل «ما» كقولك: ما عندي من الوَرِقِ دانقان.
وقيل: هذا الخطابُ إما أن يكون مع الأنبياء، فجميع الأنبياءِ، ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضُهم، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر.
والجواب من وجهين:
الأول: أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به، داعياً إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه.
الثاني: أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرفهم.
فإن قيل: ما وَجْه قوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ﴾ والرسول لا يجيء إلى النبيين، وإنما يجيء إلى الأمم؟
فالجواب: أما إن حَمَلْنا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾ على أخذ ميثاق أممهم، فالسؤال قد زال، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم، كان قوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ﴾ أي: ثم جاءكم في زمانكم.
فإن قيل: كيف يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُصَدقاً لما معهم - مع مخالفة شرعه لشرعهم -؟
فالجواب: أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائعِ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف؛ لأن جميع الأنبياءِ متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه، وأنّ الحقَّ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق.
وأيضاً فالمراد بقوله: ﴿مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ هو أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصدقٌ لما معهم من صفته، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقةٍ لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما معهم.
والميثاق يحتمل وجهين:
أحدهما: هو أن يكون ما قُرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقيادَ لأمر اللهِ واجبٌ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزاتِ الدَّالَّةِ على
363
صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا - عند ذلك - وجوبه، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق.
ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه - تعالى - شرح صفاتِه في كتب الأنبياء المتقدِّمين، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة، وجب الانقياد له، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ يدل على هذين الوجهين، أما على الأول فقوله: «رسولٌ»، وأما على الثاني فقوله ﴿مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾.
قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ فاعل «قَالَ» يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك أمَّته، ومتعلَّق الإقرار محذوف، أي: أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام - على الأول - مجاز؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم؛ لاستحالته في حق الباري تعالى، وعلى الثاني: هو استفهام حقيقة.
و «إصري» على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقرأ الامة «إصري» بكسر الهمزة، وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - «أُصْرِي» بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار، والإصر: الثقل الذي يلحق الإنسان؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ، قال الزمخشري: «سُمِّي العهدُ إصْراً؛ لأنه مما يؤصر، أي: يُشَدّ، ويُعْقَد، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به» وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة.

فصل


إذا قلنا: إن اللهَ - تعالى - هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ معناه: أأقررتم بالإيمان به، والنَّصْرِ له.
وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدَمَ والأنبياء فيهم كالمصابيح - وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي﴾ ؟ أي قبلتم على ذلك عهدي.
والإصر: العهد الثقيل؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قَرَّ الشيء يَقِرُّ إذا ثبت ولزم مكانه، وأقره غيره، والمقرُّ بالشيء، يُقِرُّه على نفسه، أي: يثبته.
والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم، قال تعالى: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] أي: لا تُقْبَل فِدْيَةٌ.
364
وقال: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ١٠٤] أي: يقبلها.
وقوله: ﴿أَقْرَرْنَا﴾ أي: بالإيمان به، وبنصرته، وفي الكلام حذف جملة، حُذِفَت لدلالة ما تقدم عليها؛ إذ التقدير: قالوا: أقررنا، وأخذنا إصرك على ذلك كلِّه.
وقوله: ﴿فاشهدوا﴾ هذه الفاء عاطفة على جملة مقدَّرة، والتقدير: قال: أأقررتم؟ فاشهدوا، ونظير ذلك: ألقيت زيداً؟ قال: لقيته، قال: فأحْسِنْ إليه. التقدير: القيت زيداً، فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا جائز أن يكون كل المقول؛ لأجل الفاء، ألا ترى قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ وقوله: ﴿قالوا أَقْرَرْنَا﴾.
لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء، قاله أبو حيان.

فصل


في معنى قوله: ﴿فاشهدوا﴾ وجوه:
الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، ﴿وَأَنَاْ مَعَكُمْ﴾ أي: وأنا على إقراركم، وإشهاد بعضكم بعضاً ﴿مِّنَ الشاهدين﴾ وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادةَ الله، وشهادة بعضهم على بعض.
الثاني: أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم، قاله سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
الثالث: أن قولِه: ﴿فاشهدوا﴾ إشهاد على نفسه، ونظيره قوله:
﴿وَأَشْهَدَهُمْ
على
أَنفُسِهِمْ
أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ﴾
[الأعراف: ١٧٢] وهذا باب من المبالغة.
الرابع: فاشهدوا، أي: بيِّنوا هذا الميثاقَ للخاصّ والعامّ؛ لكي لا يبقى لأحد عذْرٌ في الجَهْل به، وأصله أن الشاهد يُبَيِّن صِدْقَ الدَّعْوَى.
الخامس: قال ابنُ عَبّاسٍ: ﴿فاشهدوا﴾ أي: فاعلموا، واستيقِنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له.
السادس: إذا قلنا: إنَّ أخْذَ الميثاقِ كان من الأمم، فقوله: ﴿فاشهدوا﴾ خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم. قوله: ﴿مِّنَ الشاهدين﴾ هذا هو الخبر؛ لأنه محط الفائدة. وأما قوله: ﴿مَعَكُمْ﴾ فيجوز أن يكون حالاً، أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز أن يكون منصوباً ب «الشَّاهدينَ» ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ.
والجملة من قوله: ﴿وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ يجوز ألا يكون لها محل؛ لاستئنافها. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل ﴿فاشهدوا﴾ والمقصود من هذا الكلام التأكيد، وتقوية الإلزام. قوله: ﴿فَمَنْ تولى﴾ يجوز أن تكون «مَنْ» شرطية، فالفاء - في «فَأولَئِكَ» جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط. وأن تكون موصولةً، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم،
365
وعلى الثاني لا محل له؛ لكونه صلة، وأما «فأولئك» ففي محل جزم أيضاً - على الأول، ورفع الثاني، لوقوعه خبراً و «هم» يجوز أن يكون فَصْلاً، وأن يكون مبتدأ.
ومعنى الآية: من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ، وبنصرته، والإقرار له ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ الخارجون عن الإيمان.
366
قوله :﴿ فَمَنْ تَوَلَّى ﴾ يجوز أن تكون " مَنْ " شرطية، فالفاء - في " فَأولَئِكَ " جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط. وأن تكون موصولةً، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم، وعلى الثاني لا محل له ؛ لكونه صلة، وأما " فأولئك " ففي محل جزم أيضاً- على الأول، ورفع الثاني، لوقوعه خبراً و " هم " يجوز أن يكون فَصْلاً، وأن يكون مبتدأ.
ومعنى الآية : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ، وبنصرته، والإقرار له ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ الخارجون عن الإيمان.
الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء، للزومها الصدر، والزمخشري يقرها على حالها، ويُقدِّر محذوفاً قبلها، وهنا جوَّز وجهين:
أحدهما: أن تكون الفاء عاطفةً جملة علىجملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما.
والثاني: أن تعطف على محذوف، تقديره أيتولون، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، وهو استفهام استنكار، وقدم المفعول - الذي هو «غير» - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل، هذا كلام الزمخشريِّ.
قال أبو حيان: «ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء، الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه» يبغون «بالفاصلة، فأخَّرَ الفعلُ».
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم «يَبْغُونَ» من تحت - نسقاً على قوله: ﴿هُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ٨٢] والباقون بتاء الخطاب، التفاتاً لقوله: ﴿لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١] ولقوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ﴾ [آل عمران: ٨١].
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر، ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران: ١٠١].
قال ابن الخطيب: ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا وقالوا: والله لا نَرْضَى بقضائِك، ولا نأخذ بِدِينِكَ»، فنزل قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ﴾.
366
قال ابن الخطيب: ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكونراً في كُتُبِهِم، وهم كانوا عارفين بذلك، وعالمين بصِدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل، فقال: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
قوله: «وله أسلم من في السموات» جملةٌ حاليةٌ، أي: كيف يبغون غير دينه، والحال هذه، وفي قوله: «طوعاً وكرهاً» وجهان:
أحدهما: أنهما مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين.
الثاني: أنهما مصدران على غير المصدر، قال ابو البقاء: «لأن» أسْلَمَ «بمعنى انقاد، وأطاع» وتابعه أبو حيان على هذا.
وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في «طَوْعاً» لموافقته معنى الفعل قبله، وأما «كَرْهاً»، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل، غير نافع هنا.
ويقال يطاع يطوع، وأطاع يُطيع بمعنى، قاله ابن السِّكيتِ، وقول: طاعه يطوعه: انقاد له، وأطاعه، أي: رضي لأمره، وطاوعه، أي: وافقه.
قرأ الأعمش: «وَكُرْهاً» - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء.
قال الحسنُ: أسلم من في السموات طوعاً، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي.
وقال مجاهد: «طوعاً» المؤمن، و «كرْهاً» ظل الكافر، بدليل قوله: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال﴾ [الرعد: ١٥].
وقيل هذا يوم الميثاق، حين قال: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] فقال بعضهم طوعاً، وبعضهم كرهاً.
قال قتادة: المؤمن أسلم طوعاً فنفعه، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس، فلم
367
ينفعه، قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
قال الشعبي: وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم، كقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [العنكبوت: ٦٥].
قال الكلبيُّ: «طَوْعاً» الذي وُلِد في الإسلام «وَكَرْهاً» الذين أجْبِروا على الإسلام.
قال ابن الخطيب: كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه. وأما الكافرون، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره.
وقيل: كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً، بدليل قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً.
قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً، فلا محل لها، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى: أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه.
قرأ حفص - عن عاصم - «يُرْجَعُونَ» بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً:
أحدها: أن يعود الضمير على ﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾.
الثاني: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «يَبْغُونَ» في قراءة من قرأ بالغيبة، ولا التفات في هذين.
والثالث: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «تَبْغُونَ» - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ. وقرأ الباقون - «تبغون» - بالخطاب - وهو واضح، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه.
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: ﴿مَن فِي السماوات والأرض﴾.
368
وفي هذه الآية احتمالان:
368
أحدهما: أن يكون المأمور بهذا القول - وهو «آمَنَّا» إلى آخره - هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم في ذلك معنيان:
أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنا بالله، كذا قدَّره ابنُ عطية.
والثاني: أن المأمور بذلك نبينا وحده، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه».
والاحتمال الثاني: أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم، والتقدير: قل لهم: قولوا: آمنا، ف «آمَنَّا» منصوب ب «قُلْ» على الاحتمال الأول، وب «قُولُوا» المقدَّر على الاحتمال الثاني، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل.
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة، إلا أنَّ هنا عَدَّى «أُنْزِلَ» ب «عَلَى» وهناك عدَّاه ب «إلى».
قال الزمخشري: لوجود المعنيين جميعاً؛ لأن الوحي ينزل من فوق، وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر.
قال ابن عطيةَ: «الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها» وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق.
قال الراغب: «إنما قال - هنا -» عَلَى «، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ، كان لفظ» عَلَى «المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به، وهناك لما كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لفظ» إلَى «المختص بالاتصال أوْلَى.
ويجوز أن يقال:»
أنزل عليه «، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه. وأنزل إليه، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه، وإليه نهاية الإنزال، وعلى ذلك قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١] وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] خص هنا ب» إلى «لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب».
وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ، فقال: «ومن قال: إنما قيل:» عَلَيْنَا «لقوله:» قُلْ «و» إلينا «لقوله:» قُولُوا «، تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسَّف؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] وقوله: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب﴾ [المائدة: ٤٨] وقوله: ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار﴾
[آل عمران: ٧٢] وفي البقرة: ﴿وَمَا أُوتِيَ النبيون﴾ [
369
البقرة: ١٣٦] وهنا: «وَالنَّبِيُّونَ»، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز، بخلاف الخطاب هنا، لأنه خاص، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب «.
قال ابن الخطيب: قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأن ما أنزل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء، فلذا قدَّمه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم، ويختلفون في نبوتِهِمْ، والأسباط: هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف.

فصل


قوله: ﴿والنبيون﴾ بعد قوله: ﴿وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى﴾ من باب عطف العامِّ على الخاص.
اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم. وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً؟ فمن قال: إنها تصير منسوخة قال: نُؤْمن بأنهم كانوا أنبساءَ وَرُسُلاً، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال. ومَنْ قال: إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة، قال: نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال، فتنبَّه لهذا الموضع.

فصل


قال ابن الخطيب: اختلفوا في معنى قوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى.
وقال أبو مسلم: لا نفرق ما جمعوا، وهو كقوله تعالى: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق، فقال: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٩٤].
قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فيه وجوهٌ:
الأول: أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى -
370
مستسلمون لحُكْمِه، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض﴾ [آل عمران: ٨٣].
قال أبو مسلم: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي: مستسلمون لأمْره بالرضا، وترك المخالفة، وتلك صفة المؤمنين بالله، وهم أهل السلم، والكافرون أهل الحربِ، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣].
قال ابن الخطيب: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يُفيد الحَصْر، والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة، ورياء، وطلب مالٍ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك.
371
العامة يظهرون هذين المثلين في ﴿يَبْتَغِ غَيْرَ﴾ لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم.
وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان:
الإظهار على الأصل، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ.
والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم.
وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان، نحو: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩] وقوله: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ [غافر: ٢٨].
وقد استشكل على هذا نحو ﴿ويا قوم مَا لي أَدْعُوكُمْ﴾ [غافر: ٤١] ونحو: ﴿وياقوم مَن يَنصُرُنِي﴾ [هود: ٣٠] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً.
قوله: «دِيناً» فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه مفعول «يَبْتَغِ» و «غَيْرَ الإسْلاَمِ» حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً.
الثاني: أن يكون تمييزاً لِ «غَيْرَ» لإبهامها، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت «مِثْلُ» و «شِبهُ» وأخواتهما، وسُمِع من العرب: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً.
والثالث: أن يكون بدلاً من «غَيْرَ». وعلى هذين الوجهين ف ﴿غَيْرَ الإسلام﴾ هو المفعول به ل «يبتغ».
وقوله: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛
371
لاستئنافها، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول.

فصل


لما تقدم قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٤] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ، ويثيب فاعله عليه، قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب، وحصول العقاب، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل.

فصل


قال المفسرون: نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ، فنزل قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ، وحصول العقاب، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ.
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ إلا أن ظاهر قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤] يقتضي التغاير بينهما، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ.
372
الاستفهام فيه كقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨].
وقيل: الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله: [الخفيف]
١٥٣٢ - كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وقول الآخر: [الطويل]
372
١٥٣٣ - فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
يعني: أين بالسيف؟
﴿وشهدوا﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها معطوفة على «كَفَرُوا» و «كَفَرُوا» في محل نَصْب؛ نعتاً لِ «قوماً» أي: كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، وردَّه مكيّ، فقال: لا يجوز عطف «شَهِدُوا» على كَفَرُوا «لفساد المعنى. ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَد المعنى عنده. وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطيةَ:» المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر، والواو لا تُرَتِّب «.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من واو»
كَفَرُوا «فالعامل فيها الرافع لصاحبها، و» قد «مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، وأبي البقاء وغيرهما.
قال أبو البقاء:»
ولا يجوز أن يكون العامل «يَهْدِي» ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق «.
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من»
قَوْماً «والعاملُ في الحالِ» يَهْدِي «لما ذكر من فساد المعنى.
الثالث: أن يكون معطوفاً على»
إيمَانِهِمْ «لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة.
قال الزمخشريُّ: أن يُعْطَف على ما في»
إيمانهم «من معنى الفعل؛ لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: ١٠] وقول الشاعر: [الطويل]
١٥٣٤ - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض، ولذا يقولون: توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ.
373
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك.
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى، كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا﴾ [الحديد: ١٨].
إذ هو في قوة: إن الذين تصدقوا وأقرضوا.
وقال الواحدي:» عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ، تقديره: كفروا بالله بعد أن آمنوا، فهو عطف على المعنى، كقوله: [الوافر]
١٥٣٥ - لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه: لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني «.
وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً، كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين﴾ لأن الموصول يطلب جملة فعلية، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله، وعطفنا عليه و «أقرضُوا»
وأما «بعد إيمانهم» وقوله: «للبس عباءة»، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله، وتأويله بأن تأتي معه ب «أن» المصدريَّة مقدَّرةً، تَقْدِيرُهُ: بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم، ولهذا تأول النحويون قوله: للُبْسُ عباءة وتقرَّ: وأن تَقَرَّ، إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب أبو البقاء، فقال: «التقدير: بعد أن آمنوا وأن شهدوا، فيكون في موضع جر، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف».
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال: قوله «وَشَهِدُوا» منسوق على ما يُمْكن في التقدير، وذلك أن قوله: «بعد إيمانهم» يمكن أن يكون: بعد أن آمنوا، و «أن» الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر، كقوله: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم﴾ [البقرة: ١٨٤]، أي: والصوم.
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل﴾ [الشورى: ٥١] فهو عطف على قوله: «إلا وحياً» ويمكن فيه: إلاَّ أن يُوحِيَ إليه، فلما كان قوله: «إلا وحياً» بمعنى: إلا أن يُوحِي إليه، حمله على ذلك.
ومثله من الشعر: [الطويل]
374
خفض قوله: قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله: منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف، فحملَه على ذلك، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر «قدير» - هنا - على التوهُّم، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله: ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر «ليس».
فإن قيل: إذا كان تقدير الآية: كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق، وبعد أن جاءَهم البيِّنات، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان.
فالجواب: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هي الإقرار باللسان، فهما متغايران.
وقوله: «أن الرسول» الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالةِ، فيكون مصدراً، وقد تقدم.

فصل


في سبب النزول أقوالٌ:
الأول: قال ابنُ عباسٍ: نزلت في عشرة رهط، كانوا آمنوا، ثم ارتدُّوا، ولَحِقُوا بمكةَ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ، وكان منهم مَنْ آمن، فاستثنى التائبَ منهم بقوله:
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ [البقرة: ١٦٠].
الثاني: رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير، ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ، فلما بُعثَ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً.
الثالث: نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة، وتاب، وقبل الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توبته. قال القفال: للناس في هذه الآية قولان:
375
منهم من قال: إنَّ قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا﴾ [آل عمران: ٨٥] وما بعده إلى قوله ﴿وأولئك هُمُ الضآلون﴾ [آل عمران: ٩٠] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال: ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان:
أحدهما: أنها في أهل الكتاب.
والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا.

فصل


قالت المعتزلةُ: أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى: التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً:
الأول: أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩] وقوله: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧] وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه﴾ [المائدة: ١٦] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى.
الثاني: أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩] وقال: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ [يونس: ٩].
والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه.
وقال أهل السنة: المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل: قال - في أول الآية -: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ﴾ وقوله في آخرها: «والله لا يهدي القوم الظالمين» يقتضي التكرار.
376
فالجواب: أن الأولَ مخصوص بالمرتد، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر، فكان ظالماً لنفسه.
قال القرطبي: «فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم.
فالجواب: أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك»
.
377
وفي قوله: ﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ ثانياً، و ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ في محل رفع؛ خبراً ل «جَزَاؤُهُمْ» والجملة خبر ل «أولئك».
والثاني: أن يكون «جَزَاؤُهُمْ» بدلاً من «أولَئِكَ» بدل اشتمال، و ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ خبر «أولئك».
وقال هنا: ﴿جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ وقال - هناك -: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ [البقرة: ١٦١] دون «جزاؤهم» قيل: لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة، بخلافه هنا، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام، ومعنى: «جَزَاؤُهُمْ» أي: جزاء كفرهم وارتدادهم، وتقدم القول في قراءة الحسن «النَّاس أجمعون» وتخريجها.
قوله: «خالدين» حال من المضير في «عَلَيْهِمْ» والعامل فيها الاستقرار؛ أو الجارّ؛ لقيامه مقام الفعلِ، والضمير في «فِيهَا» للَّعنة، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان:
الأول: أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون، ومَنْ معهم في النار، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة.
الثاني: أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ، ونظيره قوله: ﴿مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ﴾ [طه: ١٠٠ - ١٠١] وقال ابن عباس: قوله: «خالدين فيها» أي في «جهنم»، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. و ﴿لاَ يُخَفَّفُ﴾ جملة حالية أو مستأنفة، و ﴿إِلاَّ الذين﴾ استثناء متصل.
377

فصل


اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة، وإنزال العذاب، واللعنة من الملائكة، ومن الناس هي بالقول، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.
فإن قيل: لم عَمَّ جَمِيع النَّاس، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحدها: قال أبو مُسْلِمٍ: لَهُ ان يَلْعَنَهُ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ.
الثاني: أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لِقَوْلِهِ تَعالَى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ﴾ [الأعراف: ٣٨] وقال: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا﴾ [العنكبوت: ٢٥] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم.
الثالث: كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس.
الرابع: وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ.
قوله: «لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون» مَعْنَى الإنْظَار: التَّأخِيْرُ، قَالَ تَعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَة﴾ [البقرة: ٢٨٠] والمَعْنَى: لاَ يُخَفَّفُ، وَلا يُؤخَّر من وَعتٍ إلى وَقْتٍ، ثُم قَال: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ، فَقالَ: ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي: أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَرأها عَلَيهِ، فَقَالَ الْحَارثُ: إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصدقُ منك؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ، وَأسْلَمَ، وحسن إسلامه.
وفي قوله: ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وجهان:
الأول: أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو.
الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف﴾ [الأنفال: ٣٨]. ودخلت الفاء في قوله: «فإن الله» لشبه الجزاء؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى: إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
378
قوله :" خالدين " حال من المضير في " عَلَيْهِمْ " والعامل فيها الاستقرار ؛ أو الجارّ ؛ لقيامه مقام الفعلِ، والضمير في " فِيهَا " للَّعنة، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان :
الأول : أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون، ومَنْ معهم في النار، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة.
الثاني : أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ، ونظيره قوله :﴿ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ ﴾ [ طه : ١٠٠-١٠١ ] وقال ابن عباس : قوله :" خالدين فيها " أي في " جهنم "، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. و﴿ لاَ يُخَفَّفُ ﴾ جملة حالية أو مستأنفة، و ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ﴾ استثناء متصل.

فصل


اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة ؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة، وإنزال العذاب، واللعنة من الملائكة، ومن الناس هي بالقول، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.
فإن قيل : لم عَمَّ جَمِيع النَّاس، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ :
أحدها : قال أبو مُسْلِمٍ : لَهُ أن يَلْعَنَهُ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ.
الثاني : أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لِقَوْلِهِ تَعالَى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] وقال :
﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم.
الثالث : كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس.
الرابع : وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ.
قوله :" لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون " مَعْنَى الإنْظَار : التَّأخِيْرُ، قَالَ تَعالى :﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ] والمَعْنَى : لاَ يُخَفَّفُ، وَلا يُؤخَّر من وَقتٍ إلى وَقْتٍ.
ثُم قَال :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ، فَقالَ :
﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ أي : أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَرأها عَلَيهِ، فَقَالَ الْحَارثُ : إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك ؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ، وَأسْلَمَ، وحسن إسلامه.
وفي قوله :﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وجهان :
الأول : أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو.
الثاني : غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]. ودخلت الفاء في قوله :" فإن الله " لشبه الجزاء ؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى : إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
قوله: «كفراً» تمييز منقول من الفاعلية، والأصل: ثم ازداد كفرُهم، والدال الأولى
378
بدل من تاء الافتعال؛ لوقوعها بعد الزاي، كذا أعربه أبو حيان، وفيه نظر؛ إذ المعنى على أنه مفعول به، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً، وهذا من ذاك؛ لأن الأصل: زدت زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ: زادهم الله كُفراً فازدادوه، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على «لَنْ» وأتي بها في «لَنْ» الثانية، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر، بخلاف «لَنِ» الأولى، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء.
قال ابن الخطيب: دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند «عدم» الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
وقرأ عكرمة «لن نَقْبَلَ» بنون العظمة، ونصب «توبَتَهم» وكذلك قرأ «فلن نقبل من أحدهم ملء» بالنصب.

فصل


قال القرطبي: قال قتادة والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن.
وقال أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم، ثم ازدادوا كفراً يعني: ذنوباً، يعني: في حال كفرهم.
وقال مجاهد: نزلت في جميع الكفار؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم، ثم ازدادوا كُفْراً، أي: أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه.
وقيل: ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كُفْراً.
وقيل: ازدادوا بقولهم: نتربص بمحمد ريب النون.
وقال الكلبي: نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد، لما رجع إلى الإسلام، أقاموا هم على الكفر بمكة، وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث، فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكةَ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته، ونزلت فيمن مات منهم كافراً: ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار﴾ [البقرة: ١٦١] الآية.
379
فإن قيل: قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب، فما معنى قوله: «فلن تقبل توبتهم» ؟
قيل: لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة، كما قال: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾
[النساء: ١٨] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء.
وقيل: هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام، وقالوا: نتربَّص بمحمد، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه، لن يقبل ذلك منهم.
وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري: إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة، وتصير كأنها لم تكن.
قال: وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه، لأن تقدير الآية: إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم.
وقال الزمخشري: قوله: «لن تقبل توبتهم» كناية عن الموت على الكفر؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا، ميتون على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم.
وقيل: لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل.
قال ابن الخطيب: «وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله:» إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً «على المعهود السابق، لا على الاستغراق، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما جواب القفال والقاضي، فهو جواب مطرد، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق، أو على الاستغراق».
قوله: «وأولئك هم الضالون» في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون في محل رفع؛ عَطْفاً على خبر «إنَّ»، أي: إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون.
الثاني: أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب «إنَّ»، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب، لعَطْفِها على ما لا محل له.
الثالث: هو إعرابها بأن تكون الواو للحال، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال، والمعنى: لن تقبل توبتهم من الذنوب، والحال أنهم ضالُّون، فالتوبة والضلال متنافيان، لا يجتمعان، قاله الراغب.
380
وهو بعيد في التركيب، وإن كان قريب المعنى.
قال أبو حيان: «وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة».
فإن قيل: قوله: «وأولئك هم الضالون» ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً، وليس الأمر كذلك؛ بل كل كافر ضال، سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافراً في الأصل، فالجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
فإن قيل: إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال، والكفر أقبح أنواع الضلالة، والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً، لا بما هو أضعف حالاً منه.
فالجواب: قد ذكرنا أن المراد منه: أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال، وحينئذ تحصل المبالغة.
381
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام:
الأول: الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً، وهو المراد بقوله: «إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا».
الثاني: الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ، وقال: ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم﴾.
الثالث: الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ، وهو المذكور في هذه الآية، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً» قد تقدم أن عكرمة يقرأ: «نقبل ملء» بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم «فلن يقبل» - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، «مِلْءَ» بالنصب كما تقدم.
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال «مل الأرض» بطرح همزة «ملء»، نقل حركتها إلى الساكن قبلها.
381
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام «ملء» في لام «الأرضِ» - بعروض التقائهما.
والملء: مقدار ما يُمْلأ الوعاء، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر، يقال: ملأت القدر، أملؤها، مَلأ، والملاءة بضم الميم والمد: الملحَفة.
و «ذهباً» العامة على نصبه، تمييزاً.
وقال الكسائي: على إسقاط الخافض، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب «من» واحتاجت «ملء» إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع -.
وقرأ الأعمش: «ذهب» - بالرفع -.
قال الزمخشريُّ: ردًّا على «مِلْءُ» كما يقال: عندي عشرون نَفْساً رجال، يعني الردّ البدل، ويكون بدل نكرة من معرفة. قال أبو حيان: ولذلك ضبط الحذّاق قوله: «لك الحمد ملء السموات» بالرفع، على أنه نعت لِ «الْحَمْد». واستضعفوا نصبه على الحال، لكونه معرفة.
قال شهاب الدين: «يتعين نصبه على الحال، حتى يلزم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوب على الظرف، أي: إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض».
فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه، فما فائدة ذكره؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكُفْر، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً، فإنها لا تكون مقبولة.
الثاني: أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير، فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
روى أنس - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي»
قوله: «ولو افتدى به» الجمهور على ثبوت الواو، وهي واو الحال.
382
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع قوله: «ولو افتدى به» ؟
قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى.
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه: أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها، ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.
قال أبو حيان: وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن «لَوْ» تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ» وقوله: «رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه، فلا يناسب أن يُعْطَى، وكذلك الظلف المحرق، لا غناء فيه، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل.
قيل: الواو - هنا - زائدة، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به «- دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول، فلم يتعمم النفي وجود القبول.
و»
لو «قيل: هي - هنا - شرطية؛ بمعنى» إن «لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل، وهو قوله:» فلن تقبل «، وتلك متعلّقة بالماضي.
قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، ولو افتدى به لم تقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري، قال: وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل: دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله: ﴿فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً﴾ يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
وقال ابن الخطيب: إن مَنْ غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى.
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى، نحو: شَوَى، واشْتَوَى، ومفعوله محذوف، تقديره: افْتدَى نفسه. والهاء في «به»
- فيها أقوال:
أحدها: - وهو الأظهر - عودها على «ملء» ؛ لأنه مقدار يملأها، أي: ولو افتدى بملء الأرض.
383
الثاني: أن يعوج على «ذَهَباً»، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء، أو على الذهب، فقوله: «أو على الذهب» غلط.
قال شهاب الدين: «كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره، فضلة».
الثالث: أن يعود على «مِثْل» محذوف.
قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يُراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه﴾ [الرعد: ١٨]، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً، كقولك: ضربت ضرب زيد - تريد: مثل ضربه - وقولك: أبو يوسف أبو حنيفة - أي: مثله -.
وقوله: [الرجز]
١٥٣٦ - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
١٥٣٧ - لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و» قضية ولا أبا حسن لها «يريد: لا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد قولهم: مثلك لا يفعل كذا، يريدون: أنت لا تفعل كذا، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد».
قال أبو حيان: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله:» ولو افتدى به «، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به، فاحتاج إلى إضمار:» مثل «حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير» مثل «؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر.
وأما ما مثل به - من نحو: ضربت ضربَ زيدٍ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد، وذات أبي يوسف، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة.
وأما «لا هيثم الليلة للمطي»
، فدل على حذف «مثل» ما تقرر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس، لا تدخل على الأعلام، فتؤثر فيها، فاحتيج إلى إضمار: «مثل» لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس.
384
وأما قوله: كما يزاد في: مثلك لا يفعل - تريد: أنت - فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد «.
قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه -[لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً].
قوله:»
أولئك لم عذاب أليم «هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به. ويجوز أن يكون» لهم «: خبراً لاسم الإشارة، و» عَذَابٌ «فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبره، أي: أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون» لَهُمْ «خبراً مقدَّماًن و» عَذَابٌ «مبتدأ مؤخر، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد.
قوله: ﴿وما لهم من ناصرين﴾ هذا هو النوع الثالث من الوعيد، ويجوز في إعرابه وجهان:
أحدهما: أن يكون ﴿مِّن نَّاصِرِينَ﴾ : فاعلاً، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي، أي: وما استقر لهم من ناصرين.
والثاني: أنه خبر مقدَّم، و ﴿مِّن نَّاصِرِينَ﴾ : مبتدأ مؤخر، و»
مِنْ «مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها.
وأتى ب»
ناصرين «جمعاً؛ لتوافق الفواصل.
واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر.
385
النيل: إدراك الشيء ولحوقه.
وقيل: هو العطية.
وقيل: هو تناول الشيء باليد، يقال: نِلْتُه، أناله، نَيْلاً، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا﴾ [التوبة: ١٢٠].
385
وأما النول - بالواو - فمعناه التناول، يقال: نِلتُه، أنوله، أي تناولته، وأنلْته زيداً، وأنوله إياه، أي ناولته إياه، كقولك: عطوته، أعطوه، بمعنى: تناولته، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه.
قوله: «حتى تنفقوا» بمعنى إلى أن، و «مِن» في «مما تحبون» تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله: بعض ما تحبون.
قال شهاب الدين: «وهذه - عندي - ليست قراءة، بل تفسير معنى».
وقال آخرون: «إنها للتبيين».
[وجوز أبو البقاء ذلك فقال: «أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية؛ لأن المحبة لا تتفق، فإن جعلت المحبة بمعنى: المفعول، جاز على رأي أبي علي» يعني يَبْقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف].

فصل


لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله: ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣]، وغيرها.
قال ابن الخطيب: «وفي هذا لطيفة، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة -: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ [البقرة: ١٧٧] وقال - هنا - ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ والمعنى: لو فعلتم ذلك المتقدم كله، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات.
فإن قيل:»
حتى «لانتهاء الغاية، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب، صار من جملة الأبرار، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات.
فالجواب: أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين»
.

فصل


قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ: البرّ: الجنة.
386
وقال مقاتل بن حيان: البرّ التقوى.
كقوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ [البقرة: ١٧٧] إلى قوله: ﴿وأولئك هُمُ المتقون﴾ [البقرة: ١٧٧].
وقيل: البر «الطاعة.
فالذين قالوا: إن البر هو الجنة قال بعضهم: معناه لن تنالوا ثواب البر.
ومنهم من قال: المراد بر الله أولياءه، وإكرامه إياهم، وتفضله عليهم، من قولهم: بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني.
وقوله:»
مما تحبون «قال بعضهم: إنه نفس المال.
وقال آخرون: أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُون﴾ [البقرة: ٢٦٧].
وقال آخرون: ما يكون محتاجاً إليه القوم؛ قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّه﴾ [الإنسان: ٨]- في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ [الحشر: ٩].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ»
.
روى الضحاك عن ابن عباس: أن المراد به: الزكاة.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال، أو أكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب.
ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة، وهذا في غاية البُعْد؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله.
قوله: ﴿وما تنفقوا من شيء﴾ تقدم نظيره في البقرة.
فإن قيل: لِمَ قيل: ﴿فإن الله به عليم﴾ على جهة جواب الشرط، مع أن الله يعلمه على كل حال؟
فالجواب م نوجهين:
الأول: أن فيه معنى الجزاء، تقديره: وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر -، لأنه عليم به، لا يَخْفَى عليه شيء منه، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح.
الثاني: أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل، ونظيره قوله
387
تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ [البقرة: ١٩٧]، وقوله: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُه﴾ [البقرة: ٢٧٠] أي: يبينه ويجازيكم على قدره.
388
الحِلّ بمعنى: الحَلالَ، وهو - في الأصل - مصدر لِ «حَلَّ يَحِلُّ»، كقولك: عز يعز عزًّا، ثم يطلق على الأشخاص، مبالغة، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ، والمذكَّرُ والمؤنثُ، كقوله تعالى: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وفي الحديث عن عائشة: «كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ»، أي لإحلاله ولإحرامه، وهو كالحرم واللبس - بمعنى: الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم -: هي حِلٌّ وبِلٌّ. رواه سفيان بن عُيَيْنَة، فسئل سفيان، ما حِلّ؟ فقال: محَلَّل. و «لِبَني» : متعلق ب «حِلاًّ».
قوله: ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ﴾ مستثنى من اسم «كَانَ».
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في «حِلاًّ» فقال لأنه استثناء من اسم «كَانَ» والعامل فيه: «كان»، ويجوز أن يعمل فيه «حِلاًّ»، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح.
وفي هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متَّصل، والتقدير: إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات، وادَّعَوْا صحةَ ذلك.
والثاني: أنه مُنْقَطِع، والتقدير: لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً، ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح.
قوله: ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة﴾ فيه وجهان:
أحدهما: انه متعلق ب «حَرَّم» أي: إلا ما حرَّم من قبل، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: «ويبعد ذلك؛ إذ هو من الإخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة».
والثاني: أنه يتعلق بقوله: ﴿كَانَ حِلاًّ﴾.
388
قال أبو حيان: «ويظهر أنه متعلّق بقوله: ﴿كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾، أي: من قبل أن تُنَزًّل التوراة، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن، في جواز أن يعمل ما قبل» إلا «فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك، ما أوَى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً.
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة»
.
وقرئ: ﴿تُنَزَّلَ التوراة﴾ بتخفيف الزاي وتشديدها، وكلاهما بمعنى واحد، وهذا يرد قولَ من قال بأن «تنَزَّل» - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين.

فصل


لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم، وهي تحتمل وجوهاً:
روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إنكار النسخ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده، فحصل النسخُ، وبطل قولكم: النسخ غير جائز، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم، فعند هذا طلب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة، وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
منها: أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه، وهم يُنْكِرُونه.
ومنها: ظهور كذبهم للناس، فيما نسبوه إلى التوراة.
ومنها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أمِّيًّا، لا يقرأ ولا يكتب، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى.
الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم، فلست أنت على ملة إبراهيم، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه، فأجابهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الشبهة
389
وقال: إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه، لسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده، فأنكر اليهودُ ذلك، وقالوا: ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإحضار التوراةِ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك، وافتضحوا، فظهر كذبُهم.
الوجه الثالث: أنه - تعالى - لما أنزل قوله: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦]، قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين:
أحدهما: أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة، وذلك يقتضي النسخ، وهم ينكرونه.
والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول.

فصل


قال الزمخشري: «كُلُّ الطَّعَامِ» كل المطعومات، أو كل أنواع الطعام.
واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام، هل يفيد العموم أم لا؟
فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه:
الأول: أنه - تعالى - أدْخل لفظ «كُلّ» على لفظ «الطَّعَامِ» فلولا أن لفظ الطَّعَامِ «قائم مقام المطعومات، وإلا لما جاز ذلك.
والثاني: أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ:»
الطَّعَام «، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [العصر: ١ - ٣].
الثالث: أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع، فقال ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ [ق: ١٠]، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ.
ومن قال: إنه لا يفيد العمومَ، يحتاج إلى الإضمار.
390

فصل


الطعام: اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم.
وزعم بعض الحنفيَّة: أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً، وهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأنه استثنى من لفظ» الطَّعَامِ «: ما حرم إسرائيل على نفسه، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء -: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وقوله: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ [المائدة: ٥]، وأراد الذبائح، وقالت عائشة:» مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان «والمراد: التمر والماء.

فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه


اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه:
قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ: روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها «.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ: هي العروق، وكان السبب فيه، أنه اشتكى عرق النسا، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً، وأتَى بيتَ لمقدس صحيحاً، أن يذبح آخرَهم، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة، فقال: يا يعقوبُ، إنك رجل قويٌّ، فهل لك في الصِّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه، فغمزه الملك غمزةً، فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له الملك: أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ [لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك، فجعل الله له بهذه الغمزة] مخرجاً، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده، ونَسِي قولَ المَلَك، فأتاه الملك، وقال: إنما غمزتم للمخرج، وقد وفى نذرك، فلا سبيل لك إلى ولدِك.
وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ: أقبل يعقوب من: «حَرَّان»
يريد بيت
391
المقدس، حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلاً بطيشاً، قويًّا، فلقيه ملك، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب، ثم صعد إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء: أي صياح، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق، ويخرجونها من اللحم.
وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس: لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل، فحرَّمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن: حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور، تعبُّداً لله تعالى، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك، ومنعها الله على وَلَدِهِ.
فإن قيل: التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق، ويحرم جاريته بالعِتْق، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى: إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربما اجتهد، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم، فقال بتحريمه، والاجتهاد جائز من الأنبياء؛ لعموم قوله: ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾ [الحشر: ٢]، ولقوله: ﴿لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ [النساء: ٨٣]، ولقوله - لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، فدل على أنه كان بالاجتهاد.
وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ﴾ يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال: إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل.
الثالث: يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم.
الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس، وطَلَباً لمرضاة الله، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ.
392

فصل


ترجم ابنُ ماجه في سننه «دواء عرقِ النساء» وروى بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ، [أعرابية] تُذابُ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا».
وفي رواية عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عرق النسا -: «تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً، فتُخْرَجُ إهَالتُه، فتقسَّم ثلاثة أقسام، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ» قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة، فبرئوا - بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ -، وروى شعبة قال: حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا، يمسح على ذلك الموضع، ويقول أقسم لك بالله الأعلى، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى.
قال شعبة: قد جرَّبته، لقوله: وتمسح على ذلك الموضع.

فصل


دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي، وقال تعالى: ﴿ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ [التحريم: ١].

فصل


ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى: ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز

فصل


ومعنى قوله: ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة﴾ أي: قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، أما بعد نزول التوراة، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة.
393
وقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها.
قال ابن عطية: إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال: إن عافاني الله لا يأكله لي ولد، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة.
وقال الكلبي: لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠]، وقال: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ.
وقال الضحاكُ: لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم، ولا حَرَّمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكذبهم الله، فقال: «قُلْ» : يا محمد ﴿فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها﴾ حتى يتبين أنه كما قلتم ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فلم يأتوا بها، فقال - الله عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب﴾، «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله: «افْتَرَى» فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله: ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعد ظهور الحجة، ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾ المستحقون لعذاب الله.
قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: - وهو الظاهر -: أن يتعلق ب «افْتَرَى».
الثاني: قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بالكذب، يعني: الكذب الواقع من بعد ذلك.
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه:
أحدها: استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم.
الثاني: التلاوة، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.
الثالث: الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وهذه الجملة - أعني: قوله: ﴿فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب﴾ - يجوز أن تكون استئنافيةً، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقاً على قوله: ﴿فَأْتُواْ بالتوراة﴾، فتندرج في المقول.
394
﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ " مَنْ " يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله :" افْتَرَى " فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقوله :﴿ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ أي : من بعد ظهور الحجة، ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ المستحقون لعذاب الله.
قوله :﴿ مِنْ بَعْدِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما :- وهو الظاهر - : أن يتعلق ب " افْتَرَى ".
الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك.
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم ؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه، ثم حرم في التوراة ؛ عقوبةً لهم.
الثاني : التلاوة، وجاز تذكير اسم الإشارة ؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.
الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وهذه الجملة - أعني : قوله :﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ - يجوز أن تكون استئنافيةً، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ؛ نسقاً على قوله :﴿ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ ﴾، فتندرج في المقول.
أي قل لهم.
394
والعامة على إظهار لام «قُلْ» مع الصاد.
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ﴾ [الأنعام: ١١] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾ [يوسف: ١٨].
قال أبو الفتح: «عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامها فيهما»، وهو مأخوذ من كلام سيبويه، فإن سيبويه قال: «والإدغام، يعني: إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما، جائز، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها، وهن من الثنايا؛ قال: وجواز الإدغام أنّ ىخر مخرج اللام قريب من مخرجها». انتهى.
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم، وهي: «لأن الصاد فيها انبساط، وفي اللام انبساط، بحيث يتلاقى طرفاهما، فصارا متقاربين». وقد تقدم إعراب قوله: ملة إبراهيم حنيفاً.

فصل


﴿قُلْ صَدَقَ الله﴾ يحتمل وجوهاً:
أحدها: قل: صدق اللهُ في أن ذلك النوعَ من الطعام، صار حراماً على بني إسرائيلَ، وأولادِه بعد أن كان حلالاً لهم، فصحَّ القولُ بالنسخ، وبطلت شُبْهَةُ اليهود.
وثانيها: قل: صدق اللهُ في أن لحوم الإبل، وألبانها كانت مُحَلَّلَةً لإبراهيمَ، وإنما حُرِّمَتْ على بني إسرائيلَ؛ لأن إسرائيلَ حَرَّمها على نفسه، فثبت أن محمداً لما أفتى بِحلِّ لحوم الإبل، وألبانِها، فقد أفتى بملة إبراهيمَ.
وثالثها: صدق الله في أن سائرَ الأطعمة، كانت مُحَلَّلَةً لبني إسرائيلَ، وإنما حُرِّمَتْ على اليهود؛ جزاءً على قبائح أفعالهم.
وقوله: ﴿فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ملة إبراهيمَ.
وسواء قال: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ أو قال: «ملة إبراهيم الحنيف» ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ أي: لم يدْعُ مع الله إلهاً آخرَ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهودُ من أن عُزَيراً ابن الله، أو كما فعله النصارى من ادِّعاء أن المسيح ابن الله.
والمعنى: إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكنْ من الطائفة المشركةِ في وقت من
395
الأوقاتِ، والغرض منه بيان أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على دين إبراهيم في الفروع والأصول؛ لأن مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يدعو إلا إلى التوحيدِ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى.
396
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أن المرادَ منه: الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ، وقالوا: إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة، وهو أرضُ المحشَر، وقبلةُ جُملة الأنبياء، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل، وأجابهم الله بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ هو الكعبة، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى.
الثاني: أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها، والقوم نازعوه فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخه هو القبلة، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها.
الثالث: أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ: ﴿فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٥]، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ.
الرابع: أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ، وهم لا يَحُجُّون، فدل ذلك على كذِبهم.
قوله: ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة ل «بَيْتٍ».
وقرأ العامة «وُضِعَ» مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع «وضَعَ» مبنيًّا للفاعل.
وفي فاعله قولان:
أحدهما: - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته.
والثاني: أنه ضمير الباري تعالى، و «لِلنَّاسٍ» متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة.
و «للذي» بِبَكَّة «خبر» إنَّ «وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة -
396
وهو» أول بَيْتٍ «- لتخصيص النكرة بشيئين: الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب» إن «، ومن عبارة سيبويه: إن قريباً منك زيدٌ، لما تخصص» قريباً «بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل» إنَّ «، وقد جاءت النكرة اسماً ل» إنَّ «- وإن لم يكن تخصيص - كقوله: [الطويل]
١٥٣٨ - وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة، والباء فيه ظرفية، أي: في مكة.
وبكة فيها اربعة أوجه:
أحدها: أنها مرادفة ل»
مكة «فأبدلت ميمها باءً، قالوا: والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت.
وقيل: إنها اسم لبطن مكة، ومكة اسم لكل البلد.
وقيل: إنها اسم لمكان البيت.
وقيل: إنها اسم للمسجد نفسه، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو: الازدحام إنما يحصل عند الطواف، يقال: تباكَّ الناسُ - أي: ازْدَحموا، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضهم، وهو فاسد، لأن البيت في المسجد حقيقةً.
وقال الأكثرون: بكة: اسم للمسجد والمطاف، ومكة: اسم البلد، لقوله تعالى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فدل على أن البيت مظروف في بكة، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له.
وسميت بكة؛ لازدحام الناس، قاله مجاهد وقتادة، وهو قول محمد بن علي الباقر.
وقال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي، فمرت امرأة بين يديه، فذهبت أدْفَعها، فقال: دعها، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي، ولا بأس بذلك هنا.
وقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي: تدقها.
قال قطرب: تقول العرب: بَكَكْتهُ، أبُكُّهُ، بَكًّا، إذا وضعت منه.
397
وسميت مكة - من قولهم: مَكَكْتُ المخ من العظم، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً.
ومنه: مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً، ورُويَ أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ».
وقيل: لأنها تَمُكُّ الذنوبَ، أي: تُزيلها كلَّها.
قال ابن الأنباري: وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها، وقلة خِصْبها، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم، إذا لم تترك فيه شيئاً.
وقيل: لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ، أي: استقصاه بالهلاك.
وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض، كما يقال: امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع.
وقال الخليل: لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.
وقيل: لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، والمكوك: كأس يشرب به، ويُكال به - ك «الصُّوَاع».
قال القفال: لها أسماء كثيرة، مكة، وبكة، وأمّ رُحْم، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد: لأن الناس يتراحمون فيها، ويتوادَعُون - والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي: لأنها تبس من الْحَد فيها، أي: تُحَطِّمه وتُهْلكه، قال تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً﴾ [الواقعة: ٥].
ويروى: الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع: ويقال: الناسَّة - بالنون -. قال الماوَرْدِيُّ: لأنها تنس من ألحد فيها - أي: تطرده وتَنْفِيه.
ونقل الجوهري - عن الأصمعي -: النَّسّ: اليبس، يُقال: جاءنا بخُبْزَة ناسَّة، ومنه قيل لمكةَ: الناسَّة؛ لقلة مائها.
والرأس، والعرش، والقادس، والمقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ، والبلد، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة، ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض.

فصل


الأوَّلُ: هو الفرد السابق، فإذا قال: أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما؛ لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ.
398
إذا عُرِفَ هذا، فقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات، وقِبْلَةً للخلق، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات، وموضِعاً للحجِّ.
فإن قيل: كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات، التي منها وجوبُ حَجِّه، ومعلوم أنه ليس كذلك.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن لفظ «الأوًّل» - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً، سواء حصل بعده شيء آخرُ، أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصَبْتُه، ولو قال: أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا.
الثاني: أن المراد منه: أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِد الْحَرَامِ، والمسْجِدِ الأقْصَى، ومَسْجِدِي هَذَا»، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور، حتى في وجوبِ الحَجِّ، فهذا غير لازم.

فصل


قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ﴾ يحتمل أن يكون المراد: أنه أول في الموضع والبناء، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى، وفيه قولان للمفسرين.
فعلى الأول فيه أقوال:
أحدها: روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال: خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين.
وفي رواية: «خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى».
وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال: إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيتٌ، وفي كل أرض بيت، بعضهن مقابل بعض.
وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - عن
399
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الله - تعالى - قال: «إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً، فَقَالَ: ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ، فبنوا له بيتاً على مثالِه، واسْمُه الضُّرَاح، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ: بَرَّ حَجُّك، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ» ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسُّدِّيّ: أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء، عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء، ثم دُحِيَت الأرض من تحته.
قال القفال في تفسيره: روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس، قال، وُجِدَ في كتاب - في المقام، أو تحت المقام - أنا الله، ذو بكَّةَ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء.
روي: أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم، ودلَّه على مكان البيت، وأمره بعمارته.
قال القاضي: القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها، وإذا كان كذلك، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء.
انتهى.
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء، لقوله: {أولئك الذين
400
أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: ٥٨].
ولما كانوا يسجدون لله، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ.
القول الثاني: أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ: كونه مباركاً وهدًى، قالوا: لأنه رُوِي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس، فقال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ».
وعن علي: أن رجلاً قال له: هو أول بيتٍ؟ قال: لا، كان قبلَه بيوتٌ، أول بيت وُضِعَ للناس، مباركاً، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ، أول مَنْ بناه إبراهيم، ثم بتاه قوم من العرب من جُرْهُم، ثم هُدِم، فبنته العمالقةُ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش. ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء.

فصل في بيان فضيلته


اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه، تكون الكعبة أشرف، فكان الآمر بالعمارة هو الله، والمبلغُ والمهندسُ جبريل، والبانِي هو الخليلَ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل؛ فلهذا قيل: ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة.
وأيضاً مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام، فهذه أنواع من الآيات العجيبة، والمعجزات الباهرةِ.
وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه، فإنه منذ آلاف السنين، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ، وقد جاء في الأثر: أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ.
401
وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه.
وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة، بدعاء إبراهيمَ وقوله:
﴿رَبِّ
اجعل
هذا
البلد آمِناً﴾
[إبراهيم: ٣٥]، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]، وقال: ﴿رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣ - ٤].
وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة، وعجز قريش عن مقاومته، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ، ترميهم بحجاةٍ، والأبابيل: هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صِغَاراً، تحمل أحجاراً ترميهم بها، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى.
وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.
وثالثها: أنه فعل ذلك؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة.
ورابعها: أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر، حيث وَضَعَ أشرف البيوت، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا، فكأنه قال: جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن، وفي الآخرة دارُ الأمْن.
فسل
للكعبة أسماء كثيرة:
أحدها: الكعبة، قال تعالى: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ [المائدة: ٩٧]، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً؛ لإشرافه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها، فلما كان هذا البيت أشرف
402
بيوت الأرض، وأقدمها زماناً، سُمي بهذا الاسم.
وثانيها: البيت العتيق، قال تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ [الحج: ٣٣] وسُمي العتيقَ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض.
وقيل: لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء؛ وقيل: لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق.
وقيل: لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم: عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه.
وقيل: لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار.
وثالثها: المسجد الحرام، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] وسُمِّيَ بذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في خطبته - يوم فتح مكة -: «ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها».
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ [الحج: ٢٦]، وقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ٩٦] فهناك أضافه إلى نفسه، وهنا أسندَه إلى الناس؟
فالجواب: كأنه قال: البيت لي، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس.
قوله: ﴿مُبَارَكاً وَهُدًى﴾ حالان، إما من الضمير في «وُضِعَ» كذا أعربه أبو البقاء وغيره، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر «إنَّ» - وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول ل «إنَّ» فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال.
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في «بِبَكَّةَ» أي استقر ببكة في حال بركته، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله: «وَهُدًى» معطوف على «مُبَارَكاً» والمعطوف على الحال حال.
وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي: وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.
والبركة: الزيادة، يقال: بارك الله لك، أي: زادك خيراً، وهو مُتَعَدٍّ، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [النمل: ٨] و «تبارك» لا يتَصَرف، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى، ومعناه - في حقه تعالى -: تزايد خيرُه وإحسانه.
وقيل: البركة ثبوت الخير، مأخوذ من مَبْرَك البعير.
403
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو «ببكة» لوقوعه صلة، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله: «للمتقين» أول البقرة.

فصل


البركة لها معنيان.
أحدهما: النمو والتزايُد.
والثاني: البقاء والدوام، يقال: تبارك الله؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال.
والبركة: شبه الحوض؛ لثبوت الماء فيها، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه:
أحدها: أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ»، ثُمَّ قال: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ» هذا في الصلاة، وأمَّا في الحج فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، ولَمْ يَرْفُثْ، ولم يَفْسُق، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ»، وفي حديث آخر: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ»، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة.
ثانيها: قال القَفَّالُ: ويجوز أن يكون بركته، ما ذكر في قوله تعالى:
﴿يجبى
إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً﴾
[القصص: ٥٧] فيكون كقوله: ﴿إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١].
وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه، وهذا بَحْرٌ عظيم، ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً. وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضاً فالأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم، وظهر لآخرين، وعَصر لثالث، ومغرب لرابع، وعشاء لخامس، وإذا كان الأمر كذلك، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من
404
طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً -.
وأما كونه هدًى للعالمين، فقيل: لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
وقيل: هُدًى، أي: دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها.
وقيل: هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة.
قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير «وُضِعَ» وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في «بِبَكَّةَ» وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في «للعالمِينَ»، وإما من «هُدًى»، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «مُبَارَكاً».
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ «هُدًى» بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و «آياتٌ» مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها: أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّكم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى:
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ [غافر: ٢٨]، فقدم الوصف بالمفرد «مُؤمِنٌ»، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو ﴿مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩]، وثلَّث بالجملة وهي ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله: ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ﴾ [المائدة: ٤٥].
قوله: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ فيه أوْجُه:
أحدها: أن «مَقَام» : بدل من «آيَاتٌ» وعلى هذا يقال: إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول: مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا: وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً، أي: أعني زيداً وعمراً، أو زيد وعمرو، أي: منهم زيد وعمرو.
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني: [الطويل]
405
١٥٣٩ - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونؤي، وكذا قوله تعالى: ﴿هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ [البروج: ١٧ - ١٨] أي: أعني فرعون وثمود، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ، على أنه قد يُقال: إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ.
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقام، وأمن داخله، فكيف يكون بَدَلاً؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هي مقام إبراهيم، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم.
قال الزمخشري: ويجوز أن يُراد: فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع، كالثلاثة والأربعة، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ».
قال الزجَّاج: ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين، قال تعالى: ﴿إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤].
وقال بعضهم: تمام الثلاة قوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ وتقدير الكلام: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حَجَّ البيت، ثم حذف «أن» اختصاراً، كما في قوله: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾ [الأعراف: ٢٩] أي: أمر ربي أن اقسطوا.
الثاني: أن ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ، بمعنيين:
أحدهما: أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ، وإبقاؤه على مر الزمان، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية، قال معناه الزمخشري.
وثانيهما: أن ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه
406
الكثيرة كان بمنزلة الآيات، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً﴾ [النحل: ١٢٠]، قاله ابنُ الخطيب.
الثالث: أن يكون هذا من باب الطَّيّ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ، ثم يُؤتَى ببعضه، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم، ويُسَمَّى طَيًّا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير: [البسيط]
١٥٤٠ - كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
وأورد منه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ: الطيبُ والنِّسَاءُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة» ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» لأنها ليست من دنياهم، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثير سواهما.
وقال ابنُ عطية: «والأرجح - عندي - أن الماقم، وأمن الداخل، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم».
الوجه الثاني: أن يكون ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ عطف بيان، قاله الزمخشري.
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً، فقال: وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فيُتْبعون النكرة نكرة، والمعرفة معرفة، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله: ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦] وقوله: ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ [النور: ٣٥]، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان
407
للأسماء المفردةِ؟ فقال: «فإن قلتَ: كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ جملة مستأنفة، إما ابتدائية وإما شرطية؟
قلت: أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ دل على أمْن مَنْ دخله، وكأنه قيل: فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى: فيه آية بينة أمن مَنْ دخله»
.
قال أبو حيان: «وليس بواضح؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع، عطفاً على» مَقَام إبراهيم «وفسر بهما الآيات، والجملة من قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف، يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى، لا تفسير الإعراب».
قال شهاب الدين: «وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها، ولا تدافع فيما ذكر؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه».
الوجه الثالث: قال المبرد: «مَقَامُ» مصدر، فلم يُجْمَع، كما قال: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] والمراد: مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج، وأعمال المناسك، ولا شك أنها كثيرة، وعلى هذا، فالمراد بالآيات: شعائر الحج، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ [الحج: ٣٢].
الوجه الرابع: أن قوله: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ خبر مبتدأ مضمر، تقديره: أحدها، أي: أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: منها، أي: من الآيات البيِّنات «مقام إبراهيم».
وقال بعضهم: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ لا تعلُّقَ له بقوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، فكأنه - تعالى - قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ ومع ذلك فهو ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ ومَقَرُّه، والموضع الذي اختاره، وعَبَدَ الله فيه؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم.
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد، وتخريج «مَقَامُ» - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل، من كونه بدلاً، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها، وقد وُصِفَتْ.

فصل


قال المفسرون: الآيات منها مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت
408
قدميه، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة، قام على هذا الحجر، فغاصت فيه قدماه.
وقيل: إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر، فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ، فبقي أثرُ قدميه عليه، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي.
وقيل: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج.
قال القفّال: «ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها».
وقيل: مقام إبراهيم؛ هو جميع الحرم، كما تقدم عن المبرد.
ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود، وزمزم، والحطيم، والمشاعر كلها.
ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون، والأولياء والأبرار، وأن الطاعة والصدقة فيه، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف.
والمقام هو في المسجد الحرام، قُبالَة باب البيت.
وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا: الحجر الأسود، والمقام من الجنة.
قال الأزرقي: ذرع المقام ذراع، وسعة أهلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز، لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً، وعرض حجر المقام من نواحيه، إحدى وعشرون إصبعاً، ووسطه مربع، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر أصبعان، ووسطه قد استدق من التمسُّح به، والمقام في حوض من ساج مربع، حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها، وعلى المقام صندوق ساج مسقف، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق، فيقفل عليهما قفلان، وهذا الموضع فيه المقام اليوم، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية، ثم في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعده، ولم يُغَيَّر موضعه، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له: سيل أم نهشل؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة، فماتت، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به، فربطوه في أستار الكعبة - في
409
وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر، فأقبل عمر من المدينة فزعاً، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُبِّيَ موضعُه، وعفاه السيل، فجمع عمر الناس، وسألهم عن موضعه، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه، فجعله فيه، وعمل عمر الردم، لمنع السيل، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن.
ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين، فهو الذهب الذي عليه اليوم، وهو فوق الذي عمله المهدي.

فصل


قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾.
قال الحسن وقتادة: كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً، ويُغير بعضهم على بعض، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة، وهذا قول أكثر المفسرين، لقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧].
وقيل: أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان آمِناً، كما قال تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧].
وقال الضَّحَّاكُ: من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
وقيل: معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له، متقرِّباً إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - كان آمناً يوم القيامة من العذاب.
وقيل: هو خبر بمعنى الأمر، تقديره: ومن دخله فأمِّنوه، كقوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ [البقرة: ١٩٧]، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.

فصل


قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ موجودة في جميع الحرم، ثم قال: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم، فالتجأ إلى الحرم، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟
فقال الشافعي: يستوفى.
410
وقال أبو حنيفة: لا يستوفى، بل يمنع منه الطعام، والشراب، والبيع والشراء، والكلام حتى يخرج، ثم يستوفى منه القصاصُ، واحتج بهذه الآية فقال: ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم، وفي القصاص فيما دون النفس، فوجب حمله على الأمر، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
وأجي ببأنَّ قوله: ﴿كَانَ آمِناً﴾ إثبات لمُسَمَّى الآية، ويكفي في العمل به، في إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به، وبيانه من وجوه:
الأول: أن من دخله للنُّسُكِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، كان آمِناً من النار يوم القيامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ»، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه».
الثاني: يحتمل أن يكونَ المراد: ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه، ودفع المكروه عنه، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً، وهذا أولى مما قالوه، لوجهين:
الأول: أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر.
الثاني: أنه - تعالى - إنما ذكر هذا، لبيان فضيلةِ البيتِ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث: قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء.
الرابع: ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها.
وملخّص الجواب: أنه حكم بثبوت الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ، وفي صورة واحدة، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى
411
هذا النَّصّ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك، فكان قولُنا أوْلَى.
قوله: «ولله على الناس حج البيت» لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «حِجّ البيت» - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل، وبَذْر وبِذْر، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ.
وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح المصدر.
وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم.

فصل


الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمضانَ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً».
ويشترط لوجوبه خمسة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحُرِّيَّة، والاستطاعة.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ يعم المؤمنَ والكافرَ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً، ومخصِّصاً، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، غير حاصل، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة، غير حصل، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط.
فكذا هاهنا.

فصل


قال القرطُبي: دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي، وهو أحد قولي مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف في رواية عنه، وذهب بعض
412
المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر، وهو قول داود، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج -: ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ [الحج: ٢٧]، وسورة الحج مكيّة، وقال هاهنا: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة، سنة ثلاثٍ من الهجرة، ولم يحجّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى سنة عشر، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج، إذا أخَّرَهُ عامداً.

فصل


روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل: يا رسولَ اللهِ، أكتبَ علينا الحَدُّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثاً، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال في الرابعة: «لَوْ قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ».

فصل


احتج العلماء بهذا الخبر، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين:
الأول: أن الأمر ورد بالحج، ولم يُفِد التكرار.
والثاني: أن الصحابة استفهموا، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة.
قوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ فيه ستة أوجُه:
أحدها: أن «مَنْ» بدل من «النَّاس» بدل بعض من كل، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه، نحو: أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس من ضمير. فقيل: هو محذوف تقديره من استطاع منهم.
الثاني: أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ، إذ المراد بالناس المذكورين: خاصٌّ، والفرق بين هذا الوجه، والذي قبله، أن الذي قبله يقال فيه: عام مخصوص، وهذا يقال فيه: عامٌّ أريد به الخاص، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.
الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هم من استطاع.
الرابع: أنها منصوبة بإضمار فعل، أي: أعني من استطاع. وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله، جاز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب المذكورين آنفاً. الخامس: أن «مَنْ» فاعل بالمصدر وهو «حَدُّ»، والمصدر مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت.
413
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلتَ: ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ، لم يجزْ إلا في ضرورة، كقوله: [البسيط]
١٥٤١ - أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ
يروى بنصب «أفواه» على إضافة المصدر - وهو «قَرْع» - إلى فاعله، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوَّزَ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة، ولا على ما فيه ضعف، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم، نقول بموجبه، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب. و «مَنْ» - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى: الذي.
السادس: أنها شرطية، والجزاء محذوف، يدل عليه ما تقدم، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على «النَّاسِ»، تقديره: من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه.
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، وهو قوله: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾.
وقوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ جملة من مبتدأ - وهو ﴿حِجُّ البيت﴾ - وخبر - وهو قوله: «لله» - و «عَلَى النَّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر، و «للهِ» متعلق بما تعلق به الخبر، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في «عَلَى النَّاسِ» وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم -.
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك، يجوز تقديمها على العامل
414
المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً، أو حرف جر، والعامل كذلك، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة.
منها قوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ يعني: أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته.
ومنها: أنه ذكر «النَّاسَ»، ثم أبدل منهم ﴿مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، وفيه ضربان من التأكيد.
أحدهما: أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له.
والثاني: أن التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام، إيراد له في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري، على عادة فصاحته، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ، والألف واللام في «البَيْتِ» للعهد؛ لتقدم ذكره، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل: زار البيتَ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله.
وقال الشاعر: [الطويل]
١٥٤٢ - لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض.
قال شهابُ الدين: «وفيه نظر، إذْ ليس في الظاهر الكعبة».
الضمير في: «إلَيْهِ» الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه.
قال الفراء: إن نويت الاستئناف ب «مَنْ» كانت شرطاً، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: من استطاع إلى الحج سبيلاً، فللَّه عليه حجُّ البيت.
وقيل: يعود على «الْبَيْتِ»، و «إلَيْهِ» متعلق ب «اسْتَطَاعَ»، و «سَبِيلاً» مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ، ومنه قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٧]، إلى غير ذلك من الآيات.

فصل


قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن:
الأول: سَعَةِ المال، قال تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧] أي: سعة في المال ومنه قوله تعالى: ﴿لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] أي: لو وجدنا سعة في المال.
الثاني: بمعنى الإطاقة، قال تعالى: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء﴾ [النساء: ١٢٩]، وقال: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: ١٦].
415

فصل


استطاعة السبيل إلى الشيء: عبارة عن إمكان الوصول إليه، قال تعالى: ﴿فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ [غافر: ١]، وقال: ﴿هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤٤].
قال عبد الله بن عمر: سأل رجلٌ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، ما يُوجب الحَجَّ؟ فقال: «الزاد والراحلة، قال: يا رسول الله، فما الحاجّ؟ قال: الشعث، التَّفِل.
فقام آخر فقال: يا رسول الله، أيُّ الحج أفضل؟ فقال: الحج والثج، فقام آخر فقال: يا رسول ما السبيلُ؟ فقال:»
زادٌ ورَاحِلةٌ «.
ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خَوف التلف من سبع، أو عدو، أو فُقْدان الطعام والشراب، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد، والراحلة، ويقضي جميع الديون التي عليه، ويَرُدّ ما عنده من الودائع، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال، ما يكفيه لذهابه ومجيئه، هذا قول الأكثرين.
وروى القفال: عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، فقال له قائل: أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حجّ البيت.
وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال: الاستطاعة هي: صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه؛ لأن الصحيح البدن، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية، فلا بد من دليل منفصل، والأخبار المروية أخبار آحاد، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه:
416
الأول: من جهة السند.
الثاني: أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي، فلا بد من اعتبار صحة البدن، وعدم الخوف، وهذا ليس في الأخبار، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً.
الوجه الثالث: اعتبار وفاء الدين، ونفقة عياله، ورد الودائع.
وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وقوله: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥]. فصل
احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل، فقالوا: لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية، وذلك باطل.
وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل، أو بعد حصولِه، أما قبل حصول الداعي، فمحال؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ، وأما بعد حصولِ الداعي، فالفعل يصيرُ واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ.

فصل


إذا كان عاجزاً بنفسه؛ لكونه زَمِناً، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر، لما روى عبد الله بن عباس، قال: كان الفضل بن عباس ردف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاءته امرأة من خثعم، تستفتيه، فجعل الفضلُ ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نَعَم.
وقال مالك: لا يجب عليه، وهذا هو المعضوب، والعَضْب: القطع، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، أو لا يقدر على شيء.
وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه، أو أجنبي، الطاعةَ في أن يحج عنه، فهل يلزمه [أن يأمره] إذا كان يعتمد صدقه؟
وفي المسألة خلاف، فالقائل بالوجوب قال: لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة،
417
وهذا مستطيع، لأنه يقال - في العُرْف -: فلان مستطيع لبناء دارٍ، وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله، وبأعوانه -.
وقال أبو حنيفة: لا يجب ببذل الطاعة، قال: وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها: إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه، وهذا تصريح بنفي الوجوب.
وقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه، أو المبتدأ وخبره، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله: ﴿غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ كأنه قال: غني عنهم.

فصل


في هذا الوعيد قولان:
الأول: قال مجاهد: هلا كلام مستقلٌّ بنفسه، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه.
الثاني: قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء: مَنْ جَحَد فرض الحَج.
وقال آخرون: من ترك الحج، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا».
وقال سعيد بن جبير: إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه.
فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟
418
فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ، أي: قد قارب الكُفْر، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله: ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ [الأحزاب: ١٠] أي: كادت تبلغ.
وكقوله عليه السلام -: «مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر».
وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج.
قال الضحاك: لما نزلت آية «الحج»، جمع الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهلَ الأديان الستة: المسلمين، والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخاطبهم، وقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾.
419
قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير " وُضِعَ " وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في " بِبَكَّةَ " وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال لذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في " للعالمِينَ "، وإما من " هُدًى "، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " مُبَارَكاً ".
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب ؛ نعتاً لِ " هُدًى " بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و " آياتٌ " مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر ؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى :﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ [ غافر : ٢٨ ]، فقدم الوصف بالمفرد " مُؤمِنٌ "، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ البقرة : ٤٩ ]، وثلَّث بالجملة وهي ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله :﴿ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
قوله :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ فيه أوْجُه :
أحدها : أن " مَقَام " : بدل من " آيَاتٌ " وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر ؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا : وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً، أي : أعني زيداً وعمراً، أو زيد وعمرو، أي : منهم زيد وعمرو.
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني :[ الطويل ]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ٩
على القطع المتقدم، أي : فمنها رمادٌ ونؤي، وكذا قوله تعالى :﴿ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ [ البروج : ١٧-١٨ ] أي : أعني فرعون وثمود، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ.
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام، وأمن داخله، فكيف يكون بَدَلاً ؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي : هي مقام إبراهيم، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين ؟
وفيه أجوبة :
أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع، كالثلاثة والأربعة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ".
قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين، قال تعالى :﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [ التحريم : ٤ ].
وقال بعضهم : تمام الثلاثة قوله :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ وتقدير الكلام : مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حَجَّ البيت، ثم حذف " أن " اختصاراً، كما في قوله :﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ [ الأعراف : ٢٩ ] أي : أمر ربي أن اقسطوا.
الثاني : أن ﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ، بمعنيين :
أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى ؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ، وإبقاؤه على مر الزمان، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية، قال معناه الزمخشري.
وثانيهما : أن ﴿ مقام إبراهيم ﴾ بمنزلة آيات كثيرة لأن ما كان معجزة لنبي فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيا منزها، مقدسا عن مشابهة المحدثات، فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة بمنزلة الآيات، كقوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ﴾ ( النحل : ١٢٠ ) قاله ابن الخطيب.
الثالث : أن يكون هذا من باب الطي، وهو أن يذكر جمع، ثم يؤتى ببعضه، ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم، ويسمى طيا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير :[ البسيط ]
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم من العبيد، وثلث من مواليها١٠
وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم :" حبب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ذكر اثنين –وهما الطيب والنساء- وطوى ذكر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم :" جعلت قرة عيني في الصلاة " ١١ لأنها ليست من دنياهم، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطي –عندهم- تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما.
وقال ابن عطية :" والأرجح –عندي- أن المقام، وأمن الداخل، جعلا مثالا مما في حرم الله- تعالى- من الآيات، وخصا بالذكر ؛ لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ".
الوجه الثاني : أن يكون ﴿ مقام إبراهيم ﴾ عطف بيان، قاله الزمخشري.
ورد عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفا وتنكيرا، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فيتبعون النكرة نكرة، والمعرفة معرفة، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون، فلا يجوز –عندهم- إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، وعلى شيء أورده الكوفيون مما يوهم جواز كونه عطف بيان جعله البصريون بدلا، ولم يقم دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله- عند قوله :﴿ من ماء صديد ﴾ ( إبراهيم ١٦ ) وقوله :﴿ من شجرة مباركة زيتونة ﴾ ( النور ٣٥ ) ولما أول الزمخشري مقام إبراهيم وأمن داخله –بالتأويل المذكور –اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع- وأجاب بما تقدم، واعترض- أيضا- على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردة ؟ فقال :" فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ جملة مستأنفة، إما ابتدائية وإما شرطية ؟
قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ؛ لأن قوله :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ دل على أمن من دخله، وكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة، من دخله كان آمنا صح ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن من دخله ".
قال أبو حيان :" وليس بواضح ؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع، عطفاً على " مَقَام إبراهيم " وفسر بهما الآيات، والجملة من قوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف، يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ في معنى : وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى، لا تفسير الإعراب ".
قال شهاب الدين :" وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها، ولا تدافع فيما ذكر ؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه ".
الوجه الثالث : قال المبرد :" مَقَامُ " مصدر، فلم يُجْمَع، كما قال :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ] والمراد : مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج، وأعمال المناسك، ولا شك أنها كثيرة، وعلى هذا، فالمراد بالآيات : شعائر الحج، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾
[ الحج : ٣٢ ].
الوجه الرابع : أن قوله :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ خبر مبتدأ مضمر، تقديره : أحدها، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : منها، أي : من الآيات البيِّنات " مقام إبراهيم ".
وقال بعضهم :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ لا تعلُّقَ له بقوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾، فكأنه - تعالى - قال :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ ومع ذلك فهو ﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ومَقَرُّه، والموضع الذي اختاره، وعَبَدَ الله فيه ؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم.
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد١٢، وتخريج " مَقَامُ " - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل، من كونه بدلاً، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها، وقد وُصِفَتْ.

فصل


قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت قدميه، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة، قام على هذا الحجر، فغاصت فيه قدماه.
وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر، فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ، فبقي أثرُ قدميه عليه، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي.
وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج.
قال القفّال :" ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها ".
وقيل : مقام إبراهيم ؛ هو جميع الحرم، كما تقدم عن المبرد.
ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود، وزمزم، والحطيم، والمشاعر كلها.
ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون، والأولياء والأبرار، وأن الطاعة والصدقة فيه، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف.
والمقام هو في المسجد الحرام، قُبالَة باب البيت.
وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود، والمقام من الجنة.
قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع، وسعة أعلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز، لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع، وع
في كيفية النظم وجهان:
419
الأول: أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مما ورد في التوراة، والإنجيل، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ، واستقبال الكعبة في الصلاة، ووجوب حَجِّها، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: ٩٣] وبقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: ٩٦] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن، وقال: «لم تكفرون بآيات الله» بعد ظهور البينات؟
الثاني: أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم: ﴿لم تكفرون بآيات الله﴾ بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً؟
واعلم: أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مفلاًّ فقط، وقد يكون ضالاً مضلاً، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال: ﴿يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله﴾ ؟
قال الحسن: هم العلماء من أهل الكتاب، الذين علموا صحة نبوته؛ لقوله: «وأنتم شهداء».
وقال آخرون: المراد: أهل الكتاب كلهم.
فإن قيل: لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم، فقال: «يا أهل الكتاب».
والثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد، وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والبشارة بنبوته.
والمراد بآيات الله: الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

فصل


قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم، وصِحَّتِهم، ومَرَضِهم.
وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي.
قوله: ﴿والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ الواو للحال، والمعنى: لِمَ تكفرون بآيات الله التي
420
دلَّتكم على صحة صدق محمد، والحال أن الله شهيد على أعمالكم، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين، فقال: ﴿قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن﴾ ؟
«لم» : متعلق بالفعل بعده، و «من آمن» مفعوله والعامة على «تُصِدُّون» - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً.
وقرأ الحسن «تُصِدُّونَ» - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى «صَدَّ» اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة: [الطويل]
١٥٤٣ - أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ...............................
قال الفراء: يقال: صَدَدتُه، أصُدُّه، صَدًّا. وأصْدَدتهُ، إصْداداً.
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم.
قوله: ﴿تَبْغُونَهَا﴾ يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله: ﴿والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾. ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤].
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما، ثم إذا قُلْنا بأنها حال، ففي صاحبها احتمالان:
أحدهما: أنه فاعل «تَصُدُّونَ».
والثاني: أنه ﴿سَبِيلِ الله﴾.
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما.
والضمير في ﴿تَبْغُونَهَا﴾ يعود على ﴿سَبِيلِ﴾ فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية، وقوله: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨].
وقول الشاعر: [الوافر]
421
قوله (عوجاً) فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، وذلك أن يُراد ب «تَبْغُونَ» تطلبون.
قال الزجَّاج والطبريّ: تطلبون لها اعوجاجاً.
تقول العرب: ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي: أطْلُبه لي، وأبْغِني كذا - بقطع، الألف - أي: أعِنِّي على طلبه.
قال ابنُ الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب.
وههنا أريد يبغون لها عوجاً، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها، كما قالوا وهبتك درهماً، يريدون وهبت لك، ومثله: صِدْتُك ظبياً، أي: صدت لك.
قال الشاعر: [الخفيف]
١٥٤٤ - فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا
١٥٤٥ - فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا
يريد: أصيد لكم ظليماً؟
ومثله: «جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا»، والأصل جنيت لك، فحذف ونصب «.
والثاني: أنه حال من فاعل»
تَبْغُونََهَا «وذلك أن يُراد ب» تبغون «معنى تتعدّون، والبغي: التَّعَدِّي.
والمعنى: تبغون عليها، أو فيها.
قال الزجاج: كأنه قال تبغونها ضالين، والعوج بالكسر، والعوج بالفتح - المَيْل، ولكن العرب فرَّقوا بينهما، فخَصُّوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان تقول: في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح.
قال أبو عبيدة: العِوَج - بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ، وبالفتح في الحائط والجِذْع.
وقال أبو إسحاق: الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً، وبالفتح فيما له شَخْصٌ.
وقال صاحب المُجْمَل: بالفتح في كل منتصب كالحائط، والعوَج - يعني: بالكسر - ما كان في بساط، أو دين، أو أرض، أو معاش، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.
وقال الراغب: العِوَجُ: العطف من حال الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعير بزمامه، وفلان ما يعوج به - أي: يرجع، والعَوَج - يعني: بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر
422
كالخشب المتصِب، ونحوه، والعِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عوج، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة، وكالدين والمعاش، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه.
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٧]- سؤالاً، حاصله: أنه كيف قيل: عوج - بالكسر - في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله.
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر: [الوافر]
١٥٤٦ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ
وقول امرئ القيس: [الكامل]
١٥٤٧ - عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ
أي: ولم تميلوا، ومِيلاَ.
وأما قولهم: ما يَعوج زيد بالدواء - أي: ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر.
والعاجُ: العَظْم، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لثوبان: «اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج».
قال القتيبي: العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة: [الطويل]
١٥٤٨ - فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
قال الأصْمَعِيّ: العاجة: الذبلة، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً.
وقوله: كَخَاصِي العير، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ، فيقال: جاء كخاصي العير.
423
والعير: الحمار، يعنون جاء مستحياً. ويقال: عاج بالمكان، وعوَّج به - أي: أقام وقَطَن، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام -: «ها أنتم عائجون» أي مقيمون.
وأنشدوا للفرزدق: [الوافر]
١٥٤٩ - هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب «عائجون» في البيت: سائلون ومُلْتفتون.
وفي الحديث: «ثم عاج رأسه إليها» أي: التفت إليها.
والرجل الأعوج: السيّئ الخُلُق، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً، ويقال: فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ، وهو مَدْح ويقال: الحنبة: اعوجاج.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ حال، إما من فاعل «تَصُدُّونَ»، وإما من فاعل «تَبْغُونهَا»، وإما مستأنف وليس بظاهر و «شهداء» جمع شهيد أو شاهد كما تقدم.

فصل


ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم: النسخ يدل على البداء، وقولهم: إن في التوراة: أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد.
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله، وهذا على أنَّ «عِوَجاً» في موضع الحال والمعنى: يبغونها ضَالينَ.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ﴾ قال ابن عباس: أي: شهداء أن في التوراة: أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. وقيل: وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ.
وقيل: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ﴾ عُدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، ويُعوّلون على
424
شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ، والضلالِ والإضلالِ؟
ثم قال: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ والمراد منه: التهديد، وختم الآية الأولى بقوله: ﴿والله شَهِيدٌ﴾ ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره: ﴿والله شَهِيدٌ﴾، وختم هذه الآيةَ بقوله: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير.
وكرر في الآيتين قوله: ﴿قل يا أهل الكتاب﴾ ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم.
425
ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين، فقال :﴿ قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ﴾ ؟
" لم " : متعلق بالفعل بعده، و " من آمن " مفعوله والعامة على " تُصِدُّون " - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً.
وقرأ الحسن١ " تُصِدُّونَ " - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى " صَدَّ " اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة :[ الطويل ]
أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ ***. . . ٢
قال الفراء : يقال : صَدَدتُه، أصُدُّه، صَدًّا. وأصْدَدتهُ، إصْداداً.
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم.
قوله :﴿ تَبْغُونَهَا ﴾ يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله :﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾. ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾. [ البقرة : ٨٤ ].
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما، ثم إذا قُلْنا بأنها حال، ففي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه فاعل " تَصُدُّونَ ".
والثاني : أنه ﴿ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما.
والضمير في ﴿ تَبْغُونَهَا ﴾ يعود على ﴿ سَبِيلِ ﴾ فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية، وقوله :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ].
وقول الشاعر :[ الوافر ]
فَلاَ تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ *** سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا٣
قوله ( عوجاً ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به، وذلك أن يُراد ب " تَبْغُونَ " تطلبون.
قال الزجَّاج٤ والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً.
تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : اطْلُبه لي، وأبْغِني كذا - بقطع الألف - أي : أعِنِّي على طلبه.
قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب.
وههنا أريد يبغون لها عوجاً، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها، كما قالوا وهبتك درهماً، يريدون وهبت لك، ومثله : صِدْتُك ظبياً، أي : صدت لك.
قال الشاعر :[ الخفيف ]
فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى *** أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا٥
يريد : أصيد لكم ظليماً ؟
ومثله :" جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا "، والأصل جنيت لك، فحذف ونصب ".
والثاني : أنه حال من فاعل " تَبْغُونََهَا " وذلك أن يُراد ب " تبغون " معنى تتعدّون، والبغي : التَّعَدِّي.
والمعنى : تبغون عليها، أو فيها.
قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين، والعوج بالكسر، والعوج بالفتح - المَيْل، ولكن العرب فرَّقوا بينهما، فخَصُّوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح.
قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ، وبالفتح في الحائط والجِذْع.
وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً، وبالفتح فيما له شَخْصٌ.
وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط، والعِوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط، أو دين، أو أرض، أو معاش، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.
وقال الراغب٦ : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب، ونحوه، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عوج، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة، وكالدين والمعاش، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه.
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى :﴿ لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ﴾ [ طه : ١٠٧ ] - سؤالاً، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان، وإنما يقال في المعاني ؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله.
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر :[ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ٧
وقول امرئ القيس :[ الكامل ]
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا *** نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ٨
أي : ولم تميلوا، ومِيلاَ.
وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر.
والعاجُ : العَظْم، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان :" اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج ".
قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة :[ الطويل ]
فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْ تَحْلَ عَاجَةً *** وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ٩
قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً.
وقوله : كَخَاصِي العير، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ، فيقال : جاء كخاصي العير.
والعير : الحمار، يعنون جاء مستحياً. ويقال : عاج بالمكان، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام - :" ها أنتم عائجون " أي مقيمون.
وأنشدوا للفرزدق :[ الوافر ]
هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا *** نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ ؟١٠
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب " عائجون " في البيت : سائلون ومُلْتفتون.
وفي الحديث :" ثم عاج رأسه إليها " أي : التفت إليها.
والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج.
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ حال، إما من فاعل " تَصُدُّونَ "، وإما من فاعل " تَبْغُونهَا "، وإما مستأنف وليس بظاهر و " شهداء " جمع شهيد أو شاهد كما تقدم.

فصل


ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد.
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله، وهذا على أنَّ " عِوَجاً " في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ.
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ ﴾ قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام١١. وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم.
وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ.
وقيل :﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ ﴾ عُدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ، والضلالِ والإضلالِ ؟
ثم قال :﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ والمراد منه : التهديد، وختم الآية الأولى بقوله :﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ ﴾ ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره :﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ ﴾، وختم هذه الآيةَ بقوله :﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير.
وكرر في الآيتين قوله :﴿ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ ﴾ ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم.
لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.
رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحَسَد، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل: فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي، أحد بني حارثة، من الأوس وجبار بن صَخْر، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله» فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم، وبَكَوْا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سامعين مطيعين،
425
فأنزل الله هذه الآية، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم.
واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها: جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة، وسفك الدماء، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم.
قوله: ﴿يَرُدُّوكُم﴾ رَدَّ، يجوز أن يُضَمَّن معنى: «صَيَّر» فينصب مفعولَيْن.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
١٥٥٠ - رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً.
قوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يجوز أن يكون منصوباً ب «يَرُدُّوكُمْ»، وأن يتعلق ب «كَافِرِينَ»، ويصير المعنى كالمعنى في قوله: ﴿كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: ٨٦].
قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ «كَيْفَ» كلمة تعجُّب، وهو على الله - تعالى - محال، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم - تُزيل الشُّبَه، وتُقَرِّر الحُجج، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه.
قال زيد من أرقم: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسِ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى والنُّور، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال: وَاهْل بَيْتِي، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي».
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله﴾ جملة حالية، من فاعل: «تَكْفُرُونَ».
وكذلك قوله: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي: كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟
426
والاعتصام: الامتناع، يقال: اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً، أي: هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به.
وقيل: الاعتصام: الاستمساك، واستعصم بكذا، أي: استمسك به.
ومعنى الآية: ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل: ومن يؤمن بالله. وقيل: ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.
والعِصام: ما يُشدُّ به القربة، وبه يسمَّى الأشخاص، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار، والمِعْصَم: موضع العِصْمَة، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً، وأصل العُصْمة: البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول، والأعْصَم من الوعول: ما في معاصمها بياضٌ، وهي أشدُّها عَدْواً.
قال: [الكامل]
١٥٥١ - لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عَصَمَ فلاناً الطعامُ، أي: منعه من الجوع.
وقال أحمد بن يحيى: العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً، وجابراً.
قال: [الرجز]
١٥٥٢ - فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً، وأنشد: [الطويل]
١٥٥٣ - أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع.
وفي الحديث - في النساء: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ» وهو الأبيض الرجلين.
وقيل: الأبيض الجناحَين.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ».
427
قيل: يا رسولَ الله، وما الغراب الأعصم؟ قال «الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ».
وفي الحديث: كنا مع عمرو بن العاص، فدخلنا شِعْباً، فإذا نحن بغربان، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين، فقال عَمرو: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ» والمراد منه: التقليل.
قوله: «فقد هدي» جواب الشرط، وجيء ف يالجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.
والمعنى: ومن يمتنع بدينِ الله، ويتمسك بدينه، وطاعتهِ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي: يؤمن بالله.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، كقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام﴾ [المائدة: ١٦] وهذا اختيار القفال.
الثاني: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم، ليفعل ذلك.
الثالث: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة.
الرابع: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فقد هدي» أي: فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول: إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
428
قوله :﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ﴾ " كَيْفَ " كلمة تعجُّب، وهو على الله - تعالى - محال، والمراد منه التغليظ والمنع ؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه، وتُقَرِّر الحُجج، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه.
قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال :" أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسِ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى والنُّور، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَأهْل بَيْتِي، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي " ٣.
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ جملة حالية، من فاعل :" تَكْفُرُونَ ".
وكذلك قوله :﴿ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾ أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين ؟
والاعتصام : الامتناع، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به.
وقيل : الاعتصام : الاستمساك، واستعصم بكذا، أي : استمسك به.
ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل : ومن يؤمن بالله. وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.
والعِصام : ما يُشدُّ به القربة، وبه يسمَّى الأشخاص، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن ؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة ؛ تشبيهاً بها، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ، وهي أشدُّها عَدْواً.
قال :[ الكامل ]
لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ- -سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا٤
وعصمه الطعام : منع الجوع منه، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ، أي : منعه من الجوع.
وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً، وجابراً.
قال :[ الرجز ]
فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا٥
ويسمونه عامراً، وأنشد :[ الطويل ]
أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ٦
وأبو مالك كنية الجوع.
وفي الحديث - في النساء :" لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ٧ " وهو الأبيض الرجلين.
وقيل : الأبيض الجناحَين.
قال صلى الله عليه وسلم :" " المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ ".
قيل : يا رسولَ الله، وما الغراب الأعصم ؟ قال " الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ ٨ ".
وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص، فدخلنا شِعْباً، فإذا نحن بغربان٩، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ " والمراد منه : التقليل.
قوله :" فقد هدي " جواب الشرط، وجيء في الجواب ب " قد " دلالةً على التوقُّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.
والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله، ويتمسك بدينه، وطاعتهِ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى ؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، كقوله تعالى :﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾ [ المائدة : ١٦ ] وهذا اختيار القفال.
الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل ؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم، ليفعل ذلك.
الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة.
الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" فقد هدي " أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصِلاً ؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف، ورابعاً - بالترغيب بقوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾.
والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة، وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع، فقوله: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ إشارة إلى التخويف من عقاب الله، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله، ثم أرْدَفَه بالرغبة، فقال: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ فكأنه قال: خَوْف الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى، ووجوب طاعتكم لحكمه.

فصل


قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين، وأن يُشْكَر فلا يُكفر، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك، فنزل: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: ١٦]، فنسخت أول هذه الآيةِ، ولم ينسخ آخرها، وهو قوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ وقال جمهور المحقِّقين: إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله» ؟ فقلت: اللهُ ورسولُه أعْلَمُ. قال: «حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قلت: يا رسول الله، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا» وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ أي: كما يحق أن يتقى، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله: {فاتقوا
429
الله ما استطعتم} واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: ٧٨].
فإن قيل: أليس قد قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] ؟
فالجواب: أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن، وكلها في صفة الكفار، لا في صفة المسلمين، وأما الذين قالوا: إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا يُنْسَى، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة، وكل ذلك مما يطاق، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ.
وقوله: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: كما يجب أن يُتَّقَى، والتقى اسم للفعل - من قولك: اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك: اهتديت.
قوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد: دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه، فكأنه قال: دوموا على الإسلام غلى الموت، وقريب منه ما حَكَى سيبويه: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا، أي: لا تكن بالحضرة، فتقع عليك رؤيتي، والجملة من قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ في محل نصب على الحال، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة، أي: لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر، ولو قيل: إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً.
قوله: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً﴾ الحبل - في الأصل - هو: السبب، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب التمثيل، ومن كلام الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف.
قال الأعشى: [الكامل]
430
يعني العهود.
قيل: والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً، ويكون معه كالعلامة، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك، وهذا المعنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض.
وقال آخر: [الكامل]
١٥٥٤ - وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
١٥٥٥ - مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا
قال القرطبي: العِصْمة: المَنَعَة، ومنه يقال للبَذْرَقة: عصمة، والبذرقة: الخفارة للقافلة، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها، قال ابنُ خالويه: «البذرقة ليست بعربيةٍ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب، يقال: بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة». والحبل لفظ مشترك، وأصله - في اللغة: السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل: المستطيل من الرمل، ومنه الحديث: «واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ» ؟ والحبل: الرَّسَن، والحبل: الداهية.
قال كثير: [الطويل]
١٥٥٦ - فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ
والحبالة: حبالة الصائد، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد.
والمراد بالحبل - هنا -: القرآن؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحديث الطويل -: «هو حَبْلُ الله المتين».
وقال ابن عباس: هو العهد المذكور في قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس﴾ [آل عمران: ١١٢] أي: بعهد، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف.
وقيل: دين الله.
وقيل: طاعة الله، وقيل: هو الإخلاص.
وقيل: الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾.
وتحقيقه: أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل، تحرُّزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله، وأمروا بالاعتصام به.
431
وقوله: ﴿جَمِيعًا﴾ أي: مجتمعين عليه، فهو حال من الفاعل.
قوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله «ولا تيمموا» والباقون بتخفيفها على الحذف.

فصل


في التأويل وجوه:
الأول: أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً، وما عداه جهلٌ وضلال، قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ [يونس: ٣٢].
الثاني: أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك، فنهوا عنه.
الثالث: أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة، ويزيل الألفة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ» قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «الجَمَاعَةَ».
وروي: «السواد الأعظم».
ويروى: «مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي».
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف، والأمر بالاتفاق، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً.

فصل


استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إن الله
432
سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية، أو ظنية، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس
433
الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين، وإن كانت ظنيّة أدى
434
الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]
435
وقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾ [الأنفال: ٤٦].
436
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس.
437
قال القرطبي: وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ»
وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً».
قوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾.
﴿نِعْمَةَ الله﴾ مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم، ﴿عَلَيْكُمْ﴾، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس ﴿نِعْمَتَ﴾ ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب «على» قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧].
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نِعْمَةَ»، فيتعلق بمحذوف، أي: مستقرة، وكائنة عليكم.
قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾ «إذْ» منصوبة - ب «نِعْمَةَ» ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ إذا قلنا: إن «عَلَيْكُمْ» حال من النعمة، وأما إذا علقنا «عَلَيْكُمْ» ب «نِعْمَةَ» تعيَّن الوجه الأول.
438
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب «اذْكُروا» يعني: مفعولاً به، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ «اذْكُرُوا» مستقبل، و «إذْ» ماضٍ.

فصل


﴿كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾.
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة، إلى أن أطفأ الله تعالى، ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً، تُسمِّيه قومه: الكامل، لجلده ونسبه، قدم «مكة» حاجًّا أو معتمراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة، فتصدَّى له حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيْدٌ: فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال: حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعْرِضْهَا عَلِيَّ «فعرضها عليه، فقال: إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وقال: إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث» فإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر، فلما سمع بهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أاهم، فجلس إليهم، فقال: «هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا: ومَا ذَاكَ؟ قال: أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام»
، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دَعْنا منك؛
439
فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنهم ثم انصرفوا إلى «المدينة»، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - إظْهارَ دينهِ، وإعزازَ نبيه، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا: نفر من الخزرج فقال: أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا: نعم، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعِلْم، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون: إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ، فلما كلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه، وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا «المدينة» ذكروا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلاني، وذكوان بن عبد
440
القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في «العقبة» - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بيعة النساء، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا..
إلى آخر الآية، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويُفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحَائِطِ، واجتمع إليهما رجال من أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكَلِّمْهُ، فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت.
قال: أنصفت، ثم ركز حريته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قال: تغتسل، وتُطهِّر ثوبك، ثم تشهد شهادةَ الحق، ثم تصلي ركعتين.
فقالم واغتسل، وغسل ثوبه، وتشهد شهادة الحق، وصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النَّادي قال له سعد: ما فعلت؟
قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: تفعل ما أحببت، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة، ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك.
441
فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة، فأخذ الحربة، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما، فوقف عليهما متشتماً، فقال لأسعد بن زرارة: والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة، ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟
فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.
فقال له مصعب: أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً، ورغبت فيه، قبلته، وإن كرهته، عَزَلْنَا عنك ما تكره.
قال سعد: أنْصَفْتَ، ثم ركز الحَرْبَةَ، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن.
قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به، ثم قال: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.
فلما رآه قومه مُقْبِلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعونه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» ومضى بدر وأحد والخندق. قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى «مكة» وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا «مطة»، فواعدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقبة من أوسط أيام التشريق، وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كَعْبُ بْنُ مَالِك: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين
442
أمرنا - وكلمناه، وقلنا له، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، شريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند «العقبة»، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ، أم منيع، إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثّق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب.
فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه، ومَنَعَةٍ في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ.
قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ.
قال: فتكلَّم رسولُ الله، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَغَّبَ في الإسلام، ثم قال: أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ -.
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ، قال: فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو الهيثم بن التَّيْهان.
فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: «لا، بل الأبدَ الأبدَ، الدَّمَ الدَّمَ، الهدمَ الهدمَ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ» ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس».
قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ: يا معشرَ الخزرج، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ
443
أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وَقَتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟
قال: «الجَنَّةُ».
قالوا: ابْسُطْ يدك، فبسط يده، فبايعوه، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده: البَرَاءُ بن معرور، ثم بايع القومُ.
قال: فلما بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط: يا أهل الجباجب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه، قد اجتمعوا على حَرْبكم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا عَدُوُّ اللهِ، أزَبُّ العَقَبَة، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ. ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ».
فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَمْ نُؤْمَرْ بذلك، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ» فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جُلَّةُ قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشرَ الخزرج، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظْهُرنا، وتبايعونه على حَرْبِنَا، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا، يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ، وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ، فخلعهما من رِجْلَيْه، ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتنتعلنّهما.
قال: فقال أبو جابر: مَهْ والله لقد أحفظت الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: والله لا أردُّهما، قال: والله يا أبا صالحٍ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه.
قال: ثم انصرف الأنصار إلى «المدينة» - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً، فآذوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه:
«إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها»، فأمرهم بالهجرة إلى «المدينة»، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، فأول من هاجر إلى «المدينة» : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ، ثم عامر بن ربيعة، ثُم عبد الله بن جحش، ثم تابع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
444
أرْسَالاً إلى «المدينة»، فجمع الله أهْلَ «المدينة» - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً﴾ [آل عمران: ١٠٣] يا معشر الأنصار قبل الإسلام ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بالإسلام ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ أي: فصرتم. و «أصبح» من أخوات «كان» فإذا كانت ناقصة، كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونَصْب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً، واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح، تقول: أصبح زيد، أي دخل في الصباح، ومثلها - في ذلك - «أمسى» قال تعالى ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] وقال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧].
وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح» ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب، فيقول: أنا غداً مسافر، فيأتيه الناس بحوائجهم، ويقيم، ويترك السفر، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه. والمعنى: فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى «صار» عملاً ومعنًى. كقوله: [الخفيف]
١٥٥٧ - فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي: صاروا.
و «إخواناً» خبرها، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وتكون بمعنى: «صار» - وأن تكون تامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون «إخْناناً» خبرها، و «بنعمته» متعلق به لما فيه من معنى الفعل، أي: تآخيتم بنعمته، والباء للسببية.
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب «أصْبَحْتم»، وقد عُرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصْبَحْتُمْ»، أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» ؛ لأنه في الأصل - صفة له.
وجوَّزوا أن تكون «بِنِعْمَتِهِ» هو الخبر، و «إخواناً» حال والباء بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى: «صار» جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامة، فإخواناً حال، و «بِنِعْمَتِهِ» فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية.
قال ابن عطية: «فأصْبَحْتُمْ» عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة
445
بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار، وفيه مبدأ الأعمال، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب.
ومنه قول الربيع بن ضَبع: [المنسرح]
١٥٥٨ - أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا
قال أبو حيان: وهذا الذي ذكره - من أن «أصبح» للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما.
قال شهاب الدين: وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً.
والإخوان: جمع أخ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه، وعند غيره هي جمع.
وقال بعضهم: إن الأخ في النسب - يُجْمَع على: «إخوة»، وفي الدين يُجْمَع على: «إخوان»، هذا أغلب استعمالهم، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة.
قال أبو حاتم: قال أهل البصرة: الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، قال: وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء: إخوة، وإخوان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ولم يَعْنِ النسب، وقال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وهذا في النسب.
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال.
قال الزجاج: أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه، ولا يُخْفِي عنه شيئاً.
قوله: ﴿وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ﴾ شَفَا الشيء: طرفه وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو، ويُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن ويكتب بالألف، ويُجْمَع على أشفاء، ويُسْتَعْمَل مضافاً
446
إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمن الأول: ﴿شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: ١٠٩] ومن الثاني: هذه الآية.
وأشْفَى على كذا: قاربه، ومنه: أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي منه، أو منها، إلا شَفاً، أي: إلا قليل. وقال بعضهم: يقال لما بين الليل والنهار، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها: شَفاً.
وأنشد: [الرجز]
١٥٥٩ - أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً، أوْ بِشَفَا وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا
قوله بلا بشفا: أي: غابت الشمسُ، وقوله: أو بشفا، أي: بقيت منه بقية.
قال الراغب: والشفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبُرْء والشفاء.
قال البخاري: قال النحاس: «الأصل في شفا - شَفَوٌ، ولهذا يُكْتَب بالألف، ولا يمال».
وقال الأخفش: «لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو» ؛ لأن الإمالةَ من الياء.
قال المهدويّ: «وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان».
قوله: ﴿فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ في عَود هذا الضمير وجوه:
أحدها: أنه عائد على «حُفْرَةٍ».
والثاني: أنه عائد على «النَّارِ».
قال الطبريّ: إن بعض الناس يُعيده على الشفا، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير: [الوافر]
١٥٦٠ - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
قال ابن عطية: «وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة».
قال أبو حيان: «وأقول: لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا
447
هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذِكْرُ الحفرة، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه، وليس أحد جُزْأي الإسناد، وكذا لو قلتَ: زيد ضرب غلامَ هند، لم تُحَدِّث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه، وأما ذكر:» النَّارِ «فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد، وليست أيضاً محدَّثاً عنها، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى».
قال الزجَّاج: «وقوله:» مِنْهَأ «الكناية راجعة إلى النار، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة».
وقال غيره: «الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها».
قال الواحديّ: على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف، كقول جرير: [الوافر]
١٥٦١ - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
كذلك قول العجاج: [الرجز]
١٥٦٢ - طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي
قال: وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، فإن مَرَّ السنين هو المسنون، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة، فذكَّر الشَّفَا، وعادت الكناية إلى الحفرة.
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح.
قال بعضهم: «شَفَا الحُفْرة، وشفتها: طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث».
والإنقاذ: التخليص والتنحِية.
448
قال الأزهَريُّ: «يقال: أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال: فرس نقيذ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم».
والحفرة: فُعْلَة بمعنى: مفعولة، كغُرْفة بمعنى: مغروفة.

فصل


قيل معناه: إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم، كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حَرْفها، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة، بعد أن قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسائر ألطافه حتى آمنوا.
وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد.
قوله تعالى: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله﴾ نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي: يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها.
قال الجبائي: «الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء».
قال الواحدي: إن المعنى: لتكونوا على رَجاء هدايته. وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء، وعلى مذهبنا قد لا يريده.
وأجاب غيره بأن كلمة «لَعَلَّ» للترجي، والمعنى: أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك.
قوله: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير﴾ اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله﴾ ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ﴾ يجوز أن تكون التامة، أي: ولتوجد منكم أمة، فتكون «أمَّةٌ» : فاعلاً، و «يَدْعُونَ» : جملة في محل رفع صفة ل «أمة»، و «مِنْكُمْ» متعلق ب «تكن» على أنها تبعيضية.
ويجوز أن يكون: «مِنْكُمْ» متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من «أمَّةٌ» إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة.
ويجوز أن تكون الناقصة، ف «أمةٌ» اسمها، و «يَدْعُونَ» خبرها، و «مِنْكُمْ» متعلق إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمةٌ».
449
ويجوز أن يكون «مِنْكُمْ» هو الخبر، و «يَدْعُونَ» صفة ل «أمة»، وفيه بُعد.
وقرأ العامة: «وَلْتَكُنْ» بسكون اللام.
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها، وهو الأصل.
وقوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]-؛ لأن اسم «الْخَيْر» يقع عليهما، بل هما أعظم الخيور.

فصل


قال بعض العلماء: «مِنْ» - هنا - ليست للتبعيض، لوجهين:
الأول: أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة.
الثاني: أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه - فيكون معنى الآية: كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
وكلمة: «مِنْ» : إنما هي للتبيين، كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] ويقال: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر، والمراد: جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ، فيسقط بفعل البعض، كقوله تعالى: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ [التوبة: ٤١]، وقوله: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [التوبة: ٣٩] فالأمر عامٌّ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين:
أحدهما: أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين.
الثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة﴾ [الحج: ٤١] وليس كل الناس يُمَكنون.
وقوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٢]، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقُمْ بذلك بعضُكم.
وقال الضَّحَّاك: المراد بهذه الآية: أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلّمون الناس.
450
قال القُرْطُبِيُّ: «وقرأ ابنُ الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم».
قال ابن الأنباري: «هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم.
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين «.

فصل


قال المفسرون: الدعوة إلى الخير - أي: إلا الإسلام - والأمر بالمعروف، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي، ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي: العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون، وقد تقدم تفسيره.
قال - عليه السلام -:»
مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ «وقال - أيضاً -:» وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ «.
قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات﴾.
قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة.
451
وقال أبو أمامةُ: هم الحرورية بالشام.
وقال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال: كلاب النار كانوا مؤمنين، فكفروا بعد إيمانهم، ثُمَّ قرأ: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ الآية.
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ «.
وذكر الفعلَ في قوله: ﴿وجَآءَهُمُ البينات﴾ للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل.
وقيل: لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً.
والتفرق والافتراق واحد، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس -، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا «فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ، وهو أعلم بلغة الصحابة، وبكلام النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال القرطبي: وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام، وبالتثقيل في الأبدان»
.
قال ثعلب: «أخبَرَني ابن الأعرابيّ، قال: يقال: فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا». فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، وكلام أبي برزة يرد هذا.
وقال بعضهم: ﴿تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ معناهما مختلف.
فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين.
وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ.
وقيل: تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ.
قوله: ﴿وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يعني: بسبب تفرُّقهم.
452
قوله :﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾ الحبل -في الأصل- هو : السبب، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب التمثيل، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف.
قال الأعشى :[ الكامل ]
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا١
يعني العهود.
قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً، ويكون معه كالعلامة، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك، وهذا المعنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض.
وقال آخر :[ الكامل ]
مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابٍ نَجَا٢
قال القرطبي : العِصْمة : المَنَعَة، ومنه يقال للبَذْرَقة : عصمة، والبذرقة : الخفارة للقافلة، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها، قال ابنُ خالويه :" البذرقة ليست بعربيةٍ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب، يقال : بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة ". والحبل لفظ مشترك، وأصله - في اللغة : السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل : المستطيل من الرمل، ومنه الحديث :" واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ".
؟ والحبل : الرَّسَن، والحبل : الداهية.
قال كثير :[ الطويل ]
فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ٣
والحبالة : حبالة الصائد، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد.
والمراد بالحبل - هنا - : القرآن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل - :" هو حَبْلُ الله المتين ".
وقال ابن عباس : هو العهد المذكور في قوله :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] لقوله تعالى :﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٢ ] أي : بعهد، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف.
وقيل : دين الله.
وقيل : طاعة الله، وقيل : هو الإخلاص.
وقيل : الجماعة ؛ لأنه عقبه بقوله :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾.
وتحقيقه : أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل، تحرُّزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله، وأمروا بالاعتصام به.
وقوله :﴿ جَمِيعًا ﴾ أي : مجتمعين عليه، فهو حال من الفاعل.
قوله :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله " ولا تيمموا٤ " والباقون بتخفيفها على الحذف ٥.

فصل


في التأويل وجوه :
الأول : أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين ؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً، وما عداه جهلٌ وضلال، قال تعالى :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ﴾
[ يونس : ٣٢ ].
الثاني : أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك، فنهوا عنه.
الثالث : أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة، ويزيل الألفة، قال صلى الله عليه وسلم " " سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ " قيل : ومن هي يا رسول الله ؟ قال :" الجَمَاعَةَ ".
وروي :" السواد الأعظم ".
ويروى :" مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي ".
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف، والأمر بالاتفاق، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً.

فصل


استدلت نفاة القياس٦ بهذه الآية، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إن الله سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية، أو ظنية، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الذي يفيد الظن ؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين، وإن كانت ظنيّة أدى الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] وقوله :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ].
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس.
قال القرطبي : وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع ؛ فإن ذلك ليس اختلافاً ؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صلى الله عليه وسلم :
اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ٧ " وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد، قال صلى الله عليه وسلم :" تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً٨ " قوله :﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾.
﴿ نِعْمَتَ اللَّهِ ﴾ مصدر مضاف لفاعله ؛ إذ هو المُنْعِم، ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس ﴿ نِعْمَتَ ﴾ ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب " على " قال تعالى :﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ].
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من " نِعْمَةَ "، فيتعلق بمحذوف، أي : مستقرة، وكائنة عليكم.
قوله :﴿ إِذْ كُنْتُمْ ﴾ " إذْ " منصوبة - ب " نِعْمَةَ " ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ إذا قلنا : إن " عَلَيْكُمْ " حال من النعمة، وأما إذا علقنا " عَلَيْكُمْ " ب " نِعْمَةَ " تعيَّن الوجه الأول.
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب " اذْكُروا " يعني : مفعولاً به، لا أنه ظرف له ؛ لفساد المعنى ؛ إذْ " اذْكُرُوا " مستقبل، و " إذْ " ماضٍ.

فصل


﴿ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾.
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار : كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة، إلى أن أطفأ الله تعالى، ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً، تُسمِّيه قومه : الكامل، لجلده ونسبه، قدم " مكة " حاجًّا أو معتمراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة، فتصدَّى له حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيْدٌ : فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَا الَّذِي مَعَكَ ؟ قال : حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعْرِضْهَا عَلِيَّ٩ " فعرضها عليه، فقال : إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وقال : إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث ؛ فإن قومه يقولون : قد قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فلما سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أتاهم، فجلس إليهم، فقال : هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ ؟ قالوا : ومَا ذَاكَ ؟ قال : أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس١٠، وقال : دَعْنا منك ؛ فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ثم انصرفوا إلى " المدينة "، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عز وجل - إظْهارَ دينهِ، وإعزازَ نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أنْتُمْ ؟ قالوا : نفر من الخزرج فقال : أمِنْ مَوَالِي يَهُود ؟ قالوا : نعم، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ ؟ قالوا : بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعِلْم، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون : إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه، وأسلموا، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا " المدينة " ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً : أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلاني، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في " العقبة " - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا. . إلى آخر الآية، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صلى الله علي
١ ينظر ديوانه (٦٥) وتأويل مشكل القرآن ٤٦ ومجاز القرآن ١/١٠١ واللسان (حبل) ومجمل اللغة ١/٢٦٢ وزاد المسير ١/٤٣٣ وتاج العروس ٧/٢٧٠ وتهذيب اللغة ٥/٧٨ والدر المصون ٢/١٧٧..
٢ البيت لجرير ينظر ديوانه ص ٥٢٠ واللسان (حبل) وتهذيب اللغة ٥/٧٩ والدر المصون ٢/١٧٧..
٣ البيت لكثير عزة ينظر ديوانه ص ١١١، وإصلاح المنطق ص ٥، وشرح شواهد المغني ١/٥٧١، ولسان العرب (حبل) والمقاصد النحوية ٣/٤٠٤، ٤/٤٤١..
٤ آية: ٢٦٧..
٥ انظر: الدرالمصون ٢/١٧٧، وإتحاف فضلاء البشر ١/٤٨٥..
٦ استدلوا من الكتاب بآيات كثيرة، والناظر إليها يلاحظ أنها تنقسم بادئ ذي بدء إلى أربعة أقسام:
قسم يدل على شمول النصوص لجميع الأحكام ويلزم منه الاستغناء عن القياس.
وقسم يدل على وجوب اتباع ما أنزل الله ويفهم منه منع العمل بالقياس.
وقسم يدل على منع اتباع الظن ويتضمن منع العمل بالقياس.
وقسم يدل على منع مجاوزة الكتاب والسنة ونحو ذلك مما يتضمن منع العمل بالقياس.
أولا: منها قول الله تعالى: ﴿ما فطرنا في الكتاب من شيء﴾ وقوله تعالى: ﴿ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ على قراءة الرفع. وقوله سبحانه: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾ وقوله جل شأنه: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾.
"وجه الاستدلال بهذه الآيات" أن الآيات الثلاث الأول دالة على اشتمال الكتاب الكريم على جميع أحوال الكائنات شاهدة وغائبة ومنها الأحكام الشرعية فتكون الأحكام الشرعية كلها مستفادة من نصوص الكتاب والآية الأخيرة دالة على إكمال الدين، والدين هو الأحكام الشرعية. وإكمالها استيعابها بالنص عليها، وذلك باشتمال الكتاب عليها لتتفق مع الآيات قبلها، وإذا يكون القياس مستغنى عنه في معرفة الأحكام الشرعية فلا يكون حجة، لأنه إن كان موافقا للنص كان لاغيا، وإن كان مخالفا له كان باطلا، وإذا لم يكن حجة لم يجب تحصيله ولا العلم به بل يحظران عند المخالفة كما لا يخفى.
"ويناقش الاستدلال المذكور" بمنع دلالة هذه الآيات على اشتمال القرآن الكريم على جميع الأحكام الشرعية تفصيلا لأنه خلاف الواقع وإلا فأين في كتاب الله مسألة "الجد والإخوة" ومسألة "أنت علي حرام" وغيرها، ولأنه يستلزم أن السنة لم تشتمل على أحكام سكت عنها القرآن الكريم وهو خلاف الواقع أيضا، وإلا فأين في كتاب الله تعالى بيان عدد ركعات الصلاة ومقادير الزكاة وغير ذلك مما بينته السنة المطهرة.
"فإن قالوا" نحن نلتزم أن الكتاب مشتمل على جميع الأحكام إجمالا لكن التفاصيل مستفادة من السنة وحدها فيبقى القياس مستغنى عنه.
"قلنا" هذه دعوى لا دليل عليها وهي خلاف الواقع إذ ليس في السنة المطهرة مسألة الجد والإخوة، ولا مسألة أنت علي حرام ولا نحوهما من المسائل التي اجتهد فيها الصحابة وغيرهم فكل من الكتاب والسنة قد يشتمل على الحكم بالذات وقد يشتمل عليه بالواسطة بأن يدل على حجية الأصل الدال عليه، وقد دل الكتاب على حجية السنة ودل الكتاب والسنة على حجية الإجماع، ودلت الثلاثة على حجية القياس. فالأحكام المستفادة من القياس مشتمل عليها الكتاب إجمالا بدلالته على حجية القياس ابتداء أو على حجية السنة الدالة على حجية القياس أو على حجية السنة الدالة على حجية الإجماع الدال على حجية القياس.
على أنا لا نسلم أن الآيتين الأولى والثانية واردتان في شأن القرآن الكريم بل في شأن اللوح المحفوظ كما قال المفسرون فهو مشتمل على أحوال جميع الكائنات، ولا علم لنا تفصيلا إلا بما اشتمل الكتاب والسنة على تفصيله من هذه الأحوال وهو البعض فلا غنى لنا عن القياس لنستعلم به ما لم ينص الكتاب والسنة عليه.
ثانيا: منها قول الله تعالى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ وقوله تعالى: ﴿وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله﴾ وقوله تعالى: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾
"ووجه الاستدلال بهذه الآيات" أنها دلت بمنطوقها على وجوب الحكم بما أنزل الله ودلت بمفهومها على تحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولا شك أن القياس من غير ما أنزل الله فيكون الحكم به محرما. "ويناقش هذا" بأن ليس المراد بما أنزل الله نفس اللفظ الذي أنزله إذ لا شبهة في أن الحاكم إنما يحكم بمدلول اللفظ لا بنفس اللفظ، وكل معنى حق مستفاد من اللفظ بالوضع أو الالتزام فهو مدلول، فعلى هذا لا نسلم أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله بل هو بما أنزل الله أي بمدلول ما أنزل الله وذلك من عدة أوجه:
"الأول": أنه حكم بالقياس الذي أنزل الله ما يدل على حجيته من آيات التعليل وآيات التمثيل وغيرها.
"الثاني" أنه حكم بالقياس المدلول على حجيته بالسنة التي أنزل الله ما يدل على حجيتها.
"الثالث": أنه حكم بالقياس المدلول على حجيته بالإجماع المدلول على حجيته بالسنة التي أنزل الله ما يدل على حجيتها.
"الرابع": أنه حكم بمقتضى العلة المستنبطة من النص الذي أنزله الله من كتاب أو سنة.
فعلى كل من هذه الأربعة يكون الحكم بالقياس حكما بما أنزل الله لأن الله عز وجل أنزل ما يدل عليه. ويقرب من الآيات السابقة قول الله تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ فإنه يدل على وجوب الرد إلى الكتاب والسنة ففيهم منه منع الرد إلى ما عداهما من قياس وغيره. وقول الله تعالى: ﴿قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي﴾ فإنه يدل على اختصاص الهدى بما أوحاه الله من كتاب أو سنة فيكون ما سواهما من قياس وغيره ضلالا، وقوله تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾ فإنه يدل على توقف الإيمان على تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع حكمه الذي نص عليه في الكتاب أو السنة فيكون اتباع ما عداه من قياس وغيره مخالفا للإيمان. وقوله تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ فإنه دل على أنه لا يتبع إلا ما أوحاه الله إليه من الكتاب أو السنة وهو قدرة الأمة فيلزم الأمة اتباعهما ويمتنع عليها اتباع غيرهما من قياس أو غيره.
والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات كلها" أن حجية القياس الصحيح مدلول عليها بالكتاب والسنة، فكل ما دل على وجوب اتباع الكتاب والسنة والاقتصار عليها يدل على وجوب العمل بالقياس الصحيح، بخلاف الرأي المحض والقياس الفاسد.
ثالثا: منها قول الله تعالى: ﴿وإن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ فإن دل على أن الظن لا يفيد شيئا من الحق، والقياس ظن لابتنائه على علية العلة في الأصل ووجودها في الفرع وهما ظنيان لاحتمال أن تكون خصوصية الأصل جزءا من العلة أو شرطا لعليتها أو تكون خصوصية الفرع مانعة من العلية، ولا سبيل إلى القطع مع قيام هذه الاحتمالات، فالقياس إذا لا يفيد شيئا من الحق فيمتنع العمل به شرعا.
وكذا قوله تعالى: ﴿اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم﴾ فإنه دل على تحريم كثير من الظن وهو غير معلوم فلا يتم الامتثال إلا بالامتناع عن جميع الظن ومنه القياس. وقوله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾ فإنه دل على تحريم اتباع ما لم يعلم ومنه الحكم القياس فإنه مظنون غير معلوم. وقوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ فإنه دل على تحريم القول على الله بما لا يعلم.
ولا شك أن الحكم بالقياس يقتضي الإخبار بأن مدلوله حكم الله تعالى وهو لا يعلم، وإنما يظن ظنا، فهو قول على الله بما لا يعلم فيكون حراما.
ويناقش الاستدلال بهذه الآيات كلها بأنا لا نسلم دلالتها على منع القياس الصحيح.
"أما الآية الأولى" فإن المراد بالظن فيها الظن الذي لا مستند له، وإنما هو رجم بالغيب وتقليد للآباء وتقول بغير دليل، وأما الظن المستند إلى النظر والاستدلال فليس داخلا في مضمون الآية، ولا يخفى أن القياس من باب الظن المستند إلى النظر في الأدلة الشرعية فلا يكون داخلا في الآية.
ولئن سلمنا أن المراد به الظن مطلقا لا نسلم أنه لا يغني من الحق شيئا في كل مقام، بل المراد الظن في مقام يطلب فيه اليقين كالاعتقادات المتعلقة بذات الله تعالى وذات رسله وإلا لانتقض بدلالات الكتاب والسنة على الأحكام الشرعية فإنها تغني من الحق مع أنها ظنية.
"وأما الآية الثانية" فإن المراد من الظن فيها ظن السوء بالمسلم السالم عرضه ودينه ظاهرا بقرينة قول الله تعالى: ﴿ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ فإن الأمور الثلاثة مرتبة في الواقع، لأن من ظن بأخيه شرا دعاه ظنه إلى التجسس عليه، فإذا ظهر له بالتجسس شيء دعاه ذلك إلى غيبته فنهى الله عز وجل عن هذا الظن وما يترتب عليه وأين منه القياس؟ ومما يرشد إلى هذا أنه لم يقل اجتنبوا الظن إن الظن إثم مع أنه أخصر، وما ذلك إلا لأن من الظن ما هو إثم ومنه ما هو غير إثم كالقياس. كظن السوء بمن شهد عليه العدول بما يفسقه وبمن أقر على نفيه بذلك.
وأما "الآيتان الثالثة والرابعة" فقوله عز وجل في إحداهما ﴿ما ليس لك به علم﴾ وفي الأخرى ﴿ما لا تعلمون﴾ لا يجوز أن يراد به ما يشتمل الحكم القياسي ونحوه من المظنونات المعتد بها شرعا كخبر الواحد وظاهر الكتاب وخبر الشهود لئلا تتعارض الآيتان مع الأدلة القائمة على جواز بل وجوب العمل بها، والتعارض خلاف الأصل.
"فإن قيل" كيف يتأتى عدم إرادة هذه المظنونات مع أنها من مشمولات ما لا يعلم؟
قلنا" يتأتى ذلك بثلاث طرق:
أن المراد بالعلم في الآيتين الإدراك القوي جازما كان أو راجحا فيشمل الظن، واستعماله في هذا المعنى الشامل للظن كثير جدا بشهادة الاستقراء، فيكون المحرم المنهي عنه هو اتباع ما لا يدرك إدراكا جازما ولا راجحا وهو المشكوك فيه والمتوهم، والمقطوع بخلافه فلا يدخل فيه الحكم القياسي ونحوه.
أن يبقى العلم على معناه المشهور وهو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن موجب فيكون قوله تعالى: ﴿ما ليس به علم﴾ وقوله ﴿ما لا تعلمون﴾ دالين على كل ما لا يقطع به من مظنون وغيره.
لكن هذا المدلول ليس مرادا عمومه بل هو مخصوص بغير ما قام الدليل على جواز اتباعه من المظنونات كالحكم القياسي ونحوه. فهذه المظنونات خارجة من الآيتين من حيث الإرادة وإن كانت داخلة فيها من حيث الدلالة.
أن يبقى العلم على معناه المشهور ويبقى قول الله تعالى: ﴿ما ليس لك به علم﴾ وقوله ﴿ما لا تعلمون﴾ على ظاهرهما من العموم ويقال إن الحكم القياسي ونحوه والمظنونات التي قامت الأدلة على وجوب العمل بها قد صارت بهذه الأدلة معلومات متيقنات غير مظنونات وذلك أن المجتهد أو القاضي إذا حصل له ظن مستند إلى دليل معتد به شرعا علم أن الله عز وجل أوجب عليه العمل بهذا الظن للإجماع القاطع على ذلك.
ثم إما أن يكون من المصوبة أو من المخطئة.
فإن كان من المصوبة فالعلم بوجوب العمل بالظن يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله تعالى في حقه وليس لله حكم في حقه سواء، فالحكم الذي ظهر أولا عقب الدليل المنتج به يقطع به عقب العام بوجوب العمل به.
وإن كان من المخطئة فالعلم بوجوب العمل بالظن وإن لم يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله في الواقع لكنه يوجب العلم بأنه حكم الله الظاهري الذي يخرجه من العهدة، فالحكم القياسي ونحوه إذا معلموم لا مظنون فلا يدخل في قوله تعالى: ﴿ما ليس لك به علم﴾ ولا في قوله ﴿ما لا تعلمون﴾ فلا يكون اتباعه محرما "وقد يقال" إن الظن والعلم لا يمكن أن يكونا في لحظة واحدة فلا بد أن يكون العلم متأخرا عن الظن فالحكم في حالة الظن السابقة على حالة العلم يكون داخلا في الآيتين وأيلولته بعد ذلك إلى العلم لا تمنع دخوله فيهما في هذه الحالة الأولى فيكون اتباعه محظورا على فرض قصر العلم على الجزم وعدم تخصيص ما لا يعلم. فلا بد في الجواب من تعميم العلم بحيث يشمل الظن.
أو تخصيص ما لا يعلم بحيث تخرج عنه المظنونات التي قامت الأدلة على اتباعها أعني أنه لا بد من إحدى الطريقتين الأوليين فهذا الطريق الثالث على ما فيه من الطول لم ي.

٧ ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" (٢٨٨) وعزاه لنصر المقدسي في الحجة والبيهقي في "الرسالة الأشعرية" بغير سند وقال: وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرج في بهض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا قال المناوي في "فيض القدير" (١/٢١٢): قال السبكي: وليس بمعروف عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع.
والحديث ذكره الغزالي في "الإحياء" (١/٢٧) وقال العراقي: وأسنده البيهقي في "المدخل من حديث ابن عباس" وإسناده ضعيف..

٨ تقدم..
٩ ذكره ابن منده، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلموا ثم ساق الحديث من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمود بن لبيد بهذا كذا قال والذي ذكره ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد يدل على أنه لم يسلم وقوله: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه نظر، وإنما قدم أبو الجيش في فتية من بني عبد الأشهل على قريش يلتمسون منهم الحلف على إخوانهم الخزرج، فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام فلم يسلموا إذا ذاك وانصرفوا فكانت بينهم وقعة بعاث المشهورة ولأبي الجيش هذا ابن شهد بدرا، وابنة تزوجها عبد الرحمن بن عوف، وهي التي قيل له بسببها: أو لم ولو بشاة ينظر الإصابة ١/١٣٦..
١٠ إياس بن معاذ الأنصاري الأشهلي... قال ابن السكن وابن حبان له صحبة وذكره البخاري في تاريخه الأوسط فيمن مات على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين الأولين والأنصار وترجم له في التاريخ الكبير وقال مصعب الزبيري قدم إياس مكة وهو غلام قبل الهجرة، فرجع ومات قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر قومه أنه مات مسلما، وقال ابن إسحاق في المغازي حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الحيس (الحيسر) أنس بن رافع مكة، ومعه فتية بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم له، قالوا: وما ذاك، قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ: يا قوم، هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيس (الحيسر) حفنة من البطحاء، فضرب وجهه بها وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا فسكت وقام وانصرفوا، وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه فكانوا لا يشكون أنه مات مسلما رواه جماعة عن ابن إسحاق هكذا، وهو من صحيح حديثه لكن رواه زياد البكائي عن ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بدل الحصين والأول أرجح أشار إلى ذلك البخاري في تاريخه. ينظر الإصابة ١/٩٢- ٩٣..
قوله :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال :﴿ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ ﴾ ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ ﴾ يجوز أن تكون التامة، أي : ولتوجد منكم أمة، فتكون " أمَّةٌ " : فاعلاً، و " يَدْعُونَ " : جملة في محل رفع صفة ل " أمة "، و " مِنْكُمْ " متعلق ب " تكن " على أنها تبعيضية.
ويجوز أن يكون :" مِنْكُمْ " متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من " أمَّةٌ " إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة.
ويجوز أن تكون الناقصة، ف " أمةٌ " اسمها، و " يَدْعُونَ " خبرها، و " مِنْكُمْ " متعلق إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من " أمةٌ ".
ويجوز أن يكون " مِنْكُمْ " هو الخبر، و " يَدْعُونَ " صفة ل " أمة "، وفيه بُعد.
وقرأ العامة :" وَلْتَكُنْ " بسكون اللام.
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها١، وهو الأصل.
وقوله :﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ اعتناء به - كقوله :﴿ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] - ؛ لأن اسم " الْخَيْر " يقع عليهما، بل هما أعظم الخيور.

فصل


قال بعض العلماء :" مِنْ " - هنا - ليست للتبعيض، لوجهين :
الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كُل الأمة.
الثاني : أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه - فيكون معنى الآية : كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
وكلمة :" مِنْ " : إنما هي للتبيين، كقوله :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾ [ الحج : ٣٠ ] ويقال : لفلان من أولاده جند، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ، فيسقط بفعل البعض، كقوله تعالى :﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ [ التوبة : ٤١ ]، وقوله :﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [ التوبة : ٣٩ ] فالأمر عامٌّ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين.
الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء ؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ [ الحج : ٤١ ] وليس كل الناس يُمَكنون.
وقوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقُمْ بذلك بعضُكم.
وقال الضَّحَّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلّمون الناس.
قال القُرْطُبِيُّ :" وقرأ ابنُ الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم ".
قال ابن الأنباري :" هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ٢ : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم.
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن ؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين ".

فصل


قال المفسرون : الدعوة إلى الخير - أي : إلا الإسلام - والأمر بالمعروف، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي، ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون، وقد تقدم تفسيره.
قال - عليه السلام - :" مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ٣ " وقال - أيضاً - :" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ". ٤
١ وبها قرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر.
انظر: المحرر الوجيز ١/٤٨٥، والبحر المحيط ٣/٢٣ والدر المصون ٢/١٨١..

٢ نسبها ابن عطية (١/٤٨٦) إلى عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير، ثم قال: "فهذا وإن كان لم يثبته في المصحف ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي..."
وانظر: البحر المحيط ٣/٢٤..

٣ أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٦/٢١٠٤) والدليمي في "مسند الفردوس" كما في كنز العمال" (٣/٧٥) رقم (٥٥٦٤) عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا..
٤ أخرجه أحمد (٥/٣٩١) والبيهقي (١٠/٩٣) والطحاوي في مشكل الآثار" (٢/٦٢) والبغوي في "تفسيره" (١/٣٩٩- ٢/٧٨) عن حذيفة بن اليمان مرفوعا.
وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه أبو داود (٢/٥٢٤) كتاب الملاحم ب ١٧ رقم (٤٣٣٦) والخطيب في "تاريخ بغداد" (٨/٢٩٩- ١٣/٩٢) وله شاهد آخر عن أبي هريرة أخرجه البزار (٣٣٠٧) والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (٧/٢٦٦).
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والبزار وفيه حبان بن علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها..

قوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾
قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى١، وقال بعضهم : هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة٢.
وقال أبو أمامةُ : هم الحرورية بالشام. ٣
وقال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال : كلاب النار كانوا مؤمنين، فكفروا بعد إيمانهم، ثُمَّ قرأ :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ﴾ الآية.
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ٤ ".
وذكر الفعلَ في قوله :﴿ وجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ ؛ لأنه بمعنى الدلائل.
وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً.
والتفرق والافتراق واحد، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس -، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا٥ " فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ، وهو أعلم بلغة الصحابة، وبكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي : وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام، وبالتثقيل في الأبدان ".
قال ثعلب :" أخبَرَني ابن الأعرابيّ، قال : يقال : فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا ". فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، وكلام أبي برزة يرد هذا.
وقال بعضهم :﴿ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ﴾ معناهما مختلف.
فقيل : تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين.
وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ.
وقيل : تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ.
قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ يعني : بسبب تفرُّقهم.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٦٢) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٦٢)..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٤/١٠٧)..
٤ أخرجه الترمذي (٤/٤٠٤) كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٥) والحاكم (١/١١٤) والبغوي في "شرح السنة" (٥/٥٥٧) عن عمر بن الخطاب مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..

٥ أخرجه أبو داود ٢/٢٩٥ في البيوع (٣٤٥٧) وابن ماجه مختصرا ٢/٧٣٨ في التجارات (٢١٨٢) ونقل الزيلعي في نصب الراية ٤/٣ قول المنذري في مختصره: ورجاله ثقات..
في ناصب «يَوْمَ» أوجه:
أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمنه «لَهُمْ» والتقدير: وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه.
وقيل: إن العامل فيه مضمر، تدل عليه الجملة السابقة، والتقدير: يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه.
وقيل: اعاملَ فيه «عَظِيمٌ» وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم.
وهذا التضعيف ضعيف؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى.
قال شهابُ الدين: «وهذا غير لازم»، قال: «وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم».
وقيل: إن العامل «عَذَابٌ». وهذا ممتنع؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.
وقيل: إنه منصوب بإضمار «اذكر».
وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو نُهَيك، وأبو رُزَيْن العقيليّ: «تِبْيَضُّ» و «تِسْوَدُّ» - بكسر التاء - وهي لغة تميم.
وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن، وأبُو الجَوْزَاءِ: تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ.

فصل


نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠]، وقوله: ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٥]، وإذا عرفت هذا، ففي هذا البياض والسواد وجهان:
453
الأول: قال أبو مسلم: إن البياض عبارة عن الاستبشار، والسواد عبارة عن الغم، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً﴾ [النحل: ٥٨]. ويقال: لفلان عندي يَدٌ بيضاء.
وقال بعضهم في الشيب: [الخفيف]
١٥٦٣ - يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون
فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي عَنْ عَيَانِي، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ
بِسَوَادِ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ
وتقول العرب - لمن نال بغيته، وفاز بمطلوبه -: ابيضَّ وجهه، ومعناه: الاستبشار والتهلل، ويقال - لمن وصل إليه مكروه -: ارْبَدَّ وجهه، واغبرَّ لونُه، وتغيرت صورته، فعلى هذا معنى الآية: إن المؤمن مستبشر بحسناته، وبنعيم الله، والكافر على ضد ذلك.
الثاني: أن البياض والسواد يحصلان حقيقة؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يصرفه، فوجب المصير إليه، ولأبي مسلم أن يقول: بل معنا دليل يصرفه، وهو قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨ - ٤١]، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن، وإما كافر، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره، قالوا: ويؤيده قوله تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٣٨ - ٤٢].
وأجاب القاضي: بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، فذكرهما منكرين، وذلك لا يفيد العموم، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين:
الأول: أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيدخل الكل فيه.
الثاني: أنه قال: ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، فجعل موجب العذاب هو الكفر، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا.
قال الزمخشري: هم المنافقون، آمنوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
454
وقال عكرمة: هم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يُبْعَث، فلما بُعِثَ كفروا به.
قوله: ﴿أكَفَرْتُمْ﴾ هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب «أما»، وحذف الفاء مع القول مطرد، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً، كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤].
وقوله: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ﴾ [الزمر: ٣]، وقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ [البقرة: ١٢٧]، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة.
كقوله: [الطويل]
١٥٦٤ - فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ
أي: فلا قتال.
وقال صاحب «أسرار التنزيل» : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم: لما حذف يقال: حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ [الجاثية: ٣١]، فحذف يقال، ولم يحذف الفاء، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله: ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: ﴿أَكَفَرْتُم﴾ ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً، ثم يجعلون له جواباً واحداً، كما في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]، فقوله: ﴿فلا خوف عليهم﴾ جواب للشرطين معاً، وليس «أفلم تكن آياتي» جواب «إما» بل الفاء عاطفة على مقدَّر، والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي؟
قال أبو حيان: وهو كلام أديب لا كلام نحويّ، أما قوله: قد اعترض على النحاة، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار: فيُقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فَحْوَى الخطابِ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه.
وأما ما اعترض به من قوله: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي﴾ [الجاثية: ٣١] وأنهم قدروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في «أفَلَمْ» ليست فاء «فيقال» التي هي جواب «أما» - حتى يقال: حذف «يقال» وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب «أما» و «يقال» بعدها - محذوف، وفاء «أفلم» يحتمل وجهين:
455
أحدهما: أن تكون زائدة.
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر: [الطويل]
١٥٦٥ - يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ وَيَحْدُثُ نَاسٌ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ
أي: صغير يكبر، وقول الآخر: [الكامل]
١٥٦٦ - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ
أي: تركت، وقول زُهير: [الطويل]
١٥٦٧ - أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
يريد ثم إذا.
وقال الأخفش: «وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد، يريدون: أخوك وجد».
والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، والتقدير: فيقال لهم ما يسوؤهم، «أفلم» تكن آياتي، ثم اعتني بحرف الاستفهام، فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ [يوسف: ١٠٩] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه.. إلى آخر أفعال الوضوء، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة، وإنما هي مفسِّرة للوضوء، كذلك تكون في ﴿أفلم تكن آياتي تتلى عليكم﴾ مفسرة للقول الذي يسوؤهم.
وقوله: فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: «تذوقوا»، أي: تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون، من قوله: «فيقال لهم» ؛ لوجود هذه الفاء في «أفلم تكن»، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل؛ وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب: «أما» هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه، وأما تقديره: أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو، و «ثم» إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة، لكن اعتني بالاستفهام، فقدم على حرف العطف - كما ذهب
456
إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي، لا بدّ من إذمار القول، وتقديره: فيقال: أاهملتكم؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب «أما»، وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة.
وقول هذا الرجل: فوعق ذلك جواباً له ولقوله: «أكفرتم» يعني: أن «فذوقوا العذاب» جواب ل «أما» ولقوله: «أكفرتم» والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.
وأما قول هذا الرجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً.
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ [البقرة: ٣٨] وزعمه أن قوله تعالى: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]. انتهى.
والهمزة في «أكَفَرْتُمْ» للإنكار عليهم، والتوبيخ لهم، والتعجُّب من حالهم.
وفي قوله: «أكَفَرْتُمْ» نوع من الالتفات، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب، وذلك أن قوله: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾ في حكم الغيبة، وقوله - بعد ذلك «أكَفَرْتُمْ» خطاب مواجهة.
قوله: ﴿فَذُوقُوا﴾ من باب الاستعارة، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق.
وقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ الباء سببية، و «ما» مصدرية، ولا تكون بمعنى: الذي؛ لاحتياجها إلى العائد، وتقديره غير جائز، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه.
فإن قيل: إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان.
فالجواب: أن الواو للجمع لا للترتيب، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة، لا ابتداء العذاب، فابتدأ بذكر أهل الثواب، لأنهم أشرف، ثم ختم بذكرهم، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب، كما قال: ﴿سبقت رحمتي غضبي﴾، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب، وختم بذكرهم.
457
قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
قال ابنُ عباس: هي الجنة.
قال المحققون: هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل، والترك سواء، يمتنع منه الفعل، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة، لم تحصل منه الطاعة، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته، وبكرمه، لا باستحقاقنا.
قرأ أبو الجزاء، وابنُ يَعْمُرَ: اسْوَادَّتْ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما: تبياض، وتسوادُّ، وهذا قياسها، وأصْل «افْعَلَّ» هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك «اعورَّ واسود واحْمَرَّ» - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ، ولا معتل اللام كألْمَى، وأن يكون للمطاوعة، وندر نحو انقضَّ الحائط، وابْهَارَّ الليل، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ، ولا لون، وندر - أيضاً - ارْعَوَى، فإنه معتل اللام، مطاوع لرعوته - بمعنى، كففته - وليس دالاًّ على عيب، ولا لون، وأما دخول الألف في «افْعَلَّ» هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره، فإذا قلتَ: اسوادَّ وجْهُه، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه، وإذا قلت: اسوادَّ، دل على حدوثه، هذا هو الغالب، وقد يُعْكَس، قال تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٤]- فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال: ﴿تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ﴾ [الكهف: ١٧] القصد به العروض لازورار الشمس، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة.

فصل


قال بعض المفسرين: بياض الوجوه وسوادها، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة.
وقيل: عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه.
قيل: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه، فرأى حسناته استبشر، ابيضَّ وجْهُه، وإذا قرأ الكافر كتابَه، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه.
458
وقيل: إن ذلك عند قوله تعالى: ﴿وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون﴾ [يس: ٥٩].
قيل: يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ.
قوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أن الجارَّ متعلق ب «خالِدُونَ»، و «فِيهَا» تأكيد لفظي للحرف، والتقدير: فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً، إلا بإعادة ما دخل عليه، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ.
كقوله: [الرجز]
١٥٦٨ - حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيت.
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر: [الوافر]
١٥٦٩ - فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما.
كقوله: [الطويل]
١٥٧٠ - فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب، مثل: نَعَمْ نَعَمْ، وبلى بلى، ولا لا.
والثاني: أن قوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ : خبر لمبتدأ مُضْمَر، والجملة - بأسْرها - جواب: «أما» والتقدير: فهم مستقرون في رحمة الله، وتكون الجملة - بعده - من قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب.
459
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: كيف موقع قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ بعد قوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ ؟
قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظنعون عها، ولا يموتون.
فإن قيل: الكُفَّار مخلَّدون في النار، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟
فالجواب: أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة، وختم بهم، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه، بل قال: ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه، فقال: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود، ونصَّ عليه في جانب الرحمة، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، فقال: ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته، فقال: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ ثم قال - في آخر الآية -: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨]، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب.
460
قوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
قال ابنُ عباس : هي الجنة. ٩
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل، والترك سواء، يمتنع منه الفعل، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة، لم تحصل منه الطاعة، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة ؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته، وبكرمه، لا باستحقاقنا.
قرأ أبو الجوزاء، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ، وابياضَّتْ - بألف١٠ - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض، وتسوادُّ، وهذا قياسها، وأصْل " افْعَلَّ " هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك " اعورَّ واسود واحْمَرَّ " - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ، ولا معتل اللام كألْمَى، وأن يكون للمطاوعة، وندر نحو انقضَّ الحائط، وابْهَارَّ الليل، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ، ولا لون، وندر - أيضاً - ارْعَوَى، فإنه معتل اللام، مطاوع لرعوته - بمعنى، كففته - وليس دالاًّ على عيب، ولا لون، وأما دخول الألف في " افْعَلَّ " هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه، وإذا قلت : اسوادَّ، دل على حدوثه، هذا هو الغالب، وقد يُعْكَس، قال تعالى :﴿ مُدْهَامَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٦٤ ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال :﴿ تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ﴾ [ الكهف : ١٧ ] القصد به العروض لازورار الشمس، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر ؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة.

فصل


قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة.
وقيل : عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه.
قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه، فرأى حسناته استبشر، ابيضَّ وجْهُه، وإذا قرأ الكافر كتابَه، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه.
وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى :﴿ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ يس : ٥٩ ].
قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ.
قوله :﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أن الجارَّ متعلق ب " خالِدُونَ "، و " فِيهَا " تأكيد لفظي للحرف، والتقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً، إلا بإعادة ما دخل عليه، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ.
كقوله :[ الرجز ]
حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ١١
كذا ينشدون هذا البيت.
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر :[ الوافر ]
فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ١٢
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما.
كقوله :[ الطويل ]
فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا١٣
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب، مثل : نَعَمْ نَعَمْ، وبلى بلى، ولا لا.
والثاني : أن قوله :﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ : خبر لمبتدأ مُضْمَر، والجملة - بأسْرها - جواب :" أما " والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله، وتكون الجملة - بعده - من قوله :﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب.
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله :﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ بعد قوله :﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ ؟
قلت : موقع الاستئناف، كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون، لا يظنعون عنها، ولا يموتون.
فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين ؟
فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب ؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة، وختم بهم، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه، بل قال :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ﴾، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه، فقال :﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود، ونصَّ عليه في جانب الرحمة، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، فقال :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته، فقال :﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ ثم قال - في آخر الآية- :
﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٨ ]، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب.
قوله: «تلْكَ» مبتدأ، ﴿آيَاتُ الله﴾ خبره، و «نَْلُوهَا» جملة حالية.
وقيل: ﴿آيَاتُ الله﴾ بدل من «تِلْكَ»، و «نَتْلُوها» جملة واقعة خبر المتبدأ، و «بِالحَقِّ» حال من فاعل «نتلُوهَا»، أو مفعولة، وهي حال مؤكدة؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة.
وقال الزَّجَّاج: «في الكلام حذف، تقديره: تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله».
قال أبو حيان: فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية، وهذا التقدير لا حاجة إليه؛ [إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه، تامٌّ بنفسه].
والإشارة ب «تِلْكَ» إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار، وتنعيم الأبرار، وإنما جاز إقامة «تلك» مقام هذه؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصارت كأنها بعدت، فقيل فيها: «تلك».
وقيل: لأن الله - تعالى - وعده أن يُنزل عليه كتاباً مشتملاً على ما لا بدّ منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك.
وقرأ العامة «نَتْلُوها» - بنون العظمة - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلَّم.
460
وقرأ أبو نُهَيْك: «يتلوها» بالياء - من تحت - وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون الفاعل ضمير الباري - تعالى - لتقدُّم ذكره في قوله: ﴿آيَاتُ الله﴾ ولا التفات في هذا التقدير، بخلاف قراءة العامة.
الثاني: أن يكون الفاعل ضمير جبريل.
قوله: ﴿بالحق﴾ فيه وجهان:
لأول: ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه.
الثاني: بالحق، أي: بالمعنى الحق؛ لأن معنى المتلُوِّ حَقّ.
قوله: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ اللام - في «لِلْعَالَمِينَ» - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف، وهو - في التقدير - ضمير الباري، والتقدير: وما الله يريد أن يظلم العالمين، فزيدت اللام، تقوية للعامل؛ لكونه فرعاً، كقوله: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦].

فصل


وقيل: معنى الكلام: وما الله يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض، ورُدَّ هذا بأنه لو كان المراد هذا لكان التركيب ب «من» أولى منه باللام، فكان يقال: ظلماً من العالمين، فهذا معنى ينبو عنه اللفظ. ونكر «ظلماً» ؛ لأنه في سياق النفي، فهو يعم كل أنواع الظلم، وحسن ذكر الظلم - هنا -، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة، وهو تعالى أكرم الأكرمين، فكأنه - تعالى يعتذر عن ذلك، فقال: إنهم إنما وقعوا في هذا العذاب بسبب أفعالهم.

فصل


قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح، لا من أفعاله، ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم، وقوله: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ نكرة في سياق النفي، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً، سواء كان منه أو من غيره، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم، وظلم بعضهم لبعض، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، قالوا: ويؤيده قوله - بعد ذلك -: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [آل عمران: ١٠٩] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين:
461
الأول: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح، استدل عليه بأن فاعل القبيح، إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو للعجز، أو للحاجة، وكل ذلك - على الله - محال؛ لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح.
الثاني: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه، كان لقائل أن يقولَ: إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - ك ان على خلاف إرادته، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً، وذلك محال.
فأجاب الله - تعالى - بقوله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي: أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً، ضعيفاً؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة.
وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده.
وقوله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السموات وما في الأرض.
وأجاب الجبائي: بأن قوله: «ولله» إضافة ملك، لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان. ويريدون أنه مملوكه، لا أنه مفعوله، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه، وتَمدُّحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب غلى نفسه الأفعال القبيحة، وأيضاً فقوله: ﴿مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض، وذلك من صفات الأجسام، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض.
وأجيب بأن هذه إضافة الفعل؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
وقوله: ﴿وإلى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه، لا لحكم غيره.
462
فصل
قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح، لا من أفعاله، ولا من أفعال عباده، ولا يفعل شيئاً من ذلك، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم، وقوله :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ نكرة في سياق النفي، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً، سواء كان منه أو من غيره، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد ؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم، وظلم بعضهم لبعض، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، قالوا : ويؤيده قوله - بعد ذلك - :﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [ آل عمران : ١٠٩ ] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين :
الأول : نه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح، استدل عليه بأن فاعل القبيح، إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو للعجز، أو للحاجة، وكل ذلك - على الله - محال ؛ لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح.
الثاني : أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه، كان لقائل أن يقولَ : إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - كان على خلاف إرادته، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً، وذلك محال.
فأجاب الله - تعالى - بقوله :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ أي : أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً، ضعيفاً ؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة.
وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده.
وقوله :﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السماوات وما في الأرض.
وأجاب الجبائي : بأن قوله :" ولله " إضافة ملك، لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان. ويريدون أنه مملوكه، لا أنه مفعوله، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه، وتَمدُّحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الأفعال القبيحة، وأيضاً فقوله :﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السماوات والأرض، وذلك من صفات الأجسام، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض.
وأجيب بأن هذه إضافة الفعل ؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
وقوله :﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه، لا لحكم غيره.
في «كان» هذه - ستة أقوال:
462
أحدها: أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: كان زيدٌ قائماً، وتصلح للدوام، كقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦]، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢]، فهي - هنا - بمنزلة: لم يزل، وهذا بحسب القرائن.
وقال الزمخشري: «كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ، على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾، وقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]. كأنه قيل: وُجِدتم خيرَ أمة».
قال أبو حيان: قوله: «لم يدل على عدم سابق»، هذا إذا لم يكن بمعنى: «صار»، فإذا كان بمعنى: «صار» دلت على عدم سابق، فإذا قلتَ: كان زيدٌ عالماً - بمعنى: صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم.
وقوله: ؛ «ولا على انقطاع طارئ»، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول: «هذا اللفظ يدل على العموم» ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم، بل يراد الخصوص.
وقوله: كأنه قيل: «وجتم خير أمة»، هذا يعارض قوله: إنها مثل قوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ ؛ لأن تقديره: وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة، وأن ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ حال، وقوله: ﴿وكان الله غفوراً رحيماً﴾ لا شك أنها - هنا - الناقصة، فتعارضا.
قال شهابُ الدين: «لا تعرُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى، لا إعراب».
الثاني: أنها بمعنى: «صرتم»، و «كان» تأتي بمعنى: «صار» كثيراً.
كقوله: [الطويل]
١٥٧١ - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي: صارت فراخاً.
الثالث: أنها تامة، بمعنى: «وجدتم»، و ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ - على هذا منصوب على الحال، أي: وجدتم على هذه الحال.
الرابع: ؛ أنها زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة، وهذا قول مرجوح، أو غلط، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تزاد أولاً، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك.
463
الثاني: أنها لا تعمل في «خير» مع زيادتها.
وفي الثاني نظر، إذ الزيادة لا تنافي العمل، لما تقدم عند قوله: «وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله» ؟
الخامس: أنها على بابها، والمراد: كنتم في علم الله، أو في اللوح المحفوظ، أو في الأمم السالفة، مذكورين بأنكم خير أمة.
السادس: أن هذه الجملة متصلة بقوله: «ففي رحمة الله»، أي: فيقال لهم يوم القيامة: «كنتم خير أمة»، وهو بعيد جِدًّا.
قوله: ﴿أُخْرِجَتْ﴾ يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ؛ نعتاً ل «أمةٍ» - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب؛ نعتاً ل «خَيْر»، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان:
أحدهما: مراعاة ذلك الضمير السابق، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر.
الثانية: مراعاة ذلك الاسم الظاهر، فيبعد الضمير عليه منها غائباً، وذلك كقولك: أنت رجل يأمر بالمعروف، بالخطاب، مراعاة ل «أنت»، وبالغيبة، مراعاة للفظ «رجل»، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم؛ مراعاة ل «أنا» ويقول الحقّ، مراعاة لمرئٍ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥]، وقوله: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
وقول الشاعر: [الطويل]
١٥٧٢ - وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ
ولو قيل: - في الآية الكريمة -: أخْرِجْتُمْ؛ مراعاة ل «كُنْتُمْ» لكان جائزاً - من حيث
464
اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة ل «أمَّةٍ»، لا ل «خَيْرَ» ن لتناسب الخطاب في قوله: ﴿تَاْمُرُونَ﴾.
قوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أن تتعلق ب ﴿أُخْرِجَتْ﴾ ومعناه: ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي الحديث: «ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى».
الثاني: أنه متعلق ب «خَيْرَ» أي: أنتم خير الناس للناس.
قال أبو هريرة: معناه: ؛ كنتم خير الناس للناس؛ تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخلونهم في الإسلام.
وقال قتادة: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال، فهم يقاتلون الكفار، فيُدْخلونهم في الإسلام، فهم خير أمةٍ للناس.
والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ.
الثالث: أنه متعلِّق - من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، ب «تَأمُرُونَ» على أن مجرورَها مفعول به، فلما تقدم ضَعُفَ العامل، فَقُوِّيَ بزيادة اللام، كقوله: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] أي: إن كنتم تعبرون الرؤيا.
قوله: ﴿تَأْمُرُونَ﴾ في هذه الجملة أوجُهٌ:
الأول: أنها خبر ثان لِ «كُنْتُمْ»، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في «كُنْتُمْ»، ولو راعى الخبر لقال: يأمرون - بالغيبة، وقد تقدم تحقيقه.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال، قاله الراغب وابن عطية.
الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، وأتى بالخطاب لما تقدم، قاله الحوفي.
الرابع: أنها مستأنفة، بيَّن بها كونهم خير أمة، كأنه قيل: السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك: زيد كريم؛
465
يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف، ونَهْيَهُم عن المنكر، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب، وهذا أغرب الأوجه.

فصل


في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف، وذكر ثواب المطيعين، وعقاب الكافرين، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة، فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة، وإن كنتم منقادين للطاعات.
الثاني: أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] يعني: أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ يعني: أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس.
قال عكرمة، ومُقَاتِلٌ: نزلت في ابن مسعود، وأبَي بن كعب، ومُعَاذِ بن جبلٍ، وسالم مولي أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم: نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعوننا إليه. [فأنزل الله هذه الآية].
وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - أنه سمع النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ قال: «أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى» قال: هذا حديث حسن. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة.
وقال جويبر - عن الضَّحَّاك -: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وروي عن عمر بن الخطاب، قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ تكون لأولنا، ولا تكون لآخرنا.
466
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خَيْرُكم قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قال عمران بن حصين: لا أدري، أذَكَر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ - ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمَنُون، ويَشهدون ولا يُستشهَدون، ويَنْذِرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السمن».

فصل


قال القفال: أصل الأمة: الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، فأمة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به، والإقرار بنبوته، وقد يُقال - لكل من جمعته الدعوة - إنهم أمته، إلا أن لفظ: «الأمة» إذا أطْلِقَت وَحْدَها، وقع على الأول، إلا أنه إذا قيل: أجمعت الأمة على كذا، فهم منه الأول، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ» وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - يوم القيامة -: «أمتي، أمَّتِي»، فلفظ «الأمة» في هذه المواضع وأشباهها - يُفْهَم منه المُقِرُّون بنبوته، فأما أهل دعوته فإنهم إنما يُقال لهم: أمَّة الدعوة، ولا يطلق عليهم لفظ «الأمة» إلا بهذا الشرط.

فصل


احتج بعض العلماء بهذه الآية على أن إجماعَ الأمة حجة من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - قال: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٩] ثم قال - في هذه الآية: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، فوجب أن تكون - بحكم هذه الآية - هذه الأمة أفضل من تلك الأمة، الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، إذْ لو جاز - في هذه الأمة - أن تحكم بما ليس بحَقٍّ، لامتنع كونهم أفضل من الأمة التي تهدي بالحق؛ لأن المبطل لا يكون خيراً من الحَقِّ، وإذا ثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق كان إجماعهم حجة.
الثاني: أن الألف واللام في لفظ: «املعروف»، و «المنكر»، يفيدان الاستقرار، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكرٍ، ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقًّا، وصدقاً - لا محالة - فكان حُجَّةً.
467
فإن قيل: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟
والجواب: قال القفال: إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال -: لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان، واليد، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم.
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُقِرُّوا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و «لا إله إلا الله» أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال: فائدة: القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين، دخل فيه، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم، والنعيم المقيم.
فإن قيل: لم قدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات.
فالجواب: أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية.
فإن قيل: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالنبوة، مع أنه لا بُدَّ منه؟
فالجواب: أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر
468
المعجزة، على وفق دعواه صادقاً؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهد ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان الاقتصار على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة.
قوله: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: لو آمن أهل الكتاب بهذا الذي حصلت به صفة الخيريَّةِ لأتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لحصلت هذه الخيرية - أيضاً - لهم.
الثاني: أن أه لالكتاب إنما آثروا دينهم، حُبًّا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيراً مما قَنِعُوا به.
قوله: ﴿لَكَانَ خَيْرًا﴾ اسم «كان» ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم: «من كذب كان شراً له» أي: كان الكذب شراً له، كقوله تعالى: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨].
وقول الشاعر: [الوافر]
١٥٧٣ - إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ وَخَالفَ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ
أي: جرى إليه السفه.
والمفضل عليه محذوف، أي: خيراً لهم من كُفْرهم، وبقائهم على جَهْلهم.
وقال ابن عطية: ولفظة «خير» صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظه «خير» من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة «أفضل»، و «أحب» وما جرى مجراها.
قال أبو حيان: «وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك؛ إذ الخيرية مطلقة، فتحصل بأدْنى مشاركة».
قوله: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ جملة مستأنفة، سِيقت للإخبار بذلك.
قال الزمخشريّ: «هما كلامان واردان على طريق الاستطراد، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف».
469
الألف واللام في قوله: ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ للعهد، لا للاستغراق، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من «الليهود»، والنجاشي ورَهْطه من «النصارى».
فإن قيل: الوصْف إنما يُذْكَر للمبالغة، فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟
فالجواب: أن الكافر قد يكون عَدْلاً في دينه، وفاسقاً في دينه، فالفاسق في دينه يكون مردوداً عند جميع الطوائف؛ لأن المسلمين لا يقبلونه لكفْره، والكفّار لا يقبلونه لفِسْقِه عندهم، فكأنه قيل: أهل الكتاب فريقان: منهم مَنْ آمن، والذين لم يؤمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يُقْتَدَى بهم ألبتة عند أحدٍ من العقلاء.
470
لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠]، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم.
قال مقاتل: إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم، فنزلت هذه الآية.
قوله: ﴿إِلاَّ أَذًى﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متصل، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم: عيسى ابنُ الله، وعُزَيْر ابن الله، وإن الله ثالث ثلاثة، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين.
الثاني: أنه منقطع، أي: لن يضروكم بقتال وغَلَبَة، لكن بكلمة أذًى ونحوها.
قال بعض العلماء: وهذا بعيد، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين، والغم ضرر. فالتقدير: لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى: لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً.
470
قوله: ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار﴾ هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا، وخُذلوا، ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي: إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة، ولا قوة - ألبتة -، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار﴾ [الحشر: ١٢]، وقوله: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد﴾ [آل عمران: ١٢]، وقوله: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٤ - ٤٥]، وكل ذلك وَعْد بالفتح، والنصر، والظفر، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة.
منها: أن المؤمنين آمنون من ضررهم.
ومنها: أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا.
ومنها: أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام.
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.
فإن قيل: هَبْ أن اليهودَ كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات.
فالجواب: أنها مخصوصة باليهود، لما رُوِيَ في سبب النزول.
وقوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ﴾ كلام مستأنف.
فإن قيل: لِمَ كان قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ مستأنفاً، ولم يُجْزَم، عطفاً على جواب الشرط؟
فالجواب: أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا، أو لم يقاتلوا.
وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه ألبتة، قال: لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه، و «ثم» يقتضي التراخي، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع «ثم».
وهذا فاسد جدًّا؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨]، ف «لا يكونوا» مجزوم نسقاً على «يستبدل» الواقع جواباً للشرط، والعاطف «ثُمَّ».
و «الأدبار» مفعول ثان لِ «يُوَلُّوكُمْ» ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ.
فإن قيل: ما الذي عطف عليه قوله: ﴿لاَ يُنصَرُونَ﴾ ؟
فالجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون. وإنما ذكر لفظ «ثُمَّ»، لإفادة معنى التراخي في
471
المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ يعني: أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة، بهم، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة. والذلة: هي الذل، وفي المراد بها أقوال.
فقيل: إنها الجزية؛ وذلك؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار.
وقيل: أن يُحارَبُوا، ويقْتَلوا، وتقسَّم أموالُهم، وتُسْبَى ذَراريهم، وتُملك أراضيهم - كقوله: ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ [البقرة: ١٩١]، ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله﴾ والمراد: إلاَّ بعهد من الله، وعِصْمة، وذمام من الله ومن المؤمنين؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام.
وقيل: إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد، ذليلون، مهينون.
قوله: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾، «أيْنَمَا» اسم شرط، وهي ظرف مكان، و «ما» مزيدة فيها، ف «ثُقِفُوا» في محل جزم بها، وجواب الشرط إما محذوف - أي: أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا، دلَّ عليه قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾، وإما نفس «ضُرِبَتْ»، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه، ف ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ لا محل له - على الأول، ومحله جزم على الثاني.
قوله: ﴿إلاَّ بِحَبْلٍ﴾ هذا الجار في محل نَصْب على الحال، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة.
قال الزمخشري: «وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال، والمعنى: ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، فهو استثناء متصل».
قال الزجّاج والفرَّاء: هو استثناء منقطع، فقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار.
كقول حميد بن ثور الهلالي: [الطويل]
472
أراد: أقبلت بحبليها، فحذف الفعل؛ للدلالة عليه.
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ [النساء: ٩٢] قال: «لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنَّما في الكلام محذوف، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر، وتقديره: - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل».
قال أبو حيان: «وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة، وهي: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين: منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل، والأسر، وسَبي الذراري، واستئصال أموالهم؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة -: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [البقرة: ٦١]، فلم يستثنِ هناك».
قال محمد بن جرير الطبري: «قد ضُرِبَت الذلة على اليهود، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله﴾ تقديره: لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس».
قال ابن الخطيب: «وهذا ضعيف؛ لأن حَمْلَ لفظ» إلاَّ «على» لكن «خلاف الظاهر، وأيضاً: إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من الله، وحبل من الناس، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه، والإشمار خلاف الأصل، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك، كان المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وجه آخر، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني: القتل، والأسْر، وسَبْي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم».
وقال بعضهم الباء - في قوله: «بحبل» - بمعنى: «مع»، كقولك: اخرج بنا نفعل كذا - أي: معنا، والتقدير: إلا مع حبل من الله.

فصل


تقدم الكلام في أن المراد بالحبل: العهد.
473
فإن قيل: إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس، وذلك يقتضي المغيرة.
فالجواب: قال بعضهم: حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك، لكان ينبغي أن يقال: أو حبل من الناس.
وقال آخرون: المراد بكلا الحبلين: العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وهذا عندي - أيضاً - شعيف، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان:
أحدهما: الذي نصَّ الله عليه، وهو أخْذ الجزية.
الثاني: الذي فُوض إلى رَأي الإمام، فيزيد فيه تارة، وينقص بحسب الاجتهاد، فالأول: هو المُسَمَّى بحبل الله، والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين.
قوله: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ تقدم أن معناه: مَكَثُوا، ولبثوا، وداموا في غضب الله، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه: تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار﴾ [الحشر: ٩].
قوله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾.
قال الحسن، وأكثر المفسرين: المسكنة: الجزية؛ لأنه لم يستثنها، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية.
وقال آخرون: المسكنة: هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر، وإن كان موسراً.
وقال آخرون: هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين، فيصيروا مساكين.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة.
فإن قيل: فما الحكمة في قوله: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ﴾، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن علة الذلة، والغضب، والمسكنة، هي: الكُفر، وقتل الأنبياء، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي: المعصية؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب، وتزايدت
474
ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان، وحصلت ظلمة الكُفْر، وإليه أشار بقوله: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]، فقوله: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ﴾ إشارة إلى العلة.
ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن، هل تُقْبَل شهادته؟ - قال: ذلك رجل سوء؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض، وإذ وقع في تَرْك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر.
الثاني: أن يُحْمَل قوله: ﴿كانوا يكفرون بآيات الله﴾ على أسلافهم، وقوله: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ﴾ في الحاضرين في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلا يلزم التكرار، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين.
475
قوله :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ يعني : أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة بهم، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم : ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة. والذلة : هي الذل، وفي المراد بها أقوال.
فقيل : إنها الجزية٢ ؛ وذلك ؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار.
وقيل : أن يُحارَبُوا، ويقْتَلوا، وتقسَّم أموالُهم، وتُسْبَى ذَراريهم، وتُملك أراضيهم - كقوله :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ]، ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ ﴾ والمراد : إلاَّ بعهد من الله، وعِصْمة، وذمام من الله ومن المؤمنين ؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام.
وقيل : إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد، ذليلون، مهينون.
قوله :﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ﴾، " أيْنَمَا " اسم شرط، وهي ظرف مكان، و " ما " مزيدة فيها، ف " ثُقِفُوا " في محل جزم بها، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا، دلَّ عليه قوله :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾، وإما نفس " ضُرِبَتْ "، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه، ف ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ لا محل له - على الأول، ومحله جزم على الثاني.
قوله :﴿ إلاَّ بِحَبْلٍ ﴾ هذا الجار في محل نَصْب على الحال، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة.
قال الزمخشري :" وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، فهو استثناء متصل ".
قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار.
كقول حميد بن ثور الهلالي :[ الطويل ]
١٥٧٤ - رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا، فَصَدَّتْ مَخَافَةً وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ، فَرُوقُ
رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا، فَصَدَّتْ مَخَافَةً وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ، فَرُوقُ٣
أراد : أقبلت بحبليها، فحذف الفعل ؛ للدلالة عليه.
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾ [ النساء : ٩٢ ] قال :" لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنَّما في الكلام محذوف، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر، وتقديره :- في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل "
قال أبو حيان٤ :" وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً ؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة، وهي : فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل، والأسر، وسَبي الذراري، واستئصال أموالهم ؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة - :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٦١ ]، فلم يستثنِ هناك ".
قال محمد بن جرير الطبري :" قد ضُرِبَت الذلة على اليهود، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله :﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ ﴾ تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس ".
قال ابن الخطيب :" وهذا ضعيف ؛ لأن حَمْلَ لفظ " إلاَّ " على " لكن " خلاف الظاهر، وأيضاً : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله، وحبل من الناس، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه، والإضمار خلاف الأصل، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك، كان المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وجه آخر، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني : القتل، والأسْر، وسَبْي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم ".
وقال بعضهم الباء - في قوله :" بحبل " - بمعنى :" مع "، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا - أي : معنا، والتقدير : إلا مع حبل من الله.

فصل


تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد.
فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس، وذلك يقتضي المغايرة.
فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان المراد ذلك، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس.
وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن ؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب : وهذا عندي - أيضاً - ضعيف، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان :
أحدهما : الذي نصَّ الله عليه، وهو أخْذ الجزية.
الثاني : الذي فُوض إلى رَأي الإمام، فيزيد فيه تارة، وينقص بحسب الاجتهاد، فالأول : هو المُسَمَّى بحبل الله، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين.
قوله :﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ تقدم أن معناه : مَكَثُوا، ولبثوا، وداموا في غضب الله، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ ﴾ [ الحشر : ٩ ].
قوله :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾.
قال الحسن، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية ؛ لأنه لم يستثنها، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية.
وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر، وإن كان موسراً ٥.
وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين، فيصيروا مساكين ٦.
قوله :﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة.
فإن قيل : فما الحكمة في قوله :﴿ ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ ﴾، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد ؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن علة الذلة، والغضب، والمسكنة، هي : الكُفر، وقتل الأنبياء، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي : المعصية ؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب، وتزايدت ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان، وحصلت ظلمة الكُفْر، وإليه أشار بقوله :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٤ ]، فقوله :﴿ ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ ﴾ إشارة إلى العلة.
ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن، هل تُقْبَل شهادته ؟ - قال : ذلك رجل سوء ؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض، وإذ وقع في تَرْك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر.
الثاني : أن يُحْمَل قوله :﴿ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ على أسلافهم، وقوله :﴿ ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ ﴾ في الحاضرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يلزم التكرار، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين.
الظاهر في هذه أنّ الوقف على «سَوَاءٌ» تام؛ فإن الواو اسم «ليس» و «سواء» خبر، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم.
ولامعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ١١٠]، فانتفى استواؤهم.
و «سواء» - في الأصل - مصدر، ولذلك وُحِّدَ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة.
قال أبو عبيدة: الواو في «لَيْسُوا» علامة جمع، وليست ضميراً، واسم «ليس» - على هذا - «أمة» و «قَائِمَةٌ» صفتها، وكذا «يَتْلُونَ»، وهذا على لغة «أكلوني البراغيث».
كقول الآخر: [المتقارب]
١٥٧٥ - يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي لِ أهْلِي، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ
قالوا: وهي لغة ضعيفة، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً، ونسبها بعضُهم
475
إلى شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآن مثلُها. وسيأتي تحقيقها في المائدة.
قال ابنُ عطية: وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ، وكأنه توهم أن اسم «ليس» هو ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ فقط، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها. والتقدير الذي يصح به المعنى: أي: ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِرَ، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس»، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس»، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة؛ لدلالة القسم الأول عليها؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر.
قال أبو ذُؤيب: [الطويل]
١٥٧٦ - دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا سَمِيعٌ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها؟
والتقدير: أم غي، فحذف الغَيّ؛ لدلالة ضِدِّه عليه.
ومثله قول الآخر: [الطويل]
١٥٧٧ - أرَاكَ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
أي أهم هممته أم غيره؟ فحذف؛ للدلالة، وهو كثير.
قال الفراء: «لأن المساواة تقتضي شيئين»، كقوله: ﴿سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد﴾ [الحج: ٢٥]، وقوله: ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ [الجاثية: ٢١].
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر؛ إذ الأصل: منهم أمة قائمة، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر.
والوجه أن يكون ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ جملة تامة، وقوله: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ﴾ جملة برأسها، وقوله: ﴿يَتْلُونَ﴾ جملة أخرى، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله: ﴿تَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ [آل عمران: ١١٠] مبيِّنة للخيريَّةِ.
ويجوز أن يكون ﴿يَتْلُونَ﴾ في محل رفع، صفة ل «أمَّةٌ».
476
ويجوز أن يكون حالاً من «أمَّةٌ» ؛ لتخصُّصِها بالنعت.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمة»، وعلى كونها حالاً من «أمَّةٌ» يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار.
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار، لوقوعه خبراً ل «أمَّة».

فصل


قال جمهور العلماء: المراد بأهل الكتاب: مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام. اليهود: ما آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا شِرارُنا، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم، لقد كفروا، وخسروا، فأنزل الله هذه الآية؛ لبيان فضلهم.
وقيل: لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية.
قال الثوريّ: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء.
وعن عطاء، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم، كانوا على دين عيسى، وصدقوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، منهم أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، ومحمد بن مسلمة، وأبو قيس صِرْمة بن أنس، كانوا موحِّدين، يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية، حتى بعث الله لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصدَّقوه، ونصروه.
وقال آخرون: المراد بأهل الكتاب: كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: ٣٢]، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخَّر صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ» وقرأ هذه الآية.
477
قال القفال: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا.
ولا يبعد - أيضاً - أن يقال: المراد: كلّ مَنْ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمَّاهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، فكيف يستويان؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام، تأكيداً لما تقدم من قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] ونظيره قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨]، منهم ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله﴾ قيل: قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم.
وقال ابن عباس: مهتدية، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه، ولم يتركوه.
قال الحسن: ثابتة على التمسُّك بالدين الحق، ملازمة له، غير مضطربة، كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ [آل عمران: ٧٥].
قال مجاهد: «قَائِمَةٌ» أي: مستقيمة، عادلة - من قولك: أقمت العود - فقام بمعنى: استقام.
وقيل: الأمَّة: الطريقة، ومعنى الآية: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ﴾ أي: ذو أمة، ومعناه: ذو طريقة مستقيمة، والمراد ب ﴿آيَاتِ الله﴾ : القرآن، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته، وصفاته، والمراد هاهنا: الأول.
قوله: ﴿آنَآءَ الليل﴾ ظرف ل «يتلون»، والآناء: الساعات، واحده: أنَى - بفتح الهمزة والنون، بزنة عصا - أو إنَى بكسر الهمزة، وفتح النون، بزنة مِعًى، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي، أو إنْي - بالكسر والسكون، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو، بزنة جرو - فالهمزة في «آناء» منقلبة عن ياء، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير، نحو كساء.
قال القفال: كأن التأنِّيَ مأخوذ منه، لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الحديث أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة -: «آذيت وآنيت» أي: دافعت الأوقات. وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها.
478
ولا يجوز أن يكون «آناء الليل» ظرفاً لِ «قَائِمَةٌ».
قال أبو القباءِ: «لأن» قَائِمَةٌ «قد وُصِفَتْ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة»، وهذا على تقدير أن يكون «يَتْلُونَ» وَصْفاً لِ «قائمة»، وفيه نظر؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها، بل على الاستئناف للبيان المتقدم، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها، فهي صفة ل «أمَّةٌ»، لا لِ «قَائِمَةٌ» ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها، نحو: مررت برجل ناطقٍ فصيح، ففصيح صفة لناطق؛ لأن معناه لائق به، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل.
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب «قَائِمَةٌ» ما ذكرناه من استئناف جملته.
قوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يجوز أن يكون حالاً من فاعل «يَتْلُونَ» أي: يَتْلُونَ القرآن، وهم ساجدون، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا، قال عليه السلام «ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً، أو سَاجِداً»، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمَةٌ» قاله أبو البقاء.
وفيه ضعف؛ للاستئناف المذكور.
وقيل: المراد بقوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ : أنهم يصلون، والصلاة تسمى سجوداً، وركوعاً، وتسبيحاً، قال تعالى: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ [آل عمران: ٤٣]، وقال: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧]، والمراد: الصلاة.
وقيل: ﴿يَسْجُدُونَ﴾ أي: يخضعون لله؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [النحل: ٤٩].
ويجوز أن تكون مستأنفة، والمعنى: أنهم يقومون تارةً، ويسجدون تارةً، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله، ونظيره قوله: ﴿وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ [الفرقان: ٦٤].
قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ إمَّا استئناف، وإما أحوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً؛ دلالةً على الاستقرار، وصُدِّرَتْ بضميرٍ، وثَنَّى عليه جملة فعلية، ليتكرر الضمير، فيزداد بتكراره توكيداً.
وجيء بالخبر مضارعاً؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة.
ويحتمل أن يكون ﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ خبراً ثانياً، لقوله: «هُمْ»، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً.
479

فصل


اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد، وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد.
قوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾.
قال ابن عباس: يؤمنون بتوحيد الله، ونبوة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينهون عن الكفر.
وقيل: يأمرون بما ينبغي، وينهون عَمَّا لا ينبغي.
وقوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ فيه وجهان:
أحدهما: يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ.
فإن قيل: أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ» فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة؟
فالجواب: أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي، قال تعالى:
﴿وسارعوا
إلى
مَغْفِرَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ﴾
[آل عمران: ١٣٣]، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾ [طه: ٨٤].
الوجه الثاني: يعملونها غَيْرَ متثاقلين.
قوله: ﴿وأولئك مِنَ الصالحين﴾ أي: الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، وهذا غاية المدح من وجهين:
الأول: أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء، فقال - بعد ذكر إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل وغيرهم: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين﴾ [الأنبياء: ٨٦]، وقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التحريم: ٤].
480
الثاني: أن الصلاح ضِدُّ الفساد، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات.
قوله: ﴿مِنَ الصالحين﴾ يجوز في «من» أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر -.
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ، فتبينه هذه.
قوله: ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ﴾.
قرأ الأخوان وحَفْص: «يَفْعَلُوا» و «يُكْفروهُ» - بالغيبة -.
والباقون بالخطاب.
الغيب مراعاة لقوله: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾، فجرى على لفظ الغيبة، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾.
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله: ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ إلى آخره؛ إلى خطابهم، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس. ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله: ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾.

فصل


اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب إيمانكم، قال الله تعالى: بل فازوا بالدرجات العُظْمَى، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة.
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ [البقرة: ١٩٧]، وقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، وقوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله﴾ [المزمل: ٢٠]، ونقل عن أبي عمرو: أنه كان يقرأها بالقراءتين.
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين:
الأول: أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً، فقال: ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨]، وسمى منعه كفراً.
481
الثاني: أن الكفر - في اللغة -: الستر. فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر.
فإن قيل: «شكر» و «كفر» لا يتعديان إلا إلى واحد، يقال: شكر النعمة، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل، والثاني: الهاء في «يكفروه» ؟.
فقيل: إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع، فكأنه قيل: فلن يُحْرَموه، ولن يُمْنَعُوا جزاءه.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾ واسم «الله» يدل على عدم العجز، والبخل، والحاجة؛ لأنه إله جميع المحدثات، وقوله: «عَلِيمٌ» يدل على عدم الجَهْل، وإذا انتفت هذه الصفاتُ، امتنع المنع من الجزاء؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور.
وقوله: ﴿بِالمُتَّقِينَ﴾ - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
482
قوله :﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ إمَّا استئناف، وإما أحوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً ؛ دلالةً على الاستقرار، وصُدِّرَتْ بضميرٍ، وثَنَّى عليه جملة فعلية، ليتكرر الضمير، فيزداد بتكراره توكيداً.
وجيء بالخبر مضارعاً ؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة.
ويحتمل أن يكون ﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ خبراً ثانياً، لقوله :" هُمْ "، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً.

فصل


اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد، وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله :﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد.
قوله :﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ﴾.
قال ابن عباس : يؤمنون بتوحيد الله، ونبوة صلى الله عليه وسلم، وينهون عن الكفر.
وقيل : يأمرون بما ينبغي، وينهون عَمَّا لا ينبغي.
وقوله :﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ.
فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم :" الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ١ " فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة ؟
فالجواب : أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي، قال تعالى :﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق ؛ لقوله تعالى :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [ طه : ٨٤ ].
الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين.
قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، وهذا غاية المدح من وجهين :
الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء، فقال - بعد ذكر إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل وغيرهم :﴿ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٦ ]، وقال :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ التحريم : ٤ ].
الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات.
قوله :﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ يجوز في " من " أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر -.
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس، وفيه نظر ؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ، فتبينه هذه.
١ أخرجه البيهقي (١٠/١٠٤) وأبو يعلى (٧/٢٤٨) رقم (٤٢٥٦) وأبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" وأحمد بن منيع والحارث كما في "المطالب العالية" (٣/٣٥) رقم (٢٨١٢) عن أنس بن مالك.
وذكره الهيثمي "مجمع الزوائد" (٨/١٩) وقال رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. وله شاهد من حديث سهل بن سعد.
أخرجه الترمذي في "البر والصلة" (٢٠١٣) باب ما جاء في التأني والعجلة بلفظ: العجلة من الشيطان والأناة من الله.
وقال: حديث حسن..

قوله :﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ﴾.
قرأ الأخوان وحَفْص :" يَفْعَلُوا " و " يُكْفروهُ " – بالغيبة-.
والباقون بالخطاب. ١
الغيب مراعاة لقوله :﴿ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾، فجرى على لفظ الغيبة، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور ؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾.
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله :﴿ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾ إلى آخره ؛ إلى خطابهم، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؛ ليزيد في التأنيس. ويدل على ذلك قراءة الأخوين ؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله :﴿ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾.

فصل


اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى، فالمقصود تعظيمهم ؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة.
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقوله :﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [ المزمل : ٢٠ ]، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين٢.
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين :
الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً، فقال :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ]، وسمى منعه كفراً.
الثاني : أن الكفر - في اللغة - : الستر. فسمي منع الجزاء كُفْراً ؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر.
فإن قيل :" شكر " و " كفر " لا يتعديان إلا إلى واحد، يقال : شكر النعمة، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل، والثاني : الهاء في " يكفروه " ؟.
فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه، ولن يُمْنَعُوا جزاءه.
ثم قال :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ واسم " الله " يدل على عدم العجز، والبخل، والحاجة ؛ لأنه إله جميع المحدثات، وقوله :" عَلِيمٌ " يدل على عدم الجَهْل، وإذا انتفت هذه الصفاتُ، امتنع المنع من الجزاء ؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور.
وقوله :﴿ بِالمُتَّقِينَ ﴾ - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
١ انظر: السبعة ٢١٥، والكشف ١/٣٥٤، والعنوان ٨٠، والحجة ٣/٧٣، وحجة القراءات ١٧٠، ١٧١، وإعراب القراءات ١/١١٧، ١١٨، وشرح شعلة ٣٢٠، وشرح الطيبة ٤/١٦٣، وإتحاف ١/٤٨٦..
٢ انظر: السابق..
لمَّا وصف المؤمنين بالصفاتِ الحَسَنة، أتبعه بوعيد الكُفَّار، ليجمع بين الوعدُ والْوَعيد، والترغيب والترهيب.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: يريد قريظة والنضير؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال، لقوله تعالى: في سورة البقرة ﴿تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٤١].
وقيل: نزلت في مشركي قريش؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله.
وقيل: نزلت في أبي سفيان؛ فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بَدر وأحد.
وقيل: إنها عامة في جميع الكفار؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، ويعيرُون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق، لما تركه ربه في الفقر والشدة.
فالأولون قالوا: إن الآية مخصوصة، وهؤلاء قالوا: إن اللفظ عام، ولا دليلَ يوجب التخصيص، وخص الأولاد، لأنهم أقرب أنساباً إليهم.
واحتجَّ أهلُ السنة بقوله: ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ عَلَى أن فُسَّاق أهل الصلاة لا يَبقون في النار أبداً؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر، فيقال: أولئك أصحاب زيد، لا غيرهم، ولما أفادت معنى: «الحصر» ثبت أن الخلودَ في النار ليس إلاَّ ل «الكفار».
لمَّا بيَّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئاً، فربما أنفقوها في وجوه الخير، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله، فأزال الله تعالى - بهذه الآية - ذلك الخاطر، وبَيَّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات.
والمثل: الشبه الذي يصير كالعلم؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي «ينفقونه». وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.
قوله: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾ خبر المبتدأ، وعلى هذا الظاهر - أعني: تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي: الزرع - لا بالريح، وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
أحدها: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ﴾ وهذا اختيار الزمخشري.
ثانيها: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذكر أحد المشبَّهين، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره، كما مر في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١]، وهو اختيار ابن عطية، قال: «وهذا غاية البلاغة والإعجاز».
وثالثها: أنه على حذف مضاف، إمَّا من الأول، تقديره: مثل مهلك ما ينفقونه، وإما من الثاني، تقديره: كمثل مهلك ريح، وهذا الثاني أظهر؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح، وليس المعنى عليه، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه.
وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب «مهلك» اسم مصدر، أي: مثل إهلاك ما ينفقون، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل «رِيح» تقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
وقيل: التقدير: مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث.
وقال ابن الخطيب: «لعل الإشارة في قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جَمْع العساكر عليه، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار، وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث».
وهذا فيه نظر؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ، حتى تحبطه النفقة المذكورة، قال
483
تعالى:
﴿وَقَدِمْنَآ
إلى
مَا
عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾
[الفرقان: ٢٣].
وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا: أهل الكتاب، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وإن كان المراد: المشركين، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥].
ويجوز في «ما» أن تكون موصولة اسمية، وعائدها محذوف - أي: مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

فصل


اختلفوا في هذا الإنفاق - هاهنا - فقيل: هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] والمراد به: جميع أعمال الخير.
وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة.

فصل


وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة.

فصل


اختلفوا هل المراد - بهذه الآية - جميع الكفار، أو بعضهم؟.
فقيل: جميع الكفار؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر، وإن كان لمنافع الآخرة - كبناء الرباطات، والقناطر، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، ووجوه البر - يرجو بذلك الإنفاق خيراً، لم ينتفع به في الآخرة؛ لأن كفره يبطله، فكان كمن زرع زرعاً، وتوقع منه تقطعاً كثيراً، فأصابته الريح، فأحرقته، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣].
وقيل: المراد: بعض الكفار.
فقيل: أراد نفقات أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر وأحُد - على عداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال مقاتل: أراد نفقات اليهود على علمائهم؛ لأجل التحريف.
وقيل: إن المنافقين كانوا يُنفقون أموالَهم في سبيلِ الله، لكن على سبيل التَّقِيَّة، والخوف من المسلمين، مداراةً لهم.
484
قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ في محل جر، نعتاً ل «ريح»، ويجوز أن يكون ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ : جملة من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون «فيها» - وحده - هو الصفة، و «صِرٌّ» فاعل له - وجاز ذلك؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف: الإفراد، وهذا قريب منه.
والصِّرّ: قال ابْنُ عبَّاسٍ، وقَتَادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وأكثر أهل اللغة: إنه البرد الشديد، المحْرِق.
قال الشاعر: [البسيط]
١٥٧٨ - لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ
وقيل: الصِّرُّ بمعنى: الصرصر - وهو البرد -.
قالت ليلى الأخيلية: [الطويل]
١٥٧٩ - وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
مأخوذ من الشد والتعقيد، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا: لَزِمَه.
وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، وابْنُ الأنْبَارِي: هي السَّمُومُ الحَارَّة.
وقال الزجاج: الصَّرْصَر: صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ، يَصِرُّ، صَريراً - أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف، ومنه صرير الباب، والصرة: الصيحة، قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩].
وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ قال: فيها نار. وعلى القولين، فالمقصود من التشبيه حاصل؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع، وإذا عُرِف هذا، فإن قلنا: الصِّرّ: البَرْد الشديد، أو هو صوت النار، أو هو صوت الريح، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى: فيها قِرَّة صر - كما تقول: برد بارد - وحُذِفَ الوصوف،
485
وقامت الصفة مقامه، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة.
كقوله: [الوافر]
١٥٨٠ -...................... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
ومنه قوله: إن ضيعني فلان، ففي الله كافٍ، المعنى: الرحمن كافٍ، الله كافٍ، وهذا فيه بُعْد.
قوله: «أصَابَتْ» هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة ل «رِيح».
ولا يجوز أن يكون صفة ل «صر» ؛ لأنه مذكَّر، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار؛ لأنه قريب من المفرد، ثم بالجملة، هذا إن أعربنا «فِيهَا» - وحده - صفة، ورفعنا به «صِرٌّ»، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً، أو «صِرٌّ» مبتدأ، فهما جملة - أيضاً -.
قوله: ﴿ظَلَمُوا﴾ صفة ل «قوم»، والضمير في ﴿ظَلَمَهُمُ﴾ يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع، أو في غير وقته؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه؛ لأن الزرع - لا في موضعه، ولا في وقته - يضيع، ثم أصابته الريح الباردة، فكان أولى بالضياع، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم، فصار ضائعاً، والله أعلم.
وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره: أن يعود الضمير على المنفقين، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم، ولا لتبيين ظلمهم، بل لمجرد التشبيه.
وقوله: ﴿ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ العامَّة على تخفيف «لكن»، وهي استدراكية، و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدَّم، قُدِّم للاختصاص، أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة، لا يتخطاهم، ولأجل الفواصل - أيضاً -.
وقرأها بعضُهم مشدَّدة، ووجهها أن تكون «أنْفُسَهُمْ» اسمها، و «يَظْلِمُونَ» الخبر، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف، تقديره: ولكن أنفسهم يظلمونها، فحذف، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة، فلو ذكر مفعوله، لفات هذا الغرض.
وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به،
486
و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدم ل «يَظْلِمُونَ» كما تقدم والجملة خبر لها.
وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة.
كقوله: [الخفيف]
١٥٨١ - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ
على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة، مستشهداً بقوله - عليه السلام -: «إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون».
قال: تقديره: إنه، ويعزى هذا للكسائي.
وقد ردَّه بعضُهم، وخرَّج الحديثَ على زيادة «من» والتقدير: إن أشد الناس.
والبصريون لا يُجِيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش.
487
لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله: ﴿إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [آل عمران: ١٠٠].
قوله: ﴿مِّن دُونِكُمْ﴾ يجوز أن يكون صفةً ل «بِطَانَةً»، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة من غيركم.
وقدره الزمخشريّ: من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون.
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي، وجوَّز بعضُهم أن تكون «من» زائدة، والمعنى: دونكم في العمل والإيمان.
وبطانة الرجل: خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها، مشتقة من البطن، والباطن دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «النَّاسُ دثار، والأنْصَارُ شِعَار».
والشعَارُ: ما يلي الجسد من الثياب. ويقال: بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ، بُطُوناً، وبِطَانة.
قال الشاعر: [الطويل].
١٥٨٢ - أولَئِكَ خُلْصَانِي، نَعَمْ وَبِطَانَتِي وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع، وأصله من البطن، ومنه: بطانة الثوب غير ظهارته.
فإن قيل: قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً﴾ نكرة في سياق النفي، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار، وقد قال تعالى: ﴿لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة: ٨] فكيف الجمع فيهما.
فالجواب: أن الخاص مقدَّم على العام.
قوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ﴾ لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي، وهي أمور:
أحدها: قوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ يقال: ألا في الأمر، يَألُو فيه، أي: قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب «خَبَالاً» على وجوه:
488
أحدها: أنه مفعول ثانٍ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين.
قال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر، يألو فيه - أي: قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نُصْحاً، ولا آلوك جُهْداً، على التضمين، والمعنى: لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ.
الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، والأصل: لا يألونكم في خبال، أو في تخبيلكم، أو بالخبال، كما يقال: أوجعته ضرباً، وهذا غير منقاسٍ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث: أن ينتصب على التمييز، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية، والأصل: لا يألون خبالكم، أي: في خبالكم، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً، ومثله قوله: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢] على أن «عُيُوناً» بدل بعض من كل، وفيه حذف العائد، أي: عيوناً منها، وعلى هذا التخريج، يجوز أن يكون «خَبَالاً» يدل اشتمال من «كم» والضمي ر أيضاً محذوف أي: «خبالاً منكم» وهذا وَجْه رابع.
الخامس: أنه مصدر في موضع الحال، أي: متخبلين.
السادس: قال ابْنُ عَطِيَّةَ: معناه: لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم.
فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر، و «خَبَالاً» منصوبين على إسقاط الخافض، وهو اللام، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها جُمْلة استئنافية، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيءَ بها، وبالجُمَل التي بعدها، لبيان حال الطائفة الكافرة، حتى ينفروا منها، فلا يتخذوها بطانة، وهو وجه حسن.
الثاني: أنها جملة في موضع نصب؛ حال من الضمير المستكن في «دُونِكُمْ» على أن الجار صفة لبطانة.
الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً ل «بِطَانةً» - أيضاً -.
والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم -.
489
قال زهير: [الطويل]
١٥٨٣ - سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلَم يُليمُوا، وَلَمْ يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
١٥٨٤ - وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي
يقال: آلَى، يُولِي - بزنة أكرم، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً.
وأنشدوا: [الوافر]
١٥٨٥ -...................... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا
ويقال: ائتلَى، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب -.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٥٨٦ - ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي
فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء، ومن معنى التقصير واو.
قال الراغب: وألَوْتُ فلاناً، أي: أوْليته تقصيراً - نحو كسبته، أي: أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً، أي: ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد، فقولك: جهداً، تمييز.
وقوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] أي: لا يُقَصِّرون في طلب الخبال، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ﴾ [النور: ٢٢].
قيل: هو «يفتعل» من ألوت.
وقيل: هو من آليت، أي: حلفت.
والخبال: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض، وفتور، فيورثه فساداً
490
واضطراباً، يقال منه: خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد، فهو خابل، ومُخَبَّل، ومخبول، والمخبل: الناقص العقل، قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ [التوبة: ٤٧]، ويقال: خَبْل، وخَبَل، وخَبَال وفي الحديث: «مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ».
وقال زهير بن أبي سُلْمى: [الطويل]
١٥٨٧ - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت: أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه، وهذا كناية عن كرمهم.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ؛ لما بينهم من القَرَابةِ، والصداقة، والحِلْف، والجوار، والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم.
قال مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا يواصلون المنافقين، فنهاهم الله عن
491
ذلك، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ [آل عمران: ١١٩] وهذه صفة المنافقين.
وقيل: أراد جميع الكفار.
والعنت: شدة الضرر والمشقة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، وقد تقدم اشتقاقه.
قوله: ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ هذه العلة الثانية، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها.
والثاني: أنها نعت ل «بِطَانَةً» فمحلُّها نصب.
قال الواحدي: «ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾، ولو كان هذا صفة - أيضاً -، لوجب إدخال حرف العطف بينهما».
والثالث: أنها حال من الضمير في «يَألونَكُمْ»، و «ما» مصدرية، و «عَنِتُّمْ» صلتها، وهي وصلتها مفعول الودادة، أي: عنتكم، أي: مقتكم.
وقال الراغب: «المعاندة، والمعانتة، يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة المشقة».
والفرق بين قوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾، وقوله: ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾، في المعنى من وجوه:
الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر.
الثاني: لا يقصرون عن إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك؛ لمانعٍ، فحُبّه في قلوبهم.
الثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم.
قال القُرْطُبِيُّ: «وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء».
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ،
492
وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى».
وروى أنس بن مالك قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً».
وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، فقال: أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً.
قال الحَسَنُ: وتصديق ذلك في كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ الآية.
العلة الثالثة: قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ البغضآء﴾ هذه الجملة كالتي قبلها، وقرأ عبد الله «بَدَا» - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ؛ ولأنها في معنى البغض، والبغضاء: مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه: بَغُضَ الرجل، فهو بغيض، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ.
قوله: ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلق ب «بَدَتْ» و «مِنْ» لابتداء الغاية، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً، أي: خارجة من أفواههم، والأفواه: جمع فَم، وأصله فوه، فلامه هاء، يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على «فُوَيْه»، والنسب إليه على فوهي، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين - أو «فَعَل» - بفتح العين -؟ خلاف للنحويين، ثم حذفوا لامه تخفيفاً، فبقي آخرهُ حرف علة، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو.
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة.
كقوله: [البسيط]
493
عكس الأمر في الطرفين، فأتى بالميم في حال الإضافة، وبحرف العلة في القطع عنها. فمن الأول قوله: [الرجز]
١٥٨٩ - يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة، وغيرهم جوَّزه سعة، وجعل منه قوله: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك».
ومن الثاني قوله: [الرجز]
١٥٩٠ - خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا... أي: وفاها، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها.
وقالت العرب: رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه: إذا كان واسعَ الفم.
قال لبيد: [الوافر]
١٥٩١ -................. وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات، وله أربع مواد: ف م هـ. ف م و. ف م ي. ف م م؛ بدليل أفواه، وفموين، وفميين، وأفمام.

فصل


﴿قَدْ بَدَتِ البغضآء﴾ أي: ظهرت علامة العداوة من أفواههم.
فإن حملناه على المنافقين، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه، وعدم الود والنصيحة، كقوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول﴾ [محمد: ٣٠]، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين، والكفَّار، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك.
وإن حملناه على اليهود فمعناه: أنهم يُظهرون تكذيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والكتاب، وينسبونه
494
إلى الجهل. وإن حَمَلْناه على الكُفَّار، فمعنى البغضاء الشتيمة والوقيعة في المسلمين.

فصل


قال القُرْطُبِيُّ: «وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك.
وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة، فكيف بعداوة الكافر»
.
قوله: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ يجوز أن تكون «ما» بمعنى: الذي، والعائد محذوف - أي: تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي: وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين، ف «ما» مبتدأ و «أكبر» خبره، والمفضَّل عليه محذوف، أي: أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم.
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ شرط، حذف جوابه، لدلالة ما تقدم عليه، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه -.
والمعنى: إن كنتم من أهل العقل، والفهم، والدراية.
وقيل: إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ، والمقصود منه: استعمال العقل في تأمل هذه الآيات، وتدبُّر هذه البينات.
قوله تعالى: ﴿هَآأَنْتُمْ أولااء تُحِبُّونَهُمْ﴾ قد تقدم نظيره.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ها» للتنبيه، و «أنْتُمْ» مبتدأ و «أولاءِ» خبره، و «تُحِبُّونَهُمْ» في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة.
ويجوز أن يكون «أولاء» بمعنى: الذي، و «تُحِبُّونَهُمْ» صلة له، والموصول مع الصلة خبر.
قال الفرَّاء: «أولاَءِ» خبر، و «يحبونهم» خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون «أولاء» في موضع نصب بفعل محذوف، فتكون المسالة من باب الاشتغال، نحو: أنا زيداً ضربته.
قوله: ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ يحتمل أن يكون استئناف إخبار، وأن يكون جملة حالية.

فصل


قال المُفَضَّل: «تحبّونهم» تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، و ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر، وهو يوجب الهلاك.
وقيل: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة، والرضاع، والمصاهرة، ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأجل الإسلام.
495
وقيل: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب إظهارهم لكم الإسلام ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم.
وقال أبُو العَالِيَةِ، ومُقَاتِلٌ: المحبة - هاهنا - بمعنى: المصافاة، أي: أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم، ولا يصافونكم؛ لنفاقهم.
وقال الأصمّ: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بمعنى: أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات، والمحن، ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ بمعنى: أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن، ويتربصون بكم الدوائر.
وقيل: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يبغضون الرسول، ومحب المبغوض مبغوض.
وقيل: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ أي: تخالطونهم، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي: لا يفعلون ذلك بكم.
قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾ يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس، والمعنى: بالكتب كلها، فاكتفى بالواحد.
وقيل: أفرد الكتاب؛ لأنه مصدر، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع.
وقيل: إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل، فلهذا لم يَقُل: الكتب - بدلاً من الكتاب -، وإن كان لو قاله لجاز، توسعاً.
ويجوز أن يكون للعهد، والمراد به: كتاب مخصوص.
وهنا جملة محذوفة، يدل عليها السياق، والتقدير: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وحَسُنَ العطفُ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر، وتقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها، وهم - ممع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟.
وفيه تنبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم.
قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ ومعناه: إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب، وإن لم يكن هناك عض.
قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق ب «عَضُّوا»، وكذلك ﴿مِنَ الغيظ﴾ و «مِنْ» فيه لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي: من أجل الغيظ -.
وجوز أبو البقاء - في «عَلَيْكُمْ»، وفي ﴿مِنَ الغيظ﴾ - أن يكونا حالين، فقال: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: حنقين عليكم من الغيظ. ﴿ومِنَ الغيظ﴾ متعلق ب» عَضُّوا «
496
أيضاً، و» مِنْ «لابتداء الغاية، أي: من أجل الغيظ، ويجوز أن يكون حالاً، أي: مغتاظين». انتهى.
وقوله: و «من» لابتداء الغاية - أي: من أجل الغيظ كلام متنافر؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى: «من أجل»، فإنه معنى العلة، والعلة والابتداء متغايران، وعلى الجملة، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة.
والعَضّ: الأزم بالأسنان، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض، يقال: عَضِضْتُ قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٥٩٢ -.................... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ
جعل الباء زائدة في المفعول؛ إذ الأصل: يعضون خلفنا الأنامل.
وقال آخر: [المتقارب]
١٥٨٨ - فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ
١٥٩٤ - قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وقال الحارث بن ظالم المري: [الطويل]
١٥٩٥ - وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ
وقال آخر: [البسيط]
497
والعَضّ كله بالضاد، إلا في قولهم: عَظَّ الزمان - أي: اشتد - وعظت الحرب، فإنهما بالظاء - أخت الطاء -.
قال الشاعر: [الطويل]
١٥٩٦ - إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ
١٥٩٧ - وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
قال شهاب الدين: «وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء: وعضُّ زمان - بالضاد».
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره، ومنه: بَعير عُضَاضِيّ - أي: سمين - كأنه منسوب إليه، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته.
وزمن عضوض - أي: جدب، والتَّعْضوض: نوع من التمر، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته.
والأنامل: جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع.
قال الرُّماني: واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها، وسرعة تصرفها وحركتها، ومنه قالوا للنمام: «نمل ومنمل» لذلك.
قال الشاعر: [المتقارب]
١٥٩٨ - وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ
وفي ميمها الضم والفتح.
والغيظ: مصدر غاظه، يغيظه - أي: أغضبه -. وفسره الراغب بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه. وإذا وصف به الله تعالى، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ: إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى: ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ [الفرقان: ١٢]، والجملة من قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾ معطوفة على ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة.
قال الزمخشري: والواو في ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ للحال، وانتصابها من ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم - مع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم.
قال أبو حيان: «وهو حسن، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو أنه
498
جعل الواو في ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ للحال، وانتصابها من ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز: ويضحك، فأما قولهم: قمت وأصُكُّ عينه، ففي غاية الشذوذ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ، أي: وأنا أصُكّ عينه، فتصير الجملة اسمية، ويحتمل هذا التأويل هنا: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف».
يعني: فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف، بخلاف تقديره مبتدأ، فإنه على خلاف الأصل.
قوله: ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال، أي: موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم، ويجوز أن تكون للسببية أي: بسبب غَيْظكم، وليس بالقويّ.
وقوله: ﴿مُوتُواْ﴾ صورته أمر ومعناه الدعاء، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم، حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ: ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام، وعِزِّ أهْلِه، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ، والخِزْي، والعار.
وقيل: معناه الخبر، أي: أن الأمر كذلك.
وقد قال بعضهم: إنه لا يجوز أن يكون بمعنى: الدعاء؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة؛ فإنَّ دعوته لا ترد، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ، [وليس بخبر] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ، والتهديد، كقوله تعالى: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] و «إذَا لَمْ تَسءتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر، إن قُصِد به الإخبار.
قوله: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن يكون من جملة المقول، أي: قُلْ لهم: كذا، وكذا، فيكون في محل نصب بالقول، ومعنى قوله: ﴿بِذَاتِ﴾ أي: باملُضْمَرات، ذوات الصدور، ف «ذَات» - هنا - تأنيث «ذي» بمعنى صاحب؛ فحُذِف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، أي: عَلِيمٌ
499
بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب النار، وأصحاب الجنة.
والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي، والصوارف الموجودة فيه.
واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة، هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟.
فقال الأخفش، والفَرَّاءُ، وابن كيسان: الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف.
وقال الكسائي، والجَرْمِيّ: يوقف عليها بالهاء، لأنها تاء تأنيث، كهي في صاحبة، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء، وافقنا تلك اللغة، والرسم، بخلاف عكسه.
500
قوله تعالى :﴿ هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ قد تقدم نظيره.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" ها " للتنبيه، و " أنْتُمْ " مبتدأ و " أولاءِ " خبره، و " تُحِبُّونَهُمْ " في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة.
ويجوز أن يكون " أولاء " بمعنى : الذي، و " تُحِبُّونَهُمْ " صلة له، والموصول مع الصلة خبر.
قال الفرَّاء :" أولاَءِ " خبر، و " يحبونهم " خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون " أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف، فتكون المسألة من باب الاشتغال، نحو : أنا زيداً ضربته.
قوله :﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ يحتمل أن يكون استئناف إخبار، وأن يكون جملة حالية.

فصل


قال المُفَضَّل :" تحبّونهم " تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، و ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر، وهو يوجب الهلاك.
وقيل :﴿ يُحِبُّونَهُمْ ﴾ بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة، والرضاع، و المصاهرة، ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ لأجل الإسلام.
وقيل :﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ بسبب إظهارهم لكم الإسلام ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم.
وقال أبُو العَالِيَةِ، ومُقَاتِلٌ : المحبة - هاهنا - بمعنى : المصافاة، أي : أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم، ولا يصافونكم ؛ لنفاقهم.
وقال الأصمّ :﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات، والمحن، ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن، ويتربصون بكم الدوائر.
وقيل :﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يبغضون الرسول، ومحب المبغوض مبغوض.
وقيل :﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ أي : تخالطونهم، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ أي : لا يفعلون ذلك بكم.
قوله :﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس، والمعنى : بالكتب كلها، فاكتفى بالواحد.
وقيل : أفرد الكتاب ؛ لأنه مصدر، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع.
وقيل : إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل، فلهذا لم يَقُل : الكتب - بدلاً من الكتاب -، وإن كان لو قاله لجاز، توسعاً.
ويجوز أن يكون للعهد، والمراد به : كتاب مخصوص.
وهنا جملة محذوفة، يدل عليها السياق، والتقدير :﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وحَسُنَ العطفُ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها، وهم - مع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟.
وفيه توبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم.
قوله :﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ ومعناه : إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب، وإن لم يكن هناك عض.
قوله :﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ متعلق ب " عَضُّوا "، وكذلك ﴿ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ و " مِنْ " فيه لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي : من أجل الغيظ. -
وجوز أبو البقاء - في " عَلَيْكُمْ "، وفي ﴿ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ - أن يكونا حالين، فقال :" ويجوز أن يكون حالاً، أي : حنقين عليكم من الغيظ. و ﴿ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ متعلق ب " عَضُّوا " أيضاً، و " مِنْ " لابتداء الغاية، أي : من أجل الغيظ، ويجوز أن يكون حالاً، أي : مغتاظين ". انتهى.
وقوله : و " من " لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر ؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى :" من أجل "، فإنه معنى العلة، والعلة والابتداء متغايران، وعلى الجملة، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا ؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة.
والعَضّ : الأزم بالأسنان، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض، يقال : عَضِضْتُ - بكسر العين في الماضي - أعَضُّ - بالفتح – عَضًّا، وعضِيضاً.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
. . . *** كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ١
ويعبر به عن الندم المفرط - ومنه :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ] - وإن لم يكن ثم عَضٌّ حقيقة.
قال أبو طالب :[ الطويل ]
وَقَدْ صَالَحُوا قَوْماً عَلَينَا أشِحَّةً *** يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأنَامِلِ٢
جعل الباء زائدة في المفعول ؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل.
وقال آخر :[ المتقارب ]
قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ *** فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا٣
وقال الحارث بن ظالم المري :[ الطويل ]
وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً *** يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ٤
وقال آخر :[ البسيط ]
إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ *** عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ٥
والعَضّ كله بالضاد، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب، فإنهما بالظاء - أخت الطاء-.
قال الشاعر :[ الطويل ]
وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ٦
قال شهاب الدين :" وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان – بالضاد ".
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته.
وزمن عضوض - أي : جدب، والتَّعْضوض : نوع من التمر، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته.
والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع.
قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها، وسرعة تصرفها وحركتها، ومنه قالوا للنمام :" نمل ومنمل " لذلك.
قال الشاعر :[ المتقارب ]
وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ *** وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ٧
وفي ميمها الضم والفتح.
والغيظ : مصدر غاظه، يغيظه - أي : أغضبه -. وفسره الراغب٨ بأنه أشد الغضب، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه. وإذا وصف به الله تعالى، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ : إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى :﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٢ ]، والجملة من قوله :﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ معطوفة على ﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة.
قال الزمخشري : والواو في ﴿ وَتُؤْمِنُونَ ﴾ للحال، وانتصابها من ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم - مع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم.
قال أبو حيان٩ :" وهو حسن، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو أنه جعل الواو في ﴿ وَتُؤْمِنُونَ ﴾ للحال، وانتصابها من ﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال، تقول : جاء زيد يضحك، ولا يجوز : ويضحك، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه، ففي غاية الشذوذ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ، أي : وأنا أصُكّ عينه، فتصير الجملة اسمية، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف ".
يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف، بخلاف تقديره مبتدأ، فإنه على خلاف الأصل.
قوله :﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفُشوِّه ؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم، وليس بالقويّ.
وقوله :﴿ مُوتُواْ ﴾ صورته أمر ومعناه الدعاء، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم، حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام، وعِزِّ أهْلِه، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ، والخِزْي، والعار.
وقيل : معناه الخبر، أي : أن الأمر كذلك.
وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء ؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة ؛ فإنَّ دعوته لا ترد، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ، [ وليس بخبر ] ١٠ ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ، والتهديد، كقوله تعالى :﴿ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] و " إذَا لَمْ تَسْتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ١١ ".
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء ؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر، إن قُصِد به الإخبار.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر - تعالى - بذلك ؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن يكون من جملة المقول، أي : قُلْ لهم : كذا، وكذا، فيكون في محل نصب بالقول، ومعنى قوله :﴿ بِذَاتِ ﴾ أي : بالمُضْمَرات، ذوات الصدور، ف " ذَات " - هنا - تأنيث " ذي " بمعنى صاحب ؛ فحُذِف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور، و " ذو " جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب النار، وأصحاب الجنة.
والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي، والصوارف الموجودة فيه.
واختلفوا في الوقف على هذه اللفظة، هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء ؟.
فقال الأخفش، والفَرَّاءُ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف.
وقال الكسائي، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء، لأنها تاء تأنيث، كهي في صاحبة، وموافقة الرسم أوْلَى ؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء، وافقنا تلك اللغة، والرسم، بخلاف عكسه.
١ هذا عجز بيت وصدره:
له قصريا عير وساقا نعامة ***...
ينظر ديوانه (٧٥) والدر المصون ٢/١٩٧..

٢ ينظر البيت في ديوانه ص ١٠١ والروض الأنف ٢/١٣ والسيرة النبوية ١/٢٧٢ والمقتضب ٤/٩٠ والدر المصون ٢/١٩٧..
٣ البيت لصخر الغي –ينظر ديوان الهذليين ٢/٧٣ وزاد المسير ٤/٣٤٨ وشرح أشعار الهذليين ١/٢٩٩ والدر المصون ٢/١٩٧..
٤ ينظر البيت في شواهد الكشاف ٤/١٩، والبحر المحيط ٢/٤٤ والدر المصون ١٩٧..
٥ البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢/٣٥٨ والبحر المحيط ٣/٤٤ والتاج ٨/٢٠٨ والقرطبي ٤/١٨٢ واللسان (بهم) والدر المصون ٢/١٩٧..
٦ تقدم..
٧ ينظر البيت في الدرر ٦/١٦٥، وشرح شواهد المغني ٢/٨٦٩، ولسان العرب (نمش)، ومغني اللبيب ٢/٤٧٧، وهمع الهوامع ٢/١٤٢، والدر المصون ٢/١٩٨..
٨ ينظر: المفردات ٢٨٢..
٩ ينظر: البحر المحيط ٣/٤٣..
١٠ في أ: ولا يجوز أن يكون بمعنى الخبر..
١١ أخرجه البخاري (١٠/٥٢٣) كتاب الأدب باب إذا لم تستح فاصنع ما تشاء رقم (٦١٢٠) وأبو اود (٤/٢٥٢) رقم (٤٧٩٧) وابن ماجه (٢/١٤٠٠) كتاب الزهد باب الحياء (٤١٨٣) والبغوي في "شرح السنة" (١/٧٦)..
قرأ العامة ﴿تَسُؤْهُمْ﴾، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ «حَسَنَةٌ».
وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ، وقياسه أن يقرأ «وَإن يصبكم سَيئةٌ» بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء.
والمس: أصله باليد، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا، على سبيل التشبيه، يقال: فلان مسَّه العصب والنصب، قال تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
وقال الزمخشري: المسّ مستعار هاهنا بمعنى: الإصابة، قال تعالى: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ﴾ [التوبة: ٥٠].
وقال: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩].
والمراد بالحسنة - هنا: منفعة الدنيا، من صحة البدن، وحصول الخِصْب والغنيمة، والاستيلاء على الأعداء، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين.
والمراد بالسيِّئَة: اضدادها، والسيئة: من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ، والأنْثَى سيئة - أي: قبح، ومنه قوله تعالى ﴿سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦]، والسوء ضد الحسن، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين.

فصل


قال ابو العباس: وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه:
الأول: بمعنى: النصر والظفَر، قال تعالى: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٠] أي: نَصْر وَظفَر.
500
الثاني: بمعنى: التوحيد، قال تعالى: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة﴾ [الأنعام: ١٦٠] أي: بالتوحيد.
الثالث: الرَّخَاء: قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله﴾ [النساء: ٧٨] أي: رخاء.
الرابع: بمعنى: العاقبة، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ [الرعد: ٦] أي بالعذاب قبل العاقبةِ.
الخامس: القول بالمعروف، قال تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾ [الرعد: ٢٢] أي: بالقول المعروف.

فصل


والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى: الهزيمة - كما تقدم - كقوله: ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ [آل عمران: ١٢٠] أي: هزيمة.
الثاني: الشرك، قال تعالى: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾ [الأنعام: ١٦٠] أي: بالشرك.
الثالث: القحط، قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ [النساء: ٧٨] أي: قحط، ومثله قوله: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١].
الرابع: العذاب، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة﴾ [الرعد: ٦].
الخامس: القول الرديء، قال تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾ [الرعد: ٢٢].
قوله: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ أي: على طاعة الله، وعلى ما ينالكم فيها من شدة، وغَمٍّ، ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ كلَّ ما نهاكم عنه، ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ﴾.
قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو: «يَضُرْكُمْ» بكسر الضاد، وجزم الراء في جواب الشرط، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً -: ضاره يضوره، ففي العين لغتان، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً، فهو ضائر، وهو مضير، نحو: قلته أقوله، فأنا قائل، وهو مقول.
وقرأ الباقون: ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ بضم الضاد، وتشديد الراء مرفوعة، وفي هذه القراءة أوجه:
الأول: أن الفعل مرتفع، وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير: لا يضركم إن تصبروا وتتقوا، فلا
501
يضركم، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب، لدلالة ما تقدم عليه، ثم أخر ما هو دليل على الجواب، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم، ومثله قول الراجز:
١٥٩٩ - يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
برفع «تصرع» الأخير -.
وكذلك قوله: [البسيط]
١٦٠٠ - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
برفع «يقول» - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد، بخلاف ما قبله - أعني: كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه، وأتباعه وجوب الجزم، إلا في ضرورة.
كقوله: [الرجز]
١٦٠١ -...................... إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز
الوجه الثاني: أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥].
والتقدير: فلا يضركم، والفاء حذفت في غير محل النزاع.
كقوله: [البسيط]
١٦٠٢ - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ
أي: فالله يشكرها، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد، وفيه نظر؛ من حيث إنهم، لما أنشدوا البيت المذكور، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول: إنما الرواية في هذا البيت: [البسيط]
١٦٠٣ - مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ، فلا يقدح فيها غيرُها، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب.
الوجه الثالث: أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل: «لاَ يَضْرُرْكُمْ». بالفك وسكون الثاني جَزْماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان:
502
الجزم: وهو لغة تميم.
والفك: وهو لغة الحجاز.
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه، وهي الضمة التي على الحرف قبله، فحرَّكناه بها، وأدْغمنا ما قبله فيه، فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع، لا حركة إعراب، بخلافها في الوجهين السابقين، فإنها حركة إعراب.
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً، أو مفتوحةً، أو مكسورةً، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة.
وقولهم: مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام:
الضم للإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين، فتقول: مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ.
وينشدون على ذلك قول الشاعر: [الوافر]
١٦٠٤ - فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
بضم الضاد، وفتحها، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ.
وإن كانت فاؤه مفتوحةً، نحو عَضَّ، أو مكسورة، نحو فِرَّ، كان في اللام وجهان: الفتح، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول: الكسر من وجهين: إما الإتباع، وإما التقاء الساكنين، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً -: إما الإتباع، وإمَّا التخفيف.
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها.
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل -: بضم الضاد، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء.
وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكُمْ» بضم الضاد، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين.
503
وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال: فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً.
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة.
وقرأ أبيّ: «لا يَضْرُرْكُمْ» بالفكّ، وهي لغة الحجاز.
والكيد: المكر والاحتيال.
وقال الراغب: هو نوع من الاحتيال، وقد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان استعماله في المذموم أكثر.
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصله من المشقة، من قولهم: فلان يكيد بنفسه، أي: يجود بها في غمرات الموت، ومشقاته.
ويقال: كِدْتُ فلاناً، أكيده - كبعته أبيعُه.
قال الشاعر: [الخفيف]
١٦٠٥ - مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
و «شَيْئاً» منصوب نصب المصادر، أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره.
ومعنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى عما نهى الله عنه، كان في حِفْظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حِيَلُ المحتالين.
قوله: ﴿إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ قراءة العامة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ - بالغيبة، وهي واضحة.
وقرأ الحسن بالخطاب، إما على الالتفات، والتقدير: إنه عالم، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى، فيفعل بكم ما أنتم أهله، وإما على إضمار: قُل لهم يا محمد.
وإنما قال: ﴿إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ولم يقل: إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، ومجازيهم عليها، فلا جرم قدّم ذكر العمل.
504
العامل في «إذْ» مضمَر، تقديره: واذكر إذْ غدوت، فينتصب المفعول به لا على الظرف، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على ﴿فِئَتَيْنِ﴾ في قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] أي: قد كان لكم آية في فئتين، وفي إذْ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه.
وقال بعضهم: العامل في «إذْ» «محيط» تقديره: بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ.
قال بعضهم: وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في (وَإِذْ) يمنع في عمل (مُحِيطٌ) فيها.
والغُدوّ: الخروج أول النهار، يقال: غدا يغدو، أي: خرج غدوة، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة.
ويُسْتَعْمَل بمعنى: «صار» عند بعضهم، فيكون ناقصاً، يرفع الاسم، وينصب الخبر، وعليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً».
قوله: «من أهلك» متعلق ب «غَدَوْتَ»، وفي «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أي: من بين أهلك.
قال أبو البقاء: «وموضعه نصب، تقديره فارقت أهلَك».
قال شهابُ الدِّيْنِ: «وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر».
الثاني: أنها بمعنى: «مع» أي: مع أهْلك، وهذا لا يساعده لفظ، ولا معنى.
قوله: «تبوئ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل: «غَدَوْتَ»، وهي حال مقدرة، أي: قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع.
505
و «تبوئ» أي تُنزل، فهو يتعدى لمفعولين، إلى أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ [الحج: ٢٦] وأصله من المباءة - وهي المرجع -.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦٠٦ - وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
١٦٠٧ - كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وقد تقدم اشتقاقه.
وقيل: اللام في قوله «لإبراهيم» مزيدة، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه.
و «مقَاعِدَ» جمع مَقْعَد، والمراد به - هنا - مكان القعود، و «قعد» قد يكون بمعنى: «صار» في المثل خاصة.
قال الزمخشري: «وقد اتُّسِعَ في قَامَ، وقَعَدَ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار».
قال أبو حيان: أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار، فقال بعض أصحابنا: إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم: شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى:
﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً﴾ [الإسراء: ٢٢] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار.
قال شهابُ الدين: «وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح، من كون قَعَد بمعنى: صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول: قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً، أي: صار».
ثم قال أبو حيان: وأما إجراء قام مُجْرَى صار، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ «كان»، ولا جعلها بمعنى «صار» إلا ابن هشام الخَضْراوي، فإنه ذكر - في قول الشاعر: [الوافر]
506
١٦٠٨ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
أنها من أفعال المقاربة.
قال شهابُ الدين: «وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً، وهو شاذٌّ، أيضاً».
وقرأ العامة: «تبوّئ» بعدَّوْه بالتضعيف، وقرأ عبد الله: «تُبْوِئ»، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم.
وقرأ يحيى بن وثَّاب «تُبْوِي» كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً، فصار لفظه كلفظ: يُحيي.
وقرأ عبد الله: للمؤمنين - بلام الجر - كقوله: «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وقد تقدم أن في هذه اللام قولين، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ، وترتِّب.
وقرأ الأشهب «مقاعد القتال» - بإضافتها للقتال - واللام في «لِلْقِتَالِ» - في قراءة الجمهور - فيها وجهان:
أوّلهما: - وهو أظهر -: أنها متعلقة ب «تبوئ» على أنها لام العلة.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ «مَقَاعِدَ» أي: مقاعد كائنة، ومُهَيَّأة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب «مقاعد»، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان، والأمكنة لا تعمل.

فصل


كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة، والمعونة، ودَفْع ضرر العدو، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك، فقال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ يعني: يوم أُحُد، كانوا كثيرين، مستعدِّين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين، غير مستعدين للقتال، فلما أطاعوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَبُوا.
وفيه وجه آخر، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة، بيَّن - هنا - العلة في ذلك، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول، المنافق.
507

فصل


اختلفوا في هذا اليوم.
فقال ابن عباس، والسُّدِّيّ، وابنُ إسْحَاقَ، والرَّبِيعُ، والأصم، وأبو مسلم، وأكثر المفسرين: إنه يوم أُحُد.
وقال الحسنُ: هو يوم بدر.
وقال مجاهد ومقاتل: هو يوم الأحزاب، واحتج الأولون بوجوه:
الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد.
والثاني: أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: ١٢٣]، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أحُد، لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٠].
الثالث: أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى.
الرابع: أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد.

فصل


قال مُجَاهِدٌ، والكَلْبِيُّ، والوَاقِدِي: غَدَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى أحد، يَصُفُّ أصحابَه للقتال، كما يقوم القداح، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنزولهم، استشار أصحابه، ودعا عبدَ الله
508
ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها -، فاستشاره، فقال عبد الله بن أبَيّ، وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه، فدعهم، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعْجَبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الرأيُ.
وقال آخرون: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي، فأوَّلْتُها خَيْراً، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى دَخَلَ، فَلَبَس لأمَتهُ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاَحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا: بِئْسَ ما صنعنا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ ما رأيت، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام».
ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا، فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة، وبقيت سبعمائة، فذلك قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ» [آل عمران: ١٢٢].
أي: أن تضعفا، وتجبُنا، وتتخلفا.
والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي، وقال: أنشدكم الله في نبيكم، وفي
509
أنفسكم، فقال عبد الله بن أبَيّ: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧]، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا، فذكرهم الله عظيم نعمته. فقال - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا﴾ [آل عمران: ١٢٢] ناصرهما، وحافظهما، ثم قواهم الله، حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، طلبوا المدبرين، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين، فكَرَّ عليهم المشركون، وتفرق العسكر ن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٣]، وشُجَّ وَجْه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر، وعليّ، والعباسُ، وطلحة وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قد قُتِل منهم سبعون، وأكْثر فيهم الجراح، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى»، وكان الكفار ثلاثة آلاف، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وبقي مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبعمائة، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم، وانهزموا.
قوله: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: سميع لأقوالكم، «عليم» بضمائركم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما شاور أصحابه في تلك الحرب، فقال بعضهم: أقم بالمدينة، وقال آخرون: اخرج إليهم، فكان لكل أحد غرض في نفسه، فمن موافق ومن منافق، فقال تعالى: ﴿أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون﴾.
510
قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ﴾ في هذا الظرف أوجه:
أحدها: أنه ظَرْف ل ﴿غَدَوْتَ﴾.
الثاني: أنه بدل من ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾، فالعامل، فيه هو العامل في المُبْدَل منه.
الثالث: أنه ظرف ل ﴿تُبَوِّىءُ﴾.
وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين.
510
الرابع: أن الناصب له «عَليمٌ» وحده - ذكره أبو البقاء.
الخامس: أن العامل فيه إما «سَمِيعٌ»، وإما «عَلِيمٌ» على سبيل التنازع، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأضمر في الثاني.
قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قال أبو حيان: «وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع، أو عليم، وتكون المسألة من التنازع».
قال شهاب الدين: «لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع، ويصدق أن يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك، ويقول - في نحو: ضربتُ وأكرمتُ زيداً: إن زيداً منصوب بهما، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً».
فإن قيل: إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾ ؟
فالجواب: أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر، وقد يراد به: حديث النفس، وقد يراد به: ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب، وإذا كان كذلك، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما، وبتقدير أن يقال ذلك، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾.
وقيل: الهَمّ دون العزّم، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى: خاطراً، فإذا قويَ سُمِّيَ: حديث نفسٍ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: هَمًّا، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: عزماً، ثم بعده إما قول، أو فعل.
وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة، تقول العرب: هممت بكذا، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال: همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً، كما قالوا: مِسْت وظلت، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس.
والهم - أيضاً -: الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه، وهو مأخوذ من قولهم: همت الشحم - أي: أذبته، والهم الذي في النفس قريب منه، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان، كما يؤثر الحُزْن.
ولذلك قال الشاعر: [الطويل]
١٦٠٩ - وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ...
511
أي: إنك إذا هممت بشيء، ولم تفعله، وجال في نفسك، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه.
قوله: ﴿أن تَفْشَلاَ﴾ متعلق ب «هَمَّتْ» ؛ لأنه يتعدى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل «أن» الوجهان المشهوران.
والفشل: الجبن والخَوَر.
وقال بعضهم: الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإعياء، وعدم النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال -.
وقرأ عبد الله: والله وليهم، كقوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩].
قوله: ﴿وَعَلى الله﴾ متعلق بقوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾، قدم للاختصاص، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء.
قال أبو البقاء: «دخلت الفاء فمعنى الشرط، والمعنى: إن فشلوا فتوكلوا أنتم، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا».
قال جابر: نزلت هذه الآية - ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ - فينا - بني سلمة، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾.
قال ابنُ الخَطِيبِ: «ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمَّة، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى».
والتوكُّل: تفعُّل، إمَّا من الوكالة - وهي: تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن
512
تدبيره، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان، إذا عجز عنه.
قال ابنُ فارس: «هو إظهار العَجْز، والاعتماد على غيرك»، يقال: فلان وكله يَكِلُه، أي: عاجز يكلُ أمره إلى غيره، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو، كتخمة وتجاه وتراث.

فصل


اختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله، فقال: قالت فرقة: هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين.
وقال قوم: التَّوكُّل: ترك الأسباب، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب، زال عنه اسم التوكُّل.
قال سهل: من قال: التوكل يكون بتَرك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله يقول: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبا﴾ [الأنفال: ٦٩]، والغنيمة اكتساب، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ».
513
في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة، ثم سلط المسلمين عليهم، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله، ويكون ذلك تأكيداً لقوله: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا﴾ [
513
آل عمران: ١٢٠]، وقوله: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ [آل عمران: ١٢٢].
الثاني: أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال: ﴿والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ [آل عمران: ١٢٢].
ثعني: من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم، فازوا بمطلوبهم، وقهروا خصومهم، فهذا وجه النظم. والنصر: العون، نصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿بِبَدْرٍ﴾ متعلق ب ﴿نَصَرَكُمُ﴾، وفي الباء - حينئذ - قولان:
أحدهما: - وهو الأظهر -: أنها ظرفية، أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة، أي: في مكة.
الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال، أي: مصاحبين لبدر، و «بدر» : اسم لماء بين مكة والميدنة، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر.
وقيل: لاستدارته وقيل: اسم بئر لرجل يقال له: بدر، وهو بدر بن كلدة، قاله الشعبي، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل: إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.
وقيل: اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ في محل نصب على الحال من مفعول: ﴿نَصَرَكُمُ﴾ و ﴿أَذِلَّةٌ﴾ جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، و «فعيل» الوصف - قياس جمعه على فعلاء، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾ [المنافقون: ٨] فما معنى قوله: ﴿وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أنه بمعنى: القلة وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، وأن نقيضه العِز، وهو القوة والغلبة.
رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم رَجَّالة، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، مع الأسلحة الكثيرة، والعُدَّة الكاملة.
قال القرطبيُّ: واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا
514
أعزَّة، لكن نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ، وأنهم يغلبون.
الثاني: لعل المراد: أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ [المنافقون: ٨].
الثالث: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم، وثروتهم، وثروتهم، إلى ذلك الوقت، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم.
ثم قال: ﴿فاتقوا الله﴾ أي: في الثَّباتِ مع رسوله.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له.
قوله: ﴿إذْ تَقُولُ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكر.
الثاني: إن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في «إذْ» قوله: ﴿نَصَرَكُمُ الله﴾ والتقدير: إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.
وإن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ﴾ [آل عمران: ١٢٢]، فهذه ثلاثة أوجه.

فصل


رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ: أنه يوم أُحُد، لوجوه:
أحدها: أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف من الملائكة لقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة﴾ [الأنفال: ٩]، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف؟
وثانيها: أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة
515
آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم.
وثالثها: أنه قال في هذه الآية: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥].
والمراد: ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال.
الثاني: أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.
روى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تقدم يا مصعب»، فقال الملك: لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مَلَك أمِدَّ به.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك.
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ﴾ مُعْتَرِضاً بين الكلامين.
وقال قتادة: أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال: ﴿فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة﴾ [الأنفال: ٩]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا: ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف﴾ [آل عمران: ١٢٥]، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب -
516
في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشورط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول: إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى فقال لهم: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ».
الثاني: أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.
وأما قولهم: إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ﴾ فالجواب: أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة.

فصل


قال القرطبيُّ: «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون﴾ [يس: ٨٢]، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: ٦٢]، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال: إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح».
517

فصل في اختلافهم في عدد الملائكة


اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا: الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف.
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف.
وعلى القول الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا: عدد الملائكة: خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف.
وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل: إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم:
«ألَنْ يَكْفِيَكُمْ» يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ «.
وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور.

فصل


أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ.
قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين.
وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه:
الأول: أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة
518
إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟
الثاني: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
الثالث: أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم﴾ [الأنفال: ٤٤] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه.
الرابع: أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.
والجواب: أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون: لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر.
وقال سعدُ بن أبي وقاص: رأيتُ عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ، ما رأيتهما قبل، ولا بعد.
قال سعدُ بن إبراهيمَ: يعني: جبريل وميكائيل.
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة، فأما من يُقِرُّ بهما، فلا يليق به شيءٌ من هذا، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات.

فصل


اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة.
519
فقال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين.
وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
وقال أكثر المفسرين: إنهم لم يقاتلوا في غير بدر.
قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيكُمْ﴾ معنى الكفاية: هو سَدُّ الخلة، والقيام بالأمر.
يقال: كَفَاهُ أمر كذا، أي: سَدَّ خلته.
والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال.
قال المفضَّل: ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمَدَّه يُمِدُّه، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه: ﴿والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر﴾ [لقمان: ٢٧].
وقيل: المَدُّ في الشر، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] وقوله: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ [مريم: ٧٩] وقال في الخير: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف﴾ [الأنفال: ٩] وقال: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين﴾ [الإسراء: ٦].
قوله: ﴿أَن يُمِدَّكُمْ﴾ فاعل، ﴿أَلَنْ يَكْفِيكُمْ﴾ أي: ألن يكفيكم إمدادُ ربكم، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار، وجيء ب «لن» دون «لا» ؛ لأنها أبلغ في النفي، وفي مصحف أبيّ «الا» بدون «لن» وكأنه قصد تفسير المعنى.
و «بثلاثة» متعلق ب ﴿يُمِدَّكُمْ﴾.
وقرأ الحسن البصريّ «ثلاثة آلافٍ» - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك «بخمسة آلافٍ» كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.
قال ابن عطية: ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم: أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ، حتى نشأت عنها ألِفٌ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.
ومن ذلك في الشعر قوله: [الكامل]
520
يريد: «ينبع»، فمطل ومثله قول الآخر: [الرجز]
١٦١٠ - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ
١٦١١ - أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ
يريد: «الكلكل»، فمطل ومثله قول الشاعر: [الوافر]
١٦١٢ - فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد: بمنتزح.
قال أبو الفتح: «فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما اثنان».
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية -: «وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل، وإنما نظير هذا قولهم: ثلاثة اربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل».
وقرئ شاذًّا - أيضاً -: بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن، أهي تاء التأنيث التي كانت، فسكنت فقط، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته.
قوله: ﴿مِّنَ الملاائكة﴾ يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأن تكون «مِنْ» ومجرورها في
521
موضع الجر صفة ل «لَثَلاثَةِ» أو لِ «آلافٍ».
قوله: ﴿مُنْزَلِينَ﴾ صفة ل «ثلاثة آلاف»، ويجوز أن يكون حالاً من «الْمَلاَئِكَةِ» والأول أظهر. وقرأ ابن عامر «مُنزَّلين» - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ [العنكبوت: ٣٤] إلا أنه هنا - اسم مفعول، وهناك اسم فاعل.
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي، مبنياً للفاعل.
وبعضهم قرأه كذلك، إلا أنه خفف الزاي، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، ففعَّل وأفْعل بمعنًى، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً، أي: منزلين النصر على المؤمنين، والعذاب على الكافرين.
قوله: ﴿بلى﴾ حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾.
والفوز: العجلة والسرعة، ومنه: فارت القِدْرُ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج، والفوز مصدر، يقال: فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى:
﴿حتى
إِذَا
جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور﴾
[هود: ٤٠]، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال: جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْز - في الأصل -: مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين: معنى «مِنْ فَورِهم هَذَا» : من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.
قوله: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ كقوله: ﴿مُنزَلِينَ﴾، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى: أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.
522
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
وقال هشام بن عروة: عمائم صفر.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها: أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد: سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.
وحكى بعضهم: سومت غلامي، أي: أرسلته، ولهذا قال الأخفش: معنى «مُسَوَّمِينَ» مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها: أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.

فصل


قال القُرْطُبِيُّ: «وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها».
523
قال القرطبي: «ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير».
قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى﴾ الكناية في «جَعَلَهُ» عائدة على المصدر، أي: ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سبق للعلة.
والثاني: أنه مفعول ثانٍ لِ «جَعَل» على أنها تصييرية.
والثالث: أنه بدل من الهاء في «جَعَلَهُ» قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.
والبشرى: مصدر على «فُعْلَى» كالرُّجْعَى.
وقيل: اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [البقرة: ٢٥].
قوله: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنًّه معطوف على «بُشْرَى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت.
وقال أبو حيان: و «تطمئن» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي»، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: «اللام في ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه» جَعَلَهُ «ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم.
قال أبو حيان:»
وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ على ﴿بشرى﴾، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم «.
524
قال شهاب الدين:» وقد جعل بعضهم الواو في ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي: أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة «.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر:
فأحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: إلاًَّ بشرى}.
الثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ ونظيره قوله: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا.
قال أبو حيان:»
ويناقش في قوله: عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره «.
انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ: «إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل»
.
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه: «هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به».
والضميران في قوله ﴿وَمَا جَعَلَهُ﴾، و «بِهِ» يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله: «يمددكم».
وقيل: يعودان على النصر.
وقيل: على التسويم.
وقيل: على التنزيل.
وقيل: على المدد.
وقيل: على الوعد.

فصل


قال في هذه الآية: «لَكُمْ» وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا - أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - «به» وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في «لَكُمْ» فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾ وجاء بهما في
525
جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: ١٠] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي: لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له.
قوله: ﴿لِيَقْطَعَ﴾ في متعلق هذه اللام سبعة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله﴾ قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل.
الثاني: أنها متعلقة بالنصر في قوله: ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ والمعنى: أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي: تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر.
الثالث: أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله: ﴿مِنْ عِندِ الله﴾، والتقدير: وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.
والرابع: أنها متعلقة بمحذوف، تقديره: أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ.
الخامس: أنها معطوفة على قوله: «ولتطمئن» حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله: ﴿ثلاثة رابعهم كلبهم﴾ وقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله: ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار.
السادس: أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.
السابع: أنها متعلقة بقوله: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما.
والطرف: المراد به: جماعة، وطائفة، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا - ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٣] وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: ٤١].
قوله: ﴿مِّنَ الذين﴾ يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «طَرَفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض.
قوله: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ عطف على «لِيَقْطَعَ».
و «أو» ؛ قيل: على بابها من التفصيل، أي: ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين.
526
وقيل: بل هي بمعنى الواو، أي: يجمع عليهم الشيئين.
والكبت: الإصابة بمكروه.
وقيل: هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة.
وقيل: أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك: رأسته، أي: أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد: أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا: هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه -.
وقد قيل: إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم: سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء.

فصل


معنى قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ أي: ليُهْلِكَ طائفة.
وقال السُّدِّيُّ: لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانقلبت عليهم.
﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾.
قال الكلبي: يهزمهم.
وقال السُّدي: يلعنهم.
وقال أبو عبيدة: يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم.
وقيل: يُخْزِيهم والمكبوت الحزين.
وقيل: يَغِيظهم.
وقيل: يُذلهم.
قوله: ﴿فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾ لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.
527
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة: الظفر يقال: خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.
و ﴿خَآئِبِينَ﴾ نُصِبَ على الحال.
528
قوله :﴿ إذْ تَقُولُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر.
الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في " إذْ " قوله :﴿ نَصَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ والتقدير : إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.
وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله :﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ ﴾ [ آل عمران : ١٢٢ ]، فهذه ثلاثة أوجه.

فصل


رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ : أنه يوم أُحُد، لوجوه :
أحدها : أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَة ﴾ [ الأنفال : ٩ ]، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف١ ؟
وثانيها : أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم ؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم٢.
وثالثها : أنه قال في هذه الآية :﴿ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾.
والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء ٣.
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال.
الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.
روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا٤، ورُوِيَ " أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقدم يا مصعب، فقال الملك : لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به " ٥.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك " ٦.
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾ مُعْتَرِضاً بين الكلامين.
وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال :﴿ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَة ﴾ [ الأنفال : ٩ ]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا :﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ]، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى ؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشروط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا ؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف ؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ ".
الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.
وأما قولهم : إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله :﴿ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ ﴾ فالجواب : أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة.

فصل


قال القرطبيُّ :" نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون ﴾ [ يس : ٨٢ ]، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٢ ]، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال : إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء ؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح ".

فصل في اختلافهم في عدد الملائكة


اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد ؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف ؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف.
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف.
وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف ؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف.
وقد رُوِيَ " أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل : إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم :" ألَنْ يَكْفِيَكُمْ ". يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ.
وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف ؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور.

فصل


أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ.
قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين.
وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه :
الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض ؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار ؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟
الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى :﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِم ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق ؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه.
الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.
والجواب : أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر٧ لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون : لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر٨.
وقال سعدُ بن أبي وقاص : رأيت
١ ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (٨/١٨٣)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ انظر المصدر السابق..
٤ ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (٨/١٨٤) عن مجاهد..
٥ ذكره القاضي عياض في "الشفا في أحوال المصطفى" رقم (٧١٢٨)..
٦ ينظر: "تفسير الفخر الرازي" (٨/١٨٤)..
٧ في الرازي ٨/١٨٦ عبد الله بن عمر..
٨ ذكره الرازي في "تفسيره" ٨/١٨٦..
قوله :﴿ بَلَى ﴾ حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله :﴿ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ﴾ وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله :﴿ يُمْدِدْكُمْ ﴾.
الفور : العجلة والسرعة، ومنه : فارت القِدْرُ، إذا اشتد غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج، والفور مصدر، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور ﴾ [ هود : ٤٠ ]، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة ؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْر - في الأصل - : مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى " مِنْ فَورِهم هَذَا " : من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا ؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.
قوله :﴿ مُسَوِّمِينَ ﴾ كقوله :﴿ مُنزَلِينَ ﴾، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ١، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم٢.
وقال هشام بن عروة : عمائم صفر٣.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها٤.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر :" تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم٥ " وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.
وحكى بعضهم : سومت غلامي، أي : أرسلته، ولهذا قال الأخفش : معنى " مُسَوَّمِينَ " مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.

فصل


قال القُرْطُبِيُّ :" وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق ؛ لنزول الملائكة عليها ".
قال القرطبي :" ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد ؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير ".
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٨٧) عن قتادة والربيع وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٨٨) عن عروة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٢٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٨٧- ١٨٨) عن أبي أسيد وعباد بن حمزة..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٨٧) عن مجاهد وقتادة..
٥ أخرجه الطبري في تفسيره" (٧/١٨٦) وابن أبي شيبة (١٤/٣٥٨) والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٢٥) وعزاه للطبري وابن أبي شيبة.
وينظر تفسير "زاد المسير" (١/٤٥٢)..

قوله :﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى ﴾ الكناية في " جَعَلَهُ " عائدة على المصدر، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سيق للعلة.
والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِ " جَعَل " على أنها تصييرية.
والثالث : أنه بدل من الهاء في " جَعَلَهُ " قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.
والبشرى : مصدر على " فُعْلَى " كالرُّجْعَى.
وقيل : اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات ﴾ [ البقرة : ٢٥ ].
قوله :﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنًّه معطوف على " بُشْرَى " هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام ؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف، أي : ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت.
وقال أبو حيان : و " تطمئن " منصوب بإضمار " أن " بعد لام " كي "، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال :" اللام في ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه " جَعَلَهُ " ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم.
قال أبو حيان :" وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ على ﴿ بُشْرَى ﴾، على الموضع ؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا ؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم ".
قال شهاب الدين :" وقد جعل بعضهم الواو في ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة ".
قال ابْنُ الخَطِيبِ : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر :
فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله :﴿ إلاَّ بُشْرَى ﴾.
الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال :﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ ونظيره قوله :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا.
قال أبو حيان :" ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم ؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره ". انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ :" إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل ".
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه :" هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾ فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم ؛ لتطمئنَّ قلوبكم به ".
والضميران في قوله ﴿ وَمَا جَعَلَهُ ﴾، و " بِهِ " يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله :" يمددكم ".
وقيل : يعودان على النصر.
وقيل : على التسويم.
وقيل : على التنزيل.
وقيل : على المدد.
وقيل : على الوعد.

فصل


قال في هذه الآية :" لَكُمْ " وتركها في سورة الأنفال ؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى ؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - " به " وقدمه في سورة الأنفال ؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في " لَكُمْ " فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله :﴿ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ١٠ ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي : لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عنده، فاستعينوا به، وتوكلوا عليه ؛ لأن العز والحُكْم له.
قوله :﴿ لِيَقْطَعَ ﴾ في متعلق هذه اللام سبعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة بقوله :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفَصْل.
الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ والمعنى : أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي : تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر.
الثالث : أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله :﴿ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾، والتقدير : وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.
والرابع : أنها متعلقة بمحذوف، تقديره : أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ.
الخامس : أنها معطوفة على قوله :" ولتطمئن " حذف حرف العطف لفهم المعنى ؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله :
﴿ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار.
السادس : أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.
السابع : أنها متعلقة بقوله :﴿ يُمْدِدْكُمْ ﴾ وفيه بُعْدٌ ؛ للفواصل بينهما.
والطرف : المراد به : جماعة، وطائفة، وإنما حَسُنَ ذِكْر الطرف - هنا- ولم يحسن ذكر الوسط ؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ [ الرعد : ٤١ ].
قوله :﴿ مِّنَ الَّذِينَ ﴾ يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل " طَرَفاً " وتكون " مِنْ " للتبعيض.
قوله :﴿ أَوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾ عطف على " لِيَقْطَعَ ".
و " أو " ؛ قيل : على بابها من التفصيل، أي : ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين.
وقيل : بل هي بمعنى الواو، أي : يجمع عليهم الشيئين.
والكبت : الإصابة بمكروه.
وقيل : هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة.
وقيل : أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك : رأسته، أي : أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد : أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا : هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه-.
وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم : سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء.

فصل


معنى قوله :﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا ﴾ أي : ليُهْلِكَ طائفة.
وقال السُّدِّيُّ : لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلبت عليهم١.
﴿ أَوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾.
قال الكلبي : يهزمهم٢.
وقال السُّدي : يلعنهم.
وقال أبو عبيدة : يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم٣.
وقيل٤ : يُخْزِيهم والمكبوت الحزين.
وقيل : يَغِيظهم٥.
وقيل : يُذلهم.
قوله :﴿ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ﴾ لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.
و ﴿ خَآئِبِينَ ﴾ نُصِبَ على الحال.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٩٣) عن السدي وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (٣/٥٥)..
٢ ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (٣/٥٥) عن ابن عباس والزجاج..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/١٩٣- ١٩٤) عن قتادة والربيع وأخرجه ابن المنذر عن مجاهد كما في "الدر المنثور" (٢/١٢٦)..
٥ ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (٣/٥٥) عن النضر بن شميل..
اختلفوا في سبب النزول.
فقيل: نزلت في قصة أُحُد، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يدعُوَ على الكفار، فنزلت هذه الآيةُ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً:
أحدها: أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه، وكسر رَبَاعِيَتَهُ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول: كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم، فنزلت هذه الآية.
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَعَنَ أقوماً، فقال: «اللهم العن أبا سفيان، الهم العن الحارثَ بن هشام، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة»، فنزلت هذه الآية.
﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامهم.
وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.
﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامِهم.
وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.
قال القفال: وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد، فنزلت الآيةُ عند الكل، فلا يمنع حملها على الكل.
528
الثاني: أنها نزلت بسبب أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس.
الثالث: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا، وخالفوا أمره، ويدعوَ لهم، فنزلت الآية.
القول الثاني: أنها نزلت في واقعةٍ أخرى، وهي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة، في صفر سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم، أميرهم المنذر بن عمرو، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم، فوَجِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وَجْداً شديداً، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين، فنزلت الآية، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يفعلَه، وذلك الفعل إن كان بأمر الله، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى:
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ [النجم: ٣] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً، فكيف يكون فاعله معصوماً؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، وإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُشْرِك قط، وقال: «يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين﴾ [الأحزاب: ١]، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد، والغضب العظيم، وهو قَتْل عمه حمزةَ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته، وتأكيداً لطهارته.
والثاني: لعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ همَّ أن يفعلَ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل، والأوْلَى، فلا جرم، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ [النحل: ١٢٦ - ١٢٧] فكأنه - تعالى - قال: إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل، ثم قال ثانياً: وإن تركته كان ذلك أوْلَى، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه، فقال: ﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ [النحل: ١٢٧].
ووجه ثالث: وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم، استأذن ربه فيه، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة.
529

فصل


في معنى الآية قولان:
الأول: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك.
وثانيها: ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله: ﴿أَلاَ لَهُ الحكم﴾ [الأنعام: ٦٢]، واختلفوا في هذا المنع من اللعن، لأي معنًى كان؟
فقيل: الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، وأنه سيولد له وَلَدٌ، يكون مسلماً، بَرًّا، تقيًّا، فإذا حصل دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم بالهلاك، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى.
وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى.
قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾ في نصبه أوجهٌ:
أحدها: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه، تقديره: لِيقطَعَ، أو يتوبَ عليهم، أو يكبتهم، أو يعذبهم.
وعلى هذا فيكون قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن، والمعنى: إن الله تعالى هو المالك لأمرهم، فإن شاء قطع طرفاً منهم، أو هزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء، والزجاج.
الثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلا أن» كقولهم: لألزمنك أو تقضين حقي أي: إلا أن تقتضينه.
الثالث: «أوْ» بمعنى: «حتى»، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾، والمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه، أو يعذبهم بقتل، أو نار في الآخرة، فتشقى بهم، وممن ذهب إلى ذلك الفراء، وأبو بكر بن الأنباري، قال الفراء: ومثل هذا من الكلام: لألزمنك أو تعطيني، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
١٦١٣ - فَقُلْتُ لَهُ:
لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا تُحَاوِلُ مُلْكاً، أوْ تَمُوتَ، فَُعْذَرَا
أراد: حتى تموت، أو: إلا أن تموت.
530
قال شهاب الدين: «وفي تقدير بيت امرئ القيس ب» حتى «نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى: إلا أنْ».
الثالث: منصوب بإضمار: «أنْ» عطفاً على قوله: «الأمر»، كأنه قيل: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو تعذيبهم شيء، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه، فهو من باب قوله: [الطويل]
١٦١٤ - فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ وَآلُ سُبَيْعٍ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا
وقوله: [الوافر]
١٦١٥ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ، وَتَقَرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
الرابع: أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على «شَيءٌ»، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء، أو توبة الله عليهم، أو تعذيبهم، أي: ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم، إنما ذلك راجع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقرأ أبَيّ: أو يتوبُ، أو يعذبهم، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية، أضْمِر مبتدؤُها، أي: هو يتوبُ، ويعذبُهم.

فصل


يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب: هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى.
قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ جملة مستقلة، والمقصود من ذكرها: تعليل حسن والتعذيب، والمعنى: إن يعذبهم فبظلمهم.
واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله، فقد ظلم نفسه.
531
والمقصود منه: تأكيد ما ذكره أولاً من قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، والمعنى:
531
إنما يكون ذلك لمن له الملك، وليس هو لأحد إلا الله.
وقال: ﴿مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ ولم يقل: مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل الكُلُّ فيه.
قوله: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة -، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه.
فإن قيل: أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ، ولا يُعَذَّبُ المَلاَئِكَةُ والأنْبِيَاءُ - عليهم السلام.
قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد فعل، ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل، أو لا يفعل.
ثم قال: «والله غفور رحيم» والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الفضل والإحسان.
532
قال بعضهم: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي، والترغيب والتحذير، وعلى هذا التقدير، فيكون ابتداء كلام، لا تعلُّق له بما قبله.
وقال القفال: يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا، فيجمعوا المالَ، ويُنْفِقُوه على العساكر، فيتمكنون من الانتقام منهم، فنهاهم الله عن ذلك.
قوله: ﴿أَضْعَافاً﴾ جمع ضعف، ولما كان جمع قلة - والمقصود: الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله: ﴿مُّضَاعَفَةً﴾.
وقال أبو البقاء: ﴿أَضْعَافاً﴾ مصدر في موضع الحال من «الرِّبا»، تقديره: مضاعفاً، وتقدم الكلام على ﴿أَضْعَافاً﴾ ومفرده في البقرة.
532
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر: «مضعَّفة» - مشددة العين، دون ألف.
والباقون بالألف والتخفيف، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.

فصل


لما كان الرجل في الجاهلية، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال: زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ، فربما جعله مائتين، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني، فعل مثل ذلك، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد بقوله: ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾.
قوله: ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فإن اتقاء الله واجب، والفلاح يقف عليه، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر، وقد تقدم الكلام على الربا في «البقرة».
قوله تعالى: ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ في هذه الآية سؤالان.
الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال: ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ؟
والجواب: أن التقدير: اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا، فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني: أن ظاهر قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار، وهو خلاف سائر الآيات.
والجواب عليه من وجوه:
أحدها: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات، أعِدَّ بعضُها للكفار، وبعضها للفُسَّاق، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار.
وثانيها: أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار، فذكر الأغلب، كما أن الرجل يقول: هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه، ويكون صادقاً في ذلك.
وثالثها: أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق، وقتل، وزنى، وقذف، ومثله قوله تعالى:
﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: ٨]، وليس جميع الكفار قال ذلك، وقوله: ﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون﴾ [الشعراء: ٩٤] إلى قوله: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ٩٨]، وليس هذا صفة جميعهم، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا -.
533
الرابع: أن قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ إثبات كونها معدة لهم، ولا يدل على الحصر، كقوله - في الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين، والحور العين.
وخامسها: أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى، دخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم.
وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله: «أعِدَّتْ» إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود.
قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن.
قال محمدُ بن إسحاق بن يسار: هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ.
534
قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ في هذه الآية سؤالان.
الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم ؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال :﴿ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ؟
والجواب : أن التقدير : اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا، فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني : أن ظاهر قوله :﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار، وهو خلاف سائر الآيات.
والجواب عليه من وجوه :
أحدها : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات، أعِدَّ بعضُها للكفار، وبعضها للفُسَّاق، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار.
وثانيها : أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها ؛ لأن أكثر أهل النار الكفار، فذكر الأغلب، كما أن الرجل يقول : هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه، ويكون صادقاً في ذلك.
وثالثها : أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق، وقتل، وزنى، وقذف، ومثله قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾ [ الملك : ٨ ]، وليس جميع الكفار قال ذلك، وقوله :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ ] إلى قوله :﴿ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٩٨ ]، وليس هذا صفة جميعهم، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا -.
الرابع : أن قوله :﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ إثبات كونها معدة لهم، ولا يدل على الحصر، كقوله - في الجنة :﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين، والحور العين.
وخامسها : أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ : تعظيم الزَّجْرِ ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى، دخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم.
وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل ؛ لأن قوله :" أعِدَّتْ " إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود.
قوله تعالى :﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن.
قال محمدُ بن إسحاق بن يسار : هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ١.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢٠٦) عن محمد بن إسحاق..
قرأ نافعُ، وابْنُ عَامِرٍ: سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام.
والباقون بواو العطف، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ.
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك، أو أراد العطف، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى: ﴿ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، فإن قوله: ﴿وسارعوا﴾، وقوله: ﴿وأطيعوا﴾ كالشيء الواحد، وقد تقدم ضعف هذا المذهب.
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها، وبعد إتباع الأثر في التلاوة، أتبع كل رسم مصحفه.
534
ورَوَى الكِسَائِيُّ: الإمالة في ﴿وسارعوا﴾، و ﴿أولئك يُسَارِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١]، و ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ [المؤمنون: ٥٦] وذلك لمكان الراء المكسورة.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ صفة لِ «مَغْفِرَةٍ»، و «مِنْ» للابتداء مجازاً.

فصل


قال بعضهم: في الكلام حذف، والتقدير: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.
وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة، ليس إلا افعال المأمورات، وترك المنهيات، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات، وترك المنهيات.
وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه
535
ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه: المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام.

فصل


قال ابْنُ عَبَّاسٍ: إلى الإسلام.
ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى: وبادروا، وسابقوا.
وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب: إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق، فيعم كل المفروضات.
وقال عثمان بن عفان: إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [البينة: ٥].
وقال أبو العالية: إلى الهجرة.
وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق: إلى الجهاد؛ لأن من قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد.
وقال سعيد بن جبير: إلى التكبيرة الأولى، وهو مروي عن أنس. وقال يمان: إنه الصلوات.
وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل: إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام، فيتناول الكُلَّ.
وقال الأصَمُّ: ﴿وسارعوا﴾ بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى
536
أوَّلاً عن الربا، ثم قال: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وهذا يدل على أن المراد منه: المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه.
قال ابنُ الخَطِيبِ: «والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات، والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عامّ، فلا وَجْهَ لتخصيصه، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها حصول الثواب، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين».
قوله: ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ [لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات] لا تكون عرضاً للجنة، فالتقدير: عرضها مثل عرض السموات والأرض، يدل على ذلك قوله: «كعرض»، والجملة في محل جر صفة لِ «جَنَّةٍ».

فصل


في معنى قوله: ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ وجوه:
أحدها: أن المراد: لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً، لكان مثل عرض الجنة.
وثانيها: أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له.
وثالثها: قال أبو مسلم: إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع، لكانت ثمناً للجنة، يقول: إذا بعت الشيء بالشيء: عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذلك - أيضاً - في معنى: القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر.
ورابعها: أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها، ونظيره قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ [هود: ١٠٧ - ١٠٨] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه.
فإن قيل: لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم، فالظاهر أن الطول يكون أعظم، ونظيره قوله: ﴿بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: ٥٤]، فذكر البطائن؛
537
لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة، فإذا كانت البطائن هكذا، فكيف الظهارة.
الثاني: قال القفّال: ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة، واسعة عظيمة.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦١٦ - كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ - عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة.

فصل


رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار».
ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا: أرأيتم قولكم: وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار.
قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.
قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.
فقالوا له: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه حيث شاء الله.
سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة، أفي السماء، أم في الأرض.
فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة.
قيل: فأين هي.
فقال: فوق السماوات السبع، تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع.
538
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢٢]، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة، وإذا كانت الجنة في السماء، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض.
فالجواب: أن باب الجنة في السماء، وعرضها كما أخبر.
وقيل: إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات، والنار في مكان الأرض.
قوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾ يجوز أن يكون محلها الجَرّ، صفة ثانية لِ «جَنَّةٍ»، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «جَنَّةٍ» ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت، فقَرُبَت من المعارف.
قال أبو حيان: «ويجوز أن يكون مستأنفاً، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء:
أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه.
والثاني: أن العرض - هنا - لا يراد به: المصدر الحقيقي، بل يراد به: المسافة.
الثالث: أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال، وصاحبه بالخبر»
.
يعني بالخبر: قوله: ﴿السماوات﴾، وهو رَدٌّ صحيح.
وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما.
وقالت المعتزلة: إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف، ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة.
وقال ابن فورك: «الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة».
قوله: ﴿الذين يُنفِقُونَ﴾ يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.
فاصفة الأولى: قوله: ﴿الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء﴾.
فقيل: معناه: في العُسْر واليُسْر.
وقيل: سواء كانوا في سرور، أو حُزْن، أو في عُسْر، أو في يُسْر.
وقيل: سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه.
539
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل».
ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ.
الصفة الثانية: قوله: ﴿والكاظمين الغيظ﴾ يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.
والكَظْم: الحبس، يقال: كظم غيظه، أي: حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس، يقال: أخذ بكظمه، أي: أخذ بمجرى نفسه.
والكُظوم: احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال: كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له: الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض: كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم: الممتلئ غيظاً، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم: الممتلئ أسَفاً.
قال أبو طالب: [الكامل]
١٦١٧ - فَحَضَضْتُ قَوْمِي، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ
وكظم البعيرُ جِرَّتَه، إذا رَدَّها في جَوْفه، وترك الاجترار.
ومنه قول الراعي: [الكامل]
540
١٦١٨ - فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا
الحقيل، قيل: نبت.
وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعول به، وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شذ جره ب «في» ؛ لأنه ظرف مكان مختص، ويكون المفعول محذوفاً، أي: إذْ رعين الكلأ في حقيل، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل: [البسيط]
١٦١٩ - قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ
والجرر جمع جِرَّة. والكظامة: حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس.
والكظائم: خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه.

فصل


قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً»، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ».
﴿والكاظمين الغيظ﴾ : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء، ونظيره قوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ».
541
الصفة الثالثة: قوله: ﴿والعافين عَنِ الناس﴾.
قال القفال: يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين -: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] وقال
﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٠].
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال: لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ.
وقال الكلبي: العافين عن المملوكين سوءَ الأدب.
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ».
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال: «لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ».
ثم قال: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس، فيدخل كل مُحْسن، وأن تكون للعهد، فتكون إشارة إلى هؤلاء.
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال، وأحَبَّهم، وهو أكرم الأكرمين، والعفو والغفور الحليم، والآمر بالإحسان، فكيف يمدح بهذه الأفعال، ويندب إليها، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول.
542
قوله :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ ﴾ يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.
فالصفة الأولى : قوله :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ ﴾.
فقيل : معناه : في العُسْر واليُسْر١.
وقيل : سواء كانوا في سرور، أو حُزْن، أو في عُسْر، أو في يُسْر.
وقيل : سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه.
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل " ٢.
ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ.
الصفة الثانية : قوله :﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.
والكَظْم : الحبس، يقال : كظم غيظه، أي : حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس، يقال : أخذ بكظمه، أي : أخذ بمجرى نفسه.
والكُظوم : احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال : كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له : الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم : الممتلئ غيظاً، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم : الممتلئ أسَفاً.
قال أبو طالب :[ الكامل ]
فَحَضَضْتُ قَوْمِي، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّمُ٣
وكظم البعيرُ جِرَّتَه، إذا رَدَّها في جَوْفه، وترك الاجترار.
ومنه قول الراعي :[ الكامل ]
فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا٤
الحقيل، قيل : نبت.
وقيل : موضع، فعلى الأول هو مفعول به، وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شذ جره ب " في " ؛ لأنه ظرف مكان مختص، ويكون المفعول محذوفاً، أي : إذْ رعين الكلأ في حقيل، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل :[ البسيط ]
قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ٥
والجرر جمع جِرَّة. والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس.
والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه.

فصل


قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً٦ "، وقال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ " ٧.
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ : الذين يَكُفُّونَ غيظهم عن الإمضاء، ونظيره قوله :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [ الشورى : ٣٧ ]، وقال صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ " ٨.
الصفة الثالثة : قوله :﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾.
قال القفال : يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين- :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ] وقال ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ].
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال : لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ.
وقال الكلبي : العافين عن المملوكين٩ سوءَ الأدب.
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ : عمن ظلمهم وأساء إليهم١٠، قال صلى الله عليه وسلم :" لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ " ١١.
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال :" لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ " ١٢.
ثم قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس، فيدخل كل مُحْسن، وأن تكون للعهد، فتكون إشارة إلى هؤلاء.
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال، وأحَبَّهم، وهو أكرم الأكرمين، والعفو والغفور الحليم، والآمر بالإحسان، فكيف يمدح بهذه الأفعال، ويندب إليها، ولا يفعلها ؟ إن ذلك لممتنع في العقول.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢١٤) عن ابن عباس..
٢ أخرجه الترمذي (٣/١٤٣) والعقيلي في "الضعفاء" (٢/١١٧) من طريق سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن محمد وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى ولا غيره وللحديث شواهد عن عائشة وحديث أخرجه الطبراني في الأوسط كما في "مجمع الزوائد" (٣/١٣٠).
وقال الهيثمي: وفيه سعيد بن محمد الوراق وهو ضعيف.
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" من طريق سعيد بن مسلمة وتليد بن سلمان.
وقال الهيثمي: وسعيد وتليد ضعيفان.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (٢٣٥٢): قال أبي: هذا حديث باطل سعيد ضعيف الحديث أخاف أن يكون أدخل عليه..

٣ البيت نسبه المؤلف إلى أبي طالب وليس في ديوانه ونسبه أبو حيان والسيوطي إلى أبيه عبد المطلب. ينظر الدر المنثور ٢/١٣٠ والبحر ٣/٥٩، والدر المصون ٢/٢١١. وروي البيت في الدر المنثور: "فخشيت... "..
٤ ينظر البيت في ديوانه ١٣٢ والصحاح ٤/١٦٧١ ومجالس العلماء ص ٣٩ و٨٠ والجمهرة ٢/١٧٩ والتاج ٧/٢٨٢ وجمهرة أشعار العرب ص ٧٣٣ واللسان (كظم) والدر المصون ٢/٢١١..
٥ ينظر البيت في تفسير القرطبي ٤/٢٠٦ ورغبة الآمل ١/١٩٢ والخزانة ١/١٩٤ والكامل في اللغة والأدب ٤/٦٥ والبحر المحيط ٣/٦٠ والدر المصون ٢/٢١١..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢١٦) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٣٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر والحديث ذكره السيوطي أيضا في "الجامع الصغير" (٨٩٩٧) وعزاه لابن أبي الدنيا في "ذم الغضب" ورمز له بالضعف.
وللحديث شاهد من حديث معاذ.
أخرجه أبو داود (٢/٦٦٢) رقم (٤٧٧٧)..

٧ تقدم..
٨ أخرجه مالك في "الموطأ" كتاب حسن الخلق باب ما جاء في الغضب (١٢) والبخاري (١٠/٥٣٥) كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (٦١١٦) ومسلم (٤/٢٠١٤) كتاب البر والصلة باب فضل من يملك نفسه عند الغضب (١٠٧- ٢٦٠٩) والترمذي (٢٠٢٠) وأحمد (٢/٢٣٦، ٢٦٨) والبيهقي (١٠/٢٣٥، ٣٤١) والطحاوي في "مشكل الآثار" (٢/٢٥٤) والبخاري في "الأدب المفرد" (١٣١٧) وابن عبد البر في التمهيد (٦/٣٢١، ٣٢٢) والسهمي في "تاريخ جرجان" (٤٥١) والبغوي في "شرح السنة" (٦/٥٣١) عن أبي هريرة مرفوعا..
٩ أخرجه القرطبي في "تفسيره" (٤/١٣٣) وأبو حيان في "البحر المحيط" (٣/٦٣)..
١٠ انظر المصدر السابق..
١١ أخرج الحاكم في المستدرك ٤/١٦١، ١٦٢ عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فبدرته، فأخذت بيده، فأخذ بيدي فقال: يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا وأهل الآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ألا من أراد أن يمد له في عمره ويبسط في رزقه، فليتق الله، وليصل ذا رحمه..
١٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٥٥)، وعزاه لأحمد وابن عساكر عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم.. فذكره..
يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكون الجملةُ من قوله: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤] جملة اعتراض بين المتعاطفين.
ويجوز أن يكون «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولَئِكَ» مبتدأ ثانٍ، و «جَزَاؤهُمْ» مبتدأ ثالث، و «مَغْفِرَةٌ» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
وقوله: ﴿إِذَا فَعَلُواْ﴾ شرط، وجوابه: ﴿ذَكَرُواْ﴾.
قوله: ﴿فاستغفروا﴾ عطف على الجواب، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول، والمفعول الأول ل «اسْتَغْفَرُوا» محذوف، أي: استغفروا الله لذنوبهم، وقد تقدم الكلام على «استغفر»، وأنه تعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، وليس هو هذه اللام، بل «من» وقد يُحْذَف.

فصل في سبب النزول


قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسولَ الله، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه، اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله هذه الآية.
قال عطاء: نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء، تبتاعُ منه تَمْراً، فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيِّد، وإن في البيت أجودَ منه، فذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه، وقَبَّلها، فقالت له: أتَّقِ الله، فتركها، وندم على ذلك، وأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ: آخى رسولُ الله بين رجلين، أحدهما من الأنصار، والآخر من ثقيفٍ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقُرْعة في السفر، وخلف الأنصاريّ على أهله، يَتَعَاهَدُهُم، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه، دخل على أثرها، وقَبَّل يَدَهَا، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها، ثم ندم الرجل وانصرف، ووضع الترابَ على رأسه، وهام على وجهه، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ، فسأل امرأته عن حاله، فقالت: لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله، ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده، فأتى به
543
أبا بكر؛ رجاء أن يجدَ عنده راحةً وفرجاً، وقال الأنصاريُّ: هلكت، وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ، فقال له مثل ذلك، فأتيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لهما مثل مقالتهما، فأنزل الله هذه الآية.
الفاحشة - هنا - نعت محذوف، تقديره: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً.
وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد، فقوله: ﴿فَاحِشَةً﴾ يعني: قبيحة، خارجة عما أذن الله فيه.
قال جَابِر: الفاحشة: الزنا؛ لقوله تعالى: ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ﴾
[النساء: ١٥]، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢].
قوله: ﴿أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾.
قال الزمخشري: «الفاحشة: ما كان فعله كاملاً في القُبْح، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان، مما يؤاخذُ الإنسانُ به».
وقيل: الفاحشة: هي الكبيرة، وظلم النفس هو الصغيرة.
وقيل: الفاحشة، هي الزنا، وظلم النفس: هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة.
وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ، أو نظرة، فيما لا يحل.
وقيل: فعلوا فاحشة فِعْلاً، أو ظلموا أنفسهم قولاً.
قوله: رذَكَرُواْ الله} أي: ذكروا وعيدَ الله وعقابه، فيكون من باب حذف المضاف.
قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله.
وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ: تفكروا أن الله سائلهم.
وقيل: المراد بهذا الذكر: ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى، فهاهنا لما كان المراد منه: الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء، ثم اشتغلوا بالاستغفار، ﴿فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في
544
المستقبل، وهذا حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فلا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار، لإزالة التهمة.
وقوله: ﴿لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: لأجل ذنوبهم.
قوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ﴾ استفهام بمعنى: النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء.
قوله: ﴿إلاَّ الله﴾ بدل من الضمير المستكن في «يَغْفِرُ»، والتقدير: لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى، والمختار - هنا - الرفع على البدل، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠].
وقال أبو البقاء «مَنْ» مبتدأ، «يَغْفِرُ» خبره، و ﴿إلاَّ الله﴾ فاعل «يَغْفِرُ»، أو بدل من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت «اللهُ» فاعلاً، احتجْتَ إلى تقدير ضمير، أي: ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله.
قال شهَابُ الدين: «وهذا الذي قاله - أعني: جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته، إنما يرادُ» النفي «، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر، والعائد على» من «الاستفهامية» ز
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.
قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ﴾ يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل ﴿فاستغفروا﴾ أي: ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم إصرارهم عليها، وتكون الجملة من قوله: ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.

فصل


وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء.
قال الحسن: إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار، حتى يتوب.
وقال السُّدِّي: الإصرار: السكوت وتَرْك الاستغفار.
وعن أبي نُصيرة قال: لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له: أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟
545
قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً». وقيل: الإصرار: المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم: صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه: صُرَّة الدراهم - لما يربط منها -.
قال الحُطََيْئة: يصف خيلاً: [الطويل]
١٦٢٠ - عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي: ثبتت، وأقامت، مداغومة على ما حملت عليه.
وقال الشاعر: [البسيط]
١٦٢١ - يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و «ما» في قوله: ﴿على مَا فَعَلُواْ﴾ يجوز أن تكون اسمية بمعنى: الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل ﴿فاستغفروا﴾، وأن يكون حالاً من فاعل ﴿يُصِرُّوا﴾، والتقدير: ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر.
ومفعول ﴿يَعْلَمُونَ﴾ محذوف للعلم به.
فقيل: تقديره: يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد.
وقيل: يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن.
وقيل: يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها.
وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: وهم يعلمون أنها معصية.
546
وقيل: وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.
وقال الضَّحَّاكُ: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب.
وقيل: وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت -.
وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم.
قوله: ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾، والمعنى: أن المطلوب بالتوبة أمران:
الأول: الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله: ﴿مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾.
والثاني: إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله: ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
قوله: ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ في محل رفع؛ نعتاً لِ «مَغْفِرَةٌ»، و «مِنْ» للتبعيض، أي: من مغفرات ربهم.
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حال من الضمير في ﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى: يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من «جَنَّاتٌ» في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في محل رفع؛ نعتاً لِ «جَنَّاتٌ». وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.
قوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونِعْمَ أجر العاملين الجنة.

فصل


دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه.
قال القَاضِي: وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال: إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم.
قال ثابت البُنَانِي: بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله﴾ الآية.
547
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾، والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران :
الأول : الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله :﴿ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾.
والثاني : إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله :﴿ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾.
قوله :﴿ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ في محل رفع ؛ نعتاً لِ " مَغْفِرَةٌ "، و " مِنْ " للتبعيض، أي : من مغفرات ربهم.
قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال من الضمير في ﴿ جَزَآؤُهُمْ ﴾ ؛ لأنه مفعول به في المعنى ؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من " جَنَّاتٌ " في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى ؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ في محل رفع ؛ نعتاً لِ " جَنَّاتٌ ". وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.
قوله :﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة.

فصل


دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه.
قال القَاضِي : وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال : إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم.
قال ثابت البُنَانِي : بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ ﴾ الآية.
لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل
547
الطاعةِ والتوبةِ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين.
قال الواحدي: أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى: المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود، وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية.
قوله: ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ يجوز أن يتعلق ب «خَلَتْ»، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿سُنَنٌ﴾ ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً.
والسُّنَن: جمع سُنَّة، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها، ومنه سُنَّة الأنبياء.
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب: [الطويل]
١٦٢٢ - فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وقال آخر: [الطويل]
١٦٢٣ - وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ تَأسَّوْا، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا
وقال لبيد: [الكامل]
١٦٢٤ - مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا
وقال المفضَّل: السُّنَّة: الأمة، وأنشد: [البسيط]
١٦٢٥ - مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ
ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه: أهل السنن.
وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى: صوره، ومنه: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٨] أي: مُصَوَّر وقيل: سن الماء والدرع إذا صبهما، وقوله: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ يجوز أن يكون منه، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.
548
وقيل: مسنون، أي: متغير.
وقال بعض أهل اللغة: هي فُعْلة من سَنَّ الماء، يسنه، إذا والى صَبَّه، والسَّنُّ: صَبُّ الماء والعرق نحوهما.
وأنشد لزهير: [الوافر]
١٦٢٦ - نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ
أي: يُصب عليها من العرق، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد، فالسُّنَّة بمعنى: مفعول، كالغُرْفَةِ.
وقيل: اشتقاقها من سننت النَّصْل، أسنّه، سنًّا، إذا حددته [على المِسَن]، والمعنى: أن الطريقةَ الحسنةَ، يُعْتَنَى بها، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه.
وقيل: من سَنَّ الإبل، إذا أحسن رعايتها، والمعنى: أن صاحب السنة يقوم على أصحابه، كما يقوم الراعي على إبله، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.

فصل


قال [أكثر المفسرين] : المراد: سنن الهلاك؛ لقوله تعالى: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ [الزخرف: ٢٥] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا، ثم انقرضوا، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا، والعقاب في الآخرة عليهم، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة.
قال الزجاج: المعنى: أهل سنن، فحذف المضاف.
قال مجاهد: بل المراد، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين، فإن الدنيا لم تَبْقَ، لا مع المؤمن، ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في العُقْبَى، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة.
قوله: ﴿فَسِيرُواْ﴾ جملة معطوفة على ما قبلها، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر، أي: سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم.
وقال أبو البقاء: «ودخلت الفاء في» فَسِيرُوا «؛ لأن المعنى على الشرط، أي: إن شككتم فسيروا».
549
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ «كيف» خبر مقدم، واجب التقديم، لتضمُّنه معنى «الاستفهام»، وهو معلق ل «انْظُرُوا» قبله، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: انظروا في كذا.

فصل


والغرض من هذا الكلام: زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣]، وقوله: ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣]، وقوله: ﴿أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود: تعرف أحوالهم، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود، ويحتمل أن يقال - أيضاً -: إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها، أثر أقوى من أثر المساع.
قال الشاعر: [الخفيف]
١٦٢٧ - إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ

فصل


قال المفسرون: وهذا في حرب أحد، يقول: فأنا أمهلهم، وأسْتدرجهم، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوليائه وهلاك أعدائه.
قوله تعالى: ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ أي: القرآن.
وقيل: ما تقدم من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾.
وقيل: ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده.
والموعظة: الوعظ وقد تقدم.
قوله: «للناس» يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.
قوله: ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول.

فصل


في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة، وذكروا فيه وجهين:
الأول: أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك
550
دون طريق الغَيّ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين.
الثاني: أن البيانَ هو الدلالة، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء.
وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله: «هدى للمتقين».
وقيل: إن قوله ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ عَامّ، ثم قوله: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين.
551
قوله تعالى :﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾ أي : القرآن.
وقيل : ما تقدم من قوله :﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾.
وقيل : ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده.
والموعظة : الوعظ وقد تقدم.
قوله :" للناس " يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.
قوله :﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول.

فصل


في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى، وبين الموعظة ؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة، وذكروا فيه وجهين :
الأول : أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة، والهُدَى بيان الطريق الرشيد ؛ ليُسْلَك دون طريق الغَيّ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين.
الثاني : أن البيانَ هو الدلالة، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء.
وخصَّ المتقين ؛ لأنهم المنتفعون به، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله :" هدى للمتقين ".
وقيل : إن قوله ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾ عَامّ، ثم قوله :﴿ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ مخصوص بالمتقين ؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين.
الأصل: تُوْهِنوا، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك، ويقال: وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع.
ونُقِلَ أنه يُقال: وَهُن، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و «وَهَنَ» يُستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: وَهَنَ زيدٌ، أي: ضَعُفَ، قال تعالى: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤]، ووَهَنْتُه وأضعفته، ومنه الحديث: «وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ»، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها.
وقال زهير: [البسيط]
١٦٢٨ -................... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا
أي: ضعيفاً.
قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ جملة حالية من فاعل ﴿تَهِنُوا﴾، أو ﴿تَحْزَنُوا﴾، والاستئناف فيها غير ظاهر، و ﴿الأَعْلَوْنَ﴾ جمع أعْلَى، والأصل: أعْلَيَوْنَ، فتحرَّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها.
وإن شئت قُلْتَ: استثقلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً، لفظاً، أو تقديراً. وهذا من مثال التقدير.
551

فصل


اعلم أن الآياتِ المتقدمة، كالمقدمة لهذه الآية، كأنه قال: إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية، علمتم أن أهل الباطل، وإن اتفقت لهم [الصَّولة]، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الجهاد على ما أصابهم من القتل، والجراح يوم أُحُد، يقول: ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾ أي: لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، ﴿وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ أي: تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر، وهذا مناسب لما قبله، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم.
وقيل: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ أي: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد، وهو كقوله: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ [آل عمران: ١٦٥] أو لأن قتالكم لله تعالى، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق، وقتالهم للدين الباطل، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم.
وقيل: «وأنتم الأعلون بالحجة».
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابه محذوف.
فقيل: تقديره: فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا.
وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين.

فصل


معنى: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: بقيتم على إيمانكم.
وقيل: وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة.
وقيل: إن كنتم مؤمنين، معناه: إذا كنتم مؤمنين، أي: لأنكم مؤمنون.
وقال ابنُ عباس: انهزم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الشعب، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ»، وثاب نَفَرٌ من المسلمين، رُماة، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾.
وقال الكلبيُّ: نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد، حين أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه بطلب
552
القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم﴾ [النساء: ١٠٤].
553
قرأ الأخوان، وأبو بكر: قُرْح - بضم القاف - وكذلك «القُرْحُ» معرَّفاً.
والباقون بالفتح فيهما.
فقيل: هما بمعنى واحد، ثم اختلف القائلون بهذا.
فقال بعضهم: المراد بهما: الجُرْح نفسه، وقال بعضهم - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر، يقال: قَرِحَ الجُرح، يَقْرحُ، قَرْحاً، وقُرْحاً.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٦٢٩ - وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، فهما كالضَّعْف والضُّعْف، والكَرْه والكُرْه، والوَجْد والوُجْد.
وقال بعضهم: المفتوح: الجُرْح، والمضموم: ألَمُه، وهو قول الفراء.
وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء، كالطرْد والطرَد.
وقال أبو البقاءِ: «وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح، إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى: دَمِيَ».
وقُرِئَ قُرُح - بضمهما -.
قيل: وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر، والطُّنْب والطُّنُب.
وقرأ الأعمش: «إن تمسسكم قروح» - بالتاء من فوق، [وصيغة الجمع في الفاعل]، وأصل المادة: الدلالة على الخُلُوص، ومنه الماء القَرَاح، الذي لا كُدُورةَ فيه.
553
قال الشاعر: [الوافر]
١٦٣٠ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ، وَكُنْتُ قَبْلاً أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح
وأرض قرحة - اي: خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي: خالص طَبْعه -.
وقال الراغب: «القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج، والقُرْح - يعني: بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها - يقال: قَرَحْته، نحو جَرَحْته.
قال الشاعر: [البسيط]
١٦٣١ - لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ يَوْمَ اللِّقَاءِ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا
أي: جرحوا. وقرح: خرج به قرح.
ويقال: قَرَحَ قلبُه، وأقرحه الله - يعني: فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح: الابتداع والابتكار ومنه: اقترح عليَّ فلانٌ كذا، واقترحْتُ بِئراً: استخرجت منها ماءً قَرَاحاً. والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ، والأنْثَى قارحة، وروضة قرحاء، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء»
.
قوله: ﴿فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ﴾ للنحويين - في مثل هذا - تأويل، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله: ﴿فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين، أي: فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر، نحو: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ﴾ [يوسف: ٢٦] و ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾ [يوسف: ٢٧].
وقال بعضهم: جواب الشرط محذوف، تقديره: فتأسَّوا، ونحو ذلك.
وقال أبو حيان: «ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو» فَقَدْ مَسَّ «، فهو ذاهل».
قال شهابُ الدين: «غالب النحويين جعلوه جواباً، متأولين له بما ذكرت».

فصل


هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة، يقول: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾
554
يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ، وهو كقوله تعالى: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ [آل عمران: ١٦٥].
وقيل: إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً، وقتل صاحبُ لوائهم، والجراحات كَثُرَتْ فيهم، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار.
فإن قيل: كيف قال: ﴿قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين.
فالجواب: أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام، لا بكَثْرة القَتْلَى.
قوله: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ يجوز في «الأيَّامُ» أن تكون خبراً لِ «تِلْكَ» و «نُدَاوِلُهَا» جملة حالية، العامل فيها معنى اسم الإشارة، أي: إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً، ويجوز أن تكون «الأيَّامُ» بدلاً، أو عَطْفَ بيان، أو نَعْتاً لاسم الإشارة، والخبر هو الجملة من قوله: ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ وقد مر نحوه في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا﴾ [أل عمران: ١٠٨] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و «بَيْنَ» متعلق ب «نُدَاوِلُهَا»، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول «نُدَاوِلُهَا» ولَيْسَ بِشَيءٍ.
والمداوَلة: المناوَبة على الشيء، والمُعَاودة، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى، يقال: دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه، كأن «فَاعَل» بمعنى: «فَعَل».
قال الشاعر: [الكامل]
١٦٣٢ - تَرِدُ الْمِيَاهَ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ
وأدال فلانٌ فلاناً: جعل له دولة.
وقال الفقَّال: المداولة: نَقْل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ﴾ [الحشر: ٧] أي: تتداولونها، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً، ويقال: الدُّنيا دول، أي: تنتقل من قوم إلى آخرين.
ويقال
555
دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه.
ويقال: دُولة، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
واختلفوا، هل اللفظتان بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ.
فقال الراغب: «إنهما سِيَّانِ، فيكون في المصدر لغتان».
وفرَّق بعضُهم بينهما، واختلف هؤلاء في الفرق.
فقال بعضُهم: الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه، وبالضم: في المال، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر.
وقيل: بالضم اسم الشيء المتداوَل، وبالفتح نفس المصدر، وهذا قريب.
وقيل: بالضم هي المصدر، وبالفتح الفَعْلة الواحدة، فلذلك يقال: في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر.
والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ.
والدَّؤلُولُ: الداهية، والجمع الدآليل والدُّؤلات.
وقرئ شاذًّا: «يُدَاوِلَهَا» - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله، ولما بعده.
وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم.

فصل


ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم، وكذلك مضارُّها، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه، ويوم آخر بالعكس، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة: أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار، وتارة على المؤمنين، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه.
ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد، قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هَذَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا أبو بكر، وهذا أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا.
556
وروى البراء بن عازب قال: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف، ويقُلْنَ الأشعارَ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيفاً، فقال: مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء، وجعل يتبختر، - فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ» فَفلَقَ به هَامَ المشركين، وحمل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابهُ على المشركين، فهزموهم، قال: فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمةَ، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر: أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم، فأقْبَلُوا منهزمين، فذاك إذْ تدعوهم، والرسول في أخراهم، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ، وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات: أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه، فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال: كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي، ثم جعل يزمجر: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أجِيبُوهُ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ»، قال: إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجِيبُوه، قالوا ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» وروي هذا المعنى عن ابن عباس.
قوله: «وليعلم الله» ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين:
أحدهما: أن اللام صلة لفعل مُضْمَر، يدل عليه أول الكلم، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها.
الثاني: أن العامل فيها (نُدَاوِلُهَا) المذكور، بتقدير: نداولها بين الناس ليظهر أمرهم، ولنبين أعمالهم، وليعلم الله الذين آمنوا، فلما ظهر معنى اللام المضمر في «
557
ليظهر»، و «لتتبين» جرت مجرى الظاهرة، فجاز العطف عليها.
وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة، وعلى هذا، فاللام متعلقة ب (نُدَاوِلُهَا) من غير تقدير شيء، ولكن هذا لا حاجة إليه.
ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك.
وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ: «فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم». فقدر عاملاً، وعلق به علة محذوفة، عطف عليها هذه العلة.
قال أبو حيان: «ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة، إنما كَنَّى عنه ب» كيت وكيت «، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل». ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره: وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة، أو نَيْل الكفار منكم -.
وقال بعضهم: «اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر، إما بعده، أو قبلَه، أما الإضمار بعده فبتقدير: وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور: منها: ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها: ليتخذ منكم شهداء، ومنها: ليمحص الله الذي آمنوا، ومنها: ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة». والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد، قالوا: لأنه بمعنى: عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال.
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم.
والواو في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله﴾ لها نظائر كثيرة في القرآن، كقوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥] وقوله: ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١١٣].

فصل


تقدير الكلام: وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وإنما حُذِف المعطوف عليه، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم.
فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ﴾ مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة، ليكتسِبَ هذا العلم، وذلك في حقه تعالى محال، ونظير هذه الآية -
558
في الإشكال - قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين﴾ [آل عمران: ١٤٢] وقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ [العنكبوت: ٣]. وقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً﴾ [الكهف: ١٢] وقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ [محمد: ٣١] وقوله: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول﴾ [البقرة: ١٤٣] وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: ٧]. ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا عِلْم فلان - والمراد: معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد: مقدوره، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم، فالمراد: تجدُّد المعلوم.
إذا عُرِفَ هذا فنقول: في هذه الآية وجوه:
أحدها: لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق، والمؤمنُ من الكافر.
وثانيها: ليَعْلَم أولياء الله، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً.
وثالثها: ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم.
ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد.
قوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ الظاهر ان «مِنْكُمْ» متعلِّق بالاتخاذ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من «شُهَدَاءَ» ؛ لأنه - في الأصل - صفة له.

فصل


والمرادُ بقوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ أي: شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ، ودرجة عالية.
وقيل: المراد منه: ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك: لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو، ويلتمسون فيه الشهادة، والقرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله: ﴿وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء﴾ [الزمر: ٦٩] وقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ
559
النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: ٦٩] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى.
والشُّهداء: جمع شهيد كالكُرَماء، والظُّرَفَاء.

فصل


في تسميتهم «شهداء» وجوه:
أحدها: قال النَّضْر بن شميل: الشهداء أحياء، لقوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩] فأرواحهم حية، وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها.
الثاني: قال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة، فالشهداء جمع شهيد، «فعيل» بمعنى: «مفعول».
الثالث: لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين، فيكونون شهداءَ على الناسِ.
الرابع: سُمُّوا شهداء، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥].
فأما: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض.
قال ابن عباس: أي: المشركين؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ﴾ التمحيص: التخليص من الشيء.
وقيل: المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص: يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال: مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب: إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ: عدا. ف «محص» - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش: مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.
وقال الخليل: التمحيص: التخليصُ من الشيء المعيب.
وقيل: هو الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر: [الطويل]
560
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل: مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ، قال: ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي: تُخَلَّص من الرَّهَل.
[وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك]- يصف فرساً -: [البسيط]
١٦٣٣ - رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا
١٦٣٤ - صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي: في قوائم متجرِّدات من اللحم، ليس فيها إلا العظم والجلد.
قال المبرد: ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا: أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.
قال الواحديُّ: «وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء -» مصنوع «- وقال الخليل: يقال: مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب».
وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان: جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما.
قال أسامة الهذليّ: [الطويل]
١٦٣٥ - وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد
أي: بمجلُوٍّ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق.
قال العجاج: [الرجز]
١٦٣٦ - شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى كَالْكَرِّ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى
والشوى: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: فعلتُه حتى انقطع شَوَاي، أي: ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان.
وقال المفضَّل: هو أن يذهب الشيءُ كلُّه، حتَّى لا يُرَى منه شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ الله الربا﴾ [البقرة: ٢٧٦] أي: يستأصله، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
561
قال الزجاج: معنى الآية: أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد: تمحيص ذنوب المؤمنين - أي: تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد: مَحْق آثار الكافرين، ومَحْوَهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم، وهذه مقابلة لطيفة، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أُحُد، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين، بل بَقِي كثير منهم على كُفره.
562
قوله :﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التمحيص : التخليص من الشيء.
وقيل : المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال : مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ : عدا. ف " محص " - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.
وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب.
وقيل : هو الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر :[ الطويل ]
رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً *** فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا١
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل.
[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] ٢ - يصف فرساً - :[ البسيط ]
صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ *** رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ٣
أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم، ليس فيها إلا العظم والجلد.
قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.
قال الواحديُّ :" وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء - " مصنوع " - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب ".
وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر ؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما.
قال أسامة الهذليّ :[ الطويل ]
وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ *** لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد٤
أي : بمجلُوٍّ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق.
قال العجاج :[ الرجز ]
شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى *** كَالْكَرِّ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى٥
والشوى : الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي، أي : ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان.
وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه، حتَّى لا يُرَى منه شيء، ومنه قوله تعالى :﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ] أي : يستأصله، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
قال الزجاج : معنى الآية : أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد : تمحيص ذنوب المؤمنين - أي : تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد : مَحْق آثار الكافرين، ومَحْوَهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ؛ لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم، وهذه مقابلة لطيفة، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين، بل بَقِي كثير منهم على كُفره.
١ البيت لعبد الله بن معاوية. ينظر الكامل ١/١٨٣ واللسان (محص) وإرشاد الساري ٦/٢٩ وزاد المسير ٢/٤٦٧ ورغبة الآمل ٣/٢٤ والبحر المحيط ٣/٦٩ وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص ١١٣ والدر المصون ٢/٢١٧..
٢ بدل ما بين المعكوفتين في ب: قال الشاعر..
٣ البيت لأبي دؤاد الإيادي –ينظر ديوانه (٢٨٥) والزاهر للأنباري ١/١٠٧ وأمالي القالي ٢/٣٠٥ والدر المصون ٢/٢١٧..
٤ ينظر البيت في ديوان الهذليين ٢/٢٠٦ وشرح أشعار الهذليين ٣/٣٠٠ وتاج العروس ٤/٤٣٤ واللسان (حتد) والدر المصون ٢/٢١٧..
٥ ينظر: البيت في اللسان (محص) وتهذيب اللغة ٤/٢٧١ وتاج العروس ٤٥٥/٤٣٤ والدر المصون ٢/٢١٨ ورواية البيت في الديوان هكذا:
شديد جلز الصلب معصوب الشوى ***....

لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ بدون تحمُّل المشاق؟
وفي «أم» - هذه - أوجه:
أظهرها: أنها منقطعة، مقدَّرة ب «بل»، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم.
وقيل: «أمْ» بمعنى الهمزة وحدها، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار.
وقيل: هذا الاستفهام معناه النهي.
قال أبو مسلم: «إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة، ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢] وافتتح الكلام بذكر» أم «التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما، لا يعينه، يقولون: أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ [آل عمران: ١٣٩] كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟».
وقيل: هي متصلة.
قال ابنُ بَحْر: «هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم، وذلك أن قوله: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ [آل عمران: ١٤٠] و ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ [آل عمران: ١٤٠] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة، وأن تجاهدوا، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً».
و «أحسب» - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين، و ﴿أَن تَدْخُلُواْ﴾ ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول، والثاني: محذوف - على رأي الأخفش.
562
قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾ جملة حالية.
قال الزَّمَخْشَرِي: «و» لما «بمعنى» لم «، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يستقبل، وتقول: وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا، تريد: ولم تفعل، وأنا أتوقَّع فِعْلَه».
قال أبو حيان: «وهذا الذي قاله في» لما «- من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لما «لتعريض الوجود بخلاف» لم «.
قال شِهَابُ الدين: والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب «لَمْ»
هو فعل غير مقرون ب «قد»، والمنفي ب «لما» فعل مقرون بها، و «قد» تدل على التوقُّع، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة، ويدل على ما قلته - من كون «لم» لنفي فعل فلان، و «لما» لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه.
قال الزجاج إذا قيل فعل فلان، فجوابه: لم يفعل، وإذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب «قد» لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة «لما»، وقد تقدم نظير هذه الآية في «البقرة» وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد: وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟
وتقريره: أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر.

فصل


قال القرطبيّ: والمعنى: أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة، كما دخل الذين قُتِلوا، وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم، أي: علم شهادة، حتى يقع عليه الجزاء، والمعنى: ولم تجاهدوا، فيعلم ذلك منكم، ف «لما» بمعنى: «لم».
قوله: «مِنْكُمْ» حال من «الَّذِينَ».
وقرأ العامة ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾ بكسر الميم - على أصل التقاء الساكنين.
وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وفيها وجهان:
563
الأول: أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل «اللام» قبلها.
الثاني: أنه على إرادة النون الخفيفة، والأًصل: ولما يعلمن، والمنفي ب «لما» قد جاء مؤكداً بها، كقول الشاعر: [الرجز]
١٦٣٧ - يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً، كقول الشاعر: [الخفيف]
١٦٣٨ - لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وعليه تُخَرَّج قراءةُ: ﴿أَلَم نَشْرَحَ﴾ [الشرح: ١]- بفتح الحاء -.
وقول الآخر: [الرجز]
١٦٣٩ - مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ
قوله: «ويَعْلَمَ» العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان:
أحدهما: وهو الأشهر - أن الفعل منصوب، ثم هل نصبه ب «أن» مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي: لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب.
الثاني: أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين، والفعل مجزوم، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر، احتيج إلى تحريك آخرهِ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف، وللإتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة «وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ» بفتح الميم - والأول هو الوجه.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ: بكسر الميم؛ عطفاً على «يَعْلَم» المجزوم ب «لَمَّا».
وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - «وَيعْلَمُ» بالرفع، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنه مستأنف، أخبر - تعالى - بذلك.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «على أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون».
564
قال أبُو حَيَّانَ: «ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لا يجوز: جاء زيد ويضحك - تريد: جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف، أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين.
كما أولوا قول الشاعر: [المتقارب]
١٦٤٠ -................... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا
أي: وأنا أرهنهم»
.
قال شهابُ الدين: «قوله: لا تدخل على المضارع، هذا ليس على إطلاقه، بل ينبغي أن يقول: على المضارع المثبت، أو المنفي ب» لا «؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب» لم ولمَّا «. وقد عُرِف ذلك مراراً».
ومعنى الآية: أن دخول الجنة، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت﴾ قرأ البزي: بتشديد تاء «تَمَنَّوْنَ»، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل، وقاعدته: أنه يصل ميم الجمع بواو، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧].
قوله: «مِن قَبْلِ» الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى «أنْ» وصلتها.
وقرأ مجاهد وابنُ جبير: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ بضم اللام، وقطعها عن الإضافة، كقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] وعلى هذا فَ «أنْ» وَصِلَتُها بدل اشتمال من «الْمَوْتَ» في محل نصب، أي: تَمَنَّوْنَ لقاء الموت، كقولك: رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه، والضمير في «تَلْقَوْهُ» فيه وجهان:
أظهرهما: عوده على «الْمَوْتَ».
والثاني: عوده على العدو، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه.
وقرأ الزُّهَرِيُّ، والنخعيّ «تُلاَقُوه»، ومعناه معنى «تَلْقَوْه» ؛ لأن «لقي» يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة.
565
قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ الظاهر أن الرؤية بصرية، فيكتفى بمفعول واحد.
وجوَّزوا أن تكون علمية، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ، هو محذوف، أي: فقد علمتموه حاضراً - أي: الموت -.
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسَّهْل، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة، كقول عنترة: [الكامل]
١٦٤١ - وَلَقَدْ نَزَلْتِ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
أي: فلا تظني غيره واقعاً مني.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب، ويجوز أن تكون مستأنفة، بمعنى: وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب، هل وَفَّيْتُمْ، أو خالفتم؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي: «رَأيْتُمُوهُ»، أي: قابلتموه ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى: المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى: رؤية العين.
وهذا - أعني: إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان، وعلى تقدير صحته، فتكون الجملة من قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها.
ويجوز أن يقدَّر لِ «تَنْظُرُونَ» مفعولاً، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر.

فصل


قال المفسرون: إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا، وليستشهدوا، فأراهم الله يومَ أُحُد.
وقوله: ﴿تَمَنَّوْنَ الموت﴾ أي: سبب الموت - وهو الجهاد - ﴿مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني: أسبابه، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه -.
وقيل: لأن الرؤية قد تكون بمعنى: العلم، فقال: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ ليعلم أن المراد بالرؤية: هي البصرية.
وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
566
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ﴾ قرأ البزي : بتشديد تاء " تَمَنَّوْنَ١ "، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل، وقاعدته : أنه يصل ميم الجمع بواو، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ].
قوله :" مِن قَبْلِ " الجمهور على كسر اللام ؛ لأنها مُعْربة ؛ لإضافتها إلى " أنْ " وصلتها.
وقرأ مجاهد وابنُ جبير :﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ بضم اللام٢، وقطعها عن الإضافة، كقوله تعالى :﴿ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ [ الروم : ٤ ] وعلى هذا فَ " أنْ " وَصِلَتُها بدل اشتمال من " الْمَوْتَ " في محل نصب، أي : تَمَنَّوْنَ لقاء الموت، كقولك : رَهِبْتُ العَدُوَّ لقاءَه، والضمير في " تَلْقَوْهُ " فيه وجهان :
أظهرهما : عوده على " الْمَوْتَ ".
والثاني : عوده على العدو، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه.
وقرأ الزُّهَرِيُّ، والنخعيّ٣ " تُلاَقُوه "، ومعناه معنى " تَلْقَوْه " ؛ لأن " لقي " يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة.
قوله :﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ﴾ الظاهر أن الرؤية بصرية، فيكتفى بمفعول واحد.
وجوَّزوا أن تكون علمية، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ، هو محذوف، أي : فقد علمتموه حاضراً - أي : الموت -.
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب " ظن " ليس بالسَّهْل، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة، كقول عنترة :[ الكامل ]
وَلَقَدْ نَزَلْتِ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ- -مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ٤
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني.
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب، ويجوز أن تكون مستأنفة، بمعنى : وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب، هل وَفَّيْتُمْ، أو خالفتم ؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي :" رَأيْتُمُوهُ "، أي : قابلتموه ﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما ؛ لأن الأول بمعنى : المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى : رؤية العين.
وهذا - أعني : إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان، وعلى تقدير صحته، فتكون الجملة من قوله :﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها.
ويجوز أن يقدَّر لِ " تَنْظُرُونَ " مفعولاً، ويجوز أن لا يُقَدَّر ؛ إذ المعنى : وأنتم من أهل النظر.

فصل


قال المفسرون : إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر ؛ ليقاتلوا، وليستشهدوا، فأراهم الله يومَ أُحُد.
وقوله :﴿ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ﴾ أي : سبب الموت - وهو الجهاد - ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ﴾ يعني : أسبابه، وذكر النظر بعد الرؤية ؛ تأكيداً - كما قدمناه -.
وقيل : لأن الرؤية قد تكون بمعنى : العلم، فقال :﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ليعلم أن المراد بالرؤية : هي البصرية.
وقيل : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
١ ينظر: الدر المصون ٢/٢٢٠..
٢ ينظر: الشواذ ٢٢، والمحرر الوجيز ١/٥١٥، والبحر المحيط ٣/٧٣، والدر المصون ٢/٢٢٠، والصحيح نسبتها إلى مجاهد بن جبر حسب، ولكن المصنف هنا تحرف عليه "ابن جبر" إلى ابن جبير، فظن أنهما اثنان، والصواب كما قدمناه في "المحرر" و"البحر" و"الدرر"..
٣ ينظر: الشواذ ٢٢، والبحر المحيط ٣/٧٣، والمحرر الوجيز ١/٥١٥، والدر المصون ٢/٢٢٠، ونسبها القرطبي في تفسيره (٤/١٤٢) إلى الأعمش..
٤ تقدم برقم ٨٧٧..
«ما» نافية، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني: على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها: ألا يَنْتَقضَ النفي ب «إلا» إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب «ليس» في نفي الحال - فيكون «مُحَمَّدٌ» مبتدأ، و «رَسُولٌ» خبر.
567
هذا -[أعني: إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها]- مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب «إلا».
وأنشد: [الطويل]
١٦٤٢ - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب «منجنوناً»، و «مُعَذَّباً» على خبر «ما» - وهما بعد «إلا» -.
568
ومثله قول الآخر: [الوافر]
١٦٤٣ - وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف «حق» اسم «ما» و «نكالا» خبرها.
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير: وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ «دَوَرَانَ» ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا: «إلا مُعَذَّباً» تقديره: يُعَذَّبُ تعذيباً، فحُذِف الفعلُ، وأقيم «معذَّباً» مقام «تَعْذِيب»، كقوله تعالى: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] أي: كل تمزيق. وكذا: «إلا نَكَالاً»، وفيه من التكلُّف ما ترى.
و «مُحَمَّدٌ» هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى «محمدا».
قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محل رفع؛ صفة لِ «رَسُولٌ».
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في «رَسُولٌ»، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميراً.
قوله: «من قبله» فيه وجهان - أيضاً -:
أظهرهما: أنه معلق ب «خلت».
والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من «الرُّسُلُ» مقدَّماً عليها، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.
569
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ «رُسُلٌ» - بالتنكير -.
قال ابُو الفَتْحِ: ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله:
﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣].
وقوله: ﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠].
وقال أبُو البَقَاءِ: «وهو قريب من معنى» المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل «الجنس»، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية «.
وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم.
قال أبو علي: والرسول جاء على ضربين:
أحدهما: أن يراد به المرسل.
والآخر: الرسالة، وهاهنا المراد منه»
المُرْسَل «، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ [يس: ٣] وقوله: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ﴾ [المائدة: ٦٧] و» فعول «قد يراد به: المفعول، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب، والرسول بمعنى الرسالة.
كقوله: [الطويل]
١٦٤٤ - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم بِسِرٍّ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ

فصل


قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي: لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة، ورأى ظهورَهم خاليةً، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين، ثم حمل على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من خلفهم -، فهزموهم، وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحَجَر، فكسر أنفه ورباعيته، وشُجَّ في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى عليها فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوْجَبَ طَلْحَةُ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك، وأعطتها وَحْشِيًّا، ونقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تَستسغها، فلفظَتْها، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب
570
راية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه، فقتله ابنُ قَمِئة، وهو يرى أنه قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجع، وقال: إني قتلتُ محمداً، وصاح صارخ: ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ، وجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو الناسَ: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه، ومثل له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنانته فقال: ارْمِ فداكَ أبي وأمي، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً، شديد النزع، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ، فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينظر إلى موضع نَبْلِهِ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست، وقى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكانَها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ، وهو يقول: لا نجوتُ إن نَجَا، فقال القوم: يا رسولَ الله، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دَعُوه، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْل ذلك، قال له: عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة، ثم استقبله فطعنه في عنقه، وخدشه خدشة، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول: قتلني محمد، وحمله أصحابه، وقالوا: ليس بك من بأس، فقال: أليس قال لي: أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له: سرف.
قال ابن عباس: اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين: يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم.
وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك: يا قوم، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، قوموا، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني: المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، وقال: عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأشار إليَّ أن أسْكُتَ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النَّبيُّ على الفرار. فقالوا: يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا
571
الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا، فولَّينَا مُدْبِرِين، فأنزل الله قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾.
قوله: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ﴾ الهمزة لاستفهام الإنكار، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها.
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ: «الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه، ولو صُرِّحَ به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم.
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال: الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى «التسبيب»
، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا للانقلاب عنه «.
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ من غير تقدير جملة أخرى.
وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال:»
الهمزة عند سيبويه في موضعها، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله «.
لا يقال: إنه جعل الهمزة في موضعها، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره.
و»
إن «شرطية، و» مَاتَ «و» انْقَلَبْتُمْ «شرط وجزاء، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها.
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط، وإنما هو المستفْهَم عنه، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً، فينوى به التقرير، وحينئذ لا يكون جواباً، بل الجواب محذوف، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة، فلا يجوز عنده أن تقول: إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما، ولا بجزم الأول ورفع الثاني، لأن الشرط مضارع. ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب، بل دال عليه،
572
والنية به التقديم، فإن رفعت» أكرمك «وقلت: أإن أكرمتني أكرمك، صح عنده.
فالتقدير عند يونس: أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟
وقال أبو البقاء:»
وقال يونس: الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط، تقديره: أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط «.
ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن:
أحدهما: أنك لو قدمتَ الدجواب، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول: أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤].
والثاني: أنَّ الهمزة لها صدر الكلام، و «إنْ»
لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد.
وقد رد النحويون على يونس بقوله: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾، فإنَّ الفاء في قوله: «فَهُمْ» تعين أن يكون جواباً للشرط، وأتى - هنا - ب «إن» التي تقتضي الشك، والموت أمر محقق، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل.
فإن قيل: إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يُقْتَل، قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] وقال: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧] وقال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣]، وإذا عُلِم أنه لا يقتل، فلِمَ قال: (أو قتل) ؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول: إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة، وجزآها كاذبان، وقال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] فهذا حَقٌّ، مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد.
الثاني: أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل، ولم يرجعوا عن دينه، فكذا هنا.
وثالثها: أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه لا فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين، وهَمُّوا بالارتداد.
فإن قيل: قوله: ﴿ {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ شكٌّ، وهو - على الله تعالى - محال.
573
فالجواب: أن المراد: أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد.

فصل


قوله: ﴿انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: صرتم كُفاراً بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه، فانقلب على عقبه، ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين:
أحدهما: القياس على موت سائر الأنبياء.
والثاني: أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين.
قوله
: ﴿على
أَعْقَابِكُمْ
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلق ب «انْقَلَبْتُمْ».
والثاني: أنه حال من فاعل «انْقَلَبْتُمْ»، كأنه قيل: انقلبتم راجعين.
قوله: ﴿وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ﴾.
قرأ ابنُ أبي إسحاق «على عقبه» - بالإفراد، و «شَيْئاً» نصب على المصدر أي: شيئاً من الضرر، لا قليلاً ولا كثيراً. والمراد منه: تأكيد الوعيد، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه.
ثم قال: ﴿وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾ والمعنى: أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى.
رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال المراد بقوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾ : أبو بكر وأصحابه. وروى عنه أيضاً أنه قال: أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين الله تعالى.
574
﴿أَنْ تَمُوتَ﴾ في محل رفع؛ اسماً ل «كان»، و «لِنَفْسٍ» خبر مقدَّم فيتعلق
574
بمحذوف، و ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ حال من الضمير في «تَمُوتَ»، فيتعلق بمحذوف، وهو استثناء مفرَّغ، والتقدير: وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة.
وقال أبُو البَقَاءِ: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ الخبر، واللام للتبيين، متعلِّقة ب «كان».
وقيل: هي متعلقة بمحذوف، تقديره: الموت لنفس، و «أنْ تَمُوتَ» تبيين للمحذوف، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب «تَمُوتَ» لما فيه من تقديم الصلة على الموصول.
وقال بعضهم: إن «كَانَ» زائدة، فيكون «أن تموت» مبتدأ، و «لنفس» خبره.
وقال الزجاج: اللام منقولة، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام، فجعل ما كان اسماً ل «كان» - وهو (أن تَموتَ) - خبراً لها، وما كان خبراً - وهو «لِنَفْسٍ» - اسماً لها، فهذه خمسة أقوال، أظهرها: الأول.
أما قول أبي البقاء: واللام للتبيين، فتتعلق بمحذوف، ففيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ «كان» الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها، ولئن سُلِّم ذلك، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو: سَقْياً لك.
وقيل: إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز.
أما مَنْ جعل «لِنَفْسٍ» متعلقة بمحذوف - تقديره: الموت لنفس، ففاسدٌ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل «كَانَ» تامة، أو ناقصة، امتنع حذفُ مرفوعها، لأن الفاعل لا يُحْذَف. وكذلك قول مَنْ جعل «كان» زائدة.
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى، لا تفسير إعراب.

فصل


في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه:
أحدها: أن المنافقين حين قالوا: إن محمداً قُتِل، فقال تعالى: لا تموت نفس إلا بإذن الله، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه.
والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول.
والثاني: أن المراد: تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل، وإذا جاء الأجل لا يندفع، فلا فائدة في الجُبْن والخوف.
والثالث: أن المراد حِفْظ الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ
575
سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه.
ورابعها: أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ [آل عمران: ١٥٦] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥]، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحقق ذلك فيه، أو يعين في تقوية الكُفْر، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله.

فصل


قال القُرْطُبِي: «هذا حضٌّ على الجهاد، وإعلام بأن الموت، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى ﴿مُّؤَجَّلاً﴾ إلى أجل، ومعنى ﴿بِإِذْنِ الله﴾ : بقضاء الله وقدره». واختلفوا في الإذن.
قال أبو مسلم: هو الأمر، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح.
وقيل: المراد منه: التكوين والإيجاد، لأنه لا يقدر على الإماتة والإحياء إلا الله تعالى.
وقيل: الإذن: هو التخلية والإطلاق، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار، كقوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ١٠٢] أي: بتخليته بينه وبين قاتله.
وقيل: الإذن بمعنى: العلم، والمعنى: أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: الإذن: هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى -.
قوله: ﴿كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ في نصبه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، فعامله مُضْمَر، تقديره: كتب الله ذلك كتاباً، نحو قوله تعالى: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] وقوله: ﴿وَعَدَ الله﴾ [الروم: ٦]، وقوله: ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
الثاني: أنه منصوب على التمييز، ذكره ابنُ عطية، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول، وأقسامه محصورة، وليس هذا شيئاً منها، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟
576
والثالث: أنه منصوب على الإغراء، والتقدير: الزموا كتاباً مؤجَّلاً، وآمنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك.
وقرأ ورش: «مُوجَّلاً» بالواو بدل الهمزة، وهو قياس تخفيفها.

فصل


الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه اللوح المحفوظ، أي: كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فصل


قال القاضِي: أما الأجل والرزق، فهما مضافان إلى الله تعالى، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة، فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب الله ذلك، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار.
وجوابه: أنه إذا علم الله من العبد الكفر، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين، وهو محال، وهذا موضِعُ الإلزام.

فصل


قال المفسرون: أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يُقْتَل لعاش، بدليل قوله تعالى: ﴿كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ [آل عمران: ١٤٥]، وقوله: ﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: ٤٩] وقوله: ﴿إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ [نوح: ٤]، وقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: ٣٨].
والمعتزليّ يقول: يتقدَّم الأجل ويتأخّر، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة، وهذه الآية رَدٌّ عليهم.
قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا﴾ مبتدأ، وهي شرطية. وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف
577
المشهور. وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال «يُرِد» في الثاء.
والباقون بالإظهار.
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء «نُؤتِهِ» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً.
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً.
والباقون بالإشباع وَصْلاً.
فأما السكون فقالوا: إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون، وأما الاختلاس، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل: نؤتيه، فحُذِفَت الياء للجزم، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض، فبقيت الهاء على ما كانت عليه.
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال: إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب.
حكى الكسائي: لَهْ مالٌ، وبِهْ داء - بسكون الهاء، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال: إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً، ليس بشيءٍ، أمَّا غير بني عقيل، وبني كلاب، فنعم لا يوجد ذلك عندهم، إلا في ضرورة.
كقوله: [الوافر]
١٦٤٥ - لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
باختلاس هاء (كأنه).
ومثله قول الآخر: [البسيط]
١٦٤٦ - وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا
بسكونها. وجعل ابن عصفور الضرورة في «البيت الثاني» أحسن منها في «البيت الأول»، قال: لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها، فهي جَرْي على الضرورة [إجراءً] كاملاً، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة، نحو: ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]، ونحو: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
578
وقُرِئ: يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى، وكذلك: «وسنجزي الشاكرين» بالنون والياء.

فصل


نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة، ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ يعني: الغنيمة، قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ قيل: أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي، لا ظواهر الأعمال.
ثم قال: «وسنجزي الشاكرين» أي: المؤمنين المطيعين.
عن أنس بن مالك، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ» وروى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه».
579
هذه اللفظة، قيل: هي مركبة من كاف التشبيه، ومن «أيِّ»، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير، المفهوم من «كَمْ» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: له عندي كذا درهماً، والأصل: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير، ف «كم» الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن «لولا» حدث لها معنًى جديدٌ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً، إلا أن الصحابة كتبتها «كَأيِّنْ» - بثبوت النون -، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف.
579
ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي «كأي» - من غير نون - على القياس.
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء، منها: أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة.
وفيها لغات خمس.
أحدها: «كَيِّنْ» - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة، إلاَّ ابن كثير.
وقال الشاعر: [الوافر]
١٦٤٧ - كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ كِرَامُ
الثانية: «كائِنْ» - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة، وهي أكثر استعمالاً من «كأيِّنْ» وإن كانت تلك الأصل -.
قال الشاعر: [الوافر]
١٦٤٨ - وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا
وقال الآخر: [الطويل]
١٦٤٩ - وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ...............
وقال آخر: [الطويل]
١٦٥٠ -... - وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ
..................
580
أنشده المفضل ممدوداً، مهموزاً، مخففاً.
واختلفوا في توجيه هذه القراءة، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان، يكون، فهو كائن، واستبعده مكِّيّ، قال: لإتيان «مِنْ» بعده، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء، قال: «وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير».
لا يقال: هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في «كذا»، و «لولا»، ونحوهما، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى، ويُبْنَى من غير سبب، فلم يُوجد له نظير.
وقيل: هذه القراءة أصلها «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب، فصارت «كائن» مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة، فصار وزنها كَعَلف، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف، كما قالوا في: «أيُّها»، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً، كما قلبوها في نحو آية - والأصل: أيَّة - وكما قالوا: طائِيّ - والأصل: طَيئ - فصار اللفظ «كَأيِنْ» ووزنه كَعْف، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام، واللام قد حُذفَتْ.
الوجه الثاني: أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين - وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «كائن» ووزنه كلف.
الوجه الثالث: ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء، فتحركت الياءُ، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفة، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ.
الوجه الرابع: أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ، فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنة، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين، وتأخير الفاء، وإنما الأعمال تختلف.
اللغة الثالثة: «كَأْيِنْ» - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن، والأشهبُ العقيلي، ووجهها أن الأصل: «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت
581
الياءُ الثانية، استثقالاً، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا «فهو» و «فهي».
اللغة الرابعة: «كَيْإن» بياء ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها، وقرأ بها بعضهم.
اللغة الخامسة: «كإنْ» - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً.
وقال الشاعر: [الطويل]
١٦٥١ - كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وفيها وجهان:
أحدهما: أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب.
والثاني: أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره -، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه.
واختلفوا في «أي» هل هي مصدر في الأصل، أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال «كَأيِّنْ» الأصل فيه: «أيٌّ»، التي هي بعض من كل، أدخلت عليها كافُ التشبيه.
وفي عبارته عن «أيّ» بأنها بعض من كل، نظر لأنها ليست بمعنى: بعض من كل، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم «بعض» في مطابقة الجُزْء، وعود الضمير، نحو: أيُّ الرجلين قائم ولا نقول: قاما، فليست هي التي «بعض» اصلاً.
وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم، واجتمع - والأصل: أوْيٌ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه «أي» فإنها للعموم، والعموم يستلزم الاجتماع.
وهل هذه الكاف الداخلة على «أي» تتعلق بغيرها من حروف الجر، أم لا؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع «أي» صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي «كم» - فلم تتعلق بشيء، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه -.
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل، فقال: «أما العامل في الكاف، فإن جعلناها على حكم الأصل، فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى» كم «، كان العامل بتقدير الابتداء،
582
وكانت في موضع رفع، و» قاتل «الخبر، و» مِنْ «متعلقة بمعنى» الاستقرار «، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى، بما يجب من الخفض في» أي «، وإذا كانت» أي «على بابها من معاملة اللفظ، ف» من «متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه» اه. وهو كلام غريب.
واختار أبو حيان أن «كأين» كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، وهذه طريق سهلة، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب، فموضعها رفع بالابتداء، وفي خبرها أربعة أوجه:
أحدها: أنه «قاتل» فإن فيه ضميراً مرفوعاً به، يعود على المبتدأ، والتقدير: كثير من الأنبياء قاتل.
قال ابو البقاء: والجيد أن يعود الضمير على لفظ «كأين»، كما تقول: مائة نبي قُتِل، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ.
فإن قيل: لو كان كذلك لأنثت، فقلت: قُتِلَتْ؟
قيل: هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير: كثير من الرجال قُتِل.
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ «نَبِيّ»، فعلى هذا جملة ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ جملة في محل نصب على الحال من الضمير في «قُتِل».
ويجوز أن يرتفع «ربيون» على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً، التقدير: استقر معه ربيون.
وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة.
ويجوز أن يكون «مَعَهُ» - وحده - هو الحال، و «رِبِّيُّونَ» فاعل به، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني: الضمير في «مَعَهُ».
ويجوز أن يكون حالاً من «نَبِيّ» - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال.
قال أبو حيان: وهي حال محكية، فلذلك ارتفع «ربيون» بالظرف - وإن كان العامل ماضياً، لأنه حكى الحال الماضية، كقوله: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد﴾ [الكهف: ١٨]، وذلك على مذهب البصريين، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من «أل» مطلقاً.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية، بل يدعى تعلُّقه بفعل، تقديره: استقر معه ربيون.
583
الوجه الثاني: أن يكون «قَاتَلَ» جملة في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيّ»، و ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ هو الخبر، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني: إن شئت أن تجعل «مَعَهُ» خبراً مقدماً، و «ربِّيُّونَ» مبتدأ مرخراً، والجملة خبر «كَأيِّنْ»، وأن تجعل «مَعَهُ» - وحده - هو الخبر، و «ربِّيُّونَ» فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر.
الوجه الثالث: أن يكون الخبر محذوفاً، تقديره: في الدنيا، أو مضى، أو: صابر، وعلى هذا، فقوله: «قَاتَلَ» في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيٍّ»، و «مَعَهُ ربِّيُّونَ» حال من الضمير في «قَاتَلَ» - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون «مَعَهُ ربِّيُّونَ» صفة ثانية ل «نَبِيٍّ»، وُصِف بصفتين: بكونه قاتل، وبكونه معه ربيون.
الوجه الرابع: أن يكون «قَاتَلَ» فارغاً من الضمير، مسنداً إلى «رِبِّيُّونَ» وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان:
أحدهما: أن تكون خبراً ل «كأيِّنْ».
الثاني: ان تكون في محل جر ل «نَبِيٍّ» والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون «قَاتَلَ» مسنداً لِ «رِبِّيُّونَ»، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة «نَبِيٍّ».
ويجوز أن يكون خبراً، فيصير في الخبر أربعة أوجه، ويجوز أن يكون صفةً لِ «نَبِيٍّ» والخبر محذوف على ما ذكرنا.
وقوله: صفة ل «رَبِّيُّونَ» يعني: أن القتل من صفتهم في المعنى، وقوله: «فيصير في الخبر أربعة أوجه» يعني: ما تقدم له من أوجه ذكرها، وقوله: فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة «نبي» غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ.
فإن قلتَ: إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟
قلت: قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال: «ويجوز أن تكون صفة ل» نَبِيٍّ «والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا».
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ، وتخاذل المؤمنين حين قيل: إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ [آل عمران: ١٤٤] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة. وعن ابن عباسٍ - في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]- قال: النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟
584
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ، قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله -.
وقرأ ابن كثيرٍ، ونافع، وأبو عمرو: قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك، إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة: قاتل، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير «نَبِيّ» وأن يرفع «رِبِّيُّونَ» - كما تقدم تفصيلُهُ -.
وقال ابنُ جني: إنَّ قراءة: قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني: «رِبِّيُّونَ» - قال: لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه.
قال أبو البقاء: «ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ».
يعني أن «مِنْ نَبِيٍّ» المراد به الجنس، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ.
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ - استشعر به أبو الفتحِ، وأجاب عنه، قَالَ: فإن قيل: فهلاَّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى «كَمْ» ؟
فالجواب: أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: «مِنْ نَبِيٍّ} ودلَّ الضمير المفرد» مَعَهُ «على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ، فخرج الكلامُ على معنى» كم «. قال: في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ» قُتِلَ «أو» قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ «فإن» ربِّيُّونَ «مرفوعٌ في قراءته ب» قُتِل «أو» قَاتَل «وليس مرفوعاً بالابتداء، ولا بالظرف، الذي هو» مَعَه «.
قال أبو حيّان: «وليس بظاهر؛ لأن»
كأين «مثل» كَمْ «وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ: كم من عانٍ فككته، فأفردت، راعيت لفظ» كم «ومعناها جمع، فإذا قلت: فككتهم، راعيت المعنى، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون، وقتل معهم ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول» كم «و» كأين «كثير، والمعنى: جمع كثير، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٤ و٤٥]، فقال:» مُنْتَصِر «وقال:» وَيُوَلُّونَ «فأفرد في» مُنْتَصِرٌ «وجمع في» يُوَلُّونَ «.
ورجح بعضهم قراءة»
قَاتَلَ «لقوله - بعد ذلك -: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ قال: وإذا قتلوا، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟
585
والجوابُ: أن معناه: قتل بعضهم، كما تقول: قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا، ثم انصرفوا.
وقال ابن عطية: قراءة من قَرَأ» قَاتَلَ «أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة: قتل - إسناده إلى» نبي «.
قال أبو حيّان:»
قتل «يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة. و» قَاتَل «لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.
قوله: ﴿مِّن نَّبِيٍّ﴾ تمييز ل»
كَأيِّنْ «لأنها مثل» كم «الخبرية.
وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب»
من «ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك، وهذا هو الأكثرُ الغالب. قال وقد جاء تمييزُها منصوباً، قال الشاعرُ: [الخفيف]
١٦٥٢ - أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وقال آخر: [الطويل]
١٦٥٣ - فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً قَدِيماً، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ
وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين، وهو لا يثبت مع الإضافة.
و»
ربيون «: جمع رِبِّيّ، وهو العالم، منسوب إلى الرَّبّ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب، نحو: إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل: كُسِر للإتباع.
وقيل: لا تغيير فيه، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ، وقرأ عليّ، وابنُ مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، والحسنُ»
رُبِّيُّونَ «- بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ، إذا قلنا: هو منسوب إلى الربِّ، وقيل: لا تغيير، وهو منسوب إلى الربة، وهي الجماعة.
قال القرطبيُّ «واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها»
.
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ، بفتحها على الأصل، إن قلنا:
586
منسوب إلى الرَّبِّ، وإلا فمن تغيير النسب، إن قلنا: إنه منسوب إلى الربة.
قال ابن جني: والفتح لغة تميم.
وقال النقاشُ: «هم المكثرون العلم» من قولهم: رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ: الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ: والربيون: الألوف.
وقال الكلبيّ: الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف.
وقال الضَّحَّاك: الرَّبِّيَّة الواحدة ألف، وقال الحسنُ: رِبِّيُّون: فُقَهاء وعُلَماء.
وقيل: هم الأتباع، فالربانيون: الولاة، والربانيون: الرعية. وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون: الألوف.
قوله: «كَثِيرٌ» صفة لِ «رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع.

فصل


معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [وقتال] عدوِّهم، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا.
587
قال القفالُ: والوقف - في هذا التأويل - على قوله:» قُتِل «وقوله ﴿مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ﴾ حال، بمعى: قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير. أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي: وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ، فما وهن الربيون على كثرتهم.
وقيل: المعنى: وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ، فما ضَعُفَ الباقون، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك.
وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم. والمعنى على القراءة الثانية -: وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه، فأصابهم من عدوهم قروح، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته، وإقامة دينه، ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ.
وحجة هذه القراءة: أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القتال، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال: ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال. قوله: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ الضمير في»
وَهَنُوا «يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذا في قراءة» قَاتَلَ «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي، أو إلى الربِّيين، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة» قاتل «.
والجمهورُ على «وَهَنُوا»
- بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها، وهما لغتانِ: وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة: وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد -.
قال القرطبيُّ: - عن أبي زيد -: «وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه: ضعَّفته، والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارَاها، والوَهْن من الإبل: الكثيف، والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك المَوْهِن، وأوهَنَّا: صِرْنا في تلك الساعة».
و ﴿لِمَآ أَصَابَهُمْ﴾ متعلق ب «وَهَنُوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، أو مصدرية، أو نكرة موصوفة.
وقرأ الجمهور ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾ - بضم العين - وقرئ: ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة.
588
قوله: ﴿وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾ فيه ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أنه «استفعل» من الكَوْن - والكَوْن: الذُّلّ - وأصله: استكون، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً.
وقال الأزهريُّ وأبو علي: هو من قول العربِ: بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي: بحالة سوء، فألفه - على هذا من ياء، والأصل: استكْيَن، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. [وهو القول الثاني].
الثالث: قال الفرّاء: وزنة «افتعل» من السكون، وإنما أُشْبِعَت الفتحة، فتولَّد منها ألف.
كقول الشاعر: [الرجز]
١٦٥٤ - أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ
يريد: العقرب الشائلة.
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ، نحو: استكان، يستكين، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً. وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ.
وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي -.
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة، قالوا: تَمَنْدَلَ، يَتَمَنْدَلُ، تَمَنْدُلاً، فهو مُتَمَنْدِل، ومُتَمَنْدَل به. وكذلك تَمَدْرَع، وهما من الندل والدرع.
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال: «لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول: استكان، يستكين، استكانة، فهو مستكين، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد».
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ: فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا - للعلم، أو للاقتصار على الفعلين - نحو ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ [الحاقة: ٢٤] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما.
وقال الزمخشري: ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ.
589
وقيل: ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم.

فصل


المعنى: ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح، وما استكانوا للعدو.
وقال مقاتلٌ: وما استسْلَموا، وما خضعوا لعدوهم.
وقال السُّدِّيُّ: وما ذلوا. وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكافرين، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان.
ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة: هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم.
ثم قال: ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ أي: مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه. ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة.
590
الجمهور على نصب ﴿قَوْلِهِمْ﴾ خبراً مقدَّماً، والاسم «أنْ» وما في حيزها، تقديره: وما كان قولهم [إلا هذا الدعاء، أي: هو دأبهم وديدنهم].
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع «قولُهم» على أنه اسم «كان» والخبر «أن» وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً، و «أن» وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا: لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر، ولا تُوصَف، ولا يُوصَف بها، و «قولهم» مضافٌ لمُضْمَرٍ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ، فهو أقلُّ تعريفاً.
590
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين:
أحدهما: هذا، والآخر: أن ما بعد «إلاَّ» مُثبَت، والمعنى: كان قولَهُمْ: ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء، وهو حَسَنٌ.
والمعنى: وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ.

فصل


معنى الآية: وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم.
قال القاضي: إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة، وظهر أمارات استيلاء العدو، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي، فقالوا: ﴿ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي: الصغائر ﴿وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا﴾ أي: الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] وقال ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل﴾ [الإسراء: ٣٣] وقال: ﴿وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأعراف: ٣١] ويقال: فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة.
قوله: ﴿في أَمْرِنَا﴾ يَجُوز فيه وجهانِ:
الأول: أنه متعلق بالمصدر قبله، يقال: أسرفتُ في كذا.
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه، أي: حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم.
قال القاضي: وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن، سواء كان في الجهادِ أو غيره.
قوله: «فآتاهم الله» يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [الأمْرَين] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ: النصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة
591
بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ.
ويجوز أن يُحْمَل قوله: «فآتاهم» على أنه سيؤتيهم، كقوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١] أي: سيأتي أمرُ اللهِ.
قيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك.

فصل


قال فيما تقدم: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥] فأتى بلفظ «من» الدالة على التبعيض، وقال هنا: ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة﴾ ولم يذكر كلمة «من» لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب.
592
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٧:الجمهور على نصب ﴿ قَوْلِهِمْ ﴾ خبراً مقدَّماً، والاسم " أنْ " وما في حيزها، تقديره : وما كان قولهم [ إلا هذا الدعاء، أي : هو دأبهم وديدنهم ].
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع " قولُهم ١ " على أنه اسم " كان " والخبر " أن " وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى ؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً، و " أن " وما في حيزها أعْرَف ؛ قالوا : لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر، ولا تُوصَف، ولا يُوصَف بها، و " قولهم " مضافٌ لمُضْمَرٍ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ، فهو أقلُّ تعريفاً.
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :
أحدهما : هذا، والآخر : أن ما بعد " إلاَّ " مُثبَت، والمعنى : كان قولَهُمْ : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء، وهو حَسَنٌ.
والمعنى : وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ.

فصل


معنى الآية : وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم.
قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف ؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة، وظهر أمارات استيلاء العدو، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي، فقالوا :﴿ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ أي : الصغائر ﴿ وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ﴾ أي : الكبائر ؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ؛ قال تعالى :﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] وقال ﴿ فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] وقال :﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] ويقال : فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة.
قوله :﴿ فِي أَمْرِنَا ﴾ يَجُوز فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله، يقال : أسرفتُ في كذا.
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه، أي : حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم.
قال القاضي : وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن، سواء كان في الجهادِ أو غيره.
قوله :" فآتاهم الله " يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [ الأمْرَين ] ٢ أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ : النصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ٣ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة بالحُسْنِ ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ.
ويجوز أن يُحْمَل قوله :" فآتاهم " على أنه سيؤتيهم، كقوله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ] أي : سيأتي أمرُ اللهِ.
قيل : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك.

فصل


قال فيما تقدم :﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] فأتى بلفظ " من " الدالة على التبعيض، وقال هنا :﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾ ولم يذكر كلمة " من " لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء ؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب.
١ انظر: الشواذ ٢٣، والمحرر الوجيز ١/٤٣٣، والبحر المحيط ٣/٨١، والدر المصون ٢/٢٣٠..
٢ في أ: الأجرين..
٣ انظر: البحر المحيط ٣/٨١، والدر المصون ٢/٢٣١، والقرطبي ٤/١٤٩..

لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.
وقيل: المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، وقالوا: لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ، يَوْمٌ لَهُ، وَيَومٌ عليه.
وقال آخرون: المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ.
وقيل: المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: «والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ».
قوله: ﴿يَرُدُّوكُم﴾ جواب ﴿إِن تُطِيعُواْ﴾ وقوله: ﴿إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ﴾ لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه، بل لا بُدَّ من التخصيصِ.
592
وقيل: إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ.
وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال.
وقيل في المشورة. وقيل في تَرْك المحاربة، وهو قوله: ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ [آل عمران: ١٥٦] ثم قال: ﴿يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ﴾ يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر، ثم قال: ﴿فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾ فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة.
أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ، وإظهار الحاجة إليه. وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد، والوقوع في العقاب المخلَّد و «خَاسِرِينَ» حالٌ.
قوله: ﴿بَلِ الله مَوْلاَكُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول، والتقدير: لا تطيعوا الذين كفروا، بل أطيعوا الله، و «مَوْلاَكُمْ» صفة.
وقال مَكِّي: «وأجاز الفرَّاء: بل الله - بالنصب -» كأنه لم يطلع على أنها قراءة.

فصل


والمعنى: أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين، وذلك لوجوهٍ:
أولها: أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.
ثانيها: أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة، وغيره ليس كذلك.
ثالثها: أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال:
﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار﴾ [الأنبياء: ٤٢] وغيره ليس كذلك.
واعلم أن ظاهر قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾ يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ، وهو منزَّه، عن ذلك، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم، كقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾
593
قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.
قوله: ﴿سَنُلْقِي﴾ الجمهور بنون العظمة، وهو التفات من الغيبة - في قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾ وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى -.
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ «سَيُلْقِي» بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال: والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام، فاستُعِيرَ هنا، كقول الشَّاعر: [الطويل]
١٦٥٥ - هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: «الرُّعْب» و «رُعْباً» - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل: هما لغتان.
وقيل: الأصل الضم، وخُفِّف، وهذا قياس مطردٌ.
وقيل: الأصلُ السكون، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ.
والرُّعْب: الخوف، يقال: رعيته، فهو مرعوب، وأصله من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض، أي: ملأته وسَيْل راعب، أي: ملأ الوادي.

فصل


قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين:
الأول: أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم، فتركوهم، وفرّوا منهم من غير سبب، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر، ودارت بينهم كلماتٌ، وما
594
تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل، والذهاب إليهم.
والثاني: أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئاً، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم.
وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.
قال القفالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

فصل


قال بعض العلماءِ: إن هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار.
قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٥٦] متعلق بالإلقاء، وكذلك ﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ﴾ ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما، فإن «في» للظرفية؛ الباء للسببية. و «ما» مصدرية، و «ما» الثانية مفعول به لِ «أشْرَكُوا» وهي موصولة بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والراجع: الهاء في «به» ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي: الحجة - كأنه قيل: لا سُلطان على الإشراك فينزل.
كقول الشاعر: [السريع]
١٦٥٦ -................... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها، فيُرَى.
ومثله قول الشاعر: [الطويل]
١٦٥٧ - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ...................
أي: لا منار فيهتدى به، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و «سُلْطَاناً» مفعول به لِ «يُنَزِّلُ».
595
قوله: ﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ﴾ «ما» مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم باللهِ، وتقريره: أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار، كقوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: ٦٢] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول: إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني، فالآخر ينصرني، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ.
قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ السُّلْطَان - هنا -: الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوهٌ:
فقيل: من سليط السراج الذي يوقَد به، شُبِّه لإنارته ووضوحه. قاله الزجاجُ.
وقال ابن دُرَيْدٍ: من السلاطة، وهي الحِدَّة والقَهْر.
وقال الليثُ: السلطان: القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط، فسلطان الملكِ: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سُلْطَاناً، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ.
فإن قيل: إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟
فالجوابُ: أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه.
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: إن هذا لا دليلَ عليه، فلم يَجُزْ إثباتُه. وبالغ بعضهم، فقال: لا دليلَ عليه، فيجب نَفْيُه.

فصل


استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه.
وقوله: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار﴾ بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم: مسكنهم النار.
قوله: ﴿وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: مثواهم، أو النار.
المثوى: مَفْعَل، من ثَوَيْتُ - أي: أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي، ثم يئوي، ولا يلزم المأوى الإقامة، بخلاف عكسه.
596
قوله :﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ١ ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا، بل أطيعوا الله، و " مَوْلاَكُمْ " صفة.
وقال مَكِّي٢ :" وأجاز الفرَّاء٣ : بل الله - بالنصب - " كأنه لم يطلع على أنها قراءة.

فصل


والمعنى : أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى ؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين، وذلك لوجوهٍ :
أولها : أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.
ثانيها : أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة، وغيره ليس كذلك.
ثالثها : أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [ الأنبياء : ٤٢ ] وغيره ليس كذلك.
واعلم أن ظاهر قوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ، وهو منزَّه، عن ذلك، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم، كقوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
١ انظر: الشواذ ٢٢، والمحرر الوجيز ١/٥٢٢، والبحر المحيط ٣/٨٢، والدر المصون ٢/٢٣١..
٢ ينظر: المشكل ١/١٦٣..
٣ معاني القرآن ١/٢٣٧..
قوله :﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ﴾ هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.
قوله :﴿ سَنُلْقِي ﴾ الجمهور بنون العظمة، وهو التفات من الغيبة - في قوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه – تعالى-١.
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ " سَيُلْقِي " بالغيبة ؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز ؛ لأن أصلَه في الأجرام، فاستُعِيرَ هنا، كقول الشَّاعر :[ الطويل ]
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهِمَا *** عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ٢
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ :" الرُّعْب " و " رُعْباً٣ " - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان.
وقيل : الأصل الضم، وخُفِّف، وهذا قياس مطردٌ.
وقيل : الأصلُ السكون، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ.
والرُّعْب : الخوف، يقال : رعبته، فهو مرعوب، وأصله من الامتلاء، يقال : رَعَبْتُ الحوض، أي : ملأته وسَيْل راعب، أي : ملأ الوادي.

فصل


قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد ؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين :
الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم، فتركوهم، وفرّوا منهم من غير سبب، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ ؟ أين ابن أبي قُحافةَ ؟ أين ابن الخطابِ ؟ فأجابه عمر، ودارت بينهم كلماتٌ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل، والذهاب إليهم.
والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا، وقالوا : ما صنعنا شيئاً، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم٤.
وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.
قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله :" نصرت بالرعب مسيرة شهر ".

فصل


قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار.
قوله :﴿ فِي قُلُوبِ ﴾ متعلق بالإلقاء، وكذلك ﴿ بِمَآ أَشْرَكُواْ ﴾ ولا يضر تعلُّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما، فإن " في " للظرفية ؛ الباء للسببية. و " ما " مصدرية، و " ما " الثانية مفعول به لِ " أشْرَكُوا " وهي موصولة بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والراجع : الهاء في " به " ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل.
كقول الشاعر :[ السريع ]
. . . *** وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ٥
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها، فيُرَى.
ومثله قول الشاعر :[ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِه٦ ***. . .
أي : لا منار فيهتدى به، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و " سُلْطَاناً " مفعول به لِ " يُنَزِّلُ ".
قوله :﴿ بِمَآ أَشْرَكُواْ ﴾ " ما " مصدرية، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار، كقوله :﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [ النمل : ٦٢ ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني، فالآخر ينصرني، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ.
قوله :﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ السُّلْطَان - هنا - : الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوهٌ :
فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به، شُبِّه لإنارته ووضوحه. قاله الزجاجُ.
وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة، وهي الحِدَّة والقَهْر.
وقال الليثُ : السلطان : القدرة ؛ لأن أصل بنائه من التسليط، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته، ويسمى البرهان سُلْطَاناً، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ.
فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله ؟
فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه.
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه، فلم يَجُزْ إثباتُه. وبالغ بعضهم، فقال : لا دليلَ عليه، فيجب نَفْيُه.

فصل


استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد ؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه.
وقوله :﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾ بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار.
قوله :﴿ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي : مثواهم، أو النار.
المثوى : مَفْعَل، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي، ثم يثوي، ولا يلزم المأوى الإقامة، بخلاف عكسه.
١ انظر: الشواذ ٢٢، والمحرر الوجيز ١/٥٢٣، والبحر المحيط ٣/٨٣، والدر المصون ٢/٢٣١..
٢ البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢/٢١٥، وخزانة الأدب ٤/٤٦٠، ٤٦٤، ٧/٤٧٦، ٥٤٦، والكتاب ٣/٣٦٥، ولسان العرب (فمم)، (فوه)، وشرح أبيات سيبويه ٢/٢٨٥، وشرح شواهد الشافية ص ١١٥، والدرر ١/٥٦، وسر صناعة الإعراب ١/٤١٧، ٤٨٥، وتذكرة النحاة ص ١٤٣، وجواهر الأدب ص ٩٥ والمحتسب ٢/٢٣٨، وأسرار العربية ص ٢٣٥، والأشباه والنظائر ١/٢١٦، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧، والخصائص ١/١٧٠، ٣/١٤٧، ٢١١، وشرح شافية ابن الحاجب ٣/٢١٥، والمقتضب ٣/١٥٨، والمقرب ٢/١٢٩ والإنصاف ١/٣٤٥ والهمع ١/٥١ والدر الصمون ٢/٢٣١..
٣ انظر: الكشف ١/٣٦٠، والسبعة ٢١٧، والحجة ٣/٨٥، والعنوان ٨١، وحجة القراءات ١٧٦، وإعراب القراءات ١/١٢٠، وشرح شعلة ٣٢٣، وشرح الطيبة ٤/١٧٠، وإتحاف ١/٤٩٠..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٢٨٠) عن السدي والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٤٨)..
٥ تقدم..
٦ تقدم..
صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.
والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ معمول لِ «صَدَقَكُمْ» أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وَعْدَه» - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.
يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل.
قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦٥٨ - حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير: [الوافر]
١٦٥٩ - تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال: جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت: - أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.
قال رؤية: [الرجز]
١٦٦٠ - إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة -.
قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.
و «بإذْنِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «تَحُسُّونَهُمْ»، أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.
قال القرطبيُّ: «ومعنى قوله:» بإذْنه «أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره».
597

فصل


وجه النظم: قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ.
وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ يريد: تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: ﴿إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٥] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى.
وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ [آل عمران: ١٥١].
وقيل: الوعد هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للرُّماة: لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان.
قال أبو مسلم: لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ.

فصل


وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره، واستقبل المدينة، وأقام الرماةَ عند الجبلِ، وأمرهم أن يثبتوا هناك، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها، والباقون يضربونهم بالسيوفِ، حتّى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، أي: يقتلونهم قتلاً كثيراً.
وقوله: ﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ في «حَتَّى» قولان:
أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها متعلقة ب «تَحسُّونَهُمْ» اي: تقتلونهم إلى هذا الوقت.
الثاني: أنها متعلقة ب «صَدَقَكُمْ» وهو ظاهر قول الزمخشريّ، قال: «ويجوز أن يكونَ المعنى: صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم».
598
الثالث: أنّها متعلقة بمحذوف، دَلَّ عليه السياقُ.
قال أبو البقاء: «تقديره: دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم».
القول الثاني: أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية، و «إذَا» على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قال الفرّاء: جوابها «وَتَنَازَعْتُمْ» وتكون الواو زائدة، كقوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ [الصافات: ١٠٣ - ١٠٤] والمعنى ناديناه، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان، فكأنَّ التقدير: حتى إذا فَشِلْتُم، وتنازعتم في الأمر عصيتم.
قال: ومذهب العرب إدخال الواو في جواب «حَتَّى» كقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ ﴿الزمر: ٧٣] فإن قيل: قوله: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ﴾ معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه، وذلك فاسدٌ.
فالجواب: أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة.
قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ و «ثم» زائدة.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون الجواب ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ و «ثُمَّ» زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر: [الطويل]
١٦١ - أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١١٨] وهذان القولان ضعيفانِ جداً.
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ: انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ: منعكم نصرَه.
وقدَّره ابو البقاء: بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ [آل عمران: ١٥٢].
وقدره غيره: امتحنتم.
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.
وقدَّره أبو حيان: انقسمتم إلى قسمَيْن، ويدلُّ عليه ما بعده، وهو نظيرُ قوله: {فَلَمَّا
599
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: ٣٢] قال أبو حيان: لا يقال: كيف يقالُ: انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم، بل من بعضِهِمْ.
واختلفوا في «إذا» - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى «إذْ» ؟ والصحيح الأول، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.

فصل


الفشلُ: هو الضعف.
وقيل: الفشل: الجُبْن، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ﴾ [الأنفال: ٤٦] أي: فتضعفوا، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا.
والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون، فقال بعضُهم لبعض: انهزم القومُ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة.
وقال بعضهم: لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريحُ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش، ونادى إبليسُ: إن محمداً قد قُتِل، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ.
قوله: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ يعني: أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان ﴿مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ من الظفر والغنيمة.
فإن قيل: لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟
فالجوابُ: أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ، وطمعوا في الغنيمة، فشلوا في أنفسهم عن الثبات، طمعاً من الغنيمةِ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
فإن قيل: إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟
فالجوابُ: أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده، وهو قوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾.
600
قوله: ﴿مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم.
قوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني: الذين تركوا المركز، وأقبلوا على النهبِ ﴿وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ يعني: الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ، حتى قُتِلوا. قال عبدُ الله بن مسعودٍ: وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد الدنيا، حتى كان يومُ أحدٍ، ونزلت هذه الآية.
قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه، و «لِيَبْتَلِيَكُمْ» متعلق ب «صَرَفَكُمْ» و «أن» مضمرة بعد اللام.

فصل


اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ: الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم، وسلَّط الكفارَ عليهم.
وقالت المعتزلةُ: هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل، أم القرآنُ فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ [آل عمران: ١٥٥] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل:
أحدها: قال الجبائيُّ: إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم، وبعضهم بقي هناك، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ والمرادُ: أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك
601
المكانِ، وتحصَّنُوا به، أمرهم - هناك - بالجهادِ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين، فلم قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾.
قلنا: الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ، ومَنْ لم يكن معذوراً، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة، فقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ، وعلى حُكمين، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره: ﴿ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: ٤٠] والمرادُ الذي قال له: لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ، ثم قال: «وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا» وعنى بذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً، هذا قول الجبائي.
الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: وهو أنَّ المرادَ من قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم، ثم قال: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي: ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ، وترجعوا إليه، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَيْلكم إلى الغنيمةِ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم.
الثالثُ: قال الكَعْبي: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ بأ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ بكثرة الإنعام عليكم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم.
قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة، فإن كان من الكبائرِ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [الإقامة] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ.
وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ.
وأيضاً ظاهر قوله تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: ١٦] يدل على كونه كبيرة، ويضعف قول من قال: إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ، ولا تفاوت في المقصودِ، فكان
602
التخصيصُ ممتنعاً، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ، ثم قال: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ.
603
العامل في «إذْ» قيل: مُضْمَر، أي: اذكروا.
وقال الزمخشريُّ: «صَرَفَكُمْ» أوْ «لِيَبْتَلِيَكُمْ».
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «عَصَيْتُمْ» أوْ «تَنَازَعْتُمْ» أو فَشِلْتُمْ.
وقيل: هو ظرف لِ «عَفَا عَنْكُمْ» أي: عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين.
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونه ظرفاً لِ «صَرَفَكُمْ» جيدٌ من جهةِ المعنى، ولِ «عَفَا» جيدٌ من جهة القُرْبِ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها، لعدم الإضمارِ في الأول، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ.
والجمهور على ﴿تُصْعِدُونَ﴾ - بضم التاء وكسر العين - من: أصْعَدَ في الأرض، إذا ذهب فيها. والهمزةُ فيه للدخول، نحو أصبح زيدٌ، أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تدخلون في الصعود، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ «تصعدون في الوادي».
وقرأ الحسنُ، والسُّلمي، وقتادةُ: «تَصْعَدُونَ» بفتح التاء والعين - من: صعد في الجبل، أي: رقي، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد، وقرأ أبو حَيْوَةَ: «تَصَعَّدُون» بالتشديد - وأصله: تَتَصَعَّدُونَ، حذفت إحدى التاءين، إما تاء المضارعة، أو تاء «تَفَعَّل» والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم.
والجمهورُ ﴿تُصْعِدُونَ﴾ بتاء الخطاب، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة، على الالتفاتِ، وهو حسنٌ.
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين، أي: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ فالعاملُ في «إذْ» «فَضْلٍ» ويقال: أصْعَدَ: أبعد في الذهاب، قال القُتَبِيُّ أصعد:
603
إذا أبْعَد في الذهاب، وأمعن فيه، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ.
قال الشاعرُ: [الطويل]
١٦٦٢ - ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي، أيْنَ أصْعَدَتْ؟ فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا
وقال آخرُ: [الرجز]
١٦٦٣ - قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ، وَصَاحَ الْحَادِي
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم: الإصعاد: في ابتداء السفر والمخارج، والصعود: مصدر صَعَدَ: رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد.
وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ، والصعيد: وجْهُ الأرضِ.
قال بعضُ المفسّرين: «وكلتا القراءتين صوابٌ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد».
قوله: ﴿وَلاَ تَلْوُونَ﴾ الجمهور على ﴿تَلْوُونَ﴾ - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في «البقرة».
منها: ألا تكون الضمة عارضة، كهذه، وأن لا تكون مزيدة، نحو ترهوك.
وألا يمكن تخفيفها، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول: سور ونور، فيخف اللفظ بها.
وألا يُدْغم فيها، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ.
ومعنى ﴿وَلاَ تَلْوُونَ﴾ ولا ترجعون، يقال: لَوَى به: ذهب به، ولَوَى عليه: عطف.
قَالَ الشاعرُ: [الطويل]
١٦٦٤ -...................... أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه، أو عنان دابته، فإذا مضى - ولم
604
يعرِّج - قيل: لن يلوي، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه، يقال: فلانٌ لا يلوي على كذا أي: لا يلتف إليه، وأصل ﴿تَلْوُونَ﴾ تلويون، فَأعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدم في قوله: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ [آل عمران: ٧٨] وقرأ الأعمشُ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم «تُلوون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن «تَلُون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن «تَلُون» - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً، ثم نقل حركة الهمزة على اللام، ثم حذف الهمزة، على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ: «وحذفت إحدى الواوين للساكنين، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ، وينقل الحركة».
وهذا عجيبٌ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ، كيف يعودُ ويقول: حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ:
أحدهما: أن يقالَ: استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى.
الثاني: أن يكون «تَلُونَ» مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حُميد بن قيس: «على أُحُدٍ» - بضمتين - يريد الجَبَل، والمعنى: ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم.
ومعنى الآيةِ: تعرجون، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ.
قوله: «والرسول يدعوكم»، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ، العامل فيها «تلوون».
أي: والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم، يقول: «إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ، من يكر فله الجنَّةُ».
ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه، حتى تجتمعوا عنده، ولا تتفرقوا. و «أخراهم» آخر الناس كما يقال في أولهم، ويقال: جاء فلانٌ في أخريات الناس.
قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «تصعدون» و «تلوون»، ولا يضر كونهما مضارعين؛
605
لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن «إذ» المضافة إليهما صيرتهما ماضيين، فكأن المعنى إذا صعدتم، وألويتم.
الثاني: أنه معطوفٌ على «صرفكم».
قال الزمخشريُّ ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:
أحدهما: أنه الباري تعالى.
والثاني: أنه معطوف على «صرفكم».
قال الزمخشريُّ ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:
أحدهما: أنه الباري تعالى.
والثاني: أنه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوز أن يكون الضمير في ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ للرسول أي: فآساكم من الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة.
و «غماً» مفعول ثانٍ.
وقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ هل هو حقيقة أو مجاز فقيل: مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله: [الطويل]
١٦٦٥ - أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا
وقول الآخر:
١٦٦٦ - تحية بينهم ضرب وجميع جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء، والضرب بمنزلة التحية.
وقال الفرّاءُ: «الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة» وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات.
قوله: ﴿بِغَمٍّ﴾ يجوز في الباء أوجهٌ:
أحدها: أن تكون للسببيةِ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ.
قال الحَسَنُ: يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ، والمعنى: فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ.
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول، والمعنى: أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه، وقُتِل عَمه، اغتممتموه لأجله، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم
606
بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم، اغتم لأجلهم.
الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة، أي: غماً مصاحِباً لغم، ويكون الغمَّان للصحابة، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم، فالغم الأولُ: الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار، أو بإرجافهم: قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعلى الأول تتعلق الباء ب ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾.
قال أبو البقاء وقيل: المعنى بسبب غم، فيكون مفعولاً به.
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ «غَمّ» أي: غماً مصاحباً لغم، أو ملتبساً بغَمٍّ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى «بعد» أو بمعنى «بدل» وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل «غماً».
وكونها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة:
أولاً: غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال.
ثانياً: غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك.
ثالثاً: غمُّهم بما وصل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
رابعاً: غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها.
خامساً: غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ، فإن فعل خاف القتلَ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها.
سادسها: غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ.
سابعها: غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين.
ثامنها: غمُّهم حين أشرف أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق يومئذٍ
607
يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه، وأراد أن يَرْمِيَه، فقال: أنا رسولُ اللهِ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى مَنْ يمتنع به، فأقبلوا على المشركين، يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه، حتى وقفوا بباب الشِّعْب، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لهم أن يَعْلونا، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض، ثم بدأ أصحابه، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم.
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال: وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله: ﴿غُمّاً بِغَمٍّ﴾ اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي: أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصيةِ، فكأنه - تعالى - قال: أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى.
والغَمّ: التغطية، يقال: يوم غَمٌّ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه: غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ، وغَمَّ الأمرُ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ.
قوله: ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ﴾ هذه لام «كي» وهي لام جرٍّ، والنصب - هنا - ب «كي» لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ:
أحدهما: أنه ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ وفي «لا» على هذا وجهانِ:
الأول: أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن، والمعنى: أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم، قاله أبو البقاء.
الثاني: أنها ليست زائدة، فقال الزمخشريُّ: معنى ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ﴾ لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ، وتتضرروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ.
وقال ابن عطية: «المعنى: لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم ورَّطتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه».
ثانيهما: أن اللام تتعلق ب «عَفَا» لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ.
ثم قال: ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادرٌ على مجازاتها، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
608
الأول: أنها مفعول «أنْزَلَ».
الثاني: أها حال من «نُعَاساً» لأنها في الأصل - صفةٌ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً.
الثالث: أنها مفعولٌ من أجْله، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل «أنْزَلَ» غير فاعلِ الأمَنَةِ.
الرابع: أنه حالٌ من المخاطبين في «عَلَيْكُمْ» وفيه حينئذٍ - تأويلانِ:
إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون «أمَنَةً» جمع آمن، نحو بار وبَرَرَة، وكافر وكَفَرَة.
وألأما «نُعَاساً» فإن أعْرَبْنا «أمَنَةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ، أو مفعولاً من أجلِهِ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا «أمَنَةً» حالاً، كان «نُعَاساً» مفعولاً ب «أنزَلَ» و «أنْزَلَ» عطف على «فأثَابَكُمْ» وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى، و «أل» في «الْغَمِّ» للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون «أمَنَةً» مفعولاً به بما تقدم، وفيه نظرٌ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل «أمَنَةً» فكأنه استشعر السؤال، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال: إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى، بمعنى أنهُ أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به.
و «أمَنَةً» كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به.
وقرأ لجمهور: أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع آمن، على ما تقدم تفصيله. والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ.
609

فصل في بيان كيفية النظم


في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه لما وعد المؤمنين بالنصر، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ.
الثاني: أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ.
ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه.
واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ:
أحدهما: الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً﴾ وقال في قصة بدرٍ:
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ [الأنفال: ١١].
وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ، وعظم خوفُهُمْ.
فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ، وأخرها في قصة بدرٍ؟
فالجوابُ: أنه لما وعدهم بالنصر، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ.
قوله: ﴿يغشى﴾ قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل «امَنَةً» ؛ مراعاة لها، ولا بُدّ من تفصيل، وهو إن أعربوا «نُعَاساً» بدلاً، أو عَطْفَ بيانٍ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن:
الأول: أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ، قدِّمت الصفة، وأخر غيرها، وهنا قد قدَّموا البدلَ، أو عطف البيانِ عليها.
الثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل، لا عن المبدَل منه، تقول: هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم «نُعَاساً» بدلاً من «أمَنَةً» يضعف لهذا.
فإن قيل: قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر: [الكامل]
610
١٦٦٧ - وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ
فقال: «مُعَيَّنٌ» ؛ مراعة للهاء في «كأنه» ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر: [الكامل]
١٦٦٨ - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ
فقال: تركت؛ مراعاة للسيوف، ولو راعَى البدل لقال: تركا.
فالجوابُ: أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن «معين» خبر لِ «حاجبيه» لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ، وأنَّ نصب «غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا» على الظرف، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: ﴿عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وإن اعربوا «نُعَاساً» مفعولاً به و «أمَنَةً» حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله: «تغشى».
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعَاساً» وتكون الجملة صفة له، و «مِنْكُمْ» متعلق بمحذوف، صفة لِ «طَائِفَةً».

فصل


قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابتٌ: عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال: رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس.
611
وقال الزبيرُ: كنت مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اشتدَّ الخوفُ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول: «لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا».

فصل


قال ابنُ مسعودٍ: النُّعَاسُ في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ، والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى. واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ:
الأولى: أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو.
الثانية: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ.
الثالثة: أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ.
الرابعةُ: أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى.
قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنها واو الحالِ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال، والعامل فيها «يَغْشَى».
الثاني: أنها واو الاستئناف، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء.
الثالث: أنها بمعنى «إذْ» ذكره مَكي، وأبو البقاءِ، وهو ضعيفٌ.
612
و «طائفة» مبتدأ، والخبر ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين: إما للاعتمادِ على واو الحالِ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره -.
وأنشدوا: [الطويل]
١٦٦٩ - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ
وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى: يغشى طائفةً، وطائفة لم يغشهم.
فهو كقوله:
١٦٧٠ - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ
ولو قُرِئ بنصب «طَائِفَة» - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ كما تقدم.
الثاني: أنه «يَظُنُّونَ» والجملة قبله صفة لِ «طَائِفَة».
الثالث: أنه محذوفٌ، أي: ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفة لِ «طَائِفَةٌ» أو يكون «يَظُنُّونَ» حالاً من مفعول «أهَمَّتْهُمْ» أو من «طَائِفَةٌ» لتخصُّصه بالوَصْف، أو خبراً بعد خبر إن قلنا: ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.
الرابع: أن الخبر ﴿يَقُولُونَ﴾ والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين، أو خبرين، أو إحداهما خبر، والأخْرَى حالٌ.
ويجوز أن يكون ﴿يَقُولُونَ﴾ صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا: إن الخبرَ هو الجملة التي قبله، أو قلنا: إن الخبر مُضْمَرٌ.
قوله: ﴿يَظُنُّونَ﴾ له مفعولان، فقال أبو البقاءِ: ﴿غَيْرَ الحق﴾ المفعولُ الأولُ، أي أمراً غير الحق، و «باللهِ» هو المفعول الثاني.
وقال الزمخشريُّ: ﴿غَيْرَ الحق﴾ في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و ﴿ظَنَّ الجاهلية﴾ بدل منه.
ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية و ﴿غَيْرَ الحق﴾ تأكيداً لِ ﴿يَظُنُّونَ﴾ كقولك: هذا القول غير ما يقول.
فعلى ما قال لا يتعدى «ظن» إلى مفعولين، بل تكون الباء ظرفية، كقولك: ظننت
613
بزيد، أي: جعلته مكان ظني، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر: [الطويل]
١٦٧١ - فَقُلْتُ لَهُمْ:
ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
أي قلتُ لهم: اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ.
ويحصل في نصب ﴿غَيْرَ الحق﴾ وجهان:
أحدهما: أنه مفعول أول لِ «يَظُنُّونَ».
والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ.
وفي نصب ﴿ظَنَّ الجاهلية﴾ وجهان - أيضاً -: البدل من ﴿غَيْرَ الحق﴾ أو أنه مصدر مؤكِّد لِ ﴿يَظُنُّونَ﴾.
و «بالله» إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية، قال الزمخشريُّ: «كقولك: حاتم الجود، ورجل صدقٍ، يريد: الظنَّ المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية».
وقال غيره: المعنى: المدة الجاهلية، أي: القديمة قبل الإسلامِ، نحو ﴿حَمِيَّةَ الجاهلية﴾ [الفتح: ٢٦]

فصل


هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها، فهذا هو المرادُ من قوله: ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ:
أحدهما - وهو الأظهرُ -: أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، لا اعتراض عليه.
وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول.
قال القفال: لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا، وذلك ينافي التكليفَ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ.
614
الاحتمالُ الثاني: أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ.
وقيل: ظنوا أن محمداً قد قُتِل. و ﴿ظَنَّ الجاهلية﴾ بدل من قوله: ﴿غَيْرَ الحق﴾ وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً، وهو ظنُّ أهل الجاهلية.
قوله: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ «من» - في ﴿مِن شَيْءٍ﴾ - زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ:
أحدهما - وهو الأصحُّ -: أنه «لَنَا» فيكون ﴿مِنَ الأمر﴾ في محل نصبٍ على الحالِ من «شَيءٍ» لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالاً، وتعلق بمحذوفٍ.
الثاني: - أجازه أبو البقاء - أن يكون ﴿مِنَ الأمر﴾ هو الخبر، و «لنا» تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤].
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير «لَنَا» من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيراً لقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ فإن «لَهُ» فيها متعلق بنفس «كُفُواً» لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ: لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف «لبكر» متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ:
أظهرهما: نَعَمْ، ويعنون بالأمر: النصر والغلبة.
والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.
ولكن يضعف هذا بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله: «وطائفة» فإن قوله: ﴿يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم﴾ وكذا ﴿يَقُولُونَ﴾ - الثانية - إما خبر عن «طَائِفَةٌ» أو حال مما قبلها.

فصل


اعلم أنَّ قولَهُ: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون، وهي تحتمل وجوهاً:
الأول: أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا
615
يخرج من المدينةِ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يخرج إليهم، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الوِلْدان، فلما كثر القتل في بني الخزرج، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له: قُتِل بنو الخَزرج!! فقال: «هل لنا من الأمر من شيء» ؟ يعني: أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من «المدينة».
والمعنى: هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار.
الثاني: ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي، أي: هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثالث: أن التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله: هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثا ﴿يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾.
وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ قرأ أبو عمرو «كُلُّهُ» - رفعاً - وفيه وجهان:
الأول: - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبره والجملة خبر «إنَّ» نحو: إن مال زيد كله عنده.
الثاني: أنه توكيد على المحل، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون «للهِ» خبراً لِ «إنَّ» أيضاً.
وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيداً لاسم «إنَّ» وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و «للهِ» خبر «إنَّ».
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة «كُلّ» للتأكيد، فكانت كلفظة «أجمع».

فصل


هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا: إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا، ملا وقع في هذه المِحْنةِ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ، وهذا [الجواب] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين.
قوله: ﴿يُخْفُونَ﴾ إما خبر لِ ﴿طَآئِفَةً﴾ وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله: ﴿يَقُولُونَ﴾
616
يحتمل هذينِ الوجهينِ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله: ﴿يُخْفُونَ﴾ فلا محلَّ له حينئذٍ.
قوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ كقوله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ وقد عرف الصحيح من الوجهين.
وقوله: «ما قُتِلْنا ههنا» جواب «لَوْ» وجاء على الأفصح، فإن جوابها إذا كان منفياً ب «ما» فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب بالعكس، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله: «وطائفة» إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال: «فإن قُلتَ: كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله:» وطائفة «.
قُلْتُ: ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ صفة ل ﴿َطَآئِفَةٌ﴾ و ﴿يَظُنُّونَ﴾ صفة أخرى، أو حالٌ، بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و ﴿يَقُولُونَ﴾ بدلٌ من ﴿يَظُنُّونَ﴾.
فإن قلتَ: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟
قلتُ: كانت مسألتهم صادرة عن الظن، فلذلك جاز إبداله منه، و ﴿يُخْفُونَ﴾ حال من ﴿يَقُولُونَ﴾ و ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ، و ﴿يَقُولُونَ﴾ بدلٌ من ﴿يُخْفُونَ﴾ والأجود أن يكون استئنافاً»
. انتهى.
وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، كما تقدم تقريره في قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ أي: ومنكم طائفةٌ، فإنه موضعُ تفصيلٍ.
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ وبين قوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ وقد أجاب عن الأول بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين:
الأول: أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ، وما قُتِلْنَا هاهنا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ: الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ، والمعتزلي يقول: ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ، وميتقلٌّ بالفعل، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى.
الثاني: أن المراد من قوله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ أي: هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيء؟ ويكون المراد من قوله: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن «المدينة»، وما قُتِلْنا ههنا.
617
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [الشُّبْهَةَ] من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قوله: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ﴾ ومعناه: أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل، فلو لم يُقْتَلْ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً.
وقال المفسِّرون: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل: تقديرُ الكلام: كأنه قيل للمنافقين: لو جلستم في بيوتكم، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم.
قوله: ﴿لَبَرَزَ﴾ جاء على الأفصح، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب «لو» مثبتاً. وقراءة الجمهور ﴿لَبَرَزَ﴾ مخفَّفاً مبنياً للفاعل، وقرأ أبو حَيْوَة «لَبُرِّزَ» مشدَّداً، مبينيًّا للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرئ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل، و «القَتْلَ» مفعول به.
وقرأ الحسنُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ رَفعاً.
الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: «وليبتلي» فيه خمسة أوجُهٍ:
فقيل: إنه متعلق بفعل قبله، وتقديره: فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ، ليبتلي ما في صدوركم، أي: ضمائركم.
وقيل: بفعل بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء.
وقيل: الواو زائدة، واللام متعلقة بما قبلها.
وقيل: «وليبتلي» عطف على «ليبتلي» الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام، فعطف عليه ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ قاله ابنُ بحرٍ.
وقيل: هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي.
الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فيه وَجْهَانِ:
أحدهما: أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات، وتطهرها.
الثاني: أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات.
فإن قيل: قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] فلم أعادَه؟
618
فالجواب: أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والابتلاء الثاني سائر الأحوال.
فإن قيل: قوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ المرادُ منه القلب؛ لقوله: ﴿القلوب التي فِي الصدور﴾ [الحج: ٤٦] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟
فالجوابُ: أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما. ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي: الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها، مصاحبة لها، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية.
619
إنما ثُنّي «الْجَمْعَان» - وإن كان اسم جمع - وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً - لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين، فلما أريد به ذلك ثُنِّي، كقوله: [الطويل]
١٦٧٢ - وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ

فصل


﴿تَوَلَّوْاْ﴾ تنهزموا ﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين، ولم يَبْقَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً، ستةٌ من المهاجرين: أبُو بَكْرٍ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ، وطَلْحَة، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأو دُجَانَة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمَّة، وسهل بن حُنَيْف، وأسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن مُعّاذٍ - وقيل: أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين، فذكر الزبير بن العوّام معهم، وسبعةٌ من الأنصار.
وقيل: إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت: ثلاثة من المهاجرين: طلحة، والزبير، وعلي، وخمسة من الأنصار: أبو دُجَانة، والحارث بن الصِّمَّة، وحباب بن المُنْذِرِ، وعاصم بن ثابتٍ، وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد.
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو ثلاثينَ، كلهم يجيء، ويَجْثو بين
3
يديه، ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ.
قوله: ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان﴾ السين في ﴿استزلهم﴾ للطلب، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه، فالمعنى: حَمَلَة على الزلة، فيكون ك «اسْتَلَّ» و «أبَلَّ» واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ، قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشيطان﴾ [البقرة: ٣٦].
وقال ابن قتيبةَ: ﴿استزلهم﴾ طلب زلَّتَهُمْ، كما يقال: استعجلته: أي: طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.

فصل


قال الكعبيُّ: الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه - تعالى - نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى -: ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ [القصص: ١٥] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ -: ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي﴾ [يوسف: ١٠٠] وقوله - حكاية عن صاحب موسى -: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣].
قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ فيه وجهانِ:
الأول: أن الباء للإلصاق، كقولك: كتبت بالقَلَم، وقطعت بالسِّكِّين، والمعنى: أنه قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم، وعلى هذا التقدير اختلفوا:
فقال الزَّجَّاجُ: إنهم لم يتولَّوْا عناداً، ولا فراراً من الزَّحْف، رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا.
وقيل: لما أذنبوا - بمفارقة المركز، أو برغبتهم في الغنيمة، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ، وأوقعهم في الهزيمة.
الثاني: أن تكونَ الباء للتبعيض، والمعنى: أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز.
قالت المعتزلة: ذلك الذنب إن كان من الصغائر، جاء العفو عنه من غير توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غير توبة - وإن كان ذلك غير مذكور في الآية.
4
قال القاضي: والقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر، لوجهين:
أحدهما: أنه لال يكاد - في الكبائر - يقال: [إنها زَلَّة]، إنما يقال ذلك في الصغائر.
الثاني: ان القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم - انقلبوا عنه، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً.
قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها، وقد بينَّا كونها من الكبائر، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز، سواء كانت الغلبة لهم، أو عليهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي ﴿غَفُورٌ﴾ لمن تاب، ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل بالعقوبة، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب ان يعفو عنه - على قول المعتزلة - ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه، وغفر له.
5
وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار، بقولهم: ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع، وعفا اللهُ بفضله عنهم، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ، فقال: لا تقولوا - لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد -: لو لم تخرجوا لما متم، وما قُتِلْتُم، فإن الله هو المُحْيي والمميت، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد، وهو المراد بقوله: ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد، لو لم يخرج إلى الجهاد، لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد - حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ - خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة، وهو المرادُ بقوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
5
واختلفوا في ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ فقيل: هل هو كافر يقول هكذا.
وقيل: إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم.
وقيل: مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن مسلول ومعتب بن قُشَير، وسائر أصحابهما.
قوله: ﴿لإِخْوَانِهِمْ﴾ قال الزمخشريُّ: «لأجل إخوانكم». وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل ان يكونَ المراد منه الأخوة في النسب، كقوله تعالى: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ [الأعراف: ٦٥] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فقال المنافقونَ هذا الكلام، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات.
قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ﴾ «إذا» ظرف مستقبل، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين - هنا - من حيثُ إن العامل فيها ﴿قَالُواْ﴾ - وهو ماضٍ - فقال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: كيف قيل: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ﴾ مع» قالوا «؟ قلت: هو حكاية حال ماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض».
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ: «ويجوز أن يكون ﴿كَفَرُواْ﴾ و ﴿قَالُواْ﴾ ماضيين، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير: يكفرون، ويقولون لإخوانهم». انتهى.
ففي كلا الوجهين حكاية حال، لكن في الأول حكاية حال ماضية، وفي الثاني مستقبلة، وهو - من هذه الحيثية - كقوله تعالى: ﴿حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [البقرة: ٢١٤]. ويجوز أن يراد بها الاستقبال، لا على سبيل الحكاية، بل لوقوعه صلة لموصول، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي - إذا وقع صلة لموصول - صلح للاستقبال، كقوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤]. وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ، وقال: «دخلت» إذا «وهي حرفُ استقبالٍ - من حيثُ» الذين «اسم فيه إبهام، يعم مَنْ قال في الماضي، ومَنْ يقول في الاستقبال، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان» يعني: فتكون حكاية حالٍ مستقبلة.
قال ابن الخَطِيبِ: إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين:
إحداهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث، أو هو حادث، قال تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] وقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزمر: ٣٠] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى، فلما وقع
6
التعبير عنه بلفظ الماضي، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، فصار بسبب ذلك الجد، هذا المستقبل كالواقع.
الثانية: أنه - تعالى - لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ «.
وقدَّر أبو حيّان: مضافاً محذوفاً وهو عامل في»
إذا «تقديره: وقالوا لهلاك إخوانهم، أي: مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا، أو غَزَوْا، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ» أن «والمضارع، حتى يكون مستقبلاً، قال: لكن يكون الضمير في قوله: ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا﴾ عائداً على ﴿لإِخْوَانِهِمْ﴾ لفظاً، وعلى غيرهم معنى - أي: يعود على إخوان آخرين، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ، أو غزو، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين - وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ [فاطر: ١١] وقول العربِ: عندي درهم ونِصْفُه.
وقول الشاعرِ: [البسيط]
١٦٧٣ - قَالَتْ:
ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا إلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ
المعنى: من معمر آخر، ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخرَ.
وقال قُطربٌ: كلة»
إذْ «و» إذا «يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى، فيكون» إذا «هنا بمعنى» إذْ «.
قال بعضهم: وهذا ليس بشيء.
قال ابن الخَطِيبِ:»
أقول: هذا - الذي قاله قُطْرُبٌ - كلامٌ حسنٌ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ، فنقول عن قائل مجهول، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك اولى، أقصى ما في الباب أن يقال: «إذا» حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ، لما بينه وبين كلمة «إذْ» من المشابهة الشديدة، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى «.
قوله: ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ - بالتشديد - جمع غازٍ - كالرُّكَّع والسُّجَّد - جمع راكع وساجد - وقياسه: غُزَاة كرام ورُمَاة - ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح، في نحو ضارب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم.
7
وقرأ الزَّهريُّ والحسنُ «غُزًى» - بالتخفيف - وفيها وجهانِ:
الأول: أنه خفف الزاي، كراهية التثقيل في الجمع.
الثاني: أن أصله: غُزاة - كقُضاة ورُماة - ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها.
قال ابنُ عَطِيَّةَ: «وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم.
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي: [الطويل]
١٦٧٤ - أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ، وَانْتَحَى بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ
يريد: الأبُوَّة - جمع أب - كما أن العمومة جمع عم، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا: ابن، وبنو»
.
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير، وأن قوله: حذف التاء من عمومة، ليس كذلك، بل الأصل: عموم - من غير تاء - ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على «فعول» - من غير تاء - هو الأصل، نحو: عموم وفحول، وما جاء فيه التاء، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء، حتى يُدَّعَى حَذْفُها، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها، فيمكن ادعاء الحذف فيه، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن، بل مصدرين، وأما أبُوّ - في البيت - فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه، فيقول: «أبَيّ» بقلب الواوين ياءين، نحو: عُصِيّ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً، وهو شاذ.
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير: غُزَاة كقُضاة، وغُزًى كصوَّم، وغُزَّاء كصُوَّام، وجمع رابع، وهو جمع سلامة، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول.
قال القرطبيُّ: «والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، وأتانٌ مُغْزِية: متأخِّرةُ النِّتَاجِ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها، والغَزْو: قصد الشيء، والمَغْزَى: المَقْصِد، ويقال: - في النسب إلى الغزو: غَزَوِيّ».
قال الواحديُّ: «في الآية محذوف، يدل عليه الكلام، والتقدير: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض﴾ فماتوا ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ فقتلوا، ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ فقوله: ﴿مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ يدل على قتلهم وموتهم».
8

فصل


المراد بالضَّرْبِ: السفر البعيد، وقوله: «غُزًّى» هم الغُزَاة الخارجون للجهاد، فكان المنافقونَ يقولون - إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو -: إنما ماتوا، أو قتلوا بسبب السفر والغزو، وقصدهم بذلك تنفير الناس.
فإن قيل: لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض - وهو داخل فيه؟
فالجوابُ: أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد، لا القريب، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض.
قوله: ﴿لِيَجْعَلَ الله﴾ في هذه اللام قولان:
قيل: إنها لام «كَيْ».
وقيل: إنها لام العاقبة والصيرورة، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ:
فقيل: التقدير: أوقع ذلك - أي: القول، أو المعتقد - ليجعله حَسْرَةً، أو ندمَهم، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي، وذلك على معنيين - باعتبار ما يراد باسم الإشارة.
أما الاعتبار الأول، فإنه قال: «يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً، ويصون منها قلوبكم»، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال: «ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ، أي: لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم».
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، فقال - بعد ما حكى عنه المعنى الأول: - «وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ».
قال شهاب الدين: ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
9
وقال أبو حَيَّانَ - أيضاً -: «وقال ابنُ عِيسَى وغيره، اللامُ متعلِّقة بالكون، أي: لا تكونوا كهؤلاء، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بينَّا فساد هذا القول».
وقوله: وذاك لم ينص، بل قد نَصَّ، فإنه قال: فإن قُلْتَ: ما متعلق ﴿لِيَجْعَلَ﴾ ؟ قلت: ﴿َقَالُواْ﴾ أو ﴿لاَ تَكُونُواْ﴾. وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام - ومعناها التعليل - ب ﴿قَالُواْ﴾ لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.
وعلى القول الثاني - أعني: كونها للعاقبة تتعلق ب ﴿قَالُواْ﴾ والمعنى: أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم، فكان عاقبة قولهم، ومصيره إلى الحسرة، والندامة، كقوله تعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨] وهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام، نحو: ﴿فَبَشِّرْهُم﴾ [آل عمران: ٢١] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨] ومذهبه في تلك أنها للعلة - بالتأويل المذكور والجَعْلُ - هنا - بمعنى التَّصْييرِ.

فصل


اختلفوا في المشار إليه ب «ذَلِكَ» : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا.
وقال الزمخشريُّ ما معناه: الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.
وقريب منه قول ابن عطيةَ: «الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم».
وقال ابنُ عَطِيَّة - أيضاً -: ويحتمل عندي - أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «.
وقيل: هو المصدر المفهوم من ﴿قَالُواْ﴾، و ﴿حَسْرَةً﴾ مفعول ثانٍ، و ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يجوز أن يتعلق بالجَعْل - وهو أبلغ - أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله.

فصل


ذكروا - في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم - وجوهاً:
الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر، او الغزو، لبقي، فذلك الشخص إنما مات، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه، أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك،
10
فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة.
الثاني: أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم، تثبطوا، وتخلَّفوا عن الجهاد، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة، والاستيلاء على الأعداء، والفوز بالأماني، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد، والحَسرة.
الثالث: أن هذه الحسرة، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب.
الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين، ووجدوا منهم قبولاً لها، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم، ومكرهم على الضَّعَفَة، فالله - تعالى - يقول: إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل.
الخامس: أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم، فيقعون عند ذلك في الحسرة، والخيبة، وضيق الصدر، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ [الأنعام: ١٢٥].
السادس: أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء، لم يلتفتوا إليهم، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم، فتحصل الحسرة في قلوبهم.
قوله: ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فيه وجهان:
الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين، وتقريره: إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير، وأن حُكْمَه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدَّل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل: أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ. والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه.
فالجوابُ: أن حُسْنَ التكليف - عندنا - غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [مصلحة]، بل اللهُ يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريد.
الثاني: أن [المقصود] بقوله: ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أنه يُحْيي قلوبَ أوليائه وأهل
11
طاعته بالنور والفرقان، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال.
قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعملون» بالغيبة؛ رَدَّا على ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله: و ﴿لاَ تَكُونُواْ﴾ وهو خطابٌ للمؤمنينَ.
فإن قيل: الصادر منهم كان قولاً مسموعاً، لا فعلاً مَرْئِيًّا، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟
فالجوابُ: قال الراغبُ: لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، خص البصر بذلك، كقولك - لمن يقول شيئاً، وهو يقصد فعلاً يحاوله -: أنا أرى ما تفعله.
قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ اللام هي الموطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله: وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.
قوله: ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتُّمْ» - بكسر الميم - والباقون بضمها، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل: قَالَ يَقُولُ قُلْتُ، ومن كسر، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ، مثل: هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة.
قال شهابُ الدينِ: وهو الصحيحُ من قول أهل العربية، والأصل: مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين -.
قال الشاعر: [الرجز]
١٦٧٥ - بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ عِيشي، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء، أو إحدى أخواتها: مِتُّ - بالكسر ليس إلا - وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها، دلالة على بنية الكلمة في الأصل، هذا أوْلَى من قول من يقول: إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال، كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله
12
بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً، وإذا ثبت ذلك لغةً، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه.
قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ اللام لامُ الابتداءِ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان:
الأول: وهو الأظهر -: انها مرفوعة بالابتداء، والمسوِّغات - هنا - كثيرة: لام الابتداء، والعطف عليها في قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ ووصفها، فإن قوله ﴿مِّنَ الله﴾ صفة لها، ويتعلق - حينئذٍ - و «خيرٌ» خبر عنها.
والثاني: أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير: فلذلك، أي: الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير، ويكون «خيرٌ» صفة لا خبراً، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال: وتحتمل الآية أن يكون قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ إشارة إلى الموت، أوالقتل في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقديرُ: لذك مغفرةٌ ورحمةٌ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله: «خير» صفة لا خبر ابتداء انتهى، والأول أظهر.
و «خير» - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قال ابن الخطيبِ: «والأصوب - عندي - أن يقال: إن هذه اللام في» المغفرة «للتأكيد، فيكون المعنى: إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه» ؟
قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ أي: ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره: لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم.
فإن قيل: المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها؟
فالجوابُ: أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله: «مما تجمعون» ونظيره قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [بالتوبة: ٧٢] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر.
قوله: «مما يجمعون» «ما» موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، يوجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي: من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة «تجمعون» - بالخطاب - جَرياً على قوله: «ولئن قتلتم» وحفص -
13
بالغيبة - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل: ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ: ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ: أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله: ﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله﴾ وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله: ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى - عليه السَّلامُ - مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال: ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا: نخشى عذابَ اللهِ، فقال: هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته.
ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم: فقالوا: نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون.
قوله: ﴿لإِلَى الله﴾ اللام جواب القسم، فهي داخلة على ﴿تُحْشَرُونَ﴾ و ﴿وَإِلَى الله﴾ متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [بالنون]، مع اللام، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.
كقول الشاعر: [الكامل]
14
١٦٧٦ - وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ...................................
فجاء بالنون دون اللام.
وقول الآخر: [الطويل]
١٦٧٧ - لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فجاء باللام دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورة.
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ، نحو: والله لقد أقومُ.
وقوله: [الطويل]
١٦٧٨ - كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ..................................
أو بحرف التنفيس، كقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾ [الضحى: ٥] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون، قال الفارسيُّ: «الأصل دخولُ النُّونِ، فَرْقاً بين لام اليمينِ، ولام الابتداءِ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على» سوف «حصل الفرق - أيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أما مستقبلاً فلا».
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به، تعظيماً.
15
قوله :﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ﴾ اللام هي الموطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله :﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ وحُذِفَ جوابُ الشرط ؛ لسَدِّ جواب القسم مسده ؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله : وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.
قوله :﴿ أَوْ مُتُّمْ ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي " مِتُّمْ " - بكسر الميم١ - والباقون بضمها، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل : قَالَ يَقُولُ قُلْتُ، ومن كسر، فهو من مَاتَ يَماتُ مِتُّ، مثل : هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة.
قال شهابُ الدينِ : وهو الصحيحُ من قول أهل العربية، والأصل : مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين -.
قال الشاعر :[ الرجز ]
بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ عِيشي، وَلاَ نأمَنُ أنْ تَمَاتِي٢
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء، أو إحدى أخواتها : مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو أنا نقلنا حركة الواو إلى الفاء بعد سلب حركتها، دلالة على بنية الكلمة في الأصل، هذا أوْلَى من قول من يقول : إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال، كالمازني وأبي علي الفارسي - ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً، وإذا ثبت ذلك لغةً، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه.
قوله :﴿ لَمَغْفِرَةٌ ﴾ اللام لامُ الابتداءِ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان :
الأول - وهو الأظهر - : أنها مرفوعة بالابتداء، والمسوِّغات - هنا - كثيرة : لام الابتداء، والعطف عليها في قوله :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ ووصفها، فإن قوله ﴿ مِّنَ اللَّهِ ﴾ صفة لها، ويتعلق - حينئذٍ – بمحذوف، و " خيرٌ " خبر عنها.
والثاني : أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل، أو الموت في سبيل الله ؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير : فذلك، أي : الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير، ويكون " خيرٌ " صفة لا خبراً، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله :﴿ لَمَغْفِرَةٌ ﴾ إشارة إلى الموت، أو القتل في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقديرُ : لذلك مغفرةٌ ورحمةٌ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله :" خير " صفة لا خبر ابتداء انتهى، والأول أظهر. و " خير " - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قال ابن الخطيبِ :" والأصوب - عندي - أن يقال : إن هذه اللام في " المغفرة " للتأكيد، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه ؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثُمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فإنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه " ؟
قوله :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي : ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره : لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم.
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها ؟
فالجوابُ : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله :" مما تجمعون " ونظيره قوله تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
[ التوبة : ٧٢ ] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه ؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر.
قوله :" مما يجمعون " " ما " موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، ويجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي : من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة " تجمعون " - بالخطاب - جَرياً على قوله :" ولئن قتلتم " وحفص - بالغيبة٣ - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقُدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك ؟
فالجوابُ : أن الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله :﴿ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى ﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهَمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ : أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
١ انظر: السبعة ٢١٨، والحجة ٣/٩٢، ٩٣، وحجة القراءات ١٧٨، ١٧٩، والعنوان ٨١، وإعراب القراءات ١/١٢١، وشرح شعلة ٣٢٤، وشرح الطيبة ٤/١٧٠، ١٧١، وإتحاف ١/٤٩٢..
٢ تقدم برقم ٢٥٤..
٣ انظر: السبعة ٢١٨، والحجة ٣/٩٤، والعنوان ٨١، وإعراب القراءات ١/١٢١، وشرح الطيبة ٤/١٧٢، وشرح شعلة ٣٢٥، وإتحاف ١/٤٩٣..
قوله :﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ ؛ فإنه قال في الآية الأولى :﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ وهو إشارة إلى من عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله :﴿ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ وهو إشارةٌ إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ - مَرَّ بأقَوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال : ماذا تَطْلبُون ؟ فقالوا : نخشى عذابَ اللَّهِ، فقال : هو أكرمُ من لا يخلصكم من عذابه. ثم مرَّ بأقوام آخرينَ، فرأى عليهم تلك الآثار، فسألهم، مَاذَا تَطْلُبُونَ ؟ فقالوا : نطلب الجنَّةَ والرَّحْمَةَ، فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم : فقالوا : نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال : أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون.
قوله :﴿ لإِلَى الله ﴾ اللام جواب القسم، فهي داخلة على ﴿ تُحْشَرُونَ ﴾ و ﴿ وَإِلَى اللَّهِ ﴾ متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي : إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون ؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [ بالنون ]، مع اللام، خلافاً للكوفيين ؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.
كقول الشاعر :[ الكامل ]
وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ ***. . . ١
فجاء بالنون دون اللام.
وقول الآخر :[ الطويل ]
لَئِنْ يكَ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ *** لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ٢
فجاء باللام دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورة.
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ، نحو : والله لقد أقومُ.
وقوله :[ الطويل ]
كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ ***. . . ٣
أو بحرف التنفيس، كقوله تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [ الضحى : ٥ ] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون، قال الفارسيُّ :" الأصل دخولُ النُّونِ، فَرْقاً بين لام اليمينِ، ولام الابتداءِ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على " سوف " حصل الفرق - أَيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أما مستقبلاً فلا ".
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به، تعظيماً.
١ هذا جزء من بيت لعامر بن الطفيل والبيت بتمامه:
وقتيل مرة أثأرن فإنه *** فدع وإن أخاكم لم يقصد
ينظر ديوانه ص ٥٦ والمفضليات (٣٦٤) والهمع ٢/٤٢ والدرر ٢/٤٧ وشرح الحماسة ٢/٥٥٨ والأمالي الشجرية ١/٣٦٩ و ٢/٢٢١ والخزانة ١٠/٦٠ وشرح أبيات المغني ٨/٣ وضرائر الشعر ص ١٥٧ والدر المصون ٢/٢٤٤..

٢ تقدم برقم ٧١٨..
٣ هذا صدر بيت لامرئ القيس والبيت بتمامه:
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه *** وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ينظر ديوانه (٢٨) والكامل ١/٦٨ وارتشاف الضرب ٢/٤٨٦ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١/٤٦ وأمالي القالي ١/٤١ ورغبة الآمل من كتاب الكامل ١/٢٢٢ والدر المصون ٢/٢٤٥..

في «ما» وجهان: أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا
15
برحمة من اللهِ، نظيره قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ [المائدة: ١٣] وقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنون: ٤٠] وقوله: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾ [ص: ١١] وقوله: ﴿مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ﴾ [نوح: ٢٥]. والعربُ قد تريد في الكلام - للتأكيد - ما يستغنى عنه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ﴾ [يوسف: ٩٦] فزاد «أن» للتأكيد.
وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين - غيرُ جائزٍ، بل تكون غير مزيدة، وإنما هي نكرة، وفيها وجهان:
الأول: أنها موصوفة ب «رَحْمَةٍ» أي: فبشيء رحمة.
الثاني: أنها غير موصوفة، و «رَحْمَةٍ» بدل منها، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان.
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره: أنها نكرة موصوفة، «رَحْمَةٍ» بدل منها، كأنه أبهم، ثم بين بالإبدال.
وقال ابن الخطيب: «يجوز أن تكون» مَا «استفهاماً للتعجب، تقديره: فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة - ثم إنه ما أظهر - ألبتة - تغليظاً في القول، ولا خشونة في الكلام - علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب».
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل «ما» مضافة إلى «رَحْمَةٍ» - وهو ظاهر تقديره - فيلزم إضافة «ما» الاستفهامية، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا «أي» اتفاقاً و «كم» عند الزَّجَّاج - وإما أن لا يجعلها مضافة، فتكون «رَحْمَةٍ» بدلاً منها، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل، كما قرره النحويون. ثم قال: «وهذا الرجلُ لاحظ المعنى، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج - في» ما «هذه: إنها صلة، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ.
وليس لقائل أن يقولَ: له أن يجعلها غير مضافةٍ، ولا يجعل»
رَحْمَةٍ «بدلاً - حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام - بل يجعلها صفة، لأن» ما «الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال - في القرآن -: هذا زائد أصلاً.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون: زائد للتوكيدِ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن. و»
ما «كما تُزاد بين الباء ومجرورها، تزاد أيضاً بين» من «و» عَنْ «والكاف ومجرورها.
قال مكيٌّ: «ويجوز رفع»
رحمة «على أن تجعل» ما «بمعنى الذي، وتضمر» هُوَ «
16
في الصلة وتحذفها، كما قرئ: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤]. فقوله: ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ، وأما كونها قراءة، فلا نحفظها.

فصل


الليْنُ: الرفق. ومعنى الكلام. فبرحمة من الله لنت لهم، أي: سهلت لهم أخلاقك، وكثر احتمالك، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحُدٍ. واحتجوا - بهذه الآية - على مسألة القضاء والقدر، لأن اللهَ بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى.
قوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ الفظاظةُ: الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، قال الشَّاعرُ: [البسيط]
١٦٧٩ - اخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ، أوْ جَفَاءَ أخ وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم
والغلظُ: كبر الإجرام، ثم تجوز به في عدم الشفقة، وكثرة القسوةِ في القلب.
قال الشاعرُ: [البسيط]
١٦٨٠ - يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ
وقال الراغبُ: الفَظَّ: هو الكريه الخُلُق، وقال الواحديُّ: الفَظُّ: الغليظُ الجانبِ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ، وهو ماء الكرش، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة.
وقال الراغبُ: الغَلِظ: ضد الرِّقَّةِ، ويقال: غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة.
فإن قيل: إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا؟
فالجوابُ: قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة: الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً - كما تقدم - والغلظة: قساوة القلب، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى، وجمع بينهما تأكيداً. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضَّ ختم الكتاب، ثم استُعِير منه انفضاض الناس، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] ومنه يقال: لا يفضض اللهُ فاك.
17

فصل في معنى الآية


ومعنى الكلامِ: لو كنتَ جافياً، سَيّء الخُلُقِ، قليل الاحتمالِ.
وقال الكلبيُّ: فظاً في القول، غليظ القلبِ في الفعلِ، لانفضوا من حولك تفرَّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم، كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويخصهم بالبرِّ والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق، وغِلْظة القلبِ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء، وكثير القيام بإعانة الفقراء.
وحمل القفَّال هذه الايةَ على واقعة أُحُد، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ يوم أحُد، حين عادُوا إليك يعد الانهزام ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب﴾ فشَافَهْتُهُمْ بالملامة على ذلك الانهزام ﴿لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ هيبة منك وحياءً، بسبب ما كانوا منهم من الانهزام، فكان ذلك مما يُطْمَع العدو فيك وفيهم.
قوله
: ﴿فاعف
عَنْهُمْ﴾
جاء على أحسن النسق، وذلك أنه - أولاً - أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعاتُ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين، مُصَفَّيْنَ منهما.
والأمرُ هنا - وإن كان عاماً - المراد به الخصوص. قال أبو البقاء: الأمر - هنا - جنس، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض، ولذلك قرأ ابن عباسٍ: في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ.

فصل


ظاهر الأمر الوجوب، و «الفاء» في قوله: ﴿فاعف عَنْهُمْ﴾ تدل على التعقيب، وهذا يدل على أنه - تعالى - أوجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعفو عنهم في الحال، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه، فقال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] وقوله: ﴿واستغفر لَهُمْ﴾ يدل على دلالة قوية على أنه - تعالى - يعفو عن أصحاب الكبائر، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة، لقوله تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ [الأنفال: ١٦] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين عد الكبائر -: «والتولي يوم الزحف» وإذا ثبت أنه كبيرة، فالله تعالى - حضّ - في هذه الآية - على العفو عنهم، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاستفغار
18
لهم، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم، وإذا دلت الآية على أنه - تعالى - شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى.
قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة، والقوم شورى، وهي مصدر، سمي القوم بها، كقوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإسراء: ٤٧] قيل: المشاورة: مأخوذة من قولهم: شُرتُ العسل، أشورُه: إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
وقيل: مأخوذة من قولهم: شربت الدابّة، شوراً - إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً، كأنه بالعرض - يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه:
الأول: أن مشاورة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إياهم توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كان أكملَ الناس عقلاً، إلا أن [عقول] الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح - ما لا يخطر ببال آخرَ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال: «أَنتم أعرف بأمور دنياكم» ولهذا السبب قال: «ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم».
الثالث: قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته.
الرابع: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاورهم في واقعة أُحُد، فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى ألا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم - بسبب مشاورتهم - بقية أثرٍ، فأمره الله - تعالى - بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة.
الخامس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بمشاورتهم، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً، بل ليعلم مقادير عقولهم، ومحبتهم له.
وقيل: أمر بالمشاورة [ليعلم] مقدار عقولهم وعلمهم، فينزلهم منازلهم على
19
قدر عقولهم وعلمهم. وذكروا - أيضاً - وُجُوهاً أُخَرَ، وهذا كافٍ.

فصل


اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشاورَ الأمةَ فيه، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس، أما ما لا نصَّ فيه، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء: الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ، قالوا: لأن الألف واللام - في لفظ «الأمر» ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام - هنا - على المعهود السابق، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ - على النبي بالنزول على الماء، فقبل منه. وأشار عليه السعدان - سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ - يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما، وخرق الصحيفةُ.
وقال بعضهم: اللفظ عام، خص منه ما نزل فيه وحيٌ، فتبقى حجته في الباقي.
قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ.

فصل


روى الواحديُّ في «البسيط» عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - واستشكلته ابن الخطيب، قال: «وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم - وهم المنهزمون - فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟».
قوله: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقرأ عكرمة وجعفر الصادق - ورُويت عن جابر بن زيد - بضَمِّها. على انها لله تعالى، على معنى: فإذا ارشدتك إليه، وجعلتك تقصده.
وجاء قوله: من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل: فتوكل عليَّ.
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: «ثم عزم الله لي» وذلك على سبيل المجاز.

فصل


معنى الكلامِ: فإذا عزمتَ على اللهِ لا على مشاورتهم، أي: قم بأمر اللهِ،
20
وثق به، ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين﴾ وهذا جارٍ مجرى العلةِ الباعثةِ على التوكُّل عند الأخذ في كل الأمورِ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكُّلُ أن يُهْمِل نفسه - كقول بعض الجُهَّال - وإلا لكان الأمرُ بالمشاورة منافياً [للأمر بالتوكل]، بل التوكلُ هو أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرةَ، ولكن لا يعوِّل بقلبه عليها، بل يعوِّل على عصمة الحقِّ.

فصل


التوكلُ: الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجزِ، والاسم: التُّكْلان، يقال منه: اتكلت عليه في أمري وأصله، اوتَكَلْتُ، قُلِبت الواو ياء، لانكسار ما قبلها، ثم أُبْدِلت منها التاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ويقال: وكَّلْته بأمري توكيلاً، والاسم: الوكَالة - بكسر الواو وفتحها -.
21
قوله: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ شرطٌ وجوابه، وكذلك قوله: ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي﴾ وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب - كذا قوله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله: ﴿لِنتَ لَهُمْ﴾ وقوله: ﴿لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ وقوله: ﴿فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ قال شهاب الدين: وفيه نظر. وجاء قوله: ﴿فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ جواباً للشرطِ، وهو نفيٌ صريحٌ، وقوله: ﴿فَمَن ذَا الذي﴾ - وهو متضمن للنفي - جوابٌ للشرط الثاني، تلطفاً بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام - وإن كان معناه نفياً.
وقوله: ﴿فَمَن ذَا الذي﴾ قد تقدم مثله في البقرة.
والهاء - في قوله: ﴿مِّنْ بَعْدِهِ﴾ - فيها وجهان:
أحدهما - وهو الأظهر -: أنها تعود على «الله» تعالى، وفيه احتمالانِ:
الأول: أن يكون ذلك على حذف مضاف، أي: من بعد خذلانه.
الثاني: إنه يحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلامِ: إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره، - وقد خذلكم - فمن يجاوزه إليه وينصركم؟
ثانيهما: أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨].
قوله: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله﴾ يعنكم ويمنعكم من عدوكم ﴿فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ مثل يوم بدر ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ يترككم كما أن بأُحُدٍ - لم ينصركم أحَدٌ. والخذلان: القعود عن
21
النصرة. قراءة الجمهور ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ - بفتح الياء - من خَذَله - ثلاثياً -.
وقرا عمرو بن عبيد: «يُخْذِلْكُم» - بضم الياء - من أخْذَلَ - رباعياً - والهمزة فيه لجعل الشيء، أي: إن يجعلكم مخذولين، والخّذْل والخُذلان - ضد النصر - وهو ترك من يظن به النُّصرة، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها - إذا تركته منفرداً - ولهذا قيل لها: خاذل ويقال للولدِ المتروك - أيضاً -: خاذل، وهذا النَّسَبِ، والمعنى: أنَّها مخذولة.
قال الشاعرُ: [البسيط]
١٦٨١ - بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له - أيضاً -: خذول، فعول بمعنى مفعول.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦٨٢ - خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال: تخاذلَتْ رجلا فلان.
قال الأعشى: [الرمل]
١٦٨٣ - بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ
ثم قال: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص، أي: ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ. وهو معنى حَسَنٌ، ذكره الزمخشريُّ.

فصل


احتجوا - بهذه الآية - على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ.
22
﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ في محل رفع، اسم كان و «لنبيّ» خبرٌ مقدَّمٌ، أي: ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ.
22
وقرا ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وعاصم، بفتح الياء وضم الغين - من غل - مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول؛ لتنافيهما، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة.
وقرأ الباقون «يُغَلَّ» مبنياً للمفعول، وهذه القراءة فيها احتمالانِ:
أحدهما: أن يكون من «غَلَّ» ثلاثياً، والمعنى: ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ، فهو نفيٌ في معنى النهي، أي: لا يَغُلَّهُ أحدٌ.
ثانيهما: أن يكون من «أغَلَّ» رباعياً، وفيها وجهانِ:
أحدهما: أن يكون من «أغَلَّهُ» أي: نسبه إلى الغُلُولِ، كقولهم: أكذبته إذا نسبته إلى الكذب - وهذا في المعنى كالذي قبله، أي: نفي في معنى النهي، أي: لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ.
قال ابن قتيبة: ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل: يُغَلَّلُ كما يقال: يُفَسَّق، ويُخَوَّن، ويُفَجَّر، والأولى أن يقال: إنه من «أغللته» أي: وجدته غالاً، كما يقال: «أبخَلْتُهُ».
الثاني: أن يكون من «أغلَّهُ» أي: وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً.
والظاهر أن قراءة «يَغُلَّ» بالبناء للفاعل - لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول، كقولك: وهو يُعْطِي ويمنع - تريد إثبات هاتين الصفتين، وقدر له أبو البقاء مفعولاً، فقال: تقديره أن يغل المال أو الغنيمة.
واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا: «لأن الفعل الوارد بعد» ما كان لكذا أن يفعل «أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ [آل عمران: ١٤٥]، ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ﴾ [آل عمران: ١٧٩] و ﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله﴾ [يوسف: ٣٨] ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ [يوسف: ٧٦] ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً﴾ [التوبة: ١١٥] ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ [آل عمران: ١٧٩] ويقال: ما كان ليضرب، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب - بضم التاء، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ، فقيل له: إن ابن مسعودٍ يقرأ: يُغل فقال ابنُ عباس: كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة.
قال شهاب الدين، ورجحها بعضهم بقوله: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ فهذا يوافق
23
هذه القراءة، ولا حجة في ذلك؛ لأنها موافقة للأخرى.
و» الغلول «في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و» الغلل «تَدْرُّع الشيء وتوسطه، قال: [الوافر]
١٦٨٤ - تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
قيل: تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية.
قال: [الوافر]
١٦٨٥ - تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي... والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى.
ومنه: أغل الجازر - إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم. وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر، فقالوا: غَلَّ يَغَلُّ غلولاً - بالضم في المصدر والمضارع - إذا خان. وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ - بالكسر فيهما - الحقد قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: ٤٣] أي: حِقْد.
قال القرطبيُّ: «والغالّ: أرض مطمئنة، ذات شجرٍ، ومنابت الساج والطلح، يقال لها: غال. والغال: - أيضاً: نبت، والجمع: غُلاَّن - بالضم»
.

فصل


اختلفوا في أسباب النزولِ: فرُوِيَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غنم في بعض الغزوات، وجمع الغنائم، وتأخرت القسمةُ؛ لبعض الموانع، وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أحُدِ ذَهَباً مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ دِرْهَماً، أَتَحْسَبُونَ أنِّي أغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُم» فانزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: الآية نزلت في أداء الوحي، كان صلى الله يقرأ القرآن، وفيه عَيْبُ دينهم وسَبُّ آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك، فنزلت.
وروى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء، فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذها، فنزلت الآية.
24
ورُوِيَ - من طريق آخرَ - عن ابن عباسٍ: أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الغنائم بشيء زائد، فنزلت الآية.
ورُوِيَ أنه بعض طلائع، فغنموا غنائم، فقسمها ولم يُقسَّم للطلائع، فنزلت الآيةُ.
وقال الكلبيُّ ومقاتل: نزلت هذه الآيةُ في غنائم أحدٍ، حين ترك الرُّماة المركز؛ طلباً للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم - كما لم يقسِّمْها يوم بدرٍ - فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيهم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخوانِنا وقوفاً، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل ظننتم أن نَغُلَّ، فلا نقسم،» فنزلت الآية.
وقيل: إن الأقرباء ألحُّوا عليه يسألونه من المَغْنَم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَن يَغْلُلْ﴾ فيُعْطي قوماً، ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بينهم بالسَّوِيَّةِ.
هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى.
وأما ما يوافق القراءة الثانية فرُوِيَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقعت غنائمُ هوازن في يده يوم حُنَيْن، غَلَّ رَجُلٌ بمخيط، فنزلت هذه الآيةُ.
وقال قتادة: ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه.
قوله: ﴿وَمَن يَغْلُلْ﴾ الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً، ويكون التقدير: في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول.
وهذا - وإن كان محتملاً - بعيدٌ.
و «ما» موصولة بمعنى الذي، فالعائد محذوف أي: غَلَّه، ويدل على ذلك الحديث، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته.
ويجوز أن تكون مصدرية، ويكون على حذف مضاف، أي: بإثم غُلوله.
25

فصل


قال أكثر المفسّرينَ: إن هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهو نظير قوله في مانع الزكاة: ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] ويدل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أو شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فأقُولَ: لاَ امْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، قَدْ بَلَّغْتُكَ».
وعن ابن عباس أنه قال: يمثِّلُ له ذلك الشيء في قَعْرِ جهنمَ، ثم يقال له: أنزل إليه فخُذْه، فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فلا يُقْبل منه.
قال المحققونَ: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه.
وقال أبو مسلم: ليس المقصودُ من الآية ظاهرَها، بل المقصود تشديدُ الوعيدِ على سبيل التمثيلِ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ [لقمان: ١٦] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهرِ، بل المقصود إثبات أن اللهَ لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ، ولا في السماءِ، فكذا هنا المقصود تشديدُ الوعيد، والمعنى: أن الله يحفظ عليه هذا الغلول، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.
وقال الكعبيُّ: المرادُ أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء.
قال ابن الخطيبِ: والأول أولى؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته.
وقيل: معنى: ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ أي: يشهد عليه يومَ القيامةِ بتلك الخيانةِ والغلولِ.

فصل


قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ، ويؤيده ما ورد من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: - في مدعم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ - لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً» فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ» وامتناعه من الصلاة
26
على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ، وتعظيم الذنب فيه، وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ» مثل قوله: «أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ» وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ.

فصل


قال القرطبيُّ: أجمع العلماءُ على أنه يجب على الغالِّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناسُ - إذا أمكنه - فذلك توبته. واختلفوا فيما يُفْعَل به إذا افترق أهلُ العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلمِ: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي - وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يُتَصدق به - وقال الشاافعيُّ: ليس له الصدقة بمال غيره.

فصل


اختلفوا هل يعاقب الغلّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه.
وقال الشافعيُّ: إن كان عالماً بالنهي عوقب.
وقال الأوزاعيُّ: يُحْرَق متاع الغال كلُّه إلا سلاحه وثيابَه التي عليه وسرجه، ولا يُنْزَع منه دابتُه، ولا يُحْرَقُ الشيءُ الذي غَلَّ، وهذا قول أحمد وإسحاق، وقال الحسن: إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً.

فصل


في العقوبة بالمال، قال مالك - في الذَّمِّيّ الذي يبيع الخمرَ من المُسْلِمِ - يراق الخمر على المُسْلِمِ، ويُنْزَع الثمن من الذميّ؛ عقوبةً له؛ لئلا يبيعَ الخمر بين المسلمين، وقد أراق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لبناً شِيَبَ بِماء.

فصل


من الغلول هدايا العمال؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للذي أهْدِيَ إليْه، وكان بعضه على الصدقة،
27
فأهْدِيَ إليه فقال: هذا لكم، وهذا أهْدِيَ إليَّ فقال عليه السلام: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، هَذَا لَكُمْ، وهَذَا أهْدِيَ إليَّ، ألاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ وَأبِيهِ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى إلِيْهِ أَمْ لاَ».

فصل


ومن الغلول - أيضاً - حَبْس الكتبِ عن أصحابها، وما في معناها.
قال الزهريُّ: إياك وغلول الكتبِ، فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها. وقد قيل - في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي: يكتم شيئاً من الوحي؛ رغبةً، أو رهبةً، أو مُدَاهَنَةً.
قوله: ﴿ثُمَّ توفى﴾ هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم - أيضاً - فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن.
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: هلاَّ قِيلَ: ثم يُوَفَّى ما كسب؛ ليتصل به؟
قلت: جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره، فاتصل به من حيث المعنى، وهو أثبتُ وأبلغ.

فصل


تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلاً، وفي إثبات وعيد الفساق.
أما الأول: فلأنه - تعالى - قال - في القاتل المتعمد -: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ [النساء: ٩٣] وأثبت في هذه الآية أن كلَّ عاملٍ يصل إليه جزاؤه، فيحصل - من مجموع الآيتين - القطع بوعيد الفساق.
والجواب عن الأول: المعارضة بالعلم، وعن الثاني: أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبةِ فكذلك يجب أن يكون مخصوصاً في صورة العفو، للدلائل الدالة على العفو. ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
28
لما قال - في الآية الأولى -: ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أتبعه بتفصيل هذه
28
الجملة، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ والكلام [في] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما.
قال أبو حيّان: وتقديره - في هذا التركيب - متكلِّف جدًّا.
والذي يظهر من التقديرات: أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه؛ وغل؛ لأن الاستفهام هنا - للنفي.
و «مَنْ» - هنا - موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء، والجار والمجرور الخبر، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون شَرْطاً؛ لأن» كَمَنْ «لا يصلح أن يكون جواباً». يعني: لأنه كان يجب اقترانه بالفاء؛ لأن المعنى يأباه. و «بِسَخَطٍ» يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، أي: رجع بسخطه، ويجوز أن يكون حالاً، فيتعلق بمحذوف، أي رجع مصاحباً لسخطه، أو ملتبساً به، و ﴿مِّنَ الله﴾ صفته.
والسَّخَط: الغضبُ الشديدُ، ويقال: سَخَط - بفتحتين - وهو مصدر قياسي، ويقالأ: سُخْط - بضم السين، وسكون الخاء - وهو غير مقيس. ويقال: هو سُخْطةُ الملك - بالتاء - أي في كرهه منه له.
وقرأ عاصم - في إحدى الروايتين عنه - رُضْوان - بضم الراء - والباقون بكسرها، وهما مصدران، فالضم كالكُفْران، والكسر كالحِسْبان.
فصل الهمزة فيه للإنكارِ، والفاء، للعطف على محذوف، والتقدير: أفمن اتقى فابتع رضوان الله وقوله: «بَاءَ» أي: رجع، وقد تقدم.
واختلف المفسّرون، فقال الكلبيُّ والضحَّاك: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ في ترك الغلول ﴿كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله﴾ في فِعْل الغُلول؟.
وقيل: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ بالإيمان به والعمل بطاعة ﴿كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله﴾ بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ وهم المهاجرون ﴿كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله﴾ وهم المنافقون؟.
وقال الزَّجَّاجُ: لما حمل المشركون على المسلمين دَعَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه إلى أن يَحْملوا على المشركين، ففعله بعضهم، وتركه آخرونَ، فقوله: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ وهم الذين امتثلوا أمره ﴿كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله﴾ وهم الذين لم يقبلوا قَوْلَه؟
29
قال القاضي: «كُلُّ وَاحِدٍ من هذه الوجوهِ صحيحٌ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأن اللفظ عام؛ فيجب أن يتناول الكُلُّ، وإن كانت الآيةُ نزلت في واقعة معينة لكن عمومَ اللفظِ لا يُبْطِلُ بِخُصوصِ السبب.
وقوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ في هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أن تكون مستأنفة، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ، وتفهم منه مقابله، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سكت عن هذا، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ، تقديره: أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه؟
الثاني: أنها داخلة في حَيِّز الموصول، فتكون معطوفة على»
بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله «فيكون قد وصل الموصول بجملتين: اسمية وفعلية، وعلى الاحتمالين، لا محلَّ لها من الإعراب.
قوله: ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ المخصوص بالذم محذوف، أي وبئس المصيرُ جهنمُ.
واشتملت الآية على الطباق في قوله: ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ و ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ وقوله: ﴿رِضْوَانَ الله﴾ و»
بسخطه «والتجنيس المماثل في قوله: ﴿يَغُلَّ﴾ و ﴿بِمَا غَلَّ﴾.
30
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ مبتدأ وخبر، ولا بد من تأويل [بالإخبار] بالدرجات عن «هم» لأنها ليست إياهم، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً، والمعنى: أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه، أي: هم مثل الدرجات في التفاوت.
ومنه قوله: [الوافر]
30
ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف، أي: هم ذوو درجات، أي: أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل: لهم درجاتٌ - فحُذِفت اللامُ - وعلى هذا يكون «درجات» مبتدأ، وما قبلها الخبرُ، وردَّه بعضهم، وقال: هذا من جهله وجهل متبوعيه - من المفسرين - بلسان العرب، وقَالَ: لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها، وهنا المعنى واضحٌ، مستقيم من غير تقدير حَذْف.
قال شهابُ الدينِ: «وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي».
وقرأ النخعي «هم درجة» بالإفراد على الجنس.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب «درجات» فيكون في محل رفع.

فصل


«هم» عائد إلى لفظ «من» في قوله: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ ولفظ «كم» معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ [السجدة: ١٨]. ثم قال: «لا يستوون» بصيغة الجمع، وهو عائد إلى «من».
واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره، والذي تقدّم ذكره نوعان: من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخطٍ من الله - يُحتمل أن يعودَ إلى الأول، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني، ويحتمل أن يعودَ إليهما، فإن عاد إلى الأول صَحَّ - ويكون التقديرُ: إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم - لوجوه:
الأول: ان الغالب - في العُرْف - استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقاب.
الثاني: أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ [الأنعام: ٥٤] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه - حيث قال: «عند الله» - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى: ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٢١].
31
الثالث: أنه - تعالى - وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله - وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ - فوجب أن يكون قوله: «هم درجات» وصفاً لمَن اتبع رضوان الله.
وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب، وهو قول الحسن، قال: إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب، كقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ [الأحقاف: ١٩] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ».
وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذلك درجات أهل العقاب، قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧، ٨]. وقوله: «عَنْدَ اللهِ» أي: في حكم الله وعلمه، كما يقال: هذه المسألة عند الشافعيّ كذا، وعند أبي حنيفة كذا. ثم قال: «واللهُ بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ» أي «عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل.

فصل


ذكر محمدُ بن إسحاق - في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]- وجهاً آخر، فقال: أي: ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم، رغبةً أو رهبةً، ثم قال: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ يعني رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق ﴿كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله﴾ فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟
ووجه النَّظم - على هذا التقدير - أنه تعالى لما قال: ﴿فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ [آل عمران: ١٥٩] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ، فكيف يُمِنُ التسويةُ بينَ من اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟
قال ابنُ الخَطِيبِ:»
وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة، فهو عُرْفٌ حادِثٌ «.
32
«لقد من الله» جوابٌ لقسم نحذوفٌ، وقُرِئ: لَمِنْ مَنَّ الله - ب «من» الجارة، و «منِّ» - بالتشديد مجرورها - وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ:
32
أحدهما: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ، تقديره: لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ.
الثاني: أنه جعل المبتدأ نفس «إذ» بمعنى: وقتٍ: وخبرها الجارُّ قبلها، وتقديره: لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ، ونظره بقولهم: أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً.
وهذان وجهانِ - في هذه القراءة - مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ.
قال شهابُ الدينِ: إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن «إذ» غيرُ متصرفةٍ، لا تكون إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب «اذكر» - على قول - ونقل قول أبي علي - فيها وفي «إذا» أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين، ولا مفعولين، ولا مبتدأين.
قال: ولا يحفظ من كلامهم: إذْ قام زيد طويل - يريد: وقت قيامه طويل - وبأن تنظيره القراءة بقولهم: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، خطأ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ - عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ - ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ - الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا، فكيف يبرزه في اللفظ؟
33
قال شهابُ الدين: «وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة؛ لكي نسمع ما يقول هو».
والجمهورُ على ضم الفاء - من أنفسهم - أي: من جملتهم وجنسهم، وقرأت عائشةُ، وفاطمةُ والضّحّاكُ، ورواها أنس عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفتح الفاء، من النَّفاسة - وهي الشرف - أي: من أشرفهم نسباً وخَلْقاً، وخُلُقاً.
وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أنا أنفسكم نسباً، وحسباً، وصهراً» وهذا الجارُّ يحتمل وجهين:
الأول: أن يتعلق بنفس «بعث».
الثاني: أن يتعلق بمحذوف، على أنه وصف ل «رسولاً» فيكون منصوب المحل، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء.

فصل في المراد ب «أنفسهم»


قيل: أراد به العرب؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء االعرب إلا وقد ولد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولد فيهم نسب، إلا بني تغلب، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢].
وقال آخرون: أراد به جميع المؤمنين.
ومعنى قوله: «من أنفسهم» أي: بالإيمان والشفقة، لا بالنسب، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾
[التوبة: ١٢٨].
ووجه هذه المِنَّة: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله، ويوصلهم إلى ثواب الله، كقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه.
وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها، كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].

فصل


قال الواحدي: المَنّ - في كلام العرب - بإزاء مَعَانٍ:
أحدها: الذي يسقط من السماء، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى﴾ [البقرة: ٥٧].
ثانيها: أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤].
ثالثها: القَطْع، كقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق: ٢٥] وقوله: ﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: ٣].
34
رابعها: الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه، ومنه قوله: ﴿هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: ٣٩]. وقوله: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٦]. والمنَّان - في صفة الله تعالى -: المُعْطِي ابتداً من غير طلب عِوَضٍ، ومنه الآية: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٦٤] أي: أنعم عليهم، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول.
قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [الجمعة: ٢] في محل نصب حال، أو مستأنف.
وقال القرطبي: «يتلو» في موضع نصب، نعت ل «رسولاً» - وقد تقدم نظيرها في البقرة. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ [آل عمران: ١٦٤] معنى الآية: يبلغهم الوحي، ويطهرهم، ويعلمهم الكتاب - أي: معرفة الأحكام الشرعية - والحكمة - أي: أسرارها وعِلَلَها ومنافعها - ثم قال: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ وهذا وَجْه النعمة؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم.
قوله: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ هي «إن» المخففة، واللام فارقة - وقد تقدم تحقيقه - إلا أن الزمخخشري ومكيًّا - هنا - حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً.
فقال الزمخشري: «وتقديره: إن الشأن، وإن الحديث كانوا من قبل». وقال مكي: «وأما سيبويه فإنه قال» إن «مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير - على قوله -: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين» وهذا ليس بجيّد؛ لأن «إن» المخففة إنما تعمل في الظاهر - على غير الأفصح - ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة، بل تُهْمَل، أو تعمل - على ما تقدم - مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف، بل قال: «إن» هي المخففة من الثَّقِيلَةِ، واللام فارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإن الشأن والحديث كانوا؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب.
وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها استئنافية، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب.
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به - في: «يعلمهم» وهو الأظهر.
35
الهمزة للإنكار، وجعلها ابنُ عطية للتقرير، والواو عاطفة، والنية بها التقديم على الهمزة.
وقال الزمخشري: و «لما» نصب ب «قلتم» و «أصابتكم» في محل الجر، بإضافة «
35
لما» إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. و «أنى هذا» نصب؛ لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلتَ: علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ: على ما مضى من قصة أحُد - من قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ -[آل عمران: ١٥٢] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف، [كأنه قيل] : أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.
أمّا جعله «لما» بمعنى «حين» - أي ظرفاً - فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله: «عطف على قصة أحد» فهذا غير مذهبه، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة، يعطف ما بعد الواو عليها - أو الفاء، أو «ثم» - كما قرره هو في الوجه الثاني.
و «أنى هذا» «أنى» بمعنى من أين - كما تقدم في قوله: ﴿أنى لَكِ هذا﴾ [آل عمران: ٣٧]- ويدل عليه قوله: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ وقوله: ﴿مِنْ عِنْدِ الله﴾ قاله الزمخشري.
ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر، غير «في». أما أن يقدر داخلاً عليه «من» فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط «في» ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة «في» إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ، واستدلاله بقوله تعالى: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ وقوله: ﴿مِنْ عِنْدِ الله﴾ وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.
واختار أبو حيان أن «أنى» بمعنى «كيف» قال: و «أنى» سؤالٌ عن الحال - هنا - ولا يناسب أن يكون - هنا - بمعنى «أين» أو «متى» لأن الاستفهام لم يقع عن المكان، ولا عن الزمان، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجُّب - وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ - في قوله: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ - والسؤال ب «أنى» سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ، والجواب كقوله: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يتضمن تعيين الكيفية؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل - على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ -: كيف لا يحج زيد الصَّالحُ؟ وأجيب ذلك بأن يقال: لعدم استطاعته، لحصل الجوابُ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ.
قال شهابُ الدينِ: «أما قوله: لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير» في «فالزمخشريُّ لم يقدر» في «مع» أن «حتى يلزمه ما قال، إنما جعل» أنى «بمنزلة» من أين «في المعنى. وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى».
36
قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ﴾ في محل رفع؛ صفة ل «مصيبة». و «قلتم» - على مذهب سيبوبه - جواب «لما» وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما.
قوله: ﴿قُلْ هُوَ﴾ هذا الضمير راجع على «المصيبة» من حيثُ المعنى، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى - أي: سببها - وكذلك الإشارة لقوله: ﴿أنى هذا﴾ لأن المراد المصيبة.

فصل


وجه النظم: أنه - تعالى - لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية، وهي قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ، وهو المرادُ من قولهم: أنى هذا؟
وأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم.
ومعنى: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ أن المشركين قتلوا من المسلمين - يوم أحُدٍ - سبعين، وقتل المسلمون منهم - يوم بدر - سبعين، وأسروا سبعينَ، والأسيرُ في حكم القتيلِ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. ﴿قُلْتُمْ أنى هذا﴾ : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة، ونحن مسلمونَ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينا؟ ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾
روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر، فقال: يا مُحَمَّدُ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك - من أخذهم الفداء من الأسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى، فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم، فذكر ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للنّاسِ، فقالوا: يا رسولَ الله، عشائرنا، وإخواننا، لا، بل نأخذ منهم الفداء، فتتقوّى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا عشدَّتهم، فقُتِلَ منهم - يوم أحدٍ - سبعونَ، عدد أسارى أهل بدر، فهذا معنى قوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: بأخذ الفداء، واختياركم القتلَ.
وقيل: إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها.

فصل


استدل المعتزلةُ بقوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ:
37
أحدها: أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى - ولا تأثير للعبد فيه - كان قوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ كذباً.
ثانيها: أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله: إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ.
ثالثها: أن القوم قالوا: ﴿أنى هذا﴾ أي: من أينَ هَذَا؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال.
وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: قادر على نصْركم - لو صبرتم وثبتُّم - كما قدر على التخلية - إذ خالفتم وعصيتم - وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأن فعل العبد شيء، فيكون الله قادراً على إيجاده، فلو أوجده٠ العبد امتنع كونه - تعالى - قادراً على إيجاده؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ.
38
«ما» موصولة بمعنى الذي، في محل رفع بالابتداء، و «بإذن الله» الخبر، وهو على إضمار مبتدأ، تقديره: فهو بإذن الله، ودخلت الفاء في الخبر؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وهذا - على ما قرره الجمهورُ - مُشْكِل؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟
أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن - أي: وما تبين إصابته إياكم - كما تأولوا قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٦]- أي تبين - وهذا شرطٌ صريحٌ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل «ما» - هنا - شرطاً صريحاً، وتكون الفاء داخلة وجوباً؛ لكونها واقعة جواباً للشرط.
38
وقال ابنُ عطية: «يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم، لكن قدم الأهم في نفوسهم، والأقرب إلى حسّهم. والإذن: التمكينُ من الشيء مع العلم به».
وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى، وأشار بقوله: الأهم والأقرب، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ.

فصل


ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ.
واختلفوا في المراد بقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله﴾ [التوبة: ٣] وقوله: ﴿آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٧] وقوله: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات.
وقيل: فبأمر الله؛ لقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] والمعنى: أنه - تعالى - لما أمر بالمحاربة، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح - على سبيل المجاز - أن يقال: حصل ذلك بأمره.
ونُقِل - عن ابن عباسٍ - أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به.
وهذا أولى؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، وبهذا تحصل التسلية.
قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ المؤمنين﴾ في هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها معطوفة على معنى قوله: ﴿فَبِإِذْنِ الله﴾ عطف سبب على سبب، فتتعلق بما تتعلق به الباء.
الثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: وليعلم فعل ذلك - أي: أصابكم - والأول أولى - وقد تقدم أن معنى: وليعلم الله كذا: أي يُبَيِّن، أو يظهر للناس ما كان في علمه، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً، أي: ليعلم إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، ولا حاجة إليه.
قوله: ﴿وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ﴾ قال الواحدي: «يقال: نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان، وأضمَر خلافَها، والنفاق اسم إسلامي، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ:
39
أحدها: قال أبو عبيد: من نافقاء اليربوع؛ لأن حجر اليربوع لها بابان: القاصعاء، والنافقاء، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر، فقيل للمنافق: إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين: إظهار الإسلام، وإضمار الكُفْرِ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر.
الثاني: قال ابنُ الأنباري: المنافق من النَّفَق، وهو السربُ، ومعناه: أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ.
الثالث: أنه مأخوذٌ من النافقاء، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر، حتى إذا رابه رَيْبٌ، رفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق: منافق؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر، وتمسَّك بالإسلام».
قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهين:
الأول: أنْ تكونَ استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال، وإما بالدَّفْع، أي: تكثير سواد المسلمين.
الثاني: أن تكون معطوفة على «نافقوا» فتكون داخلة في صلة الموصول، أي: ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و «تعالوا» و «قاتلوا» كلاهما قام مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقول. قال أبو البقاء: إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين «تعالوا» و «قاتلوا» - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصودَ هو الأمر بالقتال، و «تعالوا» ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه.
وقيل: الأمر الثاني حال.
يعني بقوله: «تعالوا» ذكر ما لو سكت، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال، لا مجيئهم وحده، وجعله «قاتلوا» حالاً من «تعالوا» فاسد؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية، وهذه طلبية.
قوله: «أو ادفعوا» «أو» - هنا - على بابها من التخيير والإباحة.
وقيل: بمعنى الواو؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع، والأول أصح.

فصل


اختلفوا في القائل، فقال الصمُّ: إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال.
وقيل: إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال: لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ -: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ.
40

فصل


معنى ﴿قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾ يعني: إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
وقال السُّدَّيُّ: وابنُ جُرَيْج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا - إن لم تقاتلوا معنا - لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة.
وقوله: ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً﴾ إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلة - بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل: فما قالوا - لما قيل لهم ذلك -؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلم» - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ؛ لأن «لو» تخص المضارع، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره، ونكَّر «قتالاً» للتقليل، أي: لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم: ﴿تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾ فقال تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾.
«هم» مبتدأ، و «أقرب» خبره، وهو أفعل تفضيل، و «للكفر» متعلق به، وكذلك «للإيمان».
فإن قيل: لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنىً - بعامل واحد، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر، أو بدلاً منه، فكيف تعلقا ب «أقرب» ؟
فالجوابُ: أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل، قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو، معناه: يزيد فضله على فضل عمرو.
وقال أبو البقاء: «وجاز أن يعمل» أقرب «فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل» أطيب «في قولهم: هذا بسراً أطيب منه رُطباً، في الظرفين المقدرين لأن» أفعل «يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر، فتقديره: يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان».
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك، وقوله: الظرفين المقدَّرين، يعني أن المعنى: هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه.
و «أقرب» - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف: اللام، و «إلى» و «من». تقول: قربت لك ومنك إليك، فإذا قلت: زيد أقرب من العلم من عمرو، ف «من» الولى المعدية لأصل معنى القرب، والثانية هي الجارة للمفضول، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى «إلى».
و «يومئذ» متعلق ب «أقرب» ومذا «منهم» و «من» هذه هي الجارةُ للمفضول بعد «أفعل» وليست هي المعدية لأصل الفعل.
41
ومعنى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ أنهم كانوا - قبل هذا الوقت - كاتمين للنفاق، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين.
وقيل: المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين.
و «إذ» مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ، عُوِّضَ منها التنوين، وتقدير هذه الجملة: هم للكفر يوم إذ قالوا: لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم.
وقيل: المعنى على حذف مضاف، أي: هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يَجُزْ، تقول: زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً. ولو قلت: زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً. لم يَجُزْ.
وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن «أقرب» - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ، ومنه قارب الماء، وليلةُ القُرْب: ليلة الورود، فالمعنى: هم أطلب للكفر، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك: زيد أضربُ لعمرو.

فصل


قال أكثرُ العلماءِ: هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار.
قال الحَسَنُ: إذا قال الله تعالى: «أقرب» فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: ﴿مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر. وقال الواحديُّ - في «البسيط» : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره؛ لأنه - تعالى - لم يطلق القول بتكفيرهم - مع أنهم كانوا كافرين - لإظهارهم كلمة التوحيد.
قوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ في هذه الجملة وجهانِ:
أحدهما: أنها مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعرابِ.
الثاني: أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في «أقرب» أي: قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله: ﴿بِأَفْوَاهِهِم﴾ قيل: تأكيد، كقوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]. والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني، فتقييده بقوله: ﴿بِأَفْوَاهِهِم﴾ تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه، اللهم إلا أن يُقَال: إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز، قال
42
الزمخشري: «وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصويراً لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم».
وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الاية: أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ.
قوله تعالى: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي: عالم بما في ضمائرهم.
فإن قيل: المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ، فما معنى قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ ؟
فالجواب: أنّ الله - تعالى - يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.
43
قوله :﴿ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ قال الواحدي :" يقال : نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان، وأضمَر خلافَها، والنفاق اسم إسلامي، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ :
أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع ؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء، والنافقاء، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام، وإضمار الكُفْرِ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر.
الثاني : قال ابنُ الأنباري : المنافق من النَّفَق، وهو السربُ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ.
الثالث : أنه مأخوذٌ من النافقاء، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ، وهو أن النافقاء جُحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر، حتى إذا رابه رَيْبٌ، رفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق : منافق ؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر، وتمسَّك بالإسلام ".
قوله :﴿ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهين :
الأول : أنْ تكونَ استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال، وإما بالدَّفْع، أي : تكثير سواد المسلمين.
الثاني : أن تكون معطوفة على " نافقوا " فتكون داخلة في صلة الموصول، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و " تعالوا " و " قاتلوا " كلاهما قام مقام الفاعل ل " قيل " لأنه هو المقول. قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين " تعالوا " و " قاتلوا " - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها، ويجوز أن يقال : إن المقصودَ هو الأمر بالقتال، و " تعالوا " ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه.
وقيل : الأمر الثاني حال.
يعني بقوله :" تعالوا " ذكر ما لو سكت، أن المقصود إنما هو أمرهم بالقتال، لا مجيئهم وحده، وجعله " قاتلوا " حالاً من " تعالوا " فاسد ؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية، وهذه طلبية.
قوله :" أو ادفعوا " " أو " - هنا - على بابها من التخيير والإباحة.
وقيل : بمعنى الواو ؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع، والأول أصح.

فصل


اختلفوا في القائل، فقال الأصمُّ : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال. وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال : لم نُلْقي أنفسَنا في القتل ؟ فرجعوا، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ - : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدُوِّ.

فصل


معنى ﴿ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ ﴾ يعني : إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
وقال السُّدَّيُّ : وابنُ جُرَيْج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا - إن لم تقاتلوا معنا - لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة.
وقوله :﴿ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً ﴾ إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلَة - بحرف عطف ؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا - لما قيل لهم ذلك - ؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و " نعلم " - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ ؛ لأن " لو " تخص المضارع، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره، ونكَّر " قتالاً " للتقليل، أي : لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم :﴿ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ ﴾ فقال تعالى :﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾.
" هم " مبتدأ، و " أقرب " خبره، وهو أفعل تفضيل، و " للكفر " متعلق به، وكذلك " للإيمان ".
فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنًى - بعامل واحد، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر، أو بدلاً منه، فكيف تعلقا ب " أقرب " ؟
فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل، قالوا : لأنه في قوة عاملين، فإنّ قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو.
وقال أبو البقاء :" وجاز أن يعمل " أقرب " فيهما ؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل " أطيب " في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً، في الظرفين المقدرين لأن " أفعل " يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتِهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان ".
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين ؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك، وقوله : الظرفين المقدَّرين، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه.
و " أقرب " - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف : اللام، و " إلى " و " من ". تقول : قربت لك ومنك إليك، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو، ف " من " الولى المعدية لأصل معنى القرب، والثانية هي الجارة للمفضول، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى " إلى ".
و " يومئذ " متعلق ب " أقرب " وكذا " منهم " و " من " هذه هي الجارةُ للمفضول بعد " أفعل " وليست هي المعدية لأصل الفعل.
ومعنى :﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ أنهم كانوا - قبل هذا الوقت - كاتمين للنفاق، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر ؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين.
وقيل : المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان ؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين.
و " إذ " مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ، عُوِّضَ منها التنوين، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذْ قالوا : لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم.
وقيل : المعنى على حذف مضاف، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يَجُزْ، تقول : زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً. ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً. لم يَجُزْ.
وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن " أقرب " - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ، ومنه قارب الماء، وليلة القُرْب : ليلة الورود، فالمعنى : هم أطلب للكفر، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك : زيد أضربُ لعمرو.

فصل


قال أكثرُ العلماءِ : هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار.
قال الحَسَنُ : إذا قال الله تعالى :" أقرب " فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله :
﴿ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ] فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر. وقال الواحديُّ - في " البسيط " : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه - تعالى - لم يطلق القول بتكفيرهم - مع أنهم كانوا كافرين - لإظهارهم كلمة التوحيد.
قوله :﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم ﴾ في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعرابِ.
الثاني : أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في " أقرب " أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله :﴿ بِأَفْوَاهِهِم ﴾ قيل : تأكيد، كقوله :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾
[ الأنعام : ٣٨ ]. والظاهرُ أن القولَ يُطْلَق على اللساني والنفساني، فتقييده بقوله :﴿ بِأَفْوَاهِهِم ﴾ تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه، اللهم إلا أن يُقَال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز، قال الزمخشري :" وذكر الأفواه مع القلوب ؛ تصويراً لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم ".
وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد ؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الآية : أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ.
قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ أي : عالم بما في ضمائرهم.
فإن قيل : المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ، فما معنى قوله :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ ؟
فالجواب : أنّ الله - تعالى - يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.
جوَّزوا في موضع «الذين» الألقاب الثلاثة: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هم الذين.
ثانيها: أنه بدل من واو «يكتمون».
ثالثها: أنه مبتدأ، والخبر قوله: «قل فادْرءوا» ولا بُدَّ من حذف عائدٍ، تقديره: قُلْ لَهُمْ.
والنصبُ من ثلاثة أوجه - أيضاً -:
أحدها: النصبُ على الذَّم، أي: أذم الذين قالوا.
ثانيها: أنه بدل من «الذين نافقوا».
ثالثها: أنه صفة.
والجر من وجهينِ: البدل من الضمير في «بأفواهم» أو من الضمير في «قلوبهم» كقول الفرزدق: [الطويل]
١٦٨٧ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر «حاتم» على أنه بدل من الهاء في «جوده» - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان: وجوَّزوا في إعراب «الذين» وُجُوهاً:
الرفع، على النعت ل «الذين نافقوا» أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب... فذكره إلى آخره.
قال شهابُ الدينِ: وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ «الذين نافقوا» منصوب بقوله: «وليعلم» وهم - في الحقيقة - عطف على «المؤمنين» وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يخفَى
43
عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو - وهو الظاهر من كلامه - ولم ينظر في الآية، اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأن يُعْتَقَدَ أنّ «الذين» فاعل بقوله: «وليعلم» أي: فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين، وليعلم المنافقون، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة.
قوله: «وقعدوا» يجوز في هذه الجملة وجهانِ:
أحدهما: أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادة أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو و «قد» أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابتٌ من لسان العربِ.
الثاني: أنها معطوفة على الصلة، فتكون معترضة بين «قالوا» ومعمولها، وهو «لو أطاعونا».

فصل في المراد ب «الذين»


قال المفسّرون المراد ب «الذين» عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ. وقال الأصَم: هذا لا يجوزُ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجهادِ يوم أحُدٍ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف، لأنه قال: ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا﴾ أي في القعود «ما قتلوا» فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد، صارفاً لهم عن الجهاد.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله: «وقعدوا» القعود عن القتالِ، لا عن الخروج إلى القتال؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ، ولم يُقَاتِل، بل هَرَبَ بمن معه، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام.
وقوله: ﴿لإِخْوَانِهِمْ﴾ أي: لأجل إخوانهم - وقد تقدم: هل المرادُ - من هذه الأخوة - الأخوة في النسب، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ، أو في عدداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو في عبادة الأوثان؟
قوله: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾ ادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾.
فإن قيل: ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته؟
فالجوابُ: أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا: إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق، فيصح الاستدلالُ، أما إذا قلنا: بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً.
وقوله: ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره، والوصول إلى المطالب.
44
«الذين» مفعول أول، و «أمواتاً» مفعول ثانٍ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام - بخلاف عنه - «يحسبن» بياء الغيبة، وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: أنه مُضْمَر، إما ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان - أي: حاسب.
الثاني: قاله الزمخشري: وهو أن يكون «الذين قتلوا» قال: ويجوز أن يكون «الذين قتلوا» فاعلاً والتقديرُ: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً.
فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلتُ: هو - في الأصلِ - مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: «بل أحياء» أي: هم أحياءٌ؛ لدلالة الكلام عليهما.
وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً، نعم رجلاً زيد، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه، والبدل على خلاف فيه، وضمير الأمرِ، قال: «وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير» وبأن حذف أحد مفعولي «ظن» اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً، نص عليه الفارسيُّ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة.
قال شهابُ الدينِ: «وهذا من تحملاته عليه، أما قوله: يؤدي إلى تقديم المضمر... إلى آخره، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً، بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ» أنفسهم «المنصوبة وهي المفعول الأول، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة، تأكيداً للضمير في» قتلوا «ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ، كما ستقف عليه قريباً.
وتقدم الكلامُ على مادة»
حسب «ولغاتها، وقراءاتها، وقُرِئَ» تحسبن «- بفتح السين - قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر» قتّلوا «- بالتشديد - وهشام وحده في» ما «
45
ماتوا وما قتلوا» والباقون بالتخفيف، فالتشديد للتكثير، والتخفيفُ صالح لذلك، وقرأ الجمهورُ «أحياءٌ» رفعاً، على تقدير: بل هُمْ أحياءٌ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة «أحياءً» وخرَّجها أبو البقاء على وجهين:
أحدهماك أن يكون عطفاً على «أمواتاً» قال: «أمواتاً» قال: «كما تقول: ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً».
الثاني: - وإليه ذهب الزمخشري - أيضاً - أن يكون بإضمار فعل، تقديره: بَلِ احسبهم أحياءً، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق، الزجاجِ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه - في الإغفال - وقال، لأن الأمر يقينٌ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة، اعتقدهم، أو اجعلهم، وذلك ضعيفٌ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر.
قال شهابُ الدينِ: وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله: إن الأمر يقينٌ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن، فكيف يقال فيه: أحسبهم - بفعل يقتضي الشك - وهذا غير لازم؛ لأن «حسب» قد تأتي لليقين.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦٨٦ - أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ
١٦٨٨ - حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا
وقال آخر: [الطويل]
١٦٨٩ - شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي
ف «حسب» - في هذين البيتين - لليقين؛ لأن المعنى على ذلك. وقوله: لذلك ضعيف، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية، وليس كذلك، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ - لدلالة المعنى عليه - من غير ضَعْفٍ - وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ - وأما تقديره هو: اعتقدهم أو جعلهم، قال الشيخ: هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت: اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيِّرهم أو سمِّهم، أو الْقهم.
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً ل «أحياء» على قراءة الجمهورِ.
الثاني: أن يكون ظرفاً ل «أحياء» لأن المعنى: يحيون عند ربهم.
الثالث: أن يكون ظرفاً ل «يرزقون» أي: يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ.
الراع: أن يون صفة ل «أحياء» فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة.
46
الخامس: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «أحياء». أي: يحيون مرزوقين. والمراد بالعندية: المجاز عن قربهم بالتكرمة.
وقيل: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي: في حكمه، كما تقول: هذه المسألةُ عند الشافعي كذا، وعنده غيره كذا.
قال ابنُ عطية «وهو على حَذف مضاف، أي: عند كرامة ربهم». ولا حاجةَ إليه؛ لأن الأولَ أليق.
قوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ فيه أربعةُ وجهٍ:
أحدها: ان يكون خبراً ثالثاً ل «أحياء» أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً.
الثاني: أنها صفة ل «أحياء:» - بالاعتبارين المتقدمين - فإن أعربنا الظرف وصفاً - أيضاً - فيكون هذا جاء على وعديله؛ لأنه أقرب إلى المفرد.
الثالث: أنه حال من الضمير في «أحياء» أي: يحيون مرزوقين.
الرابع: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، إذا جعلته صفة. وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك - أيضاً - وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة، ولو جعلته خبراً كان كذلك «.

فصل


هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً، ثمانية من الأنصارِ، وستة من المهاجرين.
وقيل: نزلت في شهداء أُحُدٍ، وكانو سبعينَ رجلاً، أربعة من المهاجرين - حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ، وعثمان بن شماسٍ، وعبد الله جَحْشٍ - وباقيهم من الأنصار.

فصل


ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون حقيقةً، أو مجازاً، فإن كان حقيقةً، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو في
47
الحال. وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ، أو الجسمانيةَ، فأما الاحتمال الأولُ - وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة - فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ، منهم الكَعْبِيِّ، قال: لأن الله - تعالى - أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ، وقولهم: إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل، فَيُقْتَلون، ويخسرون الحياة، ولا يصلونَ إلى خيرٍ.
وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية، وأيضاً فإنه تعالى قال: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة. وقال: ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ [غافر: ٤٦] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً - قبل القيامة - لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك.
فإن قيل: إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ، فجاز أن ييشِّره الله - تعالى - بانهم سيصيرون أحياءً، ويصلون إلى الثواب؟
فالجوابُ: أن قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً﴾ فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان - هناك - في صيرورتهم أحياء يوم القيامة.
وقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ خبر مبتدأ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان، فزال السؤالُ، وأيضاً فقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾ فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة.
وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال - في صفة الشهداء: «أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا»، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية.
وسُئِلَ ابنُ مسعود
48
عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها، فقيل لنا: إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ. وفي رواية: في روضةٍ خضراء.
وعن جابرٍ بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ - حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ - أحْيَاهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى».
الاحتمالُ الثاني - وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ - والقائلون بهذا القولِ، منهم من أثبت الحياةَ للروح، ومنهم من أثبتها للبدنِ، فمن أثبتها للروح قال: لقوله تعالى: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٧ - ٣٠] والمراد: الروح.
وروي انه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين، ويقول: ﴿فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ [الأعراف: ٤٤] فقيل: يا رسول الله، إنهم أمواتٌ، فكيف تُناديهم؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنهم أسمع منكم» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار».
الاحتمالُ الثالثُ: من أثبت الحياة للأجساد، وهؤلاء اختلفوا، فقال بعضهم: أنه - تعالى - يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات، وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل إليها الكرامات.
وقد طعنوا في هذا، وقالوا: إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة، متنعمة عارفة: لزم القول بالسفسطة.
49
الاحتمالُ الرابعُ: إن كونهم أحياء من طريق المجاز.
قال الأصمُّ البلخيُّ: إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة، صحَّ أن يقالَ: أنه حَيّ، وليس بميتٍ، كما يقال - في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره -: إنه ميتٌ، وكما يقال - للبليد -: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، كما قال عبد الملك بن مروان - لما رأى الزُّهريَّ، وعلم فقهه وتحقيقه -: مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ. وإذا مَاتَ الإنسانُ، وخلف ثناء جميلاً، وذكراً حَسَناً، يقال - على سبيل المجاز: أنه مَا مَاتَ.
وقال آخَرونَ: مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء، أمر أن ينادى: مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع، قال جابرٌ: فخرجنا إليهم، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ، فانفطرت دماً.
وقيل: المراد - بكونهم أحياء - أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات.
قال القرطبي: إذا كان الشهيدُ حيًّا - حكماً - فلا يُصَلَّى عليه، كالحَيِّ حِسًّا.
قوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ فيه خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون حالاً من الضمير في «أحياء».
ثانيها: أن يكون حالاً من الضمير في الظرف.
ثالثها: أن يكون حالاً من الضمير في ﴿يُرْزَقُونَ﴾.
رابعها: أنه منصوبٌ على المَدْح.
خامسها: أنه صفة ل «أحياء».
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و «بما» يتعلق ب «فرحين».
قوله: ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ في «من» ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن معناها السببية، أي بسببب فضله، أي: الذي آتاهم الله متسبب عن فضله.
الثاني: أنها لابتداء الغايةِ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب «آتاهم».
الثالث: أنها للتبعيض، أي: بعض فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف، والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ.
قوله: «ويستبشرون» فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم؛ لكون الفعل في تأويله،
50
فيكون عطفاً على «فرحين» كأنه قيل: فرحين ومُسْتَبْشِرِين، ونظَّروه بقوله تعالى: ﴿فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩].
الثاني: أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل، قال أبو البقاء هو معطوف على «فرحين» لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن «فرحين» بمنزلة يفرحون، وكأنه جعله من باب قوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله﴾ [الحديد: ١٨] والتقديرُ الأولُ أولى، لأن الاسم - وهو «فرحين» لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه.
وإنما فعلنا ذلك في الآية؛ لأن «أل» الموصولة بمعنى: الذي و «الذي» لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة.
الثالث: أن يكون مُستأنفاً، والواو للعطف، عطفت فعلية على اسمية.
الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يستبشرون، وحينئذٍ يجوز وجهان:
أحدهما: أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم» وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً.
الثاني من هذين الوجهين: ان تكون استئنافية، عطف جملة اسمية على مثلها.
و «استفعل» - هنا - ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجرد، نحو: استغنى الله - بمعنى: غَنِيَ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه، قاله ابنُ عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ، نحو: أكانَهُ فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ.
قوله: ﴿مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾ في هذا الجارّ وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم.
الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم.
الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل «يلحقوا بهم»، أي: لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي: في الحياة -.

فصل


معنى الكلام: ويستبشرون: ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم، من إخوانهم الذين
51
تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ؛ فلذلك يستبشرون.
وقال الزَّجَاج وابن فورك: الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - لى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دين افسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله: ﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن «أن» وما في حيِّزِها في محل جَرّ، بدلاً من «بالذين» بدل اشتمال، أي: يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم، فهو المستبشَر به في الحقيقة، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها.
الثاني: أنها في محل نَصْبٍ؛ على أنها مفعول من أجله، أي: لأنهم لا خوف عليهم.
و «أن» - هذه - هي المخفَّفة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل: الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ﴾.
فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ، تقديره: ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين، أو لحوقهم بهم في الدرجة.
وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ -: ويجوز أن يكون في موضع نَصْب، على معنى: بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدّم، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من «الذين» - ليست في محل جَرٍّ، بل في محل نَصْبٍ، لأنها سقطت منها الباء؛ فإن الأصل: بان لا، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ.
52
قوله :﴿ فَرِحِينَ ﴾ فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في " أحياء ".
ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف.
ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في ﴿ يُرْزَقُونَ ﴾.
رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح.
خامسها : أنه صفة ل " أحياء ".
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و " بما " يتعلق ب " فرحين ".
قوله :﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾ في " من " ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن معناها السببية، أي بسببب فضله، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله.
الثاني : أنها لابتداء الغايةِ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب " آتاهم ".
الثالث : أنها للتبعيض، أي : بعض فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ.
قوله :" ويستبشرون " فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم ؛ لكون الفعل في تأويله، فيكون عطفاً على " فرحين " كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين، ونظَّروه بقوله تعالى :
﴿ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾ [ الملك : ١٩ ].
الثاني : أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل، قال أبو البقاء هو معطوف على " فرحين " لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن " فرحين " بمنزلة يفرحون، وكأنه جعله من باب قوله :﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ ﴾
[ الحديد : ١٨ ] والتقديرُ الأولُ أولى، لأن الاسم - وهو " فرحين " لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع عليه، فينبغي أن يُرَدَّ إليه.
وإنما فعلنا ذلك في الآية ؛ لأن " أل " الموصولة بمعنى : الذي و " الذي " لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة.
الثالث : أن يكونَ مُستأنفاً، والواو للعطف، عطفت فعلية على اسمية.
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي : وهم يستبشرون، وحينئذٍ يجوز وجهان :
أحدهما : أن تكون الجملةُ حاليةً من الضمير المستكن في " فرحين " أو من العائد المحذوف من " آتاهم " وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً ؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً.
الثاني من هذين الوجهين : أن تكون استئنافية، عطف جملة اسمية على مثلها.
و " استفعل " - هنا - ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجرد، نحو : استغنى الله - بمعنى : غَنِيَ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه، قاله ابنُ عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ، نحو : أكانَهُ فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر ؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ.
قوله :﴿ مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾ في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب " لم يلحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم.
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل " يلحقوا بهم "، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي : في الحياة -.

فصل


معنى الكلام : ويستبشرون : ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم، من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد ؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ ؛ فلذلك يستبشرون.
وقال الزّجّاجُ وابن فورك : الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - إلى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دينَ الإسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
قوله :﴿ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن " أن " وما في حَيِّزها في محل جَرّ، بدلاً من " بالذين " بدل اشتمال، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم، فهو المستبشَر به في الحقيقة، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها.
الثاني : أنها في محل نَصْبٍ ؛ على أنها مفعول من أجله، أي : لأنهم لا خوف عليهم.
و " أن " - هذه - هي المخفَّفة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال :﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ ﴾ ؟.
فالجوابُ أن ذلك على حَذفِ مُضَافٍ مناسبٍ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين، أو لحوقهم بهم في الدرجة.
وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ - : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب، على معنى : بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدِّم، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من " الذين " - ليست في محل جَرٍّ، بل في محل نَصْبٍ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بأن لا، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ - على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ.
لما بيَّنَ - تعالى - أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، بيَّن - هنا - أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ.
فإن قيلَ: أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم والفرحُ عينُ الاستبشارِ - فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ، فلا يلزم التكرارُ.
52
الثاني: لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصيل لهم في الآخرةِ.
فإن قيلَ: ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟
فالجواب: أن النعمةَ هي الثواب، والفَضْل: هو التفضُّل الزائد.
وقيل: النعمة: المغفرة، والفَضْل: الثواب الزائد.
وقيل: للتأكيد.
روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مَنَ الْجَنَّةِ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه»، قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ، صحيحٌ، غريبٌ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ، وهي في العدد سبعةٌ.

فصل


وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ - بصلاحِ حالِ إخوانِهِ - أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ، لأنهُ - تعالى - مَدَحهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحا بإخوانهم، ثم ذكر - بعده - استبشارهم بأنفسهم، فقال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾.
قوله: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ﴾ قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ «أن» على الاستئنافِ.
وقال الزمخشري: إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ.
واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين.
ويمكن أن يُجاب عنه بأن «الذين استجابوا» يجوز أن يكون تابعاً ل «الذين لم يلحقوا» - نعتاً، أو بدلاً، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض.
53
ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه: والله لا يضيع، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله: «بنعمة» لأنها بتأويل مصدر، أي: يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين.
فإن قيل: لم قال: «يستبشرون» من غير عطف؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم، دون «الذين لم يلحقوا بهم» لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين.
الثاني: أنه تأكيدٌ الأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري.
الثالثُ: انه بدلٌ من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً: أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال: بدل منه، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد.
الرابعُ: أنه حال من فاعل «يحزنون» و «يحزنون» عاملٌ فيه، أي: ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ، لوجهين:
أحدهما: أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ.
الثاني: أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة، والحال قَيْدٌ فيه، فيفوت هذا المعنى.

فصل


والمقصودُ - من هذا الكلام - أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه، ولا يُضيعه.
قوله: «الذين استجابوا» فيه ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وقال مَكيٌّ: ابتداء وخبره «من بعدما أصابهم القرح» وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل «من بعد» متعلقٌ ب «استجابوا».
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي: هم الذين.
54
الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك: القطع.
الرابع: أنه بدل من «المؤمنين».
الخامس: أنه بدلٌ من «الذين لم يلحقوا» قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ: أنه نعتٌ ل «المؤمنين» ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله: «الذين لم يلحقوا» قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و «ما» في قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ﴾ مصدرية، و «الذين أحسنوا» خَبَرٌ مقدَّمٌ، و «منهم» فِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «من» تكون تبعيضية.
الثاني: أنها لبيان الجنسِ.
قال الزمخشري: «مثلها في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً﴾ [الفتح: ٢٩] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم». و «أجر» مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب «الذين استجابوا» مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره.
والمرادُ: أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات.

فصل


في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا: لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال: لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم - ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال: يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن.
فأذن له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَخَرَجَ مَعَهُ، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم، فيظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم، فينصرفوا. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَبْعِينَ رَجُلاً، منهم أبو بكرٍ وعمرُ، وعثمانُ، وعليٍّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدٌ،
55
سعيدٌ، وعبد الرحمن بنُ عوفٍ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وحديفةُ بنُ اليَمانِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - روي عن عائشةً أنَّها قالتْ - لعبدِ الله بن الزُّبَيْر: ابنَ أختي، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: ﴿الذين استجابوا للَّهِ والرسول﴾.
وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَعْبَدٌ الخُزَاعِيُّ بحمراء الأسدِ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتهامة، صَفْقَتُهُمْ معهم ولا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها، ومعبد - يومئذ - مشرك، فقال: يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم.
ثم خرج من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم، لنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبدُ؟ قال: محمد وقد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط، يتحرقون عليكم تحرُّقاً، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعكم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط، قال ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً: [البسيط]
١٦٩٠ - كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ
وذكر أبياتاً. «ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه. ومَرَّ به رَكْبٌ من بن عبد القيسِ،
56
فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينةَ قالوا: ولِمَ؟ قالوا: نريد المِيرَة، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب» عكاظ «غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا: نَعَمْ، قال فإن جئتموه فأخبروني فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيته، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ. ومرَّ الركب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو ب» حمراء الأسد «فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الوكيلِ، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة.» هذا قولُ أكثرِ المفسّرين.
الثاني: «قال الأصمُّ: نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ، لما رجع الناس إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الهزيمة، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ، فانهزموا، وصلى عليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزبير: رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها، فقالت: قد بلغني ما فُعِلَ به، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزُّبَيْر: فَدَعْها، لتنظرَ إليه، فقالت خيراً، واستغفرت له. وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو حَيٌّ قالت: كل مصيبةٍ بعدك هدر.»
57
قوله :" الذين استجابوا " فيه ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مبتدأ، وخبره قوله :﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره " من بعدما أصابهم القرح " وهذا غلطٌ ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل " من بعد " متعلقٌ ب " استجابوا ".
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي : هم الذين.
الثالث : أنه منصوب بإضمار " أعني " وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع.
الرابع : أنه بدل من " المؤمنين ".
الخامس : أنه بدلٌ من ﴿ الذين لم يلحقوا ﴾ قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ : أنه نعتٌ ل " المؤمنين " ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله :﴿ الذين لم يلحقوا ﴾ قياساً على جَعْلهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و " ما " في قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ﴾ مصدرية، و " الذين أحسنوا " خَبَرٌ مقدَّمٌ، و " منهم " فِيْهِ وَجْهَان :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في " أحسنوا " وعلى هذا ف " من " تكون تبعيضية.
الثاني : أنها لبيان الجنسِ.
قال الزمخشري :" مثلها في قوله تعالى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم ". و " أجر " مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب " الذين استجابوا " مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره.
والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات.

فصل في بيان سبب النزول


في سبب نزول هذه الآية وجهان :
أحدهما - وهو الأصح - :" أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا : لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال : لا أريد أن يخرجَ الآن معي إلا من كان معي في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم - مع ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال : يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال : يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولسْتُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن. فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مَعَهُ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم، فيظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم، فينصرفوا. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِينَ رَجُلاً، منهم أبو بكرٍ وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدٌ، وسعيدٌ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وحذيفةُ بنُ اليَمانِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال١ "
روي عن عائشةً أنَّها قالتْ- لعبدِ الله بن الزُّبَيْر : ابنَ أختي، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عز وجل - فيهم :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾٢.
وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم مَعْبَدٌ الخُزاعِيُّ بحمراء الأسدِ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صَفْقَتهُمْ معه، لا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها، ومعبد - يومئذ - مشرك، فقال : يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم٣.
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم، لنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبدُ ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط، يتحرقون عليكم تحرُّقاً، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط، قال ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصيَ الخيل. قال : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال : فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً :[ البسيط ] "
كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ٤
وذكر أبياتاً. ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه. ومَرَّ به رَكْبٌ من بني عبد القيسِ، فقالوا : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينةَ قالوا : ولِمَ ؟ قالوا : نريد المِيرَة، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب " عكاظ " غداً إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نَعَمْ، قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه ؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ. ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ب " حمراء الأسد " فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : حَسْبُنَا الله وَنْعِمَ الوكيلْ، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. " هذا قولُ أكثرِ المفسّرين.
الثاني :" قال الأصمُّ : نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ، لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ، فانهزموا، وصلى عليهم صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : رُدَّها ؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها، فقالت : قد بلغني ما فُعِلَ به، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : فَدَعْها، لتنظرَ إليه، فقالت خيراً، واستغفرت له. وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حَيٌّ قالت : كل مصيبةٍ بعدك هدر٥. "
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٠٠) وفي "تاريخه" (٣/٢٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/١٧٧) وزاد نسبته لابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل".
والخبر في "سيرة ابن هشام" (٣/١٠٦ ـ ١٠٧)..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٠٢) والحاكم (٢/٢٩٨) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وأخرجه البخاري (٧/٢٨٧) ومسلم (٢/٢٤١) والطبري في "تفسيره" (٧/٤٠٣) عن عائشة رضي الله عنها مختصرا..

٣ انظر تفسير الرازي (٩/٧٩)..
٤ ينظر البيت في السيرة النبوية ٢/١٠٣ والروض الأنف ٣/١٧٤ وجامع البيان ٧/٤٠٧ ولباب التأويل ١/٤٥١ وتفسير القرطبي ٤/٢٧٨..
٥ ينظر تفسير الرازي ٩/٧٩..
في قوله: «الذين» ما تقدم في: «الذين» قبله، إلا في رفعه بالابتداء.
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى، «روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ - قال: يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى، فنقتتل بها - إن شِئْتَ - فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمر: قُلْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ الله - فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ، حتى نزل» مجنة «من ناحية» مَرَّ الظهران «فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الشْجَعِيّ - وقد قَدِم معتمراً - فقال أبو سفيان: يا نعيمُ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ، وإن هذا عام جَدْبٍ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ - ولم أخرُجْ - زاد بذلك جُرْأةً، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ من أن يكون من قِبَلي، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُم، ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها. قال: فجاء سُهَيلٌ، فقال له نعيمٌ: يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصِ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه؟ قال:
57
نَعَمْ، فخرج نُعَيْمٌ، حتى أتى المدينة، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها، فقال: بئس الذي رأيتم، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم إلا الشريد، أفتريجون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، وقد جمعوا لكم عند الموسم.
فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم، فلما عرفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قال:» والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي «. فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ، وقالوا» حسبنا الله ونعم الوكيل «. ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه نحو سبعين رجلاً - فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى - وهي ماء لِبَني كنانةَ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام - ولم يَلْقَ رسولُ الله - وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.» هذا سبب نزول الآية.
والمراد ب «الناس» نُعَيم بن مسعود - في قول مجاهد وعكرمة - فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ، كقوله تعالى:
﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس﴾ [النساء: ٥٤] يعني محمداً وحده، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ «الناس» على الواحد؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن - حينئذٍ - إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] وقال: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] وهم لم يفعلوا ذلك، وإنما فعله أسلافهم، إلا انهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ، حَسُن إضافة ذلك إليهم.
وقال ابنُ عَبَّاس، ومحمد بن إسحاقَ، وجماعة: أراد بالنَّاسِ: الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ «قد جمعوا لكم» يعني أبا سفيان وأصحابه.
وقال السُّدِّيُّ: هم المنافقون، قالوا للمسلمين - حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان -: القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم، فقتلوا أكثركم، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً «فاخشوهم» أي: فخافوهم.
قوله: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾ في فاعل «فزادهم» ثلاثة أوجهٍ:
الأول - وهو الأظهرُ -: أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي فزادهم
58
القول بكيتَ وكيتَ إيماناً، كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨].
الثاني: أنه يعود على المقول - الذي هو ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً.
الثالث: أنه يعود على «الناس» إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِلَ في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ.
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ، قال: «وهما ضعيفانِ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به، لا هو في نفسه، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع، لا على المفرد. تقول: مفارقة شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز: مفارقة شاب - باعتبار: مَفْرِقُهُ شَابَ».
قال شهابُ الدّين: «وفيما قاله نَظَر؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ: تجري على الجمع، لا على المفرد، فغير مُسَلَّم، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً، ومعناه تارةً أخْرَى، فأجازوا: رؤوس الكبشينِ قطعتهن، وقطعتهما، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى، فليَجز في الواقع موقع المفرد. ولقائلٍ أن يفرق بينهما، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله. بخلاف المفرد، فإنه بعيدٌ من الجمع؛ لعدم الضمِّ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ.

فصل


قال أبو العَبَّاس المُقْرئ: لفظ»
الوكيل «في القرآن على وجهين:
الأول: بمعنى المائع - كهذه الآية - ومثله قوله:
﴿فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ [النساء: ١٠٩] أي: مانعاً.
الثاني: بمعنى: الشاهدِ، قال تعالى: ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ [النساء: ٨١، ١٣٢، ١٧١] أي: شهيداً، ومثله قوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هود: ١٢]. أي: شاهد، ومثله: ﴿فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [القصص: ٢٨] أي: شهيد.
قوله: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾ [آل عمران: ١٧٣] عطف «قالوا»
على «فزادهم» والجملة بعد القول في محل نَصْب به.
قوله: ﴿وَنِعْمَ الوكيل﴾ المخصوصُ بالمدحِ، أي: الله تعالى.
قوله: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ﴾ في متعلق باء «بنعمة» وجهانِ:
59
أحدهما: أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية؟
الثاني: أنها تتعلَّق بمحذوف، على أنَّها حال من الضمير في «انقلبوا» والباء على هذه المصاحبة، كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير: وخرجوا فانقلبوا، وحذف الخروجُ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه، كقول: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣] أي: فضرب فتنفلق ومعنى الآية: «فانقلبوا» بعافية، لم يلقوا عدواً «وفضل» تجارة وربح، وهو ما أصابوا من السوق.
قوله: ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحال - أيضاً - وفي ذي الحال وجهان:
أحدهما: أنه فاعل «انقلبوا» أي: انقلبوا سالمين من السوء.
الثاني: أنه الضمير المستكن في «بنعمة» إذا كانت حالاً، والتقدير: فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء. والعاملُ فيها: العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب «لم» وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى: ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [الأنعام: ٩٣] وقول كعب: [البسيط]
١٦٩١ - لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ
ومن الثَّاني هذه الآية، وقوله: ﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ [الأحزاب: ٢٥] وقول [قيس] بن الأسلت:
١٦٩٢ - وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا، سواء كان في الجملة ضمير، أو لَمْ يَكُنْ.
قوله: ﴿واتبعوا﴾ يجوز في هذه الجملة وجهانِ:
الأول: أنا عطف على «انقلبوا».
الثاني: أنها حال من فاعل «انقلبوا» - أيضاً - ويكون على إضمار «قد» أي: وقد اتبعوا.

فصل


قال القرطبيُّ: «وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان - الذي هو تاج - واحدٌ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو
60
معنى مفرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته، دون ذاتِهِ. ومعنى الآية: زادهم قولِ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم، وإقامة على نُصْرَته، وقوةً وجرأةً واستعداداً، فزيادة الإيمان - على هذا - هي في الأعمال».
قال ابنُ الخطيب: المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما يأمر به وينهى عنه - ثقل ذلك أو خَفَّ - لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾.

فصل


هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه - سبحانه وتعالى - قَلَبَ القضية ها هنا، فأودع قلوبَ الغالبين - وهم المشركونَ - الخوفَ والرعبَ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها. ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ والمعنى: أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ قال ابن الأنْبَارِيّ: ﴿حَسْبُنَا الله﴾ أي: كافينا الله.
ومثله قوله امرئ القيس: [الوافر]
١٦٩٣ - فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ
أي: يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ.
وأما «الوكيل» ففيه أقوالٌ:
أحدُهَا: أنه الكفيل.
قال الشاعر: [الطويل]
١٦٩٤ - ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
الثاني: قال الفرّاء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن «نِعْمَ»
61
سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها، تقول: رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالقُ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول: خالقنا الله ونعم الرازقُ، فكذا ههنا تقدير الآية: يكفينا الله ونعم الكافي.
الثالث: «الوكيل» فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه. والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه.
ثم قال: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ قال مجاهدٌ: النعمة - هنا - العافية، والفَضْل: التجارة.
وقيل: النعمة: منافع الدنيا، والفَضْل: ثواب الآخرة.
قوله: ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ أي: لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ - في قول الجميع - ﴿واتبعوا رِضْوَانَ الله﴾ طاعة الله، وطاعة رسوله، ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا.
روي أنهم قالوا: هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ.
واختلف أهْلُ المغازي، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب «حمراء السد» والثانية ب «بدر الصغرى».
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح﴾ [آل عمران: ١٧٢] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح.
62
قوله :﴿ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ ﴾ في متعلق باء " بنعمة " وجهانِ :
أحدهما : أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية.
الثاني : أنها تتعلَّق بمحذوف، على أنَّها حال من الضمير في " انقلبوا " والباء على هذه المصاحبة، كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير : وخرجوا فانقلبوا، وحذف الخروجُ ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه، كقول :﴿ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ﴾ أي : فضرب فانفلق ومعنى الآية :" فانقلبوا " بعافية، لم يلقوا عدواً " وفضل " تجارة وربح، وهو ما أصابوا من السوق.
قوله :﴿ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحال - أيضاً - وفي ذي الحال وجهان :
أحدهما : أنه فاعل " انقلبوا " أي : انقلبوا سالمين من السوء.
الثاني : أنه الضمير المستكن في " بنعمة " إذا كانت حالاً، والتقدير : فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء. والعاملُ فيها : العامل في بنعمة فهما حالان متداخلتان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب " لم " وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى :﴿ أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] وقول كعب :[ البسيط ]
لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ٥
ومن الثَّاني هذه الآية، وقوله :﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾
[ الأحزاب : ٢٥ ] وقول [ قيس ]٦ بن الأسلت :
وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي٧
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف ؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا، سواء كان في الجملة ضمير، أو لَمْ يَكُنْ.
قوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ ﴾ يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
الأول : أنها عطف على " انقلبوا ".
الثاني : أنها حال من فاعل " انقلبوا " - أيضاً - ويكون على إضمار " قد " أي : وقد اتبعوا.

فصل


قال القرطبيُّ :" وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان - الذي هو تاج - واحدٌ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو معنى مفرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته، دون ذاتِهِ.
ومعنى الآية : زادهم قولُ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم، وإقامة على نُصْرَته، وقوةً وجرأةً واستعداداً، فزيادة الإيمان - على هذا - هي في الأعمال ". قال ابنُ الخطيب : المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عَزْمٌ متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه - ثقل ذلك أو خَفَّ - لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ، وكانوا محتاجين إلى المداواةِ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله :﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ﴾.

فصل


هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره ؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه - سبحانه وتعالى - قَلَبَ القضية ها هنا، فأودع قلوبَ الغالبين - وهم المشركونَ - الخوفَ والرعبَ، وأودع قلوبَ المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقها. ثم قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ والمعنى : أنهم كلما ازدادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا :﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قال ابن الأنْبَارِيّ :﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ ﴾ أي : كافينا الله.
ومثله قوله امرئ القيس :[ الوافر ]
فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ٨
أي : يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ.
وأما " الوكيل " ففيه أقوالٌ :
أحدُهَا : أنه الكفيل.
قال الشاعر :[ الطويل ]
ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ٩
الثاني : قال الفرّاء : الوكيل : الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن " نِعْمَ " سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً قبلها، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالقُ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول : خالقنا الله ونعم الرازقُ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي.
الثالث :" الوكيل " فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه. والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً ؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه.
ثم قال :﴿ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ﴾ قال مجاهدٌ : النعمة - هنا - العافية، والفَضْل : التجارة١٠.
وقيل : النعمة : منافع الدنيا، والفَضْل : ثواب الآخرة١١.
قوله :﴿ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ أي : لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ١٢ - في قول الجميع - ﴿ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ ﴾ طاعة الله، وطاعة رسوله، ﴿ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا.
روي أنهم قالوا : هل يكون هذا غَزْواً ؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ.
واختلف أهْلُ المغازي، فذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب " حمراء الأسد " والثانية ب " بدر الصغرى ".
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين في واقعة بدرٍ الصُّغْرَى، والأول أوْلَى ؛ لأن قوله تعالى :
﴿ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح.
«إنما» حرف مكفوف ب «ما» عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب. وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ:
الأول: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، «والشيطان» خبره، و «يخوف أولياءه» حال؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب، نحو قوله: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] وقوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢].
62
الثاني: أن يكون «الشيطان» بدلاً، أو عطف بيان، و «يخوف» الخبر، ذكره أبو البقاء.
الثالث: أن يكون «الشيطان» نعتاً لاسم الإشارة، و «يخوف» على أن يرادَ ب «الشيطان» نعيم، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان: «وإنما قال: والمراد ب» الشيطان «نعيم، أو أبو سفيان؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه» وفيه نظرٌ.
الرابع: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» خبر، و «يخوف» جملةٌ مستأنفةٌ، بيان لشيطنته، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين.
الخامس: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» مبتدأ ثانٍ، و «يخوف» خبر الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول؛ قاله ابنُ عطيةَ، وقال: «وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون» الشيطان «خبر» ذلكم «لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة».
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في «أولياءه» عائداً على «الشيطان» لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى، نحو: هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على «ذلكم» - ويراد ب «ذلكم» غير الشيطان جاز، وصار نظير: إنما هند زيد [يضرب غلامها]، والمعنى: إنما ذلكم الركب، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه، أي: أولياء الركب، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه ب «ذلكم» هل هو عين أو معنى؟ فيه احتمالان:
أحدهما: أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم.
الثاني: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: فعل الشيطان، وقدَّره الزمخشري: قول الشيطانِ، أي: قوله السابق، وهو: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ [آل عمران: ١٧٣] وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار ب «الشيطان» عن «ذلكم» مجاز؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك.
قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ قد تقدم ما محله من الإعراب. والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً، وهو من باب «أعطى»، فيجوز
63
حذف مفعوليه، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً:
أحدها: أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، تقديره: يخوفكم أولياءه، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك، والمراد ب «أولياءه» - هنا - الكفارُ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: شر أوليائه؛ لأن الذوات لا يخاف منها.
الثاني: أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف، و «أولياءه» هو الأول، والتقدير: يخوف أولياءه شَرَّ الكفار، ويكون المراد ب «أولياءه» - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الخروج.
والمعنى: أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي.
الثالث: أن المفعولين محذوفان، و «أولياءه» نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير: يخوفكم الشر بأوليائه. والباء للسبب، أي: بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم.
قالوا: ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ [القصص: ٧] أي: فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ. ومثال حذف الجارّ قوله تعالى: ﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ﴾ [الكهف: ٢] معناه لينذركم ببأسٍ، وقوله: ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق﴾ [غافر: ١٥]. وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ، قالوا: ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ: يخوفكم بأوليائه.
قال شهابُ الدّينِ: فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ «يخوف بأوليائه» فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل، ثم حُذِفتَ الباء، وليس كذلك، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له.
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة، كقوله: [البسيط]
١٦٩٥ -...................................... سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى.
ويحتمل أن تكون للسبب، والمفعولان محذوفان - كما تقدم.
قوله: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ﴾ في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ:
64
الأول - وهو الأظهر -: أنه يعود على «أولياءه» أي: فلا تخافوا أولياءَ الشيطان، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش.
الثاني: أنه يعود على «الناس» من قوله: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] إن كان المراد ب «أولياءه» المنافقين.
الثالث: أنه يعود على «الشيطان» قال أبو البقاء: «إنما جمع الضمير؛ لأن الشيطان جنس» والياء في قوله: «وخافوني» من الزوائد، فإثبتها أبو عمرو وصلاً، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً.

فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم


ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ:
الأول: الخوفُ بعينه، كهذه الآية.
الثاني: الخوف: القتال، قال تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب: ١٩] أي: إذا ذهب القتال.
الثالث: الخوف: العِلْم، قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ [البقرة: ٢٢٩] وقوله: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ٥١]. أي: يعلمون وقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ [النساء: ٣٥] أي: علمتم.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابه محذوف، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج. إلا فهم ملتبسون بالإيمان.
قوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين﴾ قرأ نافع «يُحزنك» - بضم حرف المضارعة - من «أحزن» - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الباء - من «حزنه» ثلاثياً - فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى.
وقيل: باختلاف معنى، فَحَزَنَه: جَعَل فيه حُزْناَ - نحو: دهنه وكحله، أي: جعل فيه دهناً وكحلاً - وأحزنته: إذا جعلته حزيناً. ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه، قال سيبويه: «وقال بعضُ العربِ: أحزنت له الحُزْن، وأحزنته: عرَّضته للحُزْن. قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في» البقرة «.
65
قال شهابُ الدينِ:» والحق أن حزنه لغتان فاشيتان، لثبوتهما متوازتين - وإن كان أبو البقاء قال: إن أحزن لغة قليلة، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقرأ هذه المادة من «أحزن» إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من «حزنه» - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءة سنة مُتَّبَعَة «.
وقرأ الجماعة:»
يسارعون «بالفتح والإمالة، وقرأ النحوي» يسرعون «- من أسرع - في جميع القرآن، قال ابن عطيةَ:» وقراءة الجماعة أبلغ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده «.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ في نصب»
شيئاً «وَجْهَانِ:
أحدهما: أنه مصدر، أي: لا يضرونه شيئاً من الضرر.
الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي: لن يضروه بشيء. وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان.

فصل


اختلفوا في هؤلاء المسافرين فقال الضَّحَّاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار»
إنهم لن يضروا الله «بمُسارعتهم في الكُفْر.
وقيل: إن قوماً من الكفار أسلموا، ثم ارتدوا؛ خوفاً من قريش، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك السبب فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة، فبيَّن - تعالى - أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك.
قال القاضي: ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان.
وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك، ثم أحبط.
وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ، فلما قدَّر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الانتفاع
66
بإيمانهم - ثم كفروا - حَزنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ذلك؛ لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير.
وقيل: المراد رؤساء اليهود - كعب بن الأشرف وأصحابه - كتموا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمتاع الدنيا. قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار؛ لقوله تعالى: ﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ﴾ [المائدة: ٤١]. فإن قيل: الحُزْن على كُفر الكافر، ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنه كان يفرط في احُزْن على كُفْر قومه، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه، كما قال: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨].
الثاني: أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك، ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ يعني: أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر - غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
ثم قال: ﴿يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة﴾ وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى، وتدل الآية - أيضاً - على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية، ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهذا كلام مبتدأ والمعنى: أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [مضارِّها].
67
قوله :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ ﴾ قرأ نافع " يُحزنك " - بضم حرف المضارعة٦ - من " أحزن " - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾
[ الأنبياء : ١٠٣ ] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الباء - من " حزنه " ثلاثياً - فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَلَ وأفْعَل بمعنى.
وقيل : باختلاف معنى، فَحَزَنَه : جَعَل فيه حُزْناً - نحو : دهنه وكحله، أي : جعل فيه دهناً وكحلاً -وأحزنته : إذا جعلته حزيناً. ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه، قال سيبويه :" وقال بعضُ العربِ : أحزنت الرجل وأفتنته : أرادوا : جعلته حزيناً وفاتناً ".
وقيل : حزنته : أحدثت له الحُزْن، وأحزنته : عرَّضته للحُزْن. قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في " البقرة " ٧.
قال شهابُ الدينِ :" والحق أن حزنه وأحزنه لغتان فاشيتان، لثبوتهما متواترتين - وإن كان أبو البقاء قال : إن أحزن لغة قليلة، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رحمه الله - يقرأ هذه المادة من " أحزن " إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من " حزنه " - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءة سنة مُتَّبَعَة ".
وقرأ الجماعة :" يسارعون " بالفتح والإمالة٨، وقرأ النحوي " يسرعون " - من أسرع - في جميع القرآن٩، قال ابن عطيةَ :" وقراءة الجماعة أبلغ ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده ".
قوله :﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ﴾ في نصب " شيئاً " وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه مصدر، أي : لا يضرونه شيئاً من الضرر.
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي : لن يضروه بشيء. وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان.

فصل


اختلفوا في هؤلاء المسارعين، فقال الضَّحَّاك : هم كفار قريش١٠، وقال غيره : هم المنافقون ؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار١١ " إنهم لن يضروا الله " بمُسارعتهم في الكُفْر.
وقيل : إن قوماً من الكفار أسلموا، ثم ارتدوا ؛ خوفاً من قريش، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب فإنه صلى الله عليه وسلم ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة، فبيَّن - تعالى - أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك١٢.
قال القاضي : ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان. وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك، ثم أحبط.
وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ، فلما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الانتفاع بإيمانهم - ثم كفروا - حَزنَ صلى الله عليه وسلم عند ذلك ؛ لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير.
وقيل : المراد رؤساء اليهود - كعب بن الأشرف وأصحابه - كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا١٣. قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار ؛ لقوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ﴾
[ المائدة : ٤١ ]. فإن قيل : الحُزْن على كُفر الكافر، ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهاه الله عن الطاعة ؟
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنه كان يفرط في الحُزْن على كُفْر قومه، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه، كما قال :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ].
الثاني : أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك، ويعينوا عليك ؛ ألا ترى إلى قوله :﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ﴾ يعني : أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر - غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
ثم قال :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ ﴾ وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى، وتدل الآية - أيضاً - على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم ؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية، ثم قال :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ وهذا كلام مبتدأ والمعنى : أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [ مضارِّها ]١٤.
اعلم أنه لا يبعد حَمْلَ الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود. ومعنى: ﴿اشتروا الكفر بالإيمان﴾ أنهم كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويؤمنون به قبل مَبْعَثِه، فلما بُعِثَ كفروا به، وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الإيمان، وأخذوا الكفر بدلاً عنه، كما يفعلُ المشتري من إعطاء شيء وأخْذ غيره بدلاً عنه.
ولا يبعد أيضاً - حَمْلُ هذه الآيةِ على المنافقينَ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا، وتركوا الإيمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
67
فإن قيل: ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله: ﴿لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ ؟
فالجوابُ: أن فائدةَ التكرارِ أمورٌ:
أحدهما: أن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمانِ لا شك أنهم كانوا كافرين أولاً، ثم آمنوا، ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدلُّ على شدَّة الاضطرابِ، وضَعْفِ الرأي، وقِلَّةِ الثباتِ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه، ولا هيبةَ له، ولا قدرةَ له على إلحاق الضَّرَر بالغير.
ثانيها: أن أمر [الدّينِ] أهمّ الأمورِ وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه - على الفعل، أو على التَّركِ - إلا بعد إمعانٍ النّظَرِ، وكَثْرة الفِكْر، وهؤلاء يُقْدِمون على الفعل، أو على الترك في هذا المهم بأهونِ الأسبابِ وأضعفِ الموجباتِ، وهذا يدلُّ على قِلَّةِ عقولهم، وشدة حماقتهم، وأمثال هؤلاء لا يَلْتَفِتُ العاقلُ إليهم.
ثالثها: أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّينِ لا بِنَاءً على الشُّبُهات، بل بناءً على الحَسَدِ والمنازعة في منصب الدُّنْيَا، ومَنْ كان عَقْلَه بهذا القَدْر - وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا - كان في غاية الحماقة، ومِثْلهُ لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير، والله أعلم.
68
قرأ الجمهور «يحسبن» بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا «أنما» ونصبوا «خير» وأنكرها ابن مجاهدٍ - وسيأتي إيضاح ذلك - وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر «إنما». وحكى عنه الزمخشري - أيضاً - أنه قرأ بكسر «أنما» الأولى وفتح الثانية مع الغيبة، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ.
فأما قراءة الجمهور، فتخريجها واضح، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى «الذين» و «أن» وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين - عند سيبويه - أو مسدَّ أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش - ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب، يراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يحسبن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فعلى هذا أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، لتتحد هذه القراءة - على هذا الوجه - مع قراءة حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ، وسيأتي تخريجها.
68
و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فيكون العائد محذوفاً، لاستكمال الشروط، أي: الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية - أي: إملاءنا - وهي اسم «إن» و «خير» خبرها.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون كافةً، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب» خير «ب» نملي «واحتاجت» أن «إلى خبر، إذا كانت» ما «زائدة، أو قدر الفعل يليها، وكلاهما ممتنع» انتهى. وهي من الواضحات. وكتبوا «أنماط - في الموضعين - متصلة، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة.
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن.
قال النحاس: وتابَعَهُ على ذلك [جماعة] وهذا لا يُلتفت إليه، لتواترها، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون فاعل»
تحسبن «ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذين كفروا «مفعول أول، و» أنما نملي لهم خير «مفعول ثان، ولا بُدَّ - على هذا التخريج - من حَذْفِ مضافٍ، إما من الأول، تقديره: ولا تحسبن شأنَ الذين، وإما من الثَّاني، تقديره: أصحاب أن إملاءنا خير لهم.
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن»
أنما نملي «بتأويل مصدر، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على» الذين كفروا «والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى.
الثاني: أن يكون»
أنما نملي لهم «بدلاً من» الذين كفروا «. وإلى هذا ذهب الكسائي، والفرّاء، وتبعهما جماعة، منهم الزَّجَّاج والزمخشري، وابنُ الباذش، قال الكسائي والفرّاء: وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد، والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي.
قال الفرّاءُ: ومثله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ﴾ [الزخرف: ٦٦] أي «ما ينظرون إلا أن تأتيهم. انتهى.
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني - في هذه الأفعالِ - لا يجوز عند أحد. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ - وقد تقدم تحقيق ذلك.
وقال ابنُ الباذش: ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة، أو واقعة.
69
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف صح مَجِيءُ البدلِ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟
قلتُ: صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى، ألا تراك تقول: جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ، مع امتناع سكوتك على: متاعك.
وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ - وهو الظاهرُ - أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ، ويكون على حَذْف مضافٍ، تقديره: ولا تحسبن إملاء الذين، فحذف» إملاء «وأبدل منه:» أنما نملي «قولان مشهوران.
الثالثُ: وهو أغربها -: أن يكون»
الذين كفروا «فاعلاً ب» تحسبن «على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث، كقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٠٥] أي: ولا تحسبن القوم الذين كفروا، و» الذين «وضصْف للقوم، كقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ﴾ [الأعراف: ١٣٧]. فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة، وتخريجها كتخريجها، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى ب» اللُّباب «. وفيه نظر؛ من حيث إن» الذين «جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله - عند البصريين - لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأما اعتذاره عن ذلك بأن» الذين «صفة للقوم - الجائز تأنيث فِعلهم - وإنما حذف، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر، لا يجيز أحدٌ من البصريين: قامت المسلمون - على إرادة: القوم المسلمون - ألبتة.
وقال أبو الحسن الحوفيُّ:»
أن «وما عملت فيه من موضع نصب على البدل، و» الذين «المفعول الأول، والثاني محذوف.
وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم.
الرابع: أن يكون:»
أنما نملي لهم «بدلاً من:» الذين كفروا «بدل اشتمال - أي: إملاءنا - و» خير «بالرفع - خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير لأنفسهم، والجملة هي المفعول الثاني، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم، ثم وقال: قُلْتُ: ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ.
١٦٩٦ - فِينَا الأنَاةُ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا أَنَّا بِطَاءٌ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح»
أنا «بعد ذكر المفعول الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: حسبت زيداً أنه قائم، أي: حسبته ذا قيام.
70
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد، وهو المفعول الثاني ل «حسبت» انتهى.
وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر «إن» إذا وقعت مفعولاً ثانياً، والأول اسم عين، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين.
الخامس: ان يكون «الذين كفروا» مفعولاً به، و ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ في موضع المفعول الثاني، و ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي «تحسبن» ففي الكلام تقديم وتأخير، نُقِل ذلك عن الأخفشِ.
قال أبو حاتم: وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح «أن» - يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم - ويجعله على التقديم والتأخير، [أي] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم. انتهى.
وإنما جاز أن تكون «أن» المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك، وغيره يمنع ذلك، فإن تقدم خبرها عليها - نحو: ظني أنك منطلق، أو «أما» التفصيلية، نحو أما أنك منطلق فعندي، جاز ذلك إجماعاً. وقول أبي حاتم: يذكر فتح «أن» يعني بها التي في قوله: «أنما نملي لهم خير». ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم، لأنه يجب - عندهم - رعاية الأصلح.
السادس: قال المهدويّ: وقال قوم: قدم «الذين كفروا» توكيداً، ثم حالهم، من قوله: «أنما نملي لهم» رداً عليهم، والتقديرُ: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم.
وأما قراءة يحيى - بكسر «إنَّما» مع الغيبة - فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» أو إلى ضميرٍ غائبٍ، فإن كانت الأولى كانت «أنما» وما في حيِّزها معلقة ل «تحسبن» وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً، فهي مقدرة، فيكون «إنّما» - بالكسر - في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين - بتقدير لام الابتداء - في قوله [البسيط] :
١٦٩٧ - كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ
فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب «ملاك» و «الأدب». وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح «إنما».
71
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف - وهو ضمير الأمرِ والشأنِ - وقد قيل بذلك في البيت، وهو الأحسنُ فيه.
والأصلُ: لا تحسبنه - أي الأمر - و «إنما نملي لهم» في موضع المفعول الثاني، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان «الذين» مفعولاً أول، و «أنما نملي» في موضع المفعول الثاني.
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ، فقد خرَّجَها هو، فقال: على معنى: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم - كما يفعلون - وإنما هو ليتوبوا، ويدخلوا في الإيمان، وقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه، وعرفوا إنعام الله عليهم، بتفسيح المُدَّةِ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة. انتهى.
فعلى هذا يكون «الذين» فاعلاً، و «أنما» - المفتوحة - سادة مسد المفعولين، أحدهما - على الخلاف - واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النَّحَّاسُ: قراءة يحيى بن وَثَّابٍ - بكسر «إن» فيهما جميعاً - حسنة، كما تقول: حسبت عمراً أبوه خارجٌ.
وأما ما حكاه الزّجّاج - قراءةً - عن خلق كثير، وهو نصب «خير» على الظاهر من كلامه، فقد ذكر نخريجها، على أن ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ بدل من «الذين كفروا» و «خيراً» مفعول ثانٍ، ولا بد من إيراد نَصِّه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ قرأ: «ولا يحسبن» بالياء، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر «إن» والمعنى: لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، ودخلت «إن» مؤكِّدةً، فإذا فتحت صار المعنى: وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، قال: وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من «الذين» والمعنى: ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأ بها خلقٌ كثير، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر: [الطويل]
١٦٩٨ - فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
جعل «هلكه» بدلاً من «قيس» والمعنى: فما كان هلك قيس هلك واحدٍ، ١هـ.
يعني: «هلك» - الأول - بدل من المرفوع، فبقي «هلك واحد» منصوباً، خبراً ل «ما كان» كذلك: «أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ» «أن» واسمها - وهي «ما» الموصولة - وصلتها، والخبر - وهو «لَهُم» في محل نصب، بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» فبقي «خَيْراً» منصوباً على أنه مفعول ثانٍ ل «تضحْسَبَنَّ». إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم
72
يقرأ بها أحد - أعني نصب «خَيْراً» - قال أبو علي الفارسي: لا يصح البدل، إلا بنصب «خَيْرٌ» من حيثُ كان المفعول الثاني ل «حسبت» فكما انتصب «هلكَ واحدٍ» في البيت - لما أبدل الأول من «قيس» - بأنه خبر ل «كان» كذلك ينتصب «خَيْرٌ لَهُمْ» إذا أُبْدِل الاملاء من «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنه مفعول ثانٍ ل «تَحْسَبَنَّ».
قال: وسألت أحمد بن مُوسَى عنها، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني ب «أحمد» هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور، وقال - في الحجة -: «الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول، والمفعول الثاني هو الأول - في هذا الباب - في المعنى، فلا يجوزُ - إذَنْ - فتح «إن» في قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ لأن إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قُلْتَ: لِمَ لا يجوز الفتح في «أن» وجعلها بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» كقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣] وكما كان «أن» من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧] ؟
قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت «أن» من «الذين كفروا» كما أبدلت «أنَّ» من «إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» لزمك أن تنصب «خَيْراً» على تقدير: لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم، من حيثُ كان المفعولُ ل «تَحْسَبَنَّ».
انتهى ما رد به عليه، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد.
قال شهاب الدين: طولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ، ويقول: قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه، والإثبات مقدم على النفي، وما ذكره أبو علي - من قوله:
وإذا لم يجز لا كسر «إن» . الخ - هذا - أيضاً مما لم يقرأ به أحد «.
قال مَكِّي:» وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر «إنَّما» فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني، ولم يقرأ به أحدٌ علمته «. وقد نقل أبو البقاء أن نصب» خَيْراً «قراءة شاذة قال: وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب، على أن يكون» لأَنْفُسِهِمْ «خبر» أن «و» لَهُمْ «تبيين، أو حال من» خَيْر «.
يعني: أنه لما جعل»
لأَنْفُسِهِم «الخبر، جعل» لَهُمط إما تبييناً، تقديره: أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصل صفة لها. والظاهر - على هذه القراءة -
73
ما تقدم من كون «لَهُمْ» هو الخبر، ويكون «لأَنْفُسِهِمْ» في محل نصب؛ صفة ل «خَيْرٌ» - كما كان صفة له في قراءة الجمهور.
ونقل - أيضاً - قراءة كسر «أن» وهي قراءة يحيى، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ، ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ.
والإملاء: الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر - للمدة الطويلة - يقال: مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد.
قال الأصمعيُّ: يقال أملى عليه الزمان - أي: طال - وأملى له - أي: طوَّل له وأمهله - قال أبو عبيدة: ومه: الملا - للأرض الواسعة - والمَلَوَان: الليل والنهار، وقولهم: مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي: مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً -.
وقيل: المَلَوَانِ: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ: [الطويل]
١٦٩٩ - نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه. فقوله: «أنما نملي لهم» أصل الياء واوٌ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة.
قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها، إلا أن أبا حيّان قال: إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط، قال: وإنما الزمخشريُّ - لولوعه بنْصرة مذهبه - يروم رد كل شيء إليه.
قل شهابُ الدِّينِ: وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ، لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان:
الأول: أنها جملة مستأنفة، تعليلٌ للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل « ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ و» إنّ «- هنا مكفوفة ب» ما «ولذلك كُتِبَتْ متصلة - على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة - اسمية ولا حرفية - لأن لام» كي «لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه.
الثاني: أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى.
74
قال أبو البقاء: وقيل:» إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ «تكريرٌ لَهُمْ» تكريرٌ للأول، و «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني ل «تَحْسَبَنَّ» على قراءة التاء، والتقدير: ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً، بل ليزدادوا إثماً. ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك.
قال شِهَابُ الدينِ: وفي هذا نظر، من حيث إنه جعل «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني، وقد تقدم أن لام «كي» لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ «تَحْسَبَنَّ» - بتاء الخطاب - لا يفتحها ألبتة.
واللام في «ليزدادوا» فيها وجهان:
أحدهما: أنها لام «كي».
والثاني: أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ.
قوله: «وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ» في هذه الواو قولان:
أحدهما: أنها للعطف؟
والثاني: أنها للحالِ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال: فإن قلت: ما معنى القراءة - يعني: قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟
قلتُ: معناه: ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ.
قال أبو حيَّان: بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم -: «ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي [لزيادة] الخير، كان قوله: ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة، وبين ظاهر آخر الآية.

فصل


أصل»
ليزدادوا «: ليزتادوا - بالتاء - لأنه افتعال من الزيادة، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرف الزاي، والذال، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا - متعدٍّ لواحدٍ، وكان - في الأصل - متعدياً لاثنين، - كقوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً، فإن كان الفعلُ - قبل بنائه على» افتعل «للمطاوعة - مُتَعدياً لواحدٍ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ، وإن كان متعدياً لاثنين صار - بعد الافتعال - متعدياً لواحدٍ، كهذه الآية.
75
وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاؤه ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مقابلاً لهم، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه. وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه، فإذا خسر تألَّم، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته.
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء - وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا - وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم.

فصل


قال ابنُ الخطيبِ: احتج أصحابُنا - بهذه الآية - في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة - والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى - والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ.
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله: ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان، والإتيان بخلاف خبر لله - مع بقاء ذلك الخبر - جمع بين النقيضين، وهو محالٌ. وإذا لم يكونوا قادرين - مع ذلك الإملاء - على الخير والطاعة - مع أنهم مكلَّفُون بذلك - لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة.
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ: ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً.
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة - كقوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]- أو يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم. أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً - بإمهاله - أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه.
76
وقول القائل: ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ.
وعن الثالث، وهو مسألةُ العلمِ والخبر، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار، وهو باطلٌ.
والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه، فلما يُذْكَ دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً. وتمسُّكهم بقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ﴾ [النساء: ٦٤] جوابه: أن ما تمسَّكوا به عام، ودليلنا خاصّ. وقولهم: اللام للعاقبة، قلنا: خلاف الظاهر - مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ، وعدم حصوله مُحالٌ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع، فثبت أن المقصود هو التعليلُ. وأما التقديمُ والتأخيرُ، فجوابُهُ: أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت «أَنَّمَا» الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم: لا يمكن حَمْل اللام على التعليل، قلنا: الممتنع - عندنا - تعليل أفعاله - تعالى - بغرض يصدر عن العباد، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيء آخرَ، فغير ممتنع.
وأيضاً فالآية نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم، والقوم لا يقولونَ به، فهي حجةٌ عليهم، وأما المعارضة فجوابها: أن تأثيرَ قدرة اللهِ تَعَالَى - في إيجاد المُحْدِثَات - متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه، فصحَّ كَوْنَ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل.
قال ابن الخطيبِ: اتفق أصحابُنا، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ، وقالوا: دلت على إطالة عُمْره ليس بخير له، والعقل يُقَرِّه لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة.
77
اللام في «ليذر» تُسمَّى لامَ الجحودِ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار «أن» ولا
77
يجوز إظهارها. والفرق بين لام «كي» أن هذه - على المشهور - شرطها أن تكون بعد كون منفي، ومنهم من يشترط مضي الكونِ، ومنهم من لم يشترط الكون.
وفي خبر «كان» - هنا - وما أشبه قولان:
أحدهما: قولُ البصريينَ - أنه محذوفٌ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه، والتقدير: ما كان الله مُريداً لأن يَذَر، و «أن يذر» هو مفعول «مريداً» والتقديرُ: ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين.
الثاني: قول الكوفيين - أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي، وأن الفعل بعدها هو خبرُ
78
كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها، لا بإضمار «أن» والتقدير عندهم: ما كان الله ليذرَ المؤمنين.
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً، وإن كان النصبُ بإضمار «أن» فسَد من جهة المعنى لأن «أن» وما في حيزها بتأويل مصدر، والخبر في باب «كان» هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر - الذي هو معنى من المعاني - صادقاً على اسمها، وهو مُحَالٌ.
وجوابه: أما قوله: إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد، وهي عاملة وكذلك «أن» عند الأخفشِ، و «كان» في قول الشاعر: [الوافر]
١٧٠٠ -............................ وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام
كما تقدم تحقيقه و «يذر» فعل لا يتصرف - كَيَدَعُ - استغناء عنه بتصرُّف [مرادفه]- وحُذِفت الواو من «يذر» من غير موجب تصريفي، وإنما حُمِلَت على «يدع» لأنها بمعناها، و «يدع» حُذِفت منه الواوُ لموجب، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في «يذر» فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا﴾ [البقرة: ٢٧٨].

فصل


وجه النظم: أن هذه الآية من بقية أحُد، فأخبر - تعالى - أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ - من القتل والهزيمة، ثم دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الخروج إلى العدو مع من كان بهم من الجراحاتِ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى، لموعد أبي سفيانَ - دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين، فأخبر - تعالى - بأنه لا يجوزُ - في حكمته - أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم، وإظهارهم أنهم منكم - بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث - وهو المنافق - من الطيب - وهو المؤمن -.

فصل في سبب النزول


قال الكلبيُّ: قالت قريشُ: يا محمدُ، تزعم أن من خالفك، فهو في النَّارِ، واللهُ عليه غَضْبَانُ، وأن من اتبعك، وهو على دينك، فهو في الجَنَّةِ، واللهُ عَنْهُ راضٍ. فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك، ومَن لا يُؤمنُ؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقال السُّديُّ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ، كَمَا
79
عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ» فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا: استهزاءً -: زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به، ومَنْ يكفرُ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ، ونحن معه، وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقام على المنبر فحمد اللهَ، وأَثْنَى عليه، ثم قال: «مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ - فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ - إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ» فقام عبد الله بن حذافة السهميّ، وقال: مَنْ أبي، يا رسول اللهِ؟ فقال: «حُذَافة» فقام عُمَرُ، فقال: يا رسول الله، رضينا بالله رَبَّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبالقرآن إماماً، وبك نبيًّا، فاعفُ عنا، عفا الله عنك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ» - مرتين - ثم نزل عن المِنْبَرِ «فأنزل اللهُ هذه الآية.
قوله: ﴿حتى يَمِيزَ﴾ حتى - هنا - قيل: هي الغائية المجرَّدة، بمعنى»
إلى «والفعل بعدها منصوب بإضمار» أن «وقد تقدم تحقيقه في» البقرة «.
فإن قيل الغاية - هنا - مشكلة - على ظاهر اللفظ - لأنه يصير المعنى: أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية - وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ - ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه.
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ: لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو.
فالجوابُ عنه:»
حَتّى «غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام، ومعناه: أنه - تعالى - يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ.
وقرأ حمزة [والكسائي]- هنا وفي الأنفال -»
يُمَيِّزَ «بالتشديد - والباقون بالتخفيف، وعن ابن كثيرٍ - أيضاً -» يُميز «من» أماز «فهذه ثلاث لغاتٍ، يقال: مَازَه وميَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ - قبلهما - مُتَعَد، وإنما» «فعّل» - بالتشديد - و «أفعل» بمعنى: المجرد. وهل «ماز» و «مَيَّز» بمعنًى واحدٍ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال: ماز، إلا في كثير، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت، ولذلك قال أبو مُعاذٍ: يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً.
وقال بعضُهُمْ عكس هذا - مزت بين الشيئين مَيْزاً، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً - وهذا هو القياس، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير، وهو لائقٌ بالمتعددات، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت: فَرَقْت: - بالتخفيف - ومنه: فرق الشعر، وإن جعلته أشياء، قلت: فرَّقْتها تَفْرِيقاً.
ورجَّح بعضُهم «مَيَّز» - بالتشديد - بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه، قالوا: التمييز، ولم يقولوا: المَيْز - يعني لم يقولوه سماعاً، وإلا فهو جائز قياساً.
80

فصل


ومعنى الآية: حتى يميز المنافق من المخلصِ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق، وتخلَّفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين، وإن لم يحصل الوَعْدُ.
فالجوابُ: أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ.
قال قتادة: حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ.
قال الضَّحَّاك: «مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ» في أصلاب الرَِّجَالِ، وأرحام النِّساءِ، يا معشرَ المنافقينَ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ.
وقيل: «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
وهو الذنب»
مِنَ الطَّيِّبِ «وهو المؤمنُ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ.
وقيل: الخبيث: هو الكُفْر: أذلَّه الله وأخْمَدَه، وأعلى الإسلامَ وأظهره، فهذا هو التمييزُ.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ ومعناه: أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ، فيقول: إنَّ فلاناً منافق، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ - كما ذكرنا - وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب، فذلك من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال: ﴿وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن، وهذا منافق، نظيره قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن: ٢٦، ٢٧].
ويحتمل أن يكون المعنى: وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول، فتنشغلوا عن الرسول، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ.
قوله:»
وَلكِنَّ «هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى - لما قال: {وَمَا
81
كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ} أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ - فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى: ﴿وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي﴾ أي يصطفي ﴿مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ.
يَجْتَبِي: يصطفي ويختار، من: جَبَوْت المال والماء، وجبيتهما - لغتان - فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها.
ومفعول «يَشَاءُ» محذوفٌ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى، والتقدير: يشاءُ إطلاعه على الغيب.
قوله: «فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ» يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد، وقد أجبْنا عنها، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله. وإنما قال: «وَرُسُلِهِ» ولم يَقُلْ: ورسوله؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز، وهو حاصل في حقِّ محمَّدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء، فلهذا قال: «وَرُسُلِهِ» لأن طريقة إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم».
82
لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد - فيما تقدم - حرضهم على بذل المال في الجهاد، وبيَّن الوعيد لمن يبخل.
قرأ حمزة بالخطاب في «تَحْسَبَنَّ» والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة ف «الّذِينَ» مفعول أول، و «خَيْراً» هو المفعول الثّاني، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على «المبتدأ، وتقديره: ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون.
قال أبو البقاء:»
وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه «.
وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً، وقد تكون متأخرة، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير.
و» هو «فيه وجهان:
الأول: أنه فَصل بين مفعولي»
يَحْسَبَنَّ «.
82
والثاني - قاله أبو البقاء -: أنه توكيدٌ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر. والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ، ولكنه حُذِف - كما تقدم - وبعضُهم يُعَبِّر عنه، فيقول: أُضْمِر المفعولُ الأولُ - يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة.
و» هو «- في هذه المسألة - تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً، أو بدلاً، أو توكيداً، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده - وهو خير - وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه، لا» هُوَ «وكذلك الثالثُ - كما تقدم.
أما قراءة الجماعة، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ - إما الرسولُ، أو حاسب ما - ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب، ف»
الذِينَ «مفعول أولٌ، على حذف مضافٍ، ما تقدّم في قراءة حمزة، أي: بُخْل الذين، والتقدير: ولا يحسبنَّ الرسولُ - أو أحد - بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم. و» هُوَ «فَصْل - كما تقدم - فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً. وإن كان مسنداً إلى» الذِينَ «ففي المفعول الأول وجهان:
أحدهما: أنه محذوف؛ لدلالة»
يَبْخَلُونَ «عليه، كأنه قيل: ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و» هو «فَصْل.
قال ابن عطية:»
ودل على هذا البخل «يَبْخَلون» كما دَلَّ «السَّفيه» على السَّفهِ في قول الشاعر:
١٧٠١ - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي: جرى إلى السفه.
قال أبو حيّان: وليست الدلالةُ فيهما سواء، لوجهين:
أحدهما: أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه - في القرآن وكلام العربِ - ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر، إنما جاء في هذا البيتِ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف «بخلهم» وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ.
الوجه الثاني: أن المفعول نفس «هُوَ» وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه «يَبْخَلُونَ» - كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨]- قاله أبو البقاء. وهو غلطٌ أيضاً، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب، فيقول: «إياه» لكونه منصوباً ب «يَحْسَبَن» ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم: ما أنا كأنت، ولا أنتَ كأنا.
83
وفي الآية وجهٌ غريبٌ، خرَّجه أبو حيَّان، قال: «وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِ» الذِينَ «وذلك أن» يَحْسَبْنَّ «يطلب مفعولين، و» يَبْخَلُونَ «يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله» ما أتاهم «يَطْلبه» يَحْسَبَنَّ «على أن يكون المفعول الأول، ويكون» هُوَ «فَصْلاً، و» خَيْراً «المفعول الثاني، ويطلبه» يَبْخَلونَ «بتوسُّط حرف الجَر، فأعمل الثانيَ - على الفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن - وهو» يَبْخَلونَ «فعدي بحرف الجر، وأخذ معمواه، وحذف معمول» يَحْسَبَنَّ «الأول، وبقي معموله الثاني؛ لأنه لم يتنازع فيه، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ، وساغ حذفه - وحده - كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو قلت: زيد منطلقٌ؟ لأن رأيت وقلت - في هذه المسألة - تنازعا في زيدٌ منطلقٌ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ، وتقدير المعنى: ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به، فَعَلَى هذا التقدير يكون» هُوَ «فصلاً ل» ما آتاهم «المحذوف، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة.
ونظير هذا التركيبِ»
ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة، المعنى: ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه، وبقي الأول يطلب محذوفاً، ويطلب الثاني مثبتاً، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ.
ومع غرابة هذا التخريج، وتطويله بالتنظير والتقدير، فيه نظر؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه، وإن كان يطلبه غيرَ رفوع حُذِف، إلا أن يكون أحد مفعولي «ظن» فلا يحذف، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه - أو بالعكس - وهذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، لأن لقائلٍ أن يقول: حُذِف اختصاراً، لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع، فليَجُزْ في التنازع؛ إذْ لا فارق، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه.
وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين، فقال: «فأما القراءة بالتاء - وهي قراءة حمزة - فإنه جعل المخاطب هو الفاعل، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذِينَ «مفعول أول - على تقدير حَذْف مضاف، وإقامة المضاف إليه - الذين - مُقامه - و» هو «فصل، و» خَيْراً «مفعول ثانٍ، تقديره: ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم، ولا بد من هذا الإضمار، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء - أيضاً - مزية على القراءة بالتاء، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم»
84
يَبْخَلُونَ «وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان» يَبْخَلونَ «وجعلْتَ ما في صلة» الذِينَ «تفسيرَ من قبل الصلة، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف».
والميراثُ: مصدر كالميعاد، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها - وهي ساكنةٌ - لأنها من الوراثة كالميقات والميزان - من الوقت والوزن - وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يَعْمَلُونَ» بالغيبةِ، جَرْياً على قوله: ﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾ - والباقون بالخطابِ، وفيها وجهانِ:
أحدهما: انه التفات، فالمراد: الذين يبخلون.
الثاني: أنه رَدَّ على قوله: ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾.

فصل


الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً.
فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى: لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، لأن المالَ يزول، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم، كما قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ وهذا هو المراد من قوله: ﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي: يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ.
وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً، ولا شك أن العلم فَضْل من الله.
والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ.
وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ.
85

فصل في اختلافهم في البخل في الآيات


اختلفوا في هذا البخلِ، فقال أكثرُ العلماءِ: المراد به مَنْع الواجب، واستدلُّوا بوجوهٍ:
أحدها: أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ.
ثانيها: أن اللهَ - تعالى - ذَمَّ البُخْل وعابه، وَنْعُ التطوُّعِ لا يجوز أن يُذَمَّ فاعِلُه وأن يُعَابَ به.
ثالثها: أنه لو كان تارك التفضُّل بخيلاً لوجب على مَنْ ملك المالَ العظيمَ أن يُخْرج الكلَّ، وإلا لم يتخلَّص من الذم.
رابعها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وَأيُّ دَاءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ» ومعلوم أن تارك التطوُّع لا يليق به هذا الوصف.
خامسها: أنه - تعالى - لا ينفك عن ترك التفضُّل؛ لأنه لا نهايةَ لمقدوراته في التفضُّل، وكل ما يدخل في الوجود، فهو متناهٍ، فيكون لا محالة - تاركاً للتفضُّل فلو كان ترك التفضُّل بُخْلاً لزم أنْ يكونَ اللهُ موصوفاً بالبُخْل، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيراً.

فصل


اعلم أنَّ إنفاقَ الواجبِ أقسامٌ:
منها: إنفاقه على نفسه، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم.
ومنها: الزكوات، ومنها: ما إذا احتاج المسلمونَ إلى دَفْع عَدُوٍّ يقصد قَتْلَهُم ومالهم، فيجب عليهم إنفاق المالِ على مَنْ يدفع عنهم.
ومنها: دَفْع ما يسد رَمَقَ المضطر، فهذه الاتفاقات واجبة.
قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس: إنَّ هذه الأموالَ تصير حيّاتٍ يطوقون بها - كما تقدم - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ، لَهُ زَبيبتانِ، يُطَوِّقهُ يَوْم القِيَامَةِ ثُمَّ يأخُذُ بِلهزمتيهِ - يعني: شِدقيهِ: ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ، أنَا كَنزُكَ» ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ﴾.
86
وقال مجاهدٌ: معنى «سَيُطَوَّقُونَ» سَيُكَلَّفون أن يأتوا بما بَخِلوا يه يومَ القيامةِ، أي: يُؤمرون بأداء ما منعوا، فلا يمكنهم الإتيان به، فيكون توبيخاً.
وقيل: سيلزَمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيلِ، يقال: فلانٌ كالطَّوق في رقبة فلان، كما يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣].
وإن حملنا البخل على البُخْل بالعلم كان معناه: أنَ اللهَ تعالى يجعل في أعناقهم طوقاً من نار، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ، ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ».
قوله: ﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ فيه وجهانِ:
أحدهما: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُهما من مالٍ وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، كقوله: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧].
ثانيهما: - وهو قول الأكثرين -: أنه يُفنى أهلَ السموات والأرض، ويُبْقى الأملاك، ولا مالك لها إلا الله، فجرّى هذا مَجْرَى الوراثة.
قَال ابن الأنباريّ: يقال: وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فُلان، إذا انفرد به بعد أن كانَ مشاركاً فيه، وقال تعالى:
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] لأنه انفردَ بذلك الأمر بعد أن كان داودُ مشاركاً له فيه.
قال القرطبيُّ: أخبر - تعالى - ببقائه ودوام مُلْكِه، وأنه في الأبد كهو في الأزلِ، غنيّ عن العالمين، فيرث الأرضَ بعد فناءِ خَلْقِه، وزوال أملاكِهِم، فتبقى الأملاكُُ والأموالُ لا مدعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثةِ في عادة الخلقِ، وليس بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكَهُ من قبل، والله - سبحانه وتعالى - مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما، وكانت السَّمواتُ وما فيها له، وأن الأموالَ كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتُوا العاريةُ إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
87
في كيفية النظم وجهانِ:
الأول: أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك، قالت الكفارُ: إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً، والفقر على اللهِ مُحَالٌ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله.
87
الثاني: أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى بأموالهم، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها، فلما طلب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له: لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ.
قوله: ﴿قالوا إِنَّ﴾ العامل في «إنَّ هو» قاَلُوا «ف» إنَّ «وما في حيِّزها منصوب المحل ب» قَالُوا «لا بالقول، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني بين المصدر، وهو» قَوْلَ «وبين الفعلِ وهو» قَالُوا «تَنَازعَا في» إنَّ «لأنه مصدر، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول، وهو قولٌ ضعيفٌ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل، والأول مصدرٌ، وإعمال الفعل أَقْوَى».
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع، و"نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده، لكنه منع من ذلك مانع آخر، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه، ولا يجوز حذفه، وهو - هنا - غير مذكور، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين، وهو ضعيفٌ كما ذكر.
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.

فصل


قال الحسنُ ومجاهدٌ: لما نزل قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥]. قالت اليهودُ: إنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرض منا، ونحن أغنياء. وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ.
وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ: كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع؛ يدعوهم إلى الإسلام، وإلى أقام الصلاة وإيتاء الزَّكَاةِ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له: فنحاص بن عازوراء، وكان من علمائهم، ومعه حَبْرٌ آخَرُ، يقال له: أشيع، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ: اتَّقِ اللهَ وأَسْلِم؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمِنْ وصَدِّقْ، وأَقْرِض اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ،
88
فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله:
﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] فغضب أبو بكرٍ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا محمدُ، انظر ما صنع بي صاحبُك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا أبا بكر، ما حملك ما صنعتَ؟ قال يا رسولَ اللهِ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فغضبت لله، وضربت وجهه، فجحد ذلك فِنْحاصٌ، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ، وتصديقاً لأبي بكر.
واعلم أنَّ ظاهرة الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً؛ لقوله تعالى: ﴿الذين قالوا﴾ وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُل ذلك، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة، فيجب القطع بذلك.
قوله: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ قرأ حمزة بالياء، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، و «ما» وصلتها قائم مقام الفاعل، و «قَتْلُهم» - بالرفع - عَطْفاً على الموصول، و «يَقُولُ» - بياء الغيبة - والمعنى: سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف «ما» منصوبة المحل، و «قَتْلَهُمْ» بالنصب عَطْفاً عليها، و «نَقُولُ» بالنون - والمعنى: سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ.
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف «سَتُكْتَبُ» - بتاء التأنيث - على تأويل «مَا قَالُوا» ب «مَقَالَتُهُمْ». وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون ويقال. والحسنُ والعرج «سَيَكْتُب» - بالغيبة - مبنياً للفاعل، أي: الله تعالى: أو الملك.
و «ما» - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ، تقديره: سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية، أي: قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به، أي: مقولتهم، كقولهم: ضَرْب الأمير.
89
قوله: ﴿وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: ونكتب قتلهم، أي: رضاهم بالقتل، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ، فقال الشعبي: قد شركت في دمه، فجعل الرضا بالقتل قتلاً، قال القرطبيُّ: وهذه مسألة عظمى، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها» وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين.
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات.
ثم قال: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي: النار، وهو بمعنى المُحْرَق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت، أو عند الحشر، إن لم يكن هناك قَوْلٌ.
فإن قيل: إنهم أوردوا سؤالاً، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً، وذلك مُحالٌ، فوجب أن يقال: إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده، وذلك قادحٌ في كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ، فهذا هو شُبْهَتُهم، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟.
فالجوابُ: إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء. وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ:
منها: أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ.
ومنها: أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى.
ومنها: أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه، فتتألم روحه لمفارقته.
قوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ﴾ مبتدأ وخبر، تقديره: ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. و «ما» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و «ذلك» إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ:
90
أحدهما: أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على «ذُوقُوا» كأنه قيل: ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني: أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ: «وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ﴾ [القصص: ٤] وأصل» أيْدِيكُمْ «أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها.
قوله: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ عطف على»
ما «المجرورة بالباء، أي: ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم.
فإن قيل: إن «ظلاماً»
صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من «ظالم»، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت: زيد ليس بظلامٍ، أي: ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ: ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ؟ فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أن «فَعَّالاً» قد لا يُراد به [التكثير]، كقول طرَفة: [الطويل]
١٧٠٢ - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ
لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع: أن يكون على النسب، أي: لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل: ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ: العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً.
وقال الراغبُ: «العبيد - إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى - أعم من العباد، ولهذا قال:
91
﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك».
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين «عبيد» و «عباد» فقال: وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل: عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة «ق».

فصل


قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم.
92
قوله :﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ مبتدأ وخبر، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. و " ما " يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و " ذلك " إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ :
أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول ؛ عَطْفاً على " ذُوقُوا " كأنه قيل : ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي ؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ : وخص الأيدي بالذكر ؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله :﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ [ القصص : ٤ ] وأصل " أيْدِيكُمْ " أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ ؛ لثقلها.
قوله :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ عطف على " ما " المجرورة بالباء، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم.
فإن قيل : إن " ظلاماً " صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من " ظالم "، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ، أي : ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً - وإذا قُلْتَ : ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى :﴿ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ ؟ فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أن " فَعَّالاً " قد لا يُراد به [ التكثير ]٨، كقول طرَفة :[ الطويل ]
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أرْفِدِ٩
لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً ؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الثاني : أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة ؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع : أن يكون على النسب، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً، فنفاه على حَدِّ عِظَمِه لو كان ثابتاً.
وقال الراغبُ :" العبيد - إذا أُضيف إلى اللَّهِ تَعَالَى - أعم من العباد، ولهذا قال :
﴿ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ ق : ٢٩ ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك ".
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين " عبيد " و " عباد " فقال : وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة " ق ".

فصل


قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم.
يجوز في حل «الذِينَ» الألقاب الثلاثة، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة «قَوْلَ» إليه - في قوله: «قول الذين قالوا».
الثاني: أنه بدل منه.
الثالث: أنه صفة ل «الْعَبِيد» أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة: «وهذا مفسد للمعنى والوصف».
والرفعُ على القطع - بإضمار مبتدأ - أي: هم الذين، وكذلك النصب على القطع - أيضاً - بإضمار فعلٍ لائقٍ، أي: أذم الذين.
قوله: «أن لا نؤمن» في «أنْ» وجهان:
أحدهما: أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ، والأصل: في أن لا نؤمنَ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ، أو نَصْبٍ.
الثاني: أنها مفعول بها، على تَضْمين «عَهِدَ» معنى ألزم، تقول: عهدت إليه كذا - أي: ألزمته إياه - فهي - على هذا - في محل نصب فقط.
و «أن» تُكْتَب متصلة، ومنفصلة، اعتباراً بالأصل، أو بالإدغام. ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط، اكتفاءً بالتشديد، وحكى مكي - عن المبرد - أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة، إلا فمنفصلة. ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة.
92
والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر، فكأنه فاصل بينهما، بخلاف الناصبة، وقول أهل الخط - في مثل هذا -: تكتب متصلة، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية؛ اعتباراً بلفظ الإدغام، لا أنهم يكتبون [متصلة]، ويثبتون لها بعضَ صورتها، فيكتبون: أنْلاَ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوه بالاتصال، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ، فيكتبون أمَّن، وأما، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب «لا»، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال: ومنهم مَنْ يحذفها في الخط؛ اكتفاءً بالتشديد.
فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل، ولا يقول أحَدٌ بهذا.
وتعدى «نؤمن» باللام؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف. وقد تقدم في أول «البقرة».
وقرأ عيسى بن عمر «بقُرُبان» - بضمتين -.
قال القرطبيُّ: «كما قيل - في جمع ظُلْمة - ظلمات وفي حجرة - حجرات».
قال ابن عطيةَ: إتباعاً لضمة القاف، وليس بِلُغَةٍ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان - بضم الفاء والعين -.
وحكى سيبويه: السُّلُطان - بضمِّ اللمِ - وقال: إنّ ذلك على الإتباع.
قال أبو حيان: «ولم يَقل سيبويه: إن ذلك على الإتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان، ولا شيئاً من هذا النحو، ولكنه جاء فُعُلاَن - وهو قليل - قالوا: السلطان، وهو اسم، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه: صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل، قالوا: فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ، وعلى فعلان - ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً، وهو قليلٌ، نحو سُلُطان».
قال شهاب الدِّينِ: «أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في» سلطان «خاصةٌ، ولكن قوله في» قُربَانٍ «صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان».
والقُرْبان - في الأصل - مصدر، ثم سُمِّي به المفعول، كالرَّهْن، فإنه في الأصل مصدر، ولا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف - أي: تقريب قُرْبان - قال: «أي: يُشْرَع لنا ذلك».
وقوله: ﴿تَأْكُلُهُ النار﴾ صفة لِ «قُرْبَانٌ» وإسناد الأكل إليها مجاز، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل.
93
قوله: ﴿مِّن قَبْلِي بالبينات﴾ كلاهما متعلق ب «جَاءَكُم» والباءُ تحتمل المعية والتعدية، أي: مصاحبين للآيات.

فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة


هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقريرها: أنك يا محمد - لم تفعل كذلك، فوجب ألا تكون نبياً، قال ابن عباسٍ: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرفِ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحُيَيّ بن أخطب، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمدُ تزعم أن اللهَ بعثك إلينا رسولاً، وأنزل عليك كتاباً، وقد عَهدَ اللهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك، فأنزل الله هذه الآية.
والقُرْبان: كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله - تعالى - من نسيكة، وصدقة، وعَمَلٍ صالح.
قال الواحديُّ: وأصله المصدر من قولك: قرب قُرْبَاناً - كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران - ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكعب بن عُجْرة -: «يَا كَعْبُ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ».
قال القرطبيُّ: «وهو فُعْلان - من القربة - ويكون اسماً، ومصدراً. فمثال الاسم: السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر: العُدوان والخُسْران».

فصل في بيان ادعاء اليهود


واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود.
فقال السُّدَّيُّ: إن هذا الشرط جاء في التوراة، ولكنه مع شَرْط، وذلك أنه - تعالى - قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول الله، فلا تصدقوه، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار، إلا المسيحُ ومحمد، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار، قال: وكان هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ - عليه السَّلام - فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت.
وقال آخرونَ: إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى - عليهما السَّلامُ - وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ.
94
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه الشُّبهة، فقال: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ والمرادُ أسلافهم، فبيَّن - بهذا الكلام - أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت، لا على وَجْه الاسترشاد، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم.
فإن قيل: لم قال: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ﴾ ولم يَقل: جاءتكم رُسل؟
فالجوابُ: أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير.
والمراد بقوله: ﴿وبالذي قُلْتُمْ﴾ هو ما طلبوه منه، وهو القُرْبان.
فإن قيل: إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات﴾ ثم أضاف إلى قوله: ﴿وبالذي قُلْتُمْ﴾ وهو القربان؟
فالجواب: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو قال لهم: إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة، لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم، فلما قال: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ﴾ كان الإلزام وارداً عليهم؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة.
قال القرطبيُّ: في معنى الآية -: «قُلْ» يا محمد «قَد جَاءَكُمْ» يا معشرَ اليهود ﴿رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ﴾ من القُرْبان «فلم قتلتموهم» يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء - عليهم السلام - ولم يؤمنوا بهم.
أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأن اللهَ تعالى سمي اليهودَ - لرضاهم بفِعْل أسلافهم - وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ.
95
قوله: ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ﴾ ليس جواباً، بل الجوابُ محذوف، أي: فقل، ونحوه؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق، والجملة من «جَاءُوا» في محل رفع، صفة لِ «رُسُلٌ» و «مِنْ قَبْلِكَ» متعلق ب «كُذِّبَ» والباء في «بِالبَيِّنَاتِ» تحتمل الوجهين، كنظيرتها.
ومعنى الآية: فإن كذبوك في قولك: إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان.
ويحتمل أن يكون المعنى: فإن كذبوك في أصل النبوة - وهو أولى - والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ.
95
وقرأ الجمهورُ: «وَالزبر والكتاب» - من غير باء الجر - وقرأ ابنُ عامر «وَبِالزُّبُرِ» - بإعادتها - وهشام وحده عنه «وَبِالكِتَابِ» - بإعادتها أيضاً - وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً.
والزُّبر: جمع زَبُور - بالفتح - ويقال: بالضم أيضاً - وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما - إن شاء الله تعالى - في النساء في قوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [النساء: ١٦٣]. واشتقاقه من زَبَرْتُ: أي: كتبتُ وزَبَرْته: قرأتهُ، وَزَبرْته: حسَّنت كتابتَه، وزَبَرْته: زَجَرته. فزبور - بالفتح - فَعُول بمعنى مفعول - كالركوب بمعنى: المركوب - والحلوب - بمعنى المحلوب - والمعنى: الكُتُب المزبورة، أي: المكتوبة، والزُّبُر: جمع زبور، وهو الكتاب.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
١٧٠٣ - لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي
وقيل: اشتقاق من الزَّبْر - بمعنى: الزجر: تقول: زبرت الرجل: أي: نهرته. وزبرت البئر: أي: طويتها بالحجارة.
فإن قيل: لِمَ عطف «الْكِتَابِ المُنِيرِ» على «الزُّبُرِ» مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر؟
فالجوابُ: لأن الكتاب المنير أشرف الكتب، وأحسن الزبر، فحسُن العطف، كقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧]. وقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]. ووجه شرفه: كونه مشتملاً على جميع الشريعة، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر.
وقيل: المراد ب «الزُّبُر» الصُّحُف، والمراد ب «الْكِتَابِ الْمُنِيرِ» التوراة والإنجيل والزبور.
و «الْمُنِير» اسم فاعل من أنار، أي: أضاء، وهو الواضح. والمراد بهذه الآية - تسلية قلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما جرى على الأنبياء قبله.
96
والمرادُ بهذه الآية - زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، [والمُحِقُّ من المُبْطِل].
قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ مبتدأ وخبر، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة.
والجمهور على «ذَائِقَةٌ المَوْتَ» بالتنوين والنَّصْب في «الْمَوْتِ» على الأصل.
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب «الْمَوْت» وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ: [المتقارب]
١٧٠٤ - فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
- بنصب الجلالة - وقراءة مَنْ قرأ ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله﴾ [الإخلاص: ١، ٢]- بحذف التنوين من «أحَدٌ» لالتقاء الساكنين.
[ونقل] أبو البقاء - فيها - قراءةً غريبةً، وتخريجاً غريباً، قال: «وتقرأ شاذاً - أيضاً - ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير» كل «على اللفظ، وهو مبتدأ وخبرٌ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون» كل «مبتدأ، و» ذَائِقُهُ «خبر مقدَّم، و» الْمَوْتُ «مبتدأ مؤخرٌ، والجملة خبر» كُلّ «وأضيف» ذائق «إلى ضمير» كل «باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى، كقولهم: عَرَضْتُ الناقة على الحوض،
97
ومنه قوله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار﴾ [الأحقاف: ٣٤] وقولك: أدخلت القلنسوة في رأسي.
وقول الشَّاعرِ: [البسيط]
١٧٠٥ - مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ نَجْرَانَ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل: عرضت الحوض على الناقة، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا، وأدخلت رأسي في القلنسوة، وبلغت سوآتهم هَجَرَ، فقلبت. وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله - تعالى -.
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في» ذائقة «إنما هو باعتبار معنى» كلٍّ «قال:» لأن كل نفس نفوس، فلو ذكر على لفظ «كل» جاز، يعني أنه لو قيل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ﴾ جاز، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [اعتبار] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر «كل» وتحقيق هذه المسألةِ هناك.

فصل


قال ابنُ الخطيبِ: هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه. وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾
[المائدة: ١١٦] يقتضي الاندراج، وأيضاً فالنفس والذات واحد، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس.
فالجوابُ: أنّ المُرَادَ: المكلَّفون في دار التكليف، لقوله، عقبيها: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم.

فصل


قالت الفلاسفةُ: الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى، فيحصل الموتُ قالوا: والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى: ذائقة موت البدنِ، وبدل ذلك - أيضاً - على أنَّ النفسَ غير البدن.
قوله: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾ «ما» كافة لِ «إن» عن العمل، قال مكيٌّ: «ولا يحسبن أن تكون» ما «بمعنى الذي، لأنه يلزم رفع» أجورُكم «ولم يقرأ به أحَدٌ، ولأنه يصير التقدير:
98
وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم، كقولك: إنّ الذي أكرمته عمرو، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء».
يعني لو كانت «ما» موصولة لكانت اسم «إن» فيلزم - حينئذٍ - رفع «أجوركم» على أنه خبرها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ [طه: ٦٩] ف «ما» - هنا - يجوز أن تكون بمعنى الذي، أو مصدرية، تقديره: إنَّ الذي صنعوه، أو إن صُنْعَهم، ولذلك رفع «كِيْدُ»، خبرها. وقوله: وأيضاً فإنك تفرق... ، يعني أن «يَوْمَ الْقِيَامَة» متعلق ب «تُوَفَّوْنَ» فهو من تمام الصلة - التي هي الفعل ومعموله - ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته، وهذا وإن كان من الواضحات، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم.

فصل


قال المفسّرون: أجر المؤمنِ الثوابُ، وأجرُ الكافر العقابُ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا - أجراً وجزاء - لأنها عُرْضَةٌ للفناء.
قوله: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ أدغم أبو عمرو الحاء في العين، قالوا: لطول الكلمة، وتكرير الحاء، دون قوله: ﴿ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] وقوله: ﴿المسيح عِيسَى﴾ [آل عمران: ٤٥] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها، قالوا: لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف، وهذا عكس الإدغامِ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين: إحداهما: هذه، والثانية: الحاء في الهاء، نحو: امدح حلالاً - بقلب الهاء حاء أيضاً - ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفَت إليه.. ومعنى الكلام، ﴿فَمَن زُحْزِحَ﴾ أي: نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
قوله: ﴿وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ المتاع: ما يتَمَتَّع به، وينتفع [به الناسُ -[كالقِدْرِ] والقصعة - ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين.
وقال الحَسَن: هو كخضرة النبات، ولعب البنات، ولا حاصل له.
وقال قتادة: هي متاع متروك: يوشك أن يضمحِلَّ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله - تعالى - ما استطاع.
وقوله: «الْغُرور» يجوز أن يكون مصدراً من قولك: غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام، ويغر عليه حتى يشتريه، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ، ومنه
99
الحديث: «نهى عن بيع الغرر» ويجوز أن يكون جَمْعاً.
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول، أي: متاع الغُرُور، أي: المخدوع: وأصل الغَرَر: الخدع.
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ: هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.
100
وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين يوم أُحدٍ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ.
والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ.
قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ هذا جوابُ قَسَم محذوف، تقديره: والله لَتُبْلَوُنّ، وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُّنَنَّ، فالنون الأولى للرفع، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد، وتحرَّكت الواوُ [الأولى]- التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف.
وإنْ شئتَ قلت: استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى، فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ، دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ [لأن حركتها عارضةٌ] ولذلك لم [تُقلَب] ألِفاً، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها.
ويقال للواحدِ من المذكَّر: لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين: لتبليانِّ يا رجلانِ، ولجماعة الرجال: لتبلوُنَّ. وأصل «لَتسْمعنَّ» : لَتَسْمَعُونَنَّ، ففعل فيه ما تقدم، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً.

فصل في المراد بالابتلاء


معنى الابتلاء: الاختبار وطلب المعرفةِ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ
100
العبد معاملةَ المختبر، واختلفوا في هذا الابتلاء، فقيل: المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد.
وقيل: الابتلاء في الأموال بالمصائب، وبالإنفاق في سبيل اللهِ وسائر تكاليف الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها.
وقال الحسنُ: التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ، كالصلاة والزكاة والجهاد.
وقال القاضي: والظاهرُ يحتمل الكُلُّ.
قوله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين، وذلك أنهم كانوا يقولون: ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠] و ﴿المسيح ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠] و «ثالث ثلاثة» وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول، ويجمعون الناس لمحاربته، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه، ثم قال: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾.
قال المفسّرونَ: بَعَثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ، يستمده، فقال فنحاصٌ: قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له - حين أرسله -: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ، فتذكَّر أبو بكر ذلك، وكفَّ عن الضرب، فنزلت الآية.

فصل


في الآية تأويلان:
أحدهما: أن المرادَ منه أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ، وتحمُّلِ الأذَى، وتَرك المعارضة والمقابلة، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين، كقوله تعالى: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤] وقوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ﴾ [الجاثية: ١٤] وقوله: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢] وقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥] وقوله: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤].
قال الواحديُّ: كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف.
قال القفّال: والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ، والمعنى: أنهم امِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على طريقِ الأقوالِ
101
الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة.
التأويل الثاني: أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم. فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. وقوله: ﴿فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي: من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه.
وقيل: ﴿مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي: من حق الأمورِ وخَيرها.
وقال عطاءٌ: من حقيقة الإيمان.
102
في كيفية النظمِ وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأجاب عن ذلك، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم.
والمعنى: كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟
ثانيهما: أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجبُ فيها الصبر.
قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثيرٍ، وأبو بكر بالياء، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده -: «فَنَبَذُوهُ» والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية، تقديره: وقلنا لهم، وهذا كقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.
قوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: واو الحال، والجملة بعدها نصب على الحال، أي: لتبينُنَّه غيرَ كاتمين. الثاني: أنها للعَطْف، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ، كما تقول: واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء: «ولم يأتِ بها
102
في» تَكْتُمُونَ «اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛» تَكْتُمُونَهُ «توكيد».
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده، وليس كذبك؛ لما تقدم. وقوله: لأنه توكيدٌ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ فجاء قوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ توكيداً في المعنى.
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني: جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال: «وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل» لا «لا تدخل عليه واوُ الحال».
وغيره يقول: إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبد الله: لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة: «وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه».
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ.
وأنشدوا: [الطويل]
١٧٠٦ - وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ
وقال الآخرُ: [المتقارب]
١٧٠٧ - يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيقُ هذا.
وقرأ ابنُ عباس: ميثاق النبيين لتبيننه للناس، فالضمير في قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ يعود على ﴿الناس﴾ المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين، وكان قد تقدم في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني: قراءة ابن عباس -. والهاء في ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور.
103
وقال الحسنُ وقتادةَ: تعود على «الكِتَابِ» أي: يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: البيانُ يضادُّ الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟
فالجوابُ: أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة، والشبهات المعطلة.
قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْمِ، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه، وإياكم وكتمانَ العِلْمِ، فإنه هَلَكَه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ».
قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ طرحوه، وضيَّعوه، ولم يُراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح، ونقيضه: جعله نُصْبَ عينيه.
وقوله: ﴿واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ معناه: أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا، ثم قال: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾.
104
هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى، ولا شك أن الإنسانَ يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ، فأمر النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة عليها.
قوله: و ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمر «يَحْسَبَنَّ» و «فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ» - بالياء فيهما، ورفع ياء «تَحْسَبَنَّهُم» وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معاً، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ
104
أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره - ففي المسألة وجهان: ِ
أحدهما: أنَّ «الَّذِينَ» مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو «بِمَفَازَةٍ» والتقدير: لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ «الَّذِينَ» ومفعولاه الضمير المنصوب، و «بِمَفاَزَةٍ».
الثاني: أن «الَّذِينَ» مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو «بِمَفَازَةٍ» الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِداً، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.
كقول الآخر: [الطويل]
١٧٠٨ - بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي: وتحسب حبهم عاراً، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.
ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.
قال أبو علي «تَحْسَبَنَّ» لم يقع على شيء و «الَّذيِنَ» رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل]
١٧٠٩ - وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا
المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب.
والمُسْنفات: اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه، سنفاً، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ،
105
وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ: العربُ تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ.
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة، لا مفعول لها.
ثالثها: أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً، والثاني هو نفس «بِمَفَازَةٍ» ويكون «فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ» توكيداً للفعل الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة -: «على أن الفعل لِ ﴿الذين يَفْرَحُونَ﴾ والمفعول الأول محذوف، على معنى: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين، و» فلا يحسبنهم «تأكيد».
قال أبو حيّان: «وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره: لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي﴾ [آل عمران: ١٧٨] وأن هذا التقدير لا يصح».
قال شهابُ الدِّينِ: قد تقدَّم ذلك والجواب عنه، لكن ليس هو في قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨] بل في قوله: ﴿ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله﴾ من قراءة من قرأ بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أجيب عنه والحمد لله، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقالَ: في تقرير هذا الوجه الثالث -: أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن «بِمَفَازَةٍ» مفعول ثانٍ للفعل الأول، حذفت من الفعل الثاني، و «هُمْ» في «فلا يحسبنهم» مفعول أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأولِ.
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول.
وقال مكِّيٌّ: إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ.
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم: والثاني مُعَاد على طريق البدل، مشوباً بمعنى التأكيدِ.
وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً، أو بدلاً - فالفاء زائدة، ليست عاطفة ولا جواباً.
قوله: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ أصله: تحسبونَنَّهم، بنونين - الأولى نون الرفع، والثانية للتوكيد - وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل، وهو خاص بباب الظن، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت: «أكرمتُني»، أي: «أكرمت أنا نفسي» لم يجز.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو
106
كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ، أو بدلٌ منه، والفاء زائدة، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر: [الكامل]
١٧١٠ - لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي
وقول الآخر: [الكامل]
١٧١١ - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ
وقول الآخر: [الكامل]
١٧١٢ - حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ... فَيَقُلْنَ: لا تَبْعَدْ، وَقُلْتُ لَهُ: ابْعَدِ
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ، إنما قال به الأخفش.
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا، وقال أبو علي في الحُجة -: إن الفاءَ زائدة، والثاني بدلٌ من الأولِ، قال: «وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ».
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ.
107
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ، أي: لا يحسبن الرسولُ، أو حاسبٌ.
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ، كالكلام في القراءة التي قبلها، والثاني من الفعلين تأكيدٌ، أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ - على هاتينِ القرائتينِ - لاتحادِ الفاعلِ.
وقرأ النَّخعِيُّ، ومروان بن الحكمِ «بما آتوا» ممدوداً، أي: أعْطُوا، وقرأ علي بن أبي طالبٍ «أوتوا» مبنياً للمفعول.

فصل


قال ابنُ عبّاسٍ: قوله: ﴿يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ هم اليهودُ، حرَّفوا التوراةَ، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ.
وقيل: سأل رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهودَ عن شيء من التوراة، فأخبروه بخلافه، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك.
وقيل: فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم.
وقيل: هُم المنافقونَ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمانِ.
وقيل: هم بعض المنافقينَ، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغَزْو، وفرحوا بقعودهم، واعتذروا، وطمعوا أن يُثَنَى عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفَرِحوا بذلك الكتمان، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ.

فصل


قال الفرّاءُ: «يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا» أي: بما فعلوا، كقوله: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ [مريم: ٢٧] أي: فَعَلْتِ، وقوله: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٦]. قال الزمخشريُّ: «أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ [مريم: ٦١] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا».
108
قوله: ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ قد تقدم معناه في كيفية النظم ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ أي: بمنجاة من العذاب، من قولهم: فاز فلان - إذا نجا - أي: ليسوا بفائزين.
وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوَّز الرجل - إذا مات -.
وقال الفرّاءُ: أي: ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه، ثم حقَّق ذلك بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
قوله: ﴿مِّنَ العذاب﴾ فيه وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لِ «مَفَازَةٍ» أي: بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا «مَفَازَةٍ» مكاناً، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء: «لأن المفازةَ مكان، والمكانُ لا يعملُ».
يعني فلا يكون متعلقاً بها، بل محذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها ﴿مِّنَ العذاب﴾ اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره: بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً.
الثاني: أن يتعلق بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول: فزت منه أي: نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله: [الطويل]
١٧١٣ - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل «رهبة» في «عقابك» وهو مفعول صريح، فهذا أولى.
قال أبو البقاء: «ويكون التقدير: فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ».
فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً.
109
قال القرطبيُّ: «هذا احتجاجٌ على الذين قالوا: إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وتكذيب لهم».
وقيل: المعنى: لا تظنَّنَّ الفرحين ينجون من العذاب، فإنّ للهِ كُلّ شيء، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفاً على الكلام الأولِ، أي: إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء.
109
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: لهم عذابٌ أليمٌ ممن له ملك السموات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟
110
اعلم أنه - تعالى - لما قرَّر الأحكام، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية.
قال ابنُ عبيد قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبكَتْ وأطالت، ثم قالت: «كُلُّ أمره عَجَبٍ، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي، حتى ألصق جِلدَه بجلدي، ثم قال لي: يَا عَائِشَة، هَلْ لَكِ أن تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ، فَقَد أذِنْتُ لَكَ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ، فَتَوَضَّأ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ، وجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةَ، فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ، أفَلا أكثونُ عَبْداً شَكُوراً، ثُمَّ قَالَ: مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ الآيات، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا». وروي: «ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا.»
«وروي عن عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ، ثم ينظر إلى السماء ويقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب﴾ ».
واعلم أنه - تعالى - ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وختمها بقوله: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] وختمها هنا - بقوله: ﴿لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب﴾ وذكر في سورة البقرة - مع هذه
110
الدلائل الثلاثة - خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ - وهي السموات والأرض والليل والنهار - فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ، وله لُبٌّ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ، وأسقط الخمسةَ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر، والعجائب فيها أكثر.
قوله: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله﴾ فيه خمسة أوجهٍ:
أحدهما: أنه نعت لِ ﴿لأُوْلِي الألباب﴾ فهو مجرور.
ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين.
ثالثها: أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم.
رابعها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: ربنا. قاله أبو البقاء.
خامسها: أنه بدل من ﴿لأُوْلِي الألباب﴾ ذكره مكِّيٌّ، والأول أحسنها.
و ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ حالانِ من فاعلٍ ﴿يَذْكُرُونَ﴾ و ﴿وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى:
﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ [يونس: ١٢]- حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى: ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا.

فصل


قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباس، والنَّخعيّ، وقتادة: هذا في الصلاة، يُصلي قائماً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ.
وقال سائر المفسّرين: أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات.
قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها.
والثاني: أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفاً على ﴿قِيَاماً﴾ أي: يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل: هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو؟.
111
فالجوابُ: أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال.
و «خَلْق» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله.
الثاني: أنه بمعنى المفعول، أي: في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي: يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء: «وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى».
قال شِهَابُ الدّينِ: «وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل».

فصل


﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع، [ويعرفوا] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً.
وقال بعض العلماءِ: الفكرة تُذْهِب الغفلة، وتُحْدِث للقلب خشية، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفِكْرة.
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين:
دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ، كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً، وأسراراً عجيبةً، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من
112
البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة - وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد، ويشتغل بالدعاء، فيقول: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
قوله: ﴿رَبَّنَآ﴾ هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف، تقديره: يقولون، والجملة القولية فيها وجهان:
أظهرهما: أنها حال من فاعل «يَتَفَكَّرُونَ» أي: يتفكرون قائلين قائلين ربنا، وإذا أعربنا «يَتَفَكَّرُونَ» حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين.
والوجه الثاني: «هَذَا» إشارة إلى الخلق، إن أريد به المخلوق، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه ب «هذا» - أن يكون مصدراً على حاله، لا بمعنى المخلوق، وفيه نظرٌ.
أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ.
قوله: «بَاطِلاً» في نصبه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: خَلْقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر.
الثاني: أنه حالٌ من المفعولِ به، وهو «هَذَا».
الثالث: أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى: ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ.
الرابع: أنه مفعول من أجله، و «فاعل» قد يجيء مصدراً، كالعاقبة، والعافية.
الخامس: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «خلق» قالوا: و «خلق» إذا كانت بمعنى «جَعَلَ» التي تتعدى لاثنين، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ، بل المعروف أن «جعل» إذا كانت بمعنى «خلق» تعدت لواحدٍ فقط.
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ «هَذَا» وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨].
113
قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تقدم إعرابه، وهو معترض بين قوله: ﴿رَبَّنَآ﴾ وبين قوله: ﴿فَقِنَا﴾.
وقال أبو البقاء: «دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ، والتقدير: إذا نَزهناك، أو وحَّدْناك فقنا».
وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ طلبهم وقاية النار.
وقيل: هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه ﴿سُبْحَانَكَ﴾ من معنى الفعل، أي: سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.

فصل


قالتِ المعتزلةُ: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد، ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، قالوا: لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً، وذلك ضد هذه الآية، قالوا: وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً.
وأجابَ الواحدي: بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ، مُتْقَنٌ، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] ؟ وقوله: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ: ١٢]. فكان المرادُ من قوله: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾ هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.
فإن قيل: هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ:
الأول: لو كان المرادُ بالباطلِ: الرخو، المتلاشي؛ لكان قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق، وذلك باطلٌ.
الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير: ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ. فعلى قولنا يحسن النظم، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ.
الثالثُ: أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [ص: ٢٧] وقال في آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ [الدخان: ٣٨ - ٣٩] وقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق﴾ [المؤمنون: ١١٥ و١١٦]. أي: فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى.
فالجواب: أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته، وإما ممكن لذاته،
114
وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله: لو كان كذلك لكان قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة، وذلك باطلٌ، فجوابُهُ: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ: ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ معناه: أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً، شديدةً، باقيةً، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به.
وأما قولهم: إنما يحسن وصل قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ به إذا فسَّرناه بقولنا، فالجوابُ: لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ وهذا الوجه أحسن في النظم.
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث، واللعب، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ.
وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ. يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر.
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ، ثم يذكر بعده الدعاء، كهذه الآيةِ.
قوله: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار﴾ «من» شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و «تُدْخِل» مجزوم بها، و ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين:
الأول: أن تكون «من» منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾. وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
الثاني: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ «إنَّ». ويقال: خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعلُ واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ: الإخزاء - في اللغو - يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ: أخْزَى الله العدُوَّ: أي: أبعده.
115
وقال غيره: أخزاه اللهُ: أي: أهانه.
وقال شمر: أخزاه اللهُ: أي: فضحه، وفي القرآن: ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ [هود: ٧٨].
وقال المفضَّلُ: أخزاه الله: أي: أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري: الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» أي: أبلغت في إخزائه.

فصل


قالت المعتزلةُ: هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] فوجب من [مجموع هاتين] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً.
والجواب أن قوله: ﴿إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ.
وأجاب الواحديُّ في «البسيط» بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ.
أحدها: أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ، والثوري، وقتادة، أن قوله: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ. وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ، فإنَّما يدخلها للخلودِ فيها.
وثانيها: أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله، وإن كان عاقبته أن يخرج منها. وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنَّ نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ.
وثالثها: أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن «:
أحدهما: الإهانة والإهلاك. وثانيهما: التخجيل، يقال: خَزِيَ خِزَايةً: إذا استحيا، وأخزاهُ غيرُه: إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه.
قال ابنُ الخطيبِ:»
واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ: أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على
116
معنييه جميعاً، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] غير المثبت في قوله: ﴿إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ وعلى هذا يسقط الاستدلالُ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظاً متواطئاً، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ، سقط هذا الجوابُ؛ لأن قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] لنفي الجنس، وقوله: «فقد أخزيته» لإثبات النوع، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما «.
قال القرطبيُّ:»
وقال أهل المعاني: الخِزي أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا، فهو خَزْيان.
قال ذو الرمة: [البسيط]
١٧١٤ - خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ
فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ، والمؤمنون يموتون، فافترقوا، كذا ثبت في صحيح السنة، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، أخرجه مسلمٌ «.

فصل


احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ، وإنما قُلْنا: صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، والمؤمنُ لا يُخْزَى، وإنما قلنا: إنه مؤمنٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله﴾ [الحجرات: ٩] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً، والبغي من الكبائر بالإجماع، وأيضاً قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ [البقرة: ١٧٨] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً، فثبت أنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، وإنما قلنا: إن المؤمن لا يُخْزَى؛ لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] ولقوله:
﴿وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ١٩٤]، ثم قال: ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجوابُ: ما تقدم من أن قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] إنما يدل على نَفْي الإخزاء مع النَّبِيّ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ.
117
عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع، منها قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١] ثم قال: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾ [مريم: ٧٢] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الحِزْي.
ومنها: أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونون في النَّارِ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي، قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ «مِنْ» زائدة، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ، وفي مجرورها وجهانِ:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره في الجارّ قبله، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً.
الثاني: أنه فاعل بالجارِّ قبله، لاعتماده على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميعِ.

فصل


تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق؛ وذلك لأن الشفاعة، نوع نُصْرَةٍ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ، والجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ، قال تعالى: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ [البقرة: ٢٥٤] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠ - ١٠١].
ثانيها: أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللهِ تَعَالَى، قال تعالى: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللهِ تَعَالَى، فقوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله، كما قال: ﴿أَلاَ لَهُ الحكم﴾ [الأنعام: ٦٢] وقال: ﴿والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩].
فإن قيل: فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ.
فالجوابُ: بل فيه فائدةٌ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ، والنجاةِ من العقابِ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك، فصَحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ.
ثالثها: أن هذه الآيةَ عامةٌ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ.
118
قوله :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ﴾ فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعت لِ ﴿ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ فهو مجرور.
ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : هم الذين.
ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم.
رابعها : أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره : يقولون : ربنا. قاله أبو البقاء.
خامسها : أنه بدل من ﴿ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ ذكره مكِّيٌّ، والأول أحسنها.
و ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ حالانِ من فاعلٍ ﴿ يَذْكُرُونَ ﴾ و ﴿ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى :
﴿ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ [ يونس : ١٢ ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا.

فصل


قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباس، والنَّخعيّ، وقتادة : هذا في الصلاة، يُصلي قائماً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ١.
وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات٢.
قوله :﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها.
والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفاً على ﴿ قِيَاماً ﴾ أي : يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل : هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو ؟.
فالجوابُ : أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال.
و " خَلْق " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله.
الثاني : أنه بمعنى المفعول، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي : يتفكرون فيما أودع اللَّهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء :" وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى ".
قال شِهَابُ الدّينِ٣ :" وهذا كلامٌ متهافتٌ ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل ".

فصل


﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ وما أبدع فيهما ؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع، [ ويعرفوا ]٤ أن لها مُدَبِّراً حَكِيماً.
وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة، وتُحْدِث للقلب خشية، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفِكْرة.
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين :
دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ، كما قال تعالى :
﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض ؛ لأن دلالتها أعجب، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً، وأسراراً عجيبةً، وأن الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة -وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد، ويشتغل بالدعاء، فيقول :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
قوله :﴿ رَبَّنَآ ﴾ هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف، تقديره : يقولون، والجملة القولية فيها وجهان :
أظهرهما : أنها حال من فاعل " يَتَفَكَّرُونَ " أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا، وإذا أعربنا " يَتَفَكَّرُونَ " حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين.
والوجه الثاني : أنها في محل رفع ؛ خبراً لِ " الَّذِينَ " على قولنا بأنه مبتدأ، كما تقدم نقله عن أبي البقاءِ.
قوله :" هَذَا " إشارة إلى الخلق، إن أريد به المخلوق، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه ب " هذا " - أن يكون مصدراً على حاله، لا بمعنى المخلوق، وفيه نظرٌ.
أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ.
قوله :" بَاطِلاً " في نصبه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف، أي : خَلْقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر.
الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به، وهو " هَذَا ".
الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ.
الرابع : أنه مفعول من أجله، و " فاعل " قد يجيء مصدراً، كالعاقبة، والعافية.
الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " خلق " قالوا : و " خلق " إذا كانت بمعنى " جَعَلَ " التي تتعدى لاثنين، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ، بل المعروف أن " جعل " إذا كانت بمعنى " خلق " تعدت لواحدٍ فقط.
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ " هَذَا " وهي حالٌ لا يُستغنَى عَنْهَا ؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٨ ].
قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تقدم إعرابه، وهو معترض بين قوله :﴿ رَبَّنَآ ﴾ وبين قوله :﴿ فَقِنَا ﴾.
وقال أبو البقاء :" دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ، والتقدير : إذا نزهناك، أو وَحَّدْناك فقنا ".
وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهر ؛ تسبب عن قولهم :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ﴾ طلبهم وقاية النار.
وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ من معنى الفعل، أي : سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.

فصل


قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنّ كلَّ ما يفعله الله تعالى، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد، ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان قد خلقهما باطلاً، وذلك ضد هذه الآية، قالوا : وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً.
وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ، مُتْقَن، ألا ترى إلى قوله تعالى :
﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ] ؟ وقوله تعالى :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ]. فكان المرادُ من قوله :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.
فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ :
الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو، المتلاشي ؛ لكان قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل هذا الخلق، وذلك باطلٌ.
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ. فعلى قولنا يحسن النظم، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ.
الثالثُ : أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى، فقال :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ ص : ٢٧ ] وقال في آية أخرى :
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾
[ الدخان : ٣٨- ٣٩ ] وقال :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ و ١١٦ ]. أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى.
فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته، وإما ممكن لذاته، وشاهدة بأنّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللَّهِ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة، وذلك باطلٌ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب، بل خلقته صلباً محكماً ؟ وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً، شديدةً، باقيةً، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به.
وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ به إذا فسَّرناه بقولنا، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة، فقال :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ وهذا الوجه أحسن في النظم.
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث، واللعب، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ.
وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار حكمة اللَّهِ في خلق السمواتِ والأرضِ. يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر.
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ، ثم
١ تقدم..
٢ في أ: الآيات..
٣ ينظر: الدر المصون ٢/٢٨٣..
٤ في أ: ويقولون..
قوله :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ ﴾ " من " شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و " تُدْخِل " مجزوم بها، و﴿ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :
الأول : أن تكون " من " منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله :﴿ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾. وهذا غلطٌ ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسِّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط ؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
الثاني : أن تكون " مَنْ " مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع ؛ خبراً لِ " إنَّ ". ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعل واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ : الإخزاء - في اللغة - يَرِد على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده.
وقال غيره : أخزاه اللَّهُ : أي : أهانه.
وقال شمر : أخزاه اللَّهُ : أي : فضحه، وفي القرآن :﴿ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ [ هود : ٧٨ ].
وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ :" فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " أي : أبلغت في إخزائه.

فصل


قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن ؛ لأن صاحبَ الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللَّهُ ؛ لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ [ التحريم : ٨ ] فوجب من [ مجموع هاتين ]١ الآيتين ألا يكون صاحب الكبيرةِ مؤمناً.
والجواب أن قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً، وإنما يقتضي ألا يحصل الإخزاءُ حال ما يكونون مع النبيّ، وهذا النفيُ لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة ؛ لاحتمال أن يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ.
وأجاب الواحديُّ في " البسيط " بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ :
أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ، والثوري، وقتادة، أن قوله :" فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ. وهذا الجوابُ ضعيفٌ ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ، فإنَّما يدخلُها للخلودِ فيها.
وثانيها : أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله، وإن كان عاقبته أن يخرج منها. وهذا -أيضاً - ضعيفٌ ؛ لأنَّ موضعَ الاستدلالِ أن قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ يدل على نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ.
وثالثها : أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن :
أحدهما : الإهانة والإهلاك. وثانيهما : التخجيل، يقال : خَزِيَ خِزَايةً : إذا استحيا، وأخزاهُ غيرُه : إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه.
قال ابنُ الخطيبِ :" واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ : أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعاً، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ [ التحريم : ٨ ] غير المثبت في قوله :﴿ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ وعلى هذا يسقط الاستدلالُ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظاً متواطئاً، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ، سقط هذا الجوابُ ؛ لأن قوله :﴿ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ لنفي الجنس، وقوله :" فقد أخزيته " لإثبات النوع، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما ".
قال القرطبيُّ :" وقال أهل المعاني : الخِزي أن يكون بمعنى الحياء، يقال : خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا، فهو خَزْيان.
قال ذو الرمة :[ البسيط ]
خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ٢
فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ، والمؤمنون يموتون، فافترقوا، كذا ثبت في صحيح السنة، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، أخرجه مسلمٌ ".

فصل


احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ، وإنما قُلْنا : صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى ؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، والمؤمنُ لا يُخْزَى، وإنما قلنا : إنه مؤمنٌ ؛ لقوله تعالى :
﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [ الحجرات : ٩ ] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً، والبغي من الكبائر بالإجماع، وأيضاً قال تعالى :
﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً، فثبت أنّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يُخْزَى ؛ لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ [ التحريم : ٨ ] ولقوله :﴿ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ]، ثم قال :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾
وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجوابُ : ما تقدم من أن قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾
[ التحريم : ٨ ] إنما يدل على نَفْي الإخزاء حال كونهم مع النَّبِيّ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ.

فصل


عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع، منها قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾
[ مريم : ٧١ ] ثم قال :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ [ مريم : ٧٢ ] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الخِزْي.
ومنها : أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونونَ في النَّارِ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي، قال تعالى :
﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾
[ التحريم : ٦ ].
قوله :﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ " مِنْ " زائدة، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ، وفي مجرورها وجهانِ :
أحدهما : أنه مبتدأ، وخبره في الجارّ قبله، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً.
الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله، لاعتماده على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميعِ.

فصل


تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق ؛ وذلك لأن الشفاعة، نوع نُصْرَةٍ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ، والجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ، قال تعالى :
﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] ويؤكِّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٠- ١٠١ ].
ثانيها : أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللَّهِ تَعَالَى، قال تعالى :﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللَّهِ تَعَالَى، فقوله :﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله، كما قال :﴿ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ﴾
[ الأنعام : ٦٢ ] وقال :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفطار : ١٩ ].
فإن قيل : فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ.
فالجوابُ : بل فيه فائدةٌ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ، والنجاةِ من العقابِ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك، فصحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ.
ثالثها : أن هذه الآيةَ عامةٌ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ.
١ في أ: عموم..
٢ ينظر البيت في ديوانه ١/١٠٣ واللسان (خزا) وجمهرة أشعار العرب ص ٧٧١..
«سمع» إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو: سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأن كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ:
أحدهما: أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة، أو حالاً، إن كان معرفة.
والثاني: - قول الفارسيُّ وجماعة -: أنها تتعدى لاثنين، والجملة في محلِّ الثاني منهما، فعلى قول الجمهورِ يكون «يُنَادِي» في محل نَصْبٍ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ.
وقال الزمخشريُّ: «تقول: سمعت رجلاً يقولُ كذا، وسمعت زيداً يتكلمُ، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً منه، فأغناك عن ذِكْره، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ، وأن تقول: سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ».
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره.
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه، فقال «وقوله: ولولا الوصفُ أو الحالُ... إلى آخره، ليس كذلك، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ، ويدخل» سَمِعَ «على ذات على مسموع، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ [الشعراء: ٧٢] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع».
وأجاز أبو البقاء في «يُنَادِي» أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في «مُنَادِياً». فإن قيل: ما الفائدة في الجمع بين «مُنَادِياً» و «يُنَادِي» ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً، ثم مقيَّداً بالإيمانِ، تفخيماً لشأن المُنَادِي؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان، ونحوه قولك: مررت بهادٍ يهدي للإسلام، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب، أو لإطفاء الثائرة، أو لإغاثة المكروبِ، أو لكفاية بعض النوازلِ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق، ويهدي لسدادِ الرأي، وغير ذلك فإذا قُلْتَ: ينادي للإيمان، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته.
119
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ:
أحدها: التوكيد، نحو: قُم قَائِماً.
الثاني: أنه وصل به ما حسَّن التكرير، وهو الإيمان.
الثالث: أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون «سَمِعَ» مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ، فلمَّا قال: «يُنَادي» محذوفٌ، أي: ينادي في الناس، وبجوز ألا يُرادَ مفعول، نحو: أمات وأحيا.
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ، وب «إلى» أخرى، وكذلك نَدَبَ.
قال الزمخشريُّ: وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ: إنها بمعنى «إلى» ولا أنها بمعنى الباء، ولا أنها لام العلة - أي: لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ، كما قيل - في جهنم -: ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى﴾ [المعارج: ١٧] إذْ كان مصيرهم إليها.

فصل


اختلفوا في المراد بالمنادِي: فقال ابنُ مسعود، وابنُ عباسٍ، وأكثرُ المفسّرين: يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال القرطبيُّ: يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ﴾ [الجن: ١ - ٢]. قوله: «أَنْ آمَنُوا» في «أن» قولان:
أحدهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ.
ثانيهما: أنها مصدرية، وصلت بفعل الأمرِ، وفي وَصْلِها به نظرٌ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم. كتبت إليه بأن قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ليس إلا، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر، وإذا قيل بأنها مصدرية] فالأصل التعدي إليها بالباء، أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ.
قوله: «فآمَنَّا» عطف على ما «سَمِعْنَا» والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة، والمعنى: فآمنا بربنا.
120
قوله: ﴿رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ:
أحدهَا: غفران الذنوب، والغفران: هو الستر والتغطية.
ثانيها: التكفير، وهو التغطية - أيضاً - يقال: رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي: مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً -
قال الشاعرُ: [الكامل]
١٧١٥ -....................... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد، وأما المفسرون فقال بعضهم: المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ.
وقيل: المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنفُ.
وقيل: المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ.
وقيل: المرادُ بالأولِ: ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل.
ثالثها: قوله: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ أي: توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ، وقيل: تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، فيتعلق بمحذوف.
وأجازَ مَكِّيٍّ، وأبو البقاءِ: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي: أبراراً مع الأبرارِ، كقوله: [الوافر]
١٧١٦ - كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
أي: كأنك جمل من جمال.
قال أبو البقاء: « [تقديره] أبراراً مع الأبرار، وأبراراً - على هذا - حالٌ». والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ، بزنة: كَتِف وأكتاف، ورَبّ وأرْبَاب.
قال القفّالُ: في تفسير هذه المعية وجهانِ:
أحدهما: أن وفاتهم معهم: هي أن يموتوا على مثل أعمالهم، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ، كما تقول: أنّا مع الشافعي في هذه المسألة، أي: مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ.
121
ثانيهما: أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار، كقوله: ﴿فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين﴾ [النساء: ٦٩].

فصل


احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين:
الأول: أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً، ثم أجابهم الله تعالى بقوله: ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ.
الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم، ثم قالوا: ﴿فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله: ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنه، ولا يُدخلَهم النار - بأن يُعَذِّبهم مدةً، ثم يعفوَ عنهم، ويُخْرِجَهم من النار.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلق ب «وعدتنا».
قال الزمخشريُّ: «على - هذه - صلة للوعد، كما في قولك: وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ، والمعنى: ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ [النور: ٥٤].
وردَّ عليه أبو حيّان: بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن، أو وَصْفَيْن، أو خَبَرَيْن، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق، والجار - هنا - وقع حالاً، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً، وهو منزَّل، أو محمول؟
ثالثها: - ذكره أبو البقاء - أن يتعلق»
على «ب» آتِنَا «وقدر مضافاً، فقال: على ألْسِنة رسُلك وهو حسن. وقرأ الأعمشُ: على رُسُلِكَ - بسكون السّينِ.
فإن قيل: إن الخُلْف في وَعْد اللهِ - تعالى - محالٌ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟
فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة كقوله: {قَالَ رَبِّ
122
احكم بالحق} [الأنبياء: ١١١] وقوله:
﴿فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: ٧].
الثاني: أنَّ وعدَ اللهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل بحسب أوصافهم، فإنه - تعالى - وعد المتقين بالثوابِ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب، فقوله: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ معناه: وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي.
الثالث: أن اللهَ - تَعَالَى - وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم، فهُم طلبوا تعجيل ذلك.

فصل


دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق؛ لقولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ ثم قالوا: ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ.
فإن قيلَ: متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم: ﴿وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة﴾ بل لو طلب ترك العقاب - أولاً - ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ؟
فالجوابُ من وجهينِ:
الأول: أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور، فقوله: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ المراد منه المنافعُ وقوله: ﴿وَلاَ تُخْزِنَا﴾ المرادُ منه التعظيمُ.
الثاني: ما تقدم من أنَّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة، والعصمة عن المعصية، كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها، ويوقعنا في الخزي. وعلى هذا يحسن النظم. و «الميعاد» مصدر بمعنى الوَعْد.
قوله: ﴿يَوْمَ القيامة﴾ فيه وجهان:
الأول: أنه منصوب ب ﴿وَلاَ تُخْزِنَ﴾.
والثَّاني: أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب ﴿وَلاَ تُخْزِنَ﴾ وب ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ إذا كان الموعود به الجنة.
{فاستجاب
123
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ﴾ في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلق ب " وعدتنا ".
قال الزمخشريُّ :" على - هذه - صلة للوعد، كما في قولك : وعد اللَّه الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ، والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رُسُلك ".
ثانيها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من المفعولِ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك ؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾ [ النور : ٥٤ ].
وردَّ عليه أبو حيّان : بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن، أو وَصْفَيْن، أو خَبَرَيْن، أو صِلَتَيْن تعلَّقاً بكون مطلق، والجار - هنا - وقع حالاً، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً، وهو منزَّل، أو محمول ؟
ثالثها :- ذكره أبو البقاء - أن يتعلق " على " ب " آتِنَا " وقدر مضافاً محذوفاً، فقال : على ألْسِنة رسُلك وهو حسن.
وقرأ الأعمشُ : على رُسْلِكَ - بسكون السّينِ.
فإن قيل : إن الخُلْف في وَعْد اللَّهِ - تعالى - محالٌ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة ؟
فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة، كقوله :
﴿ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] وقوله :﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ﴾
[ غافر : ٧ ].
الثاني : أنَّ وعدَ اللَّهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل بحسب أوصافهم، فإنه - تعالى - وعد المتقين بالثوابِ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب، فقوله :﴿ وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ﴾ معناه : وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي.
الثالث : أن اللَّهَ - تَعَالَى - وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم، فهُم طلبوا تعجيل ذلك.

فصل


دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق ؛ لقولهم :﴿ وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ﴾ ثم قالوا :﴿ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ.
فإن قيلَ : متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم :﴿ وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ﴾ كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم :﴿ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ بل لو طلب ترك العقاب - أولاً - ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ ؟
فالجوابُ من وجهينِ :
الأول : أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور، فقوله :﴿ وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ﴾ المراد منه المنافعُ وقوله :﴿ وَلاَ تُخْزِنَا ﴾ المرادُ منه التعظيمُ.
الثاني : ما تقدم من أنّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة، والعصمة عن المعصية، كأنه قيل : وفقنا للطاعات، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها، ويوقعنا في الخزي. وعلى هذا يحسن النظم. و " الميعاد " مصدر بمعنى الوَعْد.
قوله :﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ فيه وجهان :
الأول : أنه منصوب ب ﴿ وَلاَ تُخْزِنَا ﴾.
والثَّاني : أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب ﴿ وَلاَ تُخْزِنَا ﴾ وب ﴿ وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ﴾ إذا كان الموعود به الجنة.
} لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب ﴿﴾ بمعنى: أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام، وتقدم تحقيقه في قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾.
123
ونقل تاج القراء أن «أجَابَ» عام، و «اسْتَجَابَ» خاص في حصول المطلوب.
قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات «ربَنا» نجّاه مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال اقرءوا: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ [آل عمران: ١٩١] إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ [آل عمران: ١٩٤].
قوله تعالى: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ﴾ الجمهور على فتح «أن» والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان، وقل أن يأتي على هذا الأصل، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر، وفيها وجهان:
أحدهما: على إضمار القول أي: فقال: إني.
والثاني: أنه على الحكاية ب «استجاب» ؛ لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين.
قوله: «لا أضيع» الجمهور على «أضيع» من أضاع، وقرئ بالتشديد والتضعيف، والهمزة فيه للنقل كقوله: [الطويل]
١٧١٧ - كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ
قوله: «منكم» في موضع جر صفة ل: «عامل»، أي: كائناً منكم.
قوله: «من ذكر وأنثى» فيه خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن «مِنْ» لبيان الجنسِ، بيِّن جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكرٌ أو أنثى، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ.
ثانيها: أنَّهَا زائدةٌ، لتقدم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون ﴿مِّن ذَكَرٍ﴾ بدلاً من نفس «عَامِلٍ»، كأنه قيل: عامل ذكر أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه «من».
ثالثها: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في «مِنْكُمْ» ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً، والعامل في الحال العامل في «مِنْكُمْ» أي: عامل كائن منكم كائناً من ذكر.
رابعها: أن يكون «مِنْ ذكرٍ» بدلاً من «مِنْكُمْ» ؛ قال أبو البقاء: «وهو بدلُ الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة».
يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل، كقوله: ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [
124
الأعراف: ٧٥] وقوله: ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣] وفيه إشكالٌ من وجهينِ:
الأول: أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة، كقوله: [الطويل]
١٧١٨ - فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا
وقوله تعالى: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ: [البسيط]
١٧١٩ - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وقول الآخرِ: [الطويل]
١٧٢٠ - وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ
ف «قريش» بدلٌ من «كم» و «بمستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرف الجر، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ.
الثاني: أن البدلَ التفصيليّ لا يكون ب «أو» إنما يكون بالواو؛ لأنها للجمع.
كقولِ الشّاعرِ: [الطويل]
١٧٢١ - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ويُمكن أن يجابَ عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو.
كما في قول الشّاعرِ: [الكامل]
١٧٢٢ - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ
ف «أو» بمعنى الواو، لأن «بين» لا تدخل إلا على متعدد، وكذلك هنا لما كان «عامل» عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله.
125
خامسها: أن يكون ﴿مِّن ذَكَرٍ﴾ صفة ثانية لِ «عامل» قصد بها التوضيح، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها.
قوله: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
الأولُ: أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين؛ لأنه روي في سبب النزولِ، أنَّ أمَّ سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة، ولا يذكر النَِّسَاءَ، فنزلت الآية.
والمعنى: كما أنكم من أصلٍ واحدٍ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ، كذلك أنتم في ثواب العملِ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ. وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة، قال: «وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ».
ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله: ﴿عَمَلَ عَامِلٍ﴾ وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله: ﴿فالذين هَاجَرُواْ﴾ ولذا قال الزمخشريُّ: ﴿فالذين هَاجَرُواْ﴾ تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ.
الثاني: أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ.
الثالث: أنَّها حالٌ، ذكرهما أبو البقاءِ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال، وفيه نظرٌ.
قال الكلبي: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» في الدين والنصرة والموالاة.
وقيل: كلكم من آدم وحوَّاء، وقال الضّحّاك: [رجالكم] شكب نسائكم، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات؛ لقوله: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١].
وقيل: «مِنْ» بمعنى اللامِ، أي: بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفَّالُ: هذا من قولكم: فرن مني، أي: عَلَى خلقي وسيرتي. قال تعالى: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ [البقرة: ٢٤٩] وقال عليه السَّلامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فقوله: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ أي: بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية.

فصل


ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ - كما وجد - تلاشى وفني، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ، والإضاعة: عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ، «لاَ أضِيعُ» نفي للنفي، فيكون إثباتاً، فيصير المعنى: إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم، وإذا ثبت
126
ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً، وبمعصيته استحق عقاباً، فلا بد من وصولهما إليه - بحكم هذه الآية - والجمع بينهما مُحَالٌ، فإما أن يقدم الثواب، ثم يعاقب، وهو باطلٌ بالإجماعِ، أو يقدم العقاب، ثم ينقل إلى الثّوابِ. وهو المطلوب.
فإن قيلَ: القوم طلبوا - أولاً - غفران الذنوب، وثانياً: إعطاء الثواب، فقوله: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب.
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ﴾ إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن.
قال ابنُ الخطيبِ: «وعندي - في الآية - وَجْه آخر، وهو أن المراد من قوله: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي لا يضيع دُعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه».
قوله: ﴿فالذين هَاجَرُواْ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ جواب قسم محذوف، تقديره: والله لأكَفِّرَنَّ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩] وقولِ الشاعر: [الكامل]
١٧٢٣ - جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً، وله أن يقول: هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ - وله نظائر.
والظاهرُ أن هذه الجُمَل - التي بعد الموصولِ - كُلَّها صِلات له، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ: المهاجرة، والقَتْل، والقتال.
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير: فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا: فيكون الخبر بقوله: ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة: «وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا» ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من «قُتلوا» للتكثير،
127
وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأولِ للمفعول، والثاني للفاعلِ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ:
الأول: أنّ الواو لا تقتضي الترتيب، كقوله:
﴿واسجدي واركعي﴾ [آل عمران: ٤٣] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ.
الثاني: أن تحمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِلَ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم: قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله: ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٤٦] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة: ١١١] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا - ببناء الأولِ للفاعل، والثاني للمفعول - من «فعل» ثلاثياً، وهي كقراءة الجماعة، وقرأ محارب بن دثار: وقَتَلوا وقَاتَلُوا - ببنائهما للفاعل - وقرأ طلحة بن مُصرِّف: وقُتِّلوا وقاتلوا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أنه شدد التاء، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان - عن الحسنِ وأبي رجاء - قاتلوا وقتّلوا، بتشديد التاءِ من «قُتّلوا» وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ - كما تقدم - وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما.

فصل


هذه في المهاجرينَ الذين أخرجهم المشركون من ديارهم، فقوله: ﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾ أي: في طاعتي وديني.
﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً﴾ قوله: «ثواباً» في نصبه ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه، والتقدير: لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع «ثَوَاباً» موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ - في الأصل - اسم لما يُثَابُ به، كالعطاء - اسم لما يُعْطَى - ثم قد يقعان موضع المصدر، وهو نظير قوله: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] و ﴿وَعْدَ الله﴾ [القصص: ١٣] في كونهما مؤكدينِ.
ثانيهما: أن يكون حالاً من «جَنَّاتٍ» أي: مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة.
128
ثالثها: أنها حالٌ من ضمير المفعول، أي: مثابين.
رابعها: أنه حالٌ من الضمير في «تَجْرِي» العائد على «جَنَّات» وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ، قال: وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ضمير الجنّاتِ، أي: مثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من] ضمير المفعول به في «لأدْخِلَنَّهُم».
خامسها: نصبه بفعل محذوف، أي: نعطيهم ثواباً.
سادسها: أنه بدل من «جَنَّاتٍ» وقالوا: على تضمين «لأدْخِلَنَّهُمْ» لأعْطِيَنَّهُمْ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه، احتاجوا إلى ذلك.
ولقائل أن يقول: جعل الثواب ظرفاً لهم، مبالغة، كما قيل في قوله: ﴿تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩].
سابعها: أنه نصب على التمييز، وهو مذهب الفرّاء.
ثامنها: أنه منصوبٌ على القطعِ، وهو مذهبُ الكسائيّ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ.
وقوله: ﴿مِّن عِندِ الله﴾ صفةٌ له، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف، كقول السلطانِ العظيم: أخلع عليك خلعة من عندِي.
قوله: ﴿والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب﴾ الأحسن أن يرتفع ﴿حُسْنُ الثواب﴾ على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله، والتقدير: والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ.
ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف قبله خبره، والجملة خبرُ الأولِ.
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد - وهو الأصل - بخلاف الثّانِي، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ.
129
الغرور: مصدر قولك: غَرَرْت الرجل بما يستحسنه في الظاهر، ثم يجده - عند التفتيش - على خلاف ما يجب.
نزلت في المشركينَ، وذلك أنهم كانوا في رخاءٍ ولينٍ من العيش وتنعم، فقال بعض المؤمنينَ: إنَّ أعداءَ اللهِ فيما نرى من الخير، ونحن في الجَهْد، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ﴾ في ضَرْبهم «فِي الْبِلادِ» وتصرُّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب. فالخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرادُ منه غيره.
129
قال قتادةُ: واللهِ ما غروا نبيَّ الله قط، حتى قبضه اللهُ تَعَالَى، ويمكن أن يقالَ: سبب عدم إغراره هو تواتُر الآيات عليه، لقوله: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ [الإسراء: ٧٤] فسقط قولُ قتادةَ.
قوله: «مَتَاعٌ» خبر مبتدأ محذوف، دَلَّ عليه الكلام، تقديره: تقلبهم، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف، أي: بئس المهاد جهنم. ومعنى «مَتَاعٌ قَلِيلٌ» أي: بُلْغة فانية، ومُتْعة زائلة.
وإنما وصفه بالقِلَّة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي - وهو الأزل والأبد - كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده: ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد﴾ يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً.
130
قوله :" مَتَاعٌ " خبر مبتدأ محذوف، دَلَّ عليه الكلام، تقديره : تقلبهم، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف، أي : بئس المهاد جهنم. ومعنى " مَتَاعٌ قَلِيلٌ " أي : بُلْغة فانية، ومُتْعة زائلة.
وإنما وصفه بالقِلَّة ؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي - وهو الأزل والأبد - كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده :﴿ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً.
قرأ الجمهورُ بتخفيف «لكن» وأبو جعفر بتشديدها، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمال المخففة، وعلى الثانية في محل نصب.
ووقعت «لكِن» هنا أحسن موقع؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن، وذلك أن معنى الجملتينِ - التي بعدها والتي قبلها - آيلٌ إلى تعذيب الكفار، وتنعيم المؤمنين المتقين. ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة - من حيث هي - متصفة بذلك، فاستدرك أنَّ المتقينَ - وإن أخذوا في التجارة - لا يضرهم ذلك، وأنَّ لهم ما وعدهم به.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ:
أحدهما: الرفع، على النعت لِ «جَنَّاتٌ».
والثاني: النصبُ، على الحال من الضمير المستكن في «لَهُمْ» قال: «وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في» لَهُمْ «إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت» جَنَّاتٌ «بالابتداء، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في» لَهُمْ «ضميرٌ مرفوعٌ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله». يعني أنّ «جَنَّاتٌ» يجوز فيها رفعها من وجهين:
130
أحدهما: الابتداء، والجار قبلها خبرها، والجملة خبر «الَّذِينَ اتَّقوا».
ثانيهما: الفاعلية؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوْا». وقد تقدم أن هذا أوْلَى، لقُربه من المفرد.
فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ وجهان: وجهان: الرفع على النعت، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في «لَهُمْ» لتحمُّله - حينئذٍ - ضميراً.
وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع؛ نعتاً لها، ولا يجوز النصبُ على الحال، لأن «لَهُمْ» ليس فيه - حيئذٍ - ضمير؛ لرفعه الظاهر.
و «خَالِدِينَ» نُصِبَ على الحالِ من الضمير في «لَهُمْ» والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ.
قوله: «نُزُ لاً» النُّزُل: ما يُهَيَّأ للنزيل - وهو الضيف.
قال أبو العشراء الضبي: [الطويل]
١٧٢٤ - وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا
هذا أصله، ثم اتُّسِع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء - وإن لم يكن لضيف - ومنه قوله تعالى: ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٣] وفيه قولانِ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل، كقول الأعشى: [البسيط]
١٧٢٥ -.............................. أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر المؤكّد، لأنه معنى «لَهُمْ جَنَّاتٌ» : نُنْزِلُهم جنات نزلاً، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله: «كأنه قيل: رزقاً، أو عطاءً من عند اللهِ».
ثانيها: نصبه بفعل مُضْمَر، أي: جعلنا لهم نُزُلاً.
ثالثها: نَصبه على الحال من «جَنَّات» لأنها تخصَّصَت بالوَصْف.
رابعها: أن يكون حالاً من الضمير في «فِيهَا» أي مُنزّلةً - إذا قيل بأنّ «نُزلاً» مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ.
131
خامسها: أنه حالٌ من الضمير المستكن في «خَالِدِينَ» - إذا قُلْنَا: إنه جمع نازل - قاله الفارسيُّ في التذكرة.
سادسها: وهو قول الفرّاء - نصبه على التفسير - أي التمييز - كما تقول: هو لك هبةً، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً.
والجمهور على ضم الزاي، وقرأ الحسنُ، والأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، بسكونها، وهي لغةٌ، وعليها البيتُ المتقدم. وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق الأول.
قوله: ﴿مِّنْ عِندِ الله﴾ فيه ثلاثة أوجه، لأنك إن جعلت «نُزُلاً» مصدراً، كان الظرفُ صفةً له، فيتعلق بمحذوف، أي: نزلاً كائناً من عند اللهِ أي: على سبيلِ التكريمِ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ:
أحدهما: جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ، تقديره: نُزُلاً إياها.
ثانيهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: ذلك من عند الله؛ نقل ذلك أبو البقاءِ.
قوله: ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ﴾ «ما» موصولة، وموضعها رفع بالابتداء والخبر «خَيْرٌ» و «للأبْرَارِ» صفة لِ «خير» فهو في محل رفع، ويتعلق بمحذوفٍ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس «خَيْرٍ» فإنه قال: و «للأبرارِ» متعلق ب «خَيْرٌ».
وأجاز بعضهم أن يكون «لِلأبْرَارِ» هو الخبر، و «خَيْرٌ» خبر ثانٍ، قال أبو البقاء: «والثاني - أي: الوجه الثاني -: أن يكون الخبر» لِلأبْرَارِ «والنية به التقديمُ، أي: والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ، و» خَيْرٌ «- على هذا - خبرٌ ثانٍ».
وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس - كالصفة - فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ؟.
ونقل أبو البقاء - عن بعضهم - أنه جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف، «خّيْرٌ» خبر المبتدأ، قال: «وهذا بعيدٌ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار».
قال أبو حيّان: «وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور - إذ ذاك - يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع
132
صلة للموصول، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها».
فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه - أعني جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحالِ - حينئذ - الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً، فيلزم ما قاله، وإن عنى به الوجهَ الأول - أعني: جعل «لِلأبْرَارِ» خبراً، والنية به التقديم وب «خَيْرٌ» التأخير كما ذكر أبو البقاءِ، فلا يلزم ما قال؛ لأنّ «لِلأبْرَارِ» - حينئذٍ - يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ.
و «خَيْرٌ» - هنا - يجوز أن يكون للتفضيل، وأن لا يكون، فإن كان للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.
133
قال جابرٌ، وابنُ عبّاسٍ، وقتادةُ، وأنسٌ: نزلت في النجاشي - ملك الحبشة - واسمه أصْحَمة، وهو - بالعربية - عطية، «وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ - عليه السّلام - لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في اليوم الذي مات فيه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اخرجوا، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم، فقالوا: مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ، فخرج إلى البقيع، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ، فأبصر سريرَ النجاشي، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ، واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ، نصرانيٍّ، لم يَرَه قطّ، وليس على دينه.» فأنزل الله هذه الآية.
قال عطاءٌ: نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة، وثمانيةٍ من الرُّوم، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن جُرَيْحٍ: نزلت في عبد اللهِ بن سلام وأصحابه. وقال مُجَاهدٌ: نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم.
قوله: ﴿لَمَن يُؤْمِنُ﴾ اللام لام الابتداء، دخلت على اسم «إنَّ» لتأخُّرهِ عنها، و «مِنْ
133
أهْلِ» خبرٌ مقدَّمٌ و «من» يجوز أن تكونَ موصولةً - وهو الأظهر - وموصوفة، أي: ل «قوماً»، و «يؤمن» صلة - على الأول - فلا محلَّ له، وصفة - على الثاني - فمحله النصب، وأتى - هنا - بالصلة مستقبلة - وإن كان ذلك قد مضى - دلالة على الاستمرار والديمومة.
والمعنى: إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم، وهو القرآنُ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم، وهو التوراة والإنجيل.
قوله: ﴿خَاشِعِينَ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه حالٌ من الضمير في «يؤمن» وجَمَعَه، حَمْلاً على معنى «مَنْ» كما جمع في قوله: «إلَيْهِمْ» وبدأ بالحمل على اللفظ في «يُؤْمِن» ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى.
ثانيها: أنه حال من الضمير في «إلَيْهِمْ» فالعامل فيه «أنْزِلَ».
ثالثها: أنه حال من الضمير في «يَشْتَرُون» وتقديم ما في حيِّز «لا» عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة.
رابعها: أنه صفة لِ «من» إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة، سواء كانت موصولةٌ، أو نكرة موصوفة.
قوله: «للهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «خَاشِعِينَ» أي: لأجل الله.
ثانيهما: أنه متعلق ب «لاَ يَشْتَرُونَ» ذكره أبو البقاء، قال: «وهو في نية التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله».
قوله: ﴿لاَ يَشْتَرُونَ﴾ كقوله: ﴿خَاشِعِينَ﴾ إلا في الوجه الثالث، لتعذره، ويزيد عليها وجهاً آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «خَاشِعينَ» أي: غير مشترين.
وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل في البقرة.
ومعناه: أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم، ولا يكتمون صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل الرياسة والمأكلة، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ.
واعلم أنه - تعالى - لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب، بيَّن - هنا - أنَّ مِنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثَّوابِ.
وقد وصفهم بصفات:
أولها: الإيمان بالله.
ثانيها: الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وثالثها: الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه.
ورابعها: كونهم خَاشِعِينَ لله.
134
وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿أولاائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ «أولئك» مبتدأ، وأما «لَهُمْ أجْرُهُمْ» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون «لَهُمْ» خبراً مقدَّماً، و «أجْرُهُمْ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الأول، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ:
الأول: أنه متعلق ب «أجْرُهُمْ».
الثاني: أنه حال من الضمير في «لَهُمْ» وهو ضمير الأجر، لأنه واقع خبراً.
ثانيها: أن يرتفع «أجْرُهُمْ» بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلا أنّ الحال من «أجْرُهُمْ» الظاهر؛ لأن «لَهُمْ» لا ضمير فيه حينئذ.
ثالثها: أن الظرف هو خبر «أجْرُهُمْ» و «لَهُمْ» متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾
135
قال ابنُ الخطيبِ: «ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآدابِ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بُدَّ فيه من الصَّبْر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة».
قال الحسن: اصبروا على دينكم، فلا تدعوه لشِدَّةٍ لا رَخَاءٍ.
وقال قتادة: اصبروا على طاعةِ الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله.
وقال الضحاكُ، ومقاتل بنُ سليمان: على أمر اللهِ. وقال مقاتلُ بن حيان: على فرائض الله. وقال زيد بن أسلم: على الجهاد. وقال الكلبيّ على البلاء.
واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع: الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات، وعلى الاحتراز عن المنهيَّات، وعلى شدائد الدُّنْيا من الفَقْر، والقحط والخوف، وأما المصابرة فهي تَحَمُّل المكاره الواقعة بينه وبيْنَ غيره، كتحَمُّل الأخلاق الردئيةِ من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] وإيثار الغير على نفسه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله: ﴿اصبروا وَصَابِرُواْ﴾ من الجناس اللفظي، وكذلك قوله: ﴿اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ﴾ [التوبة: ٣٨] «وصابروا» يعني الكفار، «ورابطوا» يعني المشركين.
قال أبو عبيدة: «أي: اثبتوا ودَاوِمُوا» والربطُ: الشد، وأصل المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يمون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخرِ ثم قيل
135
لكل مقيم في ثَغْرٍ يدفع عَمَّنْ وراءه: مرابط، وإن لم يكن له مركوبٌ مربوطٌ.
قال - عليه السلام -: «رِباط يَوْم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها، وموضع سَوْطِ أحَدِكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها».
﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال بعضهم: اصبروا على النَّعْماء، وصابروا على البأساء والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء.
وقيل: المرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمةَ بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمنِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. واحتج أبو سلمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألاَ أدلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرةُ الْخُطَا إلى المَسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قَالَ: فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ» ثلاث مراتٍ - وقيل الرباط: اللزوم والثبات، وهذا المعنى يعم ما تقدم.
روى ابنُ عباسِ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ السُّورَةَ الَّتِي يُذكر فِيهَا آل عِمْرانَ يَومَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلاَئِكتهُ حَتَّى تُحْجَب الشَّمس».
وعن أبَيٍّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ آلِ عمرانَ أعْطي بكل آيةٍ منها أمَاناً على جِسْر جَهَنَّمَ» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ».
وعن العرس بن عُمَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، وَإنَّهُمَا يَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ مَلَكَيْنِ يَشْفَعَانِ لَصَاحِبِهمَا حَتَّى يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ».
136
قيل: سُمِّيتَ البَقَرَةُ وآل عمران بالزَّهْرَاوَيْنِ؛ لأنهما نُورَان، مأخوذ من الزَّهر والزَّهرة.
وقيل: لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئهُمَا بما يُزْهِرُ له من نُورِهما، أي مَعَانيهما.
وقيل: لما يُثِيبُ على قراءتها من النُّورِ التَّامِّ يوم القيامة.
وقيل: لما تَضَمَّنَتَاهُ من اسْمِ الله الأعظمِ، كما رَوَى أبو دَاوُدَ وغيره عن أسْمَاءَ بنت يَزيدَ؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم﴾ [البقرة: ١٦٣]، والتي في آل عمران: ﴿الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ٢].»
137
سورة النساء مدنية
وهي مائة وست وتسعون آية، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة، وستة عشر ألفا وثلاثة وثلاثون حرفا. قال القرطبي: هذه السورة مدنية إلا آية واحدة منها [وهي] قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ [النساء: ٥٨] فإنها نزلت ب " مكة " عام الفتح، وفي عثمان بن طلحة على ما سيأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة. وقيل: إن قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس﴾ حيث وقع في القرآن إنما هو مكي. قاله علقمة وغيره: " فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني ". وقال النحاس: " هذه السورة مكية ". وقال القرطبي: والصحيح الأول. قال في " صحيح البخاري ": " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعني قد بنى بها، ولا خلاف بين العلماء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها، وأما من قال: ﴿يا أيها الناس﴾ [مكي] حيث وقع، فليس بصحيح. قال: البقرة مدنية وفيها ﴿يا أيها الناس﴾ مرتين في موضعين.
138
Icon