تفسير سورة آل عمران

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ وَالثِّقَلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ فَالْمُوجِبُ لِلثِّقَلِ وَالضِّيقِ وَالْحَرَجِ مَحْجُوجٌ بِالْآيَةِ نَحْوَ إيجَابِ النِّيَّةِ في الطهارة وإيجاب التَّرْتِيبِ فِيهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ يُجَوِّزُ لَنَا الِاحْتِجَاجَ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَوْله تَعَالَى رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَشْتَدُّ وَيَثْقُلُ مِنْ التَّكْلِيفِ كَنَحْوِ مَا كُلِّفَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يُعَبِّرَ بِمَا يَثْقُلُ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ كَقَوْلِك مَا أُطِيقُ كَلَامَ فُلَانٍ وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَرَاهُ وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِبُعْدِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَكَلَامِهِ وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْمَاعٌ صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا اسْتِمَاعَهُ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ لَا يُحَمِّلْنَا مِنْ الْعَذَابِ مَا لَا نُطِيقُهُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أعلم بالصواب.
سورة آل عمران

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِهِ وَالْآخَرُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ دُونَ بَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وَقَالَ تَعَالَى الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فَوَصَفَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالْإِحْكَامِ وَقَالَ تَعَالَى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ فَوَصَفَ جَمِيعَهُ بِالْمُتَشَابِهِ ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه مُتَشَابِهٌ وَالْإِحْكَامُ الَّذِي عَمَّ بِهِ الْجَمِيعَ هُوَ الصَّوَابُ وَالْإِتْقَانُ اللَّذَانِ يَفْضُلُ بِهِمَا الْقُرْآنُ كُلَّ قَوْلٍ وَأَمَّا مَوْضِعُ الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّفْظُ الَّذِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ وَلَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ سَامِعِهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ قَدْ انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْإِحْكَامِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ الذي جعل
280
أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ وَيُحْمَلُ مَعْنَاهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي عَمَّ بِهِ جَمِيعَ القرآن في قوله تعالى كِتاباً مُتَشابِهاً فَهُوَ التَّمَاثُلُ وَنَفَى الِاخْتِلَافَ وَالتَّضَادَّ عَنْهُ وَأَمَّا المتشابه الخصوص بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَقَاوِيلَ السَّلَفِ فِيهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ فَهَذَا عِنْدَنَا هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ غَيْرَهُمَا وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى النَّاسِخُ مُحْكَمًا لِأَنَّهُ ثَابِتُ الْحُكْمِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبِنَاءَ الْوَثِيقَ مُحْكَمًا وَيَقُولُونَ فِي الْعَقْدِ الْوَثِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِلُّهُ مُحْكَمًا فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى النَّاسِخُ مُحْكَمًا إذْ كَانَتْ صِفَتُهُ الثَّبَاتَ وَالْبَقَاءَ وَيُسَمَّى الْمَنْسُوخُ مُتَشَابِهًا مِنْ حَيْثُ أَشْبَهَ فِي التِّلَاوَةِ الْمُحْكَمَ وَخَالَفَهُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَيَشْتَبِهُ عَلَى التَّالِي حُكْمُهُ فِي ثُبُوتِهِ وَنَسْخِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى الْمَنْسُوخُ مُتَشَابِهًا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الَّذِي لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الَّذِي تَتَكَرَّرُ أَلْفَاظُهُ فَإِنَّ اشْتِبَاهَ هَذَا مِنْ جِهَةِ اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى السَّامِعِ وَهَذَا سَائِغٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا يَشْتَبِهُ فِيهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ عَلَى السَّامِعِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَيَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُهُ فَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُتَشَابِهِ وَمَا لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ وَجْهُ الحكمة على السامع فَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا تَشَابُهَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ وُجُوهِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ فِيهِ سَائِغٌ جَائِزٌ وأما ما روى عن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا يُعْلَمُ تَعْيِينُ تأويله والمتشابه ما لا يعلم تأويله كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَإِنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ سَائِغٌ فِيهِ لِأَنَّ مَا عُلِمَ وَقْتُهُ وَمَعْنَاهُ فَلَا تَشَابُهَ فِيهِ وَقَدْ أُحْكِمَ بَيَانُهُ وَمَا لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ وَمَعْنَاهُ وَوَقْتُهُ فَهُوَ مُشْتَبِهٌ عَلَى سَامِعِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ عَلَى مَا رُوِيَ فِيهِ وَلَوْلَا احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرُوا لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّذِي يَنْتَظِمُهَا هَذَا الِاسْمُ لِأَنَّ الْمُحْكَمَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ سُمِّيَ مُحْكَمًا لَإِحْكَامِ دَلَالَتِهِ وَإِيضَاحِ مَعْنَاهُ وَإِبَانَتِهِ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُحْكَمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحْتَمَلَ مَعْنَاهُ وَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِمَّا يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْمُحْكَمِ فَسُمِّيَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمَّا كَانَ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ يَعْتَوِرُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُعَانَى احْتَجْنَا إلَى معرفة المراد منها بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ
281
الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ مَعَ عِلْمِنَا بِمَا فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَالْأُمُّ هِيَ الَّتِي مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ فَسَمَّاهَا أُمًّا فَاقْتَضَى ذَلِكَ بِنَاءَ الْمُتَشَابِهِ عَلَيْهَا وَرَدَّهُ إلَيْهَا ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فَوَصَفَ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْلِهِ لَهُ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ بِالزَّيْغِ فِي قَلْبِهِ وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ
مُبْتَغٍ لِلْفِتْنَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْكُفْرَ فَأَخْبَرَ أَنَّ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ وَحَامِلَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمُحْكَمِ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ يَعْنِي الْمَيْلَ عَنْ الْحَقِّ يَسْتَدْعِي غَيْرَهُ بِالْمُتَشَابِهِ إلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِلْمَعَانِي الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ ثُمَّ نَظَرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي تَعْتَوِرُ هَذَا اللَّفْظَ وَتَتَعَاقَبُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي أَقْسَامِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ فَوَجَدْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ تَارِيخُهُمَا مَعْلُومًا فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِمَا عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَارِيخِهِمَا وَعَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمَنْسُوخَ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ وَأَنَّ النَّاسِخَ ثَابِتُ الْحُكْمِ فَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ عَلَى السَّامِعِ الْعَالِمِ بِتَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا احْتِمَالَ فِيهِمَا لِغَيْرِ الناسخ وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى السَّامِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّارِيخَ فَهَذَا لَيْسَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أولى بكونه محكما من الآخر ولا يكونا مُتَشَابِهًا مِنْهُ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا فَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُهُ فَهَذَا أَيْضًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى رَدِّهِ إلَى المحكم وإنما يحتاج إلى تدبيره بِعَقْلِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى مَا فِي اللُّغَةِ مِنْ تَجْوِيزِهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُحْكَمَ مَا عُلِمَ وَقْتُهُ وَتَعْيِينُهُ وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُعْلَمُ تَعْيِينُ تَأْوِيلِهِ كَأَمْرِ السَّاعَةِ وَصَغَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي آيَسَنَا اللَّهُ مِنْ وُقُوعِ عِلْمِنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا وَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَيْضًا مِنْهَا خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا لَا نَصِلُ إلَى عِلْمِ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِمَّا يَجِبُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى
282
الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَا اشْتِرَاكَ فِي لَفْظِهِ مِنْ نَظَائِرِ مَا قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى وَجْهَيْنِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ السَّلَفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بتناولها الِاسْمُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهِهَا وَيَكُونُ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ هُوَ هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ لِامْتِنَاعِ إمْكَانِ حَمْلِ سَائِرِ وُجُوهِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ ثُمَّ يكون قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ مَعْنَاهُ تَأْوِيلُ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ حَتَّى لَا يَسْتَوْعِبَ غَيْرُهُ عِلْمَهَا فَنَفَى إحَاطَةَ عِلْمِنَا بِجَمِيعِ مَعَانِي الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ الْآيَاتِ وَلَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ نَعْلَمَ نَحْنُ بَعْضَهَا بِإِقَامَتِهِ لَنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ لِأَنَّ فِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّا نَعْلَمُ بَعْضَ الْمُتَشَابِهِ بِرَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَحَمْلِهِ عَلَى مَعْنَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَتَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّا لَا نَصِلُ إلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ نَافٍ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ فَمِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْعِلْمِ لَنَا بِهِ وَقْتُ السَّاعَةِ وَالذُّنُوبُ الصَّغَائِرُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ وُرُودَ لَفْظٍ مُجْمَلٍ فِي حُكْمٍ يَقْتَضِي الْبَيَانَ وَلَا يُبَيِّنُهُ أَبَدًا فَيَكُونُ فِي حَيِّزِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا نَصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَجَعَلَ الْوَاوَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ للجمع كقول القائل لقيت زيدا وعمرا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَجَعَلَ الْوَاوَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَابْتِدَاءِ خِطَابٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَالِمِينَ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِ عَالِمِينَ بِجَمِيعِهِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْله تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ- يعنى شكا- ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ الشُّبُهَاتُ بِمَا هَلَكُوا لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَرُوِيَ عَنْ ابن عباس ويقولون
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ والراسخون في العلم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ وَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَمَا يعلم تأويله إلا الله يَعْنِي تَأْوِيلَ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ
283
بَعْضَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا يَعْنِي مَا نُصِبَ لَهُمْ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي بِنَائِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدِّهِ إلَيْهِ وَمَا لم يجعل لهم سبيل إلَى عِلْمِهِ مِنْ نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْضَ قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا أَخْفَى عَنَّا عِلْمَ مَا غَابَ عَنَا عِلْمُهُ إلَّا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَنَا وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَمَا أَعْلَمَنَا وَمَا يُعْلِمْنَاهُ إلَّا لِمَصْلَحَتِنَا وَنَفْعِنَا فَيَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْجَمِيعِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا عَلِمُوا مِنْهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْكَلَامِ وَتَمَامُهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِقْبَالِ دُونَ الْجَمْعِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ لَقَالَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ ذِكْرَ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْخَبَرِ وَقَالَ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ قَسْمِ الْفَيْءِ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ- إلى قوله تعالى- شَدِيدُ الْعِقابِ ثُمَّ تَلَاهُ بِالتَّفْصِيلِ وَتَسْمِيَةُ مَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْفَيْءَ فَقَالَ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً- إلى قوله تعالى- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهُمْ لَا مَحَالَةَ دَاخِلُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَيْءِ كَالْأَوَّلِينَ وَالْوَاوُ فِيهِ لِلْجَمْعِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ مَعْنَاهُ قَائِلِينَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا كَذَلِكَ قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ مَا نُصِبَ لَهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ قَائِلِينَ رَبَّنَا آمَنَّا بِهِ فَصَارُوا مَعْطُوفِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلِينَ فِي حَيِّزِهِ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفْرِغٍ الْحِمْيَرِيُّ:
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هَامَهْ فَالرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الغمامه والمعنى والبرق يبكى شجوه لا معا فِي الْغَمَامَةِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ فَيَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ تَأْوِيلَهُ إذَا اسْتَدَلُّوا بِالْمُحْكَمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَتُهَا الْجَمْعَ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَلَا دَلَالَةَ مَعَنَا تُوجِبُ صَرْفَهَا عَنْ الْحَقِيقَةِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الْجَمْعِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْمُحْكَمِ مُقَيَّدًا بِمَا فِي الْعَقْلِ وَقَدْ يُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيُبْطِلُ فَائِدَةَ الِاحْتِجَاجِ
284
بِالْمُحْكَمِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا هُوَ فِي تَعَارُفِ الْعُقُولِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِمَا تَعَارَفَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْعَقْلِ فِيهِ إلَى مُقَدِّمَاتٍ بَلْ يُوقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ بِمَعْنَى مُرَادِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ دُونَ عَادَاتٍ فَاسِدَةٍ قَدْ جَرَوْا عَلَيْهَا فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ إلَّا مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ فَأَمَّا الْعَادَاتُ الْفَاسِدَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَجْهُ اتِّبَاعِ مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ دُونَ مَا أُحْكِمَ قِيلَ لَهُ نَحْوُ مَا
رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسِيحِ فَقَالُوا أَلَيْسَ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وروح مِنْهُ فَقَالَ بَلَى فَقَالُوا حَسْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَصَرَفُوا قَوْلَهُ كَلِمَةُ اللَّهِ إلَى مَا يَقُولُونَهُ فِي قِدَمِهِ مَعَ اللَّهِ وَرُوحِهِ صَرَفُوهُ إلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ قَدِيمٌ مَعَهُ كَرُوحِ الْإِنْسَانِ وإنما أراد الله تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَمَاهُ كَلِمَةً مِنْ حَيْثُ قَدَّمَ الْبِشَارَةَ بِهِ وَسَمَاهُ رُوحَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بَلْ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَفَخَ فِي جَيْبِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَأَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهُ كَبَيْتِ اللَّهِ وَسَمَاءِ اللَّهِ وَأَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقِيلَ إنَّهُ سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى الْقُرْآنَ رُوحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ رُوحًا مِنْ حَيْثُ كَانَ فِيهِ حَيَاةُ النَّاسِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ فَصَرَفَ أَهْلُ الزَّيْغِ ذَلِكَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَإِلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقَالَ قَتَادَةُ أَهْلُ الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية
قَوْله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمَّا هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ بِسُوقِ قَيْنُقَاعَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَحَذَّرَهُمْ مِثْلَ مَا نزل بقريش من الانتقام فأبوا وقالوا ألسنا كَقُرَيْشٍ الْأَغْمَارِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ لَئِنْ حَارَبْتنَا لَتَعْرِفَنَّ أَنَّا النَّاسُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ رسول الله ﷺ لما فِيهَا مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ غَلَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّفَاقِ مَعَ كَثْرَةِ مَا أَخْبَرَ به عن الغيوب فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَوُجِدَ مُخْبَرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِالْغُيُوبِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ
الْخَلْقِ الْإِخْبَارُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ثُمَّ يَتَّفِقُ مُخْبَرُ إخْبَارِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ لِشَيْءٍ مِنْهُ
وقَوْله تَعَالَى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْفِئَةُ الرَّائِيَةُ لِلْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ فَرَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَمْثَالَهُمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ فَقَلَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ لِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ آخَرُونَ قَوْلُهُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ مُخَاطِبَةٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وقوله قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَتَمَامٌ لَهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرِينَ رَأَوْا الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ وَأَرَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ لِيُجَنِّبَ قُلُوبَهُمْ وَيُرْهِبَهُمْ فَيَكُونُ أَقْوَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَحَدُ أَبْوَابِ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْخِذْلَانِ لِلْكَافِرِينَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا غَلَبَةُ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ لِلْكَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَجْرَى الْعَادَةِ لِمَا أَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ اللِّقَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالَ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ
وَكَانَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَوْله تَعَالَى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قَالَ الْحَسَنُ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَشَدَّ ذَمًّا لَهَا مِنْ خَالِقِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ زَيَّنَهَا اللَّهُ بِمَا جَعَلَ فِي الطِّبَاعِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ إلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها وَقَالَ آخَرُونَ زَيَّنَ اللَّهُ مَا يَحْسُنُ مِنْهُ وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ مَا يَقْبُحُ مِنْهُ
وقَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ الْآيَةَ
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ
يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا حِينَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ
وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يُقْتَلُ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ
قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ لَا نَعْلَمُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ يُقْتَلُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِنْ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِهِمْ فَأُجْمِلُوا مَعَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وقَوْله تَعَالَى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَنَسَبَ الْقَتْلَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِأَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ وَتَوَلَّوْهُمْ عَلَيْهَا فَكَانُوا مُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ كَمَا شَارَكُوهُمْ فِي الرِّضَا بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ حِينَ دُعُوا إلَى التَّوْرَاةِ وَهِيَ كِتَابُ اللَّهِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا أَعْرَضُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلِمَا عَرَفُوهُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ اللَّهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ادَّعَاهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا بُطْلَانَ دَعْوَاهُ فَلَمَّا أَعْرَضُوا وَلَمْ يُجِيبُوا إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَدَلُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ لِعِلْمِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَكَمَا دَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ- إلَى قَوْله تَعَالَى- ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ حَضَرُوا وَبَاهَلُوا لَأَضْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْوَادِيَ نَارًا وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلٍ وَلَا وَلَدٍ
وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّمَا أَرَادَ بقوله تعالى يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَا فِيهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصِّفَاتِ التي قد قدمت بِهَا الْبِشَارَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالدُّعَاءُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ مَدَارِسِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزَّانِي فَذَكَرُوا الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَكَتَمُوا الرَّجْمَ حَتَّى وَقَّفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ قَدْ وَقَعَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا خَصْمَهُ إلَى الْحُكْمِ لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ
قَوْله تَعَالَى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ قيل في قوله تعالى مالِكَ الْمُلْكِ إنَّهُ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ومن أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ مُلْكٍ وَقِيلَ مَالِكُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا وقال مجاهد أراد بالملك هاهنا النبوة وقوله تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ يحتمل وجهين أمر مُلْكُ الْأَمْوَالِ وَالْعَبِيدِ وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يؤتيه الله لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْآخَرُ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسْلِمُ الْعَدْلُ دُونَ الْكَافِرِ وَدُونَ الْفَاسِقِ وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَتَدْبِيرُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ الْكَافِرُ عليه ولا الفاسق لا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سِيَاسَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى الْكَافِرَ الْمُلْكَ قِيلَ لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَالَ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيتَاءَ الْكَافِرِ الْمُلْكَ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ آتَى إبْرَاهِيمَ الْمُلْكَ يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَجَوَازَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي طَرِيقِ الْحِكْمَةِ
وقَوْله تَعَالَى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ لِأَنَّهُ جَزَمَ الْفِعْلَ فَهُوَ إذًا نَهْيٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
288
دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَقَالَ تَعَالَى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ وَقَالَ تَعَالَى وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَقَالَ تَعَالَى فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا وقال تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَقَالَ تَعَالَى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فَنَهَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ عَنْ النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِإِبِلٍ لِبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَدْ عَبَسَتْ بِأَبْوَالِهَا مِنْ السِّمَنِ فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ وَمَضَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ فَقِيلَ لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فقال لا تراءى نارهما وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أظهر الْمُشْرِكِينَ
فَهَذِهِ الْآيُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ الْكُفَّارُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفْوَةِ دُونَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُلَايَنَةِ مَا لَمْ تَكُنْ حَالٌ يَخَافُ فِيهَا عَلَى تَلَفِ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ ضَرَرًا كَبِيرًا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ إظْهَارُ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ صِحَّةِ اعْتِقَادٍ وَالْوَلَاءُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْ يَلِي أُمُورَ مَنْ يَرْتَضِي فِعْلَهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِيَاطَةِ وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ الْمُعَانَ الْمَنْصُورَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَلَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَانُونَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وقَوْله تَعَالَى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً يعنى إن تخافوا تلف النفس أو بعض الْأَعْضَاءِ فَتَتَّقُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهَا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد بن إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وليا في «١٩- أحكام في»
289
دِينِهِ وقَوْله تَعَالَى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً إلا أن تكون بينه وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَيَصِلَهُ لِذَلِكَ فَجَعَلَ التَّقِيَّةَ صِلَةً لِقَرَابَةِ الْكَافِرِ وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ إظْهَارِ الْكُفْرِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَإِعْطَاءُ التَّقِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ تَرْكُ التَّقِيَّةِ أَفْضَلُ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ إنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ وَقَدْ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ خُبَيْبَ بْنَ عُدَيٍّ فَلَمْ يُعْطِ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَعْطَى التَّقِيَّةَ وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ فَسَأَلَ النبي ﷺ عن ذلك
فَقَالَ كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْخِيصِ
وَرُوِيَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ فَخَلَّاهُ ثُمَّ دَعَا بِالْآخَرِ وَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّى رَسُولُ اللَّهِ قَالَ إنِّي أَصَمُّ قَالَهَا ثَلَاثًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئًا لَهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْطَاءَ التَّقِيَّةِ رُخْصَةٌ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ إظهارها وكذلك قالوا أَصْحَابُنَا فِي كُلِّ أَمْرٍ كَانَ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فَقُتِلَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ انْحَازَ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ الشُّهَدَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ وَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً مَرْزُوقِينَ فَكَذَلِكَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي إظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تعالى وترك إظهار الكفر أفضل من إعطاء التَّقِيَّةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي شَيْءٍ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ وَلَا تَزْوِيجٍ وَلَا غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ الْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِأَنَّ ذلك من الولاية والنصرة والمعونة
قوله تعالى وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ آلَ إبْرَاهِيمَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَلَى دِينِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَآلُ عِمْرَانَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَقِيلَ آلُ عِمْرَانَ هُمْ آلُ إبْرَاهِيمَ كَمَا قَالَ ذُرِّيَّةً بعضها من بعض وَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ ابْنَا عِمْرَانَ وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا الْآلُ وَأَهْلَ الْبَيْتِ وَاحِدًا فِيمَنْ يُوصِي لِآلِ فُلَانٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ فَيَكُونُ لِمَنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُ الْجَدُّ
الَّذِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ هُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ قَالُوا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ الْآلُ هُوَ بَيْتٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِنَا آلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَلِيٍّ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَأَوْلَادُ عَلِيٍّ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِمَا بِالْآبَاءِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ
وَقَوْلُهُ عَزَّ وجل ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعنى في الاجتماع على الضلال [والمؤمنون بعضهم من بعض] فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْهُدَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذُرِّيَّةً بعضها من بعض فِي التَّنَاسُلِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ ذُرِّيَّةُ آدَمَ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ ثُمَّ ذُرِّيَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّحْرِيرُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِتْقُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْآخَرُ تَحْرِيرُ الْكِتَابِ وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب وقولها إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا إذَا أَرَادَتْ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ أَنَّهَا تُنْشِئُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشْغَلُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَإِذَا أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهَا تَجْعَلُهُ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ أَوْ عَتِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَقَارِبَةٌ كَانَ نَذْرًا مِنْ قِبَلِهَا نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تعالى بقولها نذرت ثُمَّ قَالَتْ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العليم وَالنَّذْرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا بِأَنْ يَنْذِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُنَشِّئَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِمَا وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَعُلُومَ الدِّينِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ نُذُورٌ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهَا نَذَرْتُ لك يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى قُرْبَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّذُورَ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ وَعَلَى أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهَا نذرت لك ما في بطني محررا أَرَادَتْ بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَبُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَخْلُصَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ بِالْمَجْهُولِ لأنها نذرته وهي لا تدرى ذكرا أَمْ أُنْثَى وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ لَوْلَا أَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ فِي وَلَدِهَا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ تَسْمِيَةَ وَلَدِهَا وَتَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ الْأَبُ لِأَنَّهَا قَالَتْ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مريم وَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لَوَلَدِهَا هَذَا الِاسْمَ وقَوْله تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ الْمُرَادُ بِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ رَضِيَهَا لِلْعِبَادَةِ فِي النَّذْرِ الَّذِي نَذَرَتْهُ بِالْإِخْلَاصِ لِلْعِبَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يَقْبَلْ قَبْلَهَا أُنْثَى فِي هَذَا الْمَعْنَى
قَوْله تَعَالَى وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا إذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَضَمَّنَ مُؤْنَتَهَا كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ
يَعْنِي بِهِ مَنْ يَضْمَنُ مُؤْنَةَ الْيَتِيمِ وَإِذَا قُرِئَ بِالتَّثْقِيلِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّلَهُ إيَّاهَا وَضَمَّنَهُ مُؤْنَتَهَا وَأَمَرَهُ بِالْقِيَامِ بِهَا وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّلَهُ إيَّاهَا فَتَكَفَّلَ بِهَا
قَوْله تَعَالَى قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الْهِبَةُ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ وَيَقُولُونَ قَدْ تَوَاهَبُوا الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ هِبَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكُ شَيْءٍ وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا يَقَعُ فِيهِ تَمْلِيكٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُخْلِصَ لَهُ الْوَلَدَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوِرَاثَتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْهِبَةِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بَذْلَ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ فِي اللَّهِ شِرَاءً بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ هو تَعَالَى مَالِكُ الْجَمِيعِ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ جَاهَدُوا وَبَعْدَهُ وَسَمَّى ذَلِكَ شِرَاءً لِمَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَقَدْ يَقُولُ القائل لِي جِنَايَةَ فُلَانٍ وَلَا تَمْلِيكَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ إسْقَاطَ حُكْمِهَا
وقَوْله تَعَالَى وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سمى بيحيى سَيِّدًا وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ
وَقَالَ لِبَنِي سَلِمَةَ مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ قَالُوا الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ قَالَ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْبُخْلِ وَلَكِنْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سَيِّدًا وَلَيْسَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَالِكُ فَحَسْبُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ سَيِّدُ الدَّابَّةِ وَسَيِّدُ الثَّوْبِ كَمَا يُقَالُ سَيِّدُ الْعَبْدِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي عَامِرٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِينَكُمْ الشَّيْطَانُ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ السَّادَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَكِنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ فَكُرِهَ لَهُمْ تَكَلُّفُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّصَنُّعِ
وَقَدْ رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ هَلَكْتُمْ
فَنَهَى أَنْ يُسَمَّى الْمُنَافِقُ سَيِّدًا لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ
طَاعَتُهُ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا فسموهم سادات وهم ضَلَالٌ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا فَكَانُوا عِنْدَهُمْ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ سَادَاتُهُمْ كَمَا قَالَ تعالى فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ وَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً وَلَكِنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ
قَوْله تَعَالَى قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً يُقَالُ إنَّهُ طَلَبَ آيَةً لِوَقْتِ الْحَمْلِ لِيُعَجِّلَ السُّرُورَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ إلَّا بِالْإِيمَاءِ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَقَالَ في هذه الآية ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي هذه القصة بعينها ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْأَيَّامِ وَتَارَةً بِذِكْرِ اللَّيَالِيِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْقَلُ بِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ فَيُعْقَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثُ لَيَالٍ مَعَهَا وَمِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ فَقَالَ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ عَقِلَ مِثْلَهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ
قَوْله تَعَالَى وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قيل في قوله اصْطَفاكِ اخْتَارَكِ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِهِمْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ غَيْرُهُمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ اخْتَارَك عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِحَالٍ جَلِيلَةٍ مِنْ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَطَهَّرَكِ مِنْ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا سَائِغٌ كَمَا جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْكَافِرِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ فِي قَوْله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ والمراد نجاسة الكفر فكذلك يكون وطهرك بِطَهَارَةِ الْإِيمَانِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِنَجَسٍ
يَعْنِي بِهِ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَالْمُرَادُ طَهَارَةُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ وَقِيلَ إنَّ الْمُرَادَ وطهرك من سائر الأجناس مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَطْهِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَقَالَ قَائِلٌ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ آخَرُونَ عَلَى وَجْهِ إرْهَاصِ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ كَحَالِ الشُّهُبِ وَإِظْلَالِ الْغَمَامَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ
قَوْله تَعَالَى يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قَالَ سَعِيدٌ أَخْلِصِي لِرَبِّك وَقَالَ قَتَادَةُ أَدِيمِي الطاعة وقال
مجاهد أطيلى القيام في الصَّلَاةِ وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْحَالِ الْأَمْرُ بِإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ
يَعْنِي طُولَ الْقِيَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَطْفًا على ذلك واسجدي واركعى فَأُمِرَتْ بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهِيَ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعَ سَجْدَةٍ عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَسَائِرِ مَوَاضِعِ السُّجُودِ لِأَجْلِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ مَعَ السُّجُودِ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ فِي المعنى وقدم السجود هاهنا فِي اللَّفْظِ
قَوْله تَعَالَى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ قَالَ تَسَاهَمُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا فَقَرَعُهُمْ زكريا ويقال إن الأقلام هاهنا الْقِدَاحُ الَّتِي يُتَسَاهَمُ عَلَيْهَا وَإِنَّهُمْ أَلْقَوْهَا فِي جِرْيَةِ الْمَاءِ فَاسْتَقْبَلَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جِرْيَةَ الْمَاءِ مُصَعِّدًا وَانْحَدَرَتْ أَقْلَامُ الْآخَرِينَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَرَعَهُمْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُمْ تَسَاهَمُوا عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى كَفَالَتِهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمْ تَدَافَعُوا كَفَالَتَهَا لَشِدَّةِ الْأَزْمَةِ وَالْقَحْطِ فِي زَمَانِهَا حَتَّى وُفِّقَ لَهَا زَكَرِيَّا خَيْرُ الْكُفَلَاءِ وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى كَفَالَتِهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْقُرْعَةِ فِي الْعَبِيدِ يُعْتِقُهُمْ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عِتْقِ الْعَبِيدِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الرِّضَا بِكَفَالَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْحُرِّيَّةُ وَقَدْ كَانَ عِتْقُ الْمَيِّتِ نَافِذًا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ وَإِلْقَاءُ الْأَقْلَامِ يُشْبِهُ الْقُرْعَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي تَقْدِيمِ الْخُصُومِ إلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ عَلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقُرْعَةُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وكذلك حُكْمُ كَفَالَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ التَّرَاضِي عَلَى نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ الْبِشَارَةُ هِيَ خَبَرٌ عَلَى وَصْفٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِمَا يُسِرُّ لِظُهُورِ السُّرُورِ فِي بَشَرَةِ وجهه إذا
بُشِّرَ وَالْبَشَرَةُ هِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ فَأَضَافَتْ الْمَلَائِكَةُ الْبِشَارَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ هُوَ مُبَشِّرُهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ خَاطَبُوهَا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ بَشَّرْت فُلَانًا بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حَرٌّ فَقَدِمَ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يُخْبِرُهُ بِقُدُومِهِ فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَك قَدْ قَدِمَ فُلَانٌ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ هُوَ الْمُبَشِّرُ دُونَ الرَّسُولِ وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَضَمُّنِ الْبِشَارَةِ إحداث السرور قال أصحابنا إن الْمُبَشِّرَ هُوَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ وَإِنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمُبَشِّرٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ بِخَبَرِهِ سُرُورٌ وَقَدْ تُطْلَقُ الْبِشَارَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْخَبَرُ فَحَسْبُ كَقَوْلِهِ تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ قوله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَلَمَّا كَانَ خَلْقُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْكَلِمَةِ مَجَازًا كما قال وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمَ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِهِ كَمَا يَهْدِي بِكَلِمَتِهِ
قَوْله تَعَالَى فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ الِاحْتِجَاجُ الْمُتَقَدِّمُ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ
وَهُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت وَلَدًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا حَكَى عَنْ الْمَسِيحِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- إلى قوله تعالى- إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِنْجِيلِ لِأَنَّ فِيهِ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ وَالْأَبُ السَّيِّدُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ وَأَبِي وَأَبِيكُمْ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُبُوَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لَلْبُنُوَّةِ فَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ وَاعْتَرَفُوا بِهِ وَأَبْطَلَ شُبْهَتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بِأَمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ حِينَئِذٍ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَقَالَ تَعَالَى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ الْآيَةَ فَنَقَلَ رُوَاةُ السِّيَرِ وَنَقْلَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَأَحْجَمُوا عَنْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إنْ بَاهَلْتُمُوهُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا وَلَمْ يَبْقَ نَصْرَانِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيَّةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَحْضُ شُبَهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ ابْنُ الْإِلَهِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّهُ
نَبِيٌّ مَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمُبَاهَلَةِ فلما أحجموا وامتنعوا عنها دل أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْمُعْجِزَاتِ وَبِمَا وَجَدُوا مِنْ نَعْتِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ حِينَ أَرَادَ حُضُورَ الْمُبَاهَلَةِ وَقَالَ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُونَ غَيْرُهُمَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ
وَقَالَ حِينَ بَالَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ صَغِيرٌ لَا تُزْرِمُوا ابْنِي
وَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا كَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ- إلى قوله تعالى- وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُسَمَّيَا ابْنَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ إطْلَاقِ اسْمِ ذَلِكَ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهُ
روى عنه أنه قال سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى لَوَلَدِ فُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ ابْنَةٍ إنَّ الْوَصِيَّةَ لَوَلَدِ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الِابْنَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ يَدْخُلُونَ فِيهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فِي جَوَازِ نِسْبَتِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ وَأَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْآبَاءِ وَقَوْمِهِمْ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً رُومِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً أَنَّ ابْنَهُ يَكُونُ هَاشِمِيًّا مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دون أمه وكذلك قال الشاعر:
بنونا بنوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
فَنِسْبَةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُنُوَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخْصُوصٌ بِهِمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَالِمُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيمَنْ سِوَاهُمَا لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى الْأَبِ وَقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ
قَوْله تَعَالَى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ الآية قوله تعالى كَلِمَةٍ سَواءٍ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ نَتَسَاوَى جَمِيعًا فِيهَا إذْ كُنَّا جَمِيعًا عِبَادَ اللَّهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذه هي
الْكَلِمَةُ الَّتِي تَشْهَدُ الْعُقُولُ بِصِحَّتِهَا إذْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَبِيدَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعِبَادَةَ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ طَاعَةُ غَيْرِهِ إلَّا فِيمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَاعَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْرُوفًا وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي إلْزَامِ غَيْرِهِ طَاعَةَ نفسه إلا بأمر الله تعالى كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمُبَايِعَاتِ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ فَشَرَطَ عَلَيْهِنَّ تَرْكَ عِصْيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ تَأْكِيدًا لِئَلَّا يُلْزِمَ أَحَدًا طَاعَةَ غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وقَوْله تَعَالَى وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ لَا يَتْبَعْهُ فِي تَحْلِيلِ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمِهِ إلَّا فِيمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عطيف بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك ثُمَّ قَرَأَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قلت يا رسول مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ قَالَ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ
وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ اتخذوا أَرْبَابًا لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ فِي قَبُولِ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يُحَلِّلْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُطَاعَ بِمِثْلِهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي هُوَ خَالِقُهُمْ وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي لُزُومِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرَهُ وَتَوْجِيهِ الْعِبَادَةِ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا فِي إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ الْيَهُودُ مَا كَانَ إلَّا يَهُودِيًّا وَقَالَتْ النَّصَارَى مَا كَانَ إلَّا نَصْرَانِيًّا فَأَبْطَلَ اللَّهُ دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَالْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة حَادِثَتَانِ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ فَكَيْفَ يَكُونُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمْ سُمُّوا بذلك لأنهم من ولد يهودا وَالنَّصَارَى سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ نَاصِرَةَ قرية بالشام ومع ذلك فإن اليهودية مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ مِلَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّصْرَانِيَّة مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عَنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ
فَكَيْفَ يَكُونُ إبْرَاهِيمُ مَنْسُوبًا إلَى مِلَّةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَهُ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَنِيفًا مُسْلِمًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بَعْدَهُ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْحَنِيفِ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّ الْحَنَفَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالْإِسْلَامُ هاهنا هُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ وَكُلُّ واحد مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ إبْرَاهِيمُ وَمَنْ قَبْلَهُ قَدْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى إبْرَاهِيمُ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بَعْدَهُ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ يَصِحُّ صِفَةُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة صِفَةٌ حَادِثَةٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةٍ حَرَّفَهَا مُنْتَحِلُوهَا مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَاجَّةِ فِي الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ كَمَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْطَلَ بِهَا شُبْهَتَهُمْ وَشَغَبَهُمْ
وقَوْله تَعَالَى هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ لِلْحَقِّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَاجُ كُلُّهُ مَحْظُورًا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحَاجَّةِ بِالْعِلْمِ وَبَيْنَهَا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فِيمَا وَجَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَهُوَ شَأْنُ إبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا
قَوْله تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ معناه تأمنه على قنطار لأن الباء وعلى تَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِك مَرَرْت بِفُلَانٍ وَمَرَرْت عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْقِنْطَارِ هُوَ أَلْفُ مِثْقَالٍ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ وَقَالَ أَبُو نَضِرَةَ مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ سَبْعُونَ أَلْفًا وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ مِائَةُ رِطْلٍ فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمَانَةِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ مَأْمُونًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهُمْ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا ائْتُمِنُوهُ عَلَيْهَا قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظاهر الآية إلا أنا خصصناه بالاتفاق وَأَيْضًا فَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَدَاءَ أَمَانَتِهِمْ حَقٌّ لَهُمْ فَأَمَّا جَوَازُهُ عَلَيْهِمْ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا بِالتَّقَاضِي وَقَالَ السُّدِّيُّ إلَّا مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالْمُلَازَمَةِ لَهُ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّقَاضِي وَمِنْ الْمُلَازَمَةِ وَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وقَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً بِالْمُلَازَمَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالتَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ مُلَازَمَةٍ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلطَّالِبِ مُلَازَمَةَ الْمَطْلُوبِ بِالدَّيْنِ وقَوْله تَعَالَى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ في كتبهم وَقِيلَ إنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا اتِّبَاعَهُمْ وَادَّعَوْا ذَلِكَ على الله أنه أنزل عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا
رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ فَاجِرٌ فِيهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي نَزَلَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رِجْلٍ خُصُومَةٌ فَخَاصَمْته إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْت لَا قَالَ فَيَمِينُهُ قُلْت إذًا يَحْلِفُ فَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ فنزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
الْآيَةَ
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَخِيهِ عبد الله بن كعب ابن مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ اقْتَطَعَ حق مسلم بيمنه حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ قَالُوا وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من حلف على يمين صبر ليقطع بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ بِيَمِينِهِ مَالًا هُوَ فِي الظَّاهِرِ لِغَيْرِهِ وَكُلُّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّهُ غَيْرُهُ وَقَدْ مَنَعَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ مَالًا هُوَ لِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَوْلَا يَمِينُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَالًا هُوَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ مَا هُوَ عِنْدَنَا فِي الظَّاهِرِ إذْ كَانَتْ الْأَمْلَاكُ لَا تَثْبُتُ عِنْدَنَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ مَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ لَيْسَتْ
مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَإِنَّمَا مَوْضُوعُهَا لَإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَرَوَى الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَةً فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ أَعْطَيْت بِهَا ثَمَنًا لم يعط بِهَا لِيُوقِعَ فِيهَا مُسْلِمًا فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ حَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ممن ادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ- إلَى قَوْله تَعَالَى- وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ نَفْيًا عَامًّا كَوْنَ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ آكَدِ الْوُجُوهِ فَكَانَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي قِيلَ لَهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ النَّفْيِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إطْلَاقُ الْإِثْبَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت مَا عِنْدَ زَيْدٍ طَعَامٌ كَانَ نَفْيًا لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ قُلْت عِنْدَهُ طَعَامٌ مَا كَانَ عُمُومًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ
قَوْله تَعَالَى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قيل في معنى البر هاهنا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْجَنَّةُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ وَقِيلَ فِيهِ الْبِرُّ بِفِعْلِ الخير الذي يستحقون به الأجر والنفقة هاهنا إخراج ما يحبه فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، ومَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَائِطِي الَّذِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ مَا أَعْلَنْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِك أَوْ فِي أَقْرِبَائِك
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو عَنْ أَبِي عمرو بن حَمَاسٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ خَطَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَتَذَكَّرْت مَا أَعْطَانِي اللَّهُ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي أُمَيْمَةَ فَقُلْت هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَوْلَا أَنْ أَعُودَ فِي شَيْءٍ فَعَلْته لِلَّهِ لَنَكَحْتهَا فَأَنْكَحْتهَا نَافِعًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابن إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا حِينَ نَزَلَتْ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عليها أسامة بن
زيد فكان زيد أَوْجَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ قَبِلَهَا
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِتْقُ ابْنِ عُمَرَ لِلْجَارِيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ رَأَى كُلَّ مَا أَخْرَجَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ النَّفَقَةِ المراد بالآية ويدل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ عَامًّا فِي الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبِي طَلْحَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ عَلَى أَنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى مَنَازِلِ الْقُرَبِ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تحبون عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِمَّا يُحِبُّ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ وَقَدْ يَجُوزُ إطْلَاقُ مِثْلِهِ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ
فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالْمَسْكَنَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْمَسْكَنَةِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ
قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَأْكُولَاتِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَى أَنْ حَرَّمَ إسْرَائِيلُ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا فَحَرَّمَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إلَيْهِ إنْ شَفَاهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَهُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ وَقَالَ قَتَادَةُ حَرَّمَ الْعُرُوقَ وَرُوِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بن إبراهيم عليهم السّلام نذر إن برىء مِنْ عِرْقِ النَّسَا أَنْ يُحَرِّمَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ وَهُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا تَحْلِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْإِبِلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّسْخَ جَائِزًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَإِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ إلَى أَنْ حَرَّمَهَا إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَحَاجَّهُمْ بِالتَّوْرَاةِ فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إحْضَارِهَا لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فِيهَا وَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ فِي إبَاءِ النَّسْخِ إذْ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي وَقْتٍ ثُمَّ حُظِرَ جَازَتْ إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أميا لا يقرأ الكتاب وَلَمْ يُجَالِسْ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَمْ يَعْرِفْ سَرَائِرَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ إيَّاهُ وَهَذَا الطَّعَامُ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ يَدُلُّ
301
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ مِمَّا أَحَلَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ ثُمَّ حَظَرَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ إذْ كَانَ عِلْمُ الْمَصَالِحِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ قِيلَ هَذَا جَائِزٌ بِأَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيُحَرِّمَ جَارِيَتَهُ بِالْعِتْقِ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي تَحْرِيمِ الطَّعَامِ إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الِاجْتِهَادِ وَمَا حَرَّمَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ تَوْقِيفًا مِنْ اللَّهِ لَهُ فِي إبَاحَةِ التَّحْرِيمِ لَهُ إنْ شَاءَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِإِضَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّحْرِيمَ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَقَالَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَلَمَّا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ على أنه كَانَ جَعَلَ إلَيْهِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ لِفَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ إسْرَائِيلَ لِمَا حَرَّمَهُ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى نَفْسِهِ قَدْ كَانَ وَاقِعًا وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبُ لَفْظِهِ شَيْئًا غَيْرَ التَّحْرِيمِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ
وَقِيلَ إنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ فَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَجَعَلَ مُوجِبَ لَفْظِهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ- إلَى قَوْله تَعَالَى- قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فَجَعَلَ فِي التَّحْرِيمِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا اسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَلِفِ أَنْ لَا يَسْتَبِيحَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ جَارِيَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ إلَّا أَنَّهُمْ خَالَفُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ وَلَوْ قَالَ قَدْ حَرَّمْت هَذَا الطَّعَامَ عَلَى نَفْسِي حَنِثَ بِأَكْلِ جُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَقَدْ قَصَدَ إلَى الْحِنْثِ بِأَكْلِ الْجُزْءِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ شَيْئًا مِنْهُ لِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الأشياء
302
فَتَحْرِيمُهُ شَامِلٌ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِدٌ لِلْيَمِينِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ عَلَى الْأَرْضِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَكَّةَ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ بَكَّةُ الْمَسْجِدُ وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ بَكَّةُ هِيَ مكة ومن قال هذ القول يقول قد تبدل الباء مع الْمِيمِ كَقَوْلِهِ سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَمَدَهُ إذَا حَلَقَهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَكَّةُ هِيَ بَطْنُ مَكَّةَ وَقِيلَ إنَّ الْبَكَّ الزَّحْمُ مِنْ قَوْلِك بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذَا زَاحَمَهُ وَتَبَاكَّ النَّاسُ بِالْمَوْضِعِ إذَا ازْدَحَمُوا فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَا الْبَيْتَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلتَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَا حَوَلَ الْبَيْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لَلطَّوَافِ قَوْله تَعَالَى وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يَعْنِي بَيَانًا وَدَلَالَةً عَلَى اللَّهِ لِمَا أَظْهَرَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَهُوَ أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْكَلْبُ وَالظَّبْيُ فِي الْحَرَمِ فَلَا الْكَلْبُ يُهَيِّجُ الظَّبْيَ وَلَا الظَّبْيُ يَتَوَحَّشُ مِنْهُ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ على أن المراد بالبيت هاهنا الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرَمِ لِأَنَّ ذَلِكَ موجود في جميع الحرم وقوله مُبارَكاً يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَنُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ وَالْبَرْكُ هُوَ الثُّبُوتُ يُقَالُ بَرَكَ بَرْكًا وَبُرُوكًا إذَا ثَبَتَ على حاله هذه في الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الْحَجِّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَالْبَرَكَةِ وَنُمُوِّ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ مَعَ اللُّطْفِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى التَّوْحِيدِ وَالدِّيَانَةِ
قَوْله تَعَالَى فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآيَةُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ قَدَمَيْهِ دَخَلَتَا فِي حَجَرٍ صَلْدٍ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةً وَآيَةً عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنْ الْآيَاتِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْنِ الْوَحْشِ وَأُنْسِهِ فِيهِ مَعَ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ الْمُتَعَادِيَةِ وَأَمْنِ الْخَائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فيه ويتخطف الناس من حولهم وإمحاق الجمار على كثرة الرمي مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ إنَّمَا تُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِهِ وَامْتِنَاعِ الطَّيْرِ مِنْ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَطِيرُ حَوْلَهُ لَا فَوْقَهُ وَاسْتِشْفَاءِ الْمَرِيضِ مِنْهَا بِهِ وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ جَارِيَةً وَمِنْ إهْلَاكِ أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمَّا قَصَدُوا لَإِخْرَابِهِ بِالطَّيْرِ الْأَبَابِيلِ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ آيَاتِ الْحَرَمِ سِوَى مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْهَا وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَوْجُودَةٌ في الحرم
303
وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ خَارِجَ الْبَيْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْجَانِي يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ يَجْنِي فِيهِ
قَالَ اللَّهُ تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَتْ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مَوْجُودَةً فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يَقْتَضِي أَمْنَهُ عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جَنَى بَعْدَ دُخُولِهِ إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَمَعْلُومٌ أن قوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هُوَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ آمِنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا نَقُولُ هَذَا مباح وهذا محظور والمراد به كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ وَلَا أَنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُبَاحِ افْعَلْهُ عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِيهِ وَلَا ثَوَابَ وَفِي الْمَحْظُورِ لَا تَفْعَلْهُ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِهِ وَكَذَلِكَ قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَحَظْرِ دَمِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَأَخْبَرَ بِجَوَازِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ وَأَمَرَنَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إذَا قَاتَلُونَا وَلَوْ كَانَ قَوْله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً خَبَرًا لَمَا جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَنَهْيٌ لَنَا عَنْ قتله ثم لا يخلوا ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بِأَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أو أن تؤمنه مِنْ قَتْلٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ تَسْقُطُ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِهِ لِأَنَّ الْحَرَمَ وَغَيْرَهُ فِي ذلك سواء إذا كَانَ عَلَيْنَا إيمَانُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا إذَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقٍّ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ وَفِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَانِي فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْجَانِي فِي غَيْرِهِ إذَا لَجَأَ إلَيْهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَاذَ إلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إذَا قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ
304
لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَا دَامَ فِيهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُؤَاكَلُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ وَإِنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ ذَلِكَ كُلُّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعُبَيْدِ الله بْنِ عُمَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ فِيمَنْ قَتَلَ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُؤْوَى وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَلَ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ مَنْ أَصَابَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا شِدَّةً مَنْ أصاب حدا فِي غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ قَالَا إذَا أَصَابَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ أُخْرِجَ عَنْ الْحَرَمِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يُضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ بترك مجالسته وَإِيوَائِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَمُشَارَاتِهِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ مُفَسَّرًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ الْحَسَنِ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فِي مَوْضِعِهِ وَبَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْحَرَمِ يَحْظُرُ
قَتْلَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ إذَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ فِي الْحَرَمِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى حَظْرِ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَسَنَ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ مُتَضَادَّانِ أَحَدُهُمَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَالْآخَرُ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ قَوْلَهُ يُخْرَجُ فَيُقْتَلُ أَنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُشَارَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِلْحَسَنِ فِي هَذَا قَوْلٌ لِتَضَادِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَبَقِيَ قَوْلُ الْآخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرَمِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا جَنَى فِي الْحَرَمِ كَانَ مَأْخُوذًا بِجِنَايَتِهِ يُقَامُ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وقوله النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً يوجب «٢٠- أحكام في»
305
عُمُومُهُ الْقِصَاصَ فِي الْحَرَمِ عَلَى مَنْ جَنَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَدْ اقْتَضَى وُقُوعَ الْأَمْنِ مِنْ الْقَتْلِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْنِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنْ آيِ الْقِصَاصِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ وَارِدٌ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ لَا فِي حُكْمِ الحرم وقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَارِدٌ فِي حُكْمِ الْحَرَمِ وَوُقُوعِ الْأَمْنِ لِمَنْ لَجَأَ إلَيْهِ فَيُجْرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى بَابِهِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ وَلَا يَعْتَرِضُ بِآيِ الْقِصَاصِ عَلَى حُكْمِ الْحَرَمِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ لَا مَحَالَةَ مُتَقَدِّمٌ لِإِيجَابِ أَمَانِهِ بِالْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ وَاجِبًا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ هو آمن مما لَمْ يَجْنِ وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِأَمْنِهِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ وَمِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَظْرَ قَتْلِ اللَّاجِئِ إلَيْهِ وَالْجَانِي فِيهِ إلَّا أَنَّ الْجَانِيَ فِيهِ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ فَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْجَانِي إذَا لَجَأَ إلَيْهِ
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَهَذَا أَيْضًا يَحْظُرُ عُمُومُهُ قَتْلَ كُلِّ مَنْ كَانَ فِيهِ فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَجَأَ إلَى الْحَرَمِ حُبِسَ بِهِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ وَالْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ عُقُوبَةٌ فَجَعَلَ الْحَبْسَ عُقُوبَةً وَهُوَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
فَكُلُّ حَقٍّ وَجَبَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أُخِذَ بِهِ وَإِنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ قِيَاسًا عَلَى الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّ الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى وَلَا يُؤْوَى حَتَّى يَخْرُجَ وَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ الْآخَرِ فِيهِ فِي تَرْكِ مُشَارَاتِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَإِيوَائِهِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لَا خِلَافَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا حَصَلَ عليه الاتفاق
306
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْكُنُ مَكَّةَ سَافِكُ دَمٍ وَلَا آكِلُ رِبًا وَلَا مَشَّاءٌ بِنَمِيمَةٍ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُؤْوَ وَلَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُشَارَ وَلَمْ يُطْعَمْ وَلَمْ يُسْقَ حَتَّى يَخْرُجَ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْكُنُهَا سَافِكُ دَمٍ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إذَا دَخَلَ الْقَاتِلُ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُؤْوَ وَاتَّبَعَهُ طَالِبُهُ يَقُولُ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فِي دَمِ فُلَانٍ وَاخْرُجْ مِنْ الْحَرَمِ وَنَظِيرُ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وقوله أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وَقَوْلُهُ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً فَهَذِهِ الْآيُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ قَبْلَ دُخُولِهِ وَلَمَّا عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْبَيْتِ وَتَارَةً بِذِكْرِ الْحَرَمِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ فِي بَابِ الْأَمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مَنْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْأَمْنِ فِيهِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْحَرَمِ فِيمَنْ لَجَأَ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ مَنْ قَتَلَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُقْتَلْ فِيهِ وَمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ فَلَيْسَ الْحَرَمُ كَالْبَيْتِ قِيلَ لَهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الْحَرَمِ حُكْمَ الْبَيْتِ فِيمَا عَظُمَ مِنْ حُرْمَتِهِ وَعَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْبَيْتِ وَتَارَةً بِذِكْرِ الْحَرَمِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِيمَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي حَظْرِ الْقَتْلِ فِي الْبَيْتِ فَخَصَّصْنَاهُ وَبَقِيَ حُكْمُ الْحَرَمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ إيجَابِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ تعالى أعلم.
بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى شَرِيطَةِ وُجُودِ السَّبِيلِ إلَيْهِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْ حُكْمِ السَّبِيلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ إلَيْهِ هِيَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ يعنى من وصول هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يَعْنِي مِنْ وُصُولٍ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَيْهِ وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ مَلَكَ
307
زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغُهُ بَيْتَ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
وروى إبراهيم ابن يزيد الجوزي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ السَّبِيلُ إلَى الْحَجِّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ قَالَ رِجْلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ قَالَ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ
وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مِنْ السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَيْسَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَقْصُورَةً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ الخائف وَالشَّيْخَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالزَّمْنَى وَكُلَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِ السَّبِيلِ إلَى الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ الِاسْتِطَاعَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ شَرَائِطِ الِاسْتِطَاعَةِ وَإِنَّمَا أَفَادَ ذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً فَعَلَيْهِ الْحَجُّ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لُزُومَ فَرْضِ الْحَجِّ مَخْصُوصٌ بِالرُّكُوبِ دُونَ الْمَشْيِ وَأَنَّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمَشْيِ الَّذِي يَشُقُّ وَيَعْسُرُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَ فَرْضُ الْحَجِّ إلَّا مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ سَاعَةٍ إذَا لَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ قِيلَ لَهُ إذَا لَمْ يَلْحَقْهُ في المشي مشقة شديدة فهذا أيسر أمر مِنْ الْوَاجِدِ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إذَا بَعُدَ وَطَنُهُ مِنْ مَكَّةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إنَّمَا هُوَ لَأَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِ وَيَنَالَهُ ما يضره مِنْ الْمَشْيِ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِمَّنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ فَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لَلسَّبِيلِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَإِذَا كَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ إلَّا بِالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ فَهُوَ الَّذِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الْفَرْضَ إلَّا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ وَعِنْدَنَا أَنَّ وُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْحَجِّ لِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي
308
قَدْ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَقَدْ أَرَادَتْ امرأتى أن تحج فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِك
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
قَوْلَهُ لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ
قَدْ انْتَظَمَ الْمَرْأَةَ إذَا أَرَادَتْ الْحَجَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ السَّائِلَ عَقَلَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ تُرِيدُ الْحَجَّ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ حُجَّ مَعَ امْرَأَتِك وَفِي ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِإِرَادَةِ سَفَرِ الْحَجِّ
فِي قَوْلِهِ لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ
وَالثَّالِثُ أَمَرَهُ إيَّاهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ لِلْحَجِّ مَعَ امْرَأَتِهِ وَلَوْ جَازَ لَهَا الْحَجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ لَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ وَهُوَ فَرْضٌ لِلتَّطَوُّعِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ كَانَ فَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْغَزْوِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ لِتَطَوُّعِ الْمَرْأَةِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يسئله عَنْ حَجِّ الْمَرْأَةِ أَفَرْضٌ هُوَ أَمْ نَفْلٌ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا فِي امْتِنَاعِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ اسْتِطَاعَتِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مُعْتَبَرًا فِيهَا وَمِنْ شَرَائِطِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ ثُبُوتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَذَلِكَ لِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا موسى بن الحسن بن أبى عبادة قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيك
فَأَجَازَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا وَلَمْ يُلْزِمْ الرَّجُلَ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ إمْكَانَ الْوُصُولِ إلَى الْحَجِّ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحَجُّ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا وَاجِدِينَ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحِجُّوا غَيْرَهُمْ عَنْهُمْ أَعْنِي الْمَرِيضَ وَالزَّمِنَ وَالْمَرْأَةَ إذَا حَضَرَتْهُمْ الْوَفَاةُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُوصُوا بِالْحَجِّ وَذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ مَا يُمْكِنُ بِهِ الْوُصُولُ إلَى الْحَجِّ فِي مِلْكِهِمْ يُلْزِمُهُمْ فَرْضَ الْحَجِّ فِي أَمْوَالِهِمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ فِعْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَإِمْكَانِ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ فَعَلَى مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ الْخُرُوجُ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنْ يَتَعَذَّرَ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ زمانة أو
309
لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا مَحْرَمَ لَهَا وَلَا زَوْجَ يَخْرُجُ مَعَهَا فَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ الْحَجُّ بِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الْإِيَاسِ وَالْعَجْزِ عَنْ فِعْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ فَإِذَا أَحَجَّ الْمَرِيضُ أَوْ الْمَرْأَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَبْرَأْ الْمَرِيضُ وَلَمْ تَجِدْ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا حَتَّى ماتا أجزأهما وإن برىء الْمَرِيضُ وَوَجَدَتْ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا لَمْ يُجْزِهِمَا وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهَا ذَلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ فِي مَالِهِ وَأَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا بِفِعْلِ الْحَجِّ الَّذِي أَخْبَرَتْ أَنَّهُ قد لزمه يدل على لزومه أيضا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَجِّ الْفَقِيرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ لَا حَجَّ عَلَيْهِ وَإِنْ حَجَّ أَجْزَأَهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ إذَا أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَا تُبَلِّغُهُ كَائِنًا مَا كَانَ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ
يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ فَإِنْ هُوَ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ مَشْيًا فَقَدْ صَارَ بِحُصُولِهِ هُنَاكَ مُسْتَطِيعًا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ بَعُدَ مِنْ مَكَّةَ فَإِذَا حَصَلَ هُنَاكَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ حِينَئِذٍ فَإِذَا فَعَلَهُ كَانَ فَاعِلًا فَرْضًا وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ إذَا حَجَّ هَلْ يُجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُجْزِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مسلم ابن إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الْحَجِّ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَلَيْسَ هُوَ إذًا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ أَنَّهَا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ هِيَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى مَا بُيِّنَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ مِنْ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرْطِهِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُسْتَطِيعِ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ زَادًا وَرَاحِلَةً فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ فَلَمْ يُجْزِهِ حَجُّهُ فإن قيل
310
لَيْسَ الْفَقِيرُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ لِعَدَمِ مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَلَوْ حَجَّ جَازَ حَجُّهُ كَذَلِكَ الْعَبْدُ قِيلَ لَهُ إنَّ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَاجِدِينَ الْوَاصِلِينَ إلَيْهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْعَبْدُ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ بِهِ لَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي خِطَابِ الْحَجِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ لَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ بِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْ الْحَجِّ بالاتفاق وَمَنَافِعُ الْعَبْدِ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى فَإِذَا فَعَلَ بِهَا الْحَجَّ صَارَ كَحَجٍّ فَعَلَهُ الْمَوْلَى فَلَا يُجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَبْدَالِهَا إذَا صَارَتْ مَالًا وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْحَجِّ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ صَارَ مُعِيرًا لَهُ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فَهِيَ مُتْلَفَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَقِيرُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ وَإِذَا فَعَلَ بِهَا الْحَجَّ أَجْزَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِنْ قِيلَ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا وَلَوْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا أَجْزَأَتْهُ فَهَلَّا كَانَ الْحَجُّ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ إنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ قَائِمٌ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهَا فَمَتَى فَعَلَ الْجُمُعَةَ فَقَدْ أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ الظُّهْرِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَفَاعِلِ الظُّهْرِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ فَرْضٌ آخَرُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ فَأُسْقِطَ بِفِعْلِ الْحَجِّ حَتَّى نَحْكُمَ بِجَوَازِهِ وَنَجْعَلَهُ فِي حُكْمِ مَا هُوَ مَالِكُهُ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّ الْعَبْدِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا بشر بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ حَرَامِ بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَنَّ صَبِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا وَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ هَاجَرَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهَا سَبِيلًا
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عَبَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ
311
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ أَدْرَكَ الْحُلُمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى
فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى وَلَمْ يَعْتَدَّ لَهُ بِالْحَجَّةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الرِّقِّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ مِثْلَهُ فِي الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُجْزِيهِ الْحَجَّةُ الْمَفْعُولَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُ الْأَعْرَابِيِّ فِي حَالِ مَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِ فَرْضِ الْهِجْرَةِ فَلَمَّا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
نَسَخَ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ إعَادَةِ الْحَجِّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إذْ لَا هِجْرَةَ هُنَاكَ وَاجِبَةً وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي حَجِّ الْعَبْدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ حَجَّةً وَاحِدَةً إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَكْرَارًا فَمَتَى فَعَلَ الْحَجَّ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حدثنا زهير بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ أَبُو دَاوُد هُوَ الدُّؤَلِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ
قَوْله تَعَالَى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ
رَوَى وَكِيعُ عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنْ نُفَيْعٍ أَبِي دَاوُد قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ كَفَرَ قَالَ هُوَ إنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابَهُ وَإِنْ حُبِسَ لَا يَخَافُ عِقَابَهُ
وَرَوَى مُجَاهِدٌ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُ وَقَالَ الْحَسَنُ مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَبْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ قَبْلَ فِعْلِهِ وَمِنْ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهُ قَطُّ فَوَاجِبٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا غَيْرَ مُلْزَمٍ إذَا لَمْ يَحُجَّ إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَلْزَمَ الْحَجَّ مَنْ اسْتَطَاعَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا قَطُّ إذْ لَمْ يَحُجَّ فَفِي نَصِّ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى لُزُومِ فَرْضِ الْحَجِّ لِمَنْ كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ
قَوْله تَعَالَى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ من اليهود كانوا يغرون الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِذِكْرِهِمْ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْسَلِخُوا مِنْ الدِّينِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
جَمِيعًا فِي كِتْمَانِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَمَّى اللَّهُ الْكُفَّارَ شُهَدَاءَ وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بقوله لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فِي صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ قِيلَ لَهُ إنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَقُلْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى غَيْرِكُمْ وَقَالَ هناك لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ كما قال وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَصْدِيقَهُمْ وَصِحَّةَ إجْمَاعِهِمْ وَقَالَ فِي هذه الآية وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَأَنْتُمْ شهداء أَنَّكُمْ عَالِمُونَ بِبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِي صَدِّكُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ منهم والثاني أن يريد بقوله شُهَداءَ عُقَلَاءَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يَعْنِي وَهُوَ عَاقِلٌ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الدَّلِيلَ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قوله حَقَّ تُقاتِهِ هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ اتِّقَاءُ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَسْخِهِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ اتِّقَاءُ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ اتِّقَاءُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا لَكَانَ فِيهِ إبَاحَةُ بَعْضِ الْمَعَاصِي وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ حَقَّ تُقاتِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَتَرْكَ التَّقِيَّةِ فِيهَا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّقِيَّةِ وَالْإِكْرَاهِ وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى مَا اسْتَطَعْتُمْ فِيمَا لَا تَخَافُونَ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ يُرِيدُ فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ احْتِمَالُ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ لأنه قد يُطْلَقُ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ فِعْلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً وَمُرَادُهُ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ
قَوْله تَعَالَى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معنى الحبل هاهنا أَنَّهُ الْقُرْآنُ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَقِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ دِينُ اللَّهِ وَقِيلَ بِعَهْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ كَالْحَبْلِ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ وَيُسَمَّى الْأَمَانُ الْحَبْلَ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يَعْنِي بِهِ الْأَمَانَ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً هو أمرا بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهْيٌ عَنْ الْفُرْقَةِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَلا تَفَرَّقُوا معناه
313
التَّفَرُّقُ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا جَمِيعًا بِلُزُومِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ أَحَدُهُمَا نفاة الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مِثْلُ النِّظَامِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْآخَرُ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ والاجتهاد يقول مَعَ ذَلِكَ إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَيُخْطِئُ مَنْ لَمْ يصب الحق عنده لقوله تعالى وَلا تَفَرَّقُوا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَمَا قَالُوا لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنْحَاءَ مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخِلَافُ فِيهِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى حَظْرِهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَوْ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ فَأَمَّا مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارَةً وَاجِبًا وَتَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ سَائِغٌ يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ كَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ النَّاسِ فِيهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِخِلَافِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ الْآخَرُ لَمْ يَمْتَنِعْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْخِلَافِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ وُرُودُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ فَمَا جَازَ مِثْلُهُ فِي النَّصِّ جَازَ فِي الاجتهاد قد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقيم المختلفات وَأُرُوشِ كَثِيرٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَلَا يَلْحَقُ وَاحِدًا منهما لَوْمٌ وَلَا تَعْنِيفٌ وَهَذَا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَكَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَلَمَا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَوَاصِلُونَ يُسَوِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ مُخَالَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ وَلَا تَعْنِيفٍ فَقَدْ حصل منهم الاتفاق على تسويغ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ
وَقَالَ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَنَا بقوله وَلا تَفَرَّقُوا عَنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَأَنَّ النَّهْيَ مُنْصَرِفٌ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا فِي النُّصُوصِ أَوْ فِيمَا قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ سَمْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وفي فحوى الآية ما يدل على أن الْمُرَادَ هُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لا في فروعه وما يجوز ورود العبارة بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
314
كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ لَا فِي فُرُوعِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَخْرَجَ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي قوله وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مجازا كقوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَمَعْنَاهُ ذُنُوبَكُمْ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ وَلَوْلَا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَمَا سَقَطَ عَنْ الْآخَرِينَ بِقِيَامِ بَعْضِهِمْ بِهِ
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَالَ فِيمَا حَكَى عَنْ لُقْمَانَ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَقَالَ تَعَالَى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ فَهَذِهِ الْآيُ وَنَظَائِرُهَا مُقْتَضِيَةٌ لِإِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهِيَ عَلَى مَنَازِلَ أَوَّلُهَا تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ إذَا أَمْكَنَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَكَانَ فِي نَفْيِهِ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ كَمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْت طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ قَالَ قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ خَالَفْت السُّنَّةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَالَ تُرِكَ ذَلِكَ يَا أَبُو فُلَانٍ قَالَ شُعْبَةُ وَكَانَ لحانا فقام أبو
315
سعيد الخدري فقال من هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البصري قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ قيس ابن مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ بِلِسَانِهِ ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إنْكَارِهِ بِقَلْبِهِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ وَأَعَزُّ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرُوا إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ- إلَى قَوْلِهِ- فاسِقُونَ ثُمَّ قَالَ كَلًّا وَاَللَّهِ لتأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا
قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِيهِ أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يُنْكِرَهُ ثُمَّ لَا يُجَالِسَ الْمُقِيمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُؤَاكِلَهُ وَلَا يُشَارِبَهُ وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَانُوا بِمُؤَاكَلَتِهِمْ إيَّاهُمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لَهُمْ تَارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى كانُوا
316
لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ
مَعَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنْكَارِهِ بِلِسَانِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لم ينفعه مَعَ مُجَالَسَتِهِ وَمُؤَاكَلَتِهِ وَمُشَارَبَتِهِ إيَّاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قَالَ أَخْبَرَنَا خَالِدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ ابن دَاوُد الْعَتَكِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآية عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك يَعْنِي بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ قَالَ وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ
وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَهُمَا حَالَانِ حَالٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتُهُ فَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَنْ يُزِيلَهُ وَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إزَالَتُهُ إلَّا بِالسَّيْفِ وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ كَمَنْ رَأَى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ ماله أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أبو حنيفة
317
فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ يَسَعُكَ قَتْلُهُ وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا مِنْهُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ وَذَلِكَ إذَا رَجَا أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ فَإِنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السكوت عنهم يعد أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْك فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَعَلَيْك نَفْسُك وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَيْضًا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ
318
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ وَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ وَأَبَاحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا فُعِلَ بِمَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَعْظِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ فَقُلْت لَهُ أَنَا أُعَرِّفُك ذَلِكَ اقْرَأْ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ قَوْله تَعَالَى أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ قَالَ فَقَالَ لِي أَصَبْت وَكَسَانِي حُلَّةً فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ وَمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَجَعَلَ الْمُمْسِكِينَ عَنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِيهِ فِي الْعَذَابِ وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَالِينَ لِأَسْلَافِهِمْ الْقَاتِلِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِقَوْلِهِ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ وَبِقَوْلِهِ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَأَضَافَ الْقَتْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوهُ وَلَمْ يَقْتُلُوهُ إذْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِ الْقَاتِلِينَ فَكَذَلِكَ أَلْحَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْ السُّوءِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ بِفَاعِلِيهِ إذْ كَانُوا بِهِ رَاضِينَ وَلَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَالِينَ فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وَعِيدِ فَاعِلِيهِ بَلْ هُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَحَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا أحمد بن عطية الكوفي وقال حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَمُوتُ فَخَلَوْت بِهِ فَقَالَ كَانَ وَاَللَّهِ رَجُلًا عَاقِلًا وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرَ قُلْت وَكَيْفَ كَانَ سَبَبُهُ قَالَ كَانَ يَقْدُمُ وَيَسْأَلُنِي وَكَانَ شَدِيدَ الْبَذْلِ لِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانَ شَدِيدَ الورع وكنت رُبَّمَا قَدَّمْت إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَذُوقُهُ وَرُبَّمَا رَضِيَهُ فَأَكْلَهُ فَسَأَلَنِي عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَى أَنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِي مُدَّ يَدَك حَتَّى أُبَايِعَك فَأَظْلَمَتْ الدُّنْيَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقُلْت وَلِمَ قَالَ دَعَانِي إلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَامْتَنَعْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ إنْ قَامَ بِهِ رَجُلٌ وَحْدَهُ قُتِلَ وَلَمْ يَصْلُحْ لِلنَّاسِ أَمْرٌ وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا صَالِحِينَ وَرَجُلًا يَرْأَسُ عَلَيْهِمْ مَأْمُونًا عَلَى دَيْنِ اللَّهِ لَا يَحُولُ قَالَ وَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَى تَقَاضِي الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيَّ تَقَاضَانِي فَأَقُولُ لَهُ هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِوَاحِدٍ مَا أَطَاقَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ لِأَنَّ سَائِرَ الْفَرَائِضِ يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَهَذَا مَتَى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وَحْدَهُ
319
أَشَاطَ بِدَمِهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ فَأَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ فَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَرْوَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ فَأَخْذَهُ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَعِبَادُهُمْ حَتَّى أَطْلَقُوهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَزَجْرَهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ ثُمَّ قَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَقُومُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِك وَلَأُجَاهِدَنَّك بِلِسَانِي لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي وَلَكِنْ يَرَانِي اللَّهُ وَأَنَا أُبْغِضُك فِيهِ فَقَتْلَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي لُزُومِ فَرْضِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ لِأَنَّ تَرْكَ الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَهُ لِلصَّلَاةِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ فَإِنَّ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ
وَقَدْ روى طلحة ابن عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَمِلْنَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْءٌ إلَّا عَمِلْنَاهُ وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيئا مِنْ الْمُنْكَرِ إلَّا انْتَهَيْنَا عَنْهُ أَيَسَعُنَا أَنْ لَا نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كله وانهو عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهِ
فَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ وَسَمُّوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً إذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ مَعَ مَا قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوبِ قِتَالِهَا بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَصَارُوا شَرًّا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِينَ لَهَا لِأَنَّهُمْ أقعدوا الناس
320
عَنْ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَعَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغَلُّبِ الْفُجَّارِ بَلْ الْمَجُوسِ وَأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ذَهَبَتْ الثُّغُورُ وَشَاعَ الظُّلْمُ وَخَرِبَتْ الْبِلَادُ وَذَهَبَ الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذهب الثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ وَاَلَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا إسرائل قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ سَمِعْت أَبَا عُمَارَةَ قَالَ سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ رَشِيدٍ يَقُولُ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ أَنَا حَدَّثْت إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ
قَوْله تَعَالَى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ إرَادَةِ الظُّلْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُرِيدُ هُوَ أَنْ يَظْلِمَهُمْ وَلَا يُرِيدُ أَيْضًا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَنْزِلَةِ الْقُبْحِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لَجَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَهُ لَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعُقُولِ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُبْحِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِلظُّلْمِ مُنْتَفِيَةً مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قيل في معنى قوله كُنْتُمْ وُجُوهٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَتْ الْبِشَارَةُ وَالْخَبَرُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَالَ الْحَسَنُ نَحْنُ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال أنتم تتمنون سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
فَكَانَ مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِهِ وَقِيلَ إنَّ دُخُولَ كَانَ وَخُرُوجَهَا بِمَنْزِلَةِ إلَّا بِمِقْدَارِ دُخُولِهَا لِتَأْكِيدِ وُقُوعِ الْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ إذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وُقُوعُ ذَلِكَ وَقِيلَ كُنْتُمْ خَيْرَ أمة بِمَعْنَى حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ فَيَكُونُ خَيْرَ أُمَّةٍ بمعنى «٢١- أحكام في»
321
الحال وقيل كنتم خير أمة فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقِيلَ كُنْتُمْ مُنْذُ أَنْتُمْ لِيَدُلَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ اللَّهِ صِفَةَ مَدْحٍ إلَّا وَهُمْ قَائِمُونَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ ضَالِّينَ وَالثَّانِي إخْبَارُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَالْمُنْكَرُ هُوَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَهُمْ لِلَّهِ رِضًى فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْكَرَتْهُ الْأُمَّةُ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَمَا أَمَرَتْ بِهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالٍ وَيُوجِبُ أَنَّ مَا يَحْصُلُ عليه إجماعهم هم حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى قَوْله تَعَالَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الْآيَةَ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ حَوَالَيْ الْمَدِينَةِ بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَيَهُودُ خَيْبَرَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَهُمْ إلَّا أَذًى مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ وَأَنَّهُمْ مَتَى قَاتَلُوهُمْ وَلَّوْا الْأَدْبَارَ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ وَذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ قَوْله تَعَالَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الْيَهُودَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ صَارُوا كَذَلِكَ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ عَهْدَ اللَّهِ وَذِمَّتَهُ لِأَنَّ الْحَبْلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ قَوْله تَعَالَى لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ قَالَتْ الْيَهُودُ مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ إلَّا شِرَارُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ الْحَسَنُ قوله قائِمَةٌ يَعْنِي عَادِلَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ثَابِتَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ السُّدِّيُّ قَائِمَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ يُصَلُّونَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ فَجَعَلُوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو هاهنا لِلْعَطْفِ كَأَنَّهُ قَالَ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ قَوْله تَعَالَى يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ صِفَةٌ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فَكَانُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِ
322
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَجِبُ إزَالَةُ الْمُنْكَرِ مِنْ طَرِيقِ اعْتِقَادِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ كَمَا وَجَبَ فِي سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ مِنْ الْأَفْعَالِ قِيلَ لَهُ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ فَيُضِلُّ النَّاسَ بِشُبْهَتِهِ فَإِنَّهُ تَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَمْكَنَ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ دَاعٍ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يُدْعَى إلَى الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِ فَسَادِ شُبْهَتِهِ ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه وَيَكُونُ لَهُ أَصْحَابٌ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنْ خَرَجَ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ مُقَاتِلًا عَلَيْهَا فَهَذَا الْبَاغِي الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِ حَتَّى يَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقالت الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ أَمَا إنَّ لَهُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثًا أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا وَلَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ وَلَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا وَكَانَ ابْتَدَأَهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِالدُّعَاءِ حِينَ نَزَلُوا حَرُورَاءَ وَحَاجَّهُمْ حَتَّى رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي سَائِرِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا دَاعِينَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ لَمْ يُقَاتَلُوا وَأَقَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ كُفْرًا فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بِجِزْيَةٍ وَلَيْسَ يَجُوزُ إقْرَارُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ لِإِعْطَائِهِ بَدِيًّا جُمْلَةَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ فَمَتَى نَقَضَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ صَارَ مُرْتَدًّا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ فتجوز عنده مناكحتهم وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَوِّجُوهُمْ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ لِأَنَّهُمْ مُنْتَحِلُونَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمْسِكًا بِسَائِرِ شَرَائِعِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَكْفُرُ أَهْلُهَا كَانَ فِي وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ وَيَبْطُلُ مِنْهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ وَصَايَاهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِرُّوا عَلَى نِفَاقِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ وَقَفْنَا عَلَى نِفَاقِهِمْ لَمْ نُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ نَقْبَلْ
323
مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إنَّمَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مَتَى وَقَفْنَا عَلَى مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ وَلَا يَقْتَصِرُ فِي إجْرَائِهِ حُكْمَ الْكُفَّارِ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ غَلَطُهُ فِيهِ دُونَ الِاعْتِقَادِ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ ضَمِيرِهِ فَيُعْرِبَ لَنَا عَنْ اعْتِقَادِهِ بِمَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَاَللَّهُ أعلم.
بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الذين يستبطنون أَمْرَهُ وَيَثِقُ بِهِمْ فِي أَمْرِهِ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي خوص أُمُورِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ ضَمَائِرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ فقال لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يَعْنِي لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا يَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ أُمُورِكُمْ لِأَنَّ الْخَبَالَ هُوَ الْفَسَادُ ثم قال وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَالَ السُّدِّيُّ وَدُّوا ضَلَالَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَدُّوا أَنْ تَعَنَّتُوا فِي دِينِكُمْ فَتَحْمِلُوا عَلَى الْمَشَقَّةِ فِيهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَنَتِ الْمَشَقَّةُ فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِمَالَاتِ وَالْكَتَبَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَكْتَبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَتَلَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أَيْ لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ أَنَّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عن فرقد ابن صَالِحٍ عَنْ أَبِي دُهْقَانَةَ قَالَ قُلْت لِعُمَرَ بن الخطاب أن هاهنا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لَمْ نَرَ رَجُلًا أَحْفَظَ مِنْهُ وَلَا أَخَطَّ مِنْهُ بِقَلَمٍ فَإِنْ رأيت أن نتخذه كَاتِبًا قَالَ قَدْ اتَّخَذْتُ إذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَوَى هِلَالُ الطَّائِيُّ عَنْ وَسْقٍ الرُّومِيِّ قَالَ كُنْت مَمْلُوكًا لِعُمَرَ فَكَانَ يَقُولُ لِي أَسْلِمْ فَإِنَّك إنْ أَسْلَمَتْ اسْتَعَنْتُ بِك عَلَى أَمَانَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَسْتَعِينَ عَلَى أَمَانَتِهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَأَبَيْت فَقَالَ لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَعْتَقَنِي فَقَالَ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ وقَوْله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً قيل في معنى أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمُضَاعَفَةُ بِالتَّأْجِيلِ أَجَلًا بَعْدَ أَجَلٍ ولكل
324
أجل قسط من الزيادة عَلَى الْمَالِ وَالثَّانِي مَا يُضَاعِفُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فَلَمَّا كَانَ الرِّبَا مَحْظُورًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَبِعَدَمِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَنْسُوخَةً بقوله تعالى وَحَرَّمَ الرِّبا إذا لَمْ يَبْقَ لَهَا حُكْمٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وقَوْله تعالى وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قِيلَ كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ فِي آيَةٍ أخرى وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَكَمَا قَالَ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أَيْ إلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَيُقَالُ إنَّمَا خَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ دُونَ الطُّولِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطُّولَ أَعْظَمُ وَلَوْ ذَكَرَ الطُّولَ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِظَمِ وَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ
فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ مَعْنَاهُ كَذَكَاةِ أُمِّهِ
وقَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال ابن عباس فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في العسر واليسر يعنى في قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ وَقِيلَ فِي حَالِ السُّرُورِ وَالْغَمِّ لَا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ فَمَدَحَ الْمُنْفِقِينَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ فَمَدَحَ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا عَمَّنْ اجْتَرَمَ إلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ وَلَوْلَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِمَا مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَوْله تَعَالَى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا فِيهِ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ التَّسْلِيَةُ عَمَّا يَلْحَقُ النَّفْسَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها قِيلَ فِيهِ مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا وَفَّرَ حَظَّهُ الْمَقْسُومَ لَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ بِجِهَادِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا لَمْ يُحْرَمْ حَظَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَقِيلَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِعَمَلِ النَّوَافِلِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِكُفْرِهِ أَوْ بِمَا يُحْبِطُ عَمَلَهُ جُوزِيَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
325
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً قَوْله تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَقَالَ مجاهد وقتادة جموع كثيرة وقوله تَعَالَى فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا فَإِنَّهُ قِيلَ فِي الْوَهْنِ بِأَنَّهُ انْكِسَارُ الْجَسَدِ وَنَحْوِهِ وَالضَّعْفُ نُقْصَانُ الْقُوَّةِ وَقِيلَ فِي الِاسْتِكَانَةِ إنَّهَا إظْهَارُ الضَّعْفِ وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُ الْخُضُوعُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا بِالْخَوْفِ وَلَا ضَعُفُوا لِنُقْصَانِ الْقُوَّةِ وَلَا اسْتَكَانُوا بِالْخُضُوعِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَمَا وَهَنُوا بِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ وَلَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنْ دِينِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَضُّ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ صَحَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ وقَوْله تَعَالَى وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الْآيَةَ فِيهِ حِكَايَةُ دُعَاءِ الرِّبِّيِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَعْلِيمٌ لَنَا لَأَنْ نَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا بِمِثْلِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالرِّضَا بِقَوْلِهِمْ لِنَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَنَسْتَحِقَّ مِنْ الْمَدْحِ كَاسْتِحْقَاقِهِمْ قَوْله تَعَالَى فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ ثَوَابُ الدُّنْيَا الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ حَتَّى قَهَرُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ وَثَوَابُ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِوَاحِدٍ
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ عَمِلَ لِدُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ قَوْله تَعَالَى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ إذْ لَمْ يَكُنْ معهم برهان عليه والسلطان هاهنا هُوَ الْبُرْهَانُ وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَ السُّلْطَانِ الْقُوَّةُ فَسُلْطَانُ الْمَلِكِ قُوَّتُهُ وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ لِقُوَّتِهَا عَلَى قَمْعِ الْبَاطِلِ وَقَهْرِ الْمُبْطَلِ بِهَا وَالتَّسْلِيطُ عَلَى الشَّيْءِ التَّقْوِيَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِغْرَاءِ بِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ إلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرْت بِالرُّعْبِ حَتَّى إنَّ الْعَدُوَّ لَيُرْعَبُ مَنِيّ وَهُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ
قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فِيهِ إخْبَارٌ بِتَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَيَخْتَلِفُوا فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ظَهَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِالْمُقَامِ فِي مَوْضِعٍ
326
وَأَنْ لَا يَبْرَحُوا فَعَصَوْا وَخَلَّوْا مَوَاضِعَهُمْ حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَتَلُوا بِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصْيَانِهِمْ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْعُودَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ قَبْلَ الْعِصْيَانِ فَلَمَّا عَصَوْا وُكِلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالدِّينِ وَيَرْجُونَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتَهُمْ بِهِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فَأَخْبَرَ أَنَّ هَزِيمَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ لِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْإِخْلَالِ بِمَرَاكِزِهِمْ الَّتِي رُتِّبُوا فِيهَا
وَقَالَ تَعَالَى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ قَبْلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى الْعِشْرِينَ أَنْ لَا يَفِرُّوا مِنْ مِائَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصِينَ لِنِيَّةِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا رَجَّالَةً قَلِيلِي الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَعَدُوُّهُمْ أَلْفٌ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ بِالسِّلَاحِ الشَّاكِّ فَمَنَحَهُمْ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلُوا كَيْفَ شَاءُوا وَأَسَرُوا كَيْفَ شَاءُوا ثُمَّ لَمَّا خَالَطَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَخُلُوصُ ضَمَائِرِهِمْ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْجَمِيعِ فَقَالَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ضَعْفَ قُوَى الْأَبْدَانِ وَلَا عَدَمَ السِّلَاحِ لِأَنَّ قُوَى أَبْدَانِهِمْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ وَسِلَاحُهُمْ أَوْفَرُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ خَالَطَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف هاهنا ضَعْفُ النِّيَّةِ وَأَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا فِي التخفيف إذا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ تَمْيِيزُ ذَوِي الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم في يوم القيامة حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ أَخْلِصُونَا أَخْلِصُونَا يَعْنُونَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار
قوله
تَعَالَى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قَالَ طَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ هَزِيمَةِ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِالرُّجُوعِ فَكَانَ مَنْ ثَبَتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الْحُجُفِ مُتَأَهِّبِينَ لِلْقِتَالِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَنَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَنَامُوا دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَرْعَبْهُمْ الْخَوْفُ لِسُوءِ الظَّنِّ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنِمْنَا حَتَّى اصْطَفَقَتْ الْحُجُفُ مِنْ النُّعَاسِ وَلَمْ يصب المنافقين ذلك بل أهمتهن أَنْفُسُهُمْ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْت وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَنَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي الْعَدُوُّ فِيهَا مُطِلٌّ عَلَيْهِمْ وَقَدْ انْهَزَمَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَقَدْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنَامُونَ وَهُمْ مُوَاجِهُونَ الْعَدُوَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطِيرُ فِيهِ النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَكَيْفَ بِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَالْعَدُوُّ قَدْ أَشَرَعُوا فِيهِمْ الْأَسِنَّةَ وَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لِقَتْلِهِمْ وَاسْتِيصَالِهِمْ وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ وَأَكْبَرُ الْحِجَجِ فِي صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا وُقُوعُ الْأَمَنَةِ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ مَدَدٍ آتَاهُمْ وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَلَا انْصِرَافِهِمْ عَنْهُمْ وَلَا قِلَّةِ عَدَدِهِمْ فَيُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ الْأَمَنَةَ وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ خَاصَّةً وَالثَّانِي وُقُوعُ النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَطِيرُ فِي مِثْلِهَا النُّعَاسُ عَمَّنْ شاهدها بعد الانصراف والرجوع فكيف في حَالُ الْمُشَاهَدَةِ وَقَصْدُ الْعَدُوِّ نَحْوَهُمْ لِاسْتِيصَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَالثَّالِثُ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْأَمَنَةِ وَالنُّعَاسِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي غَايَةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قَوْله تَعَالَى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ قيل إن ما هاهنا صِلَةٌ مَعْنَاهُ فَبِرَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ وقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا مَعْنَاهَا التأكيد وحسن النظم كما قال الأعشى: «١» اذهبى مَا إلَيْك أَدْرَكَنِي الْحُلْمُ عَدَانِي عَنْ هَيْجِكُمْ أشفاقى
(١) (قوله فاذهبي ما إليك) يقال أذهب إليك معناه اشتغل بنفسك وأقبل عليها وما في الكلام زائدة كما ذكره المصنف (لمصححه).
328
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ لِأَنَّ ذكر ما هاهنا مَجَازٌ وَإِسْقَاطُهَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقوله تعالى لِمُوسَى وَهَارُونَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ بِالْوَحْيِ عَنْ تَعَرُّفِ صَوَابِ الرَّأْيِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِهَا تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ وَرَفْعًا مِنْ أَقْدَارِهِمْ إذْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إلَى رَأْيِهِ قال سفيان ابن عُيَيْنَةَ أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِيهَا وَلَا تَرَاهَا مُنْقِصَةً كَمَا مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ جَمَعَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي الْمُشَاوَرَةِ لِيَكُونَ لِإِجْلَالِ الصَّحَابَةِ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي الْمُشَاوَرَةِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً وَهُمْ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُ بِآرَائِهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَتَنَبَّهَ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ مَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهَا لَوْلَا الْمُشَاوَرَةُ وَاسْتِشَارَةُ آرَاءِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالنزول على الماء فقبل وأشار منه عَلَيْهِ السَّعْدَانُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَخَرَقَ الصَّحِيفَةَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَقَالَ آخَرُونَ كَانَ مَأْمُورًا بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا طَرِيقُهُ الرَّأْيُ وَغَالِبُ الظَّنِّ وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَاوَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ ارْتَأَى مَعَهُمْ وَعَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ أَحَدُهَا إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ فَسَبِيلُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ وَالثَّانِي إشْعَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَجَائِزٌ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ إذْ رَفَعَهُمْ اللَّهُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُشَاوِرُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم ويرضى اجتهادهم ويحريهم لِمُوَافَقَةِ النُّصُوصِ مِنْ
329
أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّالِثُ أَنَّ بَاطِنَ ضَمَائِرِهِمْ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِمْ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تطبيب نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تطبيب نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ وإعلامهم بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ مَعَ عِلْمِ الْأُمَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشُورَةَ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُعْمَلْ بِشَيْءٍ أَشَارُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَشَاوُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَأَنْ لَا تُنْتِجَ الْمَشُورَةُ رَأْيًا صَحِيحًا وَلَا قَوْلًا مَعْمُولًا لِأَنَّ مُشَاوَرَتَهُمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنْ كَانَتْ مَشُورَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهَا تُنْتِجُ رَأْيًا صحيحا وَقَوْلًا مَعْمُولًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ عِنْدَ مُشَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ وَإِذْ قَدْ بَطَلَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمُشَاوَرَتِهِ إيَّاهُمْ فَائِدَةٌ تُسْتَفَادُ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم معهم ضرب مِنْ الِارْتِئَاءِ وَالِاجْتِهَادِ فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَافِقَ
آرَاؤُهُمْ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يُوَافِقَ رَأْيُ بَعْضِهِمْ رَأْيَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ جَمِيعِهِمْ فَيَعْمَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِرَأْيِهِ وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ على أنهم لم يكونوا معنقين فِي اجْتِهَادِهِمْ بَلْ كَانُوا مَأْجُورِينَ فِيهِ لِفِعْلِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ تَرْكُ آرَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصَاتِ وَلَا يَقُولُ لَهُمْ مَا رَأْيُكُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُشَاوَرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة الْعَدُوِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم تدبيره فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُشَاوَرَةِ غَيْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى الْقُوتِ وَالْكَفَافِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ وَإِذَا كَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهُمْ فِي محاربة العدو ومكايدة الْحُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَلَا
330
فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ اللَّهِ لَكَانَتْ العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورد النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا
قَوْله تَعَالَى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قُرِئَ يَغُلَّ بِرَفْعِ الْيَاءِ وَمَعْنَاهُ يُخَانُ وَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خِيَانَةُ سَائِرِ النَّاسِ مَحْظُورَةً تَعْظِيمًا لِأَمْرِ خِيَانَتِهِ عَلَى خِيَانَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ كُلُّهُ مَحْظُورًا وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهِ وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ الْحَسَنِ وَقَالَ ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى يَغُلَّ بِرَفْعِ الْيَاءِ إنَّ مَعْنَاهُ يُخَوَّنُ فَيُنْسَبُ إلَى الْخِيَانَةِ وَقَالَ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ومن قرأ يَغُلَّ ينصب الْيَاءِ مَعْنَاهُ يَخُونُ وَالْغُلُولُ الْخِيَانَةُ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ الْإِطْلَاقُ فِيهَا يُفِيدُ الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ وَقَدْ عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ حَتَّى أَجْرَاهُ مَجْرَى الْكَبَائِرِ
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالْأَخْبَارُ فِي أَمْرِ تَغْلِيظِ الْغُلُولِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَأَخْذِ عَلَفِ الدَّوَابِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ المداين أَرْغِفَةً حُوَّارَى وَجُبْنًا وَسِكِّينًا فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنْ الْجُبْنَةِ وَيَقُولُ كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ
وَقَدْ رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ لأحد يؤمن
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَتَلَهُ بِهِ
قَوْله تَعَالَى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ أَوِ ادْفَعُوا إنَّ مَعْنَاهُ بِتَكْثِيرِ سَوَادِنَا إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا وَقَالَ أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ مَعْنَاهُ وَرَابِطُوا بِالْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحُضُورِ لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ فِي حُضُورِهِ نَفْعٌ فِي تَكْثِيرِ السَّوَادِ وَالدَّفْعِ وَفِي الْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ وقَوْله تَعَالَى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا تَأْكِيدٌ لِكَوْنِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ إذْ قَدْ يُضَافُ الْفِعْلُ إلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَإِنَّمَا قَتَلَ غَيْرَهُمْ وَرَضُوا بِهِ وقَوْله تَعَالَى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّهُ فَرَّقَ بِذِكْرِ الْأَفْوَاهِ بَيْنَ قَوْلِ اللِّسَانِ وَقَوْلِ الْكِتَابِ
وقَوْله تَعَالَى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَحْيَاءً فِي الْجَنَّةِ قَالُوا لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَجَازَ الْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ التَّنَاسُخِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَقَالَ الْجُمْهُورُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُنِيلُهُمْ مِنْ النَّعِيمِ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إلَى أَنْ يُفْنِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فِنَاءِ الْخَلْقِ ثُمَّ يُعِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلِأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ أَحْيَاءً مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذْ الْجَنَّةُ لَا يَكُونُ فِيهَا مَيِّتٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَصْفُهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَرِحُونَ عَلَى الْحَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَدْ لَحِقُوا بِهِمْ
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ
مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَأَبِي حُذَيْفَةَ وَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِ التَّنَاسُخِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ فِي ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى دَارِ الدُّنْيَا فِي خِلَقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَجْعَلُهُمْ حَيْثُ يشاء وقوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ مَعْنَاهُ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ لَهُمْ أَحَدٌ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ إلَّا رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ قُرْبَ الْمَسَافَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ بِالْمَسَافَةِ إذْ هُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ وَقِيلَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُهُمْ هُوَ دُونَ النَّاسِ.
قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ إنَّ الَّذِينَ قَالُوا كَانُوا رَكْبًا وَبَيْنَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ لِيَحْبِسُوهُمْ عِنْدَ مُنْصَرِفِهِمْ مِنْ أُحُدٍ لَمَّا أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ وَقَالَ السُّدِّيُّ هُوَ أَعْرَابِيٌّ ضَمِنَ لَهُ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى اسْمِ النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا فَهَذَا عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ النَّاسُ اسْمًا لِلْجِنْسِ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ تَنَاوَلَ ذَلِكَ أَقَلَّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْت النَّاسَ فَعَبْدِي حَرٌّ إنَّهُ عَلَى كَلَامِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ وقَوْله تَعَالَى فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً فِيهِ إخْبَارٌ بِزِيَادَةِ يَقِينِهِمْ عِنْدَ زِيَادَةِ الْخَوْفِ وَالْمِحْنَةِ إذْ لَمْ يَبْقَوْا عَلَى الْحَالِ الْأُولَى بَلْ ازْدَادُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَقِينًا وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِمْ وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْزَابِ وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً فَازْدَادُوا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّبْرِ عَلَى جِهَادِهِمْ وَفِي ذَلِكَ أَتَمُّ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْمَلُ فَضِيلَةً وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ وَنَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَأَنْ نَقُولَ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَأَنَّا مَتَى فَعَلْنَا ذَلِكَ أَعْقَبَنَا ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ وَصَرْفُ كَيَدِ الْعَدُوِّ وَشَرِّهِمْ مَعَ حِيَازَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ
وقَوْله تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
- إلى قوله- سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ قَالَ السُّدِّيُّ بَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ بِالزَّكَاةِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ- إلَى قَوْلِهِ- يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِكَنْزِهِ فَيُحْمَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ
وَقَالَ مَسْرُوقٌ يَجْعَلُ الْحَقَّ الذي منعه حية فيطوقها فيقول مالي ومالك فَتَقُولُ الْحَيَّةُ أَنَا مَالُك وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ يُطَوَّقُ ثُعْبَانًا فِي عُنُقِهِ لَهُ أَسْنَانٌ فَيَقُولُ أنا ملك الَّذِي بَخِلْت بِهِ.
قَوْله تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بن جبير والسدى أن الْمُرَادَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالَ غَيْرُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فيعود الضمير في قوله لَتُبَيِّنُنَّهُ فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا صِفَتَهُ وَأَمْرَهُ وَفِي قول الْآخَرِينَ عَلَى الْكِتَابِ فَيَدْخُلُ فِيهِ بَيَانُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْله تَعَالَى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا مِنْ جِهَاتٍ أَحَدُهَا تَعَاقُبُ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا وَالْأَعْرَاضُ مُحْدَثَةٌ وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْمُحْدَثَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَقَدْ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْأَجْسَامِ لَا يُشْبِهُهَا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يشبه فعله وفيها الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ إذْ كَانَ خَالِقُهَا وَخَالِقُ الْأَعْرَاضِ الْمُضَمَّنَةِ بها وهو قادر على أضدادها إذ لَيْسَ بِقَادِرٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ لِأَنَّ صِحَّةَ وُجُودِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِصَانِعٍ قَدِيمٍ لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَاجَ الْفَاعِلُ إلَى فَاعِلٍ آخَرَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عَالِمٌ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْمُتْقَنِ الْمُحْكَمِ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكِيمٌ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَالِمٌ بِقُبْحِهِ فَلَا تَكُونُ أفعاله إلا
عَدْلًا وَصَوَابًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُشْبِهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا فَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُهَا وَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِينَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الْحُدُوثِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَيَدُلُّ وُقُوفُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ أَنَّ مُمْسِكَهَا لَا يُشْبِهُهَا لِاسْتِحَالَةِ وُقُوفِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ مِنْ جِسْمٍ مِثْلِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا وَدَلَالَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُحْدَثَانِ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهَا وَلَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا وَقَدْ اقْتَضَيَا مُحْدَثًا مِنْ حَيْثُ كَانَا مُحْدَثَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ حَادِثٍ لَا مُحْدِثَ له فوجب أن مُحْدِثُهُمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٌ لِلْأَجْسَامِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إحْدَاثِ مثلها والثاني الْمُشْبِهَ لِلْجِسْمِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ من حكم الحدوث فلو كان فاعلها حَادِثًا لَاحْتَاجَ إلَى مُحْدِثٍ ثُمَّ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صَانِعٍ قَدِيمٍ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَابِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ محمد بن كعب القرظي اصبروا على الجهاد وَصَابِرُوا وَعْدِي إيَّاكُمْ وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ ورابطوا الخيل عليه وقال أبو مسلمة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَرَابِطُوا بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ
وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَرَوَى سُلَيْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَمِنْ قِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ فِيهِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَنَمَا لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَرَوَى عُثْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ قِيَامٌ لَيْلُهَا وَصِيَامٌ نَهَارُهَا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
Icon